الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: ابتدأتُ بكتابة الجزء السابع والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى"البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" ليلة الخميس الثالثة والعشرين من شهر جمادى الثانية 23/ 6/ 1432 هـ.
44 - (كِتَابُ الرُّؤْيا)
(1) - (بَابٌ فِي كَوْنِ الرُّؤيا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبوَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5883]
(2261) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ اِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَن الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: كُنْتُ أَرَى الرُّؤيا، أُعْرَى مِنْهَا، غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ، حَتى لَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلْمًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفُثْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَعَوْذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بكير، أبو عثمان البغدادي، نزل الرقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه الْحَنْظليّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كثية يحيى، صدوق، صنّف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ إمامٌ حجةٌ، إلا أنه تغير حفظه بأخَرَة، وكان ربما دلّسَ، لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة، وكان أثبت الناس في عمرو بن دينار [8] مات في رجب سنة (198)، وله إحدى وتسعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
5 -
(الزهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشيّ، أبو بكر الفقيه الحافظ، متّفَق على جلالته، وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة [4] (ت 125) وقيل: قبل ذلك بسنة، أو سنتين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
6 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ، مكثرُ [3](ت 94 أو 104)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
7 -
(أَبُو قَتَادَةَ) الأنصاريّ، هو الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعِيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها مهملة، بضم الموحّدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة- السَّلَميّ بفتحتين، المدنيّ شَهِد أُحُدًا، وما بعدها، ولم يصح شهوده بدًا، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، والأول أصحّ، وأشهر (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة تحمّلهم عنه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف أنه (قَالَ: كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا)
قال القرطبيّ رحمه الله: الرؤيا: مصدر رأى في المنام رؤيا، على وزن فُعْلى، وألفه للتأنيث؛ ولذلك لم ينصرف، والرؤية: مصدر رأى بعينه في اليقظة رؤية، هذا المعروف من لسان العرب، وقال بعض العلماء: إن الرؤيا قد تجيء بمعنى الرؤية؛ وحَمَل عليه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} الآية [الإسراء: 60]، وقال: إنما يعني بها: رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإسراء لَمّا أراه الله من عجائب السماوات، والملكوت، وكان الإسراء من أوله إلى آخره في اليقظة، وقد ذكرنا هذا في "باب الإسراء" من "كتاب الإيمان". انتهى
(1)
.
وقوله: (أعْرَى مِنْهَا) -بضم الهمزة، وإسكان العين، وفتح الراء- أي: أُحَمّ؛ لخوفي من ظاهرها في معرفتي، قال أهل اللغة: يقال: عُرِي الرجلُ بضم العين، وتخفيف الراء، يُعْرَى: إذا أصابه عُرَاء، بضم العين، وبالمدّ، وهو نفض الْحُمَّى، وقيل: رِعْدَةٌ
(2)
. (غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ) بضمّ أوله، وتشديد الميم، مبنيًّا للمفعول؛ أي: لا أغطَّى، ولا أُلَفّ كالمحموم، (حَتَّى لَقِيتُ أَبما قَتَادَةَ) الأنصاريّ رضي الله عنه (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: الذي يصيبه من رؤيا تسوؤه، وتشتدّ عليه، وفي رواية عبد ربّه، عن أبي سلمة الآتية: "إن كنت لأرى الرؤيا تُمرضني، قال: فلقيت أبا قتادة، فقال: وأنا كنت لأرى الرؤيا، فتُمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
…
". (فَقَالَ) أبو قتادة رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤْيَا) قال النوويّ: الرؤيا مقصورة، مهموزةٌ، ويجوز ترك همزها؛ كنظائرها. (مِنَ اللهِ)؛ أي: بشرى من الله، أو تحذير وإنذار، وقال في "العمدة": إضافة الرؤيا إلى الله للتشريف، كما في قوله تعالى:{فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)} [الشمس: 13]، والرؤيا المضافة إلى الله لا يقال لها: حُلُم، والتي تضاف إلى الشيطان لا يقال لها: رؤبا، وهذا تصرّف شرفي، وإلا فالكل يسمى رؤيا. انتهى
(3)
.
وقال المازريّ: الرؤيا اسم للمحبوب، والحُلُم اسم للمكروه، وقال غيره: أضاف الرؤيا المحبوبة إلى الله إضافة تشريف، بخلاف المكروهة، وإن
(1)
"المفهم" 5/ 6 - 6.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 16.
(3)
"عمدة القاري" 24/ 132.
كانتا جميعًا من خلق الله تعالى، وتدبيره، وبإرادته، ولا فِعل للشيطان فيهما، لكنه يحضر المكروهة، ويرتضيها، ويُسَرُّ بها. انتهى
(1)
.
وفي رواية عبد ربّه بن سعيد عن أبي سلمة الآتية: "الرؤيا الصالحة من الله"، وفي لفظ للبخاريّ:"الرؤيا الصادقة من الله"، قال في "الفتح": قوله: "الرؤيا الصادقة"، وفي رواية الكشميهنيّ:"الصالحة"، وهو الذي وقع في معظم الروايات، وسقط الوصف من رواية أحمد بن يحيى الحلوانيّ، عن أحمد بن يونس شيخ البخاريّ فيه، أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بلفظ:"الرؤيا من الله"؛ كالترجمة
(2)
، وكذا في "الطب" من رواية سليمان بن بلال، والإسماعيليّ، من رواية الثوريّ، وبشر بن المفضَّل، ويحيى القطان، كلهم عن يحيى بن سعيد، ولمسلم من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة
(3)
، ووقع في رواية عبد ربه بن سعيد، عن أبي سلمة بلفظ:"الرؤيا الحسنة من الله"، ووقع عند مسلم من هذا الوجه:"الصالحة"، زاد في هذه الرواية:"فإذا رأى أحدكم ما يحبّ فلا يُخْبر به إلا من يُحِبّ"، ولمسلم في رواية من هذا الوجه:"فإن رأى رؤيا حسنة فليَبْشُر، ولا يخبر إلا من يحب"، وقوله:"فليبشر"، بفتح التحتانية، وسكون الموحّدة، وضم المعجمة، من البشرى، وقيل: بنون بدل الموحّدة؛ أي: ليحدّث بها، وزعم عياض أنها تصحيف، ووقع في بعض النسخ من مسلم:"فليستر" بمهملة، ومثناة، من الستر.
وفي حديث أبي رزين عند الترمذيّ: "ولا يقصّها إلا على وادّ -بتشديد الدال، اسم فاعل من الوُدّ- أو ذي رأي"، وفي أخرى:"ولا يحدّث بها إلا لبيبًا، أو حبيبًا"، وفي أخرى:"ولا يقصّ الرؤيا إلا على عالم، أو ناصح".
قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: أما العالِم فإنه يؤولها له على الخير، مهما أمكنه، وأما الناصح فإنه يُرشد إلى ما ينفعه، وُيعِينُه عليه، وأما اللبيب،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 19.
(2)
أي: كترجمة البخاريّ، حيث قال:"باب الرؤيا من الله".
(3)
يعني: هذه الرواية التي نشرحها الآن.
وهو العارف بتأويلها، فإنه يُعْلِمه بما يُعَوِّل عليه في ذلك، أو يسكت، وأما الحبيب فإن عرف خيرًا قاله، وإن جهل، أو شكّ سكت.
قال الحافظ: والأَولى الجمع بين الروايتين، فإن اللبيب عُبِّر به عن العالِم، والحبيب عُبّر به عن الناصح، وسيأتي عند مسلم في حديث أبي سعيد:"فليحمد الله عليها، ولْيُحَدِّث بها"
(1)
.
(وَالْحُلْمُ) -بضم الحاء المهملة، وسكون اللام، وقد تضمّ-: ما يراه النائم، ولم يَحْكِ النوويّ غير السكون، يقال: حَلَم بفتح اللام، يحلُم بضمها، وأما من الحلم بكسر أوله، وسكون ثانيه، فيقال: حَلُم بضم اللام، وجَمْع الحلُم بالضم، والحِلْم بالكسر: أحلام
(2)
.
(مِنَ الشَّيْطَانِ) إضافة الحلم إلى الشيطان، بمعنى أنها تناسب صفته، من الكذب، والتهويل، وغير ذلك، بخلاف الرؤيا الصادقة، فأضيفت إلى الله إضافةَ تشريف، وإن كان الكلّ بخلق الله تعالى، وتقديره، كما أن الجميع عباد الله، ولو كانوا عُصاة، كما قال تعالى:{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية [الزمر: 53]، وقوله تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42]
(3)
.
وقال المهلّب: سَمَّى الشارع الرؤيا الخالصة من الأضغاث صالحة، وصادقةً، وأضافها إلى الله تعالى، وسَمَّى الأضغاث حُلُمًا، وأضافها إلى الشيطان؛ إذ كانت مخلوقة على شاكلته، فأعلمَ الناس بكيده، وأرشدهم إلى دفعه؛ لئلا يُبْلغِوه أَرَبه في تحزينهم، والتهويل عليهم.
وقال أبو عبد الملك: أضيفت إلى الشيطان؛ لكونها على هواه، ومراده.
وقال ابن الباقلانيّ: يخلق الله الرؤيا الصالحة بحضرة الملك، ويخلق الرؤيا التي تقابلها بحضرة الشيطان، فمن ثَمّ أضيفت إليه، وقيل: أضيفت إليه؛
(1)
"الفتح" 16/ 306، كتاب "التعبير" رقم (6984).
(2)
"الفتح" 16/ 344، كتاب "التعبير" رقم (7005).
(3)
"الفتح" 16/ 344 - 345، كتاب "التعبير" رقم (7005).
لأنه الذي يُخَيّل بها، ولا حقيقة لها في نفس الأمر
(1)
.
(فَإِذَا حَلَمَ) بفتح اللام، من باب نصر: إذا رأى في منامه الرؤيا، ويقال: احتلم أيضًا، ومنه حلَم الصبيّ، واحتلم: إذا بلغ مبلغ الرجال، وأما حَلُم بمعنى صفح، وستر، فهو بضمّ اللام؛ ككرُم، حِلْمًا بكسر، فسكون
(2)
. (أَحَدُكُمْ حُلْمًا) بضمّتين، وبإسكان الثاني تخفيفًا.
وقال القرطبيّ: الْحُلْم -بضم الحاء، وسكون اللام- مصدر حَلَم -بفتح الحاء واللام-: إذا رأى في منامه رؤيا، ويُجمع على أحلام في القلَّة، وفي الكثرة: حلوم؛ وإنَّما جُمع، وإن كان مصدرًا لاختلاف أنواعه، وهو في الأصل عبارة عما يراه الرائي في منامه حسنًا كان، أو مكروهًا، وأراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم هنا ما يُكره، وما لا ينتظم، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
فأمَّا الحِلم -بكسر الحاء-، فهو مصدر حَلُمَ -بضم اللام- يَحْلِمُ: إذا صفح وتجاوز حتى صار له ذلك كالغريزة، وتحفم: تكثّف الحلم. والْحَلم- بفتح الحاء- هو فساد الإهاب من الدباغ، وتثقيبه فيه. يقال منه: حَلِم الأديم- بكسر اللام- يحلم -بفتحها-: إذا صار كذلك. انتهى
(3)
.
وقوله: (يَكْرَهُهُ) من باب فَهِم، صفة لـ"حُلُمًا"، (فَلْيَنْفُثْ) بضمّ الفاء، وكسرها، قال القاضي عياض رحمه الله: اختُلِف في التفل والنفث، فقيل: معناهما واحد، ولا يكونان إلا بِريق، وقيل: يُشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل عكسه.
وقال النوويّ: أكثر الروايات: "فلينفث"، وهو النفخ اللطيف، بلا ريق، فيكون التفل، والبصق محمولين عليه مجازًا.
وتعقبه الحافظ بأن المطلوب طرد الشيطان، وإظهار احتقاره، واستقذاره، كما نقله هو عن عياض كما مرّ، فالذي يَجمع الثلاثة الحمل على التفل، فإنه
(1)
"شرح ابن بطّال على البخاريّ" 9/ 514، و"الفتح" 16/ 307، كتاب "التعبير" رقم (6984).
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 148.
(3)
"المفهم" 6/ 6.
نفخٌ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى التفل قيل له: بصق. انتهى
(1)
.
وقال في "التاج": "نَفَثَ يَنْفُثُ" بالضَّمّ، "ويَنفِثُ" بالكسر، نَفْثًا، ونَفَثَانًا، محرّكة، وهو كالنَّفْخِ، مع رِيقٍ، كذا في "الكَشّاف"، وفي "النَّشْرِ": النَّفْث: شِبْهُ النَّفْخِ، يكون في الرُّقْيَة، ولا رِيقَ معه، فإِن كان معه رِيقٌ، فهو التَّفْل، وهو الأَصحّ، كذا في "العِناية"، وفي "الأَذكار": قال أَهلُ اللّغةِ: "النَّفْثُ": نَفْخٌ لَطِيفٌ بلا رِيقٍ، و"النَّفْث": أَقَلُّ من التَّفْلِ؛ لأنّ التَّفْلَ لا يكون إِلّا ومعه شَي من الرِّيقِ، وقيل: هو التَّفْل بِعَيْنِه، وعن بعضهم: النَّفْثُ: فوقَ النَّفْخِ، أَو شِبْهُه، ودُونَ التَّفْلِ، وقد يكون بلا رِيقٍ، بخلاف التَّفْلِ، وقد يكون بريقٍ خفِيفٍ، بخلافِ النَّفْخٍ. وقيل: النَّفْثُ: إِخْرَاجُ الرِّيحِ من الفَمِ بقليل من الرِّيقِ. وفي "المصباح": نَفثَه من فَمِه نَفْثًا، من باب ضَرَب: رَمَى به، ونَفَثَ: إِذا بَزَقَ، وبَعْضهُم يقول: إِذا بَزَقَ، ولا رِيقَ معه، ونَفَثَ في العُقْدَةِ عند الرُّقَى، وهو البُصَاقُ الكَثِيرُ. انتهى
(2)
.
(عَنْ يَسَارر ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث مرّات، (وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا)؛ أي: شرّ هذه الرؤيا التي كرهها، (فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ") قال القرطبيّ عند قوله:"والحلم من الشيطان": يعني به: ما يُلقيه مما يهوِّل، أو يخوف، أو يحزن به، وهذا النوع هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنَّه من تخييلات الشيطان، وتشويشاته، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى، ونفث عن يساره ثلاثًا، وتحوَّل عن جَنْبه كما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، وصلى؛ أذهب الله عنه ما أصابه، وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء ببركة صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وامتثال أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا فيكون قوله: "فإذا رأى أحدكم ما يكره" إنَّما يعني به: ما يكون سببه الشيطان. وقيل: بل الخبر بحكم عمومه يتناول ما يسببه الشيطان، وما لا يسببه، مما يكرهه الرائي. ويكون فِعل هذه الأمور كلها مانعًا من وقوع
(1)
"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 453.
(2)
"تاج العروس" 1/ 1315.
ذلك المكروه، كما يقال: إن الدعاء يدفع البلاء، والصَّدقة تدفع ميتة السوء، وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، ولكن الوسائط والأسباب عاديات لا موجودات
(1)
. وفائدة أَمْرِه بالتحول عن جنبه الذي كان عليه ليتكامل استيقاظه، وينقطع عن ذلك المنام المكروه، وفائدة الأمر بالصلاة، أن تكمل الرغبة، وتصح الطَّلِبة، فإنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي قتادة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5883 و 5884 و 5885 و 5886 و 5887 و 5888 و 5889](2261)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3392) و"الطبّ"(5747) و"التعبير"(6984)، و (أبو داود) في "الأدب"(5021)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2277)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 391 و 6/ 224)، و"عمل اليوم والليلة"(897 و 900 و 901)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3909)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 957)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 212)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 70)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 202)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 310)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 124)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6059)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 170)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(4/ 187)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3274)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(3)
:
1 -
(منها): أن الرؤيا الصالحة من الله تعالى بشرى، لعبده، والرؤيا السيّئة من الشيطان، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:
(1)
هكذا نسخة "المفهم"، والظاهر أن صوابه: لا موجبات، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"المفهم" 6/ 9 - 10.
(3)
المراد فوائد أحاديث الباب، لا خصوص سياق هذه الرواية، فتنبّه.
"الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح"، وربما جاء في الحديث:"الرؤيا الصالحة" فقط، وربما جاء في الحديث أيضًا:"رؤيا المؤمن" فقط، وربما جاء:"يراها الرجل الصالح، أو تُرى له"؛ يعني: من صالح وغير صالح، وهي ألفاظ المحدِّثين، والله أعلم بها، والمعنى عندي في ذلك على نحو ما ظهر لي في الأجزاء المختلفة من النبوة، والرؤيا إذا لم تكن من الأضغاث، والأهاويل، فهي الرؤيا الصادقة، وقد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر، ومن الفاسق؛ كرؤيا الملِك التي فسَّرها يوسف صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الفَتَيَيْن في السجن، ورؤيا بختنصر التي فسَّرها دانيال في ذهاب مُلكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورؤيا عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا كثير، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقسامًا تغني عن قول كل قائل، ثم أخرج بسنده حديث عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا ثلاثة: منها أهاويل الشيطان؛ ليحزن ابن آدم، ومنها ما يَهُمّ به في يقظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان آداب من رآى ما يكرهه، وهو أن ينفث عن يساره ثلاثًا، ويتعوّذ بالله من شرها، فإنها لا تضرّه.
3 -
(ومنها): بيان عداوة الشيطان للإنسان في كلّ أحواله، في يقظته، ومنامه، فلا يتركه في أيّ حال من الأحوال إلا يتعرّض لأذيّته، وأنه لا ملجأ ولا منجى له إلا بالالتجاء إلى الله، والتحصّن بذكره، فإنه الكافي عبدَه، فقد وعد بذلك حيث قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].
4 -
(ومنها): بيان آداب الرؤيا الصالحة، وهي ثلاثة أشياء: أن يحمد الله تعالى عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يُحِبّ دون من يكره.
5 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بقوله: "ولا يذكرها" على أن الرؤيا تقع على ما يُعَبَّر به، وسيأتي تمام البحث في ذلك -إن شاء الله تعالى-.
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 286.
6 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به أيضًا على أن للوهم تأثيرًا في النفوس؛ لأن التفل، وما ذُكر معه يدفع الوهم الذي يقع في النفس من الرؤيا، فلو لم يكن للوهم تأثير لَمَا أَرشد إلى ما يدفعه، وكذا في النهي عن التحديث بما يكره لمن يكره، والأمر بالتحديث بما يحب لمن يحب.
7 -
(ومنها): أنه وقع في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عند البخاريّ: "وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان"، قال في "الفتح": ظاهر الحصر أن الرؤيا الصالحة لا تشتمل على شيء مما يكرهه الرائي، ويؤيده مقابلة رؤيا البشرى بالحلم، وإضافة الحلم إلى الشيطان، وعلى هذا ففي قول أهل التعبير، ومن تبعهم: إن الرؤيا الصادقة قد تكون بشرى، وقد تكون إنذارًا نظرٌ؛ لأن الإنذار غالبًا يكون فيما يكره الرائي.
ويمكن الجمع بأن الإنذار لا يستلزم وقوع المكروه، وبأن المراد بما يكره ما هو أعمّ من ظاهر الرؤيا، ومما تعبَّر به.
وقال القرطبيّ في "المفهم": ظاهر الخبر أن هذا النوع من الرؤيا -يعني: ما كان فيه تهويل، أو تخويف، أو تحزين- هو المأمور بالاستعاذة منه؛ لأنه من تخيلات الشيطان، فإذا استعاذ الرائي منه صادقًا في التجائه إلى الله تعالى، وفَعَل ما أُمر به من التفل، والتحول، والصلاة، أذهب الله عنه ما به، وما يخافه من مكروه ذلك، ولم يصبه منه شيء.
وقيل: بل الخبر على عمومه فيما يكرهه الرائي، بتناول ما يتسبب به الشيطان، وما لا تسبُّب له فيه، وفِعل الأمور المذكورة مانع من وقوع المكروه، كما جاء أن الدعاء يدفع البلاء، والصدقة تدفع ميتة السوء، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولكن الأسباب عادات، لا موجودات
(1)
، وأما ما يرى أحيانًا مما يُعجب الرائي، ولكنه لا يجده في اليقظة، ولا ما يدل عليه، فإنه يدخل في قسم آخر، وهو ما كان الخاطر به مشغولًا قبل النوم، ثم يحصل النوم، فيراه، فهذا قسم لا يضرّ، ولا ينفع
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا النسخة، ولعله لا موجبات، والله أعلم.
(2)
"الفتح" 16/ 311 - 312، كتاب "التعبير" رقم (6985).
(المسألة الرابعة): حاصل ما ذُكر في هذه الأحاديث من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرّها، ومن شر الشيطان، وأن يتفل حين يَهُمث من نومه عن يساره ثلاثًا، ولا يذكرها لأحد أصلًا، ووقع عند الشيخين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه خامسةٌ، وهي الصلاة، ولفظه:"فمن رأى شيئًا يكرهه، فلا يقصّه على أحد، وليقم، فليصلّ"، لكن لم يصرح البخاريّ بوصله، وصرح به مسلم، كما سيأتي.
وغفل القاضي أبو بكر ابن العربيّ، فقال: زاد الترمذي على "الصحيحين" بالأمر بالصلاة. انتهى.
وزاد مسلم سادسةً، وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه.
وفي الجملة فتكمل الآداب ستة: الأربعة الماضية، والصلاة، والتحول.
قال الحافظ: ورأيت في بعض الشروح ذَكَر سابعةً، وهي قراءة آية الكرسيّ، ولم يذكر لذلك مستندًا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة:"ولا يقربنك شيطان"، فيتّجه، وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): فيما قاله العلماء من الحكمة في الأمر بالاستعاذة، وغيرها:
قال في "الفتح": قد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور، فأما الاستعاذة بالثه من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره.
وأما الاستعاذة من الشيطان: فَلِمَا وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يُخَيِّل بها لقصد تحزين الآدميّ، والتهويل عليه، كما تقدم.
وأما التفل: فقال عياض: أمر به طردًا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة؛ تحقيرًا له، واستقذارًا، وخُصّت به اليسار؛ لأنها محل الأقذار، ونحوها، قال الحافظ: والتثليث للتأكيد.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: فيه إشارة إلى أنه في مقام الرُّقية؛ ليتقرر عند النفس دَفْعه عنها، وعَبَّر في بعض الروايات بالبصاق؛ إشارةً إلى
(1)
"الفتح" 16/ 308، كتاب "التعبير" رقم (6984).
استقذاره، وقد ورد بثلاثة ألفاظ: التفث، والتفل، والبصق.
قال النوويّ في الكلام على النفث في الرقية تبعًا لعياض: اختُلِف في التفث، والتفل، فقيل هما بمعنى، ولا يكونان إلا بريق.
وقال أبو عبيد: يُشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في التفث، وقيل: عكسه، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن التفث في الرقية، فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلّة بغير قصد، قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب، فجعل يجمع بُزاقه، قال عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة، والهواء، والتفث المباشر للرقية المقارن للذِّكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يُكتب من الذِّكر والأسماء.
وقال النوويّ أيضًا: أكثر الروايات في الرؤيا: "فلينفث"، وهو نفخ لطيف بلا ريق، فيكون التفل، والبصق محمولين عليه، مجازًا.
قال الحافظ: لكن المطلوب في الموضعين مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذِّكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان، وإظهار احتقاره، واستقذاره، كما نقله هو عن عياض، كما تقدم، فالذي يجمع الثلاثة: الحمل على التفل، فإنه نفخٌ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: تفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصاق.
قال النوويّ: وأما قوله: "فإنها لا تضرّه" فمعناه أن الله تعالى جَعَل ما ذُكر سببًا للسلامة من المكروه المترتب على الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال. انتهى.
وأما الصلاة: فَلِمَا فيها من التوجه إلى الله تعالى، واللجأ إليه، ولأن في التحرّم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة، وتصح الطَّلِبة؛ لِقُرْب المصلي من ربه عز وجل زعند سجوده.
وأما التحول: فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها، قال النوويّ: وينبغي أن يُجمع بين هذه الروايات كلِّها، وَيعْمَل بجميع ما تضمّنه، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها بإذن الله تعالى، كما صرَّحت به الأحاديث.
قال الحافظ: لم أر في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحدة، نعم أشار المهلَّب إلى أن الاستعاذة كافية في دَفْع شرّها، وكأنه أخذه من قوله
تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 98، 99]، فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان.
وقال القرطبيّ في "المفهم": الصلاة تجمع ذلك كله؛ لأنه إذا قام، فصلى تحوّل عن جَنْبه، وبصق، ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها بمنه وكرمه.
وورد في صفة التعوذ من شرّ الرؤيا أثر صحيح، أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة، عن إبراهيم النخعيّ قال:"إذا رأى أحدكم في منامه ما يكره، فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله، ورسله، من شرّ رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني، ودنياي".
وورد في الاستعاذة من التهويل في المنام ما أخرجه مالك، قال:"بلغني أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إني أُرَؤَع في المنام، فقال: قل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه، وعذابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون"، وأخرجه النسائيّ من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كان خالد بن الوليد يفزع في منامه، فذكر نحوه، وزاد في أوله: "إذا اضطجعت، فقل: باسم الله
…
"، فذكره، وأصله عند أبي داود، والترمذيّ، وحسّنه، والحاكم، وصححه.
واستثنى الداوديّ من عموم قوله: "إذا رأى ما يكره" ما يكون في الرؤيا الصادقة؛ لكونها قد تقع إنذارًا، كما تقع تبشيرًا، وفي الإنذار نوعُ ما يكرهه الرائي، فلا يُشْرَع إذا عُرف أنها صادقة ما ذَكَره من الاستعاذة، ونحوها، واستند إلى ما ورد من مرائي النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كالبقر التي تُنحر، ونحو ذلك.
ويمكن أن يقال: لا يلزم من ترك الاستعاذة في الصادقة، أن لا يتحول عن جنبه، ولا أن لا يصلي، فقد يكون ذلك سببًا لدفع مكروه الإنذار، مع حصول مقصود الإنذار، وأيضًا فالمنذورة قد ترجع إلى معنى المبشِّرة؛ لأن من أُنذِر بما سيقع له، ولو كان لا يسرّه أحسن حالًا ممن هُجِم عليه ذلك، فوإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه، فيكون ذلك تخفيفًا عنه، ورفقًا به.
قال الحكيم الترمذيّ: الرؤيا الصادقة أصلها حق تُخبر عن الحقّ، وهو بشرى، وإنذار، ومعاتبة؛ لتكون عونًا لِمَا نُدِب إليه، قال: وقد كان غالب أمور الأوَّلين الرؤيا، إلا أنها قلَّت في هذه الأمة؛ لِعِظَم ما جاء به نبيّها صلى الله عليه وسلم من الوحي، ولكثرة من في أمته من الصدِّيقين من الْمُحَدَّثين بفتح الدال، وأهل اليقين، فاكتفَوْا بكثرة الإلهام والملْهَمين عن كثرة الرؤيا التي كانت في المتقدِّمين.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وقد كان غالب أمور الأَوَّلين الرؤيا" لم يذكر مستنده في هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل قوله: الرؤيا الحسنة، والصالحة أن يرجع إلى حُسن ظاهرها، أو صِدْقها، كما أن قوله: الرؤيا المكروهة، أو السوء يَحْتَمِل سوء الظاهر، أو سوء التأويل.
وأما كتمها: مع أنها قد تكون صادقة، فخَفِيَتْ حكمته، ويَحتمل أن يكون لمخافة تعجيل اشتغال سرّ الرائي بمكروه تفسيرها؛ لأنها قد تبطئ، فإذا لم يُخبِر بها زال تعجيل رَوْعها وتخويفها، ويبقى إذا لم يعبِّرها له أحد بين الطمع في أن لها تفسيرًا حسنًا، أو الرجاء في أنها من الأضغاث، فيكون ذلك أسكن لنفسه، والله تعالى أعلم
(1)
.
(المسألة السادسة): في ذكر ما قيل في كيفيّة الرؤيا:
قال القرطبيّ تعالى رحمه الله: وقد اختلف الناس في حقيقة الرؤيا قديمًا وحديثًا، فقال غير المتشرِّعين أقوالًا مختلفة، وصاروا فيها إلى مذاهب مضطربة، قد عَرِيت عن البرهان، فأشبهت الهذيان، وسبب ذلك التخليط العظيم: الإعراض عما جاءت به الأنبياء من الطريق المستقيم.
وبيان ذلك أن حقيقة الرؤيا إنما هي من إدراكات النفس، وقد غُيِّب عنا عِلْم حقيقتها، وإذا لم يعلم ذلك لعدم الطريق الموصل إليه كان أحرى، وأَولى ألّا نعلم ما غُيِّب عنا من إدراكاتها، بل نقول: إنا لا نعلم حقيقةَ كثير مما قد انكشف لنا جملته من إدراكاتها؛ كحس السمع، والعين، والأذن، وغير ذلك،
(1)
"الفتح" 16/ 311، كتاب "التعبير" رقم (6984).
فإنا إنما نعلم منها أمورًا جُمْلية، لا تفصيلية، وأوصافًا لازمة، أو عَرَضية، لا حقيقية، وسبيل العاقل ألّا يطمع في معرفة ما لم يُنْصَب له عليه دليل عقليّ، ولا حسيّ، ولا مركَّب منهما؛ إلا أن يُخْبِر بذلك صادق، وهو الذي دلَّ الدليل القطعيّ على صدقه، وهم الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- فإنَّهم دَلّت على صدقهم دلائل المعجزات، وإذا كان كذلك، فسبيلنا أن نُعْرِض عن أحوال المعرضين، ونتشاغل بالبحث عن ذلك في كلام الشارع، والمتشرّعين.
قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: المذهب الصحيح ما عليه أهل السُّنَّة، وهو أن الله تعالى يخلق في قلب النائم اعتقادات، كما يخلقها في قلب اليقظان، وهو تبارك اسمه يفعل ما يشاء، وما يمنعه من فعله نوم، ولا يقظة، وكأنه سبحانه جعل هذه الاعتقادات عَلَمًا على أمور أُخَر يخلقها في ثاني حال، أو كان قد خلقها.
وقال غيره: إن لله تعالى مَلَكًا موكّلًا يَعْرِض المرئيَّات على المحل المُدْرِك من النائم، فيمثّل له صورًا محسوسة؛ فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقةً لِمَا يقع في الوجود، وتارة تكون أمثلة لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة ومنذرة.
قال القرطبيّ: وهذا مِثل الأول في المعنى؛ غير أنه زاد فيه قضية الْمَلَك، ويحتاج في ذلك إلى توقيف من الشرع؛ إذ يجوز أن يخلق الله تعالى تلك التمثيلات من غير مَلَك. وقيل: إن الرؤيا إدراك أمثلة منضبطة في التخيل جعلها الله إعلامأ على ما كان، أو يكون؛ وهو أشبهها.
فإنْ قيل: كيف يقال: إن الرؤيا إدراك مع أن النوم ضد الإدراك؛ فإنه من الأضداد العامة؛ كالموت، فلا يجتمع معه إدراك؟
فالجواب: أن الجزء المدرِك من النائم لم يحلِّه النوم، فلم يجتمع معه، فقد تكون العين نائمة، والقلب يقظان؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن عيني تنامان، ولا ينام قلبي"، وإنما قال: منضبطة التخيل؛ لأنَّ الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما أدركه في اليقظة بحسِّه، غير أنه قد تُركَّب المتخيَّلات في النوم تركيبًا يحصل من مجموعها صورة لم يوجد لها مثال في الخارج، تكون عَلَمًا على أمر نادر؛ كمن يرى في نومه موجودًا رأسه رأس الإنسان، وجسده جسد
الفرس مثلًا، وله جناحان، إلى غير ذلك مما يمكن من التركيبات التي لا يوجد مثلها في الوجود، وإن كانت آحادُ أجزائها في الوجود الخارجيّ، وإنَّما قال: جعلها الله إعلامًا على ما كان، أو يكون؛ لأنَّه يعني به: الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
ثمّ إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ذكر أنواع الرؤيا هنا، وفيما رواه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا ثلاث: فرؤيا حقّ، ورؤيا يحدِّث المرء بها نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان"، وذَكَر الحديث، فرؤيا الحقّ هي المنتظمة التي لا تخليط فيها، وقد سَمَّاها في رواية أخرى:"الصادقة"، وفي أخرى:"الصالحة"، وهي التي يحضل بها التنبيه على أمر في اليقظة صحيح، وهي -التي إذا صدرت من الإنسان الصالح- جزء من أجزاء النبوة؛ أي: خصلة من خصال الأنبياء التي بها يعلمون الوحي من الله تعالى.
وأما الثانية: فهي التي تكون عن أحاديث نفس متوالية، وشهواتٍ غالبة، وهموم لازمة، ينام عليها، فيرى ذلك في نومه، فلا التفات إلى هذا، وكذلك الثالثة، فإنها تحزين، وتهويل، وتخويف، يُدخل كل ذلك الشيطان على الإنسان في نومه؛ ليشوّش يقظته، وقد يجتمع هذان السببان، أعني هموم النفس، وأُلقيات الشيطان في منام واحد، فتكون أضغاث أحلام لاختلاطها، والضغث: هي القبضة من الحشيش المختلط. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5884]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، وَعَبْدِ رَبِّهِ، وَيَحْيَى ابْنَىْ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِمْ قَوْلَ أَبِي سَلَمَةَ: كُنْتُ أَرَى الرّؤْيَا، أُعْرَى مِنْهَا، غَيْرَ أَنِّي لَا أُزَمَّلُ).
(1)
"المفهم" 6/ 6 - 9.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طلحَةَ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن عُبيد القرشيّ، الكوفيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطلاق" 1/ 3659.
2 -
(عَبْدُ رَبِّهِ) بن سعيد بن قيس الأنصاريّ، أخو يحيى المدنىّ، ثقةٌ [5](ت 139) وقيل بعد ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1272.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصارفي المدنيّ، أبو سعيد القاضي، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ) بن وَقّاص الليثيّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [6](ت 145) على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مِثْلَهُ)؛ أي: مثل حديث الزهريّ المذكور قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) بالبناء للفاعل؛ أي: لم يذكر سفيان بن عيينة (فِي حَدِيثِهِمْ)؛ أي: في حديث هؤلاء الأربعة: مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، وَعَبْدِ رَبِّهِ بن سعيد، وَأخيه يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، وإنما رواه في حديث الزهريّ فقط.
وقوله: (قَوْلَ أَبِي سَلَمَةَ
…
إلخ) بنصب "قولَ" مفعولًا لـ "يَذْكُر"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن هؤلاء الأبعة، ساقها الحميدىّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(419)
- حدّثنا
(1)
الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: وحدّثناه أربعة: محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، وعبدُ ربه، ويحيى ابنا سعيد، ومحمد بن عمرو بن علقمة، أنهم سمعوه من أبي سلمة بن عبد الرحمن، يحدّثه عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الصالحة من الله، والْحُلُم من الشيطان، فإذا حَلَم أحدكم حُلْمًا يكرهه، فلينفْث عن يساره، وليستعذ بالله
(1)
هذا من قول الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
من شر ما رأى، فإنها لن تضرّه". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5885]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا أُعْرَى مِنْهَا، وَزَادَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: "فَلْيَبْصُقْ عَلَى يَسَارِهِ
(2)
حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاثٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عِمران، أبو حفص التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 3 أو 144)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدُ [9](ت 197) وله اثنتان وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ -بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، بعدها لام- أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، إلا أن في روايته عن الزهريّ وَهَمًا قليلًا، وفي غير الزهري خطأ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكسّيّ، بمهملة، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
5 -
(عَبْدُ الزَزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَرِيّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ، شَهِيرٌ، عَمِي في آخر عمره، فتغير، وكان يتشيع [9](ت 211)، وله خمس وثمانون (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"مسند الحميديّ" 1/ 203.
(2)
وفي نسخة: "عن يساره".
6 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلُ، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154)، وهو ابن ثمان وخمسين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا
…
إلخ) الضمير ليونس بن يزيد، ومعمر بن راشد.
وقوله: (حِينَ يَهُبُّ مِنْ نَوْمِهِ)؛ أي: يستيقظ، يقال: هبّ من نومه، من باب نصر: استيقظ.
[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد عن الزهريّ هذه ساقها الطبرانى رحمه الله في "الدعاء"، فقال:
(1275)
- حدّثنا إسماعيل بن الحسن الخفّاف المصريّ، ثنا أحمد بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حَلَم أحدكم بالشيء يكرهه، فليبصق عن يساره حين يَهُبّ من نومه ثلاث مرات، وليستعذ بالله عز وجل من شرّها، فلن تضرّه". انتهى
(1)
.
ورواية معمر عن الزهريّ ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20353)
- أخبرنا
(2)
عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، قال: كنت ألقى من الرؤيا شدّة، غير أني لا أُزَمَّل، حتى حدّثني أبو قتادة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حَلَم أحدكم شيئًا يكرهه، فليبصق عن شماله ثلاث نَفَثَات، وليستعذ من الشيطان، فإنه لا يضرّه". انتهى
(3)
.
(1)
"الدعاء للطبرانيّ" 1/ 381.
(2)
قائل: "أخبرنا" هو تلميذ عبد الرّزاق، فتنبّه.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 212.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5886]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْني: ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤيا مِنَ اللهِ، وَالْحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا يَكْرَهُهُ، فَلْيَنْفثْ عَنْ يَسَارر ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا
(1)
، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ"، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤيا أَثْقَلَ عَلَىَّ مِنْ جَبَلٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَمَا أُبالِيهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدّة، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المديني لا يُقَدِّمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ) زاد في رواية للبخاريّ: "عن أبي سلمة، أن أبا قتادة الأنصاريّ، وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال في "العمدة": قوله: "وكان من أصحاب النبىّ صلى الله عليه وسلم" ذَكَر هذا تعظيمًا له، وافتخارًا به، وتعليمًا للجاهل، وإن كان من الصحابة المشهورين.
وقوله: "وفرسانه"؛ أي: ومن فرسان النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن فُروسيته أنه قَتَل يوم خيبر عشرين رجلًا، فنفّله النبيّ صلى الله عليه وسلم سَلَبَهم. انتهى
(2)
.
وقوله: ("الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ)؛ أي: المنام المحبوب منه سبحانه وتعالى.
وقوله: (وَالْحُلْمُ) بضم الحاء، واللام، قال ابن التين: كذا قرأناه، وفي
ضَبْط الجوهريّ بسكون اللام، وهو ما يراه النائم، وحَلَمَ بفتح الحاء، واللام؛
(1)
وفي نسخة: "وليتعوّذ من شرّها".
(2)
"عمدة القاري" 24/ 146.
كضَرَب، تقول: حَلَمت بكذا، وحلمته، وقال ابن سِيده في "مثلثه": ويُجمع على أحلام، لا غير، وقال الزمخشريّ: الحالم: النائم يرى في منامه شيئًا، وإذا لم ير شيئًا فليس بحالم، وقال الزجاج: الحلم بالضم ليس بمصدر، وإنما هو اسم، وحَكَى ابن التبّاني في "الموعب" عن الأصمعيّ في المصدر: حُلمًا، وحلمًا، والحلم بالكسر الأناءة، يقال منه: حَلُم بضم اللام.
وقوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ) أضيفت إليه؛ لكونها على هواه، ومراده، وقيل: لأنه الذي يُخَيّل بها، ولا حقيقة لها في نفس الأمر.
وقال المباركفوريّ رحمه الله: الحلم بضم الحاء، وسكون اللام، وتُضمّ: ما يُرى في المنام من الخيالات الفاسدة.
وقال في "النهاية": الحلم عبارة عما يراه النائم في نومه، من الأشياء، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير، والشيء الحسن، وغلب الحلم على ما يراه من الشرّ، والأمر القبيح، ومنه قوله تعالى:{أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} [يوسف: 44]، ويُستعمل كل منهما موضع الآخر، وتضم لام الحلم، وتسكن. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَلْيَنْفثْ) من بابي نصر، وضرب؛ أي: فليبصق.
وقوله: (وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَما)، ووقع في بعض النسخ:"وليتعوّذ من شرّها".
وقوله: (فَإِنَّهَما لَنْ تَضُرَّهُ")؛ أي: فإن الرؤيا المكروهة لا تضره، قال النوويّ: معناه أنه تعالى جعل فعله من التعوذ، والتفل، وغيره سببًا لسلامته من المكروه، يترتب عليها، كما جَعَل الصدقة وقايةً للمال، وسببًا لدفع البلاء
(2)
.
وقوله: (فَقَالَ)؛ أي: أبو سلمة (إِنْ كُنْتُ)؛ أي: قبل أن أسمع بهذا الحديث، (لأَرَى الرُّؤْيَا)"إن" مخفّفة من الثقيلة، ولذا دخلت اللام بعدها، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِن" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وقوله: (أَثْقَلَ عَلَىَّ مِنْ جَبَلٍ)؛ أي: ثِقْل جبل لو حملته.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 459.
(2)
"عون المعبود" 13/ 248.
وقوله: (فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ)؛ أي: فما الأمر والشأن إلَّا سماعي بهذا الحديث.
وقوله: (فَمَا أُبَالِيهَا)؛ أي: ما ألتفت إلى تلك الرؤيا التي تثقل عليّ، ولا أُلقي لها بالًا، ولا أخطرها على فكري ثقةً بالله تعالي، وتوكّلًا عليه، وامتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5887]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ -يَعْنى: الثَّقَفِي- (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: فَإِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤيَا، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللَّيْثِ، وَابْنِ نُمَيْرٍ قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَزَادَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَةِ
(1)
هَذَا الْحَدِيثِ: "وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قُتَيْبَةُ) بن سعيد بن جَمِيل -بفتح الجيم- ابن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجَاء الْبَغْلانيّ -بفتح الموحّدة، وسكون المعجمة- يقال: اسمه يحيي، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) بن عبد الرَّحمن اللهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175) في شعبان (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عبيد الْعَنَزيّ -بفتح النون، والزاي- أبو موسى البصريّ، المعروف بالزَّمِنِ، مشهورٌ بكنيته، وباسمه، ثقةٌ ثبتٌ [10]
(1)
وفي نسخة: "في روايته"، فعليه يكون "هذا الحديثَ" منصوبًا على المفعوليّة، فتنبّه.
(ت 252)، وكان هو وبُندار فَرَسي رِهان، وماتا في سنة واحدة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
5 -
(عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) هو: عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ تغير قبل موته بثلاث سنين [8](ت 194) عن نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيّ الأصلِ، ثمّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) -بنون مصغّرًا- الهمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199)، وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ، ذُكر قبله.
وقوله: (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ يعني: عن أبي سلمة، عن أبي قتادة، مثل حديث سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد.
وقوله: (وَزَادَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ) ووقع في بعض النسخ: "في روايته هذا الحديث"، وعليه فـ "هذا الحديث" منصوب بـ "روايته"، بخلاف الأول، فإنه مجرور بالإضافة، فتنبّه.
وقوله: (وَزَادَ ابْنُ رُمْحٍ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ: "وَلْيَتَحَوَّلْ
…
إلخ") قال في "الفتح": ذكر بعض الحفَّاظ أن هذه الزيادة إنما هي في حديث الليث، عن أبي الزبير، كما اتَّفَقَ عليه قتيبة وابن رُمْح، وأما طريق يحيى بن سعيد في حديث أبي قتادة، فليست فيه، ولذلك لَمْ يذكرها قتيبة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أراد هذا البعض إعلال زيادة: "وليتحوّل عن جنبه الذي كان عليه"؛ بتفرّد محمد بن رُمح بها، والذي يظهر لي أن هذا لا يضرّ؛ لأن ابن رُمح ثقةٌ ثبت، فلا يضرّ تفرّده بزيادتها، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 16/ 308، كتاب "التعبير" رقم (6984).
[تنبيه]: رواية قتيبة، عن الليث، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(2277)
- حَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنَا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن، عن أبي قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه، فلينفْث عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من شرّها، فإنها لا تضرّه"، قال: وهذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى
(1)
.
ورواية محمد بن رُمح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد ساقها ابن ماجه في "سننه"، فقال:
(3909)
- حَدَّثَنَا محمد بن رُمح، ثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة بن عبد الرَّحمن بن عوف، عن أبي قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإن رأى أحدكم شيئًا يكرهه، فليبصق عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه". انتهى
(2)
.
ورواية عبد الله بن نُمير، عن يحيى بن سعيد ساقها أبو بكر بن أبي شيبة، في "مصنّفه"، فقال:
(29544)
- حَدَّثَنَا عبد الله بن نُمير، عن يحيى بن سعيد، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يَكره فلينفث عن يساره، وليتعوذ من شرّها، فإنها لا تضرّه". انتهى
(3)
.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ، عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع الترمذيّ" 4/ 535.
(2)
"سُنن ابن ماجه" 2/ 1286.
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 70.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّل الكتاب قال:
[5888]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالرُّؤْيَا السَّوْءُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا، فَكَرِهَ مِنْهَا شَيْئًا، فَلْيَنْفِثْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لَا تَضُرُّهُ، وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنْ رَأَى رُؤيَا حَسَنَةً، فَلْيُبْشِرْ، وَلَا يُخْبِرْ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)، وله اثنتان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقية حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن قيس الأنصاري، أخو يحيى المدنيّ، ثقةٌ [5](ت 139) وقيل بعد ذلك (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1272. والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ)؛ أي: المنتظمة الواقعة على شروطها الصحيحة، وهي ما فيها بشارةٌ أو تنبيه على غفلة، وقال الكرمانيّ: الصالحة صفة موضِّحة؛ لأنَّ غيرها يسمى بالحلُم، أو مخصِّصة، والصلاح باعتبار صورتها، أو تعبيرها، وقال عياض تبعًا للباجيّ: يَحْتَمِل أن معنى الصالحة والحسنة: حسنُ ظاهرها، ويَحْتَمِل أن المراد: صحتها.
وقوله: (مِنَ اللهِ)؛ أي: بشري، وتحذير، وإنذار منه سبحانه وتعالى.
وقوله: (وَالرُّؤيَا السَّوْءُ) بفتح السين المهملة، وسكون الواو، صفةٌ
لـ "الرؤيا"، قال الفيّوميّ رحمه الله: هو رجلُ سَوْءٍ بالفتح والإضافة، وعَمَلُ سَوْءٍ، فإن عرّفتَ قلتَ: الرجلُ السَّوْءُ، والعملُ السَّوْءُ على النعت. انتهى
(1)
.
وقال السيد محمد مرتضى: السُّوءُ -أي: بالضمّ-: كلُّ آفةٍ، ومرضٍ؛ أي: اسمٌ جامعٌ للآفاتِ، والأَمراض، وقوله تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24] قال الزجَّاج: السُّوءُ: خيانَةُ صاحِبَةِ العزيز، والفحشاء: رُكوب الفاحشة، ويقال: لا خيرَ في قولِ السَّوءِ بالفتح، والضمّ، إِذا فتحتَ السين فمعناه: لا خَيْرَ في قولٍ قَبيح، وإذا ضممتَ السِّين فمعناه: لا خَيْرَ في أن تقولَ سُوءًا؛ أي: لا تقل سُوءًا، وقرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالوجهين: الفتح، والضم، قال الفرَّاء: هو مثل قولك: رجلُ السَّوْءِ، والسَّوْءُ، بالفتح في القراءة أَكثرُ، وقلَّما تقولُ العربُ: دائرة السُّوءِ بالضمِّ، وقال الزجَّاج في قوله تعالى:{لظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6]: كانوا ظنُّوا أَنْ لن يعودَ الرسولُ والمؤمنون إلى أَهليهم فجعلَ اللهُ دائرة السَّوْءِ عليهم، قال: ومن قرأَ: (ظنَّ السُّوءِ) فهو جائزٌ، قال: ولا أعلم أَحدًا قرأَ بها، إِلَّا أَنَّها قد رُوِيَتْ، قال الأَزهريُّ: قولُه: لا أَعلم أحدًا إلى آخره وَهَم، قرأَ ابنُ كثيرٍ، وأَبو عمرٍو:(دائِرَةُ السُّوءِ) بضم السِّين، ممدودًا في "سورة بَراءة"، و"سورة الفتح"، وقرأَ سائرُ القُرَّاء: السَّوْءِ بفتح السين في السُّورتين. قال: وتعجَّبتُ أَن يذهَبَ على مِثْلِ الزجَّاج قِراءةُ القارِئَيْنِ الجليلين: ابنِ كثيرٍ، وأبي عمرٍو، وقال أَبو منصور: أنها قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} فلم يُقرأ إِلَّا بالفتح، قال: ولا يجوز فيه ضمّ السين، وقد قرأَ ابنُ كثير، وأبو عمرو:(دائِرَةُ السُّوءِ) بضم السِّين ممدودًا في السُّورتين، وقرأَ سائر القُرَّاء بالفتح فيهما، وقال الفرَّاء في "سورة براءة" في قوله تعالى:{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]، قال: قراءة القُرَّاءِ بنصب السَّوْءِ، وأَراد بالسَّوْء المصدَرَ، ومن رفع السِّين جعله اسمًا، قال: ولا يجوز ضمُّ السِّين في قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28]، ولا في قوله:{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} ؛ لأنَّه ضدٌّ لقولهم: هذا رجلُ صدقٍ، وثوبُ صدقٍ، وليس للسَّوْءِ هنا معنًى في بلاءٍ، ولا
(1)
"المصباح المنير" 1/ 298.
عذاب، فيُضَمَّ، وقُرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} أي: الهزيمَةِ، والشَّرِّ، والبلاءِ، والعذاب، والرَّدي، والفَساد، وكذا في قوله تعالى:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] بالوجهين، أَو أَنَّ المضموم هو الضَّرَرُ، وسوءُ الحال، والسَّوْءُ المفتوح: من المَسَاءة، مثل الفَساد، والرَّدي، والنَّار، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، قيل: هي جهنم -أَعاذنا الله منها- في قراءةٍ؛ أي: عند بعض القُرَّاء، والمشهور:{السُّوأَى} ، ورجلُ سَوْءٍ بالفتح؛ أَي: يعملُ عملَ سَوْءٍ، وإذا عرَّفته وصفتَ به، تقول: هذا رجلُ سَوْءٍ بالإضافة وتُدخل عليه الألف واللام فتقول: هذا رجلُ السَّوْءِ. قال الفرزدق [من الطويل]:
وَكُنْتَ كَذِئب السَّوْءِ لمَّا رأَى دَمًا
…
بِصَاحِبِهِ يومًا أَحالَ على الدَّمِ
وقال الأخَفش: ولا يقال الرَّجلُ السَّوْءُ، ويقال: الحقُّ اليَقينُ، وحقُّ اليقينِ جميعًا؛ لأَنَّ السَّوْءَ ليس بالرجل، واليقينُ هو الحقُّ، قال: ولا يقال: هذا رجلُ السُّوءِ بالضَّمِّ، قال ابن بَرِّيّ: وقد أَجاز الأخفشُ أن يُقال: رجلُ السَّوْءِ، ورجلُ سَوْءٍ بفتح السين فيهما، ولم يُجز: رجلُ السُّوءِ بضم السِّين؛ لأَنَّ السُّوءَ اسمٌ للضُّرِّ، وسوءِ الحال، وإِنَّما يُضاف إلى المصدر الذي هو فِعله، كما يقال: رجلُ الضَّرب، والطَّعنِ، فيقومُ مقامَ قولك: رجل ضرَّابٌ، وطعَّان، فلهذا جاز أَن يقال: رجَلُ السَّوْءِ بالفتح، ولم يَجُزْ أن يقال: هذا رجلُ السُّوءِ بالضَّمِّ، وتقول في النكرة: رجلُ سَوْءٍ، وإذا عرَّفت قلت: هذا الرجلُ السَّوْءُ ولم تُضِف، وتقول: هذا عملُ سَوْءٍ، ولا تقل السَّوْءِ؛ لأنَّ السَّوْءَ يكون نعتًا للرجل، ولا يكون السَّوْءُ نعتًا للعمل؛ لأنَّ الفعل من الرجل، وليس الفعل من السَّوْءِ، كما تقول: قوْلُ صدقٍ، والقولُ الصِّدقُ، ورجلُ صدق، ولا تقول: رجلُ الصِّدق؛ لأنَّ الرجل ليس من الصِّدقِ. انتهى
(1)
.
(مِنَ الشَّيْطَانِ)؛ أي: من إلقائه، يُخَوِّف، وَيحْزُن الإنسان بها، قال عياض: إضافةُ؛ أي: نسبة الرؤيا إلى الله تعالى إضافة تكريم وتشريف؛ لطهارتها من حضور الشيطان، وإفساده لها، وسلامتها من الأضغاث؛ أي: التخليط، وجمعِ الأشياء المتضادة، بخلاف المكروهة، وإن كانتا جميعًا من
(1)
"تاج العروس" 1/ 139 - 140.
خلق الله تعالي، وبإرادته، ولا فِعل للشيطان فيها، لكنه يحضرها، ويرتضيها، ويُسَرّ بها، فلذا نُسبت إليه، أو لأنَّها مخلوقة على طبعه، من التحذير، والكراهة التي خُلِق عليها، أو لأنَّها توافقه، ويستحسنها؛ لِمَا فيها من شَغْل بال المسلم، وتضرره بها، قاله الزرقانيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (فَلْيَنْفِثْ) تقدّم بلفظ: "فليبصق"، وفي رواية:"فليتفل"، قال في "الصحاح": التفل شبيه بالبصق، وهو أقلّ منه، أَوَّله البزاق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ، وقال الزركشيّ: جاء في رواية: "فليتفل"، وفي أخرى:"فلينفث"، وفي أخرى:"فليبصق" وبينها تفاوت، فينبغي فِعْل الكل؛ لأنه زجر للشيطان، فهو من باب رمي الجمار. انتهى
(2)
.
وقوله: (عَنْ يَسَارِهِ) إنما عيّن اليسار؛ لأنه موقف القرين؛ أي: الشيطان، واليمين موقف المَلَك، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَلْيَتَعَوَّذْ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)، وفي رواية:"وليستعذ بالله من شرها"، قال الحافظ رحمه الله: وَرَدَ في صفة التعوذ من شر الرؤيا أثر صحيح أخرجه سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة، عن إبراهيم النخعيّ، قال:"إذا رأى أحدكم في منامه ما يَكره، فليقل إذا استيقظ: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله، ورسله، من شرّ رؤياي هذه، أن يصيبني فيها ما أكره في ديني، ودنياي"، وقال غيره: وَرَدَ أنه يقول: "اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان، وسيئات الأحلام"، رواه ابن السنيّ
(3)
.
وقوله: (لَا تَضُرُّهُ)؛ أي: لأنَّ الله تعالى جعل ما ذُكِر سببًا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جَعَل الصدقة وقايةً للمال، وأنها تدفع البلاء إذا فَعَل ذلك مصدِّقًا متَّكلًا على الله تعالى في دفع المكروه.
وقوله: (وَلَا يُخْبِرْ بِهَا أَحَدًا)؛ أي: لئلا يعبّرها بتعبير غير مرضيّ؛ إما حسدًا، أو لجهله، فتقع ذلك، ويتضرّر الرائي، فقد أخرج أبو داود،
(1)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 452.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 350.
(3)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 453.
والترمذيّ، وصححه ابن حبّان، عن أبي رَزين الْعُقيليّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا على رجل طائر، ما لَمْ تُعبَّر، فإذا عُبِّرت وقعت -قال: وأحسبه- قال: ولا يقصّها إلَّا على وادّ، أو ذي رأي"
(1)
.
وقوله: (فَلْيُبْشِرْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم الأصول: "فَلْيُبْشِرْ" بضم الياء، وبعدها باء ساكنة، من الإبشار، والبشري، وفي بعضها: بفتح الياء، وبالنون، من النشر، وهو الإشاعة، قال القاضي في "المشارق"، وفي "الشرح": هو تصحيف، وفي بعضها:"فليستر" بسين مهملة، من الستر، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَلَا يُخْبِرْ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ") وفي رواية الترمذيّ: "لا يحدّث بها إلَّا لبيبًا، أو حبيبًا"؛ أي: لأنه إذا حدّث بها من لا يحبّ قد يفسرها بما لا يحب، إما بغضًا، وإما حسدًا، فقد يقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنًا، ونَكَدًا، فأُمر بترك تحديث من لا يحب؛ لسبب ذلك، وقد رُوي مرفوعًا:"الرؤيا لأول عابر"، وهو ضعيف، لكن له شاهد عند أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم، عن أبي رزين العُقيليّ، رفعه:"الرؤيا على رجل طائر، ما لَمْ تعبَّر، فإذا عُبِّرت وقعت"، قال أبو عبيدة وغيره: معناه إذا كان العابر الأول عالِمًا، فعبَّر، وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده؛ إذ ليس المدار إلَّا على إصابة الصواب في تعبير المنام؛ ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضَرَب من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لَمْ يُصِب فليسأل الثاني، وعليه أن يُخبر بما عنده، ويبيّن ما جَهِل الأول، وفيه بحث يطول ذكره، قاله الزرقانيّ رحمه الله
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(1)
صححه ابن حبّان، والشيخ الألبانيّ، وحسّنه الحافظ في "الفتح".
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 19 - 20.
(3)
شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 454.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5889]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: إِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا، تُمْرِضُنِي، قَالَ: فَلَقِيتُ أَبَا قَتَادَةَ، فَقَالَ: وَأَنَا كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا، فَتُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبْ، فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتْفِلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَشَرِّهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) محمد بن خَلّاد بن كَثير البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَكَمِ) بن أبي فَرْوة الهاشميّ، يُعرف بابن الكُرْديّ، أبو الحسين البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1678.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) الْهُذَليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بغُنْدَر، ثقةٌ صحيح الكتاب، إلَّا أن فيه غَفلةً [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ، كان الثوريّ يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فَتَّش بالعراق عن الرجال، وذَبّ عن السُّنَّة، وكان عابدًا [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (تُمْرِضُنِي) بضمّ أوله، من الإمراض، رباعيًّا؛ أي: تؤلمني.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5890]
(2262) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا
رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَائًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس -بفتح المثناة، وسكون الدال المهملة، وضم الراء- الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، إلَّا أنه يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
2 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ -بفتحتين- الصحابيّ ابن صحابيّ، غزا تسع عشرة غزوةً، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون ذُكروا قبل حديثين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (451) من رباعيّات الكتاب، وفيه أن صحابيّه رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
وشرح الحديث واضحٌ يُعلم من شرح حديث أبي قتادة رضي الله عنه الماضي.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5890](2262)، و (أبو داود) في "الأدب"(5022)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3954)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 390 و 6/ 226) وفي "عمل اليوم والليلة"(911)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 350)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 11)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1047)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2263)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6060)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 392)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(4/ 188)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3277)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5891]
(2263) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤَيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ
(1)
وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: فَرُؤَيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤَيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ، فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ، فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ"، قَالَ: "وَأُحِبُّ الْقَيْدَ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ"، فَلَا أَدْرِي هُوَ فِي الْحَدِيثِ، أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) -بفتح السين المهملة، بعدها خاء معجمة، ثم مثناة، ثم تحتانية، وبعد الألف نون- هو: أيوب بن أبي تَمِيمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبت، حجة، من كبار الفقهاء العباد [5](ت 131)، وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 305.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبت عابدٌ، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وشيخه، فمكيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
(1)
وفي نسخة: "من خمسة".
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَنَّه (قَالَ: "إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ) قال الخطابيّ في "المعالم"
(1)
: في قوله: "إذا اقترب الزمان" قولان:
أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استوائهما أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبًا، وكذلك هو في الحديث، والمعبِّرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان وقت اعتدال الليل والنهار، وإدراك الثمار، ونقله في "غريب الحديث" عن أبي داود السجستانيّ، ثم قال: والمعبِّرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انفتاق الأزهار، وإدراك الثمار، وهما الوقتان اللذان يعتدل فيهما الليل والنهار.
والقول الآخر: أن اقتراب الزمان انتهاء مدته، إذا دنا قيام الساعة. انتهى. وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (لَمْ تَكَدْ رُؤَيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ)؛ أي: لَمْ تقارب الكذب، وفيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا، وإن أمكن أن شيئًا منها لا يصدق، والراجح أن المراد: نفي الكذب عنها أصلًا؛ لأن حرف النفي الداخل على "كاد" ينفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدلّ على نفيه نفسه، ويدلّ عليه قوله تعالى:{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، ذكره الطيبيّ
(2)
.
وقال القرطبيّ في "المفهم": قيل في اقتراب الزمان قولان:
أحدهما: تقارب الليل والنهار في الاعتدال، وهو الزمان الذي تتفتق فيه الأزهار، وتينع فيه الثمار، وموجب صدق الرؤيا في ذلك الزمان اعتدال الأمزجة فيه؛ فلا يكون في المنام أضغاث الأحلام، فإنَّ من موجبات التخليط فيها غلبة بعض الأخلاط على صاحبها.
وثانيهما: أن المراد بذلك: آخر الزمان المقارب للقيامة. وقد روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه
(1)
"معالم السُّنن" 4/ 129.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 3003.
قال: "في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن"
(1)
.
قال: والمراد -والله أعلم- بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث: زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم بعد قتله الدجال، فقد ذكر مسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ما نصّه:"فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيمكث في الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يُرسل الله ريحًا باردةً من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرّة من خير، أو إيمان إلَّا قبضته" الحديث، قال: فكان أهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالًا بعد الصَّدْر الأَوَّل، وأصدقهم أقوالًا، فكانت رؤياهم لا تكذب، ومن ثَمّ قال عقب هذا:"وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا"، وإنما كان كذلك؛ لأن من كَثُر صِدْقه تنوّر قلبه، وقَوِيَ إدراكه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب حاله الصدق في يقظته، استَصْحَب ذلك في نومه، فلا يرى إلَّا صدقًا، وهذا بخلاف الكاذب، والمخلِّط، فإنه يفسد قلبه، ويُظلِم فلا يرى إلَّا تخليطًا، وأضغاثًا، وقد يندر أحيانًا، فيرى الصادق ما لا يصحّ، ويرى الكاذب ما يصحّ ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الحافظ: وهذا يؤيده ما ثبت أن الرؤيا لا تكون إلَّا من أجزاء النبوة، إن صدرت من مسلم صادق صالح، ومن ثَمّ قُيِّد بذلك في حديث:"رؤيا المسلم جزء"، فإنه جاء مطلقًا مقتصرًا على المسلم، فأخرج الكافر، وجاء مقيَّدًا بالصالح تارةً، وبالصالحة، وبالحسنة، وبالصادقة، كما تقدم بيانه، فيُحمَل المطلق على المقيَّد، وهو الذي يناسب حالُه حالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُكْرَم بما أُكْرِم به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الاطلاع على شيء من الغيب، فأما الكافر، والمنافق، والكاذب، والمخلِّط، وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات، فإنها لا تكون من الوحي، ولا من النبوة؛ إذ ليس كلّ من صدق في شيءٍ ما يكون خبره ذلك نبوةً، فقد يقول الكاهن كلمة حقّ، وقد يُحَدِّث المنجِّم، فيصيب، لكن كلُّ ذلك على الندور والقلة، والله أعلم.
(1)
حديث صحيحٌ، رواه أحمد في "مسنده"(2/ 269)، والترمذيّ في "جامعه"(2291).
(2)
"المفهم" 6/ 11 - 12.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله
(1)
: معنى كون رؤيا المؤمن في آخر الزمان لا تكاد تكذب، أنَّها تقع غالبًا على الوجه الذي لا يَحتاج إلى تعبير، فلا يدخلها الكذب، بخلاف ما قبل ذلك، فإنها قد يخفى تأويلها، فيعبّرها العابر، فلا تقع كما قال، فيصدق دخول الكذب فيها بهذا الاعتبار.
قال: والحكمة في اختصاص ذلك بآخر الزمان، أن المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبًا، كما في الحديث:"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا"، أخرجه مسلم، فيقِلّ أنيس المؤمن، ومُعِيْنه في ذلك الوقت، فيُكْرَم بالرؤيا الصادقة، قال: ويمكن أن يؤخذ من هذا سبب اختلاف الأحاديث في عدد أجزاء النبوة بالنسبة لرؤيا المؤمن، فيقال: كلما قَرُب الأمر، وكانت الرؤيا أصدق حُمل على أقلّ عدد وَرَدَ، وعكسه، وما بين ذلك.
قال الحافظ: وتنبغي الإشارة إلى هذه المناسبة فيما تقدم من المناسبات.
وحاصل ما اجتمع من كلامهم في معنى قوله: "إذا اقترب الزمان لَمْ تكد رؤيا المؤمن تكذب" إذا كان المراد آخر الزمان ثلاثة أقوال:
أحدها: أن العلم بأمور الديانة لَمّا يَذهبُ غالبه بذهاب غالب أهله، وتعذرت النبوة في هذه الأمة عُوِّضُوا بالرؤيا الصادقة؛ ليجدَّد لهم ما قد دَرَسَ من العلم.
والثاني: أن المؤمنين لَمّا يقلّ عددهم، ويغلب الكفر، والجهل، والفسق على الموجودين، يُؤْنَس المؤمن، ويعان بالرؤيا الصادقة؛ إكرامًا له، وتسليةً، وعلى هذين القولين لا يختصّ ذلك بزمان معيَّن، بل كلما قَرُب فراغ الدنيا، وأَخَذ أمر الدين في الاضمحلال تكون رؤيا المؤمن الصادق أصدق.
والثالث: أن ذلك خاصّ بزمان عيسى ابن مريم، وأولها أَولاها، والله أعلم.
(وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا)؛ يعني: أن من كان أكثر صدقًا في حديثه كان أكثر صدقًا في رؤياه، قال النوويّ: ظاهره أنه على إطلاقه، وحَكَى القاضي عن بعض العلماء أن هذا يكون في آخر الزمان عند انقطاع العلم،
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 247.
وموت العلماء، والصالحين، ومن يُستضاء بقوله، وعمله، فجعله الله تعالى جابرًا، وعِوَضًا، ومنبِّهًا لهم، والأول أظهر؛ لأن غير الصادق في حديثه يتطرق الخلل إلى رؤياه، وحكايته إياها. انتهى
(1)
.
(وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسةٍ) وقع في معظم النسخ: بلفظ: "خمس" بحذف التاء، والأول أولى، والله تعالى أعلم. (وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) قال السيوطيّ رحمه الله في "شرحه": هذا عندي من الأحاديث المتشابهة التي نؤمن بها، ونكل معناها المراد إلى قائله صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض في تعيين هذا الجزء من هذا العدد، ولا في حكمته خصوصًا، وقد اختلفت الروايات في كمية العدد، ففي رواية:"من ستة وأربعين"، وفي رواية:"من ستة وعشرين"، وفي رواية:"من أربعين"، وفي رواية:"من أربعة وأربعين"، وفي رواية:"من تسعة وأربعين"، وفي رواية:"من خمسين"، وفي رواية:"من سبعين"، والله أعلم بمراد نبّيه صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سأذكر في المسألة الخامسة ما قاله أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: "جزء من أربعين جزءًا من النبوّة" -إن شاء الله تعالى-.
(وَالرُّؤْيَا ثَلاثَةٌ)؛ أي: ثلاثة أنواع، (فَرُؤَيَا الصَّالِحَةِ) من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ كمسجد الجامع، وهو مبتدأ خبره قوله:(بُشْرَى مِنَ اللهِ) تعالى؛ أي: الرؤيا الصالحة التي يراها المسلم، أو تُرى له بُشرى من الله سبحانه وتعالى له، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بشرى من الله"؛ أي: مُبشرة بخير، ومحذِّرة عن شرٍّ، فإن التحذير عن الشرِّ خيرٌ، فتتضمَّنه البشري، وإنَّما قلنا ذلك هنا؛ لأنَّه قد قال في حديث الترمذيّ:"الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله" مكان: "بشرى من الله"، فأراد بذلك -والله أعلم- الرؤيا الصادقة المبشِّرة، والمحذِّرة. انتهى
(3)
.
(وَرُؤْيَا) مبتدأ سوّغه التقسيم، وخبره قوله:(تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ)؛ أي: إيقاع منه للمسلم في حُزْن وَهَمّ، قال القرطبيّ رحمه الله: ويُلحق بالرؤيا المحزنة: المفزعات، والمهوِّلات، وأضغاث الأحلام؛ إذ كل ذلك مذموم؛ لأنَّها من آثار
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 20.
(2)
"الديباج على مسلم" 5/ 284.
(3)
"المفهم" 6/ 18.
الشيطان، وكل ما ينسب إليه مذموم. انتهى
(1)
.
(وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ) بتشديد الدال، (الْمَرْءُ) به (نَفْسَهُ)؛ أي: من الأشياء التي يُحدّث بها الشخص في يقظته، قال القرطبيّ رحمه الله: يدخل فيه ما يلازمه المرء في يقظته من الأعمال، والعلوم، والأقوال، وما يقوله الأطباء: من أن الرؤيا تكون عن خلطٍ غالبٍ على الرائي، فيرى في نومه ما يناسب ذلك الخلط؛ فمن يغلب عليه البلغم رأى السِّباحة في الماء، وما أشبهه؛ لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران، والصعود في الارتفاع؛ لمناسبة النَّار في الطبيعة طبيعة الصفراء، وهكذا يقولون في بقية الأخلاط، ونحن ننازعهم في موضعين:
أحدهما: في أصل تأثير الطبيعة؛ فإنْ قالوا: إن الطبيعة سببٌ عاديّ، والله تعالى هو الفاعل بالحقيقة، وهو مذهب المسلمين؛ فهو الحقّ، وإن قالوا: إن الطبيعة تفعل ذلك بذاتها؛ حكمنا بتكفيرهم، وانتقل الكلام إلى علم الكلام.
والثاني: أن من أراد منهم أن الرؤيا لا تكون إلَّا عن الأخلاط؛ فهو باطل بما قد ثبت عن الصادق فيما ذكرناه من الأحاديث: أن الرؤيا منها ما يكون من الله، وهي المبشرة، والمحذرّة، وهذا من باب الخير، وليس في قوة الطبيعة أن تطّلع على الغيب بالإخبار عن أمور مستقبلة تقع في المستقبل على نحو ما اقتضته الرؤيا بالاتفاق بين العقلاء، ومن أراد منهم: أن الأخلاط قد تكون سببًا لبعض المنامات، فقد يُسَلَّم ذلك على ما قرَّرناه، ثمَّ يبقى نظر آخر، وهو أنه لو كان ما قالوه صحيحًا للزم عليه ألا يرى من غلب عليه خلط من تلك الأخلاط إلَّا ما يناسبه، ونحن نشاهد خلافه، فيرى البلغمي النيران، والصعود في الارتفاعات، وعكس ذلك في الصفراويّ، فبطل ما قالوه بالمشاهَد، والله وليُّ المعاضدة. انتهى
(2)
.
(فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِب، (فَلْيَقُمْ) من منامه (فَلْيُصَلِّ) ليس هذا مخالفًا لقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى:"فلينفث عن يساره ثلاثًا، وليتعوَّذ بالله من شرِّها، وليتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه"؛ وإنما
(1)
"المفهم" 6/ 18.
(2)
"المفهم" 6/ 18 - 19.
الأمر بالصلاة زيادة، فينبغي أن تزاد على ما في هذه الرواية، فيفعل الجميع، ويَحْتَمِل أن يقال: إنما اقتصر في هذا الموضع على ذكر الصلاة وحدها؛ لأنَّه إذا صلَّى تضمَّن فِعله للصلاة جميع تلك الأمور؛ لأنَّه إذا قام إلى الصلاة تحوَّل عن جنبه، وإذا تمضمض نَفَث، وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوَّذ، ودعا، وتفرَّغ لله تعالى في ذلك في حالٍ هي أقرب الأحوال إجابةً، كما قدَّمناه، والله تعالى أعلم، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ) من التحديث، وفي الرواية الماضية:"ولا يُخبر بها أحدًا"، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: لا يُعَلِّق نفسه بتأويلها، إذ لا تأويل لها، فإنها من أُلْقيات
(2)
الشيطان التي يقصد بها التشويش على المؤمن، إما بتحزين، وإما بترويع، أو ما أشبه ذلك، وفِعْلُ ما ذُكر كافٍ في دفع ذلك، ومانعٌ من أن يعود الشيطان لمثل ذلك، وهذا هو الذي فهمه أبو سلمة من الحديث -والله تعالى أعلم- فقال:"إن كنت لأرى الرؤيا أثقل عليَّ من الجبل، فما أباليها"، وفي أصل كتاب مسلم قال:"كنت لأرى الرؤيا أُعْرَى لها، غير أني لا أزَّمَّل"؛ أي: تصيبي الْعُرَوَاء، وهي الرِّعْدة، وقال في رواية أخرى:"إن كنت لأرى الرؤيا، فَتُمْرِضني غير أنِّي لا أزَّمَّل لها"، والتزميل: اللفّ، والتَّدثير، يعني: أنَّها ما كانت تدوم عليه، فيحتاج إلى أن يدَّثَّر، لكنه بنفس ما كان يفعل ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من النفث، والتعوُّذ، وغيره يزول عنه ذلك، ببركة الصدق، والتصديق، والامتثال، وفائدة هذا أن لا يَشْغَل الرائي نفسه بما يَكره في نومه، وأن يُعرِض عنه، ولا يلتفت إليه، فإنَّه لا أصل له، هذا هو الظاهر من الأحاديث، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(قَالَ: وَأُحِبُّ الْقَيْدَ) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، غير أن أيوب السختيانيّ هو الذي رَوَى هذا الحديث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وقد أخبر عن نفسه أنه شكَّ: هل هو من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من
(1)
"المفهم" 6/ 19.
(2)
"الأُلْقية" كأُغْنية: ما أُلقي من التحاجي. اهـ. "القاموس" ص 1185.
(3)
"المفهم" 6/ 19 - 20.
قول ابن سيرين؟ فلا يُعَوَّل على ذلك الظاهر، غير أن هذا المعنى صحيح في العبارة؛ لأنَّ القيد في الرجلين، وهو يُثبِّت الإنسان في مكانه، فإذا رآه من هو على حالٍ مّا على رجليه كان ذلك دليلًا على ثبوته على تلك الحالة، فإذا رآه من هو من أهل الدين والعلم كان ثباتًا على تلك الحال، ولو رأى المريض قيدًا في رجليه كان ذلك دليلًا على دوام مرضه.
(وَأَكْرَهُ الْغُلَّ) بضم الغين المعجمة، وتشديد اللام: طَوْقٌ من حديد يُجعل في الْعُنُق، والجمع أغلالٌ، مثلُ: قُفْل وأقفال.
قال القرطبيّ رحمه الله: وإنما كَرِهَ الْغُلّ؛ لأنَّه لا يُجعل إلَّا في الأعناق نِكايةً، وعُقوبةً، وقهرًا، وإذلالًا، فَيُسحب على وجهه، ويجرّ على قفاه، كما قال تعالى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)} [غافر: 71، 72]، ومنه قوله تعالى:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]، و {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)} [يس: 8].
وعلى الجملة فهو مذموم شرعًا، وعادة، فرؤيته في النوم دليلٌ على وقوع حالة سيئة بالرائي تلازمه، ولا ينفك عنها، وقد يكون ذلك في دينه؛ كواجبات فرَّط فيها، أو معاصٍ ارتكبها، أو ديونٍ، وحقوقٍ لازمة له، وقد يكون ذلك في دنياه من شدائد تصيبه، أو أنكاد تلازمه.
وبالجملة فالمعتبَر في أعظم أصول العِبارة النظر إلى أحوال الرائي، واختلافها، فقد يرى الرائيان شيئًا واحدًا، ويدلّ في حق أحدهما على خلاف ما يدلّ عليه في حقّ الآخر. انتهى
(1)
.
(وَالْقَيْدُ ثَبَات فِي الدِّينِ") قال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: إنما أحب القيد؛ لأنه في الرِّجلين، وهو كفّ عن المعاصي والشرور، وأنواع الباطل، وأما الغلّ فموضعه العنق، وهو صفة أهل النار، قال الله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} [يس: 8]، وقال الله تعالى:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71]، وأما أهل العبارة فنزّلوا هاتين اللفظتين منازل، فقالوا: إذا رأى القيد في
(1)
"المفهم" 6/ 19 - 20.
رجليه، وهو في مسجد، أو مشهد خير، أو على حالة حسنة، فهو دليل لثباته في ذلك، وكذا لو رآه صاحب ولاية، كان دليلًا لثباته فيها، ولو رآه مريضٌ، أو مسجونٌ، أو مسافرٌ، أو مكروبٌ، كان دليلًا لثباته فيه، قالوا: ولو قارنه مكروه بأن يكون مع القيد غُلٌّ غلب المكروه؛ لأنَّها صفة المعذَّبين، وأما الغُلّ فهو مذموم إذا كان في العنق، وقد يدلّ للولايات، إذا كان معه قرائن، كما أن كلّ وال يُحشر مغلولًا حتى يُطلقه عَدْله، فأما إن كان مغلول اليدين دون العنق، فهو حسنٌ، ودليلٌ لكفهما عن الشرّ، وقد يدلُّ على بُخلهما، وقد يدلّ على منع ما نواه من الأفعال. انتهى
(1)
.
قال أيوب: (فَلَا أَدْرِي هُوَ)؛ أي: قوله: "قال: وأحبّ القيد، وأكره الغُلّ، والقيد ثبات في الدين"، (فِي الْحَدِيثِ) المرفوع (أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ؟) من عند نفسه، وسيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5891 و 5892 و 5893 و 5894](2263)، و (البخاريّ) في "التعبير"(7017)، و (أبو داود) في "الأدب"(5019)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2270)، و (ابن ماجه) في "الرؤيا"(3894)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 956)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20352)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 50 - 51)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 269 و 314)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 125)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6040)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 395)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 46)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 123)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(4/ 189)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3278 و 3279)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 23 - 24.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه إذا اقترب الزمان لا تكاد رؤيا المسلم تكذب، وقد تقدّم الخلاف في المراد باقتراب الزمان، فلا تنس، والله تعالى وليّ التوفيق.
2 -
(ومنها): بيان أن من كان أصدق في حديثه كان أصدق في رؤياه.
3 -
(ومنها): أن رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوَّة، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
4 -
(ومنها): أن الرؤيا ثلاثة أنواع: الأولى: الرؤيا الصالحة، وهي بُشرى من الله تعالى لعبده المسلم، والثانية: رؤيا هي تحزين من الشيطان للمؤمن، ولا تضرّه، والثالثة: رؤيا من نوع ما يُحدّث المرء به نفسه.
5 -
(ومنها): أن من آداب من رآى رؤيا يكرهها أن يقوم من منامه، فيصلي، وأن لا يحدّث بها الناس، فإنها لا تضرّه.
6 -
(ومنها): أن المسلم إذا رآى القيد في منامه كان خيرًا له؛ لأنه يدلّ على ثباته في دينه.
7 -
(ومنها): أن رؤيا الغُلّ مذموم؛ لأنه من صفة أهل النار، كما أخبر الله عنهم في قوله:{إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)} [غافر: 71]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في إدراج قوله: "وأحبّ القيد، وأكره الغلّ
…
إلخ": قال أبو بكر الخطيب البغداديّ رحمه الله في كتابه "الفصل للوصل المدرج" بعد إيراده الحديث من طرق ما نصّه: جاء في هذه الأحاديث التي ذكرناها أن جميع هذا المتن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا ذكر القيد، والغُلّ، فإنه من قول أبي هريرة، أدرجه هؤلاء الرواة في الحديث، وبيَّنه معمر بن راشد في روايته عن أيوب، عن محمد بن سيرين، ثم ساقه بسنده من طريق معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، والرؤيا ثلاثة: الرؤياء الحسنة بشرى من الله، والرؤيا يحدّث بها الرجل نفسه، والرؤيا تحزين من الشيطان، وإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها، فلا يحدّث بها أحدًا، وليقم، فليصلّ، قال:
وقال أبو هريرة: يعجبني القيد، وأكره الغُلّ، القيد ثبات في الدين". انتهى
(1)
. وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب القيد في المنام":
(6614)
- حَدَّثَنَا عبد الله بن صَبّاح، حَدَّثَنَا معتمر، سمعت عوفًا، حَدَّثَنَا محمد بن سيرين، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لَمْ تَكَدْ رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب، قال محمد: وأنا أقول هذه. قال: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأى شيئًا يكرهه، فلا يقصُّه على أحد، وليقم، فليصلّ، قال: وكان يُكْرَه الغُلّ في النوم، وكان يُعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين.
ورَوَى قتادة، ويونس، وهشام، وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأدرجه بعضهم كلَّه في الحديث، وحديث عوف أبْيَن.
وقال يونس: لا أحسبه إلَّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في القيد.
قال أبو عبد الله: لا تكون الأغلال إلَّا في الأعناق. انتهى.
ولنذكر شرحه من "الفتح"؛ لأنَّ فيه تحقيقات كثيرة يتبيّن بها ما وقع في الحديث من الإدراج على وجه التفصيل، قال:
قوله: "باب القيد في المنام"؛ أي: من رأى في المنام أنه مقيَّد ما يكون تعبيره؟ وظاهر إطلاق الخبر أنه يعبَّر بالثبات في الدين في جميع وجوهه، لكن أهل التعبير خَصوا ذلك بما إذا لَمْ يكن هناك قرينة أخري، كما لو كان مسافرًا، أو مريضًا، فإنه يدلّ على أنَّ سفره، أو مرضه يطول، وكذا لو رأى في القيد صفة زائدةً، كمن رأى في رجله قيدًا من فضة، فإنه يدلّ على أنَّه يتزوج، وإن كان من ذهب، فإنه لأمر يكون بسبب مال يتطلبه، كان كان من صُفْر، فإنه لأمر مكروه، أو مال فات، وإن كان من رصاص، فإنه لأمر فيه وَهْن، وإن كان من حَبْل، فلأمر في الدين، وإن كان من خشب، فلأمر فيه نفاق، كان كان من حطب، فلتهمة، وإن كان من خرقة، أو خيط فلأمر لا يدوم.
قال الجامح عفا الله عنه: لا يخفى مخالفة ما قاله أهل التعبير من
(1)
"الفصل للوصل المدرج" 1/ 167 - 171.
التفصيلات لإطلاق حديث الباب، فليُتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وقوله: "إذا اقترب الزمان لَمْ يَكَد رؤيا المؤمن تَكْذِب" كذا للأكثر، ووقع في رواية أبي ذرّ عن غير الكشميهنيّ بتقديم "تكذب" على "رؤيا المؤمن"، وكذا في رواية محمد بن يحيي، وكذا في رواية عيسى بن يونس، عن عوف عند الإسماعيليّ، قال الخطابيّ في "المعالم" في قوله:"إذا اقترب الزمان" قولان:
أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استوائهما أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبًا، وكذلك هو في الحديث، والمعبِّرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان وقت اعتدال الليل والنهار، وإدراك الثمار، ونقله في غريب الحديث عن أبي داود السجستانيّ، ثم قال: والمعبِّرون يزعمون أن أصدق الأزمان لوقوع التعبير وقت انفتاق الأزهار، وإدراك الثمار، وهما الوقتان اللذان يعتدل فيهما الليل والنهار.
والقول الآخر: أن اقتراب الزمان انتهاء مدته إذا دنا قيام الساعة.
قال الحافظ: يُبعد الأول التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختصّ به، وقد جزم ابن بطال بأن الأول
(1)
هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذيّ من طريق معمر، عن أيوب في هذا الحديث، بلفظ:"في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا"، قال: فعلى هذا فالمعنى إذا اقتربت الساعة، وقُبض أكثر العلم، ودَرَست معالم الديانة بالهرْج والفتنة، فكان الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكِّر، ومجدِّد لِمَا دَرَس من الدين، كما كانت الأمم تُذَكَّر بالأنبياء، لكن لمّا كان نبيّنا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، وصار الزمان المذكور يشبه زمان الفترة، عُوِّضوا بما مُنِعوا من النبوة بعده بالرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة الآتية بالتبشير والإنذار. انتهى.
ويؤيده ما أخرجه ابن ماجة من طريق الأوزاعيّ، عن محمد بن سيرين، بلفظ:"إذا قرب الزمان"، وأخرج البزار من طريق يونس بن عبيد، عن محمد بن
(1)
هكذا نسخة "الفتح""بأن الأول"، والظاهر أن الصواب:"بأن الثاني هو الصواب". فليُتأمل.
سيرين، بلفظ:"إذا تقارب الزمان"، وفي حديث آخر عن أبي هريرة: "يتقارب الزمان، ويُرفع العلم
…
" الحديث، والمراد به اقتراب الساعة قطعًا.
وقال الداوديّ: المراد بتقارب الزمان: نَقص الساعات والأيام والليالي. انتهي، ومراده بالنقص سرعة مرورها، وذلك قرب قيام الساعة، كما ثبت في الحديث الآخر عند مسلم وغيره:"يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، والساعة كاحتراق السَّعَفَة"، وقيل: إن المراد بالزمان المذكور: زمان المهديّ عند بسط العدل، وكثرة الأمن، وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يُستقصَر لاستلذاذه، فتتقارب أطرافه.
وأما قوله: "لَمْ تكد
…
إلخ " فيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا، وإن أمكن أن شيئًا منها لا يصدق، والراجح أن المراد: نفي الكذب عنها أصلًا؛ لأن حرف النفي الداخل على كاد ينفي قرب حصوله، والنافي لقرب حصول الشيء أدلّ على نفيه نفسه، ذكره الطيبيّ.
وقوله: "ورؤيا المؤمن جزء" الحديث هو معطوف على جملة الحديث الذي قبله، وهو:"إذا اقترب الزمان" الحديث، فهو مرفوع أيضًا، وقد تقدم شرحه مستوفى قريبًا.
وقوله: "وما كان من النبوة فإنه لا يكذب" هذا القدر لَمْ يتقدم في شيء من طرق الحديث المذكور، وظاهر إيراده هنا أنه مرفوع، ولئن كان كذلك فإنه أَولى ما فُسّر به المراد من النبوة في الحديث، وهو صفة الصدق، قال الحافظ: ثم ظهر لي أن قوله بعد هذا: "قال محمد: وأنا أقول هذه": الإشارة في قوله: "هذه" للجملة المذكورة، وهذا هو السرّ في إعادة قوله:"قال" بعد قوله: "هذا"، ثم رأيت في "بُغية النقاد" لابن المواق أن عبد الحق أغفل التنبيه على أنَّ هذه الزيادة مدرجة، وأنه لا شك في إدراجها، فعلى هذا فهي من قول ابن سيرين، وليست مرفوعة.
قوله: "وأنا أقول هذه" كذا لأبي ذرّ وفي جميع الطرق، وكذا ذكره الإسماعيليّ، وأبو نعيم، في "مستخرجيهما"، ووقع في "شرح ابن بطال"
(1)
:
(1)
راجع: "شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 537.
"وأنا أقول هذه الأمة، وكان يقال
…
إلخ" قال الحافظ: وليست هذه اللفظة في شيء من نُسخ "صحيح البخاري"، ولا ذكرها عبد الحق في "جمعه"، ولا الحميديّ، ولا من أخرج حديث عوف، من أصحاب الكتب، والمسانيد، وقد تقلّده عياض، فذكره كما ذكره ابن بطال، وتبعه في "شرحه"، فقال: خشي ابن سيرين أن يتاول أحد معنى قوله: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا"، أنه إذا تقارب الزمان لَمْ يصدق إلَّا رؤيا الرجل المصالح، فقال: وأنا أقول هذه الأمة -يعني: رؤيا هذه الأمة- صادقة كلها، صالحها وفاجرها؛ ليكون صدق رؤياهم زاجرًا لهم، وحجةً عليهم؛ لدروس أعلام الدين، وطموس آثاره بموت العلماء، وظهور المنكر. انتهى.
قال الحافظ: وهذا مرتَّب على ثبوت هذه الزيادة، وهي لفظة:"الأمة"، ولم أجدها في شيء من الأصول، وقد قال أبو عوانة الإسفرائينيّ بعد أن أخرجه موصولًا مرفوعًا، من طريق هشام، عن ابن سيرين: هذا لا يصحّ مرفوعًا عن ابن سيرين، قلت: وإلى ذلك أشار البخاريّ في آخره بقوله: "وحديث عوف أبْيَن"؛ أي: حيث فَصَل المرفوع من الموقوف.
قوله: قال: وكان يقال: "الرؤيا ثلاث
…
إلخ" قائل "قال" هو محمد بن سيرين، وأبهم القائل في هذه الرواية، وهو أبو هريرة، وقد رفعه بعض الرواة، ووقفه بعضهم، وقد أخرجه أحمد عن هَوْذة بن خليفة، عن عوف، بسنده مرفوعًا: "الرؤيا ثلاث
…
" الحديث مثله، وأخرجه الترمذيّ، والنسائيّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا ثلاث: فرؤيا حقّ، ورؤيا يُحَدِّث بها الرجل نفسه، ورؤيا تحزين من الشيطان"، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ من طريق عبد الوهاب الثقفيّ، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، مرفوعًا أيضًا بلفظ: "الرؤيا ثلاث: فالرؤيا الصالحة بشرى من الله"، والباقي نحوه.
قوله: "حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله"، وقع في حديث عوف بن مالك عند ابن ماجه بسند حسن، رفعه:"الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان؛ ليحزن ابن آدم، ومنها ما يَهُمّ به الرجل في يقظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
قال الحافظ: "وليس الحصر مرادًا من قوله: "ثلاث"؛ لثبوت نوع رابع في حديث أبي هريرة في الباب، وهو حديث النفس، وليس في حديث أبي قتادة، وأبي سعيد الماضيين سوى ذِكر وَصْف الرؤيا بأنها مكروهة، ومحبوبة، أو حسنة وسيئة.
وبقي نوع خامس، وهو تلاعب الشيطان، وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر قال:"جاء أعرابيّ، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام؛ كأن رأسي قُطِع، فأنا أتبعه"، وفي لفظ:"فقد خرج، فاشتددت في أثره، فقال: لا تُخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام"، وفي رواية له:"إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يُخبر به الناس".
ونوع سادس: وهو رؤيا ما يعتاده الرائي في اليقظة؛ كمن كانت عادته أن يأكل في وقت، فنام فيه، فرأى أنه يأكل، أو بات طافحًا من أكل، أو شرب، فرأى أنه يتقيأ، وبينه وبين حديث النفس عموم وخصوص.
وسابع: وهو الأضغاث.
قوله: "فمن رأى شيئًا يكرهه، فلا يقصه على أحد، ولْيَقُم، فليصلّ"، زاد في رواية هَوْذة: "فإذا رأى أحدكم رؤيا تُعجبه، فليقصها لمن يشاء، وإذا رأى شيئًا يكرهه
…
" فذكر مثله، ووقع في رواية أيوب عن محمد بن سيرين: "فليصلّ، ولا يحدِّث بها الناس"، وزاد في رواية سعيد بن أبي عروبة، عن ابن سيرين عند الترمذيّ: "وكان يقول: لا تقص الرؤيا إلَّا على عالم، أو ناصح"، وهذا ورد معناه مرفوعًا في حديث أبي رزين، عند أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجة: "ولا يقصها إلَّا على وادٍّ، أو ذي رأي".
قوله: "قال: وكان يَكره الْغُلّ في النوم، ويعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين" كذا ثبت هنا بلفظ الجمع في "يعجبهم"، والإفراد في "يَكرَه"، و"يقول"، قال الطيبيّ: ضمير الجمع لأهل التعبير، وكذا قوله:"وكان يقال"، قال المهلَّب: الغل يُعَبَّر بالمكروه؛ لأنَّ الله أخبر في كتابه أنه من صفات أهل النار بقوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} الآية [غافر: 71]، وقد يدلّ على الكفر، وقد يعبَّر بامرأة تؤذي.
وقال ابن العربيّ: إنما أحبوا القيد؛ لِذِكر النبيّ صلى الله عليه وسلم له في قسم
المحمود، فقال:"قَيَّدَ الإيمانُ الْفَتْكَ"
(1)
، وأما الغُلّ فقد كُرِه شرعًا في المفهوم؛ كقوله:{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)} [الحاقة: 30]، {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71]، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، وإنما جُعل القيد ثباتًا في الدين؛ لأنَّ المقيَّد لا يستطيع المشي، فضُرب مثلًا للإيمان الذي يمنع عن المشي إلى الباطل.
وقال النوويّ: قال العلماء: إنما أحبّ القيد؛ لأنَّ محله الرِّجل، وهو كفّ عن المعاصي، والشرّ، والباطل، وأبغضَ الغُلَّ؛ لأنَّ محله العنق، وهو صفة أهل النار، وأما أهل التعبير فقالوا: إن القيد ثبات في الأمر الذي يراه الرائي، بحسب من يُرَى ذلك له، وقالوا: إن انضم الغلّ إلى القيد دلّ على زيادة المكروه، وإذا جُعل الغلّ في اليدين حُمِد؛ لأنه كفّ لهما عن الشرّ، وقد يدلّ على البخل بحسب الحال، وقالوا أيضًا: إن رأى أن يديه مغلولتان فهو بخيل، وإن رأى أنه قُيِّد وغُلّ، فإنه يقع في سجن، أو شدّة.
قال الحافظ: وقد يكون الغلّ في بعض المرائي محمودًا كما وقع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فأخرج أبو بكر بن أبي شيبة، بسند صحيح، عن مسروق قال:"مَرَّ صهيب بأبي بكر، فأعرض عنه، فسأله، فقال: رأيت يدك مغلولة على باب أبي الحشر، رجل من الأنصار، فقال أبو بكر: جُمِع لي ديني إلى يوم الحشر".
وقال الكرمانيّ: اختُلِف في قوله: "وكان يقال" هل هو مرفوعٌ، أو لا؟ فقال بعضهم: من قوله: "وكان يقال"، إلى قوله:"في الدين" مرفوعٌ كلّه، وقال بعضهم: هو كله كلام ابن سيرين، وفاعل "كان يَكره" أبو هريرة.
قال الحافظ: أخذه من كلام الطيبيّ، فإنه قال: يَحْتَمِل أن يكون مقولًا للراوي عن ابن سيرين، فيكون اسم "كان" ضميرًا لابن سيرين، وأن يكون
(1)
قوله: "قَيَّدَ الإيمانُ الْفَتْكَ"؛ أي: الإيمان يمنع عن الفتك، كما يمنع القيد عن التصرف، فكأنه جعل الفتك مقيدًا، قال في "النهاية": الفتك أن يأتي الرجل صاحبه، وهو غارّ، غافلٌ، فيشدّ عليه، فيقتله، والغِيلة أن يخدعه، ثم يقتله في موضع خفيّ. انتهى.
مقولًا لابن سيرين، واسم "كان" ضمير أبي هريرة، أو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن سيرين، وقال في آخره:"لا أدري هو في الحديث، أو قاله ابن سيرين؟ ".
قوله: "ورواه قتادة، ويونس، وهشام، وأبو هلال، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"؛ يعني: أصل الحديث، وأما من قوله:"وكان يقال" فمنهم من رواه بتمامه مرفوعًا، ومنهم من اقتصر على بعضه، كما سيأتي.
قوله: "وأدرجه بعضهم كله في الحديث"؛ يعني: جعله كله مرفوعًا، والمراد به رواية هشام، عن قتادة، كما سيأتي.
قوله: "وحديث عوف أبين"؛ أي: حيث فَصَلَ المرفوع من الموقوف، ولا سيما تصريحه بقول ابن سيرين:"وأنا أقول هذه"، فإنه دالّ على الاختصاص
(1)
، بخلاف ما قال فيه:"وكان يقال"، فإن فيها الاحتمال بخلاف أول الحديث، فإنه صَرَّح برفعه، وقد اقتصر بعض الرواة عن عوف على بعض ما ذكره معتمر بن سليمان عنه، كما بُيّن من رواية هَوْذة، وعيسى بن يونس.
قال القرطبيّ: ظاهر السياق أن الجميع من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم غير أن أيوب هو الذي روى هذا الحديث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، وقد أخبر عن نفسه أنه شكّ أهو من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من قول أبي هريرة؟ فلا يُعَوَّل على ذلك الظاهر.
قال الحافظ: وهو حصر مردودٌ، وكأنه تكلم عليه بالنسبة لرواية مسلم خاصّةً، فإن مسلمًا ما أخرج طريق عوف هذه، ولكنه أخرج طريق قتادة، عن محمد بن سيرين، فلا يلزم من كون أيوب شكّ أن لا يُعَوَّل على رواية من لَمْ يشكّ، وهو قتادة مثلًا، لكن لمّا كان في الرواية المفصّلة زيادةٌ، فَرُجّحت.
قوله: "وقال يونس: لا أحسبه إلَّا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في القيد"؛ يعني: أنه شكّ في رفعه.
قوله: "قال أبو عبد الله" هو البخاريّ، وقوله:"لا تكون الأغلال إلَّا في الأعناق"؛ كأنه يشير إلى الردّ على من قال: قد يكون الغُلّ في غير العنق؛
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، ولعله:"على التنصيص"، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
كاليد، والرجل، والْغُلّ -بضم المعجمة، وتشديد اللام- واحد الأغلال، قال: وقد أطلق بعضهم الغُلّ على ما تُربط به اليد، وممن ذكره أبو علي القاليّ، وصاحب "المحكم"، وغيرهما، قالوا: الغُلّ جامعة تُجْعَل في العنق، أو اليد، والجمع أغلال، ويدٌ مغلولةٌ جُعِلت في الغلّ، ويؤيده قوله تعالى:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 64]، كذا استشهد به الكرمانيّ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اليد تُغَلّ في العنق، وهو عند أهل التعبير عبارة عن كفّهما عن الشرّ، ويؤيده منام صهيب في حقّ أبي بكر الصديق، كما تقدم قريبًا.
فأما رواية قتادة المعلّقة فوَصَلها مسلم، والنسائيّ من رواية معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدّستوائيّ، عن أبيه، عن قتادة، ولفظ النسائيّ بالسند المذكور: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "الرؤيا الصالحة بشارة من الله، والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا ما يُحَدِّث به الرجل نفسه، فإذا رأى أحدكم رؤيا يَكرهها، فليقم، فليصلّ، وأكره الغُلّ في النوم، ويُعجبني القيد، فان القيد ثبات في الدين".
وأما مسلم فإنه ساقه بسنده عقب رواية معمر، عن أيوب التي فيها: قال أبو هريرة: "فيعجبني القيد، وأكره الغُلّ، القيد ثبات في الدين"، قال مسلم: فأدرج؛ يعني: هشامًا عن قتادة في الحديث قوله: "وأكره الغُلّ
…
إلخ"، ولم يذكر: "الرؤيا جزء
…
" الحديث، وكذلك رواه أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: قال أبو هريرة: "أحب القيد في النوم، وأكره الغُلّ، القيد في النوم ثبات في الدين"، أخرجه ابن حبان في "صحيحه" من رواية سفيان بن عيينة عنه، وأخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، من رواية عبد الوهاب الثقفيّ، عن أيوب، فذكر حديث: "إذا اقترب الزمان
…
" الحديث، ثم قال: "ورؤيا المسلم جزء من
…
" الحديث، ثم قال: "والرؤيا ثلاث
…
" الحديث، ثم قال بعده: "قال: وأُحِبّ القيد، وأكره الغُلّ، القيد ثبات في الدين، فلا أدري هو في الحديث، أو قاله ابن سيرين؟ "، هذا لفظ مسلم، ولم يذكر أبو داود، ولا الترمذيّ قوله: "فلا أدري
…
إلخ"، وأخرجه الترمذيّ، وأحمد، والحاكم، من رواية معمر، عن أيوب، فذكر الحديث الأول، ونحوَ الثاني، ثم قال بعدهما: "قال أبو هريرة: يعجبني القيد
…
إلخ"، قال: وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
"رؤيا المؤمن جزء
…
إلخ"، وقد أخرج الترمذيّ، والنسائيّ من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، حديث: "الرؤيا ثلاثة
…
" مرفوعًا، ثم قال بعده: "وكان يقول: يعجبني القيد
…
" الحديث، وبعده: "وكان يقول: من رآني، فإني أنا هو
…
" الحديث، وبعده: "وكان يقول: لا تقصّ الرؤيا إلَّا على عالم، أو ناصح"، وهذا ظاهر في أن الأحاديث كلها مرفوعة.
وأما رواية يونس، وهو ابن عبيد، فأخرجها البزار في "مسنده" من طريق أبي خَلَف -وهو: عبد الله بن عيسى الخزاز، بمعجمات، البصريّ- عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال:"إذا تقارب الزمان لَمْ تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأُحب القيد، وأكره الغُلّ"، قال: ولا أعلمه إلَّا وقد رفعه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال البزار: رُوِي عن محمد من عِدّة أوجه، وإنما ذكرناه من رواية يونس لِعِزَّة ما أَسند يونس عن محمد بن سيرين.
قال الحافظ: وقد أخرج ابن ماجة من طريق أبي بكر الْهُذَليّ، عن ابن سيرين حديثَ القيدِ موصولًا مرفوعًا، ولكن الهذليّ ضعيفٌ.
وأما رواية هشام فقال أحمد: حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام -هو ابن حسان- عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان
…
" الحديث، و"رؤيا المؤمن
…
" الحديث، و"أحب القيد في النوم
…
" الحديث، و"الرؤيا ثلاث
…
" الحديث، فَسَاقَ الجميع مرفوعًا، وهكذا أخرجه الدارميّ من رواية مخلد بن الحسين، عن هشام، وأخرجه الخطيب في "المدرج" من طريق عليّ بن عاصم، عن خالد، وهشام، عن ابن سيرين مرفوعًا، قال الخطيب: والمتن كله مرفوع، إلَّا ذِكر القيد، والغُلّ، فإنه قول أبي هريرة، أُدْرج في الخبر، وبيّنه معمر، عن أيوب.
وأخرج أبو عوانة في "صحيحه" من طريق عبد الله بن بكر، عن هشام قصة القيد، وقال: الأصح أن هذا من قول ابن سيرين، وقد أخرجه مسلم من طريق حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، وأيوب جميعًا، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: "إذا اقترب الزمان
…
" قال: وساق الحديث، ولم يذكر فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن هشام موقوفًا، وزاد في آخره: قال أبو هريرة: اللبن في المنام الفطرة.
وأخرج أحمد في "الزهد" عن عثمان، عن حماد بن زيد، عن أيوب، قال: رأيت ابن سيرين مقيّدًا في المنام، وهذا يُشعر بأن ابن سيرين كان يَعتمد في تعبير القيد على ما في الخبر، فأُعطي هو ذلك، وكان كذلك. انتهى ما في "الفتح"
(1)
بطوله، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في ذِكر ما قاله أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: "جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوّة":
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة"، وفي حديث عبادة:"رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا"، وفي رواية عن أبي هريرة:"رؤيا الرجل المصالح جزء من ستة وأربعين"، وفي أخرى عنه:"الرؤيا الصالحة"، وفي رواية:"رؤيا الرجل الصالح ستة وأربعون جزءًا من النبوة"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"الرؤيا الصالحة جزء من سبعين"، وفي غير كتاب مسلم عن ابن عباس:"جزء من أربعين"، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"جزء من سبعة وأربعين"، وفي حديث العباس رضي الله عنه:"من خمسين"، وعن أنس رضي الله عنه:"من ستة وعشرين"، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"من أربعة وأربعين".
قال أبو عبد الله المازريّ: والأكثر والأصح عند أهل الحديث: "من ستة وأربعين". وحُكي عن بعض الناس: أنه نَزّل هذا الحديث بهذه الرواية على مدّة الوحي للنبيّ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقام يوحى إليه ثلاثًا وعشرين سنة، منها ستة أشهر يوحى إليه في نومه، وذلك في أول أمره.
وقد اعتُرِض عليه بأن هذه المدة لَمْ يصحَّ نقل تحديدها، ولا هو معروف، فتقديره تحكُّم.
قال القرطبيّ: القَدْر الذي اختَلَف الرواة فيه من هذا الحديث أمران:
أحدهما: من أضيفت الرؤيا إليه، فتارة سكت عنه، وأخرى قيل فيه:"المسلم"، وفي أخرى:"المؤمن"، وفي أخرى:"المصالح"، وهذا الأمر الخلاف فيه أهون من الخلاف في الأمر الثاني، وذلك أنه حيث سكت عنه لم
(1)
"الفتح" 16/ 363 - 372، كتاب "التعبير" رقم (7017).
يضر السكوت عنه، مع العلم بأن الرؤيا مضافة إلى راءٍ ما، فإذا صُرِّح به في موضع آخر فهو المعنيُّ، وأما حيث نُطِق به فالمراد به واحد، وإن اختلفت الألفاظ، وذلك أن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يناسب حالُه حالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم فأُكرم بنوع مما أُكرم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنه لَمْ يبق من مبشِّرات النبوة إلَّا الرؤيا الصادقة في النوم، يراها الرجل الصالح، أو تُرى له"
(1)
، فإنَّ الكافر، والكاذب، والمخلِّط -وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات- لا تكون من الوحي، ولا من النبوّة؛ إذ ليس كلّ من صَدَق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة. وقد قدَّمنا: أن الكاهن يُخبر بكلمة الحقّ، وكذلك المنجِّم قد يحدُس
(2)
، فيصدق، لكن على الندور والقلَّة، وكذلكْ الكافر، والفاسق، والكاذب. وقد يرى المنام الحق، ويكون ذلك المنام سببًا في شرٍّ يلحقه، أو أمرٍ يناله، إلى غير ذلك من الوجوه المعتبرة المقصودة به.
وقد وقعت لبعض الكفار منامات صحيحة صادقة؛ كمنام الملِك الذي رأى سبع بقرات، ومنام الفَتَيَيْن في السجن، ومنام عاتكة عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كافرة، ونحوه كثير، لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلطة والفاسدة، فهذا هو الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني: وهو اختلاف عدد أجزاء النبوة التي جُعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها: فاختلفت الرواية فيه من ستة وعشرين إلى سبعين، كما قد ذكرناه، وأكثرها في "الصحيحين"، وكلها مشهورٌ فلا سبيل إلى أخذ أحدها، وطَرْح الباقي، كما قد فعل أبو عبد الله المازريّ، فإنَّه قد يكون بعض ما ترك أَولى مما قَبِل إذا بحثنا عن رجال أسانيدها، ولمّا ترجَّح عند غيره غير ما اختاره هو، فإذًا: الوجه الذي يتعيَّن المصير إليه أن يقال: إن هذه الأحاديث -وإن اختلفت ألفاظها- متفقة على أنَّ الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء
(1)
رواه مسلم، وأحمد، وأبو داود، والنسائيّ.
(2)
من بابي نصر، وضرب، من الْحَدْس، وهو الظنّ والتخمين.
من أجزاء النبوة. فهذه شهادة صحيحة من النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنها وحي من الله تعالي، وأنها صادقة لا كذب فيها. ولذلك قال مالك وقد قيل له: أيُفَسّر الرؤيا كلّ أحد؟ فقال: أيُلْعَب بالوحي؟!. وإذا كانت هكذا فتعيَّن على الرائي أن يعتني بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها، فإنَّها إما مبشِّرة له بخير، أو محذرة له من شر، فإنْ أدرك تأويلها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهليَّة ذلك، وهو اللبيب الحبيب. ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح:"هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصها، أُعبِّرها؟ "، فكانوا يقصُّون عليه، وَيعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الإحكام من منامات أصحابه، كما فعل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر. وكل ذلك بناءً على أنَّها وحي صحيح. وإذا تقرَّر هذا فلا يضرنا الاضطراب الذي وقع في عدد تلك الأجزاء مع حصول المقصود من الخير؛ غير أن علماءنا قد راموا إزالة ذلك الاضطراب، وتأوَّلوه تأويلات، فلنذكرها، وننبِّه على الأقرب منها؛ وهي أربع:
الأول: ما صار إليه أبو عبد الله. وقد ذكرناه، وما وَرَدَ عليه.
والثاني: أن المراد بهذا الحديث: أن المنام الصادق خصلة من خصال النبوة، كما جاء في الحديث الآخر:"التؤدة، والاقتصاد، وحسن السمت جزء من ستة وعشرين جزءًا من النبوة"
(1)
؛ أي: النبوة مجموع خصال مبلغ أجزائها ستة وعشرون، هذه الثلاثة الأشياء جزء واحدٌ منها، وعلى مقتضى هذه التجزئة: كلّ جزء من الستة والعشرين ثلاثة أشياء في نفسه، فإذا ضربنا ثلاثة في ستة وعشرين صحَّ لنا أن عدد خصال النبوة من حيث آحادها ثمانية وسبعون. ويصحُّ أن يسمَّى كلّ اثنين من الثمانية والسبعين جزءًا وخصلة، فيكون جميعها بهذا الاعتبار تسعة وثلاثين جزءًا، ويصحُّ أن يسمَّى كلّ أربعة منها جزءًا، فيكون مجموع أجزائها بهذا الاعتبار تسعة عشر جزءًا ونصف جزء،
(1)
حديث صحيح، رواه عبد بن حميد في "مسنده"(1/ 183)، والطبرانيّ في "الأوسط"(1/ 303)، والضياء في "المختارة" (9/ 405) وكلهم بلفظ:"جزء من أربعة وعشرين جزءًا من النبوّة".
فتختلف أسماء العدد المجزَّأ بحسب اختلاف اعتبار الأجزاء، وعلى هذا: فلا يكون اختلاف أعداد أجزاء النبوَّة في أحاديث الرؤيا المذكورة اضطرابًا، وإنَّما هو اختلاف اعتبار مقادير تلك الأجزاء المذكورة. والله تعالى أعلم.
الثالث: ما أشار إليه الطبريّ، وهو: أن هذا الاختلاف راجعٌ إلى اختلاف حال الرائي. فالمؤمن الصَّالح تكون نسبة رؤياه من ستة وأربعين، وغيرُ الصالح من سبعين، ولهذا لَمْ يَشترط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترطه في وصفه في رواية:"ستة وأربعين"، فإنَّه شرط فيها الصَّلاح في الرائي، وسكت عن اشتراطه في رواية السبعين.
قال القرطبيّ: وهذا فيه بُعدٌ؛ لِمَا قدَّمناه من صحَّة احتمال حمل مطلق الرِّوايات على مقيّدها، وبما قد رُوي عن ابن عباس:"الرؤيا الصالحة جزء من أربعين"، وسكت فيه عن ذِكر وصف الرائي. وكذلك حديث عبد الله بن عمرو حين ذَكَر سبعة وأربعين. وحديث العبَّاس حين ذكر خمسين.
الرابع: قيل: يَحْتَمِل أن تكون هذه التجزئة في طرق الوحي؛ إذ منه ما سُمِع من الله تعالى دون واسطة، كما قال تعالى:{مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]، ومنه بواسطة المَلَك، كما قال:{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، ومنه ما يُلقى في القلب، كما قال:{إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51]، أي: إلهامًا، ثمَّ منه ما يأتيه المَلَك على صورته، ومنه ما يأتيه على صورة آدمي يعرفه، ومنه ما يتلقاه منه وهو لا يعرفه، ومنه ما يأتيه في مثل صلصلة الجرس، ومنه ما يسمعه من الملك قولًا مُفصَّلًا، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانت تختلف على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوحي وحالاته المختلفة، فتكون تلك الحالات إذا عُدِّدت غايتها انتهت إلى سبعين.
قال القرطبيّ: ولا يخفى ما في هذا الوجه من البُعد والتساهل، فإنَّ تلك الأعداد كلها إنما هي أجزاء النبوَّة، وأكثر هذه الأحوال التي ذكرت هنا ليست من النبوة في شيء؛ ككونه يعرف المَلَك، أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته، أو على غير صورته، ثمَّ مع هذا التكلف العظيم لَمْ يَقْدِر أن يبلغ عدد ما ذكر إلى ثلاثين.
قال: وأشبه ما ذكر في ذلك: الوجه الثاني؛ مع أنَّه لَمْ تَثْلَجُ النفسُ به،
ولا طاب لها. وقد ظهر لي وجه خامس -وأنا أستخير الله في ذِكره- وهو: أن النبوَّة معناها: أن يُطلع الله من يشاء من خلقه على ما يشاء من أحكامه ووحيه: إما بالمشافهة، وإما بواسطة مَلَك، أو بإلقاء في القلب، لكن هذا المعنى المسمَّى بالنبوَّة لا يخلق الله به إلَّا من خصَّه بصفات كمال نوعه من المعارف، والعلوم، والفضائل، والآداب، ونزّهه عن نقائص ذلك. ولذلك قال سبحانه:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75]، وقال:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وقال تعالى لمّا ذكر الأنبياء:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال:{كُلًّا هَدَيْنَا} [الأنعام: 84]، وقال لنبيِّه:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، فقد حصل من هذا: أن النبوَّة لَمْ يخصّ الله بها إلَّا أكمل خلقه، وأبعدهم عن النقائص. ثم: إنه لمّا شرّفهم بالنبوَّة حصلت لهم بذلك على جميع نوعهم الخصوصية، فلمّا كانت النبوَّة لا يخصّ الله بها إلَّا من حصلت له خصال الكمال أطلق على تلك الخصال نبوّة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"التؤدة والاقتصاد، والسَّمت الحسن جزء من النبوة"
(1)
؛ أي: من خصال الأنبياء، لكن الأنبياء في هذه الخصال متفاضلون، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، فتفاضلهم بحسب ما وُهب لكل واحد منهم من تلك الصفات، وشُرِّف به من تلك الحالات، وكلٌّ منهم الصدق أعظم صفته في نومه ويقظته، وكانوا تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فنائمهم يقظان، ووحيهم في النوم واليقظة سيَّان؛ فمن ناسبَهُم في الصِّدق حصل من رؤياه على الحق؛ غير أنه لمّا كان الأنبياء في مقاماتهم وأحوالهم متفاضلين، وكان كذلك أتباعهم من الصَّادقين، وكان أقلّ خصال كمال الأنبياء ما إذا اعتُبر كان ستًّا وعشرين جزءًا، وأكثر ما يكون ذلك سبعين، وبين العددين مراتب مختلفة بحسب ما اختلفت ألفاظ تلك الأحاديث. وعلى هذا: فمن كان من غير الأنبياء في صلاحه وصدقه على رتبة تناسب كمال نبيٍّ من الأنبياء، كانت رؤياه جزءًا من نبوّة ذلك النبيّ،
(1)
تقدّم أنه صحيح باللفظ الماضي.
وكمالاتهم متفاضلة كما قرَّرناه، فنسبة أجزاء منامات الصَّادقين متفاوتة على ما فصَّلناه. وبهذا الذي أُظهر لنا يرتفع الاضطراب. وبالله تعالى التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأَولى تفويض العلم في ذلك إلى العليم الخبير، كما أسلفته في كلام السيوطيّ رحمه الله، فلا يخفى ما في هذه الأقوال من التكلّفات والتعسّفات، ولنذكر ما كتبه الحافظ في "الفتح"، وإن كان كثير منه تقدّم، إلَّا عنده زيادات تحقيق، وتوضيح، قال رحمه الله:
قوله: "جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة" كذا وقع في أكثر الأحاديث، ولمسلم من حديث أبي هريرة:"جزء من خمسة وأربعين"، أخرجه من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين عنه، وللبخاريّ من طريق عوف، عن محمد بلفظ:"ستة" كالجادة، ووقع عند مسلم أيضًا من حديث ابن عمر:"جزء من سبعين جزءًا"، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود موقوفًا، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر عنه مرفوعًا، وله من وجه آخر عنه:"جزءٌ من ستة وسبعين"، وسندها ضعيف، وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا، من رواية حُصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة موقوفًا كذلك، وأخرجه أحمد مرفوعًا، لكن أخرجه مسلم من رواية الأعمش، عن أبي صالح كالجادّة، ولابن ماجة مثل حديث ابن عمر مرفوعًا، وسنده لَيِّنٌ، وعند أحمد، والبزار عن ابن عباس بمثله، وسنده جيّد، وأخرج ابن عبد البرّ من طريق عبد العزيز بن المختار، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا:"جزء من ستة وعشرين"، والمحفوظ من هذا الوجه كالجادّة، وهو للبخاري أيضًا، ومثله لمسلم من رواية شعبة، عن ثابت، وأخرج أحمد، وأبو يعلي، والطبريّ في "تهذيب الآثار"، من طريق الأعرج، عن سليمان بن عَرِيب -بمهملة، وزانُ عظيم- عن أبي هريرة كالجادّة، قال سليمان: فذكرته لابن عباس، فقال:"جزء من خمسين"، فقلت له: إني سمعت أبا هريرة، فقال ابن عباس: فإني سمعت العباس بن عبد المطلب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الصالحة من المؤمن جزء من خمسين
(1)
"المفهم" 6/ 12 - 18.
جزءًا من النبوة"، وللترمذيّ، والطبريّ من حديث أبي رَزِين الْعُقيليّ: "جزء من أربعين"، وأخرجه الترمذيّ من وجه آخر كالجادّة، وأخرجه الطبريّ من وجه آخر، عن ابن عباس: "أربعين"، وللطبريّ من حديث عُبادة: "جزء من أربعة وأربعين"، والمحفوظ عن عبادة كالجادّة، وأخرج الطبريّ، وأحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "جزء من تسعة وأربعين"، وذكره القرطبي في "المفهم" بلفظ: "سبعة" بتقديم السين.
فحصلنا من هذه الروايات على عشرة أوجه، أقلها:"جزء من ستة وعشرين"، وأكثرها:"من ستة وسبعين"، وبين ذلك:"أربعين"، و"أربعة وأربعين"، و"خمسة وأربعين"، و"ستة وأربعين"، و"سبعة وأربعين"، و"تسعة وأربعين"، و"خمسين"، و"سبعين"، أصحها مطلقًا الأول، ويليه السبعين.
قال الحافظ: ووقع في "شرح النوويّ" وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين"، وفي رواية ابن عمر:"ستة وعشرين"، وهاتان الروايتان لا أعرف من أخرجهما، إلَّا أن بعضهم نسب رواية ابن عمر هذه لتخريج الطبريّ.
ووقع في كلام ابن أبي جمرة أنه ورد بألفاظ مختلفة، فذكر بعض ما تقدم، وزاد في رواية:"اثنين وسبعين"، وفي أخرى:"اثنين وأربعين"، وفي أخرى:"سبعة وعشرين"، وفي أخرى:"خمسة وعشرين"، فبلغت على هذا خمسة عشر لفظًا.
قال: وقد استُشكل كون الرؤيا جزءًا من النبوة مع أن النبوة انقطعت بموت النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقيل في الجواب: إن وقعت الرؤيا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقةً، وإن وقعت من غير النبيّ صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز.
وقال الخطابيّ: قيل: معناه: إن الرؤيا تجيء على موافقة النبوة، لا أنَّها جزء باق من النبوة، وقيل: المعنى إنها جزء من عِلْم النبوة؛ لأنَّ النبوة وإن انقطعت فعِلْمها باق.
وتُعُقِّب بقول مالك -فيما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيُعَبَّر الرؤيا كلُّ أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلْعَب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يُلعَب بالنبوة.
والجواب أنه لَمْ يُرِد أنَّها نبوة باقية، وإنما أراد أنَّها لمّا أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي أن يُتَكَلَّم فيها بغير علم.
وقال ابن بطال: كون الرؤيا جزءًا من أجزاء النبوة، مما يُستعظم، ولو كانت جزءًا من ألف جزء، فيمكن أن يقال: إن لفظ النبوة مأخوذ من الإنباء، وهو الإعلام لغةً، فعلى هذا فالمعنى أن الرؤيا خبرٌ صادقٌ من الله، لا كَذِب فيه، كما أن معنى النبوة نبأ صادقٌ من الله، لا يجوز عليه الكذب، فشابهت الرؤيا النبوة في صِدْق الخبر.
وقال المازريّ: يَحْتَمِل أن يراد بالنبوة في هذا الحديث: الخبر بالغيب لا غير، وإن كان يَتْبَع ذاك إنذار أو تبشير، فالخبر بالغيب أحد ثمرات النبوة، وهو غير مقصود لذاته؛ لأنه يصحّ أن يُبعث نبي يقرر الشرع، ويبيّن الإحكام، وإن لَمْ يُخبِر في طول عمره بغيب، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوته، ولا مبطلًا للمقصود منها، والخبر بالغيب من النبيّ لا يكون إلَّا صدقًا، ولا يقع إلَّا حقًّا، وأما خصوص العدد فهو مما أَطْلَعَ الله عليه نبيّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يَعلم من حقائق النبوة ما لا يعلمه غيره، قال: وقد سبق بهذا الجواب جماعة، لكنهم لم يكشفوه، ولم يحقّقوه.
وقال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: أجزاء النبوة لا يَعلم حقيقتها إلَّا مَلَك، أو نبيّ، وإنما القَدْر الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيّن أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة؛ لأنَّ فيها اطِّلاعًا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.
وقال المازريّ: لا يلزم العالم أن يعرف كلّ شيء جملةً وتفصيلًا، فقد جعل الله للعالم حدًّا يقف عنده، فمنه ما يَعلم المراد به جملةً وتفصيلًا، ومنه ما يعلمه جملةً لا تفصيلًا، وهذا من هذا القبيل.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن ما قاله ابن العربيّ، والمازريّ -رحمهما الله تعالى- في هذا، فمنه يتبيّن لنا أن قوله صلى الله عليه وسلم:"جزء من أجزاء النبوّة" حقٌ نؤمن به، وأن الله تعالى يُكرم العبد المؤمن بهذا الجزء من النبوّة كما أكرم الأنبياء بكامل النبوّة، وأما تفاصيل ذلك، ومعرفة نسبته، فالعلم إلى الله تعالي، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبةً، فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسيّ أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونِسْبتها من الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءًا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثًا وعشرين سنةً على الصحيح، قال ابن بطال: هذا التأويل يَفْسد من وجهين: أحدهما: أنه قد اختُلِف في قدر المدة التي بعد بعثة النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى موته، والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءًا بغير معنى.
قال الحافظ: ويضاف إليه بقية الأعداد الواقعة، وقد سبقه الخطابيّ إلى إنكار هذه المناسبة، فقال: كان بعض أهل العلم يقول في تأويل هذا العدد قولًا لا يكاد يتحقّق، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أقام بعد الوحي ثلاثًا وعشرين سنةً، وكان يوحى إليه في منامة ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، قال الخطابيّ: وهذا وإن كان وجهًا تَحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على من قاله أن يُثبت بما ادعاه خبرًا، ولم يُسمع فيه أثر، ولا ذَكَر مدعيه في ذلك خبرًا، فكأنه قاله على سبيل الظنّ، والظنّ لا يغني من الحق شيئًا، ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة، على ما ذهب إليه، فليلحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة، كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة؛ كليلة القدر، والرؤيا في أُحُد، وفي دخول مكة، فإنه يتلفق من ذلك مدة أخري، وتزاد في الحساب، فتبطل القسمة التي ذكرها، قال: فدلّ ذلك على ضَعْف ما تأوله المذكور، وليس كلُّ ما خفي علينا عِلْمه لا يلزمنا حجته؛ كأعداد الركعات، وأيام الصيام، ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها، وهو كقوله في حديث آخر: "الهدي الصالح، والسَّمْت الصالح، جزء من خمسة وعشرين
(1)
جزءًا من النبوة"، فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدي الأنبياء، وسَمْتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد
(1)
تقدّم أنه صحيح بلفظ: "من أربعة وعشرين جزءًا من النبوّة"، فتنبّه.
به تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء عليه، وأنها جزء من أجزاء العلم الذي كان يأتيهم، والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم.
وقد قَبِل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة، وأجابوا عما أورده الخطابيّ.
أما الدليل على كون الرؤيا كانت ستة أشهر، فهو أن ابتداء الوحي كان على رأس الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم، كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل إليه، وهو بغار حراء كان في رمضان، وبينهما ستة أشهر.
وفي هذا الجواب نظرٌ؛ لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا، وقد قال النوويّ رحمه الله: لَمْ يثبت أن زمن الرؤيا للنبيّ صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر.
وأما ما ألزمه به من تلفمِق أوقات المرائي، وضمّها إلى المدة، فإن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة، فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة، فهو مغمور في جانب وحي اليقظة، فلم يُعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكيّ ومدنيّ قطعًا، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، ولو وقع بغيرها مثلًا: كالطائف، ونخلة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو وقع، وهو بغيرها، كما في الغزوات، وسفر الحجِّ والعمرة، حتى مكة.
قال الحافظ: وهو اعتذار مقبول، ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد أنه وقع بحسب الوقت الذي حَدّث فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ كأن يكون لمّا أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدّث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك، وذلك وقت الهجرة، ولمّا أكمل عشرين حدّث بأربعين، ولمّا أكمل اثنين وعشرين حدّث بأربعة وأربعين، ثم بعدها بخمسة وأربعين، ثم حدّث بستة وأربعين في آخر حياته، وأما ما عدا ذلك من الرؤيات بعد الأربعين، فضعيف، ورواية الخمسين يَحْتَمِل أن تكون لجبر الكسر، ورواية السبعين للمبالغة، وما عدا ذلك لَمْ يثبت، وهذه مناسبة لَمْ أر من تعرَّض لها.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا حاول الحافظ في الجواب عن اعتراضات الخطابيّ، ولا يخفى على منصف ما فيه من التعسّف، والتكلّف، فالحقّ أن
نكل علم هذه التفاصيل إلى الله سبحانه وتعالى، ولا نتكلّف، ولا نتعسّف؛ فإن هذا هو الأسلم، والأحكم، والله تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
قال: ووقع في بعض الشروح مناسبة للسبعين ظاهرة التكلّف، وهي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي أخرجه أحمد، وغيره:"أنا بشارة عيسي، ودعوة إبراهيم، ورأت أمي نورًا"، فهذه ثلاثة أشياء تُضْرَب في مدة نبوته، وهي ثلاثة وعشرون سنةً، تضاف إلى أصل الرؤيا، فتبلغ سبعين.
قال الحافظ: ويبقى في أصل المناسبة إشكال آخر، وهو أن المتبادَر من الحديث إرادة تعظيم رؤيا المؤمن الصالح، والمناسبة المذكورة تقتضي قصر الخبر على سورة ما اتَّفَقَ لنبينا صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قيل: كانت المدة التي أوحى الله إلى نبيّنا صلى الله عليه وسلم فيها في المنام جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من المدة التي أوحى الله إليه فيها في اليقظة، ولا يلزم من ذلك أن كلّ رؤيا لكل صالح تكون كذلك، ويؤيد إرادة التعميم الحديث الذي ذكره الخطابيّ في الهدي والسمت، فإنه ليس خاصًّا بنبوّة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم أصلًا.
وقد أنكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة التأويل المذكور، فقال: ليس فيه كبير فائدة، ولا ينبغي أن يُحمل كلام المؤيَّد بالفصاحة والبلاغة على هذا المعني، ولعل قائله أراد أن يجعل بين النبوة والرؤيا نوع مناسبة فقط، ويعكر عليه الاختلاف في عدد الأجزاء.
[تنبيه]: حديث الهدي الصالح الذي ذكره الخطابيّ، أخرجه الترمذيّ، والطبرانيّ، من حديث عبد الله بن سَرْخِس، لكن بلفظ أربعة وعشرين جزءًا، وقد ذكره القرطبي في "المفهم" بلفظ:"من ستة وعشرين". انتهى.
وقد أبدى غير الخطابيّ المناسبة باختلاف الروايات في العدد المذكور، وقد جمع بينها جماعة، أولهم الطبريّ، فقال: رواية السبعين عامّة في كلّ رؤيا صادقة، من كلّ مسلم، ورواية الأربعين خاصّة بالمؤمن الصادق الصالح، وأما ما بين ذلك فبالنسبة لأحوال المؤمنين.
وقال ابن بطال: أما الاختلاف في العدد قلة وكثرةً، فأصح ما ورد فيها:"من ستة وأربعين"، و"من سبعين"، وما بين ذلك من أحاديث الشيوخ، وقد وجدنا الرؤيا تنقسم قسمين: جلية ظاهرة؛ كمن رأى في المنام أنه يُعطَى تمرًا،
فالمعطي تمرًا مثله في اليقظة، فهذا القسم لا إغراب في تأويلها، ولا رمز في تفسيرها، ومرموزة بعيدة المرام، فهذا القسم لا يقوم به حتى يَعْبُره إلَّا حاذق لِبُعد ضرب المثل فيه، فيمكن أن هذا من السبعين، والأول من الستة والأربعين؛ لأنه إذا قلّت الأجزاء كانت الرؤيا أقرب إلى الصدق، وأسلم من وقوع الغلط في تأويلها، بخلاف ما إذا كثرت، قال: وقد عرضت هذا الجواب على جماعة فحسَّنوه، وزادني بعضهم فيه أن النبوة على مثل هذين الوصفين تلقّاها الشارع عن جبريل، فقد أخبر أنه كان يأتيه الوحي مرةً، فيكلمه بكلام فيعيه بغير كلفة، ومرة يلقي إليه جُمَلًا، وجوامع، يشتد عليه حملها حتى تأخذه الرُّحَضاء، ويتحدَّر منه العرق، ثم يُطلعه الله على بيان ما ألقى عليه منها.
ولخّصه المازريّ
(1)
، فقال: قيل: إن المنامات دلالات، والدلالات منها ما هو جليّ، ومنها ما هو خفيّ، فالأقل في العدد هو الجليّ، والأكثر في العدد هو الخفيّ، وما بين ذلك.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة
(2)
ما حاصله: أن النبوة جاءت بالأمور الواضحة، وفي بعضها ما يكون فيه إجمال، مع كونه مبيَّنًا في موضع آخر، وكذلك المَرائي منها ما هو صريح، لا يحتاج إلى تأويل، ومنها ما يحتاج، فالذي يفهمه العارف من الحقّ الذي يعرج عليه منها جزء من أجزاء النبوة، وذلك الجزء يكثر مرّةً، ويقِلّ أخري، بحسب فهمه، فأعلاهم من يكون بينه وبين درجة النبوة أقلّ ما ورد من العدد، وأدناهم الأكثر من العدد، ومن عداهما ما بين ذلك.
وقال القاضي عياض: ويَحْتَمِل أن تكون هذه التجزئة في طُرُق الوحي؛ إذ منه ما سُمِع من الله بلا واسطة، ومنه ما جاء بواسطة المَلَك، ومنه ما ألقي في القلب من الإلهام، ومنه ما جاء به المَلَك، وهو على صورته، أو على صورة آدمي معروف، أو غير معروف، ومنه ما أتاه به في النوم، ومنه ما أتاه به في صلصلة الجرس، ومنه ما يُلقيه روح القدس في رُوعه، إلى غير ذلك، مما وقفنا عليه، ومما لَمْ نقف عليه، فتكون تلك الحالات إذا عُدّدت انتهت إلى العدد المذكور.
(1)
"المعلم" 3/ 118.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 236.
قال القرطبيّ في "المفهم": ولا يخفى ما فيه من التكلف والتساهل، فإن تلك الأعداد إنما هي أجزاء النبوة، وأكثر الذي ذكره إنما هي أحوال لغير النبوة؛ لكونه يَعرف المَلَك، أو لا يعرفه، أو يأتيه على صورته، أو على صورة أَدميّ، ثم مع هذا التكلف لَمْ يبلغ عدد ما ذكر عشرين فضلًا عن سبعين.
قال الحافظ: والذي نحاه القاضي سبقه إليه الْحَلِيميّ، فقرأت في "مختصره" للشيخ علاء الدين القونويّ بخطه ما نصه: ثم إن الأنبياء يختصون بآيات، يؤيدون بها؛ ليتميزوا بها عمن ليس مثلهم، كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه، فيكون لهم الخصوص من وجهين، فما هو في حيز التعليم هو النبوة، وما هو في حيز التأبيد، هو حجة النبوة، قال: وقد قصد الحليميّ في هذا الموضع بيان كون الرؤيا الصالحة جزءًا من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، فذكر وجوهًا من الخصائص العلمية للأنبياء، تكلَّف في بعضها، حتى أنهاها إلى العدد المذكور، فتكون الرؤيا واحدًا من تلك الوجوه:
فأعلاها: تكليم الله بغير واسطة.
ثانيها: الإلهام بلا كلام، بل يجد علم شيء في نفسه من غير تقدم ما يوصل إليه بحسّ، أو استدلال.
ثالثها: الوحي على لسان ملك يراه فيكلمه.
رابعها: نفث المَلَك في رُوعه، وهو الوحي الذي يُخص به القلب دون السمع، قال: وقد ينفث المَلَك في رُوع بعض أهل الصلاح، لكن بنحو الأطماع في الظفر بالعدوّ، والترغيب في الشيء، والترهيب من الشيء، فيزول عنه بذلك وسوسة الشيطان بحضور الملَك، لا بنحو نفي علم الإحكام، والوعد، والوعيد، فإنه من خصائص النبوة.
خامسها: إكمال عقله، فلا يَعرض له فيه عارض أصلًا.
سادسها: قوّة حفظه، حتى يسمع السورة الطويلة، فيحفظها من مرّة، ولا ينسى منها حرفًا.
سابعها: عصمته من الخطأ في اجتهاده.
ثامنها: ذكاء فهمه، حتى يتسع لضروب من الاستنباط.
تاسعها: ذكاء بصره، حتى يكاد يُبصر الشيء من أقصى الأرض.
عاشرها: ذكاء سمعه، حتى يسمع من أقصى الأرض ما لا يسمعه غيره.
حادي عشرها: ذكاء شمه، كما وقع ليعقوب في قميص يوسف.
ثاني عشرها: تقوية جسده، حتى سار في ليلة مسيرة ثلاثين ليلة.
ثالث عشرها: عروجه إلى السماوات.
رابع عشرها: مجيء الوحي له في مثل صلصلة الجرس.
خامس عشرها: تكليم الشاة.
سادس عشرها: إنطاق النبات.
سابع عشرها: إنطاق الْجِذْع.
ثامن عشرها: إنطاق الحجر.
تاسع عشرها: إفهامه عُواء الذئب أن يفرض له رزقًا.
العشرون: إفهامه رُغاء البعير.
الحادي والعشرون: أن يسمع الصوت، ولا يرى المتكلم.
الثانية والعشرون: تمكينه من مشاهدة الجنّ.
الثالثة والعشرون: تمثيل الأشياء المغيبة له، كما مُثِّل له بيت المقدس صبيحة الإسراء.
الرابعة والعشرون: حدوث أمر يعلم به العاقبة، كما قال في الناقة لَمّا بَرَكت في الحديبية:"حبسها حابس الفيل".
الخامسة والعشرون: استدلاله باسم على أمر، كما قال لمّا جاءهم سهيل بن عمرو:"قد سَهُل لكم الأمر".
السادسة والعشرون: أن ينظر شيئًا علويًّا، فيستدل به على أمر يقع في الأرض، كما قال: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.
السابعة والعشرون: رؤيته مِن ورائه.
الثامنة والعشرون: اطلاعه على أمر وقع لمن مات قبل أن يموت، كما قال في حنظلة:"رأيت الملائكة تغسله"، وكان قُتل وهو جُنُب.
التاسعة والعشرون: أن يظهر له ما يَستدلّ به على فتوح مستقبل، كما جاء ذلك يوم الخندق.
الثلاثون: اطّلاعه على الجَنَّة والنار في الدنيا.
الحادية والثلاثون: الفراسة.
الثانية والثلاثون: طواعية الشجرة حتى انتقلت بعروقها وغصونها من مكان إلى مكان، ثم رجعت.
الثالثة والثلاثون: قصة الظبية، وشكواها له ضرورة خِشْفها الصغير.
الرابعة والثلاثون: تأويل الرؤيا بحيث لا تخطئ.
الخامسة والثلاثون: الحزر في الرُّطَب، وهو على النخل أنه يجيء كذا وكذا وسقًا من التمر، فجاء كما قال.
السادسة والثلاثون: الهداية إلى الإحكام.
السابعة والثلاثون: الهداية إلى سياسة الدين والدنيا.
الثامنة والثلاثون: الهداية إلى هيئة العالم، وتركيبه.
التاسعة والثلاثون: الهداية إلى مصالح البدن بأنواع الطبّ.
الأربعون: الهداية إلى وجوه القربات.
الحادية والأربعون: الهداية إلى الصناعات النافعة.
الثانية والأربعون: الاطلاع على ما سيكون.
الثالثة والأربعون: الاطلاع على ما كان مما لَمْ ينقله أحد قبله.
الرابعة والأربعون: التوقيف على أسرار الناس، ومخبآتهم.
الخامسة والأربعون: تعليم طرق الاستدلال.
السادسة والأربعون: الاطلاع على طريق التلطف في المعاشرة.
قال: فقد بلغت خصائص النبوة فيما مرجعه العلم ستة وأربعين وجهًا، ليس منها وجه إلَّا وهو يصلح أن يكون مقاربًا للرؤيا الصالحة التي أخبر أنَّها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، والكثير منها وإن كان قد يقع لغير النبي، لكنه للنبي لا يخطئ أصلًا، ولغيره قد يقع فيه الخطأ، والله أعلم.
وقال الغزاليّ في "كتاب الفقر والزهد" من "الإحياء" لَمّا ذكر حديث: "يدخل الفقراء الجَنَّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام"، وفي رواية:"بأربعين سنة" قال: وهذا يدلّ على تفاوت درجات الفقراء، فكان الفقير الحريص على جزء من خمسة وعشرين جزءًا من الفقير الزاهد؛ لأنَّ هذه نسبة الأربعين إلى الخمسمائة، ولا يُظَنّ أن تقدير النبيّ صلى الله عليه وسلم يتجزأ على لسانه كيف ما اتفق، بل لا
ينطق إلَّا بحقيقة الحقّ، وهذا كقوله:"الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"، فإنه تقديرُ تحقيقٍ، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلَّا بتخمين؛ لأنَّ النبوة عبارة عما يختص به النبيّ، ويفارق به غيره، وهو يختص بأنواع من الخواصّ، منها أنه يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله، وصفاته، وملائكته، والدار الآخرة، لا كما يَعلمه غيره، بل عنده من كثرة المعلومات، وزيادة اليقين والتحقيق، ما ليس عند غيره، وله صفة تتم له بها الأفعال الخارقة للعادات؛ كالصفة التي بها تتم لغيره الحركات الاختياربة، وله صفة يبصر بها الملائكة، ويشاهد بها الملكوت؛ كالصفة التي يفارق بها البصير الأعمي، وله صفة بها يُدرِك ما سيكون في الغيب، ويطالع بها ما في اللوح المحفوظ؛ كالصفة التي يفارق بها الذكيّ البليد، فهذه صفات كمالات ثابتة للنبيّ، يمكن انقسام كلّ واحدة منها إلى أقسام، بحيث يمكننا أن نقسمها إلى أربعين، وإلى خمسين، وإلى أكثر، وكذا يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءًا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءًا من جملتها، لكن لا يرجع إلَّا إلى ظنّ وتخمين، لا أنه الذي أراده النبيّ صلى الله عليه وسلم حقيقةً. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وأظنه أشار إلى كلام الْحَلِيميّ، فإنه مع تكلفه ليس على يقين أن الذي ذكره هو المراد، والله أعلم.
وقال ابن الجوزيّ
(1)
: لمّا كانت النبوة تتضمن اطّلاعًا على أمور يظهر تحقيقها فيما بعدُ وقع تشبيه رؤيا المؤمن بها، وقيل: إن جماعة من الأنبياء كانت نبوّتهم وحيًا في المنام فقط، وأكثرهم ابتدئ بالوحي في المنام، ثم رَقُوا إلى الوحي في اليقظة، فهذا بيان مناسبة تشبيه المنام الصادق بالنبوة، وأما خصوص العدد المذكور، فتكلم فيه جماعة، فذَكَرَ المناسبة الأُولي، وهي أن مدة وحي المنام إلى نبينا صلى الله عليه وسلم كانت ستة أشهر، وقد تقدم ما فيه، ثم ذَكَر أن الأحاديث اختلفت في العدد المذكور، قال: فعلى هذا تكون رؤيا المؤمن مختلفة، أعلاها ستة وأربعون، وأدناها سبعون، ثم ذكر المناسبة التي ذكرها الطبريّ.
وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة وجهًا آخر، ملخّصه: أن النبوة لها
(1)
"كشف المشكل" 2/ 76 - 77.
وجوه من الفوائد الدنيوية والآخروية خصوصًا وعمومًا، منها ما يُعلم، ومنها ما لا يُعلم، وليس بين النبوة والرؤيا نسبة إلَّا في كونها حقًّا، فيكون مقام النبوة بالنسبة لمقام الرؤيا بحسب تلك الأعداد راجعة إلى درجات الأنبياء، فنِسبتها من أعلاهم، وهو من ضَمّ له إلى النبوة الرسالة أكثر ما ورد من العدد، ويسبتها إلى الأنبياء غير المرسلين أقلّ ما ورد من العدد، وما بين ذلك، ومن ثَمَّ أطلق في الخبر النبوة، ولم يقيِّدها بنبوة نبيّ بعينه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن أبي جمرة من نوع التكلّفات السابقة، فتنبّه.
قال الحافظ: ورأيت في بعض الشروح أن معنى الحديث أن للمنام شَبَهًا بما حصل للنبيّ، وتميَّز به عن غيره بجزء من ستة وأربعين جزءًا.
قال: فهذه عدة مناسبات، لَمْ أر من جَمَعها في موضع واحد، فللَّه الحمد على ما ألهم، وعَلّم، ولم أقف في شيء من الأخبار على كون الإلهام جزءًا من أجزاء النبوة، مع أنه من أنواع الوحي، إلَّا أن ابن أبي جمرة تعرّض لشيء منه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت لك أن هذه التأويلات، والمناسبات التي سبق ذِكرها في كلام الحافظ رحمه الله تكلّفات، وتخرّصات لا يليق الخوض فيها، ولا اتّباع الخائضين فيها، بل الصواب الذي نعتقده، ونرى أنه الحقّ: أن رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النبوّة، ونَكِلُ علم حقيقة ذلك إلى عالم الغيب والشهادة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5892]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَيُعْجِبُنِي الْقَيْدُ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
(1)
"الفتح" 16/ 295 - 305، كتاب "التعبير" رقم (6983).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(محمد بن رافع) القشيريّ مولاهم الزاهد، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابد حافظ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "قال" ضمير معمر، والمعنى أن معمرًا فصل المدرج، فجعل قوله:"فَيُعْجِبُنِي الْقَيْدُ، وَأَكْرَهُ الْغُلَّ، وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ" من قول أبي هريرة، موقوفًا عليه، وجَعَل المرفوع قوله:"رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ"، وقد تقدّم أن هذا أرجح الروايات.
[تنبيه]: رواية معمر عن أيوب هذه ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه"، فقال:
(20352)
- أخبرنا
(1)
عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا، والرؤيا ثلاث: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، والرؤيا يحدّث بها الرجل نفسه، والرؤيا تحزين من الشيطان، فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فلا يحدّث بها أحدًا، وليقم، فليصلّ"، قال أبو هريرة: يعجبني القيد، وأكره الغُلّ، القيد ثبات في الدين، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". انتهى
(2)
.
[تنبيه آخر]: قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ -بعد ذِكر اختلاف الروايات في عدد الأجزاء- ما خلاصته: اختلاف آثار هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا من النبوة ليس ذلك عندي باختلاف تضادّ، وتدافع، والله أعلم؛ لأنه يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على ستة وأربعين جزءًا، أو خمسة وأربعين جزءًا، أو أربعة وأربعين جزءًا، أو خمسين جزءًا، أو سبعين جزءًا، على حَسَب ما يكون الذي يراها من صِدْق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحُسن اليقين، فعلى قَدْر اختلافَ الناس فيما وصفنا
(1)
هذا من قول الراوي عن عبد الرزّاق، فتنبّه.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 211.
تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، والله أعلم، فمن خَلَصَت له نيّته في عبادة ربه، ويقينه، وصِدْق حديثه كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب، كما أن الأنبياء يتفاضلون، والنبوة كذلك، والله أعلم، قال الله -عَزَّوَجَلَّ-: وَ {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، ثم أخرج بسنده، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"كان من الأنبياء من يسمع الصوت، فيكون به نبيًّا، وكان منهم من يرى في المنام، فيكون بذلك نبيًّا، وكان منهم من يُنفَث في أذنه، وقلبه، فيكون بذلك نبيًّا، وإن جبرئيل يأتيني، فيكلمني، كما يكلِّم أحدكم صاحبه".
قال أبو عمر: هذا على أنَّه يكلمه جبريل كثيرًا بالوحي في الأغلب من أمره، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نَفَث في رُوعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ، ودَعُوا ما حَرُم".
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: كيف يأتيك الوحي؟
قال: "يأتيني الوحي أحيانًا في مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ، فيُفْصَم عني، وقد وعيت ما قال"، وقد كان يتراءى له جبريل من السحاب، وكان أولُ ما ابتدئ من النبوة أنه كان يرى الرؤيا، فتأتي كأنها فَلَق الصبح، وربما جاء جبريل في صفة إنسان حسن الصورة، فيكلمه، وربما اشتدّ عليه، حتى يَغِطّ غطيط البَكْر، ويئنّ، ويَحْمَرَّ وجهه، إلى ضروب كثيرة يطول ذكرها.
وقد يَحْتَمِل أن تكون الرؤيا جزءًا من النبوة؛ لأنَّ فيها ما يُعجِز، ويمتنع؛ كالطيران، وقلب الأعيان، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل.
وجملة القول في هذا الباب أن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، وأن التصديق بها حقّ، وفيها من بديع حكمة الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا أعلم بين أهل الدين والحقّ من أهل الرأي والأثر، خلافًا فيما وصفت لك، ولا ينكر الرؤيا إلَّا أهل الإلحاد، وشِرْذمة من المعتزلة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 283 - 284.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5893]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زيدٍ- حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَهِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبيعِ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ، أبو الربيع الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لَمْ يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، قيل: إنه كان ضريرًا، ولعله طرأ عليه؛ لأنه صح أنه كان يكتب، من كبار [8](ت 179) وله (79) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(هِشَامُ) بن حَسَان الأزديّ الْقُرْدوسيّ -بالقاف، وضم الدال- أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقالٌ؛ لأنه قيل: كان يُرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فاعل "ساق"، و"يَذكُر" ضمير حمّاد بن زيد.
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ، وهشام بن حسّان، كلاهما عن محمد بن سيرين لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5894]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ: "وَأَكْرَهُ الْغُلّ" إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَذْكُر: "الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد الله الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ ربما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر -بمهملة، ثم نون، ثم موحدة، وزان جعفر- أبو بكر البصريّ الدَّسْتوائي -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة، ثم مَدّ- ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمِي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله (87) سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة بن قتادة السَّدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يُدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَأَدْرَجَ فِي الْحَدِيثِ
…
إلخ) فاعل "أَدْرَجَ" ضمير قتادة؛ يعني: أن قتادة أدخل في الحديث المرفوع قول أبي هريرة رضي الله عنه: "وأكره الغلّ
…
إلخ"، ولم يذكر -أي: قتادة- في الحديث قوله: "الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ
…
إلخ".
[تنبيه]: رواية قتادة، عن محمد بن سيرين ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(7654)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الرؤيا الصالحة بشارة من الله، والتحزين من الشيطان، ومن الرؤيا يحدّث
(1)
به الرجل نفسه، فإذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها، فليَقُم، فَلْيُصَل، وأكره الغُلَّ في النوم، ويعجبني القيد، فإن القيد ثبات في الدين". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5895]
(2264) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّي، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أنه سقط منها:"ما"، كما في سائر الروايات، فليُحرّر.
(2)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 390.
مَهْدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشار بن عثمان العبديّ البصريّ، أبو بكر بُنْدار، ثقةٌ [10](ت 252)، وله بضع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود، الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسّان العنبريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المدينيّ: ما رأيت أعلم منه [9](ت 198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن معاذ بن نصر بن حسان العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رجَّح ابن معين أخاه المثنى عليه [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
6 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَدَمه عشر سنين، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
8 -
(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد المدنيّ أحد النُّقَباء، صحابيّ، بدريّ مشهورٌ، مات بالرَّمْلة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه، قال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ تصرّف فيهم؛ لما أسلفناه غير مرّة، وفيه أن شيخيه الأوَّلَيْن من شيوخ الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وشرح الحديث قد تقدّم، فلا حاجة إلى إعادته.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5895 و 5896](2264)، و (البخاريّ) في "التعبير"(6987)، و (أبو داود) في "الأدب"(5018)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2271) وفي "الشمائل"(413)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7625)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 78)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 185 و 269 و 5/ 316 و 319)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 165)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 125)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5896]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (120) وله (86) سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون تقدموا في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية ثابت البنانيّ عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها ابن الجعد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1363)
- حدّثنا أبو خيثمة، نا عبد الرحمن بن مهديّ، نا شعبة، عن ثابت، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ست وأربعين جزءًا
من النبوة". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5897]
(2263)
(2)
- (حَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكِسّيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد بن المسيِّب بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، أبو محمد المدنيّ، من كبار [2]
(3)
، اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل خمسة أحاديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5898]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رُؤْيَا الْمُسْلِمِ يَرَاهَا، أَوْ تُرَى لَهُ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ:"الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
(1)
"مسند ابن الجعد" 1/ 207.
(2)
هذا الرقم مكرر، فتنبّه.
(3)
كذا في "التقريب" من كبار الثانية، والظاهر أنه من كبار الثالثة، فليُتأمل.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْخَلِيلِ) الخزّاز -بمعجمات- أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 225)(خ م مد) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 29/ 1816.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضمّ الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْداني -بسكون الميم- الكوفي، أبو عبد الرحمن، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
4 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير -بنون مصغرًا- الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارفٌ بالقراءات، وَرِعٌ، لكنه يُدَلِّس [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمان الزيات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلُب الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (رُؤْيَا الْمُسْلِمِ يَرَاهَا، أَوْ تُرَى لَهُ)؛ أي: يراها المسلم لنفسه، أو لغيره، أو يراها غيره له.
والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5899]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بكر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) اليماميّ، صدوقٌ [8](خ م مد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1392.
3 -
(أَبُوهُ) يحيى بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلّس، ويرسل [5](ت 132)، وقيل: قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (رُؤْيَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ
…
إلخ) قال الإمام الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح"، وربما جاء في الحديث:"الرؤيا الصالحة" فقط، وربما جاء في الحديث أيضًا:"رؤيا المؤمن" فقط، وربما جاء:"يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له" -يعني: من صالح، وغير صالح- وهي ألفاظ المحدثين، والله أعلم بها، والمعنى عندي في ذلك على نحو ما ظهر إلي في الأجزاء المختلفة من النبوة والرؤيا، إذا لم تكن من الأضغاث، والأهاويل، فهي الرؤيا الصادقة، وقد تكون الرؤيا الصادقة من الكافر، ومن الفاسق؛ كرؤيا الملك التي فسَّرها يوسف صلى الله عليه وسلم، ورؤيا الفَتَيَيْن في السجن، ورؤيا بختنصر التي فسَّرها دانيال في ذهاب مُلكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورؤيا عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا كثير، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا أقسامًا تغني عن قول كل قائل، ثم أخرج بسنده عن عوف بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا ثلاثة: منها أهاويل الشيطان؛ ليحزن ابن آدم، ومنها ما يَهُمّ به في يقظته، فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
ثم قال: وهذا يفسر قوله: "الرؤيا الحسنة" أنها ما لم تكن من أهاويل الشيطان، ولا مما يهم به الإنسان في يقظته، ويشغل بها نفسه.
ثم قال: وأَولى ما اعتُمِد عليه في عبارة الرؤيا والأدب فيها لمن رآها، أو قُصّت عليه ما حدّثنا خلف بن قاسم، ثم ساق بإسناده إلى العلاء بن
عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم الرؤيا تعجبه، فليذكرها، وليفسّرها، وإذا رأى أحدكم الرؤيا تسوؤه، فلا يذكرها، ولا يفسّرها".
وقيل لمالك رحمه الله: أيَعْبُر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يُلْعَب؟ وقال مالك: لا يَعْبُر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيرًا أخبر به، وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا، أو ليصمُت، قيل: فهل يَعْبُرها على الخير، وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال: إنها على ما أُوِّلت عليه؟، فقال: لا، ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة، فلا يُتلاعب بالنبوة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5900]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَلِيٌّ -يَعْنِي: ابْنَ الْمُبَارَكِ- (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا حَرْبٌ -يَعْنِي: ابْنَ شَدَّادٍ- كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ، البصريّ، أصله من بخارى، ثقةٌ، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الْهُنَائيّ -بضم الهاء، وتخفيف النون، ممدودًا- البصريّ، ثقةٌ، كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان: أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيءٌ، من كبار [7](ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ) بن الجارود البصريّ، أبو بكر القَزّاز، صدوقٌ [11](ت 230)(م) تقدم في "الصيام" 21/ 2661، من أفراد المصنّف.
4 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوريّ
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 1/ 285 - 287.
-بفتح المثناة، وتثقيل النون المضمومة- أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 702)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
5 -
(حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ) اليشكريّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقة [7](ت 161)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 83/ 3339.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كثِيرٍ
…
إلخ) الضمير لعلي بن المبارك، وحرب بن شدّاد.
[تنبيه]: رواية عليّ بن المبارك، وحرب بن شدّاد كلاهما عن يحيى بن أبي كثير لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5901]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شُعَب الإيمان"، فقال:
(4756)
- حدّثنا أبو الحسين محمد بن الحسين العلويّ إملاءً، أنا أبو القاسم عبيد الله بن إبراهيم بن بالويه (ح) وأخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، نا أحمد بن يوسف السلميّ، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". انتهى
(1)
.
(1)
"شُعَب الإيمان" للبيهقيّ 4/ 186.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5902]
(2265) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، ثبتٌ، ربما دَلّس، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عُمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، أبو عثمان، ثقةٌ، ثبتٌ، قدَّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ، عن عروة، عنها [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ، مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن، وُلِد بعد المبعث بيسير، واستُصغر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة، وهو أحد المكثرين من الصحابة، والعبادلة، وكان من أشدّ الناس اتّباعًا للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقون ذُكروا في الباب، وشرح الحديث واضح يُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5902 و 5903 و 5904](2265)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7626)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3897)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18 و 49 و 119 و 122 و 137)، و (ابن أبي شيبة) في
"مصنّفه"(6/ 173)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 410)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(4/ 186)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5903]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ، مأمونٌ، سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(يَحْيَى) بن سعيد بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد القطّان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ، إمامٌ، قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان عن عبيد الله هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(4678)
- حدّثنا يحيى، عن عبيد الله، أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الرؤيا جزء من سبعين جزءًا من النبوة". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5904]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ -يَعْنِي: ابْنَ عُثْمَانَ- كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ اللَّيْثِ: قَالَ نَافِعٌ: حَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: "جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ").
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 18.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك -بالفاء، مصغَّرًا- الدِّيليّ مولاهم المدنيّ، أبو إسماعيل، صدوقٌ، من صغار [8](ت 200) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الْحِزاميّ -بكسر أوله، وبالزاي- أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ، يَهِمُ [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ) الضمير للّيث بن سعد، والضحّاك بن عثمان.
[تنبيه]: رواية الليث عن نافع هذه ساقها البيهقيّ في "شُعَب الإيمان"، فقال:
(4757)
- وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، نا محمد بن شاذان، وأحمد بن سلمة، نا قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرؤيا الصالحة -قال نافع: حسبت ابن عمر قال-: جزء من سبعين جزءًا من النبوة". انتهى
(1)
.
وأما رواية الضحّاك بن عثمان عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(2) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5905]
(2266 و 2267) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ - حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَهِشَامٌ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ، فَقَدْ رَآنِي، فَإنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي").
(1)
"شعب الإيمان" 4/ 186.
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي، و"أيوب" هو السختيانيّ، و"هشام" هو: ابن حسّان القُرْدُوسيّ، و"محمد" هو: ابن سيرين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، إلا الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، أيوب عن محمد بن سيرين، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ)؛ أي: في حال النوم، وقيل: في وقت النوم، وفيه نظر؛ أي: رآني بصفتي التي أنا عليها، أو بغيرها، على ما يأتي إيضاحه. (فَقَدْ رَآنِي)؛ أي: فليستبشر بأنه رآني حقيقةً؛ أي: حقيقتي كما هي، فلم يتّحد الشرط والجزاء، وهو في معنى الإخبار بأن رؤيته حقّ، وليست بأضغاثٍ أحلامية، ولا تخيلات شيطانية، ثم أردف ذلك بما هو تتميم للمعنى، وتعليل للحكم، فقال:(فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَثَمَثَّلُ بِي") وفي رواية: "فإن الشيطان لا ينبغي له أن يتشبه بي"، وفي أخرى:"لا ينبغي أن يتمثل في صورتي"، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ عند البخاريّ:"فإن الشيطان لا يتكوّنني"، وذلك لئلا يتدَرّع بالكذب على لسانه في النوم، كما استحال تصوّره بصورته يقظةً إذ لو وقع اشتبه الحقّ بالباطل، ومنه أُخذ أن جميع الأنبياء كذلك، قاله المناويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا يتمثل الشيطان بي"، وفي رواية:"لا يتمثل في صورتي"، وفي حديث أنس:"فإن الشيطان لا يتمثل بي"، وفي حديث جابر:"إنه لا ينبغي للشيطان أن يتمثل بي"، وفي حديث ابن مسعود عند الترمذيّ، وابن ماجه:"إن الشيطان لا يستطيع أن يتمثل بي"، وفي حديث أبي قتادة:"وإن الشيطان لا يتراءى" بالراء بوزن يَتَعَاطَى، ومعناه: لا يستطيع
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 6/ 131.
أن يصير مرئيًّا بصورتي، وفي رواية غير أبي ذرّ:"يتزايّا" بزاي، وبعد الألف تحتانية، وفي حديث أبي سعيد:"فإن الشيطان لا يتكونني".
أما قوله: "لا يتمثل بي" فمعناه: لا يتشبه بي، وأما قوله:"في صورتي"، فمعناه: لا يصير كائنًا في مثل صورتي، وأما قوله:"لا يتراءى بي"، فرَجّح بعض الشراح رواية الزاي عليها؛ أي: لا يظهر في زِيِّي، وليست الرواية الأخرى ببعيدة من هذا المعنى، وأما قوله:"لا يتكونني"؛ أي: لا يتكون كَوْني، فحُذف المضاف، وَوُصِل المضاف إليه بالفعل، والمعنى: لا يتكوّن في صورتي.
فالجميع راجع إلى معنى واحد، وقوله:"لا يستطيع" يشير إلى أن الله تعالى وإن أمكنه من التصور في أي صورة أراد، فإنه لم يمكنه من التصور في صورة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة، فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها، ومنهم من ضيّق الغرض في ذلك، حتى قال: لا بد أن يراه على صورته التي قُبض عليها، حتى يعتبر عدد الشعرات البيض التي لم تبلغ عشرين شعرة، والصواب التعميم في جميع حالاته، بشرط أن تكون صورته الحقيقية في وقت ما، سواء كان في شبابه، أو رجوليته، أو كهوليته، أو آخر عمره، وقد يكون لِمَا خالف ذلك تعبير يتعلق بالرائي. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فقد رآني" اتّحاد الشرط والجزاء يدلّ على التناهي في المبالغة؛ أي: من رآني فقد رأى حقيقتي على كمالها، لا شبهة، ولا ارتياب فيما رأى، ويدلّ عليه قوله:"فقد رآني الحقَّ"، والحقّ هنا مصدر مؤكّد؛ أي: من رآني فقد رآني رؤية الحقّ
(2)
.
وقال الطيبيّ أيضًا: إن أثبت الروايات هي: "فقد رأى الحقّ"، فلا بدّ من تقدير ما يستقيم أن يقع الجزاء مسبّبًا من الشرط، ويترتّب على المعلّل العلّة، فالمعنى: من رآني في المنام بأي صفة كانت، فليستبشر، وليعلم أنه قد رأى
(1)
"الفتح" 16/ 332 - 333، كتاب "التعبير" رقم (6993).
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 299 - 300.
الرؤيا الحقّ التي هي من الله تعالى، وهي من المبشّرات، لا الباطل الذي هو المنسوب إلى الشيطان، فإنه لا يتمثّل بي، وكيف لا تكون مبشّرات؟ وهو البشير النذير، والسراج المنير، وهو الرحمة المهداة إلى كافّة الخلق:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
قال: وعلى هذا أيضًا الرواية الأخرى: "فقد رآني الحقّ"؛ أي: رؤية الحقّ، لا الباطل، وكذا الرواية الأخرى:"فقد رآني"، فإن الشرط والجزاء إذا اتّحدا دلّ على الكمال والغاية؛ أي: فقد رآني رؤيا ليس بعدها كمال؛ كقوله: "من كانت هجرته إلى الله فهجرته إلى الله"، ولا كمال أكمل من الحقّ، كما لا نقص أنقص من الباطل، والباطل هو الكذب، ويؤيّده حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة"، وما كان من النبوّة، فإنه لا يكذب، فحينئذ لا يفتقر إلى تلك التكلّفات، والتمحّلات، ولا يكشف الأستار عن مثل تلك الأسرار إلا من تدرّب في علم المعاني، واعتلى شامخ البيان، وعَرَف كيف يؤلّف الكلام، ويصنّف، ويرتّب النظام، ويرصّف. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5905 و 5906 و 5907](2266 و 2267)، و (البخاريّ) في "التعبير"(6993)، و (أبو داود) في "الأدب"(5123)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2280) وفي "الشمائل"(389)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3901)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2420)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 55)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 342 و 410 و 411 و 463 و 469 و 472)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 287)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6051 و 6052)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط "(958)، و (الحاكم)
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 3001.
في "المستدرك"(4/ 393)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 372)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(7/ 45 و 46)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3288)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وقوع رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام.
2 -
(ومنها): بيان أن رؤيته صلى الله عليه وسلم حقّ من الله سبحانه وتعالى، وليست من أضغاث الأحلام، ولا تلاعب الشيطان.
قال القاضي عياضٌ: قال بعض العلماء: خَصّ الله تعالى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن رؤية الناس إياه صحيحة، وكلها صدق، ومَنَع الشيطان أن يتصور في خلقته؛ لئلا يكذب على لسانه في النوم، كما خرق الله تعالى العادة للأنبياء عليهم السلام بالمعجزة، وكما استحال أن يتصور الشيطان في صورته في اليقظة، ولو وقع لاشتبه الحقّ بالباطل، ولم يوثَق بما جاء به مخافة من هذا التصور، فحماها الله تعالى من الشيطان، ونزغه، ووسوسته، وإلقائه، وكيده، قال: وكذا حمى رؤيتهم نفسهم، قال القاضي: واتفق العلماء على جواز رؤية الله تعالى في المنام، وصحتها، وإن رآه الإنسان على صفة لا تليق بحاله من صفات الأجسام؛ لأن ذلك المرئي غير ذات الله تعالى؛ إذ لا يجوز عليه سبحانه وتعالى التجسم، ولا اختلاف الأحوال، بخلاف رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن الباقلانيّ: رؤية الله تعالى في المنام خواطر في القلب، وهي دلالات للرائي على أمور، مما كان، أو يكون؛ كسائر المرئيات، والله أعلم
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان ما أكرم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث منع الشيطان أن يتصوّر بصورته الشريفة.
4 -
(ومنها): أن رؤيته صلى الله عليه وسلم، وإن كانت حقًّا، فإنّها لا تغيّر ما ثبت من شرعه، فإن رآه الرائي يأمره بشيء مما ثبت في السنن الصحيحة، فتلك كرامة، وتثبيت له على سُنَّته صلى الله عليه وسلم، فهي بشرى حقيقيّة، فليشكر الله تعالى عليها، وإن رآه يأمره بشيء من البدع، والخرافات، فإنها رؤيا دخلها غلط، فلا يُعتمد عليها.
(1)
"إكمال الكمال" 7/ 219 - 220.
ومن ذلك ما حُكي أن بعضهم رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم منامًا، فأمره أن يذهب إلى المكان الفلانيّ، فإن فيه كنزًا، فخذه، وليس عليك خُمس، أو كما قال، فذهب الرجل إلى ذلك المكان، فوجد الكنز كما قال، ثم أشكل عليه حكم خُمسه، فذهب إلى عالم، فاستفتاه في ذلك، فقال له: رؤياك حقّ، وقوله:"ليس عليك خمس" غلط، فإن هذا مما ثبت في سُنَّته الصحيحة، "وفي الركاز الخُمس"، فلا يمكن أن يأمر بخلافه بعد موته.
والحاصل: أن هذا المقام مقام تزلّ فيه الأقدام، فإن كثيرًا ممن ينتسب إلى العبادة والخلوة يكثر زعمهم رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام، بل ربما ادّعى ذلك بعضهم في اليقظة، ثم يقول: إنه أمره بكذا وكذا من أنواع العبادات التي لم يشرعها صلى الله عليه وسلم في حياته، أو من أنواع الخرافات، فيُظهر ذلك للناس، فيتّبعه على ذلك عوامّ الناس، بل وبعض من ينتسب إلى العلم، فإلى الله المشتكى، ما أعظم المصيبة، وما أقلّ العلم بالسُّنَّة، وما أكثر مسارعة الناس إلى البدع والخرافات، فإنّا لله، وإنا إليه راجعون.
5 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": ويؤخذ من هذا الحديث أن النائم لو رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء، هل يجب عليه امتثاله، ولا بدّ؟ أو لا بدّ أن يعرضه على الشرع الظاهر؟ فالثاني هو المعتمد. انتهى
(1)
.
قال الجامح عفا الله عنه: العرض على الشريعة الظاهرة من أوجب الواجبات، فلا يحلّ لأحد رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمره بشيء أن يُقدم عليه، إلا بعد عرضه على الكتاب والسُّنَّة، ومعرفة موافقته لهما، فإن وافق، فهو كرامة من الله سبحانه وتعالى لعبده، وتقوية لإيمانه، وإلا فإنه من وسوسة الشيطان، وحديث النفس، فلا يحلّ الإقدام عليه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد رآني":
قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد رآني"، فقال
ابن الباقلانيّ: معناه أن رؤياه صحيحة، ليست بأضغاثٍ، ولا من تشبيهات
(1)
"الفتح" 16/ 337، كتاب "التعبير" رقم (6993).
الشيطان، ويؤيد قولَهُ رواية:"فقد رأى الحقّ"؛ أي: الرؤية الصحيحة، قال: وقد يراه الرائي على خلاف صفته المعروفة؛ كمن رآه أبيض اللحية، وقد يراه شخصان في زمن واحد، أحدهما في المشرق، والآخر في المغرب، ويراه كل منهما في مكانه، وحَكَى المازريّ هذا عن ابن الباقلانيّ، ثم قال: وقال آخرون: بل الحديث على ظاهره، والمراد أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، والعقل لا يُحيله، حتى يُضْطَرّ إلى صرفه عن ظاهره، فأما قوله: بأنه قد يرى على خلاف صفته، أو في مكانين معًا، فإن ذلك غلط في صفاته، وتخيُّل لها على خلاف ما هي عليه، وقد يظن الظانّ بعض الخيالات مرئيًّا؛ لكون ما يتخيل مرتبطًا بما يُرى في العادة، فتكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئية، وصفاته متخيلة غير مرئية، والإدراك لا يُشترط فيه تحديق الأبصار، ولا قرب المسافة، ولا كون المرئيّ مدفونًا في الأرض، ولا ظاهرًا عليها، وإنما يُشترط كونه موجودًا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم، بل جاء في الأحاديث ما يقتضي بقاءه، قال: ولو رآه يأمر بقتل من يَحْرُم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة، لا المرئية، هذا كلام المازري.
قال القاضي: ويَحْتَمِل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد رآني"، أو "فقد رأى الحقّ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" المراد به إذا رآه على صفته المعروفة له في حياته، فإن رأى على خلافها كانت رؤيا تأويل، لا رؤيا حقيقة، قال النوويّ: وهذا الذي قاله القاضي ضعيفٌ، بل الصحيح أنه يراه حقيقةً، سواء كان على صفته المعروفة، أو غيرها؛ لِمَا ذكره المازريّ. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال، فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيّرهم الأرض، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقةً، وإدراك الصفات إدراك المِثْل، قال: وشذّ بعض القَدَرية، فقال: الرؤيا لا حقيقة لها أصلًا، وشذّ بعض الصالحين، فزعم أنها تقع بعيني الرأس حقيقةً، وقال بعض المتكلمين: هي مدركة بعينين في القلب.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 24 - 26.
قال: وقوله: "فسيراني" معناه: فسيرى تفسير ما رأى؛ لأنه حقّ وغيب أُلقي فيه، وقيل: معناه: فسيراني في القيامة، ولا فائدة في هذا التخصيص.
وأما قوله: "فكأنما رآني" فهو تشبيه؛ ومعناه: أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًّا، وحقيقةً، والثاني حقًّا وتمثيلًا، قال: وهذا كله إذا رآه على صورته المعروفة، فإن رآه على خلاف صفته، فهي أمثال، فإن رآه مقبلًا عليه مثلًا، فهو خير للرائي، وفيه، وعلى العكس فبالعكس.
وقال النوويّ
(1)
: قال عياض
(2)
: يَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "فقد رآني"، أو "فقد رأى الحقّ" أن من رآه على صورته في حياته كانت رؤياه حقًّا، ومن رآه على غير صورته كانت رؤيا تأويل، وتعقبه، فقال: هذا ضعيفٌ، بل الصحيح أنه يراه حقيقةً، سواءٌ كانت على صفته المعروفة، أو غيرها. انتهى.
قال الحافظ: ولم يظهر لي من كلام القاضي ما ينافي ذلك، بل ظاهر قوله: إنه يراه حقيقةً في الحالين، لكن في الأُولى تكون الرؤيا مما لا يحتاج إلى تعبير، والثانية مما يحتاج إلى التعبير.
وقال القرطبيّ
(3)
: اختُلف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته؛ كمن رآه في اليقظة سواءً، قال: وهذا قول يُدرَك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن لا يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس، ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فيُزار مجرد القبر، ويسلَّم على غائب؛ لأنه جائز أن يُرَى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات، لا يلتزم بها من له أدنى مُسكة من عقل.
وقالت طائفة: معناه: أن من رآه رآه على صورته التي كان عليها، ويلزم
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 24.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 219.
(3)
"المفهم" 6/ 22 - 24.
منه أن من رآه على غير صفته أن تكون رؤياه من الأضغاث، ومن المعلوم أنه يُرى في النوم على حالة تخالف حالته في الدنيا، من الأحوال اللائقة به، وتقع تلك الرؤيا حقًّا، كما لو رؤي ملأ دارًا بجسمه مثلًا، فإنه يدلّ على امتلاء تلك الدار بالخير، ولو تمكن الشيطان من التمثيل بشيء مما كان عليه، أو ينسب إليه لَعَارض عموم قوله:"فإن الشيطان لا يتمثل بي"، فالأَولى أن تُنزّه رؤياه، وكذا رؤيا شيء منه، أو مما يُنسب إليه عن ذلك، فهو أبلغ في الحرمة، وأليق بالعصمة، كما عُصم من الشيطان في يقظته.
قال: والصحيح في تأويل هذا الحديث أن مقصوده أن رؤيته في كل حالة ليست باطلة، ولا أضغاثًا، بل هي حقّ في نفسها، ولو رؤي على غير صورته، فَتَصوّر تلك الصورة ليس من الشيطان، بل هو من قِبَل الله تعالى، وقال: وهذا قول القاضي أبي بكر بن الطيب، وغيره، ويؤيده قوله:"فقد رأى الحقّ"؛ أي: رأى الحقّ الذي قُصد إعلام الرائي به، فإن كانت على ظاهرها، وإلا سَعَى في تأويلها، ولا يُهْمِل أمرها؛ لأنها إما بشرى بخير، أو إنذار من شرّ، إما ليُخِيف الرائي، وإما لينزجر عنه، وإما لينّبه على حكم يقع له في دينه، أو دنياه.
وقال ابن بطال
(1)
: قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها، وخروجها على الحقّ، وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، من رآه في النوم، ومن لم يره منهم.
وقال ابن التين: المراد من آمن به في حياته، ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مبشّرًا لكل من آمن به، ولم يره أنه لا بدّ أن يراه في اليقظة قبل موته، قاله القزاز.
وقال المازريّ
(2)
: إن كان المحفوظ: "فكأنما رآني في اليقظة"، فمعناه ظاهر، وإن كان المحفوظ:"فسيراني في اليقظة" احْتَمَلَ أن يكون أراد أهل عصره، ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جُعِل ذلك علامةً على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم.
(1)
"شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 527.
(2)
"المعلم" 3/ 119.
وقال القاضي: وقيل: معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها، وقيل: معنى الرؤيا في اليقظة: أنه سيراه في الآخرة.
وتُعُقّب بأنه في الآخرة يراه جميع أمته، من رآه في المنام، ومن لم يره؛ يعني: فلا يبقى لخصوص رؤيته في المنام مزية.
وأجاب القاضي عياض باحتمال أن تكون رؤياه له في النوم على الصفة التي عُرف بها، ووُصف عليها موجبةً لتكرمته في الآخرة، وأن يراه رؤية خاصّة، من القرب منه، والشفاعة له بعلو الدرجة، ونحو ذلك من الخصوصيات، قال: ولا يبعد أن يعاقب الله بعض المذنبين في القيامة بمنع رؤية نبيّه صلى الله عليه وسلم مدّة.
وحَمَله ابن أبي جمرة
(1)
على محمَل آخر، فذَكَر عن ابن عباس، أو غيره، أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد أن استيقظ متفكرًا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين، ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر فيها، فرأى صورة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم ير صورة نفسه، ونقل عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك.
قال الحافظ: وهذا مشكل جدًّا، ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكُر عليه أن جمعًا جَمًّا رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف.
وقد اشتَدّ إنكار القرطبيّ على من قال: من رآه في المنام فقد رأى حقيقته، ثم يراها كذلك في اليقظة، كما تقدم قريبًا، وقد تفطن ابن أبي جمرة لهذا، فأحال بما قال على كرامات الأولياء، فإن يكن كذلك تعيَّن العدول عن العموم في كل راء، ثم ذكر أنه عامّ في أهل التوفيق، وأما غيرهم فعلى الاحتمال، فإنّ خَرْق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء، والإغواء، كما يقع
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 238.
للصدّيق بطريق الكرامة، والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسُّنَّة. انتهى.
والحاصل من الأجوبة ستة:
أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودلّ عليه قوله في الرواية الأخرى:"فكأنما رآني في اليقظة".
ثانيها: أن معناها سيرى في اليقظة تأويلها، بطريق الحقيقة، أو التعبير.
ثالثها: أنه خاصّ بأهل عصره، ممن آمن به قبل أن يراه.
رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له، إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل.
خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ، ممن لم يره في المنام.
سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقةً، ويخاطبه، وفيه ما تقدم من الإشكال. وقال القرطبي: قد تقرر أن الذي يُرى في المنام أمثلة للمرئيات، لا أنفسها، غير أن تلك الأمثلة تارةً تقع مطابقةً، وتارةً يقع معناها، فمن الأول رؤياه صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنه، وفيه:"فإذا هي أنتِ"، فأخبر أنه رأى في اليقظة ما رآه في نومه بعينه، ومن الثاني رؤيا البقر التي تُنحر، والمقصود بالثاني التنبيه على معاني تلك الأمور.
ومن فوائد رؤيته صلى الله عليه وسلم تسكين شوق الرائي؛ لكونه صادقًا في محبته؛ ليعمل على مشاهدته، وإلى ذلك الإشارة بقوله:"فسيراني في اليقظة"؛ أي: من رآني رؤية مُعَظِّم لحرمتي، ومشتاق إلى مشاهدتي، وصل إلى رؤية محبوبه، وظَفِر بكل مطلوبه، قال: ويجوز أن يكون مقصود تلك الرؤيا معنى صورته، وهو دينه، وشريعته، فيُعْبَر بحسب ما يراه الرائي من زيادة، ونقصان، أو إساءه، وإحسان.
قال الحافظ: وهذا جواب سابع، والذي قبله لم يظهر لي، فإن ظهر فهو ثامن.
قال: وقال المازريّ: اختَلَف المحققون في تأويل هذا الحديث، فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب إلى أن المراد بقوله: "من رآني في المنام، فقد
رآني" أن رؤياه صحيحةٌ، لا تكون أضغاثًا، ولا من تشبيهات الشيطان، قال: ويعضده قوله في بعض طرقه: "فقد رأى الحقّ"، قال: وفي قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" إشارة إلى أن رؤياه لا تكون أضغاثًا.
ثم قال المازريّ: وقال آخرون: بل الحديث محمول على ظاهره، والمراد: أن من رآه فقد أدركه، ولا مانع يمنع من ذلك، ولا عقل يحيله، حتى يُحتاج إلى صرف الكلام عن ظاهره.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول هو المختار عندي، فالحقّ حَمْل الحديث على ظاهره، وأن رؤيته صلى الله عليه وسلم رؤية حقّ، لا تمثيل، فحقيقة ذاته صلى الله عليه وسلم تُرى في المنام، وأما مخالفة بعض صفاته التي رآها الرائي؛ فإنه يعود إلى صفة الرائي، لا المرئيّ، فقد يكون غلطًا، وقد يكون التباسًا، ولذا قال أصحاب هذا القول:
وأما كونه قد يُرى على غير صفته، أو يُرى في مكانين مختلفين معًا، فإن ذلك غلطٌ في صفته، وتخيُّل لها على غير ما هي عليه، وقد يظنّ بعض الخيالات مرئيات؛ لكون ما يتخيل مرتبطًا بما يرى في العادة، فتكون ذاته صلى الله عليه وسلم مرئيةً، وصفاته متخيلةً، غير مرئية، والإدراك لا يُشترط فيه تحديق البصر، ولا قُرب المسافة، ولا كون المرئي ظاهرًا على الأرض، أو مدفونًا، وإنما يُشترط كونه موجودًا، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم، بل جاء في الخبر الصحيح ما يدل على بقائه، وتكون ثمره اختلاف الصفات اختلاف الدلالات، كما قال بعض علماء التعبير: إن من رآه شيخًا فهو عامُ سِلْم، أو شابًّا فهو عام حَرْب، ويؤخذ من ذلك ما يتعلق بأقواله، كما لو رآه أحد يأمره بقتل من لا يحل قتله، فإن ذلك يُحمل على الصفة المتخيلة، لا المرئية.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن يكون معنى الحديث: إذا رآه على الصفة التي كان عليها في حياته، لا على صفة مضادّة لحاله، فإن رُئيَ على غيرها كانت رؤيا تأويل، لا رؤيا حقيقة، فإن من الرؤيا ما يخرج على وجهه، ومنها ما يحتاج إلى تأويل.
وقال النوويّ: هذا الذي قاله القاضي ضعيف، بل الصحيح أنه يراه
حقيقةً، سواءٌ كانت على صفته المعروفة، أو غيرها، كما ذكره المازريّ، قال
الحافظ: وهذا الذي ردّه الشيخ -أي: النوويّ- تقدَّم عن محمد بن سيرين إمام المعبِّرين اعتباره، والذي قاله القاضي توسطٌ حسنٌ.
ويمكن الجمع بينه وبين ما قاله المازريّ بأن تكون رؤياه على الحالين حقيقةً، لكن إذا كان على صورته؛ كأن يُرَى في المنام على ظاهره لا يحتاج إلى تعبير، وإذا كان على غير صورته كان النقص من جهة الرائي؛ لتخيله الصفة على غير ما هي عليه، ويحتاج ما يراه في ذلك المنام إلى التعبير، وعلى ذلك جرى علماء التعبير، فقالوا: إذا قال الجاهل: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية، وإلا فلا يُقبل منه، وأشاروا إلى ما إذا رآه على هيئة تخالف هيئته مع أن الصورة كما هي، فقال أبو سعد أحمد بن محمد بن نصر: من رأى نبيًّا على حاله، وهيئته، فذلك دليل على صلاح الرائي، وكمال جاهه، وظَفَره بمن عاداه، ومن رآه متغير الحال عابسًا مثلًا، فذاك دالّ على سوء حال الرائي.
ونحا الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة إلى ما اختاره النوويّ، فقال بعد أن حكى الخلاف: ومنهم من قال: إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلًا، فمن رآه في صورة حسنة فذاك حُسْن في دِين الرائي، وإن كان في جارحة من جوارحه شَيْن، أو نقص، فذاك خلل في الرائي من جهة الدِّين، قال: وهذا هو الحقّ، وقد جُرِّب ذلك، فوُجد على هذا الأسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في رؤياه، حتى يتبين للرائي، هل عنده خلل، أو لا؟ لأنه صلى الله عليه وسلم نورانيّ، مثل المرآة الصقيلة، ما كان في الناظر إليها من حُسْن، أو غيره تَصَوَّر فيها، وهي في ذاتها على أحسن حال، لا نقص فيها، ولا شَين، وكذلك يقال في كلامه صلى الله عليه وسلم في النوم، أنه يُعْرَض على سُنَّته، فما وافقها فهو حقّ، وما خالفها فالخلل في سمع الرائي، فرؤيا الذات الكريمة حقّ، والخلل إنما هو في سمع الرائي، أو بصره، قال: وهذا خير ما سمعته في ذلك.
ثم حَكَى القاضي عياض
(1)
عن بعضهم، قال: خَصّ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بعموم صِدْق رؤياه كلها، ومَنَع الشيطان أن يتصور في صورته؛ لئلا يتذرع بالكذب
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 219.
على لسانه في النوم، كمَا خَرَق الله العادة للأنبياء للدلالة على صحة حالهم في اليقظة، وكما استحال تصور الشيطان على صورته في اليقظة، ولا على صفة مضادّة لحاله؛ إذ لو كان ذلك لدخل اللَّبس بين الحقّ والباطل، ولم يوثق بما جاء من جهة النبوة، فحَمَى الله حِمَاها لذلك من الشيطان، وتصوره، وإلقائه، وكيده، وكذلك حَمَى رؤياهم أنفسهم، ورؤيا غير النبيّ للنبيّ عن تمثّل الشيطان بذلك؛ لتصحّ رؤياه في الوجهين، ويكون طريقًا إلى علم صحيح، لا ريب فيه. قال: ولم يختلف العلماء في جواز رؤية الله تعالى في المنام، وساق الكلام على ذلك.
قال الحافظ: ويظهر لي في التوفيق بين جميع ما ذكروه أن من رآه على صفة، أو أكثر مما يَختص به، فقد رآه، ولو كانت سائر الصفات مخالفةً، وعلى ذلك فتتفاوت رؤيا من رآه، فمن رآه على هيئته الكاملة، فرؤياه الحقّ الذي لا يحتاج إلى تعبير، وعليها يتنزل قوله:"فقد رأى الحقّ"، ومهما نقص من صفاته، فيدخل التأويل بحسب ذلك، ويصح إطلاق أن كل من رآه في أيّ حالة كانت من ذلك، فقد رآه حقيقةً.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله هو الحقّ، وخلاصته أن رؤيته صلى الله عليه وسلم على ظاهرها، وأن من رآه فقد رآه صلى الله عليه وسلم حقًّا، لكن إن كان على صفته التي ثبتت له فرؤياه لا تحتاج إلى تأوبل، وإن خالفت، أو بعضها، فيعود ذلك إلى الرائي، فما كان من نقص، فالنقص فيه، وما كان من حُسْن، فالحسن يعود إليه، ففيه بشرى له على أنه متبع سُنَّته، ومتمسّك بها، وأما من كان بخلاف ذلك، فينبغي له أن يبحث عما نقص من اتّباع سُنَّته، والله تعالى أعلم.
وقد كنت قديمًا قرأت في كتاب حكايةً، خلاصتها: أن بعضهم دخل مسجدًا مع صاحب له، فقال لصاحبه: نجلس في هذه الناحية من المسجد، فأبى عليه صاحبه، فقال له: لم؟ قال لأني رأيت جنازة النبيّ صلى الله عليه وسلم موضوعًا في هذه الجهة، فقلت: إن هذا المكان لعله ضُيّعت فيه سُنَّته صلى الله عليه وسلم، فقال له الرجل: أُخبر عن سبب هذا، فقال له: ما هو؟ قال: إن هذه القطعة من أرض المسجد كانت لي، فأدخلوها عند بنائه، ولم يستأذنوني، فمن الآن أشهدك أني جعلتها وقفًا تابعًا للمسجد، أو كما حُكيت.
وخلاصة القول: أن من رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم على غير صفته؛ كأن يراه أعرج، أو أعمى، أو قصيرًا، أو شيخًا كبيرًا، أو نحو ذلك، فإنه يعود ذلك إلى دِين الرائي، ومقدار بُعده عن سُنَّته صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك من باب التنبيه له، فينبغي أن يبحث عن سبب ذلك، مِنْ تَرْك بعض سُننه صلى الله عليه وسلم، أو نحو ذلك، فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: جَوّز أهل التعبير رؤية الباري عز وجل في المنام مطلقًا، ولم يُجْرُوا فيها الخلاف في رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب بعضهم عن ذلك بأمور قابلة للتأويل في جميع وجوهها، فتارةً يُعْبَر بالسلطان، وتارةً بالوالد، وتارةً بالسيد، وتارةً بالرئيس، في أي فنّ كان، فلما كان الوقوف على حقيقة ذاته ممتنعًا، وجميع من يَعْبُر به يجوز عليهم الصدق والكذب، كانت رؤياه تحتاج إلى تعبير دائمًا، بخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا رؤي على صفته المتفق عليها، وهو لا يجوز عليه الكذب كانت في هذه الحالة حقًّا محضًا، لا يحتاج إلى تعبير.
وقال الغزاليّ: ليس معنى قوله: "رآني" أنه رأى جسمي، وبدني، وإنما المراد أنه رأى مثالًا صار ذلك المثال آلةً يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك: قوله: "فسيراني في اليقظة"، ليس المراد أنه يرى جسمي وبدني، قال: والآلة تارةً تكون حقيقيةً وتارةً تكون خياليةً، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا شخصه، بل هو مثال له على التحقيق، قال: ومثل ذلك من يرى الله سبحانه وتعالى في المنام، فإن ذاته منزهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس، من نور، أو غيره، ويكون ذلك المثال حقًّا في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله تعالى في المنام، لا يعني: أني رأيت ذات الله تعالى، كما يقول في حقّ غيره.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الغزالي: "ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولا شخصه"، فيه نظر لا يخفى، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قد أثبت أنه رآه حقيقة، فكيف يقال: ليس شخصه؟ ومن الغريب تشبيهه برؤية الله تعالى، فرؤية الله تعالى لم يَرِدْ بها نصّ، حتى يقاس عليها.
والحاصل: أن رؤيته صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقيّة على ظاهرها، لا تمثيل،
ولا تشكيلٌ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
وقال أبو القاسم القشيريّ ما حاصله: إن رؤياه على غير صفته لا تستلزم إلا أن يكون هو، فإنه لو رأى الله على وصف يتعالى عنه، وهو يعتقد أنه منزه عن ذلك لا يقدح في رؤيته، بل يكون لتلك الرؤيا ضرب من التأويل، كما قال الواسطيّ: من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرائي، وغير ذلك.
وقال الطيبيّ: المعنى: من رآني في المنام بأي صفة كانت، فليستبشر، وليعلم أنه قد رأى الرؤيا الحقّ التي هي من الله، وهي مبشِّرة، لا الباطل الذي هو الْحُلُم المنسوب للشيطان، فإن الشيطان لا يتمثل بي، وكذا قوله:"فقد رأى الحقّ"؛ أي: رؤية الحقّ، لا الباطل، وكذا قوله:"فقد رآني"، فإن الشرط والجزاء إذا اتحدا دلّ على الغاية في الكمال؛ أي: فقد رآني رؤيا ليس بعدها شيء.
وذكر الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة ما مُلَخّصه: أنه يؤخذ من قوله: "فإن الشيطان لا يتمثل بي" أن من تمثلت صورته صلى الله عليه وسلم في خاطره من أرباب القلوب، وتصورت له في عالم سرّه أنه يكلمه أن ذلك يكون حقًّا، بل ذلك أصدق من مرائي غيرهم؛ لِمَا مَنّ الله به عليهم من تنوير قلوبهم. انتهى.
قال الحافظ: وهذا المقام الذي أشار إليه هو الإلهام، وهو من جملة أصناف الوحي إلى الأنبياء، ولكن لم أر في شيء من الأحاديث وَصْفه بما وُصفت به الرؤيا أنه جزء من النبوة، وقد قيل في الفرق بينهما: إن المنام يرجع إلى قواعد مقرّرة، وله تأويلات مختلفة، ويقع لكل أحد، بخلاف الإلهام، فإنه لا يقع إلا للخواصّ، ولا يَرجع إلى قاعدة يُمَيَّز بها بينه وبين لمة الشيطان.
وتُعُقّب بأن أهل المعرفة بذلك ذكروا أن الخاطر الذي يكون من الحقّ يستقرّ، ولا يضطرب، والذي يكون من الشيطان يضطرب ولا يستقرّ، فهذا إن ثبت كان فارقًا واضحًا، ومع ذلك فقد صرّح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك، قال أبو المظفر ابن السمعانيّ في "القواطع" -بعد أن حَكَى عن أبي زيد الدَّبُوسيّ من أئمة الحنفية، أن الإلهام ما حَرَّك القلبَ لعلم يدعو إلى العمل به، من غير استدلال-: والذي عليه الجمهور أنه لا يجوز العمل به، إلا
عند فقد الحجج كلها في باب المباح، وعن بعض المبتدعة أنه حجةٌ، واحتَجَّ بقوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8]، وبقوله:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]؛ أي: ألهمها حتى عرفت مصالحها، فيؤخذ منه مثل ذلك للآدميّ بطريق الأَولى، وذكر فيه ظواهر أخرى، ومنه الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا فراسة المؤمن"
(1)
، وقوله لوابصة:"ما حاك في صدرك فَدَعْه، وإن أفتوك"
(2)
، فجعل شهادة قلبه حجةً مقدمةً على الفتوى، وقوله:"قد كان يكون في الأمم مُحَدَّثون"
(3)
، فثبت بهذا أن الإلهام حقّ، وأنه وحي باطن، وإنما حُرِمَه العاصي؛ لاستيلاء وحي الشيطان عليه، قال: وحجة أهل السُّنَّة الآيات الدالة على اعتبار الحجة، والحث على التفكر في الآيات، والاعتبار، والنظر في الأدلة، وذم الأماني، والهواجس، والظنون، وهي كثيرةٌ، مشهورةٌ، وبأن الخاطر قد يكون من الله تعالى، وقد يكون من الشيطان، وقد يكون من النفس، وكل شيء احْتَمَل أن لا يكون حقًّا لم يوصف بأنه حقّ.
قال: والجواب عن قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} أن معناه: عَرَّفها طريق العلم، وهو الحجج، وأما الوحي إلى النحل فنظيره في الآدميّ فيما يتعلق بالصنائع، وما فيه صلاح المعاش، وأما الفراسة فنسلّمها، لكن لا نجعل شهادة القلب حجةً؛ لأنّا لا نتحقق كونها من الله، أو من غيره. انتهى ملخصًا.
قال ابن السمعانيّ: وإنكار الإلهام مردود، ويجوز أن يفعل الله بعبده ما يُكرمه به، ولكن التمييز بين الحقّ والباطل في ذلك أن كل ما استقام على الشريعة المحمدية، ولم يكن في الكتاب والسُّنَّة ما يردّه، فهو مقبول، وإلا فمردود، يقع من حديث النفس، ووسوسة الشيطان، ثم قال: ونحن لا ننكر أن الله يُكرم عبده بزيادة نور منه، يزداد به نظره، ويَقْوَى به رأيه، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يَعْرِف أصله، ولا نزعم أنه حجة شرعيةٌ، وإنما هو نور
(1)
حديث ضعيف، أخرجه الترمذيّ، وفي سنده عطيّة العوفي، كثير الخطأ، مشهور بالتدليس، وقد عنعنه، فتنبّه.
(2)
حديث حسن، أخرجه أحمد.
(3)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ.
يختص الله به من يشاء من عباده، فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد ابن السمعانيّ في هذا البحث، وخلاصته: أننا لا ننكر أن يخصّ الله تعالى بعض عباده بكرامة يُكرمه بها، وذلك أن ينوّر قلبه فينكشف له بعض الأمور، ولكنا ننكر أن يصلح ذلك تشريعًا، بل نقول: ما وافق الشرع الذي صحّ لدينا بالكتاب والسُّنَّة، فهو مقبول، وكرامة محضة، ومُقَوّ لإيمان العبد، وما خالف ذلك فمردود، لا يُلتفت إليه؛ لأنه من إلقاء الشيطان، ومن حديث النفس، فإن القاعدة المستمرّة في شرع نبيّنا صلى الله عليه وسلم أن دينه قد اكتمل في حياته، فلا يقبل الزيادة عليه، قال الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، بل يكون ما خالفه من الفحشاء والمنكر، والله تعالى يقول:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الآية [الأعراف: 28]، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5906]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَحَرْمَلَةُ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ، فَسَيَرَاني فِي الْيَقَظَةِ، أَوْ لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ، لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"، وَقَالَ: فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو المصريّ، و"ابن وهب" هو: عبد الله الحافظ المصريّ، و"يونس" هو: ابن يزيد الأيليّ.
(1)
"الفتح" 16/ 329 - 337، كتاب "التعبير" رقم (6993).
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَآنِي في الْمَنَامِ)؛ أي: في حال نومه، (فَسَيَرَانِي في الْيَقَظَةِ) -بفتح القاف- أي: يوم القيامة رؤيةً خاصّةً في القرب منه، أو من رآني في المنام، ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة إليّ، والتشرّف بلقائي، ويكون الله تعالى جعل رؤيته في المنام عَلَمًا على رؤياه في اليقظة، وعلى القول الأول ففيه بشارة لرائيه صلى الله عليه وسلم بأنه يموت على الإسلام، وكفى بها بشارةً، وذلك لأنه لا يراه في القيامة تلك الرؤية الخاصّة باعتبار القُرب منه، إلا من تحققت منه الوفاة على الإسلام، كذا قال القسطلّانيّ
(1)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي، (لَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ) قال في "مرقاة الصعود": هذا شك من الراوي، ومعناه غير الأول؛ لأنه تشبيه، وهو صحيحٌ؛ لأن ما رآه في المنام مثاليّ، وما يُرى في عالم الحسّ حسّيّ، فهو تشبيه خياليّ. انتهى.
وقال في "الفتح": هو تشبيه، ومعناه أنه لو رآه في اليقظة لطابق ما رآه في المنام، فيكون الأول حقًّا وحقيقةً، والثاني حقًّا وتمثيلًا.
وقيل: معنى قوله: "فسيراني في اليقظة" يريد تصديق تلك الرؤيا في اليقظة، وصحتها، وخروجها على الحقّ، وليس المراد أنه يراه في الآخرة؛ لأنه سيراه يوم القيامة في اليقظة جميع أمته، من رآه في النوم، ومن لم يره منهم.
وقيل: المراد من آمن به في حياته، ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه، فيكون بهذا مبشِّرًا لكل من آمن به، ولم يره أنه لا بدّ أن يراه في اليقظة قبل موته، قاله القزاز.
وقال المازريّ
(2)
: إن كان المحفوظ: "فكأنما رآني في اليقظة"، فمعناه
(1)
"عون المعبود" 13/ 249.
(2)
"المعلم" 3/ 119.
ظاهر، وإن كان المحفوظ:"فسيراني في اليقظة" احْتَمَلَ أن يكون أراد أهل عصره، ممن يهاجر إليه، فإنه إذا رآه في المنام جُعِل ذلك علامةً على أنه يراه بعد ذلك في اليقظة، وأوحى الله بذلك إليه صلى الله عليه وسلم. انتهى، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في المسألة الرابعة من مسائل الحديث [5905]، ولله الحمد والمنّة.
وقوله: (لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي") جملة تعليليّة، أراد بها بيان كونه رؤيته حقًّا، وأنه سيراه في اليقظة، وقال القسطلانيّ: هو كالتتميم للمعنى، والتعليل للحكم؛ أي: لا يحصل له؛ أي: للشيطان مثال صورتي، ولا يتشبه بي، فكما منع الله الشيطان أن يتصور بصورته الكريمة في اليقظة كذلك منعه في المنام؛ لئلا يشتبه الحقّ بالباطل. انتهى
(1)
.
(وَقَالَ) ابن شهاب (فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ) الحارث بن رِبْعيّ بن بُلْدُمة، وقيل غير ذلك في اسمه، الأنصاريّ الصحابيّ الشهير المتوفّى سنة (54) وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 18/ 619. (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ")؛ أي: ضدّ الباطل؛ يعني: أن رؤيته على حقيقتها، وليست من تسويلات الشيطان، وفي رواية أحمد:"فقد رآني الحقّ"، بنصب الحقّ؛ أي: المنام الحقّ؛ أي: الصدق، قال الطيبيّ:"الحقّ" هنا مصدر مؤكّد؛ أي: فقد رأى رؤية الحقّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فقد رأى الحقّ"؛ أي: رؤية الحقّ، لا الباطل، وهو يردّ ما تقدم من كلام من تكلّف في تأويل قوله:"من رآني في المنام فسيراني في اليقظة"، قال: والذي يظهر لي أن المراد: من رآني في المنام على أيّ صفة كانت فليستبشر، ويعلم أنه قد رأى الرؤيا الحقّ التي هي من الله، لا الباطل الذي هو الحلم، فإن الشيطان لا يتمثل بي. انتهى
(3)
، وقد تقدّم تمام البحث فيه قبله، والله تعالى أعلم.
(1)
"عون المعبود" 13/ 249.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 3000.
(3)
"الفتح" 16/ 337.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه متّفق عليه، وقد تقدّم تخريجه قبله.
(المسألة الثائية): حديث أبي قتادة رضي الله عنه، متّفق عليه.
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5906 و 5907](2267)، و (البخاريّ) في "التعبير"(6995 و 6996)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(412)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 306)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 166)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5907]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنَا عَمِّي، فَذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا، بِإِسْنَادَيْهِمَا سَوَاءً، مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
2 -
(ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهامٌ [7] (ت 152) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي.
وقوله: (فَذَكَرَ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن أخي الزهريّ؛ أي: ذكر ابن أخي الزهريّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أبي قتادة رضي الله عنه. وقوله:(بِإِسْنَادَيْهِمَا)؛ أي: إسنادي الحديث، وهما: ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية ابن أخي الزهريّ، عن عمه الزهري هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(22659)
- حدثنا يعقوب، حدّثني ابن أخي ابن شهاب، عن محمد بن شهاب، حدّثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآني في المنام، فسيراني في اليقظة، أو: فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي"، فقال أبو سلمة: قال أبو قتادة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رآني، فقد رآني الحقَّ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5908]
(2268) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ، فَقَدْ رَآنِي، إِنَّه لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي"، وَقَالَ:"إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُخْبِرْ أَحَدًا بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (452) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما، لا يقال: فيه عنعنة أبي الزبير؛ لأن الراوي عنه هنا الليث بن سعد، وهو لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، فتنبّه. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ)؛ أي: في حالة نومه، (فَقَدْ رَآنِي) تقدّم شرحه بما يكفي، ويشفي، ولله الحمد. (إِنَّهُ) هذا الضمير هو المسمَّى بضمير الشأن، وهو ضمير تفسّره جملة بعده، قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زيدٌ سَرَى"
لِلابْتِدَا أَوْ نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ
…
إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ
…
كَـ "إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"
وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا
…
أُنِّثَ أَوْ تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 306.
وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا
…
تَأْنِيثُهُ كَـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"
(لَا يَنْبَغِي)؛ أي: لا يجوز، ولا يُمكن، قال الفيّوميّ رحمه الله: وقد عدّوا "يَنْبَغِي" من الأفعال التي لا تَتَصَرَّف، فلا يقال: انبغى، وقيل في توجيهه: إن انْبَغَى مطاوع بغى، ولا يُستعمل انفعل في المطاوعة، إلا إذا كان فيه علاج وانفعال، مثل: كسرته فانكسر، وكما لا يقال: طلبته فانطلب، وقصدته فانقصد، لا يقال: بَغَيْتُهُ فَانْبَغَى؛ لأنه لا علاج فيه، وأجازه بعضهم، وحُكِي عن الكسائيّ أنه سمعه من العرب. انتهى
(1)
.
(لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ)؛ أي: يتصوّر (فِي صُورَتي")؛ يعني: أن الله تعالى حَمَى صورته صلى الله عليه وسلم، أن يتلاعب بها الشيطان، فلا يقدر أن يتمثّل بها. (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِذَا حَلَمَ)؛ أي: رأى في منامه رؤيا، يقال: حَلَمَ يَحْلُمُ، من باب قتل حُلْمًا، بضمّتين، وبإسكان الثاني تخفيفًا، واحْتَلَمَ: إذا رأى ذلك
(2)
. (أَحَدُكُمْ فَلَا) ناهية، ولذا جُزم بها قوله:(يُخْبِرْ) بضمّ أوله، من الإخبار؛ أي: لا يُحدّث (أَحَدًا) من الناس (بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ") فيه إشارة إلى أن الحلم نوعان، كما فصّله في الحديث الآخر:"الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان"، فالنوع الأول يُخبره حبيبًا، أو لبيبًا، والنوع الثاني لا يُخبِر به أحدًا، ولو حبيبه؛ إذ هو من تلاعب الشيطان؛ {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10]، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5908 و 5909](2268)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 391)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(2/ 1287)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 350)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 180)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 319)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 57.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 148.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5909]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ، فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون البغداديّ السمين، صدوقٌ، ربما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسّان القَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
3 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ، رُمِي بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
والباقيان ذُكرا قبله، وشرح الحديث، وبيان مسألتيه تقدّما في الحديث الماضي.
(3) - (بَابٌ لَا يُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي الْمَنَامِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5910]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ، فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ، فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل حديث، وهو من رباعيّات المصّنف رحمه الله، وهو (453) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، تقدّم أن عنعنة أبي الزبير هنا لا تضرّ؛ لأن الراوي عنه
الليث بن سعد، فتنبّه. (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لأَعْرَابِيٍّ) لا يُعرف
(1)
، قال الفيّوميّ رحمه الله: الأَعْرَابُ، بالفتح أهل البدو، من العرب، الواحد أَعْرَابِيٌّ، بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَةٍ وارتياد للكَلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواءٌ كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البَادِين، وظَعَن بِظَعْنِهم، فهم أَعْرَابٌ، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن الْمُدُن، والقُرى العربية، وغيرها ممن ينتمي إلى العرب فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فُصحاء، ويقال: سُمُّوا عَربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمَّى العَرَبَاتَ، ويقال: العَرَبُ العَارِبَةُ هم الذين تكلموا بلسان يَعْرَب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وهي لغات الحجاز، وما والاها، والعَرَبُ: اسم مؤنَّث، ولهذا يوصف بالمؤنّث، فيقال: العَرَبُ العَارِبَةُ، والعَرَبُ العَرْبَاءُ، وهم خلاف العجم، ورجل عَرَبِيٌّ ثابت النسب في العرب، وإن كان غير فصيح، وأَعْرَبَ، بالألف: إذا كان فَصِيحًا، وإن لم يكن من العرب، والعُرْبُ، وزانُ قُفْل لغة في العَرَب، ويجمع العَرَبُ على أَعْرُبٍ، مثل زَمَن وأَزْمُن، وعلى عُرُبٍ، بضمتين، مثل أَسَد وأُسُد. انتهى
(2)
.
(جَاءَهُ)؛ أي: جاء ذلك الأعرابيُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ) من باب نصر؛ أي: رأيت في نومي (أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ) بالبناء للمفعول، (فَأَنَا أَتَّبِعُهُ) يَحْتَمِل أن يكون مضارع تَبِع، من باب تَعِب، ثلاثيًّا، فيكون بسكون التاء، وفتح الموحّدة، وأن يكون من الاتّباع، فيكون بتشديد التاء، وكسر الموحّدة، وفي لفظ:"فقد خرج، فاشتددت في أثره، فقال: لا تخبر بتلاعب الشيطان بك في المنام"، وفي رواية:"إذا تلاعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يخبر به الناس". (فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: مَنَعه من الإخبار بما وقع له في حلمه (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(تُخْبِرْ)؛ أي: لا تحدث (بِتَلَعُّب الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ")؛ أي: في حال نومك، قال المازريّ: يَحْتَمِل أنَ
(1)
"تنبيه المعلم" ص 388.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 400.
النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن منامه هذا من الأضغاث بوحي، أو بدلالة من المنام دلّته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحزين الشياطين، وأما العابرون فيتكلمون في كتبهم على قطع الرأس، ويجعلونه دلالة على مفارقة الرائي ما هو فيه من النِّعم، أو مفارقة مَن فوقه، ويزول سلطانه، ويتغير حاله في جميع أموره، إلا أن يكون عبدًا، فيدلّ على عتقه، أو مريضًا فعلى شفائه، أو مديونًا فعلى قضاء دَينه، أو من لم يحجّ فعلى أنه يحجّ، أو مغمومًا فعلى فرحه، أو خائفًا فعلى أمنه. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على مَنْع أن يُخبِر الإنسان بما يراه في منامه مما يكرهه، مما يَظُنّ أنه من الشيطان، وقد تقدَّم بيان ذلك، وهذه المنام على مساق هذا الحديث ليس في ظاهرها ما يدلّ على أنها من الشيطان؛ غير أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِم أنها من الشيطان بطريق آخر غير ظاهرها، فإمَّا أن يكون ذَكَر الرائي ما يدلّ على ذلك، ولم ينقله الراوي، وإمَّا أن يكون ذلك من باب الوحي، وهو الظاهر.
وقد ذكر أهل العلم بالعبارة قطع الرأس في النوم، وذكروا: أنه يدل على زوال نِعَم الرائي، أو سلطانه، أو تغيُّر حاله، أو مفارقة من هو فوقه، فإنْ كان عبدًا دلَّ على عتقه، أو مريضًا فعلى شفائه، أو مِدْيانًا فعلى قضاء دَيْنه، أو صرورة فعلى حَجِّه، أو مغمومًا فعلى فَرَجه، أو خائفًا فعلى أمنه، إلى غير ذلك مما وسَّعوا القول فيه.
وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب "أصول العبارة" أن رجلًا قال: يا رسول الله! رأيت فيما يرى النائم كأن رأسي قُطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني! فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال:"بأيتهما كنت تنظر إليه؟ "، فلَبِثَ ما شاء الله، ثم قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعبَّر الناسُ أن الرأس كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن النظر إليه كان اتباع السُّنَّة
(1)
. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
لم أر من أخرجه، ولا من تكلّم في درجته، والله تعالى أعلم.
(2)
"المفهم" 6/ 27 - 28.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5910 و 5911 و 5912](. . .)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 391 و 6/ 226) و"عمل اليوم والليلة"(912)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(912 و 3913)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 315 و 350)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1286)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6056)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1840 و 1858 و 2274)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 392)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(776)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(4/ 190)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3280)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5911]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي ضُرِبَ، فَتَدَحْرَجَ، فَاشْتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَعْرَابِيِّ: "لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ"، وَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ يَخْطُبُ، فَقَالَ: "لَا يُحَدِّثَنَّ أَحَدُكُمْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِي مَنَامِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ، وله أوهام، [10](ت 239)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط -بضم القاف، وسكون الراء، بعدها طاء مهملة- الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرَّيِّ، وقاضيها، ثقةٌ، صحيح الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب.
4 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ، أبو سفيان الإسكاف، نزل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
و"جَابِرٌ رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (كَأَنَّ رَأْسِي ضُرِبَ) بالبناء للمجهول، وفي الرواية السابقة:"إني حَلَمتُ أن رأسي قُطع".
وقوله: (فَتَدَحْرَجَ) يقال: دَحْرَجَ الشيءَ دَحْرَجَةً، ودِحْرَاجًا، فتدحرج؛ أي: تتابع في حُدُور، والْمُدَحْرَج: الْمُدَوَّرُ، والدُّحْرُوجة: ما تَدَحْرَج من الْقِدر، قال النابغة [من البسيط]:
أَضْحَتْ يُنَفِّرُهَا الْوِلْدَانُ مِنْ سَبَإٍ
…
كَأَنَّهُمْ تَحْتَ دَفَّيْهَا دَحَارِيجُ
(1)
وقوله: (فَاشْتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِهِ)؛ أي: أسرعت جَرْيًا إِثْرَهُ
(2)
؛ أي: بعده، يقال: جئتُ في أَثَرِهِ، بفتحتين، وإِثْرِه، بكسر الهمزة، وسكون المثلّثة؛ أي: تبِعته من قُرْبٍ، قاله الفيّوميّ
(3)
.
وقوله: (وَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ يَخْطُبُ) فاعل "قال" ضمير جابر رضي الله عنه، و"بعدُ" مبنيّ على الضمّ؛ لِقَطْعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد واقعة الأعرابيّ يخطب الناس، ويقول:"لَا يُحَدِّثَنَّ أَحَدُكُمْ" الحديث، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5912]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِي قُطِعَ، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: "إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِي مَنَامِهِ، فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "إِذَا لُعِبَ بِأَحَدِكُمْ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الشَّيْطَانَ).
(1)
"لسان العرب" 2/ 265.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 246.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 4.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصَين الْكِنديّ، أبو سعيد الأشجّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
3 -
(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ -بضم الراء، وهمزة، ثم مهملة- أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ، حافظٌ، عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِذَا لُعِبَ بِأَحَدِكُمْ) ببناء الفعل للمفعول.
والحديث تقدّم شرحه، ومسألتاه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(4) - (بَابٌ فِي تَأْوِيِلِ الرُّؤْيَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5913]
(2269) - (حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَوْ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرَى اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ، فَالْمُسْتَكْثِرُ، وَالمُسْتَقِلُّ، وَأَرَى سَبَبًا وَاصِلًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ، فَعَلَا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَانْقَطَعَ بِهِ
(1)
، ثُمَّ
(1)
وفي نسخة: "فقُطع، ثم وُصل".
وُصِلَ لَهُ فَعَلَا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَاللهِ لَتَدَعَنِّي، فَلأَعْبُرَنَّهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اعْبُرْهَا"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الإِسْلَامِ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْطِفُ مِنَ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ فَالْقُرْآنُ، حَلَاوَتُهُ وَلِينُهُ، وَأَمَّا مَا يَتَكَفَّفُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْتَقِلُّ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ، فَيُعْلِيكَ اللهُ بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ، فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ
(1)
، فَيَعْلُو بِهِ، فَأخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ، أَصَبْتُ، أَمْ أَخْطَأْتُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا"، قَالَ: فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَتُحَدِّثَنِّي مَا الَّذِي أَخْطَاْتُ؟ قَالَ:"لَا تُقْسِمْ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدِّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقة
(2)
[10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبِ) الْخَوْلانيّ الحمصيّ الأبرش -بالمعجمة- ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
3 -
(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر الزُّبيديّ -بالزاي، والموحّدة، مصغرًا - أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ، ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عتبة بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ، فقيهٌ، ثبتٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وُلِد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر والحبر؛ لسعة علمه، وقال
(1)
وفي نسخة: "ثم يوصل به".
(2)
فقوله في "التقريب": صدوقٌ، فيه نظر، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا أحد، مات رضي الله عنه سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة، من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون ذُكروا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس، وأبو هريرة رضي الله عنهم من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ)، وفي الرواية التالية:"أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أخبره"، (أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، أَوْ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يُحَدِّثُ) هكذا في رواية الزبيديّ هذه بالشكّ، وفي رواية يونس التالية:"أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ" بدون شكّ، وهي التي عند البخاريّ، قال في "الفتح": قوله: "أن ابن عباس كان يحدث" كذا لأكثر أصحاب الزهريّ، وتردَّد الزُّبَيديّ، هل هو عن ابن عباس، أو أبي هريرة؟ واختُلف على سفيان بن عيينة، ومعمر، فأخرجه مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، أو أبي هريرة، قال عبد الرزاق: كان معمر يقول أحيانًا: عن أبي هريرة، وأحيانًا يقول: عن ابن عباس، وهكذا ثبت في "مصنف عبد الرزاق" رواية إسحاق الدبريّ، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، عن محمد بن يحيى الذُّهْليّ، عن عبد الرزاق، فقال فيه: عن ابن عباس، قال: كان أبو هريرة يحدّث، وهكذا أخرجه البزار، عن سَلَمة بن شَبِيب، عن عبد الرزاق، وقال: لا نعلم أحدًا قال: عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن أبي هريرة، إلا عبد الرزاق، عن معمر، ورواه غير واحد، فلم يذكروا أبا هريرة. انتهى.
وأخرجه الذُّهْليّ في "العلل" عن إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، عن عبد الرزاق، فاقتصر على ابن عباس، ولم يذكر أبا هريرة، وكذا قال أحمد في "مسنده"، قال إسحاق عن عبد الرزاق: كان معمر يتردّد فيه، حتى جاءه زَمْعَة بكتاب فيه عن الزهريّ، كما ذكرناه، وكان لا يشكّ فيه بعد ذلك.
وأخرجه مسلم من طريق الزُّبَيديّ أخبرني الزهريّ، عن عبيد الله أن ابن عباس، أو أبا هريرة، هكذا بالشكّ.
وأخرجه مسلم عن ابن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، مثل رواية يونس، وذكر الحميديّ أن سفيان بن عيينة كان لا يذكر فيه ابن عباس، قال: فلما كان في آخر زمانه أثبت فيه ابن عباس، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" من طريق الحميديّ هكذا.
قال الذُّهْليّ: المحفوظ رواية الزُّبَيديّ، قال الحافظ: وصنيع البخاريّ يقتضي ترجيح رواية يونس، ومن تابعه، وقد جزم بذلك في "الأيمان والنذور" حيث قال:"وقال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لا تُقْسِم"، فجزم بأنه عن ابن عباس. انتهى.
وقال البخاريّ رحمه الله في "بابُ رؤيا بالليل":
(7000)
- حدّثنا يحيى، حدّثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، أن ابن عباس كان يحدِّث أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أُريت الليلة في المنام، وساق الحديث، وتابعه سليمان بن كثير، وابن أخي الزهريّ، وسفيان بن حسين، عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الزُّبيديّ عن الزهريّ، عن عبيد الله، أن ابن عباس، أو أبا هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال شعيب، وإسحاق بن يحيى، عن الزهريّ: كان أبو هريرة يحدّث، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان معمر لا يُسنده، حتى كان بعدُ. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": قوله: "وكان معمر لا يسنده حتى كان بعدُ" وصله إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ؛ كرواية يونس، ولكن قال: عن ابن عباس: كان أبو هريرة يحدِّث، قال إسحاق: قال عبد الرزاق: كان معمر يحدّث به، فيقول: كان ابن عباس؛ يعنى: ولا يذكر عبيد الله بن عبد الله في السند، حتى جاءه زمعة بكتاب فيه: عن الزهريّ، عن عبيد الله، عن ابن عباس، فكان لا يشك فيه بعدُ، وأخرجه
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2569.
مسلم عن محمد بن رافع، وأفاد الإسماعيليّ فيه اختلافًا آخر عن الزهريّ، فساقه من رواية صالح بن كيسان عنه، فقال: عن سليمان بن يسار، عن ابن عباس، والمحفوظ قول من قال: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الأرجح هو ما مال إليه البخاريّ من أنه عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر لأبي هريرة رضي الله عنه؛ لكثرة من رواه كذلك، فقد اتّفق يونس، وسليمان بن كثير، وابن أخي الزهريّ، وسفيان بن حسين، كلهم عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(أَنَّ رَجُلًا) قال الحافظ: لم أقف على اسمه.
[تنبيه]: وقع بيان الوقت الذي وقع فيه ذلك في رواية سفيان بن عيينة التالية، ولفظه:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مُنْصَرفه من أُحد"، وعلى هذا فهو من مراسيل الصحابة، سواء كان عن ابن عباس، أو عن أبي هريرة، أو من رواية ابن عباس عن أبي هريرة؛ لأن كلًّا منهما لم يكن في ذلك الزمان بالمدينة، أما ابن عباس فكان صغيرًا مع أبويه بمكة، فإن مولده قبل الهجرة بثلاث سنين على الصحيح، وأُحد كانت في شوال في السنة الثالثة، وأما أبو هريرة، فإنما قَدِم المدينة زمن خيبر، في أوائل سنة سبع، قاله في "الفتح"
(2)
.
(أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرَى اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ) كذا في رواية ابن وهب بلفظ: "أرى"؛ كأنه لقوّة تحققه الرؤيا كانت ممثَّلةً بين عينيه، حتى كأنه يراها حينئذ، ووقع في رواية الأكثرين بلفظ:"إني رأيت". (ظُلَّةً) - بضم الظاء المعجمة- أي: سحابةً لها ظلّ، وكل ما أظل من سقيفة، ونحوها، يُسَمّى ظلة، قاله الخطابيّ، وقال ابن فارس: الظلة أول شيء يظل، زاد سليمان بن كثير في روايته عند الدارميّ، وأبي عوانة، وكذا في رواية سفيان بن عيينة عند ابن ماجه:"بين السماء والأرض". (تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ) -بنون، وطاء مكسورة، ويجوز ضمها- ومعناه: تَقطُر -بقاف، وطاء،
(1)
"الفتح" 16/ 341، كتاب "التعبير" رقم (7000).
(2)
"الفتح" 16/ 409 - 410، كتاب "التعبير" رقم (7046).
مضمومة، ويجوز كسرها- يقال: نطف الماء: إذا سال، وقال ابن فارس: ليلة نطوفٌ: أمطرت إلى الصبح
(1)
.
(فَأَرَى النَّاسَ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ)؛ أي: يأخذون بأكُفّهم، قال الخليل: تكفف: بَسَط كفه ليأخذ، ووقع في رواية الترمذيّ من طريق معمر:"يَسْتَقُون" -بمهملة، ومثناة، وقاف- أي: يأخذون في الأسقية، قال القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون معنى "يتكففون": يأخذون كفايتهم، وهو أَلْيَق بقوله بعد ذلك:"فالمستكثر، والمستقل".
وتعقّبه الحافظ، وأجاد فيه، حيث قال: وما أدري كيف جَوَّز أَخْذ كَفَى من كففه؟ ولا حجة فيما احتجّ به؛ لِمَا سيأتي. انتهى.
(فَالْمُسْتَكْثِرُ، وَالْمُسْتَقِلُّ)؛ أي: فمنهم الآخذ كثيرًا، ومنهم الآخذ قليلًا، ووقع في رواية سليمان بن كثير بغير (أل) فيهما، وفي رواية سفيان بن حسين عند أحمد:"فمن بين مستكثر، ومستقلّ، وبين ذلك". (وَأَرَى سَبَبًا)؛ أي: حبلًا (وَاصِلًا مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ)، وفي رواية البخاريّ:"وإذا سببٌ واصلٌ من الأرض إلى السماء"، وفي رواية سليمان بن كثير:"ورأيت لها سببًا واصلًا"، وفي رواية سفيان بن حسين:"وكأنّ سببًا دُلِّي من السماء". (فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ)؛ أي: بذلك السبب (فَعَلَوْتَ) وفي رواية سليمان بن كثير: "فأعلاك الله". (ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ
(2)
فَعَلَا) وفي رواية: "فعلا به"، وفي رواية سليمان بن كثير:"فأعلاه الله". (ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلَا، ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَانْقَطَعَ بِه) وفي بعض النُّسخ: "فقُطع به"، وفي رواية سفيان بن حسين:"ثم جاء رجل من بعدكم، فأخذ به، فقُطِع به". (ثُمَّ وُصِلَ لَهُ فَعَلَا)، وفي رواية سليمان:"فقُطِع به، ثم وُصِل له، فاتّصل".
(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ) زاد في رواية معمر: "وأمي"، والمعنى: أنت مفدّي بأبي وأمي من المكاره والمساوي، (وَاللهِ
(1)
"الفتح" 16/ 409 - 410، كتاب "التعبير" رقم (7046).
(2)
قال صاحب "التنبيه" ص 389: هو الصدّيق، والآخر بعده عمر، والثالث عثمان، والرابع عليّ رضي الله عنهم.
لَتَدَعَنِّي) -بتشديد النون- وفي رواية سليمان: "ائذن لي". (فَلأَعْبُرَنَّهَا) هكذا باللام، ونون التوكيد المشدّدة، وللبخاريّ:"فأعبُرها"، يقال: عَبَرتُ الرؤيا، من باب نصر عَبْرًا، وعِبَارةً: فسّرتها، وبالتثقيل مبالغة، وفي التنزيل:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والله لتدعني فلأعبرها" هذه الفاء زائدة، و"أعبرها" منصوب بلام "كي"، ويصح أن تكون لام الأمر، فتجزم، ولا تكون لام القسم لِمَا يلزم مِن فَتْحها، ومن دخول النون في فِعْلها.
وفيه من الفقه: جواز الحلف على الغير، وإبرار الحالف، فإنَّه صلى الله عليه وسلم أجاب طَلِبَتَه، وأبرَّ قَسَمه، فقال له:"اعبُر"، ويدل على تمكُّن أبي بكر رضي الله عنه من علم عبارة الرؤيا، ووجه عبارة أبي بكر لهذه الرؤيا واضحة، ومناسباتها واقعة، غير أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قال له:"أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا"، ولم يبيِّن له ما الذي أخطأ فيه، اختلف الناس فيه، على ما سيأتي بعد ذلك. انتهى
(2)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اعْبُرْهَا") بوصل الهمزة، وضمّ الموحّدة، من باب نصر، كما أسلفته آنفًا، وفي رواية سفيان عند ابن ماجه:"عَبِّرها" بالتشديد، وفي رواية سفيان بن حسين:"فَأَذِنَ له"، زاد سليمان:"وكان من أعبر الناس للرؤيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(قَالَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (أمَّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الإِسْلَامِ) وفي رواية للبخاريّ: "وأما الظلة فالإسلام"، قال الحافظ: وفي رواية لابن وهب، وكذا لمعمر، والزُّبيديّ:"فظلة الإسلام"، ورواية سفيان كرواية الليث، وكذا سليمان بن كثير، وهي التي يظهر ترجيحها. انتهى.
(وَأَمَّا الَّذِي يَنْطِفُ) بضمّ الطاء، وكسرها، قال المجد رحمه الله: نَطَفَ الماءُ؛ كَنَصَرَ، وضَرَبَ نَطْفًا، وتَنْطافًا، بفتحِهِما، ونَطَفانًا، ونِطافَةً بالكسر: سالَ. انتهى
(3)
.
(مِنَ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ فَالْقُرْآنُ، حَلَاوَتُهُ وَلِينُهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فالقرآن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 389.
(2)
"المفهم" 6/ 31 - 32.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 1108.
حلاوته تَنْطِف"، وفي رواية سليمان بن كثير: "وأما العسل والسمن فالقرآن في حلاوة العسل، ولِين السمن".
(وَأَمَّا مَا يَتَكَفَّفُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمُسْتَقِلُّ)، وفي رواية سفيان:"فالآخذ من القرآن كثيرًا وقليلًا"، وفي رواية سليمان بن كثير:"فَهُم حَمَلة القرآن".
(وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ، تَأْخُذُ بِهِ، فَيُعْلِيكَ اللهُ بِهِ) وفي رواية سفيان بن حسين: "وأما السبب، فما أنت عليه، تعلو، فيُعليك الله".
(ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ) زاد سفيان بن حسين: "على مناهجك"، (فَيَعْلُو بِهِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَيَعْلُو بِهِ) وفي رواية سفيان بن حسين: "ثم يكون من بعدكما رجلٌ يأخذ مَأْخَذَكما"، (ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ، فَيَنْقَطِعُ بِهِ، ثُمَّ يُوصَلُ لَه)، وفي بعض النسخ:"به". (فَيَعْلُو بِهِ) زاد سفيان بن حسين: "فيُعليه الله".
(فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ بأَبِي أَنْتَ، أَصَبْتُ، أَمْ أَخْطَأْتُ؟) وفي رواية سفيان: "هل أصبت يا رسول الله، أو أخطأت؟ "(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَصَبْتَ بَعْضًا، وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا") وفي رواية سليمان بن كثير، وسفيان بن حسين:"أصبت، وأخطأت". (قَالَ) أبو بكر رضي الله عنه (فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، لَتُحَدِّثَنِّي مَا الَّذِي أَخْطَأْتُ؟) وفي رواية: "لتحدّثني بالذي أخطأت"، وفي رواية:"ما الذي أخطات؟ "، وفي رواية سفيان بن عيينة عند ابن ماجه: فقال أبو بكر: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنّي بالذي أصبت من الذي أخطأت"، وفي رواية معمر مثله، لكن قال: "ما الذي أخطات؟ "، ولم يذكر الباقي.
(قَالَ) رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("لَا تُقْسِمْ") بضمّ أوله، من الإقسام؛ أي: لا تحلف، وفي رواية ابن ماجه:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تُقسم يا أبا بكر"، ومثله لمعمر، لكن دون قوله: "يا أبا بكر"، وفي رواية سليمان بن كثير: "ما الذي أصبتُ، وما الذي أخطأت؟، فأبى أن يخبره".
قال الداوديّ: قوله: "لا تُقسِم"، أي: لا تكرر يمينك، فإني لا أخبرك.
وقال القرطبيّ: قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "لا تُقسم" مع أنه قد أقسم،
معناه: لا تَعُد للقسم، ففيه: ما يدلّ على أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإبرار المُقْسِم ليس بواجب، وإنما هو مندوب إليه إذا لم يعارضه ما هو أَولى منه. انتهى
(1)
.
وقال المهلَّب: توجيه تعبير أبي بكر رضي الله عنه أن الظلة نعمة من نِعَم الله على أهل الجنة، وكذلك كانت على بني إسرائيل، وكذلك الإسلام يقي الأذى، ويَنْعَم به المؤمن في الدنيا والآخرة.
وأما العسل: فإن الله جعله شفاء للناس، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} [يونس: 57]، وقال:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]، وهو حُلْوٌ على الأسماع؛ كحلاوة العسل في المذاق، وكذلك جاء في الحديث:"إن في السمن شفاءً"
(2)
.
وقال القاضي عياض: وقد يكون عَبَر الظلة بذلك؛ لما نطفت العسل والسمن اللذين عَبَرهما بالقرآن، وذلك إنما كان عن الإسلام، والشريعة، والسببُ في اللغة: الحبل، والعهد، والميثاق، والذين أخذوا به بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدًا بعد واحد، هم الخلفاء الثلاثة، وعثمان هو الذي انقطع به، ثم اتَّصَل. انتهى ملخّصًا.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى- إكمال هذا البحث، وترجيح قول من قال: إن الصواب في هذه المسألة التوقّف، وعدم الخوض بلا علم فيها، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 5913 و 5914 و 5915 و 5916](2269)، و (البخاريّ) في "التعبير"(7046)، و (أبو داود) في "الأيمان والنذور" (3267
(1)
"المفهم" 6/ 33.
(2)
كذا في "الفتح"، ولم يعزه لمصدر، ولم يتكلّم في درجته، فالله أعلم بصحّته.
و 3269)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2294)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 387)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3918) و (أحمد) في "مسنده"(1/ 236)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 59 و 60)، و (الحميديّ) في "مسنده"(536)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 128 و 129)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(111)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 49)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 38 و 39)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3283)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الرؤيا ليست لأول عابر، لكن قال إبراهيم بن عبد الله الكرمانيّ المعبِّر: لا يغير الرؤيا عن وجهها عبارة عابر، ولا غيره، وكيف يستطيع مخلوق أن يغير ما كانت نسخته من أم الكتاب؟ غير أنه يستحب لمن لم يتدرب في علم التأويل أن لا يتعرض لِمَا سَبَق إليه مَن لا يُشَكّ في أمانته، ودِينه.
قال الحافظ: وهذا مبني على تسليم أن المرائي تَنْسَخ من أم الكتاب على وفق ما يعبُرها العارف، وما المانع أنها تَنْسَخ على وِفق ما يعبُرها أول عابر. انتهى.
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "بابُ من لم يَرَ الرؤيا لأول عابر إذا لم يُصِب".
قال في "الفتح": كأنه يشير إلى حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا فيه:"والرؤيا لأول عابر"، وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرَّقَاشيّ، ولكن له شاهد، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم، عن أبي رَزِين الْعُقَيليّ، رفعه:"الرؤيا على رجل طائر، ما لم تُعْبَر، فإذا عُبِرت وقعت"، لفظ أبي داود، وفي رواية الترمذيّ:"سقطت"، وفي مرسل أبي قِلابة، عند عبد الرزاق:"الرؤيا تقع على ما يُعبَّر، مَثَلُ ذلك مَثَل رجل رفع رجله، فهو ينتظر متى يضعها"، وأخرجه الحاكم موصولًا بذكر أنس، وعند سعيد بن منصور، بسند صحيح، عن عطاء:"كان يقال: الرؤيا على ما أُوِّلت"، وعند الدارميّ بسند حسن، عن سليمان بن
يسار، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجرٌ، يَختلف -يعني: في التجارة- فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي غائبٌ، وتركني حاملًا، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت، وأني ولدت غلامًا أعور، فقال:"خير، يرجع زوجك، إن شاء الله صالِحًا، وتلدين غلامًا بَرًّا"، فذكرت ذلك ثلاثًا، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها، فأخبرتني بالمنام، فقلت: لئن صدقت رؤياك ليموتنّ زوجك، وتلدين غلامًا فاجرًا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"مَهْ يا عائشة، إذا عَبَرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يَعْبُرها صاحبها".
وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني رأيت كأن جائز بيتي انكسر، وكان زوجها غائبًا، فقال: رَدّ الله عليك زوجك، فرجع سالِمًا
…
" الحديث، ولكن فيه أن أبا بكر، أو عمر هو الذي عَبَر لها الرؤيا الأخيرة، وليس فيه الخبر الأخير المرفوع، فأشار البخاري إلى تخصيص ذلك بما إذا كان العابر مصيبًا في تعبيره، وأَخَذه من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في حديث الباب: "أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا"، فإنه يؤخذ منه أن الذي أخطأ فيه لو بيّنه له لكان الذي بيّنه له هو التعبير الصحيح، ولا عبرة بالتعبير الأول.
قال أبو عبيد، وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول عالمًا، فعَبَر، فأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده؛ إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام؛ ليتوصل بذلك إلى مراد الله فيما ضربه من المثل، فإذا أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يُصِب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده، ويبيّن ما جَهِل الأول.
قال الحافظ: وهذا التأويل لا يساعده حديث أبي رَزِين: "إن الرؤيا إذا عبّرت وقعت" إلا أن يُدَّعَى تخصيص "عبرت" بأن عابرها يكون عالمًا مصيبًا، فيعكر عليه قوله في الرؤيا المكروهة:"ولا يُحَدّث بها أحدًا" فقد تقدم في حكمة هذا النهي أنه ربما فَسَّرها تفسيرًا مكروهًا على ظاهرها، مع احتمال أن تكون محبوبة في الباطن، فتقع على ما فَسَّر.
ويمكن الجواب بأن ذلك يتعلق بالرائي، فله إذا قصها على أحد، ففسَّرها
له على المكروه أن يبادر، فيسأل غيره، ممن يصيب، فلا يتحتم وقوع الأول، بل ويقع تأويل من أصاب، فإن قصّر الرائي، فلم يسأل الثاني، وقعت على ما فسَّر الأول. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": من أدب المعبِّر ما أخرجه عبد الرزاق، عن عمر رضي الله عنه، أنه كَتَب إلى أبي موسى رضي الله عنه:"فإذا رأى أحدكم رؤيا، فقصّها على أخيه، فليقل: خيرٌ لنا، وشرٌّ لأعدائنا"، ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع.
وأخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ في "الدلائل" من حديث ابن زِمْل الْجُهَنِيّ -بكسر الزاي، وسكون الميم، بعدها لام- ولم يُسَمَّ في الرواية، وسمّاه أبو عمر في "الاستيعاب": عبد الله، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال: "هل رأى أحد منكم شيئًا؟ قال ابن زِمْل: فقلت: أنا يا رسول الله، قال: خيرًا تلقاه، وشرًّا تتوقاه، وخيرٌ لنا، وشرّ على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين، اقصُصْ رؤياك
…
" الحديث، وسنده ضعيف جدًّا.
3 -
(ومنها): أن أئمة التعبير ذكروا أن من أدب الرائي أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه {وَالشَّمْسِ} ، {وَاللَّيْلِ} ، {وَالتِّينِ} ، و"سورة الإخلاص"، والمعوذتين، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان، في اليقظة والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحةً، صادقةً، نافعةً، حافظةً، غير مَنْسِيّة، اللهم أرني في منامي ما أحبّ، ذكره في "الفتح"
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قيل: إن من أدبه أيضًا أن لا يقصها على امرأة، ولا عدوّ، ولا جاهل.
5 -
(ومنها): ما قيل أيضًا: أن من أدب العابر أن لا يعبُرها عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الفوائد الثلاث تحتاج إلى دليل، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 16/ 407 - 408، كتاب "التعبير" رقم (7046).
(2)
"الفتح" 16/ 407 - 408، كتاب "التعبير" رقم (7046).
6 -
(ومنها): أنه لا يستحب إبرار القسم، إذا كان فيه مفسدة.
7 -
(ومنها): أن من قال: أُقسم لا كفارة عليه؛ لأن أبا بكر لم يزد على قوله: أقسمت، كذا قاله عياض، ورَدّه النوويّ بأن الذي في جميع نُسخ "صحيح مسلم" أنه قال: فوالله يا رسول الله لتحدّثَنِّي، وهذا صريح يمين.
8 -
(ومنها): ما قال ابن التين رحمه الله: فيه أن الأمر بإبرار القسم خاصّ بما يجوز الاطلاع عليه، ومن ثَمّ لم يُبِرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَسَم أبي بكر؛ لكونه سأل ما لا يجوز الاطلاع عليه لكل أحد.
قال الحافظ: فيَحْتَمِل أن يكون مَنَعه ذلك لَمّا سأله جهارًا، وأن يكون أعلمه بذلك سرًّا.
9 -
(ومنها): أن فيه الحثّ على تعلّم علم الرؤيا، وعلى تعبيرها، وترك إغفال السؤال عنه، وفضيلتها؛ لِمَا تشتمل عليه من الاطلاع على بعض الغيب، وأسرار الكائنات.
10 -
(ومنها): ما قاله ابن هُبيرة رحمه الله: وفي السؤال من أبي بكر أوّلًا وآخرًا، وجواب النبيّ صلى الله عليه وسلم دلالةٌ على انبساط أبي بكر معه، وإدلاله عليه.
11 -
(ومنها): أنه لا يعبُر الرؤيا إلا عالمٌ ناصحٌ أمينٌ حبيب.
12 -
(ومنها): أن العابر قد يخطئ، وقد يصيب، وأن للعالم بالتعبير أن يسكت عن تعبير الرؤيا، أو بعضها عند رجحان الكتمان على الذِّكر، قال المهلَّب رحمه الله: ومحله إذا كان في ذلك عموم، فأما لو كانت مخصوصة بواحد مثلًا، فلا بأس أن يخبره؛ لِيُعِدّ الصبرَ، ويكون على أُهْبة من نزول الحادثة.
13 -
(ومنها): جواز إظهار العالم ما يَحْسُن من العلم، إذا خلصت نيته، وأَمِن العجب.
14 -
(ومنها): جواز كلام العالم بالعلم بحضرة من هو أعلم منه، إذا أَذِن له في ذلك صريحًا، أو ما قام مقامه، ويؤخذ منه جواز مثله في الإفتاء، والحُكم، وأن للتلميذ أن يُقسم على معلمه أن يُفيده الحكم، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 16/ 407 - 417، كتاب "التعبير" رقم (7046).
(المسألة الرابعة): في تكميل ما سبق في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضًا، وأخطأت بعضًا":
قال المهلَّب رحمه الله: وموضع الخطإ في قوله: "ثم وُصِل له"؛ لأن في الحديث: "ثم وُصِل"، ولم يذكر "له".
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: بل هذه اللفظة، وهي قوله:"له"، وإن سقطت من رواية الليث عند الأصيليّ، وكريمة، فهي ثابتة في رواية أبي ذرّ عن شيوخه الثلاثة، وكذا في رواية النسفيّ، وهي ثابتة في رواية ابن وهب وغيره كلهم عن يونس، عند مسلم وغيره، وفي رواية معمر عند الترمذيّ، وفي رواية سفيان بن عيينة عند النسائيّ، وابن ماجه، وفي رواية سفيان بن حسين، عند أحمد، وفي رواية سليمان بن كثير، عند الدارميّ، وأبي عوانة، كلهم عن الزهريّ، وزاد سليمان بن كثير في روايته:"فوُصِل له، فاتَّصَل".
قال: ثم بنى المهلّب على ما توهّمه، فقال: كان ينبغي لأبي بكر أن يقف حيث وقفت الرؤيا، ولا يذكر الموصول له، فإن المعنى أن عثمان انقطع به الحبل، ثم وُصِل لغيره، أي: وُصلت الخلافة لغيره. انتهى.
قال الحافظ: وقد عرفت أن لفظة: "له" ثابتة في نفس الخبر، فالمعنى على هذا أن عثمان كاد ينقطع عن اللحاق بصاحبيه، بسبب ما وقع له من تلك القضايا التي أنكروها، فعَبَّر عنها بانقطاع الحبل، ثم وقعت له الشهادة، فاتصل بهم، فعَبَّر عنه بأن الحبل وُصِل له، فاتَّصَل، فالتحق بهم، فلم يتم في تبيين الخطأ في التعبير المذكور ما توهّمه المهلَّب.
قال: والعجب من القاضي عياض، فإنه قال في "الإكمال": قيل: خطؤه في قوله: "فوُصِل له"، وليس في الرؤيا إلا أنه "وُصِل"، وليس فيها "له"، ولذلك لم يوصَل لعثمان، وإنما وُصلت الخلافة لعليّ، وموضع التعجب سكوته عن تعقب هذا الكلام، مع كون هذه اللفظة، وهي "له" ثابتة في "صحيح مسلم" الذي يتكلم عليه.
ثم قال: وقيل: الخطأ هنا بمعنى الترك؛ أي: تركت بعضًا، لم تفسِّره.
وقال الإسماعيليّ: قيل: السبب في قوله: "وأخطأت بعضًا" أن الرجل
لمّا قَصّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم رؤياه كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ بتعبيرها من غيره، فلما طَلَب
أبو بكر تعبيرها كان ذلك خطأ، فقال: أخطأت بعضًا لهذا المعنى.
قال الحافظ: والمراد بقوله: "قيل" ابنُ قتيبة، فإنه القائل لذلك، فقال: إنما أخطأ في مبادرته بتفسيرها قبل أن يأمره به، ووافقه جماعة على ذلك، وتعقبه النوويّ تبعًا لغيره، فقال: هذا فاسد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أَذِن له في ذلك، وقال:"اعْبُرْها".
قال الحافظ: مراد ابن قتيبة أنه لم يأذن له ابتداءً، بل بادر هو، فسأل أن يأذن له في تعبيرها، فأذن له، فقال: أخطأت في مبادرتك للسؤال أن تتولى تعبيرها، لا أنه أراد: أخطأت في تعبيرك، لكن في إطلاق الخطأ على ذلك نظر؛ لأنه خلاف ما يتبادَر للسمع من جواب قوله:"هل أصبتُ؟ " فإن الظاهر أنه أراد الإصابة والخطأ في تعبيره، لا لكونه التمس التعبير، ومن ثَمّ قال ابن التين، ومن بعده: الأشبه بظاهر الحديث أن الخطأ في تأويل الرؤيا؛ أي: أخطأت في بعض تأويلك.
قال الحافظ: ويؤيده تبويب البخاريّ حيث قال: "باب من لم ير الرؤيا لأول عابر، إذا لم يُصِب"، ونقل ابن التين عن أبي محمد بن أبي زيد، وأبي محمد الأصيليّ، والداوديّ نحو ما نقله الإسماعيليّ، ولفظهم: أخطأ في سؤاله أن يعبُرها، وفي تعبيره لها بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن هُبيرة: إنما كان الخطأ؛ لكونه أقسم ليعبُرنّها بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو كان الخطأ في التعبير لم يُقِرَّه عليه، وأما قوله:"لا تُقْسِم" فمعناه: أنك إذا تفكرت فيما أخطأت به عَلِمْتَه، قال: والذي يظهر أن أبا بكر أراد أن يعبُرها، فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يقوله، فيَعْرِف أبو بكر بذلك عِلْم نفسه؛ لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن التين: وقيل: أخطأ؛ لكون المذكور في الرؤيا شيئين: العسل، والسمن، ففسَّرهما بشيء واحد، وكان ينبغي أن يفسرهما بالقرآن، والسُّنَّة، ذُكِر ذلك عن الطحاويّ.
قال الحافظ: وحكاه الخطيب عن أهل العلم بالتعبير، وجزم به ابن العربيّ، فقال: قالوا: هنا وَهِمَ أبو بكر، فإنه جَعل السمن والعسل معنى
واحدًا، وهما معنيان: القرآن، والسُّنَّة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون السمن: والعسل: العلم، والعمل، ويَحْتَمِل أن يكونا الفهم، والحفظ.
وأيد ابن الجوزيّ
(1)
ما نُسِب للطحاويّ بما أخرجه أحمد، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: رأيت فيما يرى النائم؛ كأن في إحدى إصبعي سَمْنًا، وفي الأخرى عسلًا، فألعقهما، فلما أصبحت ذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"تقرأ الكتابين التوراة، والفرقان"، فكان يقرؤهما.
قال الحافظ: ففسَّر العسل بشيء، والسمن بشيء.
وقال النوويّ: قيل: إنما لم يُبِرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قَسَم أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن إبرار القسم مخصوص بما إذا لم يكن هناك مفسدة، ولا مشقة ظاهرة، فإن وُجد ذلك فلا إبرار، ولعل المفسدة في ذلك ما عَلِمه من سبب انقطاع السبب بعثمان رضي الله عنه، وهو قَتْله، وتلك الحروب، والفتن المترتبة عليه، فكَرِه ذكِرْها خوف شيوعها.
ويَحْتَمِل أن يكون سبب ذلك أنه لو ذَكَر له السبب لَلَزِم منه أن يوبّخه بين الناس؛ لمبادرته.
ويَحْتَمِل أن يكون خطؤه في ترك تعيين الرجال المذكورين، فلو أبرّ قَسَمه للزم أن يعيّنهم، ولم يؤمر بذلك؛ إذ لو عيّنهم لكان نصًّا على خلافتهم، وقد سبقت مشيئة الله أن الخلافة تكون على هذا الوجه، فترك تعيينهم؛ خشيةَ أن يقع في ذلك مفسدة. وقيل: هو علم غيب، فجاز أن يختصّ به، ويُخفيه عن غيره.
وقيل: المراد بقوله: "أخطأتَ، وأصبتَ" أن تعبير الرؤيا مرجعه الظنّ،
والظنّ يخطئ ويصيب، وقيل: لمّا أراد الاستبداد، ولم يصبر حتى يُفاد جاز مَنْعه ما يستفاد، فكان المنع كالتأديب له على ذلك.
قال الحافظ: وجميع ما تقدم من لفظ الخطأ والتوهم، والتأديب، وغيرهما إنما أحكيه عن قائله، ولست راضيًا بإطلاقه في حقّ الصديق رضي الله عنه. وقيل: الخطأ في خلع عثمان رضي الله عنه؛ لأنه في المنام رأى أنه آخذ
(1)
"كشف المشكل" 2/ 319.
بالسبب، فانقطع به، وذلك يدل على انخلاعه بنفسه، وتفسير أبي بكر بأنه يأخذ به رَجَل، فينقطع به، ثم يوصَل له، وعثمان قد قُتل قهرًا، ولم يَخلع نفسه، فالصواب أن يُحْمَل وَصْله على ولاية غيره، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون ترك إبرار القَسَم لِمَا يدخل في النفوس، لا سيما من الذي انقطع في يده السبب، وإن كان وُصِل.
وقد اختُلِف في تفسير قوله: "فقُطِع" فقيل: معناه قُتل، وأنكره القاضي أبو بكر ابن العربي، فقال: ليس معنى قُطع قُتل؛ إذ لو كان كذلك لشاركه عمر، لكن قَتْل عمر لم يكن بسبب العلوّ، بل بجهة عداوة مخصوصة، وقَتْل عثمان كان من الجهة التي علا بها، وهي الولاية، فلذلك جُعل قتله قطعًا، قال: وقوله: "ثم وُصل"؛ يعني: بولاية عليّ، فكان الحبل موصولًا، ولكن لم ير فيه علوًّا، كذا قال، وقد تقدم البحث في ذلك.
ووقع في "تنقيح الزركشي"
(1)
ما نصّه: والذي انقطع به، ووُصل له هو عمر؛ لأنه لمّا قُتل وُصل له بأهل الشورى، وبعثمان، كذا قال، وهو مبنيّ على أن المذكور في الخبر من الرجال بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنان فقط، وهو اختصار من بعض الرواة، وإلا فعند الجمهور ثلاثة، وعلى ذلك شَرَح من تقدَّم ذِكره، والله أعلم.
قال ابن العربيّ: وقوله: "أخطأت بعضًا" اختُلِف في تعيين الخطأ، فقيل: وجه الخطأ تسوّره على التعبير من غير استئذان، واحتمله النبيّ صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، قال: وقيل: أخطأ لِقَسَمه عليه، وقيل: لِجَعْله السمن والعسل معنى واحدًا، وهما معنيان، وأيّدوه بأنه قال:"أخطأت بعضًا، وأصبت بعضًا"، ولو كان الخطأ في التقديم في اليسار، أو في اليمين لَمَا قال ذلك؛ لأنه ليس من الرؤيا.
وقال ابن الجوزيّ
(2)
: الإشارة في قوله: "أصبت، وأخطأت" لتعبيره الرؤيا، وقال ابن العربيّ: بل هذا لا يلزم؛ لأنه يصحّ أن يريد به أخطأت في بعض ما جرى، وأصبت في البعض، ثم قال ابن العربيّ: وأخبرني أبي أنه
(1)
"التنقيح" 3/ 851.
(2)
"كشف المشكل" 2/ 320.
قيل: وجه الخطأ أن الصواب في التعبير أن الرسول هو الظُّلّة، والسمن، والعسل: القرآن، والسُّنَّة، وقيل: وجه الخطأ أنه جَعَل السبب الحقّ، وعثمان لم ينقطع به الحقّ، وإنما الحقّ أن الولاية كانت بالنبوة، ثم صارت بالخلافة، فاتَّصَلت لأبي بكر، ولعمر، ثم انقطعت بعثمان لِما كان ظُنّ به، ثم صحت براءته، فأعلاه الله، ولحق بأصحابه، قال: وسألت بعض الشيوخ العارفين عن تعيين الوجه الذي أخطأ فيه أبو بكر، فقال: مَن الذي يعرفه؟ ولئن كان تقدّم أبي بكر بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم للتعبير خطأ، فالتقدم بين يدي أبي بكر لتعيين خطئه أعظم وأعظم، فالذي يقتضيه الدِّين والحزم الكفّ عن ذلك.
وقال الكرمانيّ: إنما أقدموا على تبيين ذلك، مع كون النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبيّنه؛ لأنه كان يلزم من تبيينه مفسدة؛ إذ ذاك فزالت بعده، مع أن جميع ما ذكروه إنما هو بطريق الاحتمال، ولا جزم في شيء من ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ليت هؤلاء العلماء لم يخوضوا في تأويل هذا الحديث بالحدس، والظنون، والتخمين، وما أجمل الجواب الذي أجاب به بعض الشيوخ الذي سأله ابن العربيّ آنفًا، فقال: مَن الذي يعرفه؟ ولئن كان تقدّم أبي بكر بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم للتعبير خطأ، فالتقدم بين يدي أبي بكر لتعيين خطئه أعظم وأعظم، فالذي يقتضيه الدين والحزم الكفّ عن ذلك. انتهى.
فما أحلى هذا الجواب، وأحقّه بأن يُكتب بماء الذهب، فيا أيها المسلم عليك أن لا تتدخّل، وتخوض فيما لا علم لك به، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فقد سدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم طريق معرفة الخطأ والصواب في هذا الحديث لَمّا أقسم عليه أبو بكر أن يُخبره بقوله:"لا تُقسم"، فمن الذي يحوم حوله، ويصول، ويجول بحثًا عن معرفته؟، إن هذا هو العجب العجاب.
وبالجملة فقد قال الله عز وجل: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"الفتح" 16/ 413 - 416، كتاب "التعبير" رقم (7046).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5914]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُنْصَرَفَهُ مِنْ أُحُدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي رَأَيْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (مُنْصَرَفَهُ مِنْ أُحُدٍ) بضمّ الميم، وفتح الصاد؛ أي: وقت انصرافه، ورجوعه من غزوة أُحد.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ)؛ يعني: أن سفيان بن عيينة حدّث عن الزهريّ بمعنى ما حدّث به يونس بن يزيد الأيليّ عنه.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3918)
- حدّثنا يعقوب بن حميد بن كاسب المدنيّ، ثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل مُنصَرَفه من أُحُدٍ، فقال: يا رسول الله إني رأيت في المنام ظُلَّة تَنطُف سمنًا وعسلًا، ورأيت الناس يتكفّفون منها، فالمستكثر، والمستقلّ، ورأيت سببًا واصلًا إلى السماء، رأيتك أخذت به، فعلوت به، ثم أخذ به رجل بعدك، فعلا به، ثم أخذ به رجل بعده، فعلا به، ثم أخذ به رجل بعده، فانقطع به، ثم وُصِل له، فعلا به، فقال أبو بكر: دعني أَعْبُرها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"اعبُرها"، قال: أما الظلّة فالإسلام، وأما ما يَنطُف منها من العسل والسمن، فهو القرآن، حلاوته، ولِيْنه، وأما ما يتكفّف منه الناس، فالآخذ من القرآن كثيرًا وقليلًا، وأما السبب الواصل إلى السماء، فما أنت عليه من الحقّ، أخذت به، فعلا بك، ثم يأخذه رجل من بعدك، فيعلو به، ثم آخر، فيعلو به، ثم آخر، فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو به، قال:"أصبتَ بعضًا، وأخطأت بعضًا"، قال أبو بكر: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنّي بالذي أصبت من
الذي أخطأت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُقْسِمْ يا أبا بكر". انتهى
(1)
، والله تعالى
أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5915]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانَ مَعْمَرٌ أَحْيَانًا يَقُولُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحْيَانًا يَقُولُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا أتى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنِّي أَرَى اللَّيْلَةَ ظُلَّةً، بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: الثلاثة: الزبيديّ، ويونس، وسفيان بن عيينة، أن معمرًا روى هذا الحديث عن الزهريّ بمعنى: حديث الثلاثة عنه.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5916]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ كَثِيرٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِمَّا يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا، فَلْيَقُصَّهَا، أَعْبُرْهَا لَهُ"، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْتُ ظُلَّةً، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرام السَّمَرقنديّ، أبو محمد الدارميّ الحافظ، صاحب "المسند"،
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1289 - 1290.
ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) العبديّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ لم يُصِب من ضعّفه، من كبار [10].
رَوَى عن أخيه سليمان، وكان أكبر منه بخمسين سنة، وعن الثوريّ، وشعبة، وإبراهيم بن نافع المكيّ، وهمام، وإسرائيل، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ، وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة الدارميّ، والذهليّ، والحسين بن محمد البلخيّ، ومحمد بن معمر البحرانيّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وغيرهم.
قال ابن معين: لم يكن ثقةٌ، وقال ابن الجنيد، عن ابن معين: كان في حديثه ألفاظ؛ كأنه ضعّفه، ثم سألت عنه، فقال: لم يكن لسائل أن يكتب عنه، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: حدثنا عنه الفضل بن الحباب، مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكان له يوم مات تسعون سنة، وكان تقيًّا فاضلًا، وكذا أرّخه البخاريّ، وأبو داود، وابن أبي عاصم، وابن قانع، وزاد: في جمادى الأولى، وقال: إنه ضعيف، وقال أحمد بن حنبل: ثقةٌ، لقد مات على سُنَّة، وقال مسلمة بن قاسم: لا بأس به.
وفي "الزَّهْرة": روى عنه البخاريّ ثلاثة وستين حديثًا
(1)
.
أَخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ) العبديّ البصريّ، أبو داود، وأبو محمد، لا بأس به في غير الزهريّ [7](ت 133)(ع) تقدم في "الحدود" 1/ 4391.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كَانَ مِمَّا يَقُولُ لأَصْحَابِهِ) قال القاضي عياض: معنى "مما" ها هنا عندهم: كثيرًا ما كان يفعل كذا، قال ثابت في مثل هذا: كأنه يقول: هذا من شأنه، ودأبه، فجعل "ما" كناية عن ذلك، يريد: ثم أَدْغَم "مِنْ" فقال: مما يقول، وقال غيره: معنى "أما" ها هنا: ربما؛ لأنَّ ربما تأتي للتكثير.
(1)
وفي برنامج الحديث للكتب التسعة: له في البخاريّ (68) حديثًا.
قال القرطبيّ: وهذا كلام جُمْليّ، لم يحصل به بيان تفصيليّ؛ فإنَّ هذا الكلام من السهل جملةً، الممتنع تفصيلًا، وييانه بالإعراب، وذلك: أن اسم "كان" مستتر فيها يعود على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخبرها في الجملة التي بعدها، وذلك: أن "ما" من "مما" بمعنى الذي، وهي مجرورة بـ "من"، وَصِلَتها "يقول"، والعائد محذوف، وهذا المجرور خبر المبتدأ الذي هو:"مَن رأى منكم رؤيا"؛ فإنَّه كلام محكيّ معمول للقول، تقديره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة القول الذي يقوله هذا القول.
ويجوز أن تكون مصدرية، ويكون تقديرها: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة قوله: "مَن رأى منكم رؤيا"، و"مَنْ" في كلا الوجهين استفهام محكيّ، والله تعالى أعلم.
وأبعدُ ما قيل فيها: قول من قال: إن "مِمّا" بمعنى: ربما، إذ لا يساعده اللسان، ولا يلتئم مع تكلُّفه الكلام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الأبيّ في "شرحه": قال ثابتٌ: معنى "مما" هنا: كثيرٌ؛ أي: كثيرًا ما كان يقول؛ أي: شأنه، ودأبه، فجُعلت "ما" كنايةً عن ذلك، وأدغم فيها نون "مِنْ"، فقيل:"مما"، وقال غيره: معنى "ممّا": ربّما، وهو بمعنى الأول؛ لأن ربّما تأتي للتكثير. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَلْيَقُصَّهَا) قال القرطبيّ: معنى "فليقصّها": ليذكر قصّتها، وليتَّبع جزئياتها، حتى لا يترك منها شيئًا، مِنْ قصصت الأثر: إذا تتبَّعته، وأعبُرها؛ أي: أعتبرها، وأفسّرها، ومنه قوله تعالى:{إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]، وأصله مِنْ عَبَرت النهر: إذا جُزْتَ من إحدى عُدوتيه إلى الأخرى. انتهى
(3)
.
وقوله: (أَعْبُرْهَا لَهُ) مضارع عَبَرَ الرؤيا، من باب نصر عَبْرًا، وعِبَارةً، وعبّرها بالتشديد أيضًا: إذا فسّرها، وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها
(4)
.
(1)
"المفهم" 6/ 30.
(2)
"شرح الأبيّ" 6/ 87.
(3)
"المفهم" 6/ 31.
(4)
"القاموس المحيط" ص 832.
وفي الحديث الحثّ على علم الرؤيا، والسؤال عنها، وتأويلها، قال العلماء: وسؤالهم محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، يُعَلِّمهم تأويلها، وفضيلتها، واشتمالها على ما شاء الله تعالى من الإخبار بالغيب، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: رواية سليمان بن كثير عن الزهريّ هذه ساقها الدارميّ رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2156)
- أخبرنا محمد بن كثير، حدّثنا سليمان، هو ابن كثير، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يقول لأصحابه:"من رأى منكم رؤيا، فليقُصّها عليّ، فأعْبُرها له"، قال: فجاء رجل، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت ظُلّة بين السماء والأرض، تَنْطُف عسلًا، أو سمنًا، ورأيت سببًا واصلًا من السماء إلى الأرض، ورأيت أناسًا يتكففون منها، فمستكثر، ومستقلّ، فأخذتَ به، فعلوتَ، فأعلاك الله، ثم أخذ به الذي بعدك، فعلا، فأعلأه الله، ثم أخذه الذي بعده، فعلا، فأعلاه الله، ثم أخذه الذي بعده، فقُطِع به، ثم وُصِل، فاتَّصَل، فقال أبو بكر: يا رسول الله ائذن لي، فأعْبُرها، فقال: اعْبُرها، وكان أَعْبَرَ الناس للرؤيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما الظلّة فالإسلام، وأما العسل والسمن فالقرآن، حلاوة العسل، ولِيْن السمن، وأما الذين يتكففون منه، فمستكثرٌ، ومستقلّ، فهم حَمَلة القرآن، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض، فالحقّ الذي أنت عليه، تأخذ به، فيعليك الله به، ثم يأخذ به رجل من بعدك، فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر، فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر، فينقطع به، ثم يوصل له، فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أصبتُ، أم أخطأتُ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أصبتَ، وأخطأت"، فقال: فما الذي أصبت؟ وما الذي أخطأت؟ فأبى أن يخبره. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 30.
(2)
"سُنن الدارميّ" 2/ 172.
(5) (بَابُ رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5917]
(2270) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ؛ كَأَنَّا فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ، فَأُتِينَا بِرُطَبٍ مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ، فَأَوَّلْتُ الرِّفْعَةَ لنَا فِي الدُّنْيَا، وَالْعَاقِبَةَ فِي الآخِرَةِ، وَأَنَّ دِينَنَا قَدْ طَابَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حِفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (454) من رباعيّات الكتاب، وفيه أثبت من روى عن شيخه، وهو حماد عن ثابت، وفيه ألزم الناس لشيخه، وهو ثابت، فقد لزم أنسًا رضي الله عنه أربعين سنةً
(1)
، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ) بنصب "ذاتَ" على الظرفيّة؛ أي: ليلةً من الليالي، قال في "الفتح": قيل: إنها مُقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه، على رأي من يجيزه. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: وأما قوله في الحديث: "ذاتَ ليلة" و"ذاتَ يوم"، فقد استعملت العرب ذلك بالتاء، وبغير تاء، قالوا: ذا يوم، وذا ليلة،
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 1/ 262.
(2)
"فتح الباري" 10/ 227 - 228.
وذات يوم، وذات ليلة، وهو كناية عن يوم وليلة؛ كأنه قال: رأيته وقتًا، أو زمنًا الذي هو يوم أو ليلة، وأما على الثانية، فكأنه قال: رأيته مدةً التي هي يومٌ أو ليلةٌ، ونحوها، فقال أبو حاتم: كأنهم أضمروا مؤنثًا. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة"
(2)
: قوله: "ذات ليلة"؛ أي: في ليلة، ولفظة "ذات" مُقحَمة؛ للتأكيد، وقال الزمخشريّ: هو إضافة المسمى إلى اسمه، وقال الجوهريّ: أما قولهم: ذات مرّة، وذا صباح، فهو من ظروف الزمان التي لا تتمكن، تقول: لقيته ذاتَ يوم، وذاتَ ليلة
(3)
.
(فِيمَا يَرَى النَّائِمُ)"ما" يحتمل أن تكون موصولًا حرفيًّا، أو اسميًّا؛ أي: في رؤية النائم؛ أي: في الذي يراه النائم، وقال الطيبيّ: أي: في جملة ما يراه النائم الصالح الرؤيا
(4)
. (كَأَنَّا) بتشديد النون، أصله كأننا، أُدغمت النون في النون. (فِي دَارِ عُقْبَةَ بْنِ رَافِعٍ)؛ أي: دار رجل يسمّى بهذا الاسم، وهو صحابيّ أنصاريّ، قال في "الإصابة": عقبة بن رافع الأنصاريّ، له ذِكرٌ، ورواية، ففي "صحيح مسلم" من طريق ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت كأني في دار عقبة بن رافع، فأتينا برُطَب من رُطَب ابن طاب
…
" الحديث، وأخرجه ابن منده في ترجمة عقبة بن نافع، فصحّفه، وتعقبه أبو نعيم، وروى أبو يعلى، والحسن بن سفيان، من طريق عاصم بن عُمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن عقبة بن رافع، رفعه: "إذا أحب الله عبدًا حماه الدنيا
…
" الحديث، وأخرجه من طريق ابن لَهِيعة، عن عُمارة بن غَزِيّة، عن عاصم، ورواه غير ابن لهيعة، عن عُمارة، فسَمّى الصحابيّ قتادة بن النعمان، فالله أعلم. انتهى
(5)
.
(فَأُتِينَا) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، (بِرُطَبٍ) بضمّ الراء، وفتح الطاء:
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 273.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 173.
(3)
"الصحاح" ص 367.
(4)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 3005.
(5)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 519.
ثمر النخل إذا أدرك، ونَضَجَ قبل أن يتتمّر، الواحدة رُطَبةٌ، والجمع أرطاب
(1)
. (مِنْ رُطَبِ ابْنِ طَابٍ)، أي: النوع الذي يُسمّى رُطَب ابن طاب، قال في "المشارق": نوع من تمور المدينة، طَيِّبٌ
(2)
، وقال في "النهاية": هو نوع من أنواع تمر المدينة، منسوب إلى ابن طاب، رجلٍ من أهلها، يقال: عِذْقُ ابنِ طاب، ورُطَبُ ابنِ طاب وتمرُ ابنِ طاب. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ: هو نوع من الرُّطَب معروف، يقال له: رُطَبُ ابنِ طاب، وتَمْرُ ابنِ طاب، وعِذْقُ ابنِ طاب، وعُرْجُون ابنِ طاب، وهي مضافة إلى ابن طاب، رجلٍ من أهل المدينة. انتهى
(4)
.
(فَأَوَّلْتُ)، أي: فسّرت ذلك، (الرِّفْعَةَ) بكسر الراء، وسكون الفاء: مصدر رَفُعَ، ككَرُم: إذا شَرُفَ وعلا قدرُهُ؛ أي: الشرف والعلاء (لَنَا فِي الدُّنْيَا) بالنصر على الأعداء، وعلوّ الكلمة، وانتشار دين الإسلام، (وَالْعَاقِبَةَ) المحمودة (فِي الآخِرَةِ) قال الراغب: الْعُقْبُ، والْعُقبى يختصّان بالثواب، نحو:{هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44]، والعاقبة إطلاقها يختصّ بالثواب، نحو:{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، وبالإضافة قد تُستعمل في العقوبة، نحو:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]. انتهى
(5)
.
(وَأَنَّ) بفتح الهمزة للعطف على "الرِّفْعةَ"، (دِينَنَا قَدْ طَابَ")، أي: كَمُل، واستقرت أحكامه، وتَمَهَّدت قواعده، يقال: طاب الشيءُ يطيب طِيبًا: إذا كان لذيذًا، أو حلالًا، فهو طيّب
(6)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5917](2270)، و (أبو داود) في "الأدب"
(1)
"المصباح المنير" 1/ 230.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 324.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 149.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 31.
(5)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 575.
(6)
"المصباح المنير" 2/ 382.
(5025)
، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 388)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 178)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 213 و 286)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 236)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 391)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، وتأويلها؛ لأنها جزء من النبوّة، فهي وحي من الله سبحانه وتعالى إليه.
2 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون من توالي البشرى عليهم في المنام، ويأتي ذلك في اليقظة مطابقًا لِمَا رأوه منامًا، فللَّه الحمد، والفضل، والمنّة أولًا وآخرًا.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: حديث أنس رضي الله عنه هذا وتأويله دليل على أن تعبير الرؤيا قد يؤخذ من اشتقاق كلماتها، فإنه صلى الله عليه وسلم أخذ من عقبة: حسن العاقبة، ومن رافع: الرفعة، ومن رطب ابن طاب: لذاذة الدين، وكماله، وقد قال علماء أهل العبارة أن لها أربعة طرق:
أحدها: ما يشتق من الأسماء كما ذكرناه آنفًا.
وثانيها: ما يعتبر مثاله، ويميز شكله؛ كدلالة معلم الكتّاب على القاضي، والسلطان، وصاحب السجن، ورئيس السفينة، وعلى الوصيّ، والوالد.
وثالثها: ما يَعْبُره المعنى المقصود من ذلك الشيء المرئي؛ كدلالة فعل السَّفْر على السَّفر، وفعل السوق على المعيشة، وفعل الدار على الزوجة والجارية.
ورابعها: التعبير بما تقدم له ذِكر في القرآن، أو السُّنَّة، أو الشعر، أو كلام العرب، وأمثالها، وكلام الناس، وأمثالهم، أو خبر معروف، أو كلمة حكمة، وذلك كنحو تعبير الخشب بالمنافق، لقوله تعالى:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]، وكتعبير الفأر بفاسق؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم سماه فويسقًا. وكتعبير القارورة بالمرأة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"رفقًا بالقوارير"؛ يعني: ضَعَفة النساء، وتتبّع أمثلة ما ذُكر يطول. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 34.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5918]
(2271) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُويرِيَةَ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي فِي الْمَنَامِ، أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَنِي رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) -بفتح الجيم، وسكون الهاء، وفتح المعجمة- هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلِب للقضاء فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الْجَهْضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
3 -
(صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ) أبو نافع، مولى بني تميم، أو بني هلال، قال أحمد: ثقةٌ، ثقةٌ، وقال القطان: ذهب كتابه، ثم وجده، فتُكُلِّم فيه لذلك [7](ت؟)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 56/ 3169.
والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين إلى صخر، والباقيان مدنيّان، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي فِي الْمَنَامِ) -بفتح الهمزة- من الرؤيا، ووَهِم مَن ضمّها، والمعنى: أرى نفسي، فالفاعل والمفعول عبارتان عن مُعَبِّر واحد، وهذا من خصائص أفعال القلوب، قاله في "العمدة"
(1)
، وللإسماعيليّ:"رأيت في المنام". (أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَذَبَني رَجُلَانِ) قال صاحب "التنبيه": هما جبريل وميكائيل. انتهى
(2)
،
(1)
"عمدة القاري" 3/ 186.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 389 - 390.
وفيه تأمّل، والله تعالى أعلم. (أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ)؛ أي: أعطيت (السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي)؛ أي: قال جبريل، ففي رواية الطبراني في "الأوسط" قال:"أمرني جبريل أن أُكَبِّر"، وفي "الغيلانيات" بلفظ:"أن أقدم الأكابر"، وقد رواه أحمد، والإسماعيليّ، والبيهقيّ، بلفظ:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنّ، فأعطاه أكبر القوم، ثم قال: إن جبريل أمرني أن أكبّر".
فإن قيل: هذا يقتضي أن تكون القضية وقعت في اليقظة، وتلك الرواية صريحة أنها كانت في المنام، فكيف التوفيق؟.
أجيب: بأن رواية اليقظة لمّا وقعت أخبرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بما رآه في النوم، فحفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخرون، ومما يشهد له ما رواه أبو داود بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنّ، وعنده رجلان، أحدهما أكبر من الآخر، فأُوحي إليه في فضل السواك، أن كَبِّر، أعط السواك أكبرهما"، وإسناده صحيح
(1)
.
(كَبِّرْ)؛ أي: قدّم الأكبر في السنّ، (فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكبَرِ") منهما، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا أخرجه المصنّف، وعلّقه البخاريّ عن عفّان بن مسلم، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5918](2271)، وسيأتي في "كتاب الزهد" بنفس السند والمتن (3003)، وعلّقه (البخاريّ) في "الوضوء"(246)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 39)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها). بيان فضيلة الرؤيا المناميّة؛ إذ هي للنبيّ صلى الله عليه وسلم وحي وبشرى؛
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 187.
إذ رؤيا الأنبياء وحي، وبالنسبة لغيره بشرى؛ إذ هي جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النبوّة.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة السواك، وقد تقدّم ما يتعلّق بذلك في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد.
3 -
(ومنها): أن فيه تقديمَ ذي السنّ في السواك، ويلتحق به الطعام، والشراب، والمشيُ، والكلام، قاله ابن بطال، وقال المهلَّب: هذا ما لم يترتب القوم في الجلوس، فإذا ترتبوا فالسُّنَّة حينئذ تقديم الأيمن؛ لحديث:"الأيمنون، الأيمنون"، متّفقٌ عليه.
4 -
(ومنها): أن استعمال سواك الغير ليس بمكروه، إلا أن المستحب أن يغسله، ثم يستعمله، لحديث عن عائشة رضي الله عنها في "سنن أبي داود"، قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به، فأستاك، ثم أغسله، ثم أدفعه إليه"، وهذا دالّ على عظيم أدبها، وكبير فطنتها؛ لأنها لم تغسله ابتداءً حتى لا يفوتها الاستشفاء بريقه صلى الله عليه وسلم، ثم غسلته تأدبًا، وامتثالًا.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بأمرها بغسله: تطييبه، وتليينه بالماء قبل أن يستعمله، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5919]
(2272) - (حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ
(2)
مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ، أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ، وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا، فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى، فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِيهَا أَيْضًا بَقَرًا،
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 607 - 608، كتاب "الوضوء" رقم (246).
(2)
وفي نسخة: "أني هاجرت".
وَاللهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدُ، وَثَوَابُ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللهُ بَعْدُ يَوْمَ بَدْرٍ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوق [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) بن كُريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن سبع وثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث الكوفيّ، وُلد بالبصرة، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار -بفتح المهملة، وتشديد الضاد المعجمة- الأشعريّ الصحابيّ المشهور، أَمَّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الْحَكَمين بِصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن شيخه الأول من أفراده، والثاني من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه، وفيه الصحابيّ الجليل أبو موسى الأشعريّ الحسن الصوت بالقرآن الذي قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا موسى، لقد أُوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، متّفقٌ عليه، وفي لفظ لمسلم:"إن عبد الله بن قيس، أو: الأشعريَّ أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ جَدِّهِ) بالجرّ بدلًا أو عطفَ بيان لأبي بردة؛ أي: إن أبا بردة جدّ لبُريد، والد أبيه عبد الله، فهو بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة، وكنيته أيضًا أبو بردة كجدّه. (عَنْ) أبيه (أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، مبنيًّا للفاعل، وفي بعض النسخ: "أني هاجرتُ" (مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا)؛ أي: فيها (نَخْلٌ) قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّخْلُ: اسم جمع، الواحدة نَخْلَةٌ، وكلُّ جَمْع بينه وبين واحده الهاء، قال ابن السِّكِّيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد، وتميم يُذَكِّرون، فيقولون: نَخْلٌ كريمٌ، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ، وأما النَّخِيلُ بالياء فمؤنّثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "رأيت في المنام أني أهاجر
…
إلخ" هذا يدلُّ على أن هذه الرؤيا وقعت له، وهو بمكة قبل الهجرة، وأن الله تعالى أطلعه بها على ما يكون من حاله، وحال أصحابه يوم أُحد، وبأنهم يصاب من صدورهم معه، وأن الله تعالى يثبّتهم بعد ذلك، ويجمع كلمتهم، ويقيم أمرهم، ويعزُّ دينهم، وقد كمَّل الله تعالى له ذلك بعد بدر الثانية، وهي المرادة في هذا الحديث على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. انتهى
(2)
.
(فَذَهَبَ وَهَلِي) بفتحتين؛ أي: وَهْمي، واعتقادي، قال في "الفتح": قال ابن التين: رَوَيناه "وَهَلِي" بفتح الهاء، والذي ذكره أهل اللغة بسكونها، تقول: وَهَلْتُ بالفتح أَهِلُ وَهْلًا: إذا ذهب وَهْمُك إليه، وأنت تريد غيره، مثلُ وَهِمْتُ، ووَهِلَ يَوْهَلُ وَهَلًا بالتحريك: إذا فَزِعَ، قال: ولعله وقع في الرواية على مثل ما قالوه في الْبَحْر: بَحَرٌ بالتحريك، وكذا النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر. انتهى، وبهذا جزم أهل اللغة: ابنُ فارس، والفارابيّ، والجوهريّ، والقاليّ، وابنُ القِطّاع، إلا أنهم لم يقولوا: وأنت تريد غيره.
وقد وقع في حديث المائة سنة: "فَوَهَلَ الناسُ في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.
(2)
"المفهم" 6/ 35.
وَهَلًا بالتحريك، وقال النوويّ: معناه غَلِطُوا، يقال: وَهَلَ بفتح الهاء يَهِل بكسرها، وَهْلًا بسكونها، مثلُ ضَرَب يَضْرِب ضَرْبًا؛ أي: غَلِط، وذهب وَهْمه إلى خلاف الصواب.
وأما وَهِلتُ بكسرها أَوْهَل بالفتح وَهْلًا بالتحريك أيضًا؛ كَحِذرتُ أَحْذَر حَذَرًا، فمعناه: فَزِعتُ، والوَهْل بالفتح: الفزع، وضَبَطه النووي بالتحريك، وقال: الوَهَل بالتحريك، معناه: الوهم والاعتقاد، وأما صاحب "النهاية"، فجزم أنه بالسكون. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَهِلَ وَهَلًا، فهو وَهِلٌ، من باب تَعِبَ: فَزِعَ، ويتعدى بالتضعيف، فيقال: وَهَّلْتُهُ، والوَهْلَةُ: الفَزْعة، ووَهِلَ عن الشيء، وفيه وَهَلًا، من باب تَعِبَ أيضًا: غَلِط فيه، ووَهَلْتَ إليه وَهْلًا، من باب وَعَدَ: ذهب وَهْمُك إليه، وأنت تريد غيره، مثلُ وَهَمْتُ، ولقيته أوّلَ وَهْلَةٍ؛ أي: أوّلَ كل شيء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة
…
إلخ"؛ أي: ذهب وهمي، وظني. والوَهَل -بفتح الهاء-: ما يقع في خاطر الإنسان، ويهتم به. وقد يكون في موضع آخر: الغلط، وليس مرادًا هنا بوجه؛ لأنَّه لم يجزم بأنها واحدة منهما، وإنما جوَّز ذلك؛ إذ ليس في المنام ما يدلّ على التعيين، وإنما أُري أرضًا ذات نخل، فخطر له ذانك الموضعان، لكونهما من أكثر البلاد نخلًا، ثم إنه لمّا هاجر إلى المدينة تعيَّنت له تلك الأرض، فأخبر عنها بعد هجرته إليها بقوله: "فإذا هي المدينة". انتهى
(2)
.
(إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ) بالفتح: بلدة من بلاد العوالي، وهي بلاد بني حنيفة، قيل: من عُروض اليمن، وقيل: من بادية الحجاز، قاله الفيّوميّ
(3)
.
(أَوْ هَجَرُ) قال النوويّ رحمه الله: مدينةٌ معروفةٌ، وهي قاعدة البحرين، وهي معروفةٌ، سبق بيانها في "كتاب الإيمان"
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أو هجر" بفتح الهاء، والجيم: بلد معروف من
(1)
"المصباح المنير" 2/ 674.
(2)
"المفهم" 6/ 35.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 681.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 31.
البحرين، وهي من مساكن عبد القيس، وقد سبقوا غيرهم من القرى إلى الإسلام، كما سبق بيانه في "كتاب الإيمان"، ووقع في بعض نُسخ أبي ذرّ:"أو الهجر" بزيادة ألف ولام، والأول أشهر، وزعم بعض الشراح أن المراد بهجر هنا قرية قريبة من المدينة، وهو خطأ، فإن الذي يناسب أن يُهاجَر إليه لا بدّ، وأن يكون بلدًا كبيرًا كثير الأهل، وهذه القرية التي قيل: إنها كانت قرب المدينة، يقال لها: هجر، لا يعرفها أحدٌ، وإنما زعم ذلك بعض الناس في قوله:"قِلال هجر" أن المراد بها قرية كانت قرب المدينة، كان يُصنع بها القلال.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تعقّب العينيّ قول الحافظ: "لا بد وأن يكون بلدًا كبيرًا
…
إلخ"، فراجع كلامه في "عمدته".
قال: وزعم آخرون بأن المراد بها: هَجَر التي بالبحرين؛ كأن القلال كانت تُعمل بها، وتُجلب إلى المدينة، وعُملت بالمدينة على مثالها، وأفاد ياقوت أن هَجَر أيضًا بلد باليمن، فهذا أَولى بالتردد بينها وبين اليمامة؛ لأن اليمامة بين مكة واليمن. انتهى.
(فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ) كلمة "إذا" للمفاجأة، وكلمة "هي" ترجع إلى أرض بها نخل، وهو مبتدأ، و"المدينة" بالرفع خبره، وقوله:"يثرب" بالرفع أيضًا عطف بيان، أو بدل وهو بفتح الياء آخر الحروف، وسكون الثاء المثلثة، وكسر الراء، ثم باء موحّدة؛ اسم مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو غير منصرف.
والنهي الذي ورد عن تسمية المدينة بيثرب، إنما كان للتنزيه، وإنما جَمَع بين الاسمين هنا لأجل خطاب من لا يعرفها.
وفي "التوضيح": وقد نُهِي عن التسمية بيثرب، حتى قيل: من قالها، وهو عالم كُتبت عليه خطيئة، وسببه ما فيه من معنى التثريب، والشارع من شأنه تغيير الأسماء القبيحة إلى الحسنة، ويجوز أن يكون هذا قبل النهي، كما أنه سمّاها في القرآن إخبارًا به عن تسمية الكفار لها قبل أن ينزل تسميتها، قاله في "العمدة".
وقال في "الفتح": قوله: "فإذا هي المدينة، يثرب" كان ذلك قبل أن
يسمِّيها صلى الله عليه وسلم طيبة، ووقع عند البيهقيّ من حديث صهيب، رفعه: "أُريت دار
هجرتكم سَبْخة
(1)
بين ظهراني حَرَّتين، فإما أن تكون هَجَر، أو يثرب"، ولم يذكر اليمامة، وللترمذيّ من حديث جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى أوحى إليّ: أيّ هؤلاء الثلاثة نزلتَ، فهي دار هجرتك: المدينة، أو البحرين، أو قِنَّسرين"، استغربه الترمذيّ، وفي ثبوته نظرٌ؛ لأنه مخالف لِمَا في "الصحيح" من ذِكر اليمامة؛ لأن قِنَّسرين من أرض الشام، من جهة حَلَب، وهي بكسر القاف، وفتح النون الثقيلة، بعدها مهملة ساكنة، بخلاف اليمامة، فإنها إلى جهة اليمن، إلا إن حُمِل على اختلاف المأخذ، فإن الأول جرى على مقتضى الرؤيا التي أريها، والثاني يخيّر بالوحي، فيَحْتَمِل أن يكون أُري أوّلًا، ثم خُيّر ثانيًا، فاختار المدينة. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما يثرب فهو اسمها في الجاهلية، فسمّاها الله تعالى المدينة، وسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة، وطابة، وقد سبق شرحه مبسوطًا في آخر "كتاب الحجّ"، وقد جاء في حديث النهي عن تسميتها يثرب؛ لكراهة لفظ التثريب، ولأنه من تسمية الجاهلية، وسمّاها في هذا الحديث "يثرب"، فقيل: يَحْتَمِل أن هذا كان قبل النهي، وقيل: لبيان الجواز، وأن النهي للتنزيه، لا للتحريم، وقيل: خوطب به من يعرفها به، ولهذا جمع بينه وبين اسمه الشرعيّ، فقال:"المدينة، يثرب". انتهى
(2)
.
(وَرَأَيْتُ) وفي رواية: "أُريت"، (فِي رُؤْيَايَ هَذِهِ أَنِّي هَزَزْتُ سَيْفًا) وفي رواية:"سيفي"، وهو ذو الْفَقَار، (فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ) وعند ابن إسحاق:"ورأيت في ذباب سيفي ثُلْمًا"، وعند أبي الأسود في "المغازي": عن عروة: "رأيت سيفي ذا الفقار، قد انقصم من عند ظُبَته"، وكذا عند ابن سعد، وأخرجه البيهقيّ في "الدلائل" من حديث أنس، وفي رواية عروة:"كأن الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه المكرم"، وعند ابن هشام:"حَدَّثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: وأما الثُّلَمُ في السيف فهو رجل من أهل بيتي يُقْتَل"
(3)
.
(1)
بفتح السين، وكسر الباء، وسكونها تخفيفًا.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 31 - 32.
(3)
"الفتح" 9/ 158، كتاب "المغازي" رقم (4081).
(فَإِذَا هُوَ) قال الطيبيّ: أصله: فإذا تأويله، فحُذف المضاف الذي هو تأويل، وأقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير المجرور مرفوعًا. انتهى
(1)
. (مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية الصحيحة الفصيحة هي "هززته" بزايين، وتاء مثنّاة من فوقُ، وقد قاله بعض الرواة بزاي واحدة مشدّدة، وياء مخفّفة، فيقول: هَزَّيْتُهُ، وقيل: هي لغة بكر بن وائل. انتهى
(2)
.
قال العلماء: وتفسيره صلى الله عليه وسلم هذه الرؤيا بما ذَكَره، لأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم، كما يصول بسيفه، وقد يُفَسَّر السيف في غير هذا بالولد، والوالد، والعمّ، أو الأخ، أو الزوجة، وقد يدلّ على الولاية، أو الوديعة، وعلى لسان الرجل، وحجته، وقد يدلّ على سلطان جائر، وكلّ ذلك بحسب قرائن تنضم، تشهد لأحد هذه المعاني في الرائي، أو في الرؤية، قاله النوويّ
(3)
.
(فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ، وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به -والله أعلم-: ما صنع الله لهم بعدَ أُحُد، وذلك: أنهم لم ينكُلوا عن الجهاد، ولا ضعفوا، ولا استكانوا لِمَا أصابهم يوم أُحد، لكن جدَّدوا نياتهم، وقوَّوْا إيمانهم وعزماتهم، واجتمعت على ذلك جماعاتهم، وصحَّت في ذلك رغباتهم، فخرجوا على ما بهم من الضعف والجراح، فغزوا غزوة حمراء الأسد، مستظهرين على عدوهم بالقوة والجلد، ثم فتح الله تعالى عليهم، ونصرهم في غزوة بني النضير، ثم في غزوة ذات الرِّقاع، ثم لم يزل الله تعالى يجمع المؤمنين، ويكثّرهم، ويفتح عليهم إلى بدر الثانية، وكانت في شعبان في السنة الرابعة من الهجرة، وبعد تسعة أشهر ونصف شهر من أُحد، فما فتح الله عليه به في هذه المدة هو المراد هنا كما يأتي. انتهى
(4)
.
(وَرَأَيْتُ فِيهَا أَيْضًا بَقَرًا) بالموحدة، والقاف، وفي رواية أبي الأسود عن
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 9/ 3006.
(2)
"المفهم" 6/ 36.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 31 - 32.
(4)
"المفهم" 6/ 36.
عروة: "بَقَرًا تُذبح"، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي يعلى، قاله في "الفتح". وقال النوويّ: قد جاء في غير مسلم زيادة في هذا الحديث: "ورأيت بقرًا تُنحر"، وبهذه الزيادة يتم تأويل الرؤيا بما ذُكر، فنَحْر البقر هو قَتْل الصحابة رضي الله عنهم الذين قُتلوا بأُحُد. انتهى
(1)
.
(وَاللهُ خَيْرٌ) قال القاضي عياض رحمه الله: ضبطنا هذا الحرف عن جميع الرواة: "واللهُ خيرٌ" برفع الهاء والراء، على المبتدأ والخبر، و"بَعْدُ يوم بدر" بضم دال بَعْدُ، ونصب "يومَ"، قال: ورُوي بنصب الدال، قالوا: ومعناه: ما جاء الله به بعد بدر الثانية، من تثبيت قلوب المؤمنين؛ لأن الناس جمعوا لهم، وخوّفوهم، فزادهم ذلك إيمانًا، وقالوا:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} [آل عمران: 173 - 174]، وتفرّق العدوّ عنهم؛ هيبةً لهم، قال القاضي: قال أكثر شراح الحديث معناه: ثواب الله خير؛ أي: صنع الله بالمقتولين خير لهم من بقائهم في الدنيا، قال القاضي: والأَولى قول من قال: "والله خير" من جملة الرؤيا، وكلمةٌ أُلقيت إليه، وسَمِعها في الرؤيا عند رؤياه البقر، بدليل تأويله لها بقوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا الخير ما جاء الله به"، والله أعلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ورأيت أيضًا فيها بقرًا، والله خيرٌ" الضمير في "فيها" عائد على الرؤيا المذكورة، والرواية المشهورة برفع "اللهُ"، و"خيرٌ" على الابتداء والخبر؛ أي: وثواب الله خيرٌ للنفر المقتولين بالشهادة، ولمن أصيب بهم بأجر المصيبة، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ورأيت واللهِ بقرًا تُنحر، على إعمال "رأيت" في "بقرًا"، وعلى خفض اسم الله تعالى على القَسَم، وهكذا روى الخبر ابن هشام، وسمِّي ذلك خيرًا على جهة التفاؤل.
قال القرطبيّ: والأول أوضح، وأبعد من الاعتراض. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "والله خير" هذا من جملة الرؤيا، كما جزم به
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 31 - 32.
(2)
"المفهم" 6/ 36.
عياض وغيره، كذا بالرفع فيهما، على أنه مبتدأ وخبر، وفيه حَذْف تقديره: وصُنع الله خير، قال السهيليّ: معناه: رأيت بقرًا تُنحر، والله عنده خير، وفي رواية ابن إسحاق:"وإني رأيت والله خيرًا، رأيت بقرًا"، وهي أوضح، والواو للقَسَم، و"اللهِ" بالجرّ، و"خيرًا" مفعول "رأيت"، وقال السهيليّ: البقر في التعبير بمعنى رجال متسلحين، يتناطحون، وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيه نظرٌ، فقد رأى المَلِك بمصر البقر، وأوَّلَها يوسف عليه السلام بالسنين.
وقد وقع في حديث ابن عباس، ومرسل عروة:"تأولتُ البَقَر التي رأيت بَقْرًا يكون فينا، قال: فكان ذلك من أصيب من المسلمين". انتهى.
وقوله: "بَقْرًا" هو بسكون القاف، وهو شقّ البطن، وهذا أحد وجوه التعبير أن يُشتقّ من الاسم معنى مناسب، ويمكن أن يكون ذلك لوجه آخر من وجوه التأويل، وهو التصحيف، فإن لفظ "بقَر" مثل لفظ "نفر"، بالنون والفاء، خَطًّا.
وعند أحمد، والنسائيّ، وابن سعد من حديث جابر، بسند صحيح، في هذا الحديث: "ورأيت بَقَرًا مُنحرةً
(1)
" -وقال فيه-: "فأوَّلت أن الدرع المدينة، والبقر نفر"، هكذا فيه بنون وفاء، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، فالله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "كتاب التعبير": قوله: "ورأيت فيها بقرًا، والله خيرٌ"، ووقع في حديث جابر عند أحمد، والنسائيّ، والدارميّ، من رواية حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر، وفي رواية لأحمد:"حدّثنا جابر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرًا تُنْحَر، فأوَّلتُ الدرع الحصينة المدينة، وأن البقَر بَقْرٌ، والله خير"، وهذه اللفظة الأخيرة، وهي: بَقْر بفتح الموحدة، وسكون القاف، مصدر بَقَرَه يَبْقُره بَقْرًا، ومنهم من ضبطها بفتح النون، والفاء. ولهذا الحديث سبب جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضًا،
(1)
هكذا "منحرة"، وليُنظر هل ثبت أنحر رباعيًّا؟ فإني لم أره في "القاموس"، ولا في "المصباح"، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 9/ 158، كتاب "المغازي" رقم (4081).
والنسائيّ، والطبرانيّ، وصححه الحاكم، من طريق أبي الزناد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أُحد، وإشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليهم أن لا يَبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج لطلب الشهادة، ولُبْسه اللأْمَة، وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبيّ إذا لبس لَأمته أن يضعها، حتى يقاتل -وفيه- إني رأيت أني في درع حصينة
…
" الحديث بنحو حديث جابر، وأتم منه.
قال: وقد ذَكر أهل التعبير للبقر في النوم وجوهًا أخرى، منها: أن البقرة الواحدة تفسَّر بالزوجة، والمرأة، والخادم، والأرض، والثورُ يفسر بالثائر؛ لكونه يُثير الأرض، فيتحرك عاليها وسافلها، فكذلك من يثور في ناحية لطلب ملك، أو غيره، ومنها: أن البقر إذا وَصَلت إلى بلد، فإن كانت بَحْرية فُسِّرت بالسفن، وإلا فبعسكر، أو بأهل بادية، أو يُبْس يقع في تلك البلد. انتهى
(1)
.
(فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذين قُتلوا (يَوْمَ أُحُدٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون أخذ النفر من لفظ: بقر -مصحّفًا-؛ إذ لفظهما واحد، وليس بينهما إلا اختلاف النقط، فيكون هذا تنبيهًا على طريق خامس في طرق العبارة المتقدِّمة، ويَحْتَمِل أن يكون أخذ ذلك من أن الرجال المقاتِلة في الحرب يُشبَّهون بالبقر؛ لِمَا معها من أسلحتها التي هي قرونها، ولمدافعتها بها، ومناطحتها بعضها لبعضٍ بها، وقد كانت العرب تستعمل القرون في الرماح عند عدم الأسنّة، والله تعالى أعلم، وكأنّ هؤلاء المؤمنين الذين عَبّر عنهم بالبقر غير المؤمنين الذين عبَّر عنهم بصدر السيف، فكأن أولئك صدر الكتيبة، وهؤلاء مقاتلتها، والكل من خير الشهداء، وأفضل الفضلاء. انتهى
(2)
.
(وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعدَ أُحُد.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هكذا صحَّت الرواية بضم "بعدُ" على قَطْعه عن الإضافة، ويعني به: ما أصيبوا به يوم أُحد، والعامل فيه "جاء"، و"الخير" هو
(1)
"الفتح" 16/ 391 - 392، كتاب "التعبير" رقم (7035).
(2)
"المفهم" 6/ 37 - 38.
الذي ذكرناه آنفًا. انتهى
(1)
.
(وَثَوَابُ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللهُ بَعْدُ) بالضمّ؛ لِمَا ذُكر. (يَوْمَ بَدْرٍ) بنصب "يوم" على الظرفيّة، ويَحتمل أن يكون "بعدَ" مضافًا إلى "يوم بدر".
وقال القرطبيّ رحمه الله: كذا صحت الرواية: "بعدَ" منصوبًا على الظرف المعرب المضاف إلى "يوم بدر"، أو العامل فيه:"آتانا"، فهذان أمران مختلفان، أوتيهما في وقتين مختلفين، أحدهما: بعد أُحد، والثاني: بعد بدر؛ مع أنهما مُرَتَّبان على ما جرى في أُحُد، فيستحيل أن يكون يوم بدر هنا هو يوم غزوة بدر الكبرى؛ لتقدُّم بدر الكبرى على أُحد بزمان طويل؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الأُولى في شهر رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة، وكانت أُحُد في السنة الثالثة في النصف من شوَّالها، ولذلك قال علماؤنا: إن يوم بدر في هذا الحديث هو يوم بدر الثاني، وكان من أمرها: أن قريشًا لمّا أصابت في أُحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أصابت، وأخذوا في الرُّجوع نادى أبو سفيان يُسمِعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: موعدكم يوم بدر في العام المقبل، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه أن يجيبه بنعم، فلمَّا كان العام المقبل -وهي السنة الرابعة من الهجرة-؛ خرج في شَعبانها إلى بدر الثانية، فوصل إلى بدر، وأقام هناك ينتظر أبا سفيان، وخرج أبو سفيان في أهل مكة حتى بلغ عسفان، ثمَّ إنهم غلبهم الخوف، فرجعوا، واعتذروا بأن العام عام جدب، وكان عذرًا محتاجًا إلى عذر، فأخزى الله المشركين، ونصر المؤمنين، ثمَّ: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل منصورًا، وبما يفتح الله عليه مسرورًا، إلى أن أظهر الله تعالى دينه على الأديان، وأخمد كلمة الكفر والطغيان. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": المراد بما بعد يوم بدر: فتحُ خيبر، ثم مكة؛ أي: ما جاء الله به بعد بدر الثانية، من تثبيت قلوب المؤمنين، قال الكرمانيّ: ويَحْتَمِل أن يراد بالخير: الغنيمة، وبعدُ؛ أي: بعد الخير، والثوابُ والخيرُ حصلا في يوم بدر.
قال الحافظ: وفي هذا السياق إشعار بأن قوله في الخبر: "والله خير" من
(1)
"المفهم" 6/ 38.
(2)
"المفهم" 6/ 38 - 39.
جملة الرؤيا، والذي يظهر لي أن لفظه لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هي المحررة، وأنه رأى بقرًا، ورأى خيرًا، فأَوَّلَ البقر على من قُتل من الصحابة يوم أُحد، وأَوَّلَ الخير على ما حَصَل لهم من ثواب الصدق في القتال، والصبر على الجهاد يوم بدر، وما بعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأُحد، نبَّه عليه ابن بطال.
ويَحْتَمِل أن يريد ببدر بدر الموعد، لا الوقعة المشهورة السابقة على أحد، فإن بدر الموعد كانت بعد أُحُد، ولم يقع فيها قتال، وكان المشركون لمّا رجعوا من أُحد قالوا: موعدكم العام المقبل بدر، فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن انتدب معه إلى بدر، فلم يحضر المشركون، فسُمّيت بدر الموعد، فأشار بالصدق إلى أنهم صدقوا الوعد، ولم يُخْلِفوه، فأثابهم الله تعالى على ذلك بما فَتح عليهم بعد ذلك، من قريظة، وخيبر، وما بعدها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5919](2272)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3622 و 3987) و"المغازي"(4081) و"التعبير"(7035 و 7041)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 389)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3921)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 129)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6275 و 6276)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 283)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3296)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الرؤيا، وشدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأنها.
2 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن هذه الرؤيا وقعت
(1)
"الفتح" 16/ 391 - 392، كتاب "التعبير" رقم (7035).
له صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة قبل الهجرة، وأن الله تعالى أطلعه بها على ما يكون من حاله، وحال أصحابه يوم أُحد، وبأنهم يصاب من صدورهم معه، وأن الله تعالى يُثَبِّتهم بعد ذلك، ويَجمع كلمتهم، ويقيم أمرهم، ويعزُّ دينهم، وقد كمَّل الله تعالى له ذلك بعد بدر الثانية، وهي المرادة في هذا الحديث. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: ففيه ما يدلّ على أن الرؤيا قد تقع موافقة لظاهرها من غير تأويل، وأن الرؤيا قبل وقوعها لا يقطع الإنسان بتأويلها، وإنما هو ظنّ، وحدس؛ إلا فيما كان منها وحيًا للأنبياء، كما وقع لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله لابنه:{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} الآية [الصافات: 102]، فإنَّ ذلك لا يكون إلا عن يقين يحصل لهم قطعًا، خلافًا لمن قال من أهل البدع إن ذلك منه كان ظنًّا وحسبانًا، وهو قول باطل؛ لأنَّه لم يكن ليُقْدِم على معصوم الدم -قطعًا- محبوبٍ شرعًا وطبعًا بمنام لا أصل له ولا تحقيق فيه. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): بيان ما ابتلى الله عز وجل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في أول الأمر بالمشركين، ثم كانت لهم العاقبة المحمودة، ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنّة.
5 -
(ومنها): ما قال المهلَّب رحمه الله: هذه الرؤيا من ضرب المَثَل، ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عَبَّر عن السيف بهم، وبهزّه عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وفي الهزة الأخرى لمّا عاد إلى حالته من الاستواء عَبّر به عن اجتماعهم، والفتح عليهم، ولأهل التعبير في السيف تصرف على أوجه، منها: أن من نال سيفًا، فإنه ينال سلطانًا، إما ولايةً، وإما وديعةً، وإما زوجةً، وإما ولدًا، فإن سلّه من غمده، فانثلم سَلِمت زوجته، وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد، وسَلِم السيف فبالعكس، وإن سَلِما، أو عَطِبا فكذلك، وقائم السيف يتعلق بالأب، والعصبات، ونَصْله بالأمّ، وذوي الرحم، وإن جَرّد السيف، وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومه، وربما عُبِّر السيف بسلطان جائر. انتهى، ملخصًا.
(1)
"المفهم" 6/ 35.
(2)
"المفهم" 6/ 35 - 36.
وقال بعضهم: من رأى أنه أغمد السيف، فإنه يتزوج، أو ضرب شخصًا بسيف، فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر، وسيفه أطول من سيفه، فإنه يغلبه، ومن رأى سيفًا عظيمًا فهي فتنة، ومن قُلِّد سيفًا قُلّد أمرًا، فإن كان قصيرًا لم يَدُم أمره، وإن رأى أنه يجرّ حمائله، فإنه يعجز عنه، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5920]
(2273 و 2274) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ الأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ تَبِعْتُهُ، فَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدَةٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، قَالَ:"لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ أَتَعَدَّى أَمْرَ اللهِ فِيكَ، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ، وَإِنِّي لأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ، وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي"، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ
(2)
أَرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ"، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ
(3)
مِنْ ذَهَبٍ، فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِي إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي
(4)
، فَكَانَ أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيَّ، صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةَ، صَاحِبَ الْيَمَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) بن عسكر التميميّ مولاهم، أبو بكر البخاريّ،
نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.
(1)
"الفتح" 16/ 399 - 400، كتاب "التعبير" رقم (7041).
(2)
وفي نسخة: "إني لأراك الذي".
(3)
وفي نسخة: "أسوارين".
(4)
وفي نسخة: "يخرجان بعدي".
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ -بفتح الموحدة، وسكون الهاء- الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي حُسَيْنٍ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفَل المكيّ النوفليّ، ثقةٌ عالم بالمناسك [5](ع) تقدم في "الحج" 36/ 3058.
5 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، وأبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 482.
6 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وترجمان القرآن، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث النوفليّ، تابعيّ صغيرٌ، مشهورٌ، نُسِب هنا لجدّه. (حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال، (مُسَيْلِمَةُ) بضمّ الميم، وكسر اللام، تصغير مَسْلَمَةَ، وقال في "الفتح": ومُسيلِمة -مصغرٌ، بكسر اللام- ابن ثُمامة بن كبير -بموحدة- ابن حبيب بن الحارث، من بني حَنِيفة، قال ابن إسحاق: ادَّعَى النبوة سنة عشر، وزعم وَثِيمة في "كتاب الرِّدّة" أن مسيلمة لقب، واسمه ثُمامة، وفيه نظر؛ لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظًا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه.
وسياق هذه القصة يخالف ما ذكره ابن إسحاق أنه قَدِم مع وفد قومه،
وأنهم تركوه في رحالهم يحفظها لهم، وذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا منه جائزته، وأنه قال لهم: إنه ليس بشرّكم، وأن مسيلمة لمّا ادَّعَى أنه أُشرك في النبوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج بهذه المقالة، وهذا مع شذوذه ضعيف السند؛ لانقطاعه، وأمْر مسيلمة كان عند قومه أكثر من ذلك، فقد كان يقال له: رحمان اليمامة؛ لِعِظَم قَدْره فيهم، وكيف يلتئم هذا الخبر الضعيف، مع قوله في هذا الحديث الصحيح: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم اجتَمَع به، وخاطبه، وصرح له بحضرة قومه أنه لو سأله القطعة الجريدة ما أعطاه؟
ويَحْتَمِل أن يكون مسيلمة قَدِم مرتين
(1)
: الأولى كان تابعًا، وكان رئيس بني حنيفة غيره، ولهذا أقام في حفظ رحالهم، ومرةً متبوعًا، وفيها خاطبه النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو القصة واحدة، وكانت إقامته في رحالهم باختياره؛ أَنَفَةً منه، واستكبارًا أن يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعامله النبيّ صلى الله عليه وسلم معاملة الكَرَم على عادته في الاستئلاف، فقال لقومه:"إنه ليس بشرّكم"؛ أي: بمكان؛ لكونه كان يحفظ رحالهم، وأراد استئلافه بالإحسان بالقول والفعل، فلما لم يُفِد في مسيلمة توجَّه بنفسه إليهم؛ ليقيم عليهم الحجة، ويَعْذِر إليه بالإنذار، والعلم عند الله تعالى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: مسيلمة هذا هو: ابن ثُمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن عثمان بن الحارث بن ذُهل بن الذُّؤل بن حنيفة. قال ابن إسحاق: وكان من شأنه: أنه تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر، وكان يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويزعم: أنَّه شريك معه في نبوَّته. وقال سعيد بن المسيِّب: إنه كان قد تسمَّى بالرحمن قبل أن يولد عبد الله بن عبد المطلب -أبو النبيّ-صلى الله عليه وسلم وأنَّه قُتل وهو ابن خمسين ومائة سنة. قال سعيد بن جبير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، قالت قريش: إنما يعني: مسيلمة. قال ابن إسحاق: وإنَّه تسارع إليه بنو حنيفة، وإنَّه بعث برجلين من قومه بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
(1)
سيأتي في كلام القرطبيّ ترجيح قدومه مرّة واحدة. فتنبّه.
(2)
"الفتح" 9/ 522، كتاب "المغازي" رقم (4373).
مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني أُشركت معك في الأمر، فلي نصف الأرض، ولك نصفها، ولكن قريش قومٌ لا يعدلون. فلمَّا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب؛ قال للرَّسولين:"ما تقولان أنتما؟ " قالا: نقول ما قال صاحبنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لولا أن الرُّسل لا تُقتل، لقتلتكما"، ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتَّبع الهدى، أما بعد: فـ {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] "، فلما انتهى الكتاب إليه انكسر بعض الانكسار، وقالت بنو حنيفة: لا نرى محمدًا أقرَّ بشركة صاحبنا في الأمر.
قال ابن إسحاق: تنبأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيلمة، وصاحب صنعاء: الأسود بن عزة العنسيّ، وطُليحة، وسَجَاح التميمية جاءت إلى مسيلمة، فقالت له: ما أُوحي إليك؟ قال: أوحي إلي: ألم تر إلى ربِّك كيف خلق الْحُبلى، أخرج منها نسمةً تسعى بين صفاقٍ وحشًا، قالت: وماذا؟ فقال: ألم تر أن الله خلق للنساء أفراجًا، وخلق الرجال لهن أزواجًا، فيولج فيهنَّ قَعْسًا إيلاجًا، ثمَّ يخرجه إذا استمنى إخراجًا، فقالت: أشهد أنَّك نبي! قال: هل لك أن أتزوَّجك، فآكل بقومي وقومك العرب؟ فتزوَّجته، فنادى مناديها: ألا إنَّا أصبنا الدِّين في بني حنيفة. ونادى منادي بني حنيفة: ألا إن نبيَّنا تزوج نبيتكم، وقالت له: يا أبا ثمامة! ضع عن قومي هاتين الطويلتين؛ صلاة الفجر، وصلاة العشاء الآخرة، فخرج مناديه فنادى بذلك، فقال شيخ من بني تميم: جزى الله أبا ثمامة عنا خيرًا، فوالله: لقد كاد ثقلهما علينا يوتغنا
(1)
عن ديننا.
قال غير ابن إسحاق: ولمّا استفحل أمر مسيلمة قَدِم المدينة في بَشَر كثير، ونزل على عبد الله بن أُبيّ، فجاءه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس، وفي غير حديث ابن عباس: أن مسيلمة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديث آخر: مسيلمة كان في ظَهْر القوم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل عنه.
قال القرطبيّ: فَيَحْتَمِل أن يكون هذا اختلاف أحوال في قَدْمةٍ واحدة
(1)
الْوَتَغُ: الإثم، وفساد الدين.
قَدِمها مسيلمة المدينة، وعند بلوغ قدومه النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل عنه، ثمَّ بعد ذلك جاء كل واحد منهما إلى الآخر، فاجتمعا في موضع غير موضعيهما، وهذا الاحتمال أقرب من احتمال أن يكون مسيلمة قدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات.
ثم إن مسيلمة رجع إلى اليمامة على حالته تلك، إلى أن توفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعَظُم أمر مسيلمة، وأطبق أهل اليمامة عليه، وارتدُّوا عن الإسلام، وانضاف إليهم بشرٌ كثير من أهل الردَّة، وقويت شوكتهم، فكاتبهم أبو بكر الصديق كُتبًا كثيرة يَعِظهم، ويُذَكِّرهم، ويحذّرهم، ويُنذرهم إلى أن بعث لهم كتابًا مع حبيب بن عبد الله الأنصاريّ، فقتله مسيلمة، فعند ذلك عزم أبو بكر رضي الله عنه على قتالهم والمسلمون، فأَمَّر أبو بكر خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وتجهز الناس، وعقد الراية لخالد، وصاروا إلى اليمامة، فاجتمع لمسيلمة جيش عظيم، وخرج إلى المسلمين، فالتقوا، وكانت بينهم حروب عظيمة لم يُسمع بمثلها، واستُشهِد فيها من قرَّاء القرآن خَلْق كثير، حتى خاف أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما أن يذهب من القرآن شيء لكثرة من قُتل هناك من القراء، ثم إن الله تعالى ثبَّت المسلمين، وقتل الله تعالى مسيلمة اللعين على يدي وحشيّ قاتل حمزة، ورماه بالحربة التي قتل بها حمزة، ثم دفَّف
(1)
عليه رجل من الأنصار، فاحتزَّ رأسه، وهزم اللهُ جيشَه، وأهلكهم، وفتح اللهُ اليمامة، فدخلها خالد، واستولى على جميع ما حوته من النساء، والولدان، والأموال، وأظهر الله الدين، وجعل العاقبة للمتقين، فالحمد لله الذي صَدَقنا وعده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيءَ بعده، وإنما جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة؛ ليبلّغه الدعوة، وليسمع قولَه بالمشافهة. انتهى
(2)
.
وقوله: (الْكَذَّابُ) صيغة مبالغة صفة لِمُسيلمة، وُصف به لمبالغته في الكذب حيث ادّعى النبوّة (عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في زمنه، (الْمَدِينَةَ) النبويّة، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وأخذ (يَقُولُ: إِنْ جَعَلَ لِي مُحَمَّدٌ) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (الأَمْرَ)؛ أي: الخلافة (مِنْ بَعْدِهِ)؛ أي: بعد موته صلى الله عليه وسلم، (تَبِعْتُهُ) بفتح
(1)
أي: جرحه جرحًا مميتًا، وأجهز عليه.
(2)
"المفهم" 6/ 39 - 42.
أوله، وكسر ثالثه، من باب تَعِب، (فَقَدِمَهَا)؛ أي: المدينة، (فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ)"في" بمعنى "مع"، كما في قوله تعالى:{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ} [الأعراف: 38].
قال في "الفتح": قوله: "وقَدِمها في بَشَر كثير" ذكر الواقديّ كما تقدم أن عدد من كان مع مسيلمة من قومه سبعة عشر نفسًا، فيَحْتَمِل تعدد القدوم، كما تقدم. انتهى
(1)
.
(مِنْ قَوْمِهِ) هم بنو حنيفة، (فَأَقْبَلَ)؛ أي: توجّه (إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) قال العلماء: إنما أتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم تأليفًا له، ولقومه؛ رجاء إسلامهم، وليبلغ ما أنزل إليه، قال القاضي عياض: ويَحْتَمِل أن سبب مجيئه إليه أن مسيلمة قصده من بلده للقائه، فجاءه مكافأة له، قال: وكان مسيلمة إذ ذاك يُظهر الإسلام، وإنما ظهر كفره، وارتداده بعد ذلك، قال: وقد جاء في حديث آخر أنه هو أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فَيَحْتَمِل أنهما مرتان. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شَمّاس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج الأنصاريّ الخزرجيّ، خطيب الأنصار.
رَوَى ابن السَّكَن من طريق ابن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: خطب ثابت بن قيس مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فقال: نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، وأولادنا، فما لنا؟ قال:"الجنة"، قالوا: رَضِينا.
وقال جعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس: كان ثابت بن قيس خطيب الأنصار، يكنى أبا أحمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، لم يذكره أصحاب المغازي في البدريين، وقالوا: أول مشاهده أُحُدٌ، وشَهِد ما بعدها، وبشّره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنة في قصة شهيرة، رواها موسى بن أنس، عن أبيه، أخرج أصل الحديث مسلم، وفي الترمذيّ بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"نِعْم الرجل ثابت بن قيس"، وفي البخاريّ مختصرًا، والطبرانيّ مطوّلًا، عن أنس، قال: لمّا انكشف الناس يوم اليمامة، قلت لثابت بن قيس: ألا ترى يا عمّ، ووجدته
(1)
"الفتح" 9/ 522، كتاب "المغازي" رقم (4373).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 33.
يتحنط، فقال: ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئسما عوّدتم أقرانكم، اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ومما صنع هؤلاء، ثم قاتل حتى قُتل، وكان عليه دِرْعٌ نفيسةٌ، فمرّ به رجل مسلم، فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم، أتاه ثابت في منامه، فقال: إني أوصيك بوصية، فإياك أن تقول: هذا حُلُم، فتضيّعه، إني لما قُتلت أخذ درعي فلان، ومنزله في أقصى الناس، وعند خبائه فرس تستنّ، وقد كفأ على الدرع بُرْمَةً، وفوقها رَجْل، فائت خالدًا، فمُرْه، فليأخذها، وليقل لأبي بكر: إن عليّ من الدَّين كذا وكذا، وفلان عتيق، فاستيقظ الرجل، فأتى خالدًا، فأخبره، فبعث إلى الدرع، فأُتي بها، وحَدَّث أبا بكر برؤياه، فأجاز وصيته. ورواه البغويّ من وجه آخر، عن عطاء الخراسانيّ، عن بنت ثابت بن قيس، مطوّلًا، ذَكَره في "الإصابة"
(1)
، له في البخاريّ حديث واحد، وهو القصّة المذكورة، وليس له عند مسلم إلا ذِكر فقط.
وقوله: (وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قِطْعَةُ جَرِيدَةٍ) جملة حاليّة أيضًا، و"الجريدة" بفتح الجيم، وكسر الراء: فعلية بمعنى مفعولة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجريد: سَعَفُ النخل، الواحدة جريدة، فعِيلة بمعنى مفعولة، وإنما تُسمَّى جَرِيدةً: إذا جُرّد عنها خُوصها. انتهى
(2)
. (حَتَّى وَقَفَ) صلى الله عليه وسلم (عَلَى مُسَيْلِمَةَ فِي أَصحَابِهِ)؛ أي: في جملتهم، أو معهم. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا سأله أن يجعل له الأمر من بعده ("لَوْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا، وَلَنْ أَتَعَدَّى أَمْرَ اللهِ فِيكَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في جميع نُسخ مسلم، ووقع في البخاريّ:"ولن تَعْدُو أمر الله فيك"، قال القاضي عياض: هما صحيحان، فمعنى الأول لن أَعْدُوَ أنا أمر الله فيك، من أني لا أجيبك إلى ما طلبته، مما لا ينبغي لك، من الاستخلاف، أو المشاركة، ومِن أني أُبَلِّغ ما أُنزل إليّ، وأدفع أمرك بالتي هي أحسن، ومعنى الثاني: ولن تعدو أنت أمر الله في خيبتك فيما أَمَلْته، من النبوة، وهلاكك دون ذلك، أو فيما سبق من قضاء الله تعالى وقَدَره في شقاوتك، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 395.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 96.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 33، و"إكمال المعلم" 7/ 233.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم "ولن أتعدَّى أمر الله فيك" كذا في جميع نُسخ كتاب مسلم، وفي البخاري:"ولن تعدوَ أمر الله فيك"، وكلاهما صحيح، ومعنى الأول: أن الله تعالى أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يغلِّظ القولَ لمسيلمة، وأن يُصرِّح بتكذيبه، وأن يخبره بأنه لا يَبْلغ أَمَله مما يريده من التشريك في الرسالة، ولا في الأرض، فلم يتعدَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ إذ قد فعل كل ذلك. ويَحْتَمِل أن يريد بالأمر: ما كتب الله تعالى عليه من الشِّقوة، وما وَسَمه به من الكذب والتكذيب، والأفعال القبيحة؛ أي: لا أقدر أن أردَّ ما كتب الله عليك من ذلك؛ غير أن هذا المعنى أظهر من لفظ البخاريّ منه من لفظ كتاب مسلم. انتهى
(1)
.
(وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ)؛ أي: خالفت الحقّ، (لَيَعْقِرَنَّكَ اللهُ) بالقاف؛ أي: ليُهلكنّك الله؛ أي: إن أدبرت عن طاعتي ليقتلنّك الله، والعَقْر: القتل، {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} [الأعراف: 77]: قتلوها، وقتله الله تعالى يوم اليمامة، وهذا من معجزات نبوة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وصحّة رسالته.
(وَإِنِّي لأُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية "لأراك" بضم الهمزة، بمعنى أظنك، على ما قد حصل لهذه الصيغة من غلبة عُرف الاستعمال، وقد قررنا: أن أصل "أُرَى" من "رَأَى"؛ بمعنى: عَلِم، أو أبصر، أُدخلت عليه همزة التعدية، وبُنِيَت لِمَا لم يُسَمَّ فاعله، وعلى هذا فيصح أن تكون هنا بمعنى العلم، فيكون معناه: إني لأعلم أنك الذي أريت فيه ما أريت، وهذا أَولى بحال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ رؤياه حقّ، وتأويله لا يجوز عليه الغلط، بخلاف غيره، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ) بضمّ أوله، وكسر الراء، يأتي شرحه في كلام ابن عبّاس رضي الله عنهما. (وَهَذَا ثَابِتٌ يُجِيبُكَ عَنِّي")؛ أي: لأنه كان خطيب الأنصار، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم، فاكتفى بما قاله لمسيلمة، وأعلمه أنه إن كان يريد الإسهاب في الخطاب، فهذا الخطيب يقوم عني في ذلك، ويؤخذ منه استعانة الإمام بأهل البلاغة في جواب أهل العناد، ونحو ذلك.
(1)
"المفهم" 6/ 42.
(2)
"المفهم" 6/ 43.
قال النوويّ: قال العلماء: كان ثابت بن قيس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجاوب الوفود عن خطبهم، وتشدّقهم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "وهذا ثابت يجيبك عني" يعني: ثابت بن قيس بن شماس، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وجد على مسيلمة في نفسه، فأعرض عنه إعراض المحتقر له، المصغِّر لشأنه، وأحال على ثابت؛ لعلمه بأنه يقوم عنه بجواب كل ما يسألونه عنه؛ إذ كان من أفضل الناس، وأكملهم عقلًا، وأفصحهم لسانًا، وكان مع ذلك جَهْوَريّ
(1)
الصوت، حسن النغمة، فكان يقوم بالحجة، ويبالغ في إيراد الخطبة. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَنْهُ)؛ أي: عن مسيلمة، (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن تفسيره، ("إِنَّكَ
(3)
أُرَى الَّذِي أُرِيتُ فِيكَ مَا أُرِيتُ"، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ)، وفي بعض النسخ:"إسوارين"، قال في "الفتح": قوله: "إسواران" بكسر الهمزة، وسكون المهملة: تثنية إسوار، وهي لغة في السِّوَار، والسوار بالكسر، ويجوز الضم، والأُسوار أيضًا صفة للكبير من الفُرْس، وهو بالضم، والكسر معًا، بخلاف الإسوار من الحلي، فإنه بالكسر فقط. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بالكسر فقط" فيه نظر؛ لأنه سيأتي في عبارة "التاج" أن فيه الكسر، والضمّ، فتنبّه.
وقال القرطبيّ: السوار: ما تجعله المرأة في ذراعيها، مما تتحلَّى به من الذهب والفضة، وفيه ثلاث لغات: كسر السين، وضمّها، وبهمزة مضمومة، فيقال: أُسوار، ويجمع أساورة، فأمَّا أساورة الفُرْسِ فقُوَّادهم. انتهى.
وقال في "التاج": السّوَارُ ككِتَابٍ، وغُرَابٍ: القُلْبُ -بضمّ، فسكون- كالأُسْوارِ بالضَّمِّ، ونُقل عن بعضهم الكسر أيضًا، والكلُّ مُعَرَّب دستوار بالفَارسِية، وقد استعمَلَتْه العربُ، وهو ما تَسْتعمله المرأَةُ في يَدَيْهَا، جَمْعه
(1)
الْجَهْوريّ: هو الصوت العالي. اهـ. "تاج العروس".
(2)
"المفهم" 6/ 43.
(3)
وفي نسخة: "إني لأراك الذي".
أَسْوِرَةٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ أَساوِرُ، وأَسَاوِرَةٌ جمع أُسْوار. انتهى
(1)
.
(مِنْ ذَهَبٍ)"من" لبيان الجنس؛ لقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21]، ووَهِم من قال: الأساور لا تكون إلا من ذهب، فإن كانت من فضة فهي القُلْب، قاله في "الفتح".
(فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا)؛ لأنهما من حلية النساء، ومما يحرم على الرجال، وفي رواية:"فكَبُرا عليّ"، وفي رواية للبخاريّ:"ففظعتهما، وكرهتهما"، وهو بفاء، وظاء مشالة، مكسورة، بعدها عين مهملة، يقال: فَظُع الأمرُ، فهو فَظِيع: إذا جاوز المقدار، قال ابن الأثير: الفظيع الأمر الشديد، وجاء هنا متعديًا، والمعروف: فَظِعت به، وفَظِعت منه، فيَحْتَمِل التعدية على المعنى؛ أي: خِفتهما، أو معنى فظعتهما: اشتدّ عليّ أمرهما. (فَأُوحِي) بالبناء للمفعول، (إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ) قال القرطبيّ: ظاهره: أن هذا وحي من جهة المَلَك على غالب عادته، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك إلهامًا. انتهى
(2)
.
وقوله: (أَنِ) هي المفسّرة، (انْفُخْهُمَا) بالخاء المعجمة، (فَنَفَخْتُهُمَا، فَطَارَا) نَفْخه صلى الله عليه وسلم إياهما، فطارا دليل لانمحاقهما، واضمحلال أمرهما، وكان كذلك، وهو من المعجزات.
(فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي) وفي بعض النسخ: "بعدي"؛ أي: بعد موتي، قال النوويّ: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرجان بعدي"؛ أي: يُظهران شوكتهما، أو محاربتهما، ودعواهما النبوة، وإلا فقد كانا في زمنه صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يخرجان بعدي"؛ أي: يظهران، ويغلبان بعد موتي، وإلا فقد كانا موجودين في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد دلَّ على هذا قوله في الرواية الأخرى:"فأوَّلتهما الكذَّابَيْن اللذين أنا بينهما"، ووجه مناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء، وأهل اليمامة كانا قد أسلما، وكانا كالسَّاعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما هذان الكذَّابان، وتبهرجا لهما بترَّهاتهما، وزَخرفا أقوالهما، فانخدع الفريقان بتلك البهرجة، فكان البلدان للنبيّ صلى الله عليه وسلم بمنزلة يديه؛ لأنَّه كان يعتضد بهما، والسِّواران فيهما هما: مسيلمة، وصاحب
(1)
"تاج العروس" 1/ 2975.
(2)
"المفهم" 6/ 43 - 44.
صنعاء بما زَخْرفا من أقوالهما، ونَفْخُ النبيّ صلى الله عليه وسلم هو أن الله أهلكهما على أيدي
أهل دينه، كما ذكرناه. انتهى
(1)
.
(فَكَانَ أَحَدُهُمَا)؛ أي: الكذّابين، (الْعَنْسِيِّ) بسكون النون، وحَكَى ابن التين جواز فتحها، قال الحافظ: ولم أر له في ذلك سلفًا، وقوله:(صَاحِبَ صَنْعَاءَ) صفة لـ "العنسيّ"؛ أي: الذي غلب على صنعاء البلد المعرف باليمن.
والعنسي هذا هو الأسود، واسمه عَبْهلة بن كعب، وكان يقال له أيضًا: ذو الخمار، بالخاء المعجمة؛ لأنه كان يُخَمِّر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وكان الأسود قد خرج بصنعاء، وادَّعَى النبوة، وغَلَب على عامل صنعاء المهاجر بن أبي أمية، ويقال: إنه مَرّ به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادَّعَى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئًا، فقام.
وروى يعقوب بن سفيان، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريقه، من حديث النعمان بن بُزْرُج -بضم الموحدة، وسكون الزاي، ثم راء مضمومة، ثم جيم- قال: خرج الأسود الكذاب، وهو من بني عَنْس -يعني: بسكون النون- وكان معه شيطانان، يقال لأحدهما: سُحَيق -بمهملتين، وقاف، مصغرًا- والآخر شُقَيق -بمعجمة، وقافين، مصغرًا- وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، وكان باذان عامل النبيّ صلى الله عليه وسلم بصنعاء، فمات، فجاء شيطان الأسود، فأخبره، فخرج في قومه حتى ملك صنعاء، وتزوج المرزبانة زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها دادويه، وفيروز، وغيرهما، حتى دخلوا على الأسود ليلًا، وقد سقته المرزبانة الخمر صِرْفًا، حتى سَكِر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار، حتى دخلوا، فقتله فيروز، واحتَزّ رأسه، وأخرجوا المرأة، وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافى بذلك عند وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال أبو الأسود، عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بيوم وليلة، فأتاه الوحي، فأخبر به أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 43 - 44.
(2)
"الفتح" 9/ 527 - 528، كتاب "المغازي" رقم (4378).
(وَالآخَرُ مُسَيْلِمَةَ) الكذّاب الذي تقدّمت ترجمته، (صَاحِبَ الْيَمَامَةِ") البلدة المعروفة، وقد تقدّم بيانها قريبًا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5920](2273)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3620 و 3621) و"المغازي"(4373 و 4374 و 4378 و 4379) و"التوحيد"(7461)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2292)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 389)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6654)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 440)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 175)، و"دلائل النبوّة"(5/ 334 و 335)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3297)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الإمام يأتي بنفسه إلى من قَدِم يريد لقاءه من الكفار، إذا تعيَّن ذلك طريقًا لمصلحة المسلمين.
2 -
(ومنها): أن فيه منقبةً للصدِّيق رضي الله عنه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السّوارين بنفسه، حتى طارا، فأما الأسود فقُتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتله أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقام مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك.
3 -
(ومنها): بيان فضيلة ثابت بن قيس رضي الله عنه، حيث أقامه النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامه في محاورة مسيلمة الكذّاب، وكان خطيب الأنصار قبل الإسلام، ثم كان خطيبه صلى الله عليه وسلم إذا قدِم الوفود، وهو الذي بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنّة.
4 -
(ومنها): أن السوار، وسائر آلات أنواع الحلي اللائقة بالنساء تُعَبّر للرجال بما يسوؤهم، ولا يسرّهم.
5 -
(ومنها): بيان معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أنه نفخهما، فطارا، فلم يلبث حتى قُتل كلّ منهما، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5921]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ خَزَائِنَ الأَرْضِ، فَوَضَعَ فِي يَدَيَّ أُسْوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ، وَأَهَمَّانِي، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا، فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا، صَاحِبَ صَنْعَاءَ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذكروا في الباب، إلا همامًا، فتقدّم قبل أربعة أبواب.
وقوله: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ
…
إلخ) قد مرّ غير مرّة أن أصله "بين"، فأشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، وأنه ظرف مضاف إلى جملة "أنا نائم"، وقد تدخل عليها "ما"، فيقال:"بينما"، وقوله:"أنا" مبتدأ، و"نائم" خبره، وقوله:"أُتِيتُ خَزَائِنَ الأَرْضِ" ببناء الفعل للمفعول، وهو جواب "بينا"، وعامل فيه
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "فوضع في يديّ أسوارين" قال أهل اللغة: يقال: سُوار بكسر السين، وضمها، وأُسوار بضم الهمز، ثلاث لغات
(2)
، ووقع في جميع النسخ في الرواية الثانية:"أسوارين"، فيكون "وَضَعَ" بفتح الواو، والضاد، وفيه ضمير الفاعل؛ أي: وضع الآتي بخزائن الأرض في يديّ أسوارين، فهذا هو الصواب، وضَبَطه بعضهم:"فَوُضِعَ" بضم الواو، وهو ضعيف، لنصب "أسوارين"، وإن كان يتخرج على وجه ضعيف.
وقوله: (يَدَيَّ) هو بتشديد الياء، على التثنية
(3)
.
وقوله: (صَاحِبَ صَنْعَاءَ) هو الأسود الْعَنْسيّ، (وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ") هو مسيلمة الكذّاب، وتمام شرح الحديث تقدّم في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 86.
(2)
تقدّم أن فيه أربع لغات، يزاد على الثلاث كسر الهمزة، فتنبّه.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 34.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 5921](2274)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4375) و"التعبير"(7033 و 7034 و 7037)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 1591)، و (ابن ماجه) في "تعبير الرؤيا"(3922)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5811)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 319، 338 و 344)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6653)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 300)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 175)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3297)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5922]
(2275) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
2 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
3 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6](ت 170) بعدما اختَلَط، لكن لم يحدِّث في حال اختلاطه (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
4 -
(أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ) عمران بن مِلْحان -بكسر الميم، وسكون اللام، بعدها مهملة- ويقال: ابن تيم، مشهور بكنيته، وقيل غير ذلك في اسم أبيه، مخضرمٌ، ثقةٌ مُعَمَّر [2] مات سنة خمس ومائة، وله مائة وعشرون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.
5 -
(سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ) بن هلال الفَزَاريّ، حليف الأنصار، صحابيّ، مشهورٌ، له أحاديث، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه محمد بن بشّار أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد نظمتهم بقولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأَصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ البَارِعِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ ويَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزَيادٌ يُحْتَذَى
شرح الحديث:
(عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ) رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ من طريق عوف الأعرابيّ، قال:"حدّثنا أبو رجاء، حدّثنا سَمُرة بن جُندُب". (قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ) وفي رواية يزيد بن هارون عن أبي رجاء: "إذا صلى صلاة الغداة"، وذكر ابن أبي حاتم من طريق زيد بن علي بن الحسين بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا صلاة الفجر، فجلس
…
" الحديث بطوله نحو حديث سمرة، والراوي له عن زيد ضعيف، وأخرج أبو داود، والنسائيّ من حديث الأعرج، عن أبي هريرة: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاة الغداة يقول: هل رأى أحد الليلة رؤيا؟ "، وأخرج الطبرانيّ بسند جيد، عن أبي أمامة، قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح، فقال: إني رأيت الليلة رؤيا، هي حقّ، فاعقلوها"، فذكر حديثًا فيه أشياء، يُشْبِه بعضها ما في حديث سمرة، لكن يظهر من سياقه أنه حديث آخر، فإن في أوله: "أتاني رجل، فأخذ بيدي، فاستتبعني، حتى أتى جبلًا طويلًا وَعْرًا، فقال لي: ارْقَهْ، فقلت: لا أستطيع، فقال: إني سأسهله لك، فجعلتُ كلما وضعت قدمي وضعتها على درجة، حتى استويت على سواء الجبل، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء مُشَقَّقة أشداقهم، فقلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يقولون ما لا يعلمون
…
"
الحديث، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ)، أي: على الصحابة رضي الله عنهم (بِوَجْهِهِ) الشريف، (فَقَالَ:"هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا؟ ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم"البارحة"، وفيه دليل لجواز إطلاق البارحة على الليلة الماضية، وإن كان قبل الزوال، وقول ثعلب وغيره: إنه لا يقال: البارحة إلا بعد الزوال يَحْتَمِل أنهم أرادوا أن هذا حقيقته، ولا يمتنع إطلاقه قبل الزوال مجازًا، ويَحْمِلون الحديث على المجاز، وإلا فمذهبهم باطل بهذا الحديث. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَرِحَ الشيءُ يَبْرَح، من باب تَعِبَ بَرَاحًا: زال من مكانه، ومنه قيل لليلة الماضية: البَارِحَةَ، والعرب تقول قبل الزوال: فعلنا الليلةَ كذا؛ لِقُربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البَارِحَةَ. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "البارحة"؛ يعني به: الليلة البارحة؛ أي: الذاهبة، اسم فاعل من بَرَحَ الشيءُ: إذا ذهب. ومنه قولهم: برح الخفاء؛ أي: ذهب، وإذا دخل حرف النفي على برح صار من أخوات "كان" التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ووقع هذا اللفظ في غير كتاب مسلم:"هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا" بدل "البارحة"، واستَدَلَّ به بعض الناس على أن ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس هو من الليل، وليس بصحيح؛ لأنَّه: إنما أشار للَّيلة البارحة، لا للساعة الحاضرة، بدليل هذه الرواية الصحيحة التي قال فيها:"البارحة"، ومعناها: الماضية بالاتفاق، فكأنه قال: الليلة الماضية، أو المنصرمة، ولمّا كانت قريبة الانصرام أشار إليها، ولمّا كان هذا معلومًا اكتفي بذكر الليلة عن صفتها، ولمّا كانت "البارحة" صفة معلومة لليلة استعملها غير تابعة استعمالَ الأسماء، وكان الأصل الجمع بين التابع والمتبوع، فيقال: الليلة البارحة، لكن جاز ذلك، لِمَا ذكرناه. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 16/ 421، كتاب "التعبير" رقم (7047).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 35.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 42.
(4)
"المفهم" 6/ 29 - 30.
[تنبيه]: هذا الحديث اختصره مسلم، فإنه حديث طويل، وقد ساقه البخاريّ رحمه الله في "كتاب التعبير" من "صحيحه"، فقال:
(7047)
- حدّثنا مؤمَّل بن هشام أبو هشام، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدّثنا عوف، حدّثنا أبو رجاء، حدّثنا سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم-يعني- مما يُكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم من رؤيا؟ "، قال: فيَقُصّ عليه من شاء الله أن يقصّ، وإنه قال ذات غداة: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه، فيَثْلَغ
(1)
رأسه، فيتدهده الحجر، ها هنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل به مرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مُستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بِكَلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقّي وجهه، فيشرشر
(2)
شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: وربما قال أبو رجاء: فيشق، قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب، كما كان، ثم يعود عليه، فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التنُّور، قال: وأحسب أنه كان يقول: فإذا فيه لَغَطٌ وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عُراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوْا
(3)
، قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر، حسبت أنه كان يقول: أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة، فيفغر
(4)
له فاه،
(1)
أي: يشدخ رأسه، والشدخ الكسر.
(2)
أي: يُشقّ.
(3)
أي: رفعوا أصواتهم مختلطةً.
(4)
أي: يفتح.
فيلقمه حجرًا، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع إليه، فغر له فاه، فألقمه حجرًا، قال: قلت لهما: ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه الْمَرآة
(1)
؛ كأكره ما أنت راء رجلًا مَرآةً، فإذا عنده نار يَحُشّها
(2)
، ويسعى حولها، قال: قلت لهما: ما هذا؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة مُعْتِمَة
(3)
، فيها من كل لون الربيع، وإذا بين ظَهْري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولًا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قطّ، قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟ قال: قالا لي: انطلق، انطلق، قال: فانطلقنا، فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أر روضة قطّ أعظم منها، ولا أحسن، قال: قالا لي: ارْقَ فيها، قال: فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلَبِن ذهب، ولَبِن فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففُتح لنا، فدخلناها، فتلقّانا فيها رجال شَطْر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قال: قالا لهم: اذهبوا، فقَعُوا في ذلك النهر، قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض
(4)
في البياض، فذهبوا، فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قال: قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قال: فسما بصري صُعُدًا، فإذا قصر مثل الربابة
(5)
البيضاء، قال: قالا لي: هذاك منزلك، قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني، فأدخله، قالا: أمّا الآن فلا، وأنت داخله، قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أَمّا إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أَتيت عليه يُثْلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يُشَرْشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، وأما الرجال
(1)
أي: كريه المنظر.
(2)
أي: يوقدها.
(3)
أي: مخضرّة.
(4)
بالحاء المهملة: اللَّبَن الخالص من الماء.
(5)
السحابة.
والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور، فإنهم الزناة، والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يَسبح في النهر، ويُلقَم الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه الْمَرْآة الذي عند النار يَحُشّها، ويسعى حولها، فإنه مالك خازن جهنم، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الوِلدان الذين حوله، فكل مولود مات على الفطرة"، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين، وأما القوم الذين كانوا شطرًا منهم حسنٌ، وشطرًا منهم قبيحٌ، فإنهم قوم خلطوا عملًا صالِحًا، وآخر سيئًا تجاوز الله عنهم". انتهى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سمرة بن جُندب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5922](2275)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(845) و"الجنائز"(1386) و"التهجّد"(1143) و"البيوع"(2085) و"الجهاد"(2791) و"بدء الخلق"(3236) و"أحاديث الأنبياء"(3354) و "التفسير"(4674) و "الأدب"(6096) و "التعبير"(7047)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2295)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 391 و 6/ 358)، و (أحمد) في "مسنده"(8/ 5 و 9 و 10 و 14)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(942)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(655)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6984 و 6986 و 6990)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 187 و 188 و 5/ 275)، و"شُعَب الإيمان"(2/ 335)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2053)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب إقبال الإمام بعد سلامه على أصحابه.
2 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الإمام لا يمكث في موضع صلاته إذا
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2583 - 2585.
فرغ منها، وقد تقدَّم ذلك
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان صلى الله عليه وسلم يسألهم عن الرؤيا؛ لِمَا كانوا عليه من الصلاح، والصدق، فكان قد علم أن رؤياهم صحيحة، وأنها يستفاد منها الاطلاع على كثير من علم الغيب، وليبيّن لهم بالفعل الاعتناء بالرؤيا، والتشوُّف لفوائدها، وليعلّمهم كيفية التعبير، وليستكثر من الاطلاع على علم الغيب. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): بيان الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها، وفضل تعبيرها، واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح؛ لأنه الوقت الذي يكون فيه البال مجتمعًا، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب السؤال عن الرؤيا، والمبادرة إلى تأويلها، وتعجيلها أولَ النهار؛ لهذا الحديث، ولأن الذهن جَمْعٌ قبل أن يتشعب بأشغاله في معايش الدنيا، ولأن عهد الرائي قريب لم يطرأ عليه ما يهوش الرؤيا عليه، ولأنه قد يكون فيها ما يستحب تعجيله؛ كالحثّ على خير، أو التحذير من معصية، ونحو ذلك.
5 -
(ومنها): إباحة الكلام في العلم، وتفسير الرؤيا، ونحوهما بعد صلاة الصبح.
6 -
(ومنها): أن استدبار القبلة في جلوسه للعلم، أو غيره مباح، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": وفيه أن ترك استقبال القبلة للإقبال عليهم لا يُكره، بل يُشرع؛ كالخطيب. انتهى
(4)
.
7 -
(ومنها): أن فيه استقبالَ الإمام أصحابه بعد الصلاة، إذا لم يكن بعدها راتبةٌ، وأراد أن يعظهم، أو يفتيهم، أو يحكم بينهم. انتهى.
[خاتمة]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح"، قال في "الفتح": فيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق،
(1)
"المفهم" 6/ 29.
(2)
"المفهم" 6/ 29.
(3)
"الفتح" 16/ 430، كتاب "التعبير" رقم (7047).
(4)
"الفتح" 16/ 430، كتاب "التعبير" رقم (7047).
عن معمر، عن سعيد بن عبد الرحمن، عن بعض علمائهم، قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الردّ على من قال من أهل التعبير: إن المستحبّ أن يكون تعبير الرؤيا من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دالّ على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة.
قال المهلّب رحمه الله: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أَولى من غيره من الأوقات؛ لِحِفْظ صاحبها لها؛ لِقُرب عهده بها، وقبل ما يَعْرِض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر، وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يَعْرِض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير، ويَحْذَر من الشرّ، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير عن معصية، فيكفّ عنها، وربما كانت إنذارًا لأمر، فيكون له مترقبًا، قال: فهذه عدّة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار. انتهى ملخصًا
(1)
، والله تعالى أعلم.
* * *
(1)
"الفتح" 16/ 430 - 431، كتاب "التعبير" رقم (7047).
45 - (كِتَابُ الْفَضَائِلِ)
قال الجامع عفا الله عنه: المراد فضائل الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- خاصّةً، لا ما يشمل فضائل الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه سيأتي بعد هذا "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم"، فتنبّه.
و"الفضائل": جمع فضيلة، وهي: خلاف النقيصة، وهي الدرجة الرفيعة في الفضل، والاسمُ من ذلك الفاضلة، والجمع الفواضل، وفَضّله على غيره تفضيلًا: مَزّاه؛ أي: أثبت له مَزِيّة؛ أي: خصلة تميزه عن غيره، أو فَضّله: حكم له بالتفضيل، أو صيّره كذلك، وقوله تعالى:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] قيل في التفسير: إن فضيلة ابن آدم أنه يمشي قائمًا، وأن الدواب، والإبل، والحمير، وما أشبهها تمشي مُنْكَبّة، وابن آدم يتناول الطعام بيديه، وسائر الحيوان يتناوله بفيه، قاله في "التاج"
(1)
.
وقال أيضًا: الفضل معروف، وهو ضد النقص، جَمْعه: فضول، وفي "التوقيف" للمناويّ: الفضل: ابتداء إحسان بلا علّة، وفي "المفردات" للراغب: الفضل: الزيادة على الاقتصاد، وذلك ضربان: محمود؛ كفضل العلم، والحلم، ومذموم؛ كفضل الغضب على ما يجب أن يكون عليه، والفضل في المحمود أكثر استعمالًا، والفضول في المذموم، والفضل إذا استُعْمِل بزيادة أحد الشيئين على الآخر، فعلى ثلاثة أضراب: فضلٌ من حيث الجنسُ، وفضلٌ من حيث النوعُ؛ كفضل الإنسان على غيره من الحيوان، وفضلٌ من حيث الذات؛ كفضل رجل على آخر، فالأولان جوهريان، لا سبيل للناقص منهما أن يزيل نقصه، وأن يستفيد الفضل؛ كالفرس، والحمار، لا يمكنهما اكتساب
(1)
"تاج العروس" 1/ 7408.
فضيلة الإنسان، والثالث قد يكون عَرَضيًّا فيوجد السبيل إلى اكتسابه، ومن هذا النحو التفضيل المذكور في قوله تعالى:{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النحل: 71]؛ أي: في الْمُكْنة، والمال، والجاه، والقوّة، وكلّ عطية لا يلزم إعطاؤها لمن تُعطى له، يقال لها: فضل، نحو:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، وقوله تعالى:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] متناول للأنواع الثلاثة من الفضائل. انتهى.
وقد فَضَلَ؛ كنَصَر، وعَلِمَ، الأخيرة حكاها ابن السِّكِّيت، وأما فَضِلَ؛ كعَلِم يَفْضُلُ؛ كيَنْصُرُ، فمركبة منهما؛ أي: من البابين شاذّة، لا نظير لها، قال سيبويه: هذا عند أصحابنا إنما يجيء على لغتين، قال: وكذلك نَعِمَ يَنْعُمُ، ومِتَّ تَمُوت، ودِمْتَ تَدُوم، وكِدتَ تَكُود، كما في "الصحاح"، وعن ابن السِّيد: أن هذه اللغات الثلاث إنما هي في الفضل الذي يراد به الزيادة، فأما الفضل الذي هو بمعنى الشرف، فليس فيه إلا لغة واحدة، وهي فَضَلَ يَفْضُلُ؛ كقَعَد يَقْعُدُ. انتهى.
وقال الصيمريّ في "كتاب التبصرة" له: فَضَل يَفْضُل؛ كنصر ينصر، من الفضل الذي هو السؤدد، وفَضِل يَفْضَل بكسرها في الماضي، وضمّها في المضارع، من الفضلة، وهي بقية الشيء. انتهى
(1)
.
وقال الخضريّ في "حاشية السمرقنديّة" في الاستعارة: "الفواضل: جمع فاضلة، وهي الصفة التي لا تتحقّق إلا بتعدّي أثرها للغير؛ كالكرم".
و"الفضائل": جمع فضيلة، وهي التي تتحقّق، وإن لم يتعدّ أثرها للغير؛ كالعلم، والعبادة، قال: وهذا مجرّد اصطلاح، وإلا ففضيلة فَعِيلة، بمعنى فاضلة، وكلّ من الاسمين من الفضل، وهو الزيادة، فكلّ صفة تستحقّ لغةً أن تسمّى فضيلة، وفاضلة؛ لأنها زائدة على محلّها الذي قامت به. انتهى
(2)
.
(1)
"تاج العروس" 1/ 7407 - 7408.
(2)
"حاشية الخضريّ على السمرقنديّة" ص 13.
(1) - (بَابُ فَضْلِ نَسَبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5923]
(2276) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمِ، جَمِيعًا عَنِ الْوَلِيدِ، قَالَ ابْنُ مِهْرَانَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ، يَقُولُ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَني هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ) -بكسر الميم، وسكون الهاء- الْجَمّال -بالجيم- أبو جعفر، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو في التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن حَكِيم بن سَهْم الأنطاكيّ، ثقةٌ يُغْرِب [10](ت 243)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.
3 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العباس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس، والتسوية [8] مات آخر سنة أربع، أو أول سنة خمس وتسعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
4 -
(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو، ثقةٌ فقيهٌ، جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
5 -
(أَبُو عَمَّارٍ شَدَّادُ) بن عبد الله القرشيّ الدمشقيّ، ثقةٌ يرسل [4](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1337.
6 -
(وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ) -بالقاف- ابن كعب الليثيّ الصحابي المشهور رضي الله عنه، نزل الشام، وعاش إلى سنة خمس وثمانين، وله مائة وخمس سنين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 52/ 1930.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء منهما، ثم فصل بينهما؛ للاختلاف في ذلك، كما شرحناه غير مرّة، وأنه مسلسل بالشاميين، غير شيخيه، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عَمَّارٍ شَدَّادٍ) بالجرّ بدل، أو عَطْف بيان لِمَا قبله، (أَنَّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ) رضي الله عنه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى) قال ابن العربيّ: الاصطفاء: أخذ الصافي من جملة معها غيره، وليس مثله، وقال القرطبيّ رحمه الله: اصطفى: اختار. وصفوة الشيء: خياره، ووزنه: افتعل، والطاء فيه بدل من التاء؛ لِقُرب مخرجيهما. انتهى
(1)
.
(كِنَانَةَ) بكسر الكاف، وتخفيف النون؛ أي: بني كنانة، وهو كنانة بن خزيمة بن مُدركة بن إلياس بن مضر بن نِزار بن معدّ بن عدنان، (مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ) بفتح الواو واللام على أنه اسم جَمْع، أو بضمّ الواو، وسكون اللام، على أنه جَمْع وَلَد.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الوَلَدُ -بفتحتين-: كلُّ ما وَلَده شيء، ويُطلق على الذكر، والأنثى، والمثنى، والمجموع، فَعَلٌ بمعنى مفعولٍ، وهو مذكَّرٌ، وجَمْعه: أوْلَادٌ، والوُلْدُ وِزانُ قُفْل لغة فيه، وقيس تجعل المضموم جمع المفتوح، مثل أُسْدٍ جمع أَسَدٍ. انتهى
(2)
.
وفي رواية الترمذيّ: عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح
(3)
.
وقال البغويّ رحمه الله في "شرح السُّنَّة": هو: صلى الله عليه وسلم أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصيّ بن كلاب بن مُرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خُزيمة بن
(1)
"المفهم" 6/ 46.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 671.
(3)
"سُنن الترمذيّ" 5/ 583.
مُدرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدّ بن عدنان، ولا يصحّ حفظ النسب فوق عدنان، وقُريش هم أولاد النضر بن كنانة، كانوا تفرّقوا في البلاد، فجمعهم قُصيّ بن كلاب في مكة، فسُمّوا قريشًا؛ لأنه قَرَشهم؛ أي: جمعهم، ولكنانة ولد سوى النضر، وهم لا يُسمّون قريشًا؛ لأنهم لم يقرشوا. انتهى
(1)
.
(وَاصْطَفَى قُرَيْشًا) بصيغة التصغير مشتق من القَرْش، وهو الجمع، قال في "التاج": قَرَشَه يَقْرِشُه قَرْشًا، من باب ضَرَب، ويَقْرُشُهُ أيَضًا من باب نَصَر: قَطَعَه، وقَرَشَهُ: جَمَعَه من ها هنا وها هنا، وضَمَّ بَعْضُهُ إِلى بَعْضٍ، قال الفَرّاءُ: ومنه قُرَيْشٌ القَبِيلَةُ، وأَبُوهُمُ النَّضْرُ بنُ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ الْيَاسِ بنِ مُضَرَ، فكُلُّ مَنْ كانَ مِنْ وَلَدِ النَّضْرِ فهُوَ قُرَشِيٌّ، دُونَ وَلَدِ كِنَانَةَ، وَمَنْ فَوْقَه، كَذا في "الصحاح"، قَال المرتضى: وعِنْدَ أَئِمَّةِ النَّسَبِ كُلُّ مَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ بقُرَشِيٍّ، قالهُ ابنُ الكَلْبِيِّ، وهو المَرْجُوعُ إِلَيْه في هذَا الشّأْنِ؛ لتَجَمُّعِهِمْ في الحَرَمِ مِنْ حَوَالَيْ مَكَّةَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِم في البِلَادِ، حينَ غَلَبَ عليها قُصَيُّ بنُ كِلَابٍ، ويُقَال: تَقَرَّشَ القَوْمُ: إِذا اجْتَمَعُوا، قالُوا: وبِه سُمِّيَ قُصَيٌّ مُجَمِّعًا، وقِيلَ: إِنَّمَا لُقّبَ قُصَيٌّ مُجَمِّعًا؛ لِجَمْعِه قبائل قُرَيْشٍ بالرِّحْلَتَيْنِ، ولكَوْنِه أَوّلَ مَنْ جَمّعَ يومَ الجُمُعَةِ، فخَطَب، وفِيه يَقُولُ مَطْرُود بنُ كَعْبٍ الخُزاعِيُّ [من الطويل]:
أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا
…
بِهِ جَمَّعَ اللهُ القَبَائِلِ مِنْ فِهْرِ
أَو لأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّشُونَ البِيَاعَاتِ، فيَشْتَرُونَهَا، أَوْ لأَنَّ النَّضْرَ بنَ كِنَانَةَ اجْتَمَعَ في ثَوْبِه يَوْمًا، فقالوا: تَقَرَّشَ، فغَلَبَ عليه اللَّقَبُ، أَوْ لأَنّه جاءَ إِلى قَوْمِه يَوْمًا، فقالُوا: كأَنَّهُ جَمَلٌ قَرِيشٌ؛ أَيْ: شَدِيدٌ، فلُقِّبَ به، أَوْ لأَنَّ قُصَيًّا كان يُقَالُ له: القُرَشِيُّ، وهُوَ الَّذِي سَمّاهم بِهذا الاسْمِ، قالَهُ المُبَرِّدُ، ونَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ في "مُبْهمِ القُرْآنِ"، أَوْ لأَنَّهُمْ كَانُوا يُفَتِّشُونَ الحاجَ -بالتَّخْفِيفِ- جَمْعُ: حاجَةٍ فيَسُدُّونَ خَلَّتَها، فمَنْ كان مُحْتَاجًا أَغْنَوْهُ، ومَنْ كان عارِيًا كَسَوْه، ومَنْ كان مُعْدِمًا وَاسَوْهُ، ومَنْ كانَ طَرِيدًا آوَوْه، ومَنْ كان خائِفًا حَمَوْه، ومَنْ كان ضالًّا
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3632.
هَدَوْهُ، وهذا قَوْلُ مَعْرُوفِ بنِ خَرَّبُوذَ، أَوْ سُمِّيَتْ بمُصَغَّرِ القِرْشِ، وهِيَ دَابَّةٌ بَحْرِيَّةٌ تَخَافُهَا دَوَابُّ البَحْرِ كُلُّها، وقِيلَ: إِنّهَا سَيِّدةُ الدّوابِّ، إِذا دَنَتْ وَقَفَت الدَّوابُّ، وإِذا مَشَتْ مَشَتْ، وكَذلِكَ قُرَيْشٌ ساداتُ النّاسِ جاهِلِيَّةً وإِسْلَامًا، وهذا القَوْلُ نَقَلَه الزُّبَيْرُ بنُ بَكّارٍ بسَنَدِه عن ابنِ عَبّاسٍ، وأَنْشَدَ قَوْلَ المُشَمْرِجِ الحِمْيَرِيّ [من الخفيف]:
وقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ البَحْـ
…
رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
أَو سُمِّيَتْ بقُرَيْشِ بنِ مَخْلَدِ بنِ غالِبِ بنِ فِهْرٍ، وكانَ صاحِبَ عِيرِهم، فكانُوا يَقُولُون: قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ، وخَرَجَتْ عِيْرُ قُرَيْشٍ، فَلُقِّبُوا بِذلِكَ. وقال السُّهَيْلِيُّ -في "مُبهَمِ القُرْآنِ" في آلِ عِمْران عِنْدَ ذِكْرِ بَدْرٍ-: هُوَ أَبُو بَدْرٍ، وهُوَ ابنُ قُرَيْشِ بنِ الحَارِثِ بن يَخْلُدَ بنِ النَّضْرِ، وكَانَ قُرَيْشٌ أَبُوهُ دَلِيلًا بَينَ فِهْرِ بنِ مالكٍ في الجاهلية، فكانت عِيرُهم إِذا وَرَدَتْ بَدْرًا يقال: قد جاءَت عِيرُ قُرَيْشٍ، يُضيفُونَهَا إِلى الرّجُلِ، حَتَّى ماتَ، وبَقِيَ الاسْمُ، فهذِهِ ثَمانِيَةُ أَوْجُهٍ، ذَكَرها في سَبَبِ تَلْقِيبِ النّضْرِ قُرَيْشًا، سَبْعَةٌ مِنْهَا نَقَلَها إِبراهِيمُ الحَرْبِيُّ في "غَرِيبِ الحَدِيثِ" مِنْ تَأْلِيفِه، وفاتَهُ ما نَقَلَه الأَزْهَرِيُّ وغيرُه: سُمِّيَتْ بِذلِكَ لِتَبَحُّرِهَا، وتَكَسُّبِهَا، وضَرْبِهَا في البِلادِ تَبْتَغِي الرِّزْقَ، وقِيلَ: لأَنّهُم كانُوا أَهْلَ تِجَارَةٍ، ولَمْ يَكُونوا أَصْحَابَ ضَرْعٍ، وزَرْعٍ، من قَوْلهم: فلانٌ يَتَقَرَّشُ المالَ؛ أَيْ: يَجْمَعُه، فَهذِه عَشَرَةُ أَوْجُه، والمَشْهُورُ من ذلِكَ الوَجْهُ الأَوّلُ الَّذِي نَقَلَه الجَوْهَرِيُّ عنِ الفرّاء، ثُمَّ مَا ذَكَرَه الزُّبَيْرُ بنُ بَكّارٍ، نَسّابَةُ العَرَب، وحُكِيَ لِبَعْضِهِم في تَسْمِيَتِهم بقُرَيْشٍ عِشْرُونَ قَوْلًا.
قال الجَوْهَرِيُّ: فإِنْ أَرَدْتَ بقُرَيْشٍ الحَيَّ صَرَفْتَه، وإِنْ أَرَدْتَ بِهِ القَبيلَةَ لَمْ تَصْرِفْه، قالَ الشاعرُ في تَرْكِ الصَّرْفِ [من الطويل]:
غَلَبَ المَسامِيحَ الوَلِيدُ سَمَاحَةً
…
وكَفَى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وِسَادَهَا
وهُوَ لِعَدِيِّ بنِ الرِّقاعِ يَمْدَحُ الوَلِيدَ بنَ عَبْدِ المَلِكِ وبعدَهُ:
وإِذا نَشَرْتَ لَهُ الثَّنَاءَ وَجَدْتَه
…
وَرِثَ المَكَارِمَ طُرْفَهَا وتلَادَهَا
والنِّسْبَةُ إِلى قُرَيْش: قُرَشِيٌّ، وقُرَيْشِيٌّ نادِرٌ عن الخَلِيلِ، قَالَ الشّاعر [من الطويل]:
بِكُل قُرَيْشِيٍّ عَلَيْه مَهَابَةٌ
…
سَرِيعٍ إِلى دَاعِي النَّدَى والتَّكَرُّمِ
وقالَ قَوْمٌ: القِيَاسُ هُوَ الأَوَّلُ، يَعْنِي: حَذْفَ الياءِ في النَّسَبِ، قال المرتضى: وهُوَ المَشْهُورُ المُسْتَعْمَلُ. وفي "التَّهْذِيبِ": إِذا نَسَبُوا إِلى قُرَيْشٍ قالُوا: قُرَشِىٌّ بحَذْفِ الزّيادَةِ، قالَ: وللشّاعِرِ أَنْ يَقُولَ: قُرَيْشِيٌّ إِذا اضْطَرَّ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال النوويّ في "تهذيب الأسماء": قال أهل الأنساب: قريش نوعان: قريش البِطَاح، وهم بنو كعب بن لؤيّ، وقريش الظواهر، وهم بنو عامر بن لؤيّ. انتهى
(2)
.
وقال في "التاج": قال ابنُ الأعرابيّ: قُرَيْشُ الظَّواهِرِ: هم النّازِلُونَ بظَهْرِ جِبَالِ مَكَّةَ -شَرَّفها اللهُ تعالى- وقُرَيْشُ البِطَاحِ: هم النّازِلُون بِبِطَاحِ مَكَّةَ، قال: وهم أشْرَفُ، وأكرمُ مِن قُرَيْشِ الظّواهِرِ، وقال الكُمَيْتُ [من مجزؤ الكامل]:
فَحَلَلْتَ مُعْتَلِجَ البِطَا
…
حِ وَحَلَّ غَيرُكَ بالظَّوَاهِرْ
قال خالِدُ بن كُلْثُوم: مُعْتَلِجُ البِطَاحِ: بَطْنُ مَكَّةَ، وذلك أنَّ بنِي هاشِم، وبَنِي أمَيَّة، وسَادَةَ قُريْش نُزُولٌ ببَطْنِ مَكَّةَ، ومَنْ كانَ دونَهمُ، فهم نُزُولٌ بظَوَاهرِ جِبَالِها، ويقال: أرادَ بالظَّوَاهِرِ: أعلىَ مكّةَ. انتهى
(3)
.
[تنبيه آخر]: قال في "العمدة": كانت لقريش في الجاهلية مكارمُ منها السقاية، والعمارة، والرِّفادة، والعقاب، والحجابة، والندوة، واللواء، والمشورة، والأشناق، والقبة، والأعنة، والسِّفارة، والأيسار، والحكومة، والأموال المحجرة، وكانوا يُسَمَّون آل الله، وجيران الله، والنسبة إلى قريش قريشيّ، وعن الخليل: قرشيّ أيضًا، فإن أردت بقريش الحيّ صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه. انتهى
(4)
.
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 4325.
(2)
"تهذيب الاسماء" 2/ 564.
(3)
"تاج العروس" 1/ 3136.
(4)
"عمدة القاري" 16/ 73.
(مِنْ كِنَانَةَ)؛ أي: من بني كنانة، (وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ) ابن عبد مناف، (وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ") وقال الحافظ رحمه الله في "الأمالي المطلقة" بعد إخراجه هذا الحديث ما نصّه: وله شاهد من حديث ابن عمر أتمّ سياقًا منه، ثم قال: وبه إلى ابن منده قال: أخبرنا محمد بن يعقوب، قال: حدّثنا الحسن بن مكرم، قال: حدّثنا عبد الله بن بكر، قال: حدّثنا محمد بن ذكوان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بينما نحن على باب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا، قال فيه: فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله خلق السماوات سبعًا، ثم خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، ثم اختار من بني آدم العرب، ثم اختار من العرب مضر، ثم اختار من مضر قريشًا، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم، فأنا خِيَارٌ من خيار". انتهى.
قال: هذا حديث حسن، أخرجه الطبرانيّ في "الكبير"، و"الأوسط" من رواية حماد بن واقد، عن محمد بن ذكوان. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وأخرج البيهقيّ رحمه الله في "شعب الإيمان" عن ابن عمر قال: إنا لقعود بفناء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث إلى أن قال: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى خلق السماوات سبعًا، فاختار العليا منها، فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق، فاختار مِن خَلْقه بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشًا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم". انتهى
(2)
.
(1)
"الأمالي المطلقة" 1/ 68.
(2)
"شعب الإيمان" 2/ 139 - 140. والحديث ضعّفه بعضهم؛ لأجل حماد بن واقد، ومحمد بن ذكوان، لكن الذي يظهر لي أنه حسن، كما قال الحافظ؛ لأن حماد بن واقد لم ينفرد به، بل تابعه عبد الله بن بكر السهميّ، وهو ثقةٌ، ومحمد بن ذكوان روى عنه جماعة، وثّقه ابن معين، وابن حبّان، وقال أبو داود الطيالسيّ عن شعبة: حدّثني محمد بن ذكوان، وكان كخير الرجال، وتكلّم فيه غيرهم، راجع: "تهذيب التهذيب" (3/ 558)، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5923](2276)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3605 و 3606)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 107)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6242 و 6333 و 6475)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 161)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 469)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلوّ قدره، وأنه مختار الله تعالى من خلفه.
2 -
(ومنها): بيان شرف نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهم أشرف أنساب الناس جميعًا.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: معنى اختيار الله تعالى لمن شاء من خلقه: تخصيصه إياه بصفات كمال نوعه، وجَعْله إياه أصلًا لذلك النوع، وإكرامه له على ما سبق في علمه، ونافذ حكمه من غير وجوب عليه، ولا إجبار، بل على ما قال:{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وقد اصطفى الله تعالى من هذا الجنس الحيواني نوع بني آدم، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70]، ويكفيك من ذلك كله: أن الله تعالى خلق العالم كلَّه لأجله، كما قد صرح بذلك عنه لمّا قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الآية [الجاثية: 13]، ثم إن الله تعالى اختار من هذا النوع الإنساني مَن جعله معدن نبوته، ومحل رسالته، فأولهم: آدم عليه الصلاة والسلام ثم إن الله تعالى اختار من نطفته نطفة كريمة، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، فكان منها الأنبياء والرسل، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)} [آل عمران: 33، 34]، ثم
إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق كما قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الآية [النساء: 163]، ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إسماعيل كنانة كما ذكرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ثم إن الله تعالى ختمهم بختامهم، وأمَّهم بإمامهم، وشرَّفهم بصدر كتيبتهم، وبيت قصيدتهم، شمس ضحاها، هلال ليلتها، درِّ تقاصِيرها، زبرجدها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أخَّره عن الأنبياء زمانًا، وقدّمه عليهم رتبة ومكانًا، جعله الله واسطة النظام، وكمَّل بكماله أولئك الملأ الكرام، وخصَّه من بينهم بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فهو شفيعهم إذا استَشْفَعُوا، وقائدهم إذا وَفَدوا، وخطيبهم إذا جُمِعُوا، وسيِّدهم إذا ذُكِروا، فاقتبس من الخير عيونه، فبيده لواء الحمد، تحته آدمُ، فمن دونه، ويكفيك أُثْرَةً وكرامة:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"، وقد تبيّن للعقل والعيان ما به كان محمد صلى الله عليه وسلم سيد نوع الإنسان.
وقد ثبت بصحيح الأخبار ما له من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال:"أنا سيد ولد آدم"، قال:"وتدرون بم ذاك؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد"، وذكر حديث الشفاعة المتقدم. ومضمونُهُ: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة، وطال عليهم، وعظم كربهم طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدؤون بآدم عليه السلام، فيسألونه الشفاعة، فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سُئِلها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول:"أنا لها"، فيقوم في أرفع مقام، ويُخصُّ بما لا يُحصى من المعارف والإلهام، ويُنادَى بألطف خطاب، وأعظم إكرام: يا محمد! قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، وهذا مقام لم ينله أحدٌ من الأنام، ولا سُمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام، فنسال الله تعالى باسمه العظيم، وبوجهه الكريم أن يحيينا على شريعته، ويميتنا على ملته، ويحشرنا في زمرته، ولا يجعلنا ممن ذِيد عنه، وبُعِّدَ منه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ وتحقيقٌ أنيس؛ والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 46 - 48.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: استَدَلّ به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم، ولا غير بني هاشم كفؤ لهم، إلا بني المطلب، فإنهم هم وبنو هاشم شيء واحد، كما صرح به في الحديث الصحيح، والله أعلم. انتهى.
قال الجامح عفا الله عنه: الاستدلال المذكور غير صحيح، فقد زوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش، وهي قرشيّة، زيد بن حارثة، وهو مولى، وزوّج أبو حذيفة أخته سالمًا مولاه، وغير ذلك كثير، فالمعتبر في كفاءة النكاح هو الدين والخلق، فقد أخرج الترمذيّ عن أبي حاتم المزنيّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دِينه وخُلُقه، فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد"، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه؟ قال:"إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه، فأنكحوه" ثلاث مرات، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وأبو حاتم المزني له صحبة، ولا نعرف له عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث. انتهى
(1)
.
وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خَطَب إليكم من ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريضٌ". انتهى
(2)
.
والحديث مختلف في وَصْله، وإرساله، لكن يشهد له ما قبله.
والحاصل أن الصحيح هو ما ذهب إليه مالك: من أن المعتبَر الدِّين، لا النسب، ولا غيره، وقد تقدّم تحقيق ذلك مفصّلًا في "كتاب النكاح"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5924]
(2277) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ، حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ، كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ").
(1)
"جامع الترمذيّ" 3/ 395.
(2)
"جامع الترمذيّ" 3/ 394.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر -بفتح النون، وسكون المهملة- الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ) الْخُراسانيّ، أبو سعيد، سكن نيسابور، ثم مكة، ثقةٌ يُغْرب، وتُكُلّم فيه للإرجاء، ويقال: رجع عنه [7](ت 168)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1391.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) بن أوس بن خالد الذُّهْلىّ البكريّ الكوفيّ أبو المغيرة، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وقد تغير بأخرة، فكان ربما تَلَقَّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة -بضم الجيم، بعدها نون- السُّوَائيّ -بضم المهملة، والمدّ- صحابي ابن صحابيّ، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ) قيل: هو الحجر الأسود، وقيل غيره، (كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ)؛ يعني: أنه يسلّم عليه بالنبوة والرسالة قبل أن يشافهه الملك بذلك، (إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان وقت حدَّثهم بهذا الحديث يعرف الحجر معرفة من كان يشاهده، وقيل: إن ذلك الحجر: هو الحجر الأسود، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يسلم عليّ"؛ أي: بالنبوة، وقوله:"قبل أن أُبعث"؛ أي: أُرسَل، وقيّد به؛ لأن الحجارة كلها كانت تسلم عليه بعد البعث، كما رُوي عن عليّ رضي الله عنه
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 51 - 52.
(2)
هو ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط" عن عليّ رضي الله عنه قال: "خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، =
[فإن قيل]: ما حكمة إلقاء هذا الحديث بصورة التأكيد بـ "إنّ"، والجملة الاسمية، وليس المقام مقام إنكار؟.
[قلنا]: قد يكون عَلِم منهم الغفلة عن مثل هذا في ذلك الوقت، فأراد التنبيه عليه بتنزيلهم منزلة الغافلين عنه، كما في قوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)} [المؤمنون: 15]، ولم يُنكر أحد الموت، لكن لما غلبت الغفلة عنه حَسُن، أو بالنظر إلى غيرهم؛ لأنه أمر مستغرب فهو في مظنة الإنكار.
[فإن قيل]: محصول الخبر إفادة العلم بعرفانه حجرًا كان يسلِّم، وهو وهم كانوا يعلمون سلام الحجر وغيره عليه، فلم خصّه؟.
[قلنا]: يَحْتَمِل أنه حجر ذو شأن عظيم، ولهذا نَكَّره تنكير تعظيم، ومن ثَمّ قيل: هو الحجر الأسود، كما تقدّم، وبهذا المعنى يلسِّم مع خبر عائشة رضي الله عنها:"لَمّا استقبلني جبريل بالرسالة جعلت لا أمرّ بحجر، ولا مَدَر، ولا شجر إلا سَلَّم عليّ"
(1)
.
قال ابن سيد الناس رحمه الله: وهذا التسليم يَحْتَمِل كونه حقيقةً بأن أنطقه الله كما أنطق الْجِذع، وكَوْنَه مضافًا إلى ملائكة عنده من قبيل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، قال غيره: والصحيح الأول، معجزةً له كإحياء الموتى معجزة لعيسى عليه الصلاة والسلام انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الذي ذكره ابن سيّد الناس ضعيف، بل باطل، يُبطله سياق الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم ساقه لبيان ما أكرمه الله تعالى بهذا الخارق للعادات، فلو كان ذلك سلام الملائكة لَمَا كان مستغرَبًا.
= فجعل لا يمرّ على حجر، ولا شجر، إلا سَلَّم عليه"، رواه الطبراني في "الأوسط". قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 8/ 260: والتابعي أبو عُمارة الحواني لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.
(1)
هو ما رواه البزّار في "مسنده" عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا أوحي إليّ، أو نُبّئت -أو كلمة نحوها- جعلت لا أمرّ بحجر، ولا شجر، إلا قال: السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 8/ 260: رواه البزار عن شيخه عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف. انتهى.
فالحق أن تسليم الحجر على ظاهره، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
ومعنى سماعه سلامه: أنه فتح سمعه لإدراك سلامه، وفي "الروض الأُنُف": الأظهر أن هذا التسليم حقيقةٌ، وأنه تعالى أنطقه إنطاقًا، كما خلق الحنين في الجذع.
وقال القرطبيّ: الصحيح من مذهب أئمتنا أن كلام الجماد راجع إلى أنه تعالى يخلق فيه أصواتًا مقطعةً من غير مخارج يُفهم منها ما يُفهم من الأصوات الخارجة من مخارج الفم، وذلك ممكن في نفسه، والقدرة الإلهيّة لا قصور فيها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 5924](2277)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3624)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1907)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 89 و 95 و 105)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 464)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 21)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6482)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1995) و"الأوسط"(2033) و"الصغير"(167)، و (أبو نعيم) في "دلائل النبوّة"(300 و 301)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 153)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3709)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما أكرم الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمعجزات الظاهرة الدالّة على صِدْق نبوّته.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 3/ 19.
2 -
(ومنها): بيان إثبات التمييز في بعض الجمادات، وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 74]، وقوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه الآية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقةً، ويجعل الله تعالى فيه تمييزًا بحسبه، كما ذكرنا، ومنه الحجر الذي فَرّ بثوب موسى عليه السلام، وكلام الذراع المسمومة، ومَشْيُ إحدى الشجرتين إلى الأخرى حين دعاهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأشباه ذلك. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: ذكر العلماء بسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله أنه كان من لطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم أن قدَّم له مقدِّمات، وخصَّه ببشائر، وكرامات، درَّجَهُ بذلك في أطوارٍ؛ لينقطع بذلك عن مألوفات الأغمار
(2)
، ويتأهل على تدريجٍ لقبول ما يُلقى إليه، ولتسهُل مشافهة الملَك عليه، فكان صلى الله عليه وسلم يرى ضياءً وأنوارًا، وسمع تسليمًا، وكلامًا، ولا يرى أشخاصًا، فيسمع الحجارة والشجر تناديه، ولا يرى أحدًا يناديه؛ إلى أن استوحش من الخلق، ففرَّ إلى الحقّ، فحُبِّبت إليه الخلوة، فكان سبب هذه الْحَبْوة، مشافهة الملَك، فقَبِلَ، فَمَلَك، وقد قدَّمنا أن الصحيح من مذاهب أئمتنا أن كلام الجمادات راجع إلى أن الله تعالى يخلق فيها أصواتًا مقطعة من غير مخارج يُفْهَم منها ما يُفهم من الأصوات الخارجة من مخارج الفم، وذلك ممكن في نفسه، والقدرة لا قُصور فيها، فقد أخبر بها الصادق، فيجب له التصديق، كيف لا؟ وقد سمع من حضر تسبيح الحصى في كفه، وحنين الجذع إليه، والمسجد قد غُصَّ بأهله. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 36 - 37.
(2)
جمع غُمْر، وهو من لم يجرّب الأمور.
(3)
"المفهم" 6/ 51.
(2) - (بَابُ تَفْضِيلِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيعِ الْخَلَائِقِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5925]
(2278) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا هِقْلٌ -يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ- عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ) هو: الحكم بن موسى بن أبي زُهير البغداديّ القَنْطريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
2 -
(هِقْلُ بْنُ زِيَادٍ) هو: هِقْل -بكسر أوله، وسكون القاف، ثم لام- ابن زياد السَّكْسَكيّ -بمهملتين مفتوحتين، بينهما كاف ساكنة- الدِّمشقيّ، نزيل بيروت، قيل: هقل لقب، واسمه محمد، أو عبد الله، وكان كاتب الأوزاعيّ، ثقةٌ [9](ت 179) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1099.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ) التيميّ، مولى عائشة المدنيّ، نزل الشام، ثقةٌ [3](م د) تقدم في "الزكاة" 16/ 2330.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و "أَبُو عَمَّارٍ" هو شدّاد بن عبد الله المذكور قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالشاميين من هقل، وشيخه بغداديّ، والصحابيّ مدنيّ، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث إلا في موضع، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنِ الأَوْزَاعِيِّ) عبد الرحمن بن عمرو، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ) شدّاد بن عبد الله، قال:(حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ فَرُّوخَ) قال: (حَدَّثَنِي
أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) قال القرطبيّ رحمه الله: السيد: اسم فاعل، من ساد قومه؛ إذا تقدَّمهم بما فيه من خصال الكمال، وبما يُوليهم من الإحسان والإفضال، وأصله: سَيْوِدٌ؛ لأنَّ: ألف ساد منقلبة عن واو، بدليل: أن مضارعه يسود، فقلبوا الواو ياء، وأدغموها في الياء، فقالوا: سيِّد. وهذا كما فعلوا في: ميِّت. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
وقال الهرويّ: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يُفْزَع إليه في النوائب والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويَتَحَمّل عنهم مكارههم، ويدفعها عنهم
(2)
.
وقال في "المشارق": السيد الذي يفوق قومه، وهي السيدة، والسؤدد: هي الرياسة، والزَّعامة، ورِفعةُ القدر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم"؛ أي: زعيمكم، وأفضلكم، ومنه قوله:"إن ابني هذا سيد"، وقيل: هو الحليم الذي لا يغلبه غضبه، وسيد المرأة بعلها، والسيد أيضًا العابد، والسيد الكريم. انتهى
(3)
.
وقال في "النهاية": قاله صلى الله عليه وسلم إخباراً عما أكرمه الله تعالى به، من الفضل، والسؤدد، وتحدثًا بنعمة الله تعالى عليه، وإعلامًا لأمته؛ ليكون إيمانهم به على حَسَبه وموجبه، ولهذا أتبعه بقوله:"ولا فخر"؛ أي: إن هذه الفضيلة التي نلتها كرامة من الله، لم أنلها من قِبَل نفسي، ولا بَلَغْتها بقوّتي، فليس لي أن أفتخر بها. انتهى
(4)
.
(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال المناويّ رحمه الله: خصّه؛ لأنه يومٌ مجموعٌ له الناسُ، فيظهر سؤدده لكل أحد عيانًا، ووَصَف نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في
(1)
"المفهم" 6/ 48.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 37.
(3)
"مشارق الأنوار" 2/ 230.
(4)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 417.
المقام الخطابيّ على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى أولو العزم من الرسل، واحتياجهم إليه، كيف لا؟ وهو واسطة كل فيض، وتخصيصه ولد آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواصّ الملائكة، كما نقل الإمام عليه الإجماعَ، ومراده: إجماع من يُعْتَدّ به من أهل السُّنَّة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يوم القيامة" مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى منازع، ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين، وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] مع أن المُلك له سبحانه وتعالى قبل ذلك، لكن كان في الدنيا مَن يَدَّعِي المُلك، أو من يضاف إليه مجازًا، فانقطع كل ذلك في الآخرة.
قال العلماء: وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" لم يقله فخرًا، بل صَرَّح بنفي الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور:"أنا سيد ولد آدم، ولا فَخْرَ"، وإنما قاله لوجهين:
أحدهما: امتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11].
والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته؛ ليعرفوه، ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقِّروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته، كما أمرهم الله تعالى. انتهى
(2)
.
(وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ)؛ أي: أول من يُعَجَّل إحياؤه مبالغةً في إكرامه، وتخصيصًا له بتعجيل جزيل إنعامه، قال القرطبيّ: ويعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "أنه أول من يُبعث، فيجد موسى متعلِّقًا بساق العرش"، وسيأتي هذا مبيَّنًا في باب: ذِكر موسى صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله تعالى
(3)
.
(وَأَوَّلُ شَافِعٍ) للعصاة؛ أي: لا يتقدمني شافع، لا مَلَك، ولا بَشَر في جميع أحكام الشفاعات
(4)
. (وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ") -بفتح الفاء المشدّدة- أي: مقبول
(1)
"فيض القدير" 3/ 41.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 37.
(3)
"المفهم" 6/ 49.
(4)
"فيض القدير" 3/ 41.
الشفاعة، وإنما لم يكتف بقوله:"أول شافع"؛ لأنه قد يشفع الثاني، فيُشَفَّع منهما قبل الأول، وإنما قال ذلك؛ امتثالًا لقوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]، وهو من البيان الذي يجب تبليغه أمته
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 5925](2278)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4673)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3611)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 540)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 317)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 179)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(4/ 288)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 851)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 370) وفي "الأوائل" له (1/ 63)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعظيم مرتبته عند الله سبحانه وتعالى.
2 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم؛ لأن مذهب أهل السُّنَّة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة تفضيل البشر على الملائكة، أو العكس طال النزاع فيها بين العلماء، وقد حقّقت الكلام فيها في "شرح النسائيّ"، فراجعه، تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال: وأما الحديث الآخر: "لا تُفَضِّلوا بين الأنبياء"، فجوابه من خمسة أوجه:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما عَلِم أخبر به.
(1)
"فيض القدير" 3/ 41.
والثاني: قاله أدبًا، وتواضعًا.
والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول.
والرابع: إنما نُهي عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة، كما هو المشهور في سبب الحديث.
والخامس: أن النهي مختصّ بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص، وفضائلَ أخرى، ولا بدّ من اعتقاد التفضيل، فقد قال الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا الحديث أن يُبيَّن أنه لا يتقدَّمه شافع؛ لا من الملائكة، ولا من النبيين، ولا من المؤمنين، في جميع أقسام الشفاعات، على أن الشفاعة العامة لأهل الموقف خاصَّة لا تكون لغيره. وهذه المنزلة أعظم المراتب وأشرف المناقب، وهذه الخصائص والفضائل التي حدَّث بها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه؛ إنما كان ذلك منه؛ لأنها من جملة ما أمر بتبليغه؛ لِمَا يترتب عليها من وجوب اعتقاد ذلك، وأنه حقّ في نفسه، وليُرْغَب في الدخول في دينه، وليَتَمَسَّك به من دخل فيه، وليعلم قَدْر نعمة الله عليه في أن جعله من أمَّةِ مَن هذا حاله، ولتعظم محبَّته في قلوب مُتَّبعيه، فتكثر أعمالهم، وتطيب أحوالهم، فيحشرون في زمرته، وينالون الحظَّ الأكبر من كرامته.
وعلى الجملة فيحصل بذلك شرف الدنيا، وشرف الآخرة؛ لأنَّ شرف المتبوع متعدٍّ لشرف التابع على كل حال.
[فإن قيل]: كل هذا راجع للاعتقاد، وكيف يحصل القطع بذلك من أخبار الآحاد؛ فالجواب: أن من سمع شيئًا من تلك الأمور من النبيّ صلى الله عليه وسلم مشافهة حصل له العلم بذلك، كما حصل للصحابة السامعين منه، ومن لم يشافه، فقد حصل له العلم بذلك من جهة التواتر المعنويّ؛ إذ قد كثرث بذلك الظواهر، وأخبار الآحاد حتى حصل لسامعها العلم القطعيّ بذلك المراد. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ " 15/ 37 - 38.
(2)
"المفهم" 6/ 49.
(3) - (بَابٌ فِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5926]
(2279) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زيدٍ- حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِمَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَوَضَّئُونَ، فَحَزَرْتُ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (455) من رباعيّات الكتاب، وأن رواته كلهم بصريون، وشيخه، وإن نزل بغداد، إلا أنه بصريّ الأصل.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِمَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ) -بفتح الراء، وبالحاءين المهملتين- أي: واسع، ويقال: رَحْرَح أيضًا بحذف الألف، وقال القرطبيّ: قوله: "رحراح"؛ أي: واسع، ويقال: رَحْرَحٌ -بغير ألف-، وإناءٌ أَرَحُّ، وآنية رَحَّاء، كل ذلك بمعنى الواسع، قال ابن الأنباريّ: ويكون ذلك قصير الجدار. انتهى
(1)
.
وقال الخطابيّ: الرَّحْرَاح: الإناء الواسعُ الفمِ القريبُ القَعْرِ، ومثله لا يسع الماء الكثير، فهو أدلّ على المعجزة.
ورَوَى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة، عن حماد بن زيد، فقال بدل "رَحْرَاح":"زُجاج" بزاي مضمومة، وجيمين، وبَوّب عليه:"الوضوءُ من آنية الزجاج، ضِدّ قول من زعم من المتصوفة أن ذلك إسراف، لإسراع الكسر إليه".
(1)
"المفهم" 6/ 52.
قال الحافظ: وهذه اللفظة تفرد بها أحمد بن عبدة، وخالفه أصحاب حماد بن زيد، فقالوا:"رَحْراح"، وقال بعضهم:"واسع الفم"، وهي رواية الإسماعيليّ عن عبد الله بن ناجية، عن محمد بن موسى، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وأحمد بن عبدة، كلّهم عن حماد، وكأنه ساقه على لفظ محمد بن موسى، وصَرّح جَمْع من الحذاق بأن أحمد بن عبدة صحّفها، ويُقَوِّي ذلك أنه أتى في روايته بقوله:"أحسبه"، فدلّ على أنه لم يُتْقنه، فإن كان ضَبَطه فلا منافاة بين روايته، ورواية الجماعة؛ لاحتمال أن يكونوا وصفوا هيئته، وذَكَر هو جنسه.
وفي "مسند أحمد" عن ابن عباس: أن المقوقس أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم قَدَحًا من زجاج، لكن في إسناده مقال. انتهى
(1)
.
(فَجَعَلَ) أي شرع (الْقَوْمُ يَتَوَضَّئُونَ، فَحَزَرْتُ) بالحاء المهملة، وتقديم الزاي على الراء؛ أي: قدّرت القوم المتوضّئين بذلك الماء (مَا بَيْنَ السَّتِّينَ إِلَى الثَّمَانِينَ) هكذا رواية مسلم بلفظ "الستّين"، ورواية البخاريّ:"ما بين السبعين إلى الثمانين"، قال الحافظ في "شرحه": وتقدّم من رواية حميد: "أنهم كانوا ثمانين وزيادة"، وهنا قال:"ما بين السبعين إلى الثمانين"، والجمع بينهما أن أنسًا لم يكن يضبط العدّة، بل كان يتحقق أنها تُنيف على السبعين، ويَشُكّ هل بلغت العقد الثامن، أو تجاوزته، فربما جزم بالمجاوزة، حيث يغلب ذلك على ظنه. انتهى.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَجَعَلْتُ)؛ أي: شرعت (أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ) قال المجد رحمه الله: نبع الماء ينبعُ -مثلّثةً- نَبْعًا، ونُبُوعًا: خرج من العين، والْيَنبوع العين. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: نَبَعَ الماءُ -بفتح الموحّدة- ونبعَ -بكسرها- ونَبُعَ -بضمّها- يَنْبعُ -بكسرها أيضًا- وينْبَعُ -بفتحها- ويَنْبُع -بضمّها- نَبْعًا، ونُبُوعًا: تَفَجَّر، وقيل: خرج من العين، ولذلك سُمّيت العين يَنْبُوعًا، قال
(1)
"الفتح" 1/ 520 - 521، كتاب "الوضوء" رقم (200).
(2)
"القاموس المحيط" ص 1257.
الأَزهريّ: هو يفعول، من نَبَعَ الماء: إِذا جرى من العين، وجمعه يَنابِيعُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما تقدّم أن نبع ينبع مثلّث الماضي، والمضارع، خلاف ما زعمه بعض اللغويين من أن التثليث للمضارع فقط، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ) صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: وفي كيفية هذا النبع قولان،
حكاهما القاضي وغيره:
أحدهما -ونقله القاضي عن الْمُزنيّ، وأكئر العلماء-: أن معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه صلى الله عليه وسلم، وينبع من ذاتها، قالوا: وهو أعظم في المعجزة مِن نَبْعه من حجر، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية:"فرأيت الماء ينبع من أصابعه".
والثاني: يَحْتَمِل أن الله كثّر الماء في ذاته، فصار يفور من بين أصابعه، لا من نفسها، وكلاهما معجزة ظاهرة، وآية باهرة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول هو الأظهر الموافق لظاهر النصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5926](2279)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(200)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 147)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(124)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6546)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3329)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 30)، و"دلائل النبوّة"(22)، وفي "الاعتقاد"(ص 273 - 274)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"لسان العرب" 8/ 345.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 38.
1 -
(منها): بيان إثبات المعجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة، منها نَبْع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم المذكور هنا.
2 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذه المعجزة تكررت من النبيّ مرَّات عديدة في مشاهد عظيمة، وجموع كثيرة، بلغتنا بطرق صحيحة من رواية أنس، وعبد الله بن مسعود، وجابر، وعمران بن حصين، وغيرهم رضي الله عنهم ممن يحصل بمجموع أخبارهم العلم القطعيّ المستفاد من التواتر المعنويّ.
وبهذا الطريق؛ حصل لنا العلم بأكثر معجزاته الدالة على صدق رسالاته، كما قد ذكرنا جملةَ ذلك في كتاب "الإعلام"، وهذه المعجزة أبلغ من معجزة موسى صلى الله عليه وسلم في نبع الماء من الحجر عند ضربه بالعصا؛ إذ من المألوف نبع الماء من بعض الحجارة، فأما نَبْعه من بين عظم ولحم وعصب ودم فشيء لم يُسمع بمثله، ولا يُتحدَّث به عن غيره صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": ويستفاد من هذا بلاغة معجزته صلى الله عليه وسلم، وهو أبلغ من تفجير الماء من الحجر لموسى صلى الله عليه وسلم؛ لأن في طبع الحجارة أن يخرج منها الماء الغَدَقُ الكثير، وليس ذلك في طباع أعضاء بني آدم. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): أن الشافعيّ رحمه الله استدلّ بهذا الحديث على ردّ قول من قال من أصحاب الرأي: إن الوضوء مقدّر بقدر من الماء معيَّن، ووجه الدلالة أن الصحابة اغترفوا من ذلك القدح من غير تقدير؛ لأن الماء النابع لم يكن قَدْره معلومًا لهم، فدلّ على عدم التقدير، ذكره في "الفتح"
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5927]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنى أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ
(1)
"المفهم" 6/ 52 - 53.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 94.
(3)
"الفتح" 521، كتاب "الوضوء" رقم (200).
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ) هو: إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن يزيد الْخَطْميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 144)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(مَعْنُ) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزاز، ثقةٌ، ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
3 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم أيضاً قريبًا.
5 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلِّها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر [7](ت 179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
6 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ المدنيّ، أبو يحيى، ثقةٌ حجةٌ [4] (ت 132) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
و"أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ" رضي الله عنه ذُكِر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، والأول مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية الراوي عن عمّه، فإن أنسًا رضي الله عنه عمّ لإسحاق بن عبد الله، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المعمّرين، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ بمعنى: أبصرت، فلذا اقتصر على مفعول واحد، (وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ) بالحاء المهملة؛ أي: قَرُب وقت صلاة العصر، وزاد قتادة في الرواية التالية:"وهو بالزوراء، وهو سوق بالمدينة"، والواو في قوله:"وحانت" للحال، والتقدير: والحال أنه قد حانت صلاة العصر، (فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ) ببناء الفعل للفاعل، و"الناس" مرفوع على الفاعليّة، و"الوضوء" منصوب على المفعوليّة، وهو بفتح الواو: الماء الذي يُتوضّأ به (فَلَمْ يَجِدُوهُ)؛ أي: الوَضوءَ، (فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالبناء للمفعول، (بِوَضُوءٍ) بفتح الواو أيضًا، (فَوَضَعَ) بالبناء للفاعل، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ) منصوب على المفعوليّة، (وَأَمَرَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم (النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الوضوء الذي أُتي به إليه. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَرَأَيْتُ الْمَاءَ) الرؤية هنا بصريّة، كما مرّ آنفًا؛ أي: أبصرت الماء (يَنْبُعُ) بتثليث الموحّدة؛ أي: يخرج، والجملة في محل نصب على الحال، وقد عُلِم أن الجملة الفعلية إذا وقعت حالًا تأتي بلا واو، إذا كان فِعْلها مضارعًا، كما قال في "الخلاصة":
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ
وإنما لم يُجعل مفعولًا ثانيًا لـ "رأيت"؛ لأن "رأيت" هنا بمعنى أبصرت، فلا تقتضي إلا مفعولًا واحدًا
(1)
.
(مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ) جمع إصبع، فيه لغات: إصبع بكسر الهمزة، وضمّها، والباء مفتوحة فيهما، ولك أن تُتْبع الضمة الضمة، والكسرة الكسرة؛ أي: من تحت أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم. (فَتَوَضَّأَ النَّاسُ، حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ) قال الكرمانيّ: "حتى" للتدريج، و"من" للبيان؛ أي: توضأ الناس حتى توضأ الذين من عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، ثم نقل عن النوويّ أن "من" في "من عند آخرهم" بمعنى "إلى"، وهي لغة، ثم قال: أقول: ورود "من" بمعنى: "إلى" شاذّ قلّما يقع في فصيح الكلام.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 33.
قال العينيّ: "حتى" ههنا حرف ابتداء؛ يعني: حرف يُبتدأ بعده جملة؛ أي: تُستأنَف، فتكون اسمية، أو فعلية، والفعلية يكون فعلها ماضيًا، ومضارعًا، ومثال الاسمية قول جرير [من الطويل]:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا
…
بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
ومثال الفعلية التى فِعْلها ماض: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95]، و "حتى توضؤوا"، ومثال الفعلية التي فعلها مضارع:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [البقرة: 214] في قراءة نافع. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "حتى توضؤوا من عند آخرهم" قال الكرمانيّ: "حتى" للتدريج، و"من" للبيان؛ أي: توضأ الناس حتى توضأ الذين عند آخرهم، وهو كناية عن جميعهم، قال: و"عند" بمعنى: "في"؛ لأن "عند" وإن كانت للظرفية الخاصة، لكن المبالغة تقتضي أن تكون لمطلق الظرفية، فكأنه قال: الذين هم في آخرهم، وقال التيميّ: المعنى: توضأ القوم حتى وصلت النوبة إلى الآخر، وقال النوويّ:"من" هنا بمعنى: "إلى"، وهي لغةٌ، وتعقبه الكرمانيّ بأنها شاذّة، قال: ثم إن "إلى" لا يجوز أن تدخل على "عند"، ويلزم عليه، وعلى ما قال التيميّ أن لا يدخل الأخير، لكن ما قاله الكرمانيّ من أن "إلى" لا تدخل على "عند" لا يلزم مثله في "من" إذا وقعت بمعنى:"إلى"، وعلى توجيه النوويّ يمكن أن يقال:"عند"، زائدة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5927 و 5928 و 5929](2279)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(169 و 200) و"المناقب" (3572 و 3573
(1)
"عمدة القاري" 3/ 33.
(2)
"الفتح" 1/ 467، كتاب "الوضوء" رقم (169).
و 3574)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3631)، و (النسائيّ) في "الطهارة"(1/ 60) و"الكبرى"(1/ 81)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 32)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 276)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 147)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 178)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2795 و 3172 و 3193)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(124)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6539 و 6547)، و (الفريابيّ) في "الدلائل"(22)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 193) و"الاعتقاد"(ص 273 - 274)، و "أبو نعيم" في "دلائل النبوّة"(317)، و (اللالكائيّ) في "أصول الاعتقاد"(1485)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3714)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن المواساة مشروعة عند الضرورة لمن كان في مائه فضلٌ عن وضوئه.
2 -
(ومنها): بيان أن اغتراف المتوضئ من الماء القليل لا يصيّر الماء مستعملًا.
3 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به الشافعيّ على أن الأمر بغسل اليد قبل إدخالها الإناء أمْر ندب، لا حتم.
4 -
(ومنها): أن فيه إباحةَ الوضوء للجماعة من إناء، يغترفون منه في حين واحد، ولم يراعوا هل أصاب أحدهم مقدار مُدّ، فما زاد من الماء، كما قال من ذهب إلى أن الوضوء لا يجوز بأقل من مُدّ، ولا الغسل بأقل من صاع، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
5 -
(ومنها): أن فيه الْعَلَمَ العظيمَ من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وهو نبع الماء من بين أصابعه، وكم له من مثل ذلك صلى الله عليه وسلم، والذي أعطيه صلى الله عليه وسلم من هذه الآية المعجزة أوضح في آيات الأنبياء وبراهينهم، مما أعطي موسى عليه السلام؛ إذ ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، وذلك أن من الحجارة ما يشاهد انفجار الماء منها، كما قال تعالى:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ}
(1)
"الاستذكار" 1/ 204.
[البقرة: 74]، ولم يُشاهَد قط أحد من بني آدم يخرج من بين أصابعه الماء غير نبينا صلى الله عليه وسلم.
وقد عَرَض له هذا مرارًا، مرةً بالمدينة، ومرةً بالحديبية، قبل بيعته المعروفة ببيعة الرضوان، فتوضأ من الماء الذي نبع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم جميع من حضر في ذلك اليوم، وهم ألف وأربعمائة، وقد قيل: ألف وخمسمائة
(1)
.
6 -
(ومنها): بيان عدم وجوب طلب الماء للتطهر قبل دخول الوقت؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم التأخير، فدلّ على الجواز، وذكر ابن بطال أن إجماع الأمة على أنه إن توضأ قبل الوقت فحسن، ولا يجوز التيمم عند أهل الحجاز قبل دخول الوقت، وأجازه العراقيون.
7 -
(ومنها): بيان أن الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت.
8 -
(ومنها): أنه يستحب التماس الماء لمن كان على غير طهارة، وعند دخول الوقت يجب.
9 -
(ومنها): أن فيه ردًّا على من ينكر المعجزة من الملاحدة.
10 -
(ومنها): أنه استَنْبَطَ المهلّب منه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة؛ لأنه لَمّا أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء لم يكن أحد أحقّ به من غيره، بل كانوا فيه سواءً، ونوقش فيه، وإنما تجب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه، قاله في "العمدة"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في نبع الماء من بين أصابعه أورده مسلم من ثلاثة طرق: من رواية ثابت، وإسحاق بن عبد الله، وقتادة كلهم عنه، وأورده البخاريّ في "المناقب" من أربعة طرق: من رواية قتادة، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، والحسن البصريّ، وحميد الطويل، وعنده في "الطهارة" من رواية ثابت، كلهم عن أنس، وعند بعضهم ما ليس عند بعض.
قال الحافظ رحمه الله: وظهر لي من مجموع الروايات أنهما قصّتان في موطنين؛ للتغاير في عدد من حضر، وهي مغايَرَة واضحة يَبْعد الجمع فيها،
(1)
"الاستذكار" 1/ 204.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 34.
وكذلك تعيين المكان الذي وقع ذلك فيه؛ لأن ظاهر رواية الحسن أن ذلك كان في سفر، بخلاف رواية قتادة، فإنها ظاهرة في أنها كانت بالمدينة، وسيأتي في غير حديث أنس أنها كانت في مواطن أُخَر.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذه القصة رواها الثقات من العدد الكثير، عن الجمّ الغَفِير، عن الكافّة، متصلةً بالصحابة رضي الله عنهم، وكان ذلك في مواطن اجتماع الكثير منهم في المحافل، ومجمع العساكر، ولم يَرِد عن أحد منهم إنكارٌ على راوي ذلك، فهذا النوع ملحق بالقطعيّ من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قضية نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم تكررت منه في عدّة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة يفيد مجموعها العلم القطعيّ المستفاد من التواتر المعنويّ.
قال الحافظ: أخذ كلام عياض، وتصرف فيه، قال: ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم، وحديث نبع الماء جاء من رواية أنس عند الشيخين، وأحمد، وغيرهم، من خمسة طرق، وعن جابر بن عبد الله من أربعة طرق، وعن ابن مسعود عند البخاريّ، والترمذيّ، وعن ابن عباس عند أحمد، والطبرانيّ، من طريقين، وعن ابن أبي ليلى والد عبد الرحمن، عند الطبرانيّ، فعدد هؤلاء الصحابة ليس كما يُفهم من إطلاقهما.
وأما تكثير الماء بأن يلمسه بيده، أو يتفل فيه، أو يأمر بوضع شيء فيه، كسهم من كنانته، فجاء في حديث عمران بن حصين، في "الصحيحين"، وعن البراء بن عازب، عند البخاريّ، وأحمد، من طريقين، وعن أبي قتادة عند مسلم، وعن أنس عند البيهقيّ في "الدلائل"، وعن زياد بن الحارث الصُّدَائيّ عنده، وعن حَبّان بن بُحّ -بضم الموحدة، وتشديد المهملة- الصُّدائيّ أيضًا، فإذا ضُمَّ هذا إلى هذا بلغ الكثرة المذكورة، أو قاربها.
وأما من رواها من أهل القرن الثاني فهم أكثر عددًا، وإن كان شطر طرقه أفرادًا.
وفي الجملة يستفاد منها الردّ على ابن بطال، حيث قال: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة، إلا أنه لم يُرْوَ إلا من طريق أنس، وذلك لطول عمره، وتطلّب الناس العلو في السند. انتهى، وهو ينادي عليه بقلّة
الاطلاع والاستحضار لأحاديث الكتاب الذي شرحه، وبالله التوفيق.
قال القرطبي: ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلى الله عليه وسلم حيث نبع الماء من بين عظمه، وعصبه، ولحمه، ودمه.
وقد نقل ابن عبد البرّ عن المزنيّ أنه قال: نَبْع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر، حيث ضربه موسى بالعصا، فتفجرت منه المياه؛ لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم. انتهى، وظاهر كلامه أن الماء نبع من نفس اللحم الكائن في الأصابع، ويؤيده قوله في حديث جابر الآتي:"فرأيت الماء يخرج من بين أصابعه"، وأوضح منه ما وقع في حديث ابن عباس عند الطبرانيّ: "فجاؤوا بشَنّ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه، ثم فرّق أصابعه، فنبع الماء من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عصا موسى، فإن الماء تفجّر من نفس العصا، فتمسّكه به يقتضي أن الماء تفجر من بين أصابعه.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أن الماء كان ينبع من بين أصابعه بالنسبة إلى رؤية الرائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفور ويكثر، وكفّه صلى الله عليه وسلم في الماء فرآه الرائي نابعًا من بين أصابعه، والأول أبلغ في المعجزة، وليس في الأخبار ما يردّه، وهو أَولى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5928]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا مُعَاذٌ -يَعْنِي: ابْنَ هِشَامٍ- حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ بِالزَّوْرَاءِ -قَالَ: وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ، وَالْمَسْجِدِ، فِيمَا ثَمَّهْ- دَعَا بِقَدَحٍ، فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فِيهِ، فَجَعَلَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
(1)
، فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: كَانُوا زُهَاءَ الثَّلَاِثمِائَةِ)
(2)
.
(1)
وفي نسخة: "ينبع بين أصابعه".
(2)
وفي نسخة: "زهاء ثلاثمائة".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد، البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر بوزن جعفر، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا. و"أَنَسُ بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدوسيّ، أنه قال:(حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصحَابَهُ بِالزَّوْرَاءِ) -بتقديم الزاي على الراء، وبالمدّ-: مكان معروف بالمدينة عند السوق، وزعم الداوديّ أنه كان مرتفعًا كالمنارة، وكأنه أخذه من أمْر عثمان بالتأذين على الزوراء، وليس ذلك بلازم، بل الواقع أن المكان الذي أمر عثمان بالتأذين فيه كان بالزوراء، لا أنه الزوراء نفسها.
ووقع في رواية همام، عن قتادة، عن أنس:"شَهِدت النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عند الزوراء، أو عند بيوت المدينة"، أخرجه أبو نعيم.
وعند أبي نعيم من رواية شريك بن أبي نَمِر، عن أنس، أنه هو الذي أحضر الماء، وأنه أحضره إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من بيت أم سلمة، وأنه ردّه بعد فراغهم إلى أم سلمة، وفيه قَدْر ما كان فيه أوّلًا.
ووقع عنده في رواية عبيد الله بن عمر، عن ثابت، عن أنس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إلى قباء، فأُتِي من بعض بيوتهم بقدح صغير.
ووقع في حديث جابر التصريح بأن ذلك كان في سفر، ففي رواية نُبيح الْعَنَزيّ عند أحمد، عن جابر: قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحضرت الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما في القوم من طَهُور؟ " فجاء رجل بفضلة في إداوة، فصبه في قَدَح، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إن القوم أُتُوْا ببقية الطهور، فقالوا: تمسّحوا، تمسّحوا، فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"على رِسْلكم"، فضرب بيده في القدح، في جوف الماء، ثم قال:"أسبغوا الطُّهُور"، قال
جابر: فوالذي أذهب بصري، لقد رأيت الماء يخرج من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضؤوا أجمعون، قال: حسبته قال: "كنا مائتين وزيادة".
وجاء عن جابر رضي الله عنه قصة أخرى أخرجها مسلم من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب في حديثه الطويل وفيه: أن الماء الذي أحضروه له كان قطرة في إناء من جلد، لو أفرغها لشربها يابس الإناء، وأنه لم يجد في الركب قطرة ماء غيرها، قال: فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتكلم، وغَمَز بيده، ثم قال:"ناد بجفنة الركب"، فجيء بها، فقال بيده في الجفنة، فبسطها، ثم فرّق أصابعه، ووضع تلك القطرة في قعر الجفنة، فقال: خذ يا جابر، فصُبّ عليّ، وقل: باسم الله، ففعلت، قال: فرأيت الماء يفور من بين أصابعه، ثم فارت الجفنة، ودارت حتى امتلأت، فأَتَى الناسُ، فاستقوا، حتى رَوُوا، فرفع يده من الجفنة، وهي ملأى"، وهذه القصة أبلغ من جميع ما تقدم؛ لاشتمالها على قلة الماء، وعلى كثرة من استقى منه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ: وَالزَّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السُّوقِ، وَالْمَسْجِدِ، فِيمَا ثَمَّهْ) قال النوويّ: هكذا هو في جميع النسخ "ثَمّه" قال أهل اللغة: "ثَمّ" بفتح الثاء، و"ثَمّه" بفتح الهاء، بمعنى هناك، وهنا، فـ "ثمّ" للبعيد، و"ثَمّه" للقريب. انتهى.
والمعنى: أن الزوراء مكان بالمدينة عند سوقها، وهو قريب من المسجد النبويّ، فقوله:"فيما ثَمّ"؛ أي: في المكان القريب منه، والله تعالى أعلم.
(دَعَا)؛ أي: طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِقَدَحٍ) بفتحتين: إناء معروف، جَمْعه أقداح، مثلُ سبب وأسباب. (فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ)(كَفَّهُ فِيهِ)؛ أي: في ذلك القدَح، (فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ، وبدأ الماء (يَنْبُعُ) بتثليث الموحّدة، كما مرّ قريبًا. (مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ)، وفي بعض النُّسخ:"بين أصابعه"، (فَتَوَضَّأَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ، قَالَ) قتادة (قُلْتُ: كَمْ كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَةَ؟) كنية أنس رضي الله عنه (قَالَ: كَانُوا زُهَاءَ الثَّلَاِثِمِائَةِ)، وفي نسخة:"زُهاء ثلاثمائة"، وهو بضم الزاي، وبالمدّ؛ أي: قدر ثلاثمائة، مأخوذة من زَهَوت الشيء: إذا حصرته. ووقع عند الإسماعيليّ من
(1)
"الفتح" 6/ 586.
طريق خالد بن الحارث، عن سعيد قال:"ثلاثمائة" بالجزم بدون قوله: "زُهاء"، قاله في "الفتح".
وقال النوويّ: أما "زُهاء" فبضم الزاي وبالمدّ؛ أي: قدر ثلاثمائة، ويقال أيضًا:"لُهَاء" باللام؛ أي: بدل الزاي، وقال في هذه الرواية:"ثلاثمائة"، وفي الرواية التي قبلها:"ما بين الستين إلى الثمانين"، قال العلماء: هما قضيتان، جرتا في وقتين، ورواهما جميعًا أنس رضي الله عنه.
وأما قوله: "الثلاثمائة" فهكذا هو في جميع النسخ: "الثلاثمائة"، وهو صحيح، وسبق شرحه في "كتاب الايمان" في حديث حذيفة رضي الله عنه:"اكتبوا لي كم يلفِظ الإسلام؟ ". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه في الحديث الماضى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5929]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالزَّوْرَاءِ، فَأُتِيَ بِإِنَاءِ مَاءٍ، لَا يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ، أَوْ قَدْرَ مَا يُوَارِي أَصَابِعَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هِشَامٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختَلَطَ، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لَا يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ)؛ أي: لا يسترها، يقال: غَمَرتُهُ أَغْمُرُهُ، مثلُ: سَتَرته أستُرُهُ وزنًا ومعنًى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 39 - 40.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 453.
وقوله: (أَوْ قَدْرَ مَا يُوَارِي أَصَابِعَهُ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"يَغْمُر"، أو قال:"يواري"، والشك يَحْتَمِل أن يكون من قتادة، ويَحْتَمل أن يكون من غيره.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هِشَامٍ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سعيد بن أبي عروبة، و"هشام" هو الدستوائيّ المذكور في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(12765)
- حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان بالزَّوراء، فأُتي بإناء فيه ماء، لا يَغْمُر أصابعه، فأمر أصحابه أن يتوضؤوا، فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه، وأطراف أصابعه، حتى توضأ القوم، قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟ قال: كُنّا ثلاث مائة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5930]
(2280) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ أُمَّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ لَهَا سَمْنًا، فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا، فَيَسْأَلُونَ الأُدْمَ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، فَتَعْمِدُ إِلَى الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا، فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا
(1)
، حَتَّى عَصَرَتْهُ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"عَصَرْتِيهَا؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:"لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِمًا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع وأربعين ومائتين (م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرانيّ، أبو عليّ، نُسِب إلى جدّه، صدوق [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
(1)
وفي نسخة: "أُدم بنيها".
3 -
(مَعْقِلُ) بن عبيد الله الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ -بالموحّدة- مولاهم، صدوقٌ، يخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (456) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما (أَنَّ أمُّ مَالِكٍ) الأنصاريّة، ذكر في "الإصابة" ما نصّه: أم مالك الأنصارية: أورد ابن أبي عاصم في "الوُحدان"، وابن أبي خيثمة من طريق عطاء بن السائب، عن يحيى بن جعدة، عن رجل حدّثه أن أم مالك الأنصارية قالت: جاءت بعكة سمن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالًا، فعصرها، ثم دفعها إليها، فإذا هي مملوءة، فجاءت، فقالت: أنزل فيّ شيء؟ قال: "وما ذلك؟ " قالت: رددت عليّ هديتي، فدعا بلالًا، فسأله، فقال: والذي بعثك بالحقّ لقد عصرتها حتى استحييت، فقال:"هنيئًا لك، هذه بركة يا أم مالك، هذه بركة عَجَّل الله لك ثوابها"، ثم عَلّمها أن تقول في دبر كل صلاة: سبحان الله عشرًا، والحمد لله عشرًا، والله أكبر عشرًا. لفظ ابن أبي عاصم، واقتصر ابن أبي خيثمة على آخره.
ثم ذكر حديث مسلم هذا، ثم قال: قال في الذيل على الاستيعاب: لا أدري أهي التي ذكرها أبو عمر، أو غيرها؟.
قال الحافظ: وكلام ابن منده ظاهر في أنها واحدة، فإنه قال: روى عنها جابر، وعبد الرحمن بن سابط، وعياض بن عبد الله بن أبي سَرْح، ثم أخرج من طريق عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أم مالك الأنصارية، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولَحْيَايَ يَرْعَدان من الحمّى، فقال:"ما لك يا أم مالك؟ " قالت: أم مِلْدَم، فعل الله بها، وفعل، فقال:"لا تسبّيها، فإن الله يَحُطُّ بها عن العبد الذنوب، كما يتحاتّ ورق الشجر". انتهى
(1)
.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 298.
(كَانَتْ تُهْدِي) بضمّ أوله، من الإهداء رباعيًّا، يقال: أهديت للرجل كذا بالألف: بعثت به إليه إكرامًا، فهو هديّة بالتثقيل، لا غير، قاله الفيّوميّ
(1)
. (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكَّةٍ) قال في "التاج": العُكَّةُ بالضَّمِّ: آنِيَةُ السَّمْنِ؛ كالشَّكْوَةِ للَّبَنِ، أَصْغَرُ من القِربَةِ، وقال ابنُ الأَثِيرِ: وهي وِعاءٌ من جُلُودٍ، مُستَدِير، للسَّمنِ، والعَسَلِ، يختصّ بهما، وهو بالسَّمْنِ أَخَصّ
(2)
، قال أَبو المُثَلَّمِ يَصِفُ امرأَتَه [من المتقارب]:
لَها ظَبيَةٌ ولها عُكَّةٌ
…
إِذا أَنْفَضَ الحَيُّ لَمْ يُنْفِضِ
جَمْعه: عُكَكٌ، كصُرَدٍ، وعِكاكٌ بالكسرِ. انتهى
(3)
.
(لَهَا سَمْنًا) بفتح، فسكون: سِلاءُ
(4)
الزُّبْد، والزُّبْد سِلاءُ اللبن، وهو للبقر، وقد يكون لِلْمِعْزَى، وأنشد الجوهريّ لامرئ القيس - وذَكَر مِعْزًى له [من الوافر]:
فَتَمْلأُ بَيْتًا أَقِطاً وَسَمْنًا
…
وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيُّ
جَمْعه: أَسْمُنٌ، وسُمُونٌ، وسُمْنَانٌ، مثل أَعْبُدٍ، وعُبُودٍ، وعُبْدان، وأَظْهُر، وظُهُور، وظُهْران، واقتصر الجوهريُّ على الأخيرين، قاله في "التاج"
(5)
.
(فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا، فَيَسْأَلُونَ الأُدْمَ) بضمّتين، أو بضمّ، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله: الإدام: ما يؤتدم به مائعًا كان أو جامدًا، وجَمْعه أُدُمٌ، مثلُ كتاب وكُتُب، ويُسكّن للتخفيف، فيعامَل معاملة المفرد، ويُجمع على آدام، مثلُ قُفْل وأقفال. انتهى
(6)
.
(وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ)؛ أي: مما يؤتدم، (فَتَعْمِدُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب؛ أي: تقصد (إِلَى) الإناء (الَّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) سمنًا، (فَتَجِدُ فِيهِ سَمْنًا) رزقًا من الله عز وجل، (فَمَا زَالَ) ذلك الإناء (يُقِيمُ) بضمّ أوله
(1)
"المصباح المنير" 2/ 636.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" ص 635.
(3)
"تاج العروس" 1/ 6756.
(4)
سلأ السمنَ؛ كمنع: طبخه، وعالجه؛ كاستلأه، والاسم؛ ككتاب، جَمْعه أسلِئة، قاله في "القاموس" ص 627.
(5)
"تاج العروس" 1/ 8072.
(6)
"المصباح المنير" 1/ 9.
من الإقامة، يقال: أقام الصلاة: أدامها
(1)
، والمعنى: أنه يديم (لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا)؛ بمعنى: أنها وأهل بيتها، لا يحتاجون إلى أُدُم غيره، ووقع في بعض النسخ:"أُدُم بنيها". (حَتَّى عَصَرَتْهُ)؛ أي: استخرجت ما فيه من السمن، يقال: عَصَرتُ العنب ونحوه عَصْرًا، من باب ضرب: استخرجتُ ماءه، واعتصرته كذلك
(2)
. (فَأَتَت) المرأة (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(فَقَالَ) معطوف على محذوف؛ أي: فأخبرته الخبر، فقال:("عَصَرْتِيهَا؟ ") بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أعصرتيها؟.
[تنبيه]: قوله: "عصرتيها" هكذا النسخ بإثبات الياء بعد تاء المخاطبة، وكذا في قوله:"تركتيها"، وتقدّم أنه لغة، والجادّة حذفها، كما لا يخفى على من له إلمام بعلم النحو، والله تعالى أعلم.
(قَالَت) المرأة (نَعَمْ) عَصَرْتُها، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ) السمن (قَائِمًا")؛ أي: ثابتًا لديكم لا تحتاجون إلى غيره.
قال في "الفتح": قد استُشْكِل هذا النهي مع الأمر بكيل الطعام، وترتيب البركة على ذلك، ففي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه مرفوعًا:"كِيلوا طعامكم يبارَك لكم فيه"، رواه البخاريّ.
وأجيب: بأن الكيل عند المبايعة مطلوب من أجل تعلّق حقّ المتبايعين، فلهذا القصد يُندب، وأما الكيل عند الإنفاق، فقد يَبعث عليه الشحّ، فلذلك كُرِه، ويؤيده ما أخرجه مسلم بعد هذا من قصّة الرجل الذي استطعم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأطعمه شطر وسق شعير، فما زال الرجل يأكل منه، وامرأته، وضيفهما، حتى كاله، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"لو لم تَكِلْه لأكلتم منه، ولقام لكم". انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله في حديث المرأة: إنها حين عصرت العُكّة ذهبت بركة السمن، وفي حديث الرجل: حين كال الشعير فَنِي، ومثله حديث عائشة رضي الله عنها: حين كالت الشعير ففني، قال العلماء: الحكمة في ذلك أن عَصْرَها، وكَيْله مضادّة للتسليم، والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوّة، وتكلّف للإحاطة بأسرار حِكَم الله تعالى وفَضْله، فعوقب فاعله بزواله. انتهى، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 520 - 521.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 413.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5930](2280)، و (أحمد) في "مسنده" من رواية ابن لَهِيعة عن أبي الزبير (3/ 340 و 347)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه بيان عَلَم من أعلام النبوّة الباهرة، والمعجرة الظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان جواز إهداء الهديّة، واستحباب قبولها.
3 -
(ومنها): جواز هدية المرأة، وجواز قبولها منها.
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: سبب رفع النماء من ذلك عند العصر، والكيل -والله أعلم- الالتفات بعين الحرص مع معاينة إدرار نِعَم الله، ومواهب كراماته، وكثرة بركاته، والغفلة عن الشكر عليها، والثقة بالذي وهبها، والميل إلى الأسباب المعتادة عند مشاهدة خرق العادة، وهذا نحوٌ مما جَرَى لبني إسرائيل في التِّيه، لَمّا أُنزل عليهم المنّ والسلوى، وقيل لهم:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} الآية [البقرة: 172]، فأطاعوا حرص النفس، فادّخروا للأيام، فخَنَزَ اللحم، وفسد الطعام. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ أيضًا: يستفاد من الحديث أن من رُزق شيئًا، أو أُكرم بكرامة، أو لُطِف به في أمر ما، فالمتعيَّن عليه موالاة الشكر، ورؤية المنّة لله تعالى، ولا يُحدث في تلك الحالة تغييرًا، بل يتركها على حالها، ومعنى رؤية المنة: أن يعلم أن ذلك بمحض فضل الله تعالى، وكرمه، لا بحولنا، ولا بقوتنا، ولا استحقاقنا
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 53 - 54.
(2)
"المفهم" 6/ 53 - 54.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5931]
(2281) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَامْرَأَتُهُ، وَضَيْفُهُمَا، حَتَّى كَالَهُ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو المذكور قبل هذا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولا أعرف امرأته
(1)
. (أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطْعِمُهُ)؛ أي: يطلب منه أن يُعطيه الطعام (فَأَطْعَمَهُ)؛ أي: أعطاه (شَطْرَ)؛ أي: نصف (وَسْقِ شَعِيرٍ) بفتح الواو، وكسرها، قال الفيّوميّ: الوَسْقُ: حِمْلُ بعير، يقال: عنده وَسْقٌ من تمر، والجمع: وُسُوقٌ، مثل فَلْس وفُلُوس، وأَوْسَقْتُ البعيرَ بالألف، ووَسَقْتُهُ أَسِقُهُ، من باب وَعَدَ لغةٌ أيضًا: إذا حَمَّلته الوَسْقُ، قال الأزهريّ: الوَسْقُ ستون صاعًا بصاع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والصَّاع خمسة أرطال وثلث، والوَسْقُ على هذا الحساب مائة وستون مَنًّا، والوَسْقُ: ثلاثة أقفزةٍ، وحَكَى بعضهم الكسر لغةً، وجَمْعه: أوساقٌ، مثلُ حِمْل وأَحْمَال. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الوسق بالتقدير المعاصر، كما حرّره بعضهم:(500، 130) كيلو غرامًا
(3)
، والله تعالى أعلم.
(فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الوسق (وَامْرَأَتُهُ) تقدّم أنها لا تُعرف. (وَضَيْفُهُمَا) -بفتح الضاد، وسكون التحتانيّة- قال الفيّوميّ رحمه الله: الضَّيْفُ معروف، ويُطلق بلفظ واحد على الواحد، وغيره؛ لأنه مصدر في الأصل، من ضَافَهُ ضَيْفًا، من باب باع: إذا نَزَل عنده، وتجوز المطابقة،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 391.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 660
(3)
راجع: "الإيضاحات العصريّة للمقاييس، والمكاييل، والأوزان، والنقود الشرعيّة" ص 128، إعداد: محمد صبحي بن حسن حلاق.
فيقال: ضَيْفٌ، وضَيْفَةٌ، وأَضْيَافٌ، وضِيفَانٌ، وأَضَفْتُهُ، وَضَيَّفْتُهُ: إذا أنزلتَهُ، وقَرَيْتَهُ، والاسم: الضِّيَافَةُ، قال ثعلب: ضِفْتَهُ: إذا نزلتَ به، وأنت ضيف عنده، وأَضَفْتَهُ بالألف: إذا أنزلتَهُ عندك ضَيْفًا، وأَضَفْتَهُ إِضَافَةً: إذا لَجَأَ إليك من خوف، فأجرته، واسْتَضَافَنِي، فَأَضَفْتُهُ: استجارني، فأجرته، وتَضَيَّفَنِي، فَضَيَّفْتُهُ: إذا طلب الْقِرَى، فَقَرَيْتَهُ، أو استجارك، فمنعته ممن يطلبه، وأَضَافَهُ إلى الشيء إِضَافَةً: ضمّه إليه، وأماله. انتهى
(1)
.
(حَتَّى كَالَهُ)؛ أي: الرجل ذلك الطعام، فنفد (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فأخبره بما صَنَع من كَيْله الطعام، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ")؛ أي: ثبت، واستمرّ، ولم ينفد، وقال في "المشارق":"ولقام لكم"؛ أي: لدام، ويُروى:"بكم"؛ أي: استعنتم به ما بقيتم. انتهى
(2)
، وقد سبق ما قاله العلماء في سبب نفاده بالكيل في الحديث الماضي، فلا تنس، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5931](2281)، و (أحمد) في "مسنده" من رواية ابن لَهِيعة عن أبي الزبير (3/ 337 و 347)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5932]
(706)
(3)
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ -وَهُوَ ابْنُ أَنَسٍ- عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ غَزْوةِ تَبُوكَ، فَكَانَ يَجْمَعُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 366.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 195.
(3)
هذا الرقم متكرّر، تقدّم.
فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ:"إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمُسّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، حَتَّى آتِيَ"، فَجِئْنَاهَا، وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ، بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ "، قَالَا: نَعَمْ، فَسَبَّهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، قَالَ: ثُمَّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ، قَالَ: وَغَسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا، فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ، أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ -شَكَّ أَبُو عَلِيٍّ أَيُّهُمَا قَالَ- حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ
(1)
، ثُمَّ قَالَ:"يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ صاحب "المسند" تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو عَلِيٍّ الْحَنَفِيُّ) عُبيد الله بن عبد المجيد، أبو عليّ البصريّ، صدوقٌ، لم يثبت أن يحيى بن معين ضعّفه [9](ت 209)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 40/ 1451.
3 -
(أَبُو الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ) بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، وربما سُمِّي عَمْرًا، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عن أبي بكر، فمن بعده، وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم، وغيره (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.
4 -
(مُعَاذُ بْنُ جَبَلِ) بن عَمْرو بن أوس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو عبد الرحمن، الصحابيّ المشهور، من أعيان الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، وما بعدها، وكان إليه المنتهى في العلم بالأحكام، والقرآن، مات بالشام سنة ثماني عشرة (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
(1)
وفي نسخة: "فاستقى الناس".
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية صحابيّ، عن صحابيّ رضي الله عنهما، وأنه مسلسل بالتحديث والإخبار.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ) محمد بن مسلم (أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ) -بضم الطاء المهملة، وفتح الفاء- (عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ) بنصب "عامر" على البدليّة، أو عطف البيان لـ "أبا الطفيل"، (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أبا الزبير، (أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) رضي الله عنه (أَخْبَرَهُ) وقوله:(قَالَ) تفسير وبيان لإخباره. (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ غَزْوَةٍ تَبُوكَ) قال في "الفتح": "تبوك" المشهور فيها عدم الصرف؛ للتأنيث والعَلَمية، ومَنْ صَرَفها أراد الموضع، ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة، وهي مكان معروف، هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال: بين المدينة وبينه أربع عشرة مرحلة، وذكرها في "المحكم" في الثلاثي الصحيح، وكلام ابن قتيبة يقتضي أنها من المعتلّ، فإنه قال: جاءها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهم يبوكون مكان مائها بقِدْح، فقال:"ما زلتم تبوكونها"، فسمّيت حينئذ تبوك. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَاكَتِ الناقة تَبُوكُ بَوْكًا: سَمِنت، فهي بَائِكٌ بغير هاء، وبهذا المضارع سُمِّيت غزوة تَبُوكُ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية، من غير قتال، فكانت خالية عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هُزال، ثم سمّيت البقعة تَبُوكُ بذلك، وهو موضع من بادية الشام، قريب من مَدْين الذين بَعَث الله إليهم شعيبًا. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وبينها وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلةً، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلةً.
وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره، قالوا: بلغ المسلمين
(1)
"الفتح" 9/ 556، كتاب "المغازي" رقم (4415).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 66.
من الأنباط الذين يَقْدَمُون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جَمَعت جموعًا، وأجلبت معهم لَخْم، وجُذَام، وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مُقَدِّمتهم إلى البلقاء، فَنَدَب النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم.
وروى الطبرانيّ من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدّعي النبوّة هلك، وأصابتهم سنون، فهلكت أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم، يقال له: قباذ، وجهّز معه أربعين ألفًا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يكن للناس قوّة، وكان عثمان قد جَهّز عِيرًا إلى الشام، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه مائتا بعير بأقتابها، وأحلاسها، ومائتا أُوقيّة، قال: فسمعته يقول: "لا يضرّ عثمان ما عمل بعدها"، وأخرجه الترمذيّ، والحاكم من حديث عبد الرحمن بن حبان نحوه.
وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى"، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق شَهْر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا، فالحق بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فغزا تبوك، لا يريد إلا الشام، فلمّا بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات من "سورة بني إسرائيل":{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء: 76]. وإسناده حسنٌ، مع كونه مرسلًا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: تبوك موضع معروف بطريق الشام فيه ماء، وهذه الغزوة: هي آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزو الروم، فخرج فيها في شهر رجب سنة تسع من الهجرة في حرٍّ شديد لسفرٍ بعيد، وخرج معه أهل الصدق من المسلمين، وتخلَّف عنه جميع المنافقين، وكانت غزوة أظهر الله فيها من معجزات نبيه صلى الله عليه وسلم وكراماته، ما زاد الله المؤمنين به إيمانًا، وأقام بذلك على الكافرين حجَّة وبرهانًا. انتهى
(2)
.
(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَجْمَعُ الصَّلَاةَ)؛ أي: الصلاة التي يُشرع جَمْعها مع
(1)
"الفتح" 9/ 556، كتاب "المغازي" رقم (4415).
(2)
"المفهم" 6/ 54 - 55.
الأخرى، وهي التي بيّنها بقوله:(فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا المساق أنه أوقع الظهر والعصر في أول الوقت مجموعتين، وكذلك المغرب والعشاء؛ لأنَّه قال بعد ذلك:(حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمًا أَخَّرَ الصَّلَاةَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا) جَمْع تأخير، وحَمَله بعضهم على الجمع الصُّوْريّ بأن صلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أوله.
وتعقبه الخطابيّ، وابن عبد البرّ، وغيرهما بأن الجمع رخصة، فلو كان صُوْريًّا لكان أعظم ضِيقًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها؛ لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما لا يدركه أكثر الخاصّة فضلًا عن العامة.
ومن الدليل على أن الجمع رخصة قول ابن عباس رضي الله عنهما: أراد أن لا يُحرِج أمته، رواه مسلم.
وأيضًا فصريح الأخبار أن الجمع في وقت إحدى الصلاتين، وهو المتبادر إلى الفهم من لفظ الجمع
(1)
.
(ثُمَّ دَخَلَ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا) قال الباجيّ: مقتضاه أنه مقيم غير سائر، لأنه إنما يستعمل في الدخول إلى الخباء والخروج منه، وهو الغالب، إلا أن يريد دخل إلى الطريق مسافرًا، ثم خرج عن الطريق للصلاة، ثم دخله للسير، وفيه بُعْدٌ، وكذا نقله عياض، واستبعده، وقال ابن عبد البرّ: هذا أوضح دليل على ردّ من قال: لا يَجْمع إلا من جَدّ به السير، وهو قاطع للالتباس. انتهى.
ففيه أن المسافر له أن يجمع نازلًا وسائرًا، وكأنه صلى الله عليه وسلم فَعَله لبيان الجواز، وكان أكثر عادته ما دلّ عليه حديث أنس رضي الله عنه في "الصحيحين" وغيرهما قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر، ثم يجمع بينهما، وإذا زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر، ثم رَكِب"، وعند الإسماعيليّ:"وإذا زالت صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم ارتحل"، وقال الشافعية، والمالكية: تَرْك الجمع للمسافر أفضل، وعن مالك رواية بكراهته.
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 1/ 415.
وفي هذه الأحاديث تخصيص حديث الأوقات التي بيَّنها جبريل عليه السلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وبيَّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ بقوله في آخرها:"الوقت ما بين هذين". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وظاهره أنه أخّر الصلاتين إلى آخر وقتهما المشترك، وهو حجَّة لمالك، فإنَّه يقول بجواز كل ذلك، على تفصيل له في الأفضل من ذلك، كما قدَّمناه، وهو أيضًا حجة للشافعيّ عليه في اشتراطه في جواز الجمع بين الصلاتين استعجال السير، والشافعي لا يشترطه، وقد تقدَّم كلّ ذلك في "كتاب الصلاة". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "إلى آخر وقتهما المشترك" فيه نَظَر، بل الظاهر أنه أخَّر إلى وقت الثانية، فهو حجة ظاهرة لمن يقول بالجمع الحقيقيّ في وقت إحداهما، وهو الصحيح، وقد قدّمنا تحقيق ذلك في "كتاب صلاة المسافرين"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّكُمْ) أيها الصحابة (سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللهُ) قاله تبرّكًا، وامتثالًا لقوله عز وجل:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]. (عَيْنَ تَبُوكَ) قال القرطبيّ: ظاهره: أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن غيب بوحي، ويَحْتَمِل غير ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد الاحتمال الثاني، فلا تبصّر. وفيه ردّ لقول من قال: إن سبب تسميتها تبوك قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين سبقا إلى العين: "ما زلتما تبوكونها منذ اليوم"؛ لأن هذا القول قاله قبل أن يصل إلى تبوك بيوم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ)؛ أي: يكون النهار وقت الضحى، يقال: أضحى فلان: إذا صار في وقت الضحى. (فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا) ناهية، ولذا جزم بها قوله:(يَمُسُّ) بفتح الميم، وضمّها، مضارع مسّ يَمَسّ، ويَمُسُّ، من بابي تَعِبَ، وقَتَل، فعلى الأول يجوز كسر السين على أصل التخلّص من
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 1/ 415.
(2)
"المفهم" 6/ 54 - 55.
التقاء الساكنين، وفَتْحها؛ للتخفيف، وعلى الثاني، يجوز فيه ثلاثة أوجه، الكسر، والفتح؛ لِمَا ذُكر، والضمّ؛ إتباعًا لضمّة العين. (مِنْ مَائِهَا شَيْئًا) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما نهاهم عن ذلك، ليظهر انفراده بالمعجزة، وتتحقق نِسبتها إليه، واختصاصه بها، فإنَّه إذا شاركه غيره في مسِّ مائها، لم يتمحض اختصاصه بها، ولذلك لمّا وجد الرجلين عليها؛ أمر أن يُغْرَف له من مائها، وكأنه كان أراد أن يباشر الماء، وهو في موضعه، لكن لمَّا سبقه غيره إليها، جمعوا له من مائها، فغسل فيه يديه ووجهه، ثم أمر أن يعاد ذلك الماء فيها، فلما فعلوا ذلك جاءت العين بماء منهمر، وسُمِع له حِسّ كحس الصواعق. انتهى
(1)
.
(حَتَّى آتِيَ") بالمد؛ أي: أجيء، قال الباجيّ: وفيه أن للإمام المنع من الأمور العامة؛ كالماء، والكلأ؛ للمصلحة
(2)
. (فَجِئْنَاهَا، وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلَانِ) لا يُعرفان. (وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ) بكسر الشين المعجمة: سَيْرُ النعل الذي على ظهر القدم، والمراد: أن ماءها قليلٌ جدًّا، (تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المشهورة: "تَبِضُّ" بالضاد المعجمة؛ أي: تسيل بماء قليل رقيق مثل شراك النعل، وقد رُوي بالصاد المهملة، وكذلك وقع في البخاريّ؛ أي: تبرق. يقال: بصَّ يبصُّ بصيصًا، ووَبَص يبص وبيصًا بمعناه. انتهى
(3)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى قوله: "والعين تَبِضّ بشيء من ماء" أنها كانت تسيل بشيء من ماء ضعيف، قال حميد بن ثور [من الطويل]:
مُنَعَّمَةٍ لَوْ يُصْبِحُ الذَّرُّ سَارِيًا
…
عَلَى جِلْدِهَا بَضَّتْ مَدَارِجُهُ دَمَا
وتقول العرب للموضع حين يُنَدِّي: قد بَضَّ، وتقول: ماءٌ بَضَّ بقطرة، وهذه الرواية الصحيحة المشهورة في "الموطأ":"تَبِضُّ" بالضاد المنقوطة، ومن رواه بالصاد، وضمّ الباء، فمعناه: أنه كان يُضيء فيها شيء من الماء، وَيبْرُق،
(1)
"المفهم" 6/ 54 - 55.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 1/ 415.
(3)
"المفهم" 6/ 54 - 55.
ويُرَى له بَصِيصٌ، أو شيء من بصيص، وعلى الرواية الأولى الناسُ. انتهى
(1)
.
(قَالَ) معاذ (فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَسَسْتُمَا) تقدّم أنه من باب تَعِبَ، وقَتَل، (مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ "، قَالَا: نَعَمْ) قال الباجيّ رحمه الله: لأنهما لم يعلما نهيه، أو حملاه على الكراهة، أو نسياه، إن كانا مؤمنين، وروى أبو بشر الدُّولابيّ أنهما كانا من المنافقين
(2)
. (فَسَبَّهُمَا)؛ أي: شتمهما (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) لإساءتهما بمخالفة نهيه عن مسّ مائها قبله، (وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ)؛ أي: من التعنيف والتوبيخ.
قال القرطبيّ رحمه الله: وسبُّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لهما يَحْتَمِل أن يكون: لأنهما كانا منافقين قصدا المخالفة، فصادف السبُّ محلَّه، ويَحْتَمِل أن كانا غير منافقين، ولم يعلما بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون سبَّه لهما لم يصادف محلًّا، فيكون ذلك لهما رحمة، وزكاةً، كما قاله صلى الله عليه وسلم:"اللهم من لعنته، أو سببته وليس لذلك بأهل، فاجعل ذلك له زكاة، ورحمة، وقربة تقرِّبه بها إليك يوم القيامة"، رواه مسلم.
(قَالَ) معاذ (ثُمَّ غَرَفُوا) بفتح الراء، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، يقال: غَرَف الماء يَغْرِفُهُ، بالكسر، ويَغْرُفه بالضمّ: أخذه بيده؛ كأغترفه، أفاده المجد رحمه الله
(3)
. (بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ)، وقوله:(قَلِيلًا قَلِيلًا) بالتكرار دليلٌ على نهاية القلة، (حَتَّى اجْتَمَعَ) الماء الذي غرفوه (فِي شَيْءٍ) من الأواني التي كانت معهم، قال الزرقانيّ: ولا قلب فيه، وأن أصله: غَرَفُوا في شيء حتى اجتمع ماء كثير، كما تُوُهِّم
(4)
. (قَالَ) معاذ (وَغَسَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ)؛ أي: في الماء الذي في الشيء (يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ)؛ أي: أعاد الماء الذي غسل فيه يديه ووجهه (فِيهَا)؛ أي: في تلك البئر، (فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) الكثير الانصباب والدفع، (أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ -شَكَّ أَبُو عَلِيٍّ) الحنفيّ (أَيُّهُمَا قَالَ-) شيخه مالك بن أنس (حَتَّى اسْتَقَى النَّاسُ)، وفي بعض النسخ:"فاستقى الناس"؛ أي: شَرِبوا، وسَقَوا دوابهم، فهو إخبار عن كثرة الماء، وَهُمْ جيش كثير عددهم.
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 208.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 1/ 415.
(3)
"القاموس المحيط" ص 944.
(4)
"شرح الزرقانيّ" 1/ 416.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يُوشِكُ)؛ أي: يقرب، ويُسرع من غير بطء، (يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ)؛ أي: إن أطال الله عمرك، ورأيت هذا المكان (أَنْ تَرَى)"أن" مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "يوشك"، (مَا) موصولة بمعنى الذي، (هَا هُنَا) إشارة للمكان، (قَدْ مُلِئَ) بالبناء للمفعول، (جِنَانًا") منصوب على التمييز، وهو بكسر الجيم، وتخفيف النون: جمع جنّة، وهي الحديقة، ذات الشجر، وقيل: ذات النخل، وتُجمع أيضًا على جنّات، على لفظها، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وقال القرطبيّ رحمه الله:"الْجِنَان": البستان، من النخل وغيره، سُمِّي بذلك، لأنه يَجُنّ أرضه، وما تحته، أي: يستر ذلك. انتهى
(2)
.
والمعنى: أنه يكثر ماؤه، ويُخصب أرضه، فيكون بساتين، ذات أشجار كثيرة، وثمار، قال الباجيّ: وهذا إخبار بغيب قد وقع، وخَصّ معاذًا رضي الله عنه بذلك، لأنه استوطن الشام، وبها مات، فعَلِم بالوحي أنه سيرى ذلك الموضع، كما ذَكَرَ، وأنه يمتلئ جِنانًا ببركته صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن له معجزة غير هذه لتبيّن صِدْقه، وظهرت حجته.
وقال ابن عبد البرّ: قال ابن وضاح: أنا رأيت ذلك الموضع كلّه حوالي تلك العين جِنانًا خَضِرةً نَضرةً، ولعله يتمادى إلى قيام الساعة، وهكذا النبوة، وأما الشجر فلا يبقى بعد مفارقة صاحبه. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5932](706)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1206)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1/ 285)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 143)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 117)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"
(1)
"المصباح المنير" 1/ 112.
(2)
"المفهم" 6/ 56.
(3)
"شرح الزرقانيّ" 1/ 416.
(4399)
، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 237 - 238)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 356)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2/ 82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1458 و 1591 و 1593 و 1595)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(1/ 160)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 102)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 1629)، و"دلائل النبوّة"(5/ 236)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1041)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه قد اشتَمَل هذا الحديثُ على معجزتين عظيمتين: إحداهما: نَبْع الماء المذكور. والثانية: تعريفه بكثير من علم الغيب، فإنَّ تبوك من ذلك الوقت سُكِنت لأجل ذلك الماء، وغُرِست بساتين، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان أن الإمام يغزو بنفسه العدوّ مع عسكره.
3 -
(ومنها): غزو الروم؛ لأن غزوة تبوك كانت إلى الروم بأرض الشام، وهي غزاةٌ لم يَلْقَ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كيدًا، ولا قتالًا، وانصرف، وقد قيل: إن غزو الروم، وسائر أهل الكتاب أفضل من غيرهم؛ لِمَا أخرجه أبو داود في "سننه": جاءت امرأة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال: لها أم خلاد، وهي منتقبة، تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تسألين عن ابنك، وأنت منتقبة؟ فقالت: إن أُرْزَأُ ابني، فلن أُرزأ حيائي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ابنك له أجر شهيدين"، قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب"
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه الجمعَ بين صلاتي النهار، وبين صلاتي الليل للمسافر، وإن لم يجدّ به السير.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي قوله في هذا الحديث: "فأَخَّر الصلاة يومًا، ثم خرج، فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعًا" دليل على أنه جَمَع بين الصلاتين، وهو نازل، غير سائر، ماكث في خبائه وفسطاطه يخرج، فيقيم الصلاة، ثم ينصرف
(1)
الحديث ضعيف، لجهالة عبد الخبير بن قيس.
إلى خبائه، ثم يخرج، فيقيمها، ويجمع بين الصلاتين، من غير أن يجدّ به السير.
قال: وفي هذا الحديث أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الردّ على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين، إلَّا إذا جَدّ به السير، واختلف الفقهاء في ذلك
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم بيان مذاهب العلماء، وأدلّتهم في هذه المسألة في "كتاب صلاة المسافرين"، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5933]
(1392)
(2)
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَي، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ
(3)
، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَي، عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اخْرُصُوهَا"، فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ:"أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللهُ"، وَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ"، فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، وَجَاءَ رَسُولُ ابْنِ الْعَلْمَاءِ صَاحِبِ أَيْلَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْدَى لَهُ بُرْدًا، ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَي، فَسَأَل رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا:"كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟ "، فَقَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ"، فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ:"هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 12/ 196.
(2)
هذا الرقم مكرّر، تقدّم.
(3)
وفي نسخة: "سهل الساعديّ".
عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ، وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ"، فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ دُورَ الأَنْصَارِ، فَجَعَلَنَا آخِرًا؟ فَأَدْرَكَ سَعْدٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ خَيَّرْتَ دُورَ الأَنْصَارِ، فَجَعَلْتَنَا آخِرًا
(1)
، فَقَالَ:"أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عُمارة بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد الثلاثين، ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
4 -
(عَبَّاسُ بْنُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) المدنيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود العشرين ومائة، وقيل: قبل ذلك (خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 90/ 3372.
5 -
(أَبُو حُمَيْدٍ) الساعديّ الصحابي المشهور، اسمه المنذر بن سعد بن المنذر، أو ابن مالك، وقيل: اسمه عبد الرَّحمن، وقيل: عمرو، شَهِد أُحُدًا وما بعدها، وعاش إلى أول خلافة يزيد سنة ستين (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من أوله إلى آخره.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) وفي رواية وُهيب التالية: "حدّثنا عمرو بن يحيى"(عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ)، وفي رواية الإسماعيليّ:"من طريق وُهيب، حدّثنا عمرو بن يحيي، حدّثنا عبّاس بن سهل الساعديّ"(عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ) الساعديّ رضي الله عنه، تقدّم الخلاف في اسمه آنفًا، أنه (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ) تقدم البحث فيها في الحديث الماضي. (فَأَتَيْنَا وَادِيَ
(1)
وفي نسخة: "فجعلتنا آخر".
الْقُرَى) هي مدينة قديمة بين المدينة والشام، وأغرب ابن قرقول، فقال؛ إنها من أعمال المدينة
(1)
.
وقال الفيّوميّ: وادي القرى: موضع قريبٌ من المدينة على طريق الحاجّ من جهة الشام. انتهى
(2)
.
(عَلَى حَدِيقَةٍ) -بفتح الحاء المهملة- هي: البستان، يكون عليه حائط، فَعِيلة بمعنى مفعولة؛ لأن الحائط أَحْدَقَ بها؛ أي: أحاط، ثم توسعوا، حتى أطلقوا الحَدِيقَةَ على البستان، وإن كان بغير حائط، والجمع: الحَدَائِقُ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وقال في "العمدة": قال ابن سِيدهْ: هي من الرياض، كل أرض استدارت، وقيل: الحديقة كلّ أرض ذات شجرة بثمر ونخل، وقيل: الحديقة البستان والحائط، وخَصّ بعضهم به الجنة من النخل والعنب، وقيل: الحديقة حُفْرة تكون في الوادي، يحتبس فيها الماء، فإذا لم يكن فيه ماء فهو حديقة، ويقال: الحديقة أعمق من الغدير، والحديقة: القطعة من الزرع؛ يعني: أنه مشترك، وكله في معنى الاستدارة، وفي "الغريبين": يقال للقطعة من النخل: حديقة. انتهى
(4)
. (لِامْرَأَةٍ) قال الحافظ: ولم أقف على اسمها في شيء من الطرق. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْرُصُوهَا") بضمّ الراء، من باب نصر، والخرص: الحزر، والتخمين، وقال النوويّ رحمه الله: بضمّ الراء، وكسرها، والضمّ أشهر، أي: احزروا كم يجيء من تمرها. انتهى
(5)
.
وقال في "التاج": الخَرْصُ: الحَزْرُ، والحَدْسُ، والتَّخْمِينُ، هذا هُوَ الأَصْلُ في مَعْنَاه، وقِيلَ: هُوَ التَّظَنِّي فِيما لا تَسْتَيْقِنُه، يُقَال: خَرَصَ العَدَدَ يَخْرِصُهُ -بالكسر- ويَخْرُصُه بالضمّ خَرْصًا، وخِرْصًا: إِذَا حَزَرَه، ومِنْهُ: خَرْصُ النَّخْلِ، والتَّمْرِ؛ لأَنَّ الخَرْصَ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرٌ بِظَنٍّ، لا إِحَاطَة. وقِيلَ: الاسْمُ
(1)
"الفتح" 4/ 331، كتاب "الزكاة" رقم (1481).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 654.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 125.
(4)
"عمدة القاري" 9/ 65، بزيادة من "الفتح" 4/ 334 - 335.
(5)
"شرح النوويّ" 15/ 43.
بالكَسْرِ، والمَصْدَرُ بالفَتْحِ، يُقَالُ: كَمْ خِرْصُ أَرْضِكَ؟ وكَمْ خِرْصُ نَخْلِكَ؟ وفَاعِلُ ذلِكَ الخَارِصُ، والجَمْعُ: الخُرّاصُ، وقال ابنُ شُمَيْلٍ: الخِرْصُ بالكَسْرِ: الحَزْرُ، مِثْل: عَلِمْتُ عِلْمًا، قالَ الأَزْهَرِيُّ: هذَا جَائِزٌ؛ لأَنَّ الاسْمَ يُوضَع مَوْضِعَ المَصْدَرِ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب امتحان العالِم أصحابه بمثل هذا التمرين.
(فَخَرَصْنَاهَا)، ولم أقف على أسماء من خَرَص منهم، (وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَةَ أَوْسُقٍ) على وزن أَفْعُل بضم العين، جَمْع وَسْق بفتح الواو، وهو ستون صاعًا، وهو ثلاثمائة وعشرون رطلًا، عند أهل الحجاز، وأربعمائة وثمانون رطلًا عند أهل العراق، على اختلافهم في مقدار الصاع والمدّ، قاله في "العمدة"
(2)
.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للمرأة ("أَحْصِيهَا)؛ أي: احفظي عدد كيلها، وأصل الإحصاء: العدد بالحصى؛ لأنهم كانوا لا يُحسنون الكتابة، فكانوا يضبطون العدد بالحصى. (حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللهُ") قاله تبرّكًا، عملًا بقوله عز وجل:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} الآية [الكهف: 23، 24]. (وَانْطَلَقْنَا)؛ أي: ذهبنا (حَتَّى قَدِمْنَا) بكسر الدال، (تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ)؛ أي: المستقبلة، (رِيحٌ شَدِيدَةٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا من المعجزات الغيبية، وهي من معجزاته صلى الله عليه وسلم ذات الكثرة، بحيث لا تحصي، يحصل بمجموعها العلم القطعيّ بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعلم كثيرًا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلَّا الله، أو من ارتضاه من الرسل، فأطلعه الله عليه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله عليه، فهو رسول من أفضل الرسل. انتهى
(3)
.
(فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ") بالكسر؛ أي: حَبْله، وفي رواية ابن إسحاق في "المغازي" عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عباس بن سهل:"ولا يخرُجَنّ أحد منكم الليلةَ، إلَّا ومعه صاحب له".
قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على الأخذ بالحزم، والحذر في النفوس،
(1)
"تاج العروس" 1/ 4431.
(2)
"عمدة القاري" 9/ 65.
(3)
"المفهم" 6/ 58.
والأموال، ومن أهمل شيئًا من الأسباب المعتادة، زاعمًا أنه متوكل، فقد غلط، فإنَّ التوكل لا يناقض التحرز، بل حقيقته لا تتم إلَّا لمن جمع بين الاجتهاد في العمل على سُنَّة الله، وبين التفويض إلى الله تعالي، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
(فَهَبَّتْ) من باب قعد؛ أي: هاجت (رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه. (فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حَتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ)، وفي رواية الإسماعيليّ من طريق عفّان، عن وُهيب:"ولم يَقُم فيها أحدٌ غير رجلين، ألقتهما بجبل طي"، وفيه نظرٌ، بيَّنته رواية ابن إسحاق، ولفظه:"ففعل الناس ما أمرهم إلَّا رجلين، من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته، وخرج آخر في طلب بعير له، فأما الذي ذهب لحاجته، فإنه خُنِق على مذهبه، وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبل طيّئ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب له؟ ثم دعا للذي أصيب على مذهبه، فَشُفي، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قَدِم من تبوك".
والمراد بجبلي طيئ المكان الذي كانت القبيلة المذكورة تنزله، واسم الجبلين المذكورين:"أَجَأَ" بهمزة، وجيم مفتوحتين، بعدهما همزة، بوزن قَمَر، وقد لا تهمز، فيكون بوزن عَصَا، و"سلمى"، وهما مشهوران، ويقال: إنهما سمّيا باسم رجل وامرأة من العماليق.
قال الحافظ: ولم أقف على اسم الرجلين المذكورين، وأظنّ تَرْك ذِكرهما وقع عمدًا، فقد وقع في آخر حديث ابن إسحاق أن عبد الله بن أبي بكر حدّثه أن العباس بن سهل سَمَّى الرجلين، ولكنه استكتمني إياهما، قال: وأبى عبد الله أن يسمِّيهما لنا. انتهى
(2)
.
(وَجَاءَ رَسُولُ ابْنِ الْعَلْمَاءِ) -بفتح العين المهملة، وسكون اللام، والمدّ- وهو تأنيث الأعلم، وهو المشقوق الشفة العليا، والأفلح: هو المشقوق الشفة السفلى. (صَاحِبِ أَيْلَةَ)؛ يعني به: مَلِكها.
(1)
"المفهم" 6/ 58.
(2)
"الفتح" 4/ 331 - 332، كتاب "الزكاة" رقم (1481).
و"أيلة" -بفتح الهمزة، وسكون التحتانية، بعدها لام مفتوحة-: بلدة قديمة بساحل البحر، وإليها تُنسب عَقَبة أيلة. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ) وفي مغازي ابن إسحاق: ولمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يُوحَنّا بن رُوبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الجزية، وكذا رواه إبراهيم الحربيّ في الهدايا، من حديث عليّ رضي الله عنه، فاستفيد من ذلك اسمه، واسم أبيه، فلعل الْعَلْماء اسم أمه، و"يوحَنّا" بضم التحتانية، وفتح المهملة، وتشديد النون، و"روبة" بضم الراء، وسكون الواو، بعدها موحّدة.
(وَأَهْدَى) ابن الْعَلْماء صاحب أيلة (لَهُ) صلى الله عليه وسلم (بَغْلَةً بَيْضَاءَ) قال النوويّ رحمه الله: هذه البغلة هي دُلْدُل بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم "المعروفة، لكن ظاهر لفظه هنا أنه أهداها للنبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وقد كانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وقد كانت هذه البغلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وحضر عليها غَزاة حُنين، كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة، وكانت حُنين عقب فتح مكة سنة ثمان، قال القاضي: ولم يُرْوَ أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة غيرها، قال: فيُحْمَل قوله على أنَّه أهداها له قبل ذلك، وقد عَطَف الإهداء على المجيء بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وتعقّب في "الفتح" كلام النوويّ هذا، فقال: هكذا جزم النوويّ، ونَقَل عن العُلَماء أنه لا يُعْرَف له بغلة سواها، وتُعُقّب بأن الحاكم أخرج في "المستدرك" عن ابن عباس أن كسرى أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم بغلةً، فركبها بحبل من شعر، ثم أردفني خلفه
…
الحديث، وهذه غير دُلْدُل، ويقال: إن النجاشيّ أهدى له بغلةً، وأن صاحب دُومة الْجَنْدَل أهدى له بغلةً، وأن دُلْدُل إنما أهداها له الْمُقَوْقِس، وذكر السهيليّ أن التي كانت تحته يوم حنين تُسَمَّى فِضّةً، وكانت شهباء، ووقع عند مسلم في هذه البغلة أن فَرْوَة أهداها له. انتهى.
(فَكَتَبَ إِلَيْهِ)، أي: إلى ابن العَلْماء صاحبِ أيلة، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ذَكَر ابن إسحاق نصّ الكتاب، وهو بعد البسملة: "هذه أَمَنَةٌ من الله، ومحمد النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُوحَنّا بن رُوبة، وأهل أيلة، سُفُنهم وسيارتهم، في البر،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 43 - 44.
والبحر، لهم ذمّة الله، ومحمد النبيّ
…
"، وساق بقية الكتاب.
وفي رواية البخاريّ: "وكَتَبَ له ببحرهم"؛ أي: ببلدهم، أو المراد: بأهل بحرهم؛ لأنهم كانوا سُكانًا بساحل البحر؛ أي: أنه أقرّه عليهم بما التزموه من الجزية، وفي بعض الروايات:"ببحرتهم"؛ أي: بلدتهم، وقيل: البحرة: الأرض، وكان صلى الله عليه وسلم أقطع هذا المَلِك من بلاده قطائع، وفَوَّض إليه حكومتها
(1)
.
(وَأَهْدَى) النبيّ صلى الله عليه وسلم (لَهُ)؛ أي: لابن العَلْماء، (بُرْدًا) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما أهدى له النبيّ صلى الله عليه وسلم "البُرد؛ مكافأةً، ومواصلةً، واستئلافًا ليدخل في دين الإسلام، وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحضره في ذلك الوقت إلا ذلك البرد، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَي، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا)؛ أي: تَمْر حديقتها، (كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟ فَقَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ) بنصب "عشرةَ" مفعولا به لـ "بَلَغَ" محذوفًا؛ أي: بلغ عشرة أوسق.
وفي رواية البخاريّ: "فجاء عشرةَ أوسق، خَرْصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال في "العمدة": قوله: "عشرة أوسق" نُصب بنزع الخافض؛ أي: جاء بمقدار عشرة أوسق، أو نُصِب على الحال، ويجوز أن يُعْطَى لقوله:"جاء" حُكم الأفعال الناقصة، فيكون "عشرةً" خبرًا له، والتقدير: جاءت عشرة أوسق.
وقوله: "خَرْص رسول الله صلى الله عليه وسلم" خَرْصَ مصدر بالنصب على أنه بدل من قوله: "عشرة أوسق"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد خَرَصها عشرة أوسق لَمّا جاء وادي القري، أو عطْف بيان لعشرة، ويجوز الرفع في "عشرةٌ"، وفي "خرص"، والتقدير: الحاصل عشرة أوسق خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز الرفع في "خرص" وحده على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي: العشرة خرص رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِي)، وفي رواية البخاريّ:"إني متعجل إلى المدينة، فمن أحب فليتعجل معي"، وأخرج
(1)
"الفتح" 4/ 332 - 333، كتاب "الزكاة" رقم (1481)، و"عمدة القاري" 9/ 66.
(2)
"المفهم" 6/ 59.
(3)
"عمدة القاري" 9/ 66.
عليّ بن خزيمة في "فوائده" من طريق أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال بسنده إلى أبي حميد:"قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من المدينة أخذ طريق غُراب؛ لأنَّها أقرب إلى المدينة، وترك الأخري، فساق الحديث، ولم يذكر أوله، قال في "الفتح": واستفيد منه بيان قوله: "إني متعجل إلى المدينة، فمن أحب فليتعجل معي"؛ أي: إني سالك الطريق القريبة، فمن أراد فليأت معي؛ يعني: ممن له اقتدار على ذلك، دون بقية الجيش. انتهى
(1)
.
(وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ")؛ أي: فليتأخّر، ولا يتعجّل معي، قال أبو حميد:(فَخَرَجْنَا) مسرعين معه صلى الله عليه وسلم (حَتَّى أَشْرَفْنَا)؛ أي: قاربنا، واطّلعنا (عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هَذِهِ طَابَةُ) اسم للمدينة، وهو غير منصرف؛ للعَلَمية والتأنيث، ومعناها: الطيّبة، وسمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، وكان اسمها في الجاهليّة يثرب. (وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا، وَنُحِبُّهُ") قيل: يعني به: أهل الجبل، وهم الأنصار؛ لأنه لهم، فيكون مجازًا، كما في قوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
والصحيح أنه يحبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حقيقة، فلا حاجة إلى دعوى المجاز بتقدير مضاف، وقد ثبت أنه ارتجّ تحته صلى الله عليه وسلم، فقال له:"اثبُت، فليس عليك إلَّا نبيّ، وصديق، وشهيدان"، وحَنّ الجذع اليابس إليه، حتى نزل، فضمّه، وقال:"لو لَمْ أضمّه لحنّ إلى يوم القيامة"، وكلّمه الذئب، وسَجَد له البعير، وسلّم عليه الحَجَر، وكلّمه اللحم المسموم أنه مسموم، فلا يُنْكَر حبّ الجبل له وحبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ خَيْرَ دُورِ الأنصَارِ) وفي رواية البخاريّ: "ألا أخبركم بخير دور الأنصار"، وكلمة "ألا" للتنبيه، والخطابُ لمن كان معه من الصحابة، والدور: جمع دار، نحو أَسَد وأُسْد، ويريد به القبائل الذين يسكنون الدور؛ يعني: المحالّ، قاله في "العمدة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الدُّور": جَمْع دار، وهو في الأصل: المحلة،
(1)
"الفتح" 4/ 332 - 333، كتاب "الزكاة" رقم (1481).
والمنزل، وعَبَّر به هنا عن القبائل، وهذا نحو قوله:"أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظّف، وتُطيّب"
(1)
، أي: في القبائل، والمحلات. انتهى
(2)
.
(دَارُ بَنِي النَّجَّارِ) هم من الخزرج، وهو -بفتح النون، وتشديد الجيم، وبالراء- وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، قيل: سمّي النجار؛ لأنه اختتن بِقَدُوم، وقيل: بل نَجَر وجه رجل بالقدوم، فسُمّي النجار.
وقال القاضي عياض: المراد: أهل الدور، والمراد: القبائل، وإنما فُضِّل بني النجار؛ لِسَبْقهم في الإسلام، وآثارهم الجميلة في الدِّين.
(ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ) هم من الأوس، وهو عبد الأشهل -بفتح الهمزة، وسكون الشين المعجمة- ابن جُشَم بن الحارث بن الخزرج الأصغر ابن عمرو، وهو النبيت بن مالك بن الأوس، والأوس أحد جِذْمي الأنصار؛ لأنهم جِذمان: الأوس، والخزرج، وهما أخوان، وأمهما قَيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة، وقيل: قيلة بنت كاهل بن عديّ بن سعد بن قُضَاعة
(3)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "ثم بنو عبد الأشهل" هم من الأوس، كذا وقع في هذه الطريق، ولكن وقع في رواية معمر، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبي سلمة، عن أبي هريرة:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ قالوا: بلي، قال: بنو عبد الأشهل، وهم رهط سعد بن معاذ، قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ثم بنو النجار"، فذكر الحديث، وفي آخره: قال معمر: وأخبرني ثابت وقتادة، أنهما سمعا أنس بن مالك يذكر هذا الحديث، إلَّا أنه قال:"بنو النجار، ثم بنو عبد الأشهل"، أخرجه أحمد، وأخرجه مسلم من طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ دون ما بعده، من رواية معمر، عن ثابت وقتادة، وأخرج مسلم أيضًا من طريق أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن أبي أُسيد مثل رواية أنس، عن أبي أسيد، فقد اختُلف على أبي سلمة في إسناده، هل شيخه فيه أبو أُسيد، أو أبو هريرة؟
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه.
(2)
"المفهم" 6/ 59.
(3)
"عمدة القاري" 9/ 67.
ومتْنِهِ، هل قَدَّم عبد الأشهل على بني النجار، أو بالعكس؟ وأما رواية أنس في تقديم بني النجار فلم يُختَلف عليه فيها، ويؤيدها رواية إبراهيم بن محمد بن طلحة، عن أبي أُسيد، وهي عند مسلم أيضًا، وفيها تقديم بني النجار على بني عبد الأشهل، وبنو النجار هم أخوال جدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ والدة عبد المطلب منهم، وعليهم نزل لَمّا قَدِم المدينة، فلهم مزية على غيرهم، وكان أنس منهم، فله مزيد عناية بحفظ فضائلهم. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ)؛ أي: الأكبر؛ أي: ابن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "بني عبد الحارث" هكذا هو في النُّسخ، وكذا نقله القاضي، قال: وهو خطأ من الرواة، وصوابه: بني الحارث، بحذف لفظة "عبد".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "ثم دار بني عبد الحارث" كذا وقع للعذريّ، والفارسيّ، وهو وَهْمٌ، والصواب:"بني الحارث"، بإسقاط "عبد"، والله أعلم.
(ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ) هو من الخزرج أيضًا، وساعدة هو ابن كعب بن الخزرج الأكبر، (وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ")؛ أي: الفضل حاصل في جميع الأنصار، وإن تفاوتت مراتبه.
(فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ)، وهو من بني ساعدة أيضًا، وكان كبيرهم يومئذ، وهو سعد بن عبادة بن دُليم بن حارثة الأنصاريّ، مات بالشام سنة خمس عشرة، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 17/ 912.
(فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ) بضم الهمزة، مصغّرًا الساعديّ، واسمه مالك بن ربيعة بن الْبَدَن، صحابيّ مشهور بكنيته، شهد بدرًا، وغيرها، ومات سنة ثلاثين، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ دُورَ الأنصَارِ، فَجَعَلَنَا آخِرًا؟ فَأَدْرَكَ سَعْدٌ)؛ أي: ابن معاذ، (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ خَيَّرْتَ دُورَ الأَنْصَارِ، فَجَعَلْتَنَا آخِرًا)
(1)
"الفتح" 8/ 491، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3789).
قال القرطبيّ رحمه الله: وقع في بعض النُّسخ: "آخر" بغير تنوين، ولا ألف، جَعَله غير منصرف، وليس بصحيح الرواية، ولا المعني؛ إذ لا مانع من صرفه؛ لأنَّ آخرًا هنا: هو الذي يقابل: أولًا، وكلاهما مصروف، وهو منصوبٌ على أنَّه المفعول الثاني لـ "جَعَلَ"؛ لأنَّها بمعنى: صيَّر. ويَحْتَمِل أن يُتأوَّل في معنى جعل: معنى أنزل، فيكون ظرفًا؛ أي: أنزلتنا منزلًا متأخرًا. وعلى الوجهين فلا بدَّ من صرفه، وكذا وَجَدْنا من تقييد المحققين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وفي رواية أبي الزناد: "فوَجَدَ سعد بن عبادة في نفسه، فقال: خُلِّفنا، فكنا آخر الأربعة، وأراد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال له ابن أخيه سهل: أتذهب لتردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم، أوَ ليس حسبك أن تكون رابع أربعة، فرجع". انتهى.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ لَيْسَ بِحَسْبِكُمْ) بإسكان السين المهملة؛ أي: كافيكم، قال في "الفتح": وهذا يعارض ظاهر الرواية المتقدمة، فإن فيها أن سعدًا رجع عن إرادة مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لَمّا قال له ابن أخيه.
ويمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قَصْد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصّة، ثم إنه لمّا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذَكَر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار، والذي صدر منه وَرَدَ مورد المعاتبة المتلطفة، ولهذا قال له ابن أخيه في الأول: أتردّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ قاله في "الفتح"
(2)
.
(أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ؟ ") ويُروى "من الأخيار"؛ أي: الأفاضل؛ لأنهم بالنسبة إلى مَنْ دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحَسَب السَّبْق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي حُميد الساعديّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"المفهم" 6/ 60.
(2)
"الفتح" 8/ 492، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3789).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 5933 و 5934](1392)، وتقدّم في "الحجِّ" بهذا الرقم، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1481) و"الجزية"(3161) و"فضائل المدينة"(1872) و"مناقب الأنصار"(3791) و"المغازي"(4422)، و (أبو داود) في "الخراج"(3 - 79)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 539 - 540)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 424 - 425)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2314)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6501)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 122)، و"دلائل النبوّة"(5/ 238)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه أشياءَ من أعلام النبوة؛ كالإخبار عن الريح، وما ذُكر في تلك القصّة.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة تدريب الأتباع، وتعليمهم، وأَخْذ الحذر مما يُتَوَقَّع الخوف منه.
3 -
(ومنها): بيان فضل المدينة، والأنصار.
4 -
(ومنها): مشروعية المفاضلة بين الفضلاء بالإجمال، والتعيين، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلُّ على جواز تفضيل بعض المعيَّنين على بعض من غير الأنبياء، وإن سَمِع ذلك المفضول، وقد تقدَّم القول في تفضيل الأنبياء
(1)
.
5 -
(ومنها): مشروعية قبول الهديّة، والمكافأة عليها.
6 -
(ومنها): أنه يدلّ على جواز المدح إذا قُصِد به الإخبار بالحقّ، ودعت إلى ذلك حاجة، وأُمنت الفتنة على الممدوح.
7 -
(ومنها): جواز المنافسة في الخير، والدِّين، والثواب، كما قال سعد:"يا رسول الله خَيَّرت دور الأنصار، فجعلتنا آخرًا"، طلب أن يُلحقهم بالطبقة الأولي، فأجابه صلى الله عليه وسلم بأن قال:"أوَ ليس حسبكم أن تكونوا من الخيار؟ "، وإنما يعني بذلك: أن تفضيلهم إنما هو بحسب سَبْقهم إلى الإسلام،
(1)
"المفهم" 6/ 59.
وظهور آثارهم فيه، وتلك الأمور وقعت في الوجود مرتبة على حسب ما شاء الله تعالى في الأزل، وإذا كان كذلك لَمْ يتقدَّم متأخِّر منهم على منزلته، كما لا يتأخر متقدِّم منهم عن مرتبته؛ إذ تلك مراتب معلومة على قَسْم مقسومة، وقد سبق لسعادتهم القضاء، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 74]
(1)
.
8 -
(ومنها): بيان جواز الخرص إذا احتيج إليه، وأنه طريق معتبَر شرعًا.
9 -
(ومنها): أن خروج ثمرة هذه الحديقة على مقدار ما خَرَصه رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على صحة حَدْسه صلى الله عليه وسلم، وقوة إدراكه، وإصابته وجه الصواب فيما كان يحاوله، ولا يُعارَض هذا بحديث إِبَار النخل، فإنَّ الله تعالى قد أجرى عادة ثابتة متكررة في إِبَار النخل لَمْ يعلمها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما أرى هذا يُغني شيئًا"؛ يعني: الإِبَار، وصَدَق، فإنَّ الله تعالى هو الذي يمسك الثمرة، ويطيّبها إذا شاء، لا الإِبَار، ولا غيره، بخلاف الوصول إلى المقادير بالخرص، فإنَّ الغالب فيه من الممارسين له التقريب، لا التحقيق، وقد أخبر النبيّ بمقدار ذلك على التحقيق، فوُجد كما أخبر، فإنْ كان هذا منه عن حَدْس وتخمين، كان دليلًا على أنَّه قد خُصَّ من ذلك بشيء لَمْ يَصِل إليه غيره، وإن كان ذلك بالوحي، كان ذلك من شواهد نبوته صلى الله عليه وسلم، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
[تنبيه]: "الْخَرْص" -بفتح الخاء المعجمة، وحُكِي كسرها، وبسكون الراء، بعدها مهملة- هو حَزْرُ ما على النخل من الرُّطَب تمرًا، حَكَى الترمذيّ عن بعض أهل العلم أن تفسيره أن الثمار إذا أَدْرَكت من الرُّطَب، والعنب، مما تجب فيه الزكاة بَعَث السلطان خارصًا ينظر، فيقول: يخرج من هذا كذا وكذا زبيبًا، وكذا وكذا تمرًا، فيُحصيه، وينظر مبلغ العشر، فيُثْبته عليهم، ويُخَلِّي بينهم وبين الثمار، فإذا جاء وقت الْجِذَاذ أخذ منهم العُشر. انتهى.
وفائدة الخرص: التوسعة على أرباب الثمار في التناول منها، والبيع من زَهْوِها، وإيثار الأهل، والجيران، والفقراء؛ لأنَّ في مَنْعهم منها تضييقًا لا يخفى.
وقال الخطابيّ: أنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم: إنما كان
(1)
"المفهم" 6/ 59 - 60.
(2)
"المفهم" 6/ 57 - 58.
يُفعل تخويفًا للمزارعين؛ لئلا يخونوا، لا لِيَلْزَم به الحكم؛ لأنه تخمين وغرور، أو كان يجوز قبل تحريم الربا، والقمار.
وتعقبه الخطابيّ بأن تحريم الربا والمَيْسِر متقدِّم، والخرص عُمِل به في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى مات، ثم أبو بكر، وعمر، فمن بعدهم، ولم يُنقل عن أحد منهم، ولا من التابعين تَرْكه، إلَّا عن الشعبيّ، قال: وأما قولهم: إنه تخمين وغرور، فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار التمر، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير.
وحَكَى أبو عبيد عن قوم منهم أن الخرص كان خاصًّا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يوفَّق من الصواب ما لا يوفَّق له غيره.
وتعقبه بأنه لا يلزم من كون غيره لا يُسَدَّد لِمَا كان يسدَّد له سواه أن تَثْبت بذلك الخصوصية، ولو كان المرء لا يجب عليه الاتباع إلَّا فيما يعلم أنه يسدَّد فيه؛ كتسديد الأنبياء لسَقَط الاتباع.
وتُرَدّ هذه الحجة أيضًا بإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم الْخَرَاص في زمانه، والله أعلم.
واعتَلَّ الطحاويّ بأنه يجوز أن يحصل للثمرة آفة، فتُتلفها، فيكون ما يؤخذ من صاحبها مأخوذًا بدلًا مما لَمْ يَسْلَم له.
وأجيب بأن القائلين به لا يُضَمِّنون أرباب الأموال ما تَلَف بعد الخرص.
قال ابن المنذر: أجمع من يُحفظ عنه العلم أن المخروص إذا أصابته جائحة قبل الجذاذ، فلا ضمان. واختَلَف القائلون به، هل هو واجب، أو مستحبّ؟ فحَكَى الصيمُريّ من الشافعية وجهًا بوجوبه، وقال الجمهور: هو مستحبّ، إلَّا إن تَعَلَّق به حقّ لمحجور مثلًا، أو كان شركاؤه غير مؤتمَنين، فيجب؛ لِحِفظ مال الغير.
واختُلِف أيضًا هل يختص بالنخل، أو يُلحق به العنب، أو يعمّ كلّ ما يُنتفع به رَطْبًا، وجافًّا؟ وبالأول قال شُريح القاضي، وبعض أهل الظاهر، والثاني قول الجمهور، وإلى الثالث نحا البخاريّ.
قال الجامع عفا الله عنه: ما نحا إليه البخاري رحمه الله من التعميم هو الأظهر؛ لعموم العلّة، فتأمّل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
وهل يمضي قول الخارص، أو يُرجع إلى ما آل إليه الحال بعد
الجفاف؟، الأول قول مالك، وطائفة، والثاني قول الشافعيّ، ومن تبعه.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله مالك وطائفة هو الأقرب؛ لأنه نتيجة مشروعيّة الخرص، والله تعالى أعلم.
وهل يكفي خارص واحد عارف ثقةٌ، أو لا بدّ من اثنين؟، وهما قولان للشافعي، والجمهور على الأول. واختُلف أيضًا هل هو اعتبار أو تضمين؟ وَهُما قولان للشافعيّ، أظهرهما الثاني.
وفائدته جواز التصرف في جميع الثمرة، ولو أتلف المالك الثمرة بعد الخرص أُخذت منه الزكاة بحساب ما خُرِص، والله تعالى أعلم.
[تكميل]: في "السنن"، و"صحيح ابن حبان" من حديث سهل بن أبي حَثْمَة رضي الله عنه مرفوعًا:"إذا خَرَصتم فخذوا، ودَعُوا الثلث، فإن لَمْ تدعوا الثلث، فدعوا الربع"، وقال بظاهره الليث، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، وفَهِم منه أبو عبيد في "كتاب الأموال" أنه القَدْر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه، فقال: يُترك قدر احتياجهم، وقال مالك، وسفيان: لا يُترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعيّ، قال ابن العربيّ: والمتحصل من صحيح النظر أن يُعْمَل بالحديث، وهو قدر المؤنة، ولقد جَرَّبناه، فوجدناه كذلك في الأغلب، مما يؤكل رُطَبًا. انتهي، ذكر هذا كله في "الفتح"
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5934]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَي، بِهَذَا الإِسنَادِ إِلَى قَوْلِهِ:"وَفِي كُلِّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ، مِنْ قِصَّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ:"فَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَحْرِهِم". وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: "فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم").
(1)
"الفتح" 4/ 330 - 334، كتاب "الزكاة" رقم (1482).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، وربما وَهِم، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات بعدها بيسير، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
3 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ) أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
4 -
(وُهَيْبُ) بالتصغير ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأَخَرَة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ يعني: إسناد عمرو بن يحيى السابق، وهو عن عبّاس بن سهل بن سعد الساعديّ، عن أبي حُميد رضي الله عنه.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) فاعل "يذكر" ضمير وُهيب، ويَحتمل أن يكون الضمير لكلّ من عفّان، والمغيرة، وكان الظاهر أن يقول:"ولم يذكرا".
وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ) فاعل "زاد" ضمير وُهيب، وكان الأَولى أن يقول:"في حديثه" بالضمير، ويَحتَمل الوجه المذكور قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ) فاعل "يذكر" أيضًا ضمير وُهيب، وكان الأَولى أن يقول:"في حديثه" بالضمير، كسابقه.
وقوله أيضًا: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بيان للاختلاف الواقع بين وهيب بن خالد، وبين سليمان بن بلال، في ألفاظ الحديث، حيث وقع في حديث وُهيب بلفظ:"فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم"، ووقع في حديث سليمان بلفظ:"فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فتنبّه.
وقوله: (كَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِبَحْرِهِم) قال القرطبيّ رحمه الله: البحر هنا؛ يراد به البلد، والبحار: القري، وقد تقدم، وكأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقطعه بعض تلك البلاد، كما قد أقطع تميمًا الداريّ رضي الله عنه بلد الخليل صلى الله عليه وسلم قبل فَتْحه، ويظهر من
حال ابن العَلماء أنه استشعر، أو علم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سيظهر، ويغلب على ما تحت يده هو من البلاد، فساله أن يُقطعه بعضها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية وُهيب بن خالد عن عمرو بن يحيى هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4503)
- أخبرنا أبو يعلي، حدّثنا أبو خيثمة، قال: حدّثنا عفّان، قال: حدّثنا وهيب، عن عمرو بن يحيى المازنيّ، عن العباس بن سهل بن سعد الساعديّ، عن أبي حُميد الساعديّ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، حتى جئنا وادي القري، فإذا امرأة في حديقة لها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:"اخْرُصُوا"، فخَرَص القومُ، وخَرَص رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عشرةَ أوسق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة:"أحْصِي ما يخرج منها حتى أرجع إليك، إن شاء الله"، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قَدِم تبوك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ستَهُبُّ عليكم الليلةَ ريح شديدةٌ، فلا يقومنّ فيها رجل، ومن كان له بعير فليوثق عقاله"، قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هَبّت علينا ريح، فقام فيها رجل، فألقته في جبل طيّء، ثم جاءه ملك أيلة، وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلةً بيضاءَ، فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْدًا، وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
، ثم أقبل، وأقبلنا معه حتى جئنا وادي القري، فقال للمرأة:"كم جاء حديقتك؟ " قالت: عشرة أوسق، خَرْص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني متعجلٌ، فمن أحب منكم أن يتعجل معي، فليفعل"، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجنا معه، حتى إذا أوفى على المدينة، فقال:"هذه طابة"، فلما رأى أُحُدًا قال:"هذا أُحُدٌ، هذا جبل يحبنا، ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار؟ "، قالوا: بلي، قال:"خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث، ثم دار بني ساعدة، وفي كلّ دور الأنصار خير". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
سقط من النسخة قوله: "ببحرهم"، وهو ثابت في "مصنّف ابن أبي شيبة"، وقد نبّه عليه مسلم هنا، فليُتنبّه.
(2)
"صحيح ابن حبان" 10/ 354.
(4) - (بَابُ تَوَكُّلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى اللهِ، وَعِصْمَةِ اللهِ تَعَالَى إِيّاهُ مِنَ النَّاسِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5935]
(843)
(1)
- (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَادٍ كثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي، وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَالسَّيْفُ صَلْتًا فِي يَدِهِ، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ
(2)
مِنِّي؟، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ، قَالَ: فَشَامَ السَّيْفَ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ"، ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ) الْوَرَكانيّ -بفتحتين- أبو عمران الْخُرَاسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ) ويقال له: الدِّيليّ أيضًا المدنيّ، ثقةٌ [3]
(1)
هذا الرقم تقدّم، فهو مكرّر.
(2)
وفي نسخة: "فقال: من يمنعك".
(ت 105) وله (82) سنةً (خ م ت س) تقدم في "السلام" 18/ 5776.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو سلمة" هو: ابن عبد الرَّحمن بن عوف.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف بالنسبة للأول، ومن خماسيّاته بالنسبة للثاني، وله فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ) وفي الرواية التالية: "عن الزهري، حدّثني سنان بن أبي سنان الدُّؤَليّ، وأبو سلمة بن عبد الرَّحمن
…
"، و"الدُّؤَليّ" بضم الدال المهملة، وفتح الهمزة، وهو مدنيّ، اسم أبيه يزيد بن أمية، ليس له عند مسلم إلا حديثان، هذا الحديث، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا عدوي، ولا صفر
…
"، وقد تقدّم في "كتاب الطبّ" برقم [5776] (2220)، وليس له في البخاريّ أيضًا سوى هذين الحديثين، كما يأتي عن "الفتح".
وقال في "العمدة": قوله: "الدُّؤَليّ" -بضم الدال، وفتح الهمزة-، قال الكرمانيّ: ويروى بكسر الدال، وسكون الياء، آخرِ الحروف، قال العينيّ: الأول نسبة إلى الدُّئِل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو بكسر الهمزة، ولكنها فُتحت في النسبة، والثاني نسبة إلى الدُّؤوْل -بسكون الواو- ابن حنيفة بن لحيم، وإلى غير ذلك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الفتح" عند قوله: "حدّثني سنان، وأبو سلمة" ما نصّه: أما سنان فهو ابن أبي سنان الدُّؤَليّ، كما في الرواية الثانية، والدُّؤَليّ بضم المهملة، وفتح الهمزة، وهو مدني اسم أبيه يزيد بن أمية، وثّقه العجليّ وغيره، وما له في البخاري سوى هذا الحديث، وآخر من روايته عن أبي هريرة في "الطبّ".
وأما أبو سلمة: فهو ابن عبد الرحمن بن عوف، كذا رواه شعيب عنهما، ورواه إبراهيم بن سعد كما تقدم في "الجهاد"، فلم يذكر فيه أبا سلمة، وكذا
(1)
"عمدة القاري" 17/ 199.
رواه مسلم عن محمد بن جعفر الْوَرَكَانيّ، عن إبراهيم بن سعد
(1)
، ورواه الحارث بن أبي أسامة عن محمد الْوَرَكانيّ هذا، فأثبت فيه أبا سلمة، ورواه ابن أبي عتيق عن الزهريّ، فلم يذكر أبا سلمة، ورواه معمر عن الزهريّ، كما سيأتي بعد أحاديث قليلة، فلم يذكر سنانًا، فكأنّ الزهريّ كان تارةً يجمعهما، وتارة يُفرد أحدهما.
وإسماعيل في الرواية الثانية، هو ابن أبي أويس، وأخوه هو عبد الحميد، وسليمان شيخه هو ابن بلال، ومحمد بن أبي عتيق، نُسِب إلى جدّه، فإن أبا عتيق، هو محمد بن عبد الرَّحمن بن أبي بكر الصدّيق، ومحمد هذا الراوي هو ابن عبد الله بن محمد بن عبد الرَّحمن، وقد ساق البخاري الحديث على لفظ ابن أبي عتيق، وليس فيه ذِكر أبي سلمة، وذَكَرَ من طريق شعيب، وهي عن سنان، وأبي سلمة معًا قطعةً يسيرةً:"فإن جابرًا أخبر أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد"، وتقدم في "الجهاد" عن أبي اليمان وحده بتمامه، قال: ورأيتها موافقةً لرواية ابن أبي عَتيق إلا في آخره، كما سأبيّنه.
وأما رواية إبراهيم بن سعد ففيها اختصار، وقد رواه عن جابر أيضًا سليمان بن قيس، كما في رواية مسدّد التي بعد هذه بحديث، ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، كما في الرواية المعلّقة بعده، فذكر بعض ما في حديث الزهريّ، وزاد قصّة صلاة الخوف. انتهى ما في "الفتح"، وإنما ذكرته، وإن كان معظمه يتعلّق بروايات البخاريّ؛ لكونه جَمَع اختلاف الروايات في هذا الحديث في موضع واحد، وفي ذلك فوائد مهمّة، والله تعالى أعلم.
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ
نَجْدٍ) -بكسر القاف، وفتح الباء الموحّدة- أي: جهته، وقال ابن الأثير: النجد ما ارتفع من الأرض، وهو اسم خاصّ لِمَا دون الحجاز، مما يلي العراق، وقال الجوهريّ: نَجْد من بلاد العرب، وهو خلاف الْغَوْر، والْغَوْر هو تِهامة، وكل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نَجْد، وهو مذكّر،
(1)
يعني: الرواية التي نشرحها الآن.
والحاصل أن غزوة ذات الرقاع كانت بنجد
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبَل نجد": النجد: المرتفع من الأرض، والغور: المنخفض منها، هذا أصلها، ثم قد صارا بحكم العُرف اسمين لجهتين مخصوصتين معروفتين، وصحيحُ الرواية، ومشهورها:"نجد"، ووقع للعذري:"أحد". انتهى
(2)
.
وفي رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه الآتية: "قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتّى إذا كنّا بذات الرقاع
…
". (فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على الفاعليّة، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ": هذا اللفظ ذُكِر فيه: "أدركَنَا" بفتح الكاف "رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" بالرفع على الفاعليّة، وعليه فيكونون قد تقدموه للوادي؛ لمصلحة من مصالحهم؛ ككونهم طليعة، أو صيانة للنبيّ صلى الله عليه وسلم مما يُخشى عليه، أو غير ذلك، ويَحْتَمِل أن يُقَيَّد: "فأدركْنَا رسولَ اللهِ" بسكون الكاف، ونَصْب "رسول" على المفعوليّة، فيكون فيه ما يدلُّ على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويكون كنحو ما اتفق له لمّا وقع الفزع بالمدينة، فركب فرسًا، فسبقهم، فاستبرأ الخبر، ثم رجع، فلقي أصحابه خروجًا، فقال لهم:"لَمْ تُراعوا". انتهى
(3)
.
(فِي وَادٍ) هو كلّ مُنْفَرِجٍ بين جبال، أو آكام يكون منفذًا للسيل، والجمع أوديةٌ، واشتقاقه من ودَى الشيءُ: إذا سال، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(4)
. (كثِيرِ الْعِضَاهِ) -بكسر العين المهملة، وتخفيف الضاد المعجمة-: كلُّ شجر يَعْظُم، له شوكٌ، وقيل: هو العظيم من السَّمُر مطلقًا، وقد تقدم غير مرّة، قاله في "الفتح"
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: العِضَاهُ وزانُ كِتَاب من شجر الشوك؛ كالطَّلح، والْعَوْسج، واستثنى بعضهم القَتَاد، والسِّدْرَ، فلم يجعله من العِضَاهِ، والهاء أصلية، وعَضِهَ البعيرُ عَضَهًا، فهو عَضِهٌ، من باب تَعِبَ: رَعَى العِضَاهَ،
(1)
"عمدة القاري" 17/ 199.
(2)
"المفهم" 6/ 61.
(3)
"المفهم" 6/ 61.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 654.
(5)
"الفتح" 9/ 237، كتاب "المغازي" رقم (4135).
واختلفوا في الواحدة، وهي: عِضَهٌ بكسر العين، فقيل: بالهاء، وهي أصلية أيضًا، ومنهم من يقول: اللام في الواحدة محذوفة، وهي واو، والهاء للتأنيث عوضًا عنها، فيقال: عِضَةٌ، كما يقال: عِزَةٌ، وشَفَةٌ، قال: والأصل عِضَوَةٌ، ومنهم من يقول: اللام المحذوفة هاء، وربما ثبتت مع هاء التأنيث، فيقال: عِضَهَةٌ، وزانُ عِنَبَة. انتهى
(1)
.
(فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَة) وفي رواية البخاريّ: "فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سَمُرة"؛ أي: شجرة كثيرة الورق، وفي رواية معمر:"فاستظل بها"، ويُفسِّره ما في رواية يحيى بن أبي كثير الماضية في "الصلاة":"كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. (فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا) قال المجد رحمه الله: "الغُصْن بالضمّ: ما تشعّب من ساق الشجر، دِقاقُها، وغِلاظها، والصغيرة بهاء، جَمْعه: غُصُونٌ، وغِصَنَةٌ، وأغصانٌ". انتهى
(2)
. (قَالَ) جابر (وَتَفَرَّقَ النَّاسُ)؛ أي: الصحابة الذين غزوا معه صلى الله عليه وسلم، (فِي الْوَادِي) حال كونهم (يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ) ليقيلوا تحت ظلّها، قال القرطبيّ رحمه الله: فيه جواز افتراق العسكر في النزول إذا أَمِنوا على أنفسهم، وكأنهم قد أجهدهم التعب والحر، فقالوا مستظلين بالشجر.
(قَالَ) جابر (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَجُلًا) قال النوويّ: قال العلماء هذا الرجل اسمه غَوْرث -بغين معجمة، وثاء مثلثة- والغين مضمومة، ومفتوحة، وحَكَى القاضي الوجهين، ثم قال: الصواب الفتح، قال: وضَبَطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة، والصواب المعجمة، وقال الخطابيّ: هو غُويرث، أو غورث على التصغير، والشك، وهو غورث بن الحارث، قال القاضي، وقد جاء في حديث آخر مثل هذا الخبر، وسُمِّي الرجل فيه دعثورًا. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": وغَوْرَث وزن جَعْفر، وقيل: بضم أوله، وهو بغين معجمة، وراء، ومثلّثة، مأخوذ من الْغَرْث، وهو الجوع، ووقع عند الخطيب
(1)
"المصباح المنير" 2/ 415.
(2)
"القاموس المحيط" ص 950.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 44 - 45.
بالكاف بدل المثلثة، وحَكَى الخطابيّ فيه غُويرث بالتصغير، وحَكَى عياض أن بعض المغاربة قال في البخاريّ بالعين المهملة، قال: وصوابه بالمعجمة، ووقع عند الواقديّ في سبب هذه القصة أن اسم الأعرابي دعثور، وأنه أسلم، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين، فالله أعلم
(1)
.
(أَتَانِي) وفي رواية البخاريّ: "فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدْعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي"، قال في "الفتح": هذا السياق يُفَسِّر رواية يحيى: "فإن فيها: فجاء رجل من المشركين
…
إلخ"، فبيَّنت هذه الرواية أن هذا القَدْر لَمْ يحضره الصحابة، وإنما سمعوه من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن دعاهم، واستيقظوا.
وقال في "العمدة": كلمة "إذا" في الموضعين للمفاجأة، وقوله:"أعرابي جالس"، وفي رواية معمر:"فإذا أعرابي قاعد بين يديه"، واسمه غُورث، كما سيأتي
(2)
.
وقوله: (وَأَنَا نَائِمٌ) جملة حالية من المفعول، (فَأَخَذَ) الرجل (السَّيْفَ)؛ أي: سيفه صلى الله عليه وسلم المعلّق بالغصن؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة، فهي عين الأُولي، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "عقود الجمان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
شَاهِدُهَا الَّذِي رَوينَا مُسْنَدَا
…
"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدَا
وَنَقَضَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ
…
وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ
قال محمد: قلت متعقِّبًا لاستشكال السبكيّ هذا:
قُلْتُ وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذْ ذِي تُحْمَلُ
…
عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ يُسْتَعْمَلُ
(فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ)؛ أي: والحال أن ذلك الرجل (قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ) بضمّ العين، من باب نصر؛ أي: لَمْ أعلم، أو لَمْ أتفطّن (إِلَّا وَالسَّيْفُ) مبتدأ، وقوله:(صَلْتًا) منصوب على الحال، وهو بفتح الصاد المهملة، وسكون اللام، بعدها مثنّاة؛ أي: مجرّدًا من غِمْده، وقوله:(فِي يَدِهِ) خبر المبتدأ.
(1)
"الفتح" 9/ 239، كتاب "المغازي" رقم (4134).
(2)
"عمدة القاري" 17/ 199.
وقال القرطبيُّ رحمه الله: قوله: "صَلْتٌ في يده" رُوي برفع "صلت"، ونَصْبه، فمن رَفَعه جعله خبر المبتدأ الذي هو "السيف"، و"في يده" متعلّق به، ومن نَصَبه جعل الخبر في الجارّ والمجرور، ونصب "صَلْتًا" على الحال؛ أي: مُصلتًا، وهو المجرَّد من غمده، والمشهور بفتح الصاد من:"صَلَتَ"
(1)
، وذكر القتبيّ: أنَّها تُكسر في لغة. انتهى.
قال: هذا يدلّ: على أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لا يحرُسه أحدٌ من الناس، بخلاف ما كان عليه في أول أمره، فإنَّه كان يُحرَس حتى أنزل الله تعالى عليه:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فقال لمن كان يحرسه:"اذهبوا فإنَّ الله تعالى قد عصمني من الناس"
(2)
، فمن ذلك الوقت لَمْ يحرسه أحدٌ منهم، ثقةً منه بوعد الله، وتوكلًا عليه.
(1)
قال في "تاج العروس" 1/ 1122: الصَّلْتُ: السَّيْفُ الصَّقِيلُ المُنْجَرِدُ الماضي في الضَّرِيبة. وبعضٌ يقولُ: لا يُقالُ: الصَّلْتُ لِما كان فيه طُولُ؛ كالمُنْصَلِتِ والإِصْلِيتِ بالكسر. ويقال: أَصْلَتُّ السَّيفَ: إِذا جَرَّدْتهُ، ورُبَّما اشْتَقُّوا نَعْتَ أَفْعَل من إِفْعِيل مثل إِبْلِيسَ؛ لأَنَّ الله أَبْلَسَهُ. وسَيْفٌ إِصْلِيتٌ: صَقِيلٌ. ويجوز أَنْ يكون في معنى: مُصْلَتٍ وفي حديث غَوْرَثٍ: "فاخْترَطَ السَّيْفَ وهُوَ في يَدِه صَلْتًا"؛ أَي: مُجَرَّدًا. وعن ابن سِيدَهْ: أَصْلَتَ السَّيفَ: جَرَّده من غِمْده فهو مُصْلَتٌ، وضرَبَهُ بالسَّيْفِ صَلْتًا وصُلْتًا؛ أي: ضرَبَه به وهو مُصْلَتٌ. الصَّلْتُ: السِّكِّينُ المُصْلَتَة وقيل: هي الكبِيرَةُ والجمع أَصْلَاتٌ. وعن أَبي عَمْرٍو: سِكِّينٌ صَلْتٌ وَسَيْفٌ صَلْتٌ ومِخْيَطٌ صَلْتٌ: إِذا لَمْ يكن له غِلافٌ. وقيل: انجَرَد من غِمْدِه. وروى عن العُكْلِيّ: جاؤُوا بِصَلْتٍ مثلِ كَتِفِ النّاقة؛ أَي: بشَفْرَةٍ عظيمة. ويُضَمُّ وبه صدّر في كتاب الأَسماءِ والأَفعال. الصَّلْتُ: الرَّجُلُ الماضي في الحَوائِجِ الخفيف اللِّبَاس؛ كالأَصْلَتِيّ والمِصْلاتِ والمِصْلَتِ بالكسر فيهما، والمُنْصَلِتِ المُسْرَعُ من كُلّ شيْءٍ. وفي الصِّحاح: رَجُلٌ مِصْلَةٌ بكسر الميم: إِذا كان ماضيًا في الأُمور، وكذلك أَصْلَتِيٌّ ومُنْصَلِتٌ وصَلْتٌ ومِصْلاتٌ. وفي الأَساس: رجلٌ أَصْلَتِيٌّ: سريعٌ مُتَشَمِّرٌ، وهو من مَصالِيتِ الرِّجال، قال عامرُ بنُ الطُّفيْل:
أَنّا المَصَالِيتُ يَوْمَ الوَغَى
…
إِذا ما المَغاوِيرُ لَمْ تَقْدَمِ
انتهى.
(2)
رواه الترمذيّ، وقال: غريب.
وفيه: جواز نوم المسافر إذا أَمِن على نفسه، وأما مع الخوف، فالواجب: التحرز والحذر. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ؟) وفي بعض النسخ: "فقال: من يمنعك؟ "(مِنِّي)؛ أي: تعرّضي لك بالقتل، أو الضرب.
وقال القرطبيّ: قوله: "من يمنعك مني؟ ": استفهام مُشْرب بالنفي؛ كأنه قال: لا مانع لك مني! فلم يبال النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله، ولا عرَّج عليه، ثقةً منه بوعد الله، وتوكلًا عليه، وعلمًا منه: بأنه ليس في الوجود فِعْل إلا لله تعالي، فإنَّه أعلم الناس بالله تعالي، وأشدُّهم له خشية، فأجابه بقوله:"الله"، ثانية، وثالثة، فلمّا سمع الرَّجُل ذلك، وشاهد تلك القوة التي فارق بها عادة الناس في مثل تلك الحال، تحقق صدقه، وعَلِم: أنه لا يصل إليه بضرر. وهذا من أعظم الخوارق للعادة، فإنَّه عدوٌّ، متمكِّن، بيده سيفٌ شاهرٌ، وموتٌ حاضرٌ، ولا حال تغيّرت، ولا روعة حصلت، هذا محال في العادات، فوقوعه من أبلغ الكرامات، ومع اقتران التحدِّي به يكون من أوضح المعجزات. انتهى
(2)
.
وفي رواية يحيى بن أبي كثير الماضية: "فأخذ سيف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فاخترطه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: اللهُ) فاعل لفعل مقدَّر دلّ عليه السؤال؛ أي: يمنعني الله عز وجل، (ثُمَّ قَالَ) الرجل (فِي) المرّة (الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: اللهُ) قال في "الفتح": وفي رواية يحيى: "فقال: تخافني؟، قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ "، وكرر ذلك في رواية أبي اليمان في "الجهاد" ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاريّ؛ أي: لا يمنعك مني أحد؛ لأن الأعرابي كان قائمًا، والسيف في يده، والنبيّ صلى الله عليه وسلم جالس، لا سيف معه، ويؤخذ من مراجعة الأعرابيّ له في الكلام أن الله سبحانه وتعالى منع نبيّه صلى الله عليه وسلم منه، وإلا فما أحوجه إلى مراجعته مع احتياجه إلى الحظوة عند قومه بقتله، وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في جوابه:"الله"؛ أي: يمنعني منك إشارة إلى ذلك، ولذلك أعادها الأعرابيّ،
(1)
"المفهم" 6/ 61.
(2)
"المفهم" 6/ 61.
فلم يزده على ذلك الجواب، وفي ذلك غاية التهكم به، وعدم المبالاة به أصلًا. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَشَامَ السَّيْفَ)؛ أي: أغمده، وهو من باب ضرب، ويقال أيضًا: شام السيف: إذا استلّه من غمده، فهو من الأضداد
(1)
.
(فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ") كلمة "ها" للتنبيه، و"هو" ضمير الشأن، وكلمة "ذا" للإشارة إلى الحاضر، مبتدأ، و"جالس" خبره، والجملة خبر لقوله:"هو"، فلا تحتاج إلى رابط، كما عُرِف في موضعه، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "المشارق": قوله: "فشام السيف، فها هو ذا جالس"، كذا عند شيوخنا، ورواه بعضهم:"جالسًا"، وكلاهما صحيح، إن جَعَلتَ "ذا" خبر المبتدأ كان "جالسًا" نَصْبًا على الحال، وإن جَعَلت "ذا" من صلتها جَعَلت "جالس" رفعًا خبر المبتدأ، وكذلك في هذا الحديث:"والسيف صلتٌ في يده" كذا لأكثرهم على الخبر، وعند القابسيّ:"صلتًا". انتهى
(3)
.
وقال النوويّ: أما قوله: "صَلْتًا" فبفتح الصاد، وضمها؛ أي: مسلولًا، وأما شَامَه، فبالشين المعجمة، ومعناه: أغمده، ورَدّه في غمده، يقال: شام السيف: إذا سَلّه، وإذا أغمده، فهو من الأضداد، والمراد هنا: أغمده. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "فها هو ذا جالس"؛ هكذا وجدته بخط شيخنا أبي الصَّبر أيوب في نسخته، ووجدته في نسخة أخرى:"فشام السيف، ها هو ذا هو جالس" بإسقاط الفاء، وزيادة "هو"، والأول أحسن؛ لأنَّ الفاء رابطة، و"هو" لا يحتاج إليها، فهي زائدة.
ومعنى هذا الكلام: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نبَّه على ذلك الرجل، وأخبر عنه، وأشار إليه، فكأنه قال: تنبَّهوا لهذا الرجل؛ إذ مُنِع مِمَّا همَّ به، واستسلم لِمَا يُفعَلُ فيه، ثم تلافاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعفوه وحلمه، وعاد عليه بعوائده الكريمة وصفحه، فلم يَعْرِض له على ما كان منه. انتهى
(5)
.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" ص 722.
(2)
"عمدة القاري" 17/ 199.
(3)
"مشارق الأنوار" 2/ 363.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 45.
(5)
"المفهم" 6/ 61.
وفي رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة المتقدّمة في "الصلاة": فتهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظاهرها يُشعر بأنهم حضروا القصّة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد، وليس كذلك، يردّه قوله في هذه الرواية بعد قوله:"قلت: الله، فشام السيف"، وكأن الأعرابيّ لمّا شاهد ذلك الثبات العظيم منه صلى الله عليه وسلم"، وعَرَف أنه حيل بينه وبينه تحقق صِدْقه، وعَلِم أنه لا يصل إليه، فألقى السلاح، وأمكن من نفسه.
ووقع في رواية ابن إسحاق بعد قوله: "قال: الله": "فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: من يمنعك أنت مني؟ قال: لا أحد، قال: قُمْ، فاذهب لشأنك، فلما وَلَّى قال: أنت خير مني".
وأما قوله في هذه الرواية: "فها هو جالسٌ، ثم لَمْ يعاقبه" فيُجمع مع رواية ابن إسحاق بأن قوله: "فاذهب" كان بعد أن أخبر الصحابة بقصته، فمَنّ عليه، لشدّة رغبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في استئلاف الكفار، ليدخلوا في الإسلام.
(ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ) بكسر الراء، من باب ضرب، (لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، أي: لَمْ يتعرّض له بالمعاقبة، بل عفا عنه، ولم يؤاخذه بما صنع، وفي رواية البخاريّ:"فها هو ذا جالس، ثم لَمْ يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد ذكر الواقديّ في نحو هذه القصة أنه أسلم، وأنه رجع إلى قومه، فاهتدى به خلق كثير، ووقع في رواية ابن إسحاق:"ثم أسلم بعدُ"
(1)
، والله تعالى أعلم.
قال في "الفتح": وفي الحديث فرط شجاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوة يقينه، وصبره على الأذي، وحِلْمه عن الجهال، وفيه جواز تفرق العسكر في النزول، ونومهم، وهذا محله إذا لَمْ يكن هناك ما يخافون منه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: في الحديث بيان توكل النبيّ صلى الله عليه وسلم على الله، وعصمة الله تعالى له من الناس، كما قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ، وفيه جواز الاستظلال بأشجار البوادي، وتعليق السلاح وغيره فيها،
(1)
"الفتح" 9: 237 - 238، كتاب "المغازي" رقم (4136).
(2)
"الفتح" 9: 237 - 238، كتاب "المغازي" رقم (4136).
وجوازُ الْمَنّ على الكافر الحربيّ، وإطلاقه، وفيه الحثّ على مراقبة الله تعالي، والعفو، والحلم، ومقابلة السيئة بالحسنة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تخريجه في "كتاب صلاة المسافرين وقصرها" في "باب صلاة الخوف" برقم [57/ 1949](843) وكذا فوائده، فراجعه تستفد، وبالله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5936]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهُمَا، أَنَّهُ غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ يَوْمًا، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، وَمَعْمَرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصغاني -بفتح الصاد المهملة، ثم الغين المعجمة- نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْراني -بفتح الموحّدة- الحمصيّ مشهورٌ بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولةً [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 44.
(2753)
- حَدَّثَنَا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: حدّثني سنان بن أبي سنان الدُّؤَليّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبر، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم قَفَل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العِضَاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرّق الناس، يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سَمُرة، وعلّق بها سيفه، ونِمْنا نَوْمة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابيّ، فقال:"إن هذا اخترط عليّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت، وهو في يده صَلْتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله" ثلاثًا، ولم يعاقبه، وجلس. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5937]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ؛ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ) العطار البصريّ، أبو يزيد، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود (165)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي كثِيرٍ) اليماميّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة هذه ساقها المصنّف رحمه الله في "كتاب الصلاة"، فقال:
(843)
- حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا عفّان، حَدَّثَنَا أبان بن يزيد،
حَدَّثَنَا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر، قال: أقبلنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرِّقَاع، قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة
تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال: فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1065.
مُعَلَّق بشجرة، فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاخترطه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك"، قال: فتهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغمد السيف، وعلَّقه، قال: فنودي بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان. انتهى
(1)
.
(5) - (بَابُ بَيَانِ مَثَلِ مَا بُعِثَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْهُدَي، وَالْعِلْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5938]
(2282) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ -وَاللَّفْظُ لأَبِي عَامِرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَي، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ عز وجل مِنَ الْهُدَي، وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا، وَرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا
(2)
أُخْرَي، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ اللهُ بِمَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ
(3)
، فَعَلِمَ، وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل خمسة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة شرحه، و"أبو عامر الأشعريّ" هو: عبد الله بن برّاد الكوفي، و"أبو أسامة" هو: حمّاد بن أُسامة، و"بُريد" هو ابن عبد الله بن أبي بردة، وكنيته أبو
(1)
"صحيح مسلم" 1/ 576.
(2)
وفي نسخة: "وأصاب منها".
(3)
وفي بعض النسخ: "ونفعه بما بعثني الله به".
بُردة، وهو الصغير، وجدّه هو الكبير، والأكبر هو أبو بُردة، أخو أبي موسى الأشعريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء، له ولهم، فهو أخذ منهم سماعًا مع جماعة، ولذا قال:"حَدَّثَنَا"، وهم أخذوا عن أبي أسامة كذلك سماعًا، ولذا قالوا:"حَدَّثَنَا"، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه أبو كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية الراوي، عن جدّه عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ بُرَيْدٍ) بصيغة التصغير، ابن عبد الله بن أبي بُردة (عَنْ) جدّه (أَبِي بُرْدَةَ) قيل: اسمه الحارث، وقيل: عامر، وقيل: اسمه كنيته، (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم الأشعريّ الصحابيّ الشهير المتوفّى سنة (50 هـ) رضي الله عنه، وقيل: بعدها. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ مَثَلَ) -بفتح الميم، والثاء المثلثة- المراد به ههنا الصفة العجبية، لا القول السائر
(1)
. (مَا بَعَثَنِي اللهُ عز وجل بِهِ مِنَ الْهُدَى) قال الجوهريّ: الهدى: الرَّشَاد، والدلالة، يُذَكَّر، ويؤنَّث، يقال: هداه الله للدين هُدًى، وهَدَيْته الطريقَ، والبيتَ هِدايةً؛ أي: عرّفته، هذه لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقول: هديته إلى الطريق، وإلى الدار، حكاها الأخفش، وهَدَي، واهتدى بمعنًى، وفي الاصطلاح: الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية
(2)
.
(وَالْعِلْمِ) هو صفة توجب تمييزًا لا يَحْتَمِل متعلَّقه النقيض، والمراد به ههنا: الأدلة الشرعية
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 77.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 77.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 77.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "من الهدى والعلم"؛ أي: الطريقة والعمل، روي:"من ازداد علمًا، ولم يزدد هدى لَمْ يزدد من الله إلا بُعدًا". انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": فيه عَطْف المدلول على الدليل؛ لأنَّ الهدى هو الدلالة، والعلم هو المدلول، وَجِهة الجمع بينهما هو النظر إلى أن الهدى بالنسبة إلى الغير؛ أي: التكميل، والعلم بالنسبة إلى الشخص؛ أي: الكمال، ويقال: الهدى الطريقة، والعلم هو العمل. انتهى
(2)
.
(كَمَثَلِ غَيْثٍ) الغَيْثُ: المطر، وغَاثَ اللهُ البلادَ غَيْثًا، من باب ضرب: أنزل بها الغَيْثَ، فالأرض مَغِيثَةٌ، ومَغْيُوثَةٌ، ويُبْنَى للمفعول، فيقال: غِيثَتِ الأرضُ تُغَاثُ، قال أبو عمرو بن العلاء: سمعت ذا الرُّمّة يقول: قاتل الله أَمَةَ بني فلان، ما أفصحها! قلت لها: كيف كان المطر عندكم؟ فقالت: غِثْنَا مَا شِئْنَا، وغَاثَ الغيثُ الأرضَ غَيْثًا، من باب ضرب أيضًا: نزل بها، وسُمِّي النبات غَيْثًا؛ تسميةً باسم السبب، فيقال: رَعَينا الغَيْثَ، قاله الفيّوميّ: رحمه الله
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: واختير الغيث على سائر أسماء المطر؛ لِيُؤْذن باضطرار الخلق إليه حينئذ، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} الآية [الشورى: 28]، وقد كان الناس قبل المبعث قد امتُحِنوا بموت القلوب، ونُضُوب العلم، حتى أصابهم الله برحمة من عنده، فأفاض عليهم سِجال الوحي السماويّ، فأشبهت حالهم حال من توالت عليهم السنون، وأخلفتهم المحامل، حتى تداركهم الله بلطفه، وأَرْخت عليهم السماء، غير أنه كان حظّ كلّ فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر، وإنما ضرب المثل بالغيث للمشابهة التي بينه وبين العلم، فإن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيى القلب الميت. انتهى
(4)
.
(أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَتْ مِنْهَا)؛ أي: من تلك الأرض التي أصابها الغيث
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 616.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 79.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 458.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 616.
(طَائِفَةٌ)؛ أي: قطعة (طَيِّبَةٌ)، أي: منبتة، قال النوويّ رحمه الله: فهكذا هو في جميع نسخ مسلم: "طائفة طيبة"، ووقع في البخاريّ:"فكان منها نَقِيَّةٌ، قَبِلَت الماء" بنون مفتوحة، ثم قاف مكسورة، ثم ياء مثناة من تحتُ مُشَدَّدة، وهو بمعنى"طيبة"، هذا هو المشهور في روايات البخاريّ، ورواه الخطابيّ وغيره:"ثغبة" بالثاء المثلثة، والغين المعجمة، والباء الموحّدة، قال الخطابيّ: هو مستنقع الماء في الجبال، والصخور، وهو الثغب أيضًا، وجَمْعه ثغبان، قال القاضي، وصاحب "المطالع": هذه الرواية غَلَطٌ من الناقلين، وتصحيفٌ، وإحالة للمعنى؛ لأنه إنما جُعلت هذه الطائفة الأُولى مَثَلًا لِمَا يُنبت، والثغبة لا تنبت. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "نقية" كذا عند البخاريّ في جميع الروايات التي رأيناها بالنون، من النقاء، وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابيّ، والحميديّ، وفي حاشية أصل أبي ذَرٍّ:"ثَغِبة" بمثلثة مفتوحة، وغين معجمة مكسورة، بعدها موحّدة خفيفة، مفتوحة، قال الخطابيّ: هي مُسْتَنْقَع الماء في الجبال، والصخور، قال القاضي عياض: هذا غَلَطٌ في الرواية، وإحالة للمعنى؛ لأنَّ هذا وَصْف الطائفة الأُولى التي تُنبت، وما ذَكَره يصلح وصفًا للثانية التي تُمسك الماء، قال: وما ضبطناه في البخاريّ من جميع الطرق إلا "نَقِيَّةٌ" بفتح النون، وكسر القاف، وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم:"طائفة طيبة"، قال الحافظ: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد، والمستخرجات، كما عند مسلم، وفي كتاب الزركشيّ: ورُوي "بقعة"، قلت
(2)
: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات "الصحيحين"، ثم قرأت في "شرح ابن رجب" أن في رواية بالموحدة، بدل النون، قال: والمراد بها القطعة الطيبة، كما يقال: فلان بقية الناس، ومنه:{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116]. انتهى
(3)
.
(قَبِلَتِ الْمَاءَ) بكسر الباء الموحّدة، يقال: قَبِلتُ العقدَ أقبَله، من باب
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 47.
(2)
القائل: هو الحافظ ابن حجر.
(3)
"الفتح" 1/ 308 - 309، كتاب "العلم" رقم (79).
تَعِبَ قَبُولًا بالفتح، والضمُّ لغةٌ حكاها ابن الأعرابيّ، وقَبِلتُ القولَ: صدّقته، وقَبِلتُ الهديّةَ: أخذتها، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قَبِلت" بفتح القاف، وكسر الموحّدة، من القَبول، كذا في معظم الروايات، ووقع عند الأصيليّ:"قَيَّلَت" بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قبلت" لَمْ يختلف رواة مسلم في هذا الحرف أنه بالباء الموحّدة، من القبول؛ أي: شربت الماء، فانتفعت به، وقيَّده بعض رواة البخاريّ:"قيَّلت" -باثنتين من تحتها-. وقال الأصيليّ: إنه تصحيف، وقال غيره: ليس كذلك، ومعناه: جَمَعَت، تقول العرب: تقيَّل الماءُ في الموضع المنخفض: إذا اجتمع فيه.
قال القرطبيّ: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّه قد ذكر بعد هذا الطائفة الممسكة الماء، الجامعة له، فعلى ما قاله تكون الطائفتان واحدة، ويفسد معنى الخبر، والتشبيه، وقيل: يكون معنى قيّلت: شربت، قال: والقَيْل: شُرب نصف النهار، وقيّلت الإبلُ: إذا شربت قائلة.
قال: وهذا أيضًا ليس بشيء؛ لأنَّ مقصود الحديث لا يخصّ شرب القائلة من غيرها، والأظهر ما قاله الأصيليّ. انتهى
(3)
.
(فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ) بفتح الكاف، مهموزًا بلا مدّ، وقوله:(وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ)"الْعُشب" بضمّ، فسكون، من عَطْف الخاصّ على العامّ؛ لأنَّ الكلأ يُطلق على النبت الرطب واليابس معًا، والعشب للرطب فقط، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال في "العمدة": الكلأ بفتح الكاف، واللام، وفي آخره همزة، بلا مَدّ، قال الصغانيّ: الكلأ: العشب، وقد كَلِئت الأرضُ، فهي كليئة، ثم قال في باب العشب: العشب: الكلأ الرطب، ولا يقال له: حشيش حتى يَهِيج،
(1)
"المصباح المنير"(2/ 488).
(2)
"الفتح" 1/ 308 - 309، كتاب "العلم" رقم (79).
(3)
"المفهم" 6/ 82.
(4)
"الفتح" 1/ 308 - 309، كتاب "العلم" رقم (79).
وأعشبت الأرضُ: إذا أنبتت العشب، وقال في باب الحشيش: الحشيس الكلأ اليابس، ولا يقال له: رطب حشيش.
قال العينيّ رحمه الله: عُلِم من كلامه أن الكلأ يُطلق على الرطب من النبات، واليابس منه، وكذا صَرّح به ابن فارس، والجوهريّ، والقاضي عياض: الكلأ يُطلق على الرطب واليابس من النبات، وفُهِم من قول الصغاني أيضًا أن الحشيش لا يُطلق على الرطب، كذا صرّح به الجوهريّ، وهو منقول عن الأصمعيّ، ذكره البطليوسي في "أدب الكتاب"، ونقل عن أبي حاتم إطلاقه عليه، وقال الكرمانيّ: الكلأ بالهمزة هو النبات يابسًا ورطبًا، وأما العشب والخلا -مقصورًا- فمختصان بالرَّطْب، والحشيش مختص باليابس. انتهى.
وقال الجوهري: الخلا -مقصورًا- الحشيش اليابس، الواحدة خلاة، مثلُ حصى وحصاة، قال العينيّ: والصواب مع الكرمانيّ، فالجوهريّ سهى فيه؛ لأن الخلاء: الرَّطْب، فإذا يبس فهو حشيش. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تعقّب العينيّ رحمه الله هذا وجيه؛ قال الفيّوميّ: قال في "الكفاية": الخلا: الرطب، وهو ما كان غَضًّا من الكلأ، وأما الحشيش فهو اليابس. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما العشب، والكلأ، والحشيش: فكلها أسماء للنبات، لكن الحشيش مختصّ باليابس، والعشب والخلا -مقصورًا- مختصان بالرَّطْب، والكلأ بالهمز: يقع على اليابس والرَّطْب، وقال الخطابيّ، وابن فارس: الكلأ يقع على اليابس، وهذا شاذّ ضعيف. انتهى
(3)
.
(وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ) بالجيم، والدال المهملة: هي الأرض التي لا تُنبت كلأ، وقال الخطابيّ: هي الأرض التي تُمسك الماء، فلا يُسرع فيه النُّضُوب، قال ابن بطال، وصاحب "المطالع"، وآخرون: هو جمع جَدْب على غير قياس، كما قالوا في حُسْن: جمعه محاسن، والقياس أن محاسن جَمْع محسن، وكذا قالوا: مَشابِه جمع شَبَه، وقياسه أن يكون جمع مشبه، قال
(1)
"عمدة القاري" 2/ 77.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 181.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 46.
الخطابيّ: وقال بعضهم: "أحادب"، بالحاء المهملة، والدال، قال: وليس بشيء، قال: وقال بعضهم: "أجارد"، بالجيم، والراء، والدال، قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية، قال الأصمعيّ: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه: أنها جرداء بارزة، لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم: إنما هي "إخاذات" بالخاء، والذال المعجمتين، وبالألف، وهو جمع إخاذة، وهي الغدير الذي يمسك الماء، وذكر صاحب "المطالع" هذه الأوجه التي ذكرها الخطابيّ، فجعلها روايات منقولة، وقال القاضي في "الشرح": لَمْ يَرِدْ هذا الحرف في مسلم، ولا في غيره إلا بالدال المهملة، من الجدب الذي هو ضِدّ الْخِصْب، قال: وعليه شَرَح الشارحون. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إخاذات"، كذا في رواية أبي ذَرّ بكسر الهمزة، والخاء، والذال المعجمتين، وآخره مثناة من فوقُ، قبلها ألف، جمع إخاذة، وهي الأرض التي تُمسك الماء، وفي رواية غير أبي ذرّ، وكذا في مسلم وغيره:"أجادب" بالجيم، والدال المهملة، بعدها موحّدةٌ: جمع جَدْب بفتح الدال المهملة، على غير قياس، وهي الأرض الصلبة التي لا يَنْضُب منها الماء، وضَبَطه المازريّ
(2)
بالذال المعجمة، وَوَهَّمه القاضي، ورواها الإسماعيليّ عن أبي يعلي، عن أبي كريب:"أحارب" بحاء وراء مهملتين، قال الإسماعيليّ: لَمْ يضبطه أبو يعلي، وقال الخطابيّ
(3)
: ليست هذه الرواية بشيء، قال: وقال بعضهم: "أجارد" بجيم، وراء، ثم دال مهملة: جَمْع جرداء، وهي البارزة التي لا تُنْبت، قال الخطابيّ: هو صحيح المعني، إن ساعدته الرواية، وأغرب صاحب "المطالع"، فجعل الجميع روايات، وليس في "الصحيحين" سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي
(4)
. انتهى
(5)
.
(أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ)؛ أي: بتلك الأجادب؛ أي: بمائها الذي أمسكته، وللأصيلي "به"؛ أي: بالماء. (فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَسَقَوْا) قال أهل
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 46.
(2)
"المعلم" 3/ 123.
(3)
"الأعلام" 1/ 198.
(4)
"مشارق الأنوار" 1/ 142.
(5)
"الفتح" 1/ 308 - 309، كتاب "العلم" رقم (79).
اللغة: سقي، وأسقى بمعنى لغتان، وقيل: سقاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سُقْيا
(1)
. (وَرَعَوْا) قال النوويّ رحمه الله: بالراء من الرعي، هكذا هو في جميع نُسخ مسلم، ووقع في البخاريّ:"وزرعوا"، وكلاهما صحيح. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": فيه حذف المفاعيل من قوله: "فشربوا، وسقوا، وزرعوا"، لكونها معلومةً، ولأنها فضلة في الكلام، والتقدير: فشربوا من الماء، وسقوا دوابهم، وزرعوا ما يصلح للزرع. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وزرعوا" كذا له بزيادة زاي، من الزرع، ووافقه أبو يعلي، ويعقوب بن الأخرم، وغيرهما، عن أبي كريب، ولمسلم، والنسائيّ، وغيرهما، عن أبي كريب:"ورَعَوْا" بغير زاي، من الرعي، قال النوويّ: كلاهما صحيح، ورجّح القاضي رواية مسلم بلا مرجح؛ لأن رواية "زرعوا" تدل على مباشرة الزرع؛ لِتُطابِقَ في التمثيل مباشرةَ طلب العلم، وإن كانت رواية "رَعَوا" مطابقة لقوله:"أنبتت"، لكن المراد أنَّها قابلة للإنبات، وقيل: إنه رُوي: "وَوَعَوْا " بواوين، ولا أصل لذلك، وقال القاضي: قوله: "وَرَعَوْا" راجع للأُولي، لأن الثانية لَمْ يحصل منها نبات. انتهى.
قال الحافظ: ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضًا، بمعنى أن الماء الذي استقرّ بها سُقيت منه أرض أخري، فأنبتت. انتهى
(4)
.
(وَأَصَابَ)؛ أي: الماء (طَائِفَةً مِنْهَا)؛ أي: قطعة من الأرض، ووقع في بعض النُّسخ:"وأصاب منها طائفة"(أُخْرَي، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ) بكسر القاف: جمع القاع، وهي الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في الحديث، قال في "العمدة": أصل قيعان: قِوْعان، قُلبت الواو ياء، لسكونها، وانكسار ما قبلها، والقاع يُجمع أيضًا على أَقْوُع، وأقواع، والقِيعة بكسر القاف: بمعنى القاع. انتهى
(5)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 78.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 47.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 79.
(4)
"الفتح" 1/ 308 - 310، كتاب "العلم" رقم (79).
(5)
"عمدة القاري" 2/ 78.
وقال المجد رحمه الله: القاع: أرض سهلةٌ مُطْمَئِنَّةٌ، قد انفرجت عنها الجبال، والآكام، جمعه: قِيعٌ، وقِيعَةٌ، وقِيعانٌ، بكسرهنّ، وأقواعٌ، وأَقْوُعٌ. انتهى
(1)
.
(لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً) قال القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "وأصاب طائفة أخرى" ما نصّه: هذا مَثَل للطائفة الثالثة التي بلغها الشرع، فلم تؤمن، ولم تقبل، وشبّهها بالقيعان السَّبخة التي لا تقبل الماء في نفسها، وتفسده على غيرها، فلا يكون منها إنبات، ولا يحصل بما حصل فيها نفع، و"القيعان": جمع قاع، وهو ما انخفض من الأرض، وهو الْمُسْتَنْقَع أيضًا، وهذا يعم ما يفسد فيه الماء، وما لا يفسد، لكن مقصود الحديث: ما يفسد فيه الماء. انتهى
(2)
.
(فَذَلِكَ) الفاء فيه تفصيلية، و"ذلك" إشارة إلى ما ذكر من الأقسام الثلاثة، وهو في محل الرفع على الابتداء، وخبره قوله:(مَثَلُ مَنْ فَقُهَ) قال النوويّ رحمه الله: رُوي هنا بالوجهين: بالضم، والكسر، والضم أشهر، وقال في "العمدة": الفقه: الفهم، يقال: فَقِه بكسر القاف، كفَرِح يَفْرَح، وأما الفقه الشرعيّ، فقالوا: يقال منه: فَقُه بضم القاف، وقال ابن دُريد: بكسرها، والمراد به ههنا هو الثاني، فتضم القاف على المشهور، وعلى قول ابن دريد تُكسر. انتهى
(3)
.
(فِي دِينِ اللهِ) متعلّق بـ "فقه"، (وَنَفَعَهُ اللهُ بِمَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ) هكذا في النسخة الهنديّة، فيكون ذِكْر لفظ الجلالة ثانيًا من باب الإظهار في مقام الإضمار للتلذّذ، ووقع في معظم النسخ، ووقع في بعض النسخ:"ونفعه بما بعثني الله به"، ولفظ البخاريّ:"ونفعه ما بعثني الله به"، وهي واضحة، فـ "ما" موصولة فاعل "نفعه"، وعلى ما في معظم النسخ فيكون "نفع"، و"بعث" تنازعا لفظ الجلالة، أو الباء زائدة في الفاعل، كما في قوله تعالى:{وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6]، و"ما" هي الفاعل. (فَعَلِمَ) بفتح العين، وكسر اللام ثلاثيًّا؛ أي: صار عالِمًا لنفسه، (وَعَلَّمَ) بفتح العين، وتشديد اللام؛ أي: علّم غيره، قال القرطبيّ: هذا مثال الطائفة الأُولى. (وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ) بالبناء للفاعل،
(1)
"القاموس المحيط" ص 1104.
(2)
"المفهم" 6/ 84.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 78.
(بِذَلِكَ)؛ أي: بما بعثه الله به، (رَأْسًا) كناية عن عدم قبوله، وقال في "العمدة": قوله: "من لَمْ يرفع بذلك رأسًا"؛ يعني: تكبّر، يقال ذلك، ويراد به أنه لَمْ يلتفت إليه من غاية تكبّره. انتهى
(1)
.
(وَلَمْ يَقْبَلْ) بالبناء للفاعل أيضًا، (هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، قال القرطبيّ: هذا مثال الطائفة الثالثة، وسكت عن الثانية، إما لأنَّها قد دخلت في الأُولى بوجه؛ لأنَّها قد حصل منها نَفْع في الدِّين، وإمَّا لأنه أخبر بالأهمّ، فالأهمّ، وهما الطائفتان المتقابلتان: العليا، والسفلي، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
قال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث، ومقصوده تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس.
فالنوع الأول من الأرض: ينتفع بالمطر، فيَحْيَى بعد أن كان ميتًا، ويُنبت الكلأ، فينتفع بها الناس، والدوابّ، والزرع، وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يَبْلُغه الهدي، والعلم، فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به، ويعلّمه غيره، فينتفع، وينفع.
والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس، والدوابّ، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل، يستنبطون به المعاني، والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة، والعمل به، فهم يحفظونه، حتى يأتي طالبٌ محتاجٌ متعطِّشٌ لِمَا عندهم من العلم، أهل للنفع، والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.
والنوع الثالث من الأرض: السِّباخ التي لا تُنبت، ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تُمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه
(1)
"عمدة القاري" 2/ 80.
(2)
"المفهم" 6/ 84.
لِنَفْع غيرهم، والله أعلم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 5938](2282)، و (البخاريّ) في "العلم"(79)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 427)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 399)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1/ 177)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 296)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 149)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(1/ 368)، و (الرامهرمزيّ) في "الأمثال"(ص 24)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(135)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ضرب الأمثال لتوضيح العلم، وتسهيل وصوله إلى أفهام الناس.
2 -
(ومنها): فضل العلم والتعليم، وشدّة الحثّ عليهما.
3 -
(ومنها): ذم الإعراض عن العلم، وعدم الاشتغال بتحصيله.
4 -
(ومنها): بيان انقسام الناس فيما أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، فمنهم المؤمن به، والمنتفع لنفسه، والنافع لغيره، ومنهم المنتفع لنفسه، ولم يصل إلى درجة أن ينتفع به الناس، ومنهم المُعْرِض المُدْبِر، الذي أنزل الله تعالى فيه، وفي أمثاله قوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)} [لقمان: 7]، وقوله:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)} [الإسراء: 46]، وقوله:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [فصلت: 44].
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 47 - 48.
5 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: في الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست مكتسبةً، بل هي مواهب ربّانيّة، يختصّ بها من يشاء، وكمالها أن يُفيض الله عز وجل عليها من المشكاة النبويّة، فإذا وُجِد من يشتغل بغير الكتاب والسُّنَّة، وما والاهما عُلم أن الله تعالى لَمْ يُرد به خيرًا، فلا يُعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي عَلِمَ، وعَمِلَ، ثم عَلَّم، وأن فاقد أحدهما فاقد لهذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعمله، كما يفيدهم بعلمه، ولو أفاد بالعمل فحسب لَمْ يَحظ منه بطائل؛ كأرض معشبة لا ماء فيها، فلا يمرأ مرعاها، ولو اقتصر على القول لأشبه السقي مجرّدًا عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقي، ولو منعهما معًا كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظلمة عن مستحقّيها، كما قال [من الطويل]:
وَمَنْ مَنَحَ الْجُهَّالَ عِلْمًا أَضَاعَهُ
…
وَمَنْ مَنَعَ الْمُسْتَوْجِبِينَ فَقَدْ ظَلَمْ
(1)
(المسألة الرابعة): فيما قاله العلماء في المَثَل المضروب في هذا الحديث:
قد تقدّم ما قاله النوويّ رحمه الله في "شرحه"، وقال القرطبيّ رحمه الله: مقصود هذا الحديث ضَرْبُ مَثَل لِمَا جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم من العلم والدِّين، ولمن جاءهم بذلك، فشبَّه ما جاء به بالمطر العام الذي يأتي الناس في حال إشرافهم على الهلاك يُحييهم، ويُغيثهم، ثم شبَّه السامعين له بالأرض المختلفة؛ فمنهم: العالم العامل المعلِّم، فهذا بمنزلة الأرض الطيبة شَرِبت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم، الحافظ له، المستغرق لزمانه في جَمْعه ووعيه؛ غير أنه لَمْ يتفرغ للعمل بنوافله، ولا ليتفقه فيما جَمَع، لكنه أدَّاه لغيره كما سمعه، فهذا بمنزلة الأرض الصَّلبة التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس بذلك الماء، فيشربون ويَسقون، وهذا القسم: هو الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: "نضَّر الله امرءًا سمع مني حديثًا، فبلَّغه غيره، فربَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه"
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 618.
(2)
حديث صحيح، رواه أحمد 1/ 437، والترمذيّ (2657)، وابن ماجة (232).
لا يقال: فتشبيه هذا القسم بهذه الأرض التي أمسكت على غيرها، ولم تشرب في نفسها يقتضي إلا تكون عملت بما لزمها من العلم ولا من الدِّين، ومن لَمْ يقم بما وجب عليه من أمور الدِّين، فلا يُنسب للعلماء، ولا للمسلمين؛ لأنَّا نقول: القيام بالواجبات ليس خاصًّا بالعلماء، بل: يستوي فيها العلماء، وغيرهم، ومن لَمْ يقم بواجبات عِلْمه كان من الطائفة الثالثة التي لَمْ تشرب، ولم تُمسك؛ لأنَّه لمّا لَمْ يعمل بما وجب عليه لَمْ ينتفع بعلمه، ولأنه عاص، فلا يصلح للأخذ عنه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ وغيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا جاء به من الدين مَثَلًا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت، فانتفعت في نفسها، وأنبتت، فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لَمْ يعمل بنوافله، أو لَمْ يتفقه فيما جَمَع، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء، فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله:"نضر الله امرأ سمع مقالتي، فأداها كما سمعها"، ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه، ولا يعمل به، ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السَّبْخَة، أو الملساء التي لا تقبل الماء، أو تفسده على غيرها، وإنما جَمَع في المَثَل بين الطائفتين الأُوليين المحمودتين؛ لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة؛ لعدم النفع بها، والله أعلم.
قال الحافظ: ثم ظهر لي أن في كلّ مَثَل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأُولى منه مَن دخل في الدين، ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به، ولم يعلّمه، ومثالها من الأرض: السباخ، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"من لم يرفع بذلك رأسًا"؛ أي: أعرض عنه، فلم ينتفع به، ولا نفع، والثانية منه من لَمْ يدخل في الدين أصلًا، بل بلغه، فكفر به، ومثالها من الأرض: الصمّاء
(1)
"المفهم" 6/ 83 - 84.
الملساء المستوية التي يمر عليها الماء، فلا تنتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:"ولم يقبل هدى الله الذي جئت به".
وقال الطيبيّ: بقي من أقسام الناس قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه، ولم يعلّمه غيره، والثاني من لَمْ ينتفع به في نفسه، وعلّمه غيره.
قال الحافظ: والأول داخل في الأول؛ لأنَّ النفع حصل في الجملة، وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تُنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به، ومنه ما يصير هشيمًا، وأما الثاني فإن كان عَمِل الفرائض، وأهمل النوافل، فقد دخل في الثاني، كما قررناه، وإنْ تَرَك الفرائض أيضًا فهو فاسق، لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم:"من لَمْ يرفع بذلك رأسًا"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قال الخطابيّ: هذا مَثَل ضُرِب لمن قَبِل الهدي، وعَلِم، ثم عَلَّم غيره، فنفعه الله، ونفع به، ومن لَمْ يقبل الهدي، فلم ينفع بالعلم، ولم ينتفع به.
قال العينيّ: فعلى هذا لَمْ يجعل الناس على ثلاثة أنواع، بل على نوعين.
وقال الطيبيّ
(2)
: القسمة الثنائية هي المنصورة، وذلك أن "أصاب منها طائفةً" معطوف على "أصاب أرضًا"، والضمير في "منها" يرجع إلى مطلق الأرض المدلول عليه بقوله:"أرضًا"، ثم قُسمت الأرض الأولى -بحرف التعقيب في "فكانت"، وعطف "كانت"، على "كانت"- قسمين، فليزم اشتمال الأرض الأُولى على الطائفة الطيّبة، وعلى الأجادب، والثانية على عكسها، فالواو في و"كانت" ضمّت وِتْرًا إلى وتر، وفي "وأصابت" شفعًا إلى شفع، نظيره قوله تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} [فاطر: 19، 20]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [الأحزاب: 35].
(1)
"الفتح" 1/ 310 - 311، كتاب "العلم" رقم (79).
(2)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 617 - 618.
قال في "الكشّاف"
(1)
: الفرق بين عطف الإناث على الذكور، وعطف الزوجين على الزوجين أن الإناث والذكر جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لَمْ يكن بُدّ من توسطة العاطف بينهما، وأما العطف الثاني، فمن عَطْف الصفة على الصفة بحرف الجمع، وكأن معناه أن الجامعين والجامعات بهذه الطاعات أعدّ الله لهم.
فالحاصل: أنه قد ذُكِر في الحديث الطرفان: العالي في الاهتداء، والعالي في الضلال، فعبّر عمن قَبِل هدى الله والعلم بقوله:"فقه"، وعمن أبى قبولها بقوله:"لَمْ يرفع بذلك رأسًا"؛ لأن ما بعدها، وهو: نَفَعه
…
إلى آخره، في الأول، ولم يقبل هدى الله إلى آخره في الثاني عطفٌ تفسيريّ لـ "فقه"، ولقوله:"لم يرفع"، وذلك لأن الفقيه هو الذي عَلِم، وعَمِل، ثم عَلَّم غيره، وترك الوسط، وهو قسمان: أحدهما الذي انتفع بالعلم في نفسه، فَحَسْب، والثاني الذي لَمْ ينتفع هو بنفسه، ولكن نَفَع غيره.
وقال المظهري في "شرح المصابيح": اعلم أنه ذَكَر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما مَنْ فقه، ونفع الغير، والثاني من لَمْ يرفع به رأسًا، وإنما ذكره كذلك؛ لأن القسم الأول، والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد، من حيث إنه ينتفع به، والثاني هو ما لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: من يقبل، ومن لا يقبل، وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: من ينتفع به، ومن لا ينتفع، وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم من يقبل، ويبلّغ، ومنهم من لا يقبل.
وقال الكرمانيّ: يَحْتَمِل لفظ الحديث تثليث القسمة في الناس أيضًا، بأن يقدّر قبل لفظة "نفعه" كلمة "مَنْ" بقرينة عطفه على "من فقه"، كما في قول حسان رضي الله عنه[من الوافر]:
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ
…
وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
إذ تقديره: ومن يمدحه، وحينئذ يكون الفقيه بمعنى العالم بالفقه مثلًا في
(1)
راجع: "الكشّاف" 3/ 236.
مقابلة الأجادب، والنافع في مقابلة النقية، على اللفّ والنشر غير المرتَّبِ، ومن لَمْ يرفع في مقابلة القِيعان.
[فإن قلت]: لِمَ حَذَف لفظة مَنْ؟.
[قلت]: إشعارًا بأنهما في حكم شيء واحد؛ أي: في كونه ذا انتفاع في الجملة، كما جَعَل للنقية والأجادب حكمًا واحدًا، ولهذا لم يَعطف بلفظ أصاب في الأجادب. انتهى.
وقال النوويّ: معنى هذا التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع، فكذلك الناس، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فتحيى بعد أن كانت ميتة، وتُنبت الكلأ، فينتفع به الناس، والدواب، والنوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم، فيحفظه، ويَحيى قلبه، ويعمل به، ويعلّمه غيره، فينتفع، وينفع، والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس، والدوابّ، وكذا النوع الثاني من الناس، لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أذهان ثاقبة، ولا رسوخَ لهم في العلم، يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس لهم اجتهاد في العمل به، فهم يحفظونه، حتى يجيء أهل العلم للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم، والثالث من الأرض هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذلك الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه، لِنَفْع غيرهم، الأول المنتفع النافع، والثاني النافع غير المنتفع، والثالث غير النافع، وغير المنتفع، فالأول إشارة إلى العلماء، والثاني إلى النَّقَلَة، والثالث إلى من لا علم له، ولا عقل.
قال العينيّ: الصواب مع الطيبيّ؛ لأن تقسيم الأرض، وإن كان ثلاثة بحسب الظاهر، ولكنه في الحقيقة قسمان؛ لأن النوعين محمودان، والثالث مذموم، وتقسيم الناس نوعان: أحدهما ممدوح، أشار إليه بقوله: "مثل من فقه في دين الله تعالى
…
إلخ"، والآخر مذموم، أشار إليه بقوله: "ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا"، وما ذكره الكرمانيّ تعسّف، وهذا التقدير الذي ذكره غير سائغ في الاختيار، وباب الشعر واسع، وأيضًا يلزمه أن يكون تقسيم الناس
أربعة: الأول قوله: "مثل من فقه في دين الله تعالى"، والثاني قوله:"ونفعه ما بعثني الله به" على قوله، والثالث قوله:"ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا"، والرابع:"ولم يقبل هدى الله". انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
(6) - (بَابُ شَفَقَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أُمَّتِهِ، وَمُبَالَغَتِهِ فِي تَحْذِيرِهِمْ مِمَّا يَضُرُّهُمْ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5939]
(2283) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَي، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مَثَلِي، وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ، وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ، فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا، فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ، فَأَهْلَكَهُمْ، وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي، وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي، وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد الذي قبله، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ بُرَيْدٍ) بموحّدة، مصغّرًا ابن عبد الله، (عَنْ) جدّه (أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ) أبيه (أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ مَثَلِي) -بفتح الميم، والمثلثة- والْمَثَلُ: الصفة العجيبة الشأن،
(1)
"عمدة القاري" 2/ 80.
يُورِدُها البليغ على سبيل التشبيه؛ لإرادة التقريب، والتفهيم
(1)
، وقال الطيبيّ: أي صفتي وصفة ما بعثني الله به من الأمر العجيب الشأن، كصفة رجل أتى قومًا وشأنه. انتهى
(2)
. (وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ) حذف منه الصلة، والتقدير: إليكم. (كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمَهُ) وفي رواية البخاريّ: "أتى قومًا"، والتنكير فيه للشيوع، (فَقَالَ: يَا قَوْمُ) بكسر الميم، وفتحها، ويجوز ضمها على قلّة، وأصله: يا قومي، وهكذا شأن المنادى الصحيح الآخِر إذا أضيف إلى ياء المتكلّم؛ فإن فيه ستّ لغات، ذكر الخمسة منها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَاجْعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كَعَبْدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
والسادس: ضَمُّ الاسم المنادى بعد حذف الياء، وهو قليل
(3)
.
(إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ) -بالجيم، والشين المعجمة- واللامُ فيه للعهد؛ أي: جيش العدوّ، (بِعَيْنَيَّ) يَحْتَمل أن يكون بالإفراد، ويَحْتَمِل أن يكون بالتثنية، بفتح النون، وتشديد الياء، قيل: ذَكَر المعينين إرشادًا إلى أنه تحقق عنده جميع ما أخبر عثه تحقُّقَ من رأى شيئًا بعينه، لا يعتريه وَهْمٌ، ولا يخالطه شك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا ضَرْبُ مَثَل لحاله صلى الله عليه وسلم في الإنذار، ولأحوال السَّامعين لإنذاره، فإنَّه أنذرهم بما عَلِمه من عقاب الله، وبما يتخوف عليهم من فجأته، فمن صدَّقه نجا، ومن أعرض عنه هلك، وهذا بخلاف التمثيل في الحديث الماضي، فإنَّ ذلك بالنسبة إلى تحصيل العلم والانتفاع به، وإلى الإعراض عنه، فهما مَثَلان مختلفان. انتهى
(4)
.
(وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ) قال الطيبيّ رحمه الله: هذا مثلٌ سائل يُضرب لشدّة الأمر، ودنوّ المحذور، وبراءة المحذّر عن التهمة، وأصله أن الرجل إذا رأى العدوّ قد هَجَم على قومه، وأراد أن يُفاجئهم، وكان يخشى لُحوقهم عند لحوقه تجرّد عن ثوبه، وجعله على رأس خشبة، وصاح؛ ليأخذوا حَذَرهم، ويستعدّوا
(1)
"الفتح" 14/ 631، كتاب "الرقاق" رقم (6482).
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 612.
(3)
راجع: "شرح ابن عقيل، مع حاشية الخضريّ" في باب النداء 2/ 123.
(4)
"المفهم" 6/ 85.
قبل لحوقهم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه، وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه، وأشار به إليهم، إذا كان بعيدًا منهم؛ ليخبرهم بما دَهَمَهُم، وأكثر ما يفعل هذا رَبِيئة القوم، وهو طليعتهم، ورقيبهم، قالوا: وإنما يَفعل ذلك؛ لأنه أبْيَن للناظر، وأغرب، وأشنع منظرًا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدوّ، وقيل: معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدوّ، فأخذ ثيابي، فأنا أنذركم عريانًا. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال ابن بطال رحمه الله: النذير العريان رجل من خَثْعم، حَمَل عليه رجل يوم ذي الْخَلَصة، فقطع يده، ويد امرأته، فانصرف إلى قومه، فحذّرهم، فضُرِب به المَثَل في تحقيق الخبر.
قال الحافظ: وسبق إلى ذلك يعقوب بن السِّكِّيت وغيره، وسَمَّى الذي حَمَل عليه عوف بن عامر اليشكريّ، وأن المرأة كانت من بني كنانة.
وتُعُقّب باستبعاد تنزيل هذه القصة على لفظ الحديث؛ لأنه ليس فيها أنه كان عريانًا، وزعم ابن الكلبيّ أن النذير العريان امرأة من بني عامر بن كعب لَمّا قَتَل المنذر بن ماء السماء أولاد أبي داود، وكان جار المنذر، خَشِيت على قومها، فرَكِبت جملًا، ولَحِقَت بهم، وقالت: أنا النذير العريان.
ويقال: أول من قاله أبرهة الحبشيّ لمّا أصابته الرَّمْية بتهامة، ورجع إلى اليمن، وقد سقط لحمه.
وذكر أبو بشر الآمديّ أن زنبرًا -بزاي، ونون ساكنة، ثم موحّدة- ابن عمرو الخثعميّ كان ناكحًا في آل زُبيد، فأرادوا أن يغزوا قومه، وخَشُوا أن يُنذر بهم، فحرسه أربعة نفر، فصادف منهم غِرَّةً، فقذف ثيابه، وعدا، وكان من أشدّ الناس عَدْوًا، فأنذر قومه.
وقال غيره: الأصل فيه أن رجلًا لقي جيشًا، فسلبوه، وأسروه، فانفلت إلى قومه، فقال: إني رأيت الجيش، فسلبوني، فرأوه عريانًا، فتحققوا صِدْقه؛
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 612.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 48.
لأنهم كانوا يعرفونه، ولا يتهمونه في النصيحة، ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه القرائن، فضَرَب النبيّ صلى الله عليه وسلم لنفسه، ولِمَا جاء به مَثَلًا بذلك، لِمَا أبداه من الخوارق، والمعجزات الدالة على القطع بصدقه؛ تقريبًا لأفهام المخاطبين بما يألفونه، ويعرفونه.
قال الحافظ: ويؤيده ما أخرجه الرامهرمزيّ في "الأمثال"، وهو عند أحمد أيضًا بسند جيّد، من حديث عبد الله بن بُريدة، عن أبيه، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فنادى ثلاث مرّات: أيها الناس مَثَلي ومَثَلكم مَثَل قوم خافوا عدوًّا أن يأتيهم، فبعثوا رجلًا يترايا لهم، فبينما هم كذلك إذ أبصر العدوّ، فأقبل ليُنذر قومه، فخشي أن يُدركه العدوّ قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه: أيها الناس أُتيتم، ثلاث مرات. وأحسن ما فُسِّر به الحديث من الحديث.
وهذا كله يدلّ على أن العريان من التعري، وهو المعروف في الرواية، وحَكَى الخطابيّ أن محمد بن خالد رواه بالموحّدة، قال: فإن كان محفوظًا، فمعناه الفصيح بالإنذار، لا يَكْنِي، ولا يُوَرِّي، يقال: رجل عريان؛ أي: فصيح اللسان. انتهى
(1)
.
(فَالنَّجَاءَ) بالمدّ مصدر نجا: إذا أسرع، يقال: ناقة ناجيةٌ؛ أي: مسرعةٌ، ونَصَبه على المصدر؛ أي: انجوا النجاءَ، أو على الإغراء، قاله الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال القاضي: المعروف في "النجاء" إذا أُفرد المدّ، وحَكَى أبو زيد فيه القَصْر أيضًا، فإذا ما كَرَّروه فقالوا:"النجاء النجاء" ففيه المدّ والقصر معًا. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": "فالنجاء، النجاء": هو بالمدّ فيهما، وبمدّ الأولي، وقَصْر الثانية، وبالقصر فيهما؛ تخفيفًا، وهو منصوب على الإغراء؛ أي: اطلبوا النجاء، بأن تسرعوا الْهَرَب؛ إشارةً إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش.
قال الطيبيّ رحمه الله: في كلامه أنواع من التأكيدات: أحدها: "بعيني"،
(1)
"الفتح" 14/ 632 - 633، كتاب "الرقاق" رقم (6482).
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 612.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 49.
ثانيها: قوله: "وإني أنا"، ثالثها: قوله: "العريان"؛ لأنه الغاية في قرب العدوّ، ولأنه الذي يختصّ في إنذاره بالصدق. (فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ) كذا بالتذكير فيه؛ لأن المراد: بعض القوم (مِنْ قَوْمِهِ، فَأَدْلَجُوا) بهمزة قطع، ثم سكون؛ أي: ساروا أوّلَ الليل، أو ساروا الليل كله، على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة، وأما بالوصل، والتشديد، على أن المراد به سير آخر الليل، فلا يناسب هذا المقام
(1)
. قاله في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فأدلجوا": بإسكان الدال، ومعناه: ساروا من أول الليل، يقال: أدلجت بإسكان الدال إِدْلاجًا؛ كأكرمت إكرامًا، والاسم الدَّلْجة، بفتح الدال، فإن خرجت من آخر الليل قلت: ادَّلَجتُ، بتشديد الدال، أدَّلِج ادِّلاجًا، بالتشديد أيضًا، والاسم: الدُّلْجة، بضم الدال، قال ابن قتيبة وغيره: ومنهم من يُجيز الوجهين في كلّ واحد منهما. انتهى
(2)
.
(فَانْطَلَقُوا عَلَى مُهْلَتِهِمْ) بضم الميم، وسكون الهاء، وفتح اللام؛ أي: على هِينتهم، ولفظ البخاريّ:"على مهلهم" بفتحتين، والمراد به الهِيْنة، والسكون، وبفتح أوله، وسكون ثانيه: الإمهال، وليس مرادًا هنا، قاله في "الفتح".
وقال النوويّ: قوله: "على مهلتهم" هكذا هو في جميع نُسخ مسلم، بضم الميم، وإسكان الهاء، وبتاء بعد اللام، وفي "الجمع بين الصحيحين":"مَهَلهم" بحذف التاء، وفتح الميم، والهاء، وهما صحيحان. انتهى
(3)
.
(وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ) قال الطيبيّ رحمه الله: عبَّر في الفرقة الأولى بالطاعة، وفي الثانية بالتكذيب؛ لِيُؤْذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويُشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان. (فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمُ الْجَيْشُ)؛ أي: أغار عليهم العدوّ وقت الصباح، وقال في "العمدة":"فَصَبَّحَهُمُ الجَيْشُ"؛ أي: أَتَوْهم صباحًا، هذا أصله، ثم استُعْمِل فيمن يَطْرُقُ بغتةً، في أيّ وقت كان. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 14/ 633، كتاب "الرقاق" رقم (6482).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 49.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 49.
(4)
"عمدة القاري" 23/ 76.
(فَأَهْلَكَهُمْ، وَاجْتَاحَهُمْ) -بجيم، ثم حاء مهملة- أي: استأصلهم، من جُحْتُ الشيءَ أَجُوحُه: إذا استأصلته، والاسم: الجائحة، وهي الهلاك، وأُطلقت على الآفة؛ لأنها مُهلكة، قال الطيبيّ: شبّه صلى الله عليه وسلم نفسه بالرجل، وإنذارَهُ بالعذاب القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبِّح، وشَبّه من أطاعه من أمته، ومن عصاه بمن كذّب الرجل في إنذاره، ومَن صَدَّقه. (فَذَلِكَ مَثَلُ)؛ أي: صفة (مَنْ أَطَاعَنِي، وَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِه، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي، وَكَذَّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ")، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رحمه الله هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5939](2283)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6482) و"الاعتصام"(7283)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(1/ 369)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(95)، و (الرامهرمزيّ) في "الأمثال"(ص 19 - 20)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة ضرب الأمثال في التعليم؛ لإيضاح المسألة، وإيصالها إلى أذهان السامعين.
2 -
(ومنها): بيان ما قام به النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى من الجِدِّ والاجتهاد، والعزم والحزم؛ امتثالًا لقوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} الآية [المائدة: 67].
3 -
(ومنها): بيان انقسام الناس في دعوته صلى الله عليه وسلم على قسمين: قِسْم أهل سعادة، استجابوا له، فآمنوا به، وصدّقوه، وقِسْم أهل شقاوة، أعرضوا عنه، وكذّبوه، واتبعوا الشياطين، وأهوائهم.
4 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: هذا التشبيه الذي ذُكر في هذا الحديث من التشبيهات المفرّقة، شبّه صلى الله عليه وسلم ذاته بالرجل، وما بعثه الله من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش الْمُصَبِّح، وشبّه من أطاعه
من أمته، ومن عصاه بمن كذّب الرجل في إنذاره وصَدَّقه، وفي قول الرجل:"أنا النذير. . . إلخ" أنواع من التأكيد، أحدها:"بعيني"؛ لأن الرؤية لا يكون إلا بها، وثانيها: قوله: "وأنا"، وثالثها: قوله: "العريان"، فإنه دالّ على بلوغ النهاية في قرب العدوّ، وفي ذلك تنبيه على أنه الذي يختصّ في إنذاره بالصدف الذي لا شبهة فيه، وهو الذي يحرص جدًّا على خلاص قومه من الهلاك، قال في القرينة الأولى:"فأطاعني"، وقابله في الثانية:"بكذّب"؛ ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويُشعر أن التكذيب مستتبع للعصيان؛ كأنه جَمَع في كلّ من الفقرتين بين المعنَيَيْن، وإلى المعنيين أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:"من أطاعني" إلى آخره، وأتبع قوله:"فاجتاحهم" قوله: "وأهلكهم"؛ إعلامًا بأنه أهلكهم عن آخرهم، فلم يَبْقَ منهم أحدٌ، قال التوربشتيّ: ذِكْر المَعْنيَيْن إرشاد إلى أنه صلى الله عليه وسلم تحقّق عنده جميع ما أخبر عنه تحقُّق من رأى شيئًا بعينه، لا يعتريه وهمٌ، ولا يخالطه شكّ. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5940]
(2284) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمَّتِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيه، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهِ
(2)
").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثَّقَفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد بن حزام -بحاء مهملة، وزاي- الحزاميّ المدني، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ،
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 612 - 613.
(2)
وفي نسخة: "تقحّمون فيها".
له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عسقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، كنيته أبو عبد الرحمن المدنيّ، وأبو الزناد لقبه، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 193.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدَّوْسيّ الصحابي الجليل، حافظ الصحابة رضي الله عنهم، اختُلف في اسمه، واسم أبيه على عدّة أقوال، تقدّمت في "شرح المقدّمة"، والمشهور أنه عبد الرحمن بن صخر، وهو قول الأكثرين، وذهب جَمْع من النسّابين إلى أنه عمرو بن عامر، مات سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخل المدينة؛ للأخذ عن مشايخها، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، وفيه أنه مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا مَثَلِي، وَمَثَلُ أُمَّتِي)؛ أي: في دعائي الناسَ إلى الإسلام المنقِذ لهم من النار، ومَثَلُ ما تُزَيِّن لهم أنفسهم، من التمادي على الباطل، (كَمَثَلِ رَجُلٍ
…
إلخ) والمراد تمثيل الجملة بالجملة، لا تمثيل فرد بفرد، قاله في "الفتح"
(1)
. (اسْتَوْقَدَ نَارًا)؛ أي: أوقدها، وزيادة السين والتاء للإشارة إلى أنه عالج إيقادها، وسعَى في تحصيل آلاتها، ووقع في حديث جابر الآتي:"مثلي، ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارًا"، وزاد رواية همام الآتية:"فلما أضاءت ما حوله". (فَجَعَلَتِ الدَّوَابُّ) كالبرغوث، والبعوض، ونحوهما، وقوله:(وَالْفَرَاشُ) من عطف الخاصّ على العامّ، وهو
(1)
"الفتح" 8/ 42، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3426).
بفتح الفاء، والشين المعجمة: معروفٌ، ويُطلق الفراش أيضًا على غَوْغاء الجراد الذي يَكْثُر، ويتراكم، وقال في "المحكم": الفَرَاش: دوابّ مثل البعوض، واحدتها فراشةٌ، وقد شبّه الله تعالى الناس في المحشر بالفراش المبثوث؛ أي: في الكثرة والانتشار، والإسراع إلى الداعي، قاله في "الفتح".
وقال في موضع آخر: قوله: "الفراش" جزم المازريّ بأنها الجنادب، وتعقبه عياض، فقال: الجندب هو الصرار، قلت
(1)
: والحقّ أن الفراش اسم لنوع من الطير، مستقلّ، له أجنحة أكبر من جثته، وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر، وكذا أجنحته، وعطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب، والجراد، وأغرب ابن قتيبة، فقال: الفراش ما تهافت في النار، من البعوض، ومقتضاه أن بعض البعوض هو الذي يقع في النار، ويُسَمَّى حينئذ الفراش، وقال الخليل: الفراش كالبعوض، وإنما شبَّهه به؛ لكونه يُلقي نفسه في النار، لا أنه يشارك البعوض في القرص. انتهى.
(يَقَعْنَ فِيهِ)؛ أي: فيما أوقده، وفي رواية:"يقعن فيها"؛ أي: في النار. (فَأَنَا آخِذٌ) قال النوويّ رحمه الله: رُوي باسم الفاعل، ويروى بصيغة المضارعة من المتكلم، وقال الطيبيّ: الفاء فيه فصيحيّة؛ كأنه لما قال: "مثلي، ومثل الناس. . . إلخ"، أتى بما هو أهمّ، وهو قوله:"فأنا آخذ بحجزكم"، ومن هذه الدقيقة التفت من الغَيبة في قوله:"ومثل الناس" إلى الخطاب في قوله: "بحجزكم" كما أن من أخذ في حديث من له بشأنه عناية، وهو مشتغل في شيء يورطه في الهلاك، يجد لشدة حرصه على نجاته أنه حاضر عنده. (بِحُجَزِكُمْ) بضم الحاء المهملة، وفتح الجيم، بعدها زاي: جمع حُجْزة، وهي مَعْقِد الإزار، ومن السراويل موضع التِّكّة، ويجوز ضم الجيم في الجمع. (وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ) بفتح المثناة، والقاف، والمهملة المشدّدة، والأصل: تتقحمون، فحذفت إحدى التاءين، وفي بعض النسخ:"وأنتم تقتحمون"، وقوله:(فِيهِ)؛ أي: فيما استوقده، وفي بعض النسخ:"فيها"؛ أي: في النار.
وحاصل هذا التمثيل: أنه شبّه تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي
(1)
القائل: صاحب "الفتح".
التي تكون سببًا في الوقوع في النار بتهافت الفراش بالوقوع في النار؛ اتّباعًا لشهواتها، وشبّه ذَبّه العصاةَ عن المعاصي بما حَذَّرهم به، وأنذرهم بذبّ صاحب النار الفَرَاشَ عنها.
وقال عياض: شَبَّه تساقط أهل المعاصي في نار الآخرة بتساقط الفَرَاش في نار الدنيا.
وقال الطيبيّ: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يَتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وذلك أن حدود الله محارمه، ونواهيه، كما في الحديث الصحيح:"ألا إن حمى الله محارمه"، ورأس المحارم حبّ الدنيا، وزينتها، واستيفاء لذتها، وشهواتها، فشبَّه صلى الله عليه وسلم إظهار تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية، من الكتاب، والسُّنَّة باستنقاذ الرجال من النار، وشبّه فُشُوّ ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبّه الناس، وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف، وتعدّيهم حدود الله، وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات، ومَنْعه صلى الله عليه وسلم إياهم عن ذلك بأخذ حُجَزهم بالفراش التي تقتحمن في النار، ويغلبن المستوقد على دفعهنّ عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غَرَضه من فِعْله انتفاع الخلق به، من الاستضاءة، والاستدفاء، وغير ذلك، والفراش لجهلها جعلته سببًا لهلاكها، فكذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة، واجتنابها ما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها مقتضية لتردّيهم، وفي قوله:"آخذ بحجزكم" استعارة، مَثَّلت حالة مَنْعه الأُمَّةَ عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يكاد يهوي في مَهْواة مُهلكة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 614 - 615.
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5940 و 5941 و 5942](2284)، و (البخاري) في "أحاديث الأنبياء"(3426) و"الرقاق"(6483)، و (همّام بن منبه) في "صحيفته"(1/ 29)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2874)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 312 و 539 - 540)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 449)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6408)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 318)، و (الرامهرمزيّ) في "الأمثال"(ص 20)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(98)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرأفة، والرحمة، والحرص على نجاة الأمة، كما قال تعالى:{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
2 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن الإنسان إلى النذير أحوج منه إلى البشير؛ لأن جِبِلّته مائلة إلى الحظ العاجل، دون الحظ الآجل.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: هذا مَثَل لاجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم في نجاتنا، وحِرْصه على تخليصنا من الهلكات التي بين أيدينا، ولجهلنا بقدر ذلك، وغلبة شهواتنا علينا، وظَفَر عدوِّنا اللعين بنا؛ حتى صرنا أحقر من الفراش والجنادب، وأذل من الطين اللَّازب. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبّه المخالفين له بالفَراش، وتساقطهم في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا، مع حرصهم على الوقوع في ذلك، ومَنْعه إياهم، والجامع بينهما اتّباع الهوى، وضعف التمييز، وحِرْص كل من الطائفتين على هلاك نفسه.
وقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: هذا مَثَل كثير المعاني، والمقصودُ أن الخلق لا يأتون ما يجرّهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة، واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار، لا لِيَهلك فيها، بل لِمَا يُعجبه من الضياء، وقد قيل: إنها لا تُبصر بحال، وهو بعيد، وإنما قيل: إنها
(1)
"المفهم" 6/ 87.
تكون في ظُلمة، فإذا رأت الضياء اعتقدت أنها كوّة يظهر منها النور، فتقصده لأجل ذلك، فتحترق، وهي لا تشعر، وقيل: إن ذلك لِضَعف بصرها، فتظنّ أنها في بيت مظلم، وأن السراج مثلًا كوّة، فترمي بنفسها إليه، وهي من شدّة طيرانها تجاوزه، فتقع في الظُّلمة، فترجع إلى أن تحترق، وقيل: إنها تتضرر بشدة النور، فتقصد إطفاءه، فلشدة جهلها، تورّط نفسها فيما لا قدرة لها عليه، ذكر مغلطاي أنه سمع بعض مشايخ الطبّ يقوله.
وقال الغزاليّ: التمثيل وقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان، بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدميّ أشدّ من جهل الفراش؛ لأنها باغترارها بظواهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقي في النار مدة طويلة، أو أبدًا، والله المستعان
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5941]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.
"وأبو الزناد" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد هذه ساقها الحميديّ رحمه الله
في "مسنده"، فقال:
(1038)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما مَثَلي ومَثَل الناس؛
(1)
"الفتح" 8/ 43 - 44، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3426).
كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت له جعل الدوابّ، والفراش، يقتحمون فيها، فأنا آخذ بحُجَزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيها". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5942]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي كمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا، جَعَلَ الْفَرَاشُ، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ
(2)
يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ، فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، قَالَ: فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّار، هَلُمَّ عَنِ النَّار، هَلُمَّ عَنِ النَّار، فَتَغْلِبُونِي، تَقَحَّمُونَ فِيهَا").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل خمسة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.
وقوله: (اسْتَوْقَدَ نَارًا)؛ أي: أوقدها، فالسين والتاء زائدتان، قاله
القرطبيّ
(3)
، وقال الطيبيّ: قوله: "استوقد"؛ بمعنى: أوقد، ولكن الأول أبلغ؛ كعَفّ، واستعفّ
(4)
.
وقوله: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ) من الإضاءة، وهي فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء، وهو ما انتشر من الأجسام النيّرة، ويقال: أضاءت النار، وأضاءت غيرها، يتعدّى، ولا يتعدّى، فإن جُعل متعدّيًا يكون "ما حولها" مفعولًا به، وإن جُعل لازمًا يجوز أن يكون "ما حولها" فاعلًا له على تأويل الأماكن، ويجوز أن يكون فاعله ضمير النار، و"ما حوله" ظرفٌ، فيجعل حصول إشراق النار في جوانبها بمنزلة حصولها نفسها فيها مبالغةً، وحول الشيء جانبه الذي يمكن أن يحول إليه، أو سُمّي بذلك اعتبارًا بالدوران، والإطافة، ويقال للعام:
(1)
"المسند" 2/ 449.
(2)
وفي نسخة: "وهذه الدوابّ التي تقع في النار".
(3)
"المفهم" 6/ 86.
(4)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 613.
حولٌ؛ لأنه يدور، قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (مَا حَوْلَهَا) الضمير للنار، وفي رواية للبخاريّ:"ما حوله"، فالضمير للذي استوقد النار.
وقوله: (جَعَلَ الْفَرَاشُ) بفتح الفاء، وتخفيف الراء، قال الفراء: هو غوغاء الجراد التي تنفرش وتتراكب، وقال غيره: هو الطير الذي يتساقط في النار، وهذا أشبه بما في الحديث، ذكره القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ)، وفي بعض النسخ:"وهذه الدوابّ التي تقع في النار"، قال القرطبيّ: قوله: "وهذه الدوابّ" كقوله تعالى: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31]، وقول عائشة رضي الله عنها في حقّ عبد الله بن عمرو:"عَجِبتُ لابن عمرو هذا"، وتخصيص ذِكر الدوابّ، والفراشُ لا يسمّى دابّة عرفًا؛ لبيان جهلها، كقوله تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ} الآية [الأنفال: 22]، كل ذلك تعريضٌ لطالب الدنيا المتهالك فيها، والتأنيث في "هذه" باعتبار الخبر؛ لأنه جمعٌ، ويجوز أن يراد بالفراش الجنس، فيؤنّث، كما في قوله تعالى:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} الآية [النحل: 68]، وفي جَعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم المهلكات نفس النار في قوله:"فأنا آخذ بحُجَزكم عن النار" وضعٌ للمسبَّب موضع السبب، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} الآية [النساء: 10]. انتهى
(3)
.
وقوله: (يَقَعْنَ فِيهَا)؛ أي: في النار.
وقوله: (وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ)؛ أي: يمنعهنّ عن الوقوع فيها.
وقوله: (فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا) التقحّم: الإقدام والوقوع في الأمور الشاقّة من غير تثبّت
(4)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 613.
(2)
"المفهم" 6/ 86.
(3)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 613.
(4)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 613.
وقوله: (هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، هَلُمَّ عَنِ النَّارِ) كرّره للتأكيد، قال الفيّوميّ رحمه الله:"هَلُمَّ" كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تعال، قال الخليل: أصله لُمَّ، من الضم، والجمع، ومنه: لَمّ اللهُ شَعَثَهُ، وكأن المنادي أراد: لُمَّ نفسك إلينا، و"هَا" للتّنبيه، وحُذفت الألف؛ تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وجُعِلا اسْمًا واحدًا، وقيل: أصلها هَلْ أُمَّ؛ أي: قُصِد، فنُقِلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعِلا كلمة واحدة للدعاء، وأهل الحجاز يُنادون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجد تلحقها الضمائر، وتُطَابَقُ، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيُلحقونها الضمائر، كما يُلحقونها قُمْ، وقُوما، وقُوموا، وقُمْن، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقيل، وعليه قيسٌ بعدُ، وإلحاق الضمائر من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتُستعمل لازمةً، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} ؛ أي: أقبل، ومتعدية، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} ؛ أي: أَحْضِروهم. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: ومحلّ "هلمّ" نصبٌ على الحال من فاعل "آخذ"؛ أي: آخذ بحُجَزكم قائلًا: هلُمّ. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَتَغْلِبُونِي) قال الطيبيّ رحمه الله: بالنون المشدّدة؛ لأن أصله: فتغلبونني، فأُدغمت إحدى النونين في الأخرى، والفاء فيه سببيّة على التعكيس؛ كالكلام في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الآية [القصص: 8]، وتقديره: أنا آخذ بحُجَزكم لأخلّصكم عن النار، فعكستم، وجعلتم الغلبة مسبّبةً عن الأخذ، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المَثَل بوقوع الفراش إلى النار لجهله بما يُعْقِبه التقحّم فيها من الاحتراق والهلاك، ولتحقير شأنها. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 614.
(3)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 614.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5943]
(2285) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سَلِيمٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ، وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا، وَهُوَ يَذُبُّهُنَّ عَنْهَا، وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّار، وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بن حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرحمن، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَلِيمُ) -بفتح أوله، وكسر اللام- ابن حَيّان -بحاء مهملة، وتحتانية- الْهُذَليّ البصريّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ) مولى الْبَخْتريّ بن أبي ذُبَاب الحجازيّ، المكيّ، أو المدنيّ، يُكنى أبا الوليد، ثقةٌ [3](خ م د ت ق) تقدم في "الجنائز" 21/ 2207.
5 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ)؛ أي: صفتي، وصفتكم (كمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ) جمع جُندُب، بفتح الدال، وضمها، والجيم مضمومة، وقد تُكْسَر، وهو على خِلْقة الجرادة يُصِرّ في الليل صَرًّا شديدًا، وقيل: إنَّ ذَكَر الجراد يُسَمّى أيضًا الجندب.
وقال النوويّ: أما الجنادب فجَمْع جندب، وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال، وفتحها، والجيم مضمومة فيهما، والثالثة حكاها القاضي بكسر الجيم، وفتح الدال، والجنادب هذا الصرّار الذي يُشبه الجراد، وقال أبو حاتم: الجندب على خِلْقة الجراد، له أربعة أجنحة؛ كالجرادة، وأصغر منها، يطير، ويَصُرّ بالليل صرًّا شديدًا، وقيل غيره. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 50.
(وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا)؛ أي: في تلك النار، (وَهُوَ)؛ أي: الرجل (يَذُبُّهُنَّ)؛ أي: يمنعهنّ (عَنْهَا)؛ أي: عن الوقوع فيها، (وَأَنَا آخِذٌ) تقدّم أنه ضُبط بوجهين: بصيغة اسم الفاعل، وبصيغة الماضي، (بِحُجَزِكُمْ) بضمّ، ففتح: جمع حُجْزة، بضمّ، فسكون، وهي معقد الإزار، والسراويل، خصه؛ لأن أَخْذَ الوسط أقوى في المنع؛ يعني: أنا آخذكم حتى أُبعدكم عن النار نار جهنم
(1)
. (عَنِ النَّارِ)؛ أي: عن الوقوع فيها، (وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي") قال النوويّ رحمه الله: رُوي بوجهين: أحدهما فتح التاء، والفاء المشدّدة، والثاني ضم التاء، وإسكان الفاء، وكسر اللام المخففة، وكلاهما صحيح، يقال: أفلت مني، وتَفَلَّت: إذا نازعك الغلبة، والهرب، ثم غَلَب، وهَرَب. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: أفلتني الشيءُ، وتفلّت مني، وانفلت، وأفلت فلانٌ فلانًا: خَلّصه، وأفلت الشيءُ، وتفلّت، وانفلت بمعنى، وأفلته غيره، قال: التفلت، والإفلات، والانفلات: التخلص من الشيء فَجْأةً من غير تمكّث، قال: والإفلات يكون بمعنى الانفلات، لازمًا، وقد يكون واقعًا، يقال: أَفْلَتُّهُ من الهلكة؛ أي: خَلَّصته، وأنشد ابن السكيت [من الطويل]:
وَأَفْلَتَنِي مِنْهَا حِمَارِي وَجُبَّتِي
…
جَزَى اللهُ خَيْرًا جُبَّتِي وَحِمَارِيَا
(3)
وقال في "الفتح": قوله: "تفلتون" بفتح أوله، والفاء، واللام الثقيلة، وأصله: تتفلتون، وبضم أوله، وسكون الفاء، وفتح اللام، ضبطوه بالوجهين، وكلاهما صحيح، تقول: تَفَلّت مني، وأفلت مني لمن كان بيدك، فعالج الْهَرَب منك، حتى هرب، وقد تقدم بيان هذا التمثيل، وحاصله: أنه شَبَّهَ تهافت أصحاب الشهوات في المعاصي التي تكون سببًا في الوقوع في النار بتهافت الفراش بالوقوع في النار اتّباعًا لشهواتها، وشَبَّه ذَبّه العصاةَ عن المعاصي بما حَذَّرهم به، وأنذرهم بذبّ صاحب النار الفراشَ عنها، وقال عياض: شَبَّه تساقط أهل المعاصي في نار الآخرة بتساقط الفراش في نار الدنيا. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 518.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 50.
(3)
"لسان العرب" 2/ 66.
(4)
"الفتح" 11/ 319.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 5943](2285)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 246)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 361 و 392)، و (تمام) في "فوائده"(2/ 46)، والله تعالى أعلم.
(7) - (بَابُ ذِكْرِ كَوْنِهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمَ النَّبِيِّينَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5944]
(2286) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا، فَأَحْسَنَهُ، وَأَجْمَلَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِه، يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ، فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ").
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل حديث، فلا حاجة إلى إعادة الكلام عليه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ)، أي: صفتي وصفة الأنبياء الذين قبلي، فقوله:"مثلي" مبتدأ، وقوله:"مثلُ الأنبياء" عطف عليه، وقوله:"كمثل رجل" خبره. (كَمَثَلِ)؛ أي: صفة (رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا) وفي رواية البخاريّ: "بنى دارًا"، (فَأَحْسَنَهُ)؛ أي: أحسن بناء ذلك البنيان (وَأَجْمَلَهُ)؛ أي: زيّنه، فيكون مؤكّدًا لمعنى "أحسنه"، أو المعنى: جَمَعه من غير تفصيل، يقال: أجملت الشيء إجمالًا: جمعتُهُ من غير تفصيل، قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال المجد: أجمل الشيءَ: جَمَعه عن تفرقة، والحسابَ: ردّه إلى
(1)
"المصباح المنير" 1/ 110.
الجملة، والصَّنِيعةَ: حسّنها، وكثّرها. انتهى
(1)
، فيكون المعنى على هذا: أنه جَمَعه في بناء واحد، ولم يفرّقه.
قال الطيبيّ رحمه الله: هذا التشبيه من التشبيه التمثيليّ، شَبّه الأنبياء، وما بُعثوا به من الهدى والعلم، وإرشادهم الناس إلى مكارم الأخلاق بقَصْر شُيِّد بنيانه، وأُحسن بناؤه، ولكن تُرك منه ما يُصلحه، وما يسدّ خلله من اللبنة، فبُعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم لسدّ ذلك الخلل مع مشاركته إياهم في تأسيس القواعد، ورفع البنيان، هذا على أن يكون الاستثناء منقطعًا، ويجوز أن يكون متّصلًا من حيث المعنى؛ إذ حاصل الكلام: تُعجبهم المواضع إلا موضع تلك اللبنة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قيل: المشبَّه به واحد، والمشبَّه جماعة، فكيف صحّ التشبيه؟. وجوابه أنه جَعَل الأنبياء كرجل واحد؛ لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان.
ويَحْتَمِل أن يكون من التشبيه التمثيليّ، وهو أن يوجد وصف من أوصاف المشبه، ويشبّه بمثله من أحوال المشبه به، فكأنه شبّه الأنبياء، وما بُعِثوا به، من إرشاد الناس ببيت أُسست قواعده، ورُفع بنيانه، وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت، فنبيّنا صلى الله عليه وسلم بُعث لتتميم مكارم الأخلاق؛ كأنه هو تلك اللبنة التي بها إصلاح ما بقي من الدار
(3)
.
وزعم ابن العربيّ أن اللبنة المشار إليها كانت في أسّ الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لانقضّت تلك الدار، قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور. انتهى.
قال الحافظ: وهذا إن كان منقولًا، فهو حسن، وإلا فليس بلازم، نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها.
وقد وقع في رواية همام الآتية: "إلا موضع لبنة، من زاوية من زواياها"،
(1)
"القاموس المحيط" ص 237.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3634.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 98.
فيظهر أن المراد أنها مكملةٌ محسّنةٌ، وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصًا، وليس كذلك، فإن شريعة كل نبيّ بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية، مع ما مضى من الشرائع الكاملة. انتهى
(1)
.
(فَجَعَلَ)؛ أي: شرع، وأخذ (النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهِ) من الإطافة؛ أي: أحاطوا به، يقال: أطاف بالشيء: إذا أحاط به، وفي الرواية التالية:"يطوفون به"، من الطواف، وهو الدوران، وقوله:(يَقُولُونَ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: حال كونهم قائلين، (مَا) نافية، (رَأَيْنَا بُنْيَانًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا) البنيان (إِلَّا هَذِهِ اللَّبِنَةَ)؛ أي: موضعها، و"اللبنة" بفتح اللام، وكسر الموحّدة: واحدة اللَّبِن بكسر الموحّدة أيضًا، قال الفيّوميّ: اللبِن بكسر الباء: ما يُعْمَل من الطين، ويُبْنَى به
(2)
.
وقال في "العمدة": "اللبنة" بفتح اللام، وكسر الباء الموحدة، وجاز إسكانها، مع فتح اللام، وكسرها: هي القطعة من الطين، تُعْجَنُ، وتُيَبَّس، ويُبنى بها بناءٌ، فإذا أُحرقت تُسَمَّى آجرةً. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اللَّبنة: الطوبة التي يُبنى بها، وفيها لغتان: إحداهما: فتح اللام وكسر الباء، وتجمع: على لبن بإسقاط الهاء من الجمع، كنَبِقَة ونَبِقٍ، والثانية: كسر اللام، وسكون الباء، وتُجمع: على لِبَن -بكسر اللام، وفتح الباء- كسِدْرة وسِدَر. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": هي القطعة من الطين، تُعْجَن، وتُجْبَل، وتُعَدّ للبناء، ويقال لها ما لم تُحْرَق: لبنة، فإذا أُحرِقت، فهي آجُرّة. انتهى
(5)
.
(فَـ) قال صلى الله عليه وسلم: (كُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللَّبِنَةَ") التي تمّ بوضعها ذلك البنيان. وقال القرطبيّ رحمه الله: ومقصود هذا المَثَل أن يبيِّن به صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى
(1)
"الفتح" 8/ 192، كتاب "المناقب" رقم (3535).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 548.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 98.
(4)
"المفهم" 6/ 87 - 88.
(5)
"الفتح" 8/ 192، كتاب "المناقب" رقم (3535).
ختم به النبيين والمرسلين، وتَمَّم به ما سبق في عِلْمه إظهاره من مكارم الأخلاق، وشرائع الرسل، فيه كَمُل النظام، وهو ختم الأنبياء، والرسل الكرام، صلى الله عليه وعليهم أفضل صلاة، وسلَّم أبلغ سلام. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5944 و 5945 و 5946 و 5947](2286)] و (البخاريّ) في "المناقب"(3535)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 436)، و (أحمد) في "مسنده"(32/ 244 و 256 و 3169 و 3/ 9)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 318)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز ضرب الأمثال؛ للتقريب للأفهام.
2 -
(ومنها): بيان فضل النبيّ صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين.
3 -
(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى ختم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم المرسلين -عليهم الصلاة والسلام- وأكمل به شرائع الدين، وهذا هو المراد بقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، وأخرج البخاريّ في "التاريخ" من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه رفعه:"إني عبد الله، وخاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِل في طينته"، الحديث، وأخرجه أيضًا أحمد، وصححه ابن حبان، والحاكم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5945]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ ابْنِ مُنبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ
(1)
"المفهم" 6/ 88.
رَجُلٍ ابْتَنَى بُيُوتًا، فَأَحْسَنَهَا، وَأَجْمَلَهَا، وَأَكمَلَهَا، إِلَّا مَوْضِعَ لَبنَةٍ، مِنْ زَاوِيةٍ مِنْ زَوَايَاهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ، وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ، فَيَقُولُونَ: أَلَّا وَضَعْتَ هَا هُنَا لَبِنَةً، فَيَتِمَّ بُنْيَانُكَ"، فَقَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل خمسة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.
وقوله: (مِنْ زَاوِيةٍ مِنْ زَوَايَاهَا) قال المجد رحمه الله: الزاوية من البيت: رُكنه، والجمع زوايا. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: زويته أَزويه: جمعتُهُ، وزويتُ المال عن صاحبه زَيًّا أيضًا، وزاوية البيت اسم فاعل من ذلك؛ لأنها جَمَعت قُطْرًا منه. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ) من الطواف، وهو الدوران؛ أي: يدورون حول ذلك البنيان؛ ليروا محاسنه، ويشاهدوا مفاخره، وقوله:(أَلَّا وَضَعْتَ) بفتح التاء خطابًا للرجل، و"ألا" بفتح الهمزة، وتشديد اللام، ويجوز تخفيفها: أداة تحضيض مختصّة بالجمل الفعليّة الخبريّة
(3)
. (هَا هُنَا لَبِنَةً) منصوب على المفعوليّة "لوضعتَ"، (فَيَتِمَّ بُنْيَانُكَ") بنصب "يتمّ" بـ "أن" مضمرة بعد الفاء السببيّة في جواب "ألّا"، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَو طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصَبْ
أي: ألّا يوجد وَضْع لَبِنة منك، وتمام بنيانك.
(فَقَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "فَكُنْتُ أَنَا اللَّبِنَةَ") التي نقص البنيان بسبب عدم وضعها في الزاوية.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5946]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا:
(1)
"القاموس المحيط" ص 582.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 260.
(3)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 154.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بُنْيَانًا، فَأَحْسَنَهُ، وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، مِنْ زَاوِيَةٍ مِن زَوَايَاهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِه، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ"، قَالَ:"فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ -بفتح الميم، والقاف، ثم موحّدة مكسورة- البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر بن إياس السَّعْديّ المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 2.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ السَّمَّانُ) ذكوان المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ)"هلّا" بفتح الهاء، وتشديد اللام أداة تحضيض؛ كألّا، والفعل مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله اسم الإشارة، و"اللبنة" نعت، أو عَطْف بيان، أو بدل لـ"هذه"، كما قال بعضهم:
مُعَرَّفٌ بَعْدَ إِشَارَةٍ بِـ "أَل"
…
يُعْرَبُ نَعْتًا أَو بَيَانًا أَو بَدَلْ
وقوله: (وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) بكسر التاء، وفتحها، قال ابن الأعرابيّ: الخاتِمُ، والخاتَمُ من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ثعلب: فالخاتم الذي خُتم به الأنبياء، والخاتم أحسن الأنبياء خَلْقًا، وخُلُقًا. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5947]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُ النَّبِيِّينَ"، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، عَمِيَ وهو صغير، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله اثنتان وثمانون سنةً، وقد رُمِي بالإرجاء (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
3 -
(أبو سَعِيدٍ) الْخُدريّ، سَعْد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصغِر بأُحد، ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.
[تنبيه]: رواية أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5948]
(2287) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، فَأَتَمَّهَا، وَأَكْمَلَهَا، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَهَا، وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، وَيَقُولُونَ: لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَأَنَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ، جِئْتُ، فَخَتَمْتُ الأَنْبِيَاءَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"عفّان" هو: ابن مسلم، و"سَلِيم" بفتح السين، وكسر اللام.
وقوله: (لَوْلَا مَوْضِعُ اللَّبِنَةِ) بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره محذوف؛ أي: لولا موضعُ اللبنة يوهم النقص لكان بناء الدار كاملًا، كما في قولك: لولا زيد لكان كذا؛ أي: لولا زيد موجود لكان كذا، ويجوز أن تكون "لولا" تخصيصيةً لا امتناعيةً، وفِعله محذوف؛ أي: لولا أُكملَ موضعُ اللبنة، ويجوز نصب "موضعَ"؛ أي: لولا تركتَ أيها الرجل موضعها، ونحو ذلك، ووقع في رواية همام عند أحمد:"ألا وضعت هاهنا لبنةً، فيتمَّ بنيانك"، قاله في "العمدة"، و"الفتح"
(1)
، وتمام شرح الحديث يُعلم مما قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 5948 و 5949](2287)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3534)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2862)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 361)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 324)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 5)، و"شُعَب الإيمان"(2/ 178)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال: [5949](. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سَلِيمٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ بَدَلَ "أَتَمَّهَا": "أَحْسَنَهَا").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ عن سَلِيم بن حيّان هذه لم أجد من ساقها، فليُنْظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 16/ 98، و"الفتح" 8/ 192.
(8) - (بَابٌ إِذَا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةَ أُمَّةٍ، قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5950]
(2288) - (قَالَ مُسْلِمٌ: وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، وَمِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ، قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا، فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا، وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا، وَنَبِيُّهَا حَيٌّ، فَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ، فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ) أبو إسحاق الطبريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، حافظٌ تُكُلّم فيه بلا حجة [10] مات في حدود (250)(م 4) تقدم في "الإيمان" 16/ 172.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ) من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقوله:(مِنْ عِبَادِهِ) بيان لـ "أمّة"، (قَبَضَ) بالبناء للفاعل، (نَبِيَّهَا قَبْلَهَا)؛ أي: أماته قبل أمته، (فَجَعَلَهُ)؛ أي: ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، (لَهَا)؛ أي: لأمته، (فَرَطًا) بفتحتين، وهو في الأصل: المتقدّم في طلب الماء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الفَرَطُ -بفتحتين-: المتقدم في طلب الماء، يُهَيِّئ الدِّلاء، والأَرشاء، يقال: فَرَطَ القومَ فُرُوطًا، من باب قَعَد: إذا تقدم لذلك، يستوي فيه الواحد، والجمع، يقال: رجلٌ فَرَطٌ، وقومٌ فرطٌ، ومنه يقال للطفل الميت: اللهُمَّ اجْعَلْهُ فَرَطًا؛ أي: أَجْرًا متقدمًا، ويقال أيضًا: رجل فَارِطٌ، وقومٌ فُرّاطٌ، مثل كَافر وكُفَّار، وافْتَرَطَ فلانٌ فَرَطًا: إذا مات له أولاد صغار. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 469.
والمراد هنا: المتقدّم على أمته، ولذا، فهو بمعنى قوله:(وَسَلَفًا) -بفتحتين- أي: متقدّمًا، قيل: هو من عَطْف المرادف، أو أعمّ، وفائدة التقدّم الأنس، والاطمئنان، وقلّة كُربة الغُربة، ونحو ذلك إذا بلغت بلدًا مَخُوفًا ليس لك بها أنيس
(1)
. (بَيْنَ يَدَيْهَا)؛ أي: أمام أمته، قال في "الكشاف" في تفسير قوله تعالى:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [الحجرات: 1]: حقيقةُ قولهم: جلست بين يدي فلان: أن يجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبًا منه، فسُمّيت الجهتان يدين؛ لكونهما على سَمْت اليدين، مع القرب منها، توسّعًا، كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره، وداناه، قال ابن الكمال: وقد جرت هذه العبارة هنا على سَنَن ضرب من المجاز، وهو الذي يسميه أهل اللسان تمثيلًا. انتهى
(2)
.
(وَإِذَا أَرَادَ) الله سبحانه وتعالى (هَلَكَةَ) بفتحات؛ أي: هلاك (أُمَّةٍ عَذَّبَهَا) بعذاب الدنيا (وَنَبِيُّهَا حَيٌّ) جملة حاليّة، (فَأَهْلَكَهَا، وَهُوَ يَنْظُرُ) جملة حاليّة أيضًا، (فَأَقَرَّ عَيْنَهُ)؛ أي: سرّه (بِهَلَكَتِهَا)، قال المناويّ رحمه الله: قوله: "فأقرّ عينه" الفاء للتفريع؛ أي: فَرّحه الله، وبَلّغه الله أمنيته.
وذلك لأن المستبشر الضاحك يخرج من عينيه ماء بارد، فيَقَرّ بهلكتها في حياته حين كذبوه في دعواه النبوة والرسالة، وعصوا أمره بعدم اتّباع ما جاء به عن الله عز وجل، وإنما كان موت النبيّ قبل أمته رحمةً؛ لأنه يكون مصيبةً عظيمةً لهم، ثم يتمسكون بشرعه بعده، فتضاعف أجورهم، وأما هلكة الأمة قبل نبيها فإنما يكون بدعائه عليهم، ومخالفتهم أمره، كما فُعل بقوم نوح عليه السلام، فالمراد من الأمّة الأُولى أُمة الإجابة، وبالثانية أمة الدعوة، وفيه بشرى عظيمة لهذه الأمة حيث كان قَبْضه صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم، كما كان بَعْثه كذلك. انتهى
(3)
.
وقوله: (حِينَ كَذَّبُوهُ، وَعَصَوْا أَمْرَهُ")"حين": ظرف لمقدّر؛ أي: فَعَل بهم ذلك وقت تكذيبهم إياه، وعصيانهم أمره.
قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان موت النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أمته رحمة لأمته؛ لأنَّ
(1)
"فيض القدير" 2/ 206.
(2)
"فيض القدير" 2/ 206.
(3)
"فيض القدير" 2/ 206 - 207.
الموجب لبقائهم بعده إيمانهم به، واتباعهم لشريعته، ثم إنهم يصابون بموته، فَتعْظُم أجورهم بذلك؛ إذ لا مصيبة أعظم من فَقد الأنبياء، فلا أجر أعظم من أجر من أصيب بذلك، ثم يحصل لهم أجر التمسك بشريعته بعده، فتتضاعف الأجور، فتعظم الرحمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"حياتي لكم رحمة، ومماتي لكم رحمة"
(1)
، وأما إذا أهلكها قبله فذلك لا يكون إلا لأنهم لم يؤمنوا به، وخالفوه، وعصوا أمره، فإذا استمروا على ذلك من عصيانهم، وتمرُّدهم أبغضهم نبيّهم، فربما دعا عليهم فأجاب الله دعوته فأهلكهم، فأقرَّ عينه فيهم، كما فعل بقوم نوح وغيره من الأنبياء. انتهى
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 5950](2288)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6647 و 7215)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 315)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 154)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(3/ 76)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في الكلام على هذا الحديث:
قال المازريّ، والقاضي عياض: هذا الحديث من الأحاديث المنقطعة في مسلم، فإنه لم يُسَمّ الذي حدّثه عن أبي أسامة، قال النوويّ: وليس هذا حقيقة انقطاع، وإنما هو رواية مجهول، وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة:
(1)
وأخرجه البزّار من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه: قال: "إن لله ملائكة سياحين، يبلغون عن أمتي السلام"، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حياتي خير لكم، تحدثون ونحدث لكم، ووفاتي خير لكم، تُعْرَض عليّ أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شرّ استغفرت الله لكم"، قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 9/ 24: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح. انتهى.
(2)
"المفهم" 6/ 88 - 89.
قال الْجُلُوديّ: حدّثنا محمد بن المسيّب الأرغِيانيّ
(1)
، قال: حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ بهذا الحديث، عن أبي أسامة، بإسناده. انتهى.
وقال الذهبيّ رحمه الله في ترجمة محمد بن المسيّب الأرغِيانيّ من "سِيَره" بعد إخراجه هذا الحديث من طريق الأرغياني المذكور ما نصّه: وبالإسناد قال ابن المسيب: كَتَب عني هذا الحديث ابنُ خزيمة، ويقال: إن إبراهيم الجوهريّ تفرد به. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله في رسالته المشهورة بـ "غرر الفوائد" -بعد إيراده نصّ رواية مسلم هذا- ما نصّه: وهذا الحديث أخرجه الحافظ أبو عوانة في كتابه الموسوم بـ "المسند الصحيح المخرج على كتاب مسلم بن الحجاج"، كما أخرجه البزار في "مسنده"، كلاهما من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وعندما ذَكَر أبو عليّ الغسانيّ حديث الباب في "تقييد المهمل" قال: فقد وصل لنا هذا الحديثَ أبو القاسم حاتم بن محمد، قال: حدثنا أبو سعيد السِّجْزِي بمكة، قال: حدثنا أبو أحمد الْجُلُوديّ، قال: حدّثنا أبو عبد الله، محمد بن المسيّب الأرغِياني، قال: حدّثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، حدثنا أبو أسامة بهذا الحديث.
قلت
(3)
: ولا يُسَلَّم لهم تسميته بالمقطوع، فهو مسند أُبهِم أحد رواته، على أنه تبيّن اتصال سنده في غير "صحيح مسلم" من طرق متعددة صحيحة. انتهى كلام العطّار رحمه الله، وقد تقدّم في مقدّمة هذا الشرح
(4)
، وإنما أعدته هنا؛ لطول العهد به، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
وقال الرشيد رحمه الله أيضًا: وهذا الحديث متّصلٌ محفوظٌ من رواية جماعة من الثقات، عن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، عن أبي أسامة، منهم أبو بكر
(1)
بفتح الهمزة، وكسر الغين المعجمة: بلدة بنواحي نيسابور، قاله في "اللباب" 1/ 43.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 14/ 426.
(3)
القائل: هو الرشيد العطّار رحمه الله.
(4)
راجع: "قرّة عين المحتاج في شرح مقدّمة صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" 1/ 97 - 98.
البزّار الحافظ، ومحمد بن المسيّب الأرغِيانيّ، والحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فيل البالسيّ، وغيرهم، ورواه عن الأرغيانيّ هذا جماعة، منهم محمد بن إسحاق بن خُزيمة النيسابوريّ الملقّب بإمام الأئمّة، وهو من أقرانه، وإبراهيم بن محمد بن يحيىى -أظنه المزكي- وأبو أحمد محمد بن عيسى الجلوديّ، راوي "صحيح مسلم"، وغيرهم، ومن صحيح طُرُق هذا الحديث عندنا ما أخبرنا الشيخ الزاهد، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الفارسيّ، أنبا أحمد بن محمد الحافظ، أنبا محمد بن أحمد بن إبراهيم الشاهد (ح) وأخبرنا عاليًا أبو طاهر بركات بن إبراهيم القرشيّ، وأبو القاسم عبد الرحمن بن مكيّ السعدي في كتابيهما، قالا: أنبا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم المعدل، أنبا أبو القاسم عليّ بن محمد بن عليّ الفارسيّ بمصر، ثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن زكريا بن حيويه النيسابوريّ، ثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار الأزديّ البصريّ سنة تسعين ومائتين إملاءً، ثنا إبراهيم بن سعيد -يعني: الجوهريّ- ثنا أبو أسامة، عن بُريد، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله رحمةَ أمةٍ قبض نبيها قبلها، وجعله لها فَرَطًا وسَلَفًا، وإذا أراد الله تبارك وتعالى هَلَكة أمة عذّبها، ونبيّها حيّ، فأهلكها، وهو ينظر".
قال الحافظ أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبو موسى، بهذا الإسناد.
أخبرناه أتم من هذا الشيخ أبو المفضل نعمة بن عبد العزيز بن هبة الله المعدل، بقراءتي عليه بمصر، أنبا الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله الشافعيّ بدمشق، أنا أبو المظفر ابن القشيريّ، وتميم بن أبي سعيد، قالا: أنا أبو عمرو البحيريّ، أنا أبو عليّ زاهر بن أحمد بن محمد بن المسيّب، ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، ثنا أبو أسامة، ثنا بريد بن عبد الله، ثنا أبو بردة، عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله إذا أراد رحمة أمةٍ من عباده قَبَض نبيّها، فجعله لها فرطًا، وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هَلَكة أمة عذّبها، ونبّيها حيّ، فأقرّ عينه بهلكتها، حين كذبوه، وعصوا أمره".
قال محمد بن المسيّب: قال لي محمد بن إسحاق بن خزيمة: اقرأ عليّ
هذا الحديث، فقلت: أنا أستحي منك أن أحدّثك، وأنت محدّث خراسان، فقال ابن عليّ الرازيّ: يقول لك الأستاذ: حدِّثني، وأنت تقول: لا؟، فقلت له: أنا لا أقول: لا، ولكن أستحي أن أحدّثه، فقرأت عليه، فقال لي بعد القراءة ثلاث مرات: بارك الله فيك، يا أبا عبد الله، قال الشيخ -يعني: زاهرًا-: فبلغني أن محمد بن إسحاق رَوَى عنه هذا الحديث، وقال على رأس الملأ: ثنا محمد بن المسيّب الشيخ الصالح، قالوا: مَن محمد بن المسيب؟ ثم قصده الناس بعد ذلك.
قلت
(1)
: ورجال هذا الإسناد، والذي قبله ثقات، والله الموفق.
وذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسيّ أن هذا الحديث غريب فرد عزيز.
وقال الشيخ أبو الحسن ظريف بن محمد عبد العزيز المقري في "فوائده": وقيل: إن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ تفرد به، حدّث به الإمام أبو الوليد حسان بن محمد القرشيّ، عن الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، عن محمد بن المسيّب الأرغِيانيّ، قال: وليس لأبي إسحاق بن سعيد الجوهريّ في "صحيح مسلم" إلا حديثان، أحدهما هذا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن حديث الباب صحيح متّصل من غير طريق مسلم، وأما طريق مسلم، فالظاهر أنها منقطعة؛ إذ لم يصرّح بسماعه من إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، بل قال: "وممن روى ذلك عنه -أي: عن أبي أسامة- إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، وظاهر هذا أنه لم يسمعه منه، وإنما أخذه من غير طريق التحديث؛ كالمذاكرة، أو الوجادة، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.
(1)
القائل: هو الرشيد العطّار رحمه الله.
(2)
"غرر الفوائد المجموعة" 1/ 17 - 18.
(9) - (بَابُ إِثْبَاتِ حَوْضِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم، وَصِفَاتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5951]
(2289) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد الله بن قيس التميميّ الْيَرْبوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سُنَّة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُوَيد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ، الكوفيّ، ويقال له: الفَرَسيّ -بفتح الفاء، والراء، ثم مهملة- نسبة إلى فرس له سابقٍ، كان يقال له: القبطيّ -بكسر القاف، وسكون الموحّدة- وربما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقةٌ فصيحٌ، فقيه، تغيّر حفظه، وربّما دَلّس [4](ت 136) وله مائة وثلاث سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
4 -
(جُنْدَبُ) بن عبد الله بن سُفيان البَجَليّ، ثم الْعَلَقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربما نُسِب إلى جده، صحابيّ مات بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (457) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالتحديث والسماع.
شرح الحديث:
عن عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّخْميّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَبًا) بضمّ الجيم،
والدال، وتُفتح، (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ) بفتحتين؛ أي: سابقكم، ومتقدّم عليكم (عَلَى الْحَوْضِ") -بفتح الحاء المهملة، وسكون الواو، بعدها ضاد معجمة- يُجمع على أحواض، وحياض، وهو مجمع الماء، وأصل حِيَاض: حواض بالواو، لكن قُلبت ياء؛ لانكسار ما قبلها، مثلُ ثوب، وأثواب، وثياب
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جُندُب بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5951 و 5952](2289)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6589)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 313)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 440)، و (الحميديّ) في "مسنده"(787)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1688 و 1689)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6445)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 95)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في إثبات حوض نبيّنا صلى الله عليه وسلم:
قال القرطبيّ رحمه الله: ومما يجب على كل مكلّف أن يعلمه، ويصدّق به: أن الله تعالى قد خصَّ نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالكوثر الذي هو الحوض المصرَّح باسمه، وصفته، وشرابه وآنيته في الأحاديث الكثيرة الصحيحة الشهيرة؛ التي يحصل بمجموعها العلم القطعيّ، واليقين التواتريّ؛ إذ قد روى ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة نيّفٌ على الثلاثين، وفي "الصحيحين" منهم نيّف على العشرين، وباقيهم في غيرهما، مما صح نقله، واشتهرت روايته، ثم قد رواها عن الصحابة من التابعين أمثالُهم، ثم لم تزل تلك الأحاديث مع توالي الأعصار، وكثرة الرواة لها في جميع الأقطار، تتوافر همم الناقلين لها على روايتها وتخليدها في الأمهات، وتدوينها، إلى أن انتهى ذلك إلينا، وقامت به حجة الله علينا، فلزمنا الإيمان بذلك، والتصديق به، كما أجمع عليه السلف، وأهل السُّنَّة من الخَلَف.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 156.
وقد أنكرته طائفة من المبتدعة، وأحالوه عن ظاهره، وغَلَوا في تأويله من غير إحالة عقلية، ولا عادية، تلزم من إقراره على ظاهره، ولا منازعة سمعيّة، ولا نقلية تدعو إلى تأويله، فتأويله تحريف صَدَر عن عقل سخيف، خرق به إجماع السلف، وفارق به مذهب أئمة الخلف. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" -بعد نقل كلام القرطبيّ المذكور- ما حاصله: قلت: أنكره الخوارج، وبعض المعتزلة، وممن كان ينكره: عبيد الله بن زياد أحد أمراء العراق لمعاوية، وولده، فعند أبي داود من طريق عبد السلام بن أبي حازم قال: شهدت أبا بَرْزة الأسلميّ دخل على عبيد الله بن زياد، فحدّثني فلان، وكان في السماط، فذكر قصةً فيها أن ابن زياد ذكر الحوض، فقال: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئًا؛ فقال أبو برزة: نعم، لا مرة، ولا مرتين، ولا ثلاثًا، ولا أربعًا، ولا خمسًا، فمن كَذَّب به فلا سقاه الله منه.
وأخرج البيهقي في "البعث" من طريق أبي حمزة، عن أبي برزة نحوه، ومن طريق يزيد بن حَيّان التيميّ، شَهِدت زيد بن أرقم، وبعث إليه ابن زياد، فقال: ما أحاديث تبلغني أنك تزعم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضًا في الجنة؟ قال: حدّثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند أحمد من طريق عبد الله بن بُريدة، عن أبي سَبْرة -بفتح المهملة، وسكون الموحّدة- الْهُذَليّ قال: قال عبيد الله بن زياد: ما أصدِّق بالحوض، وذلك بعد أن حدثه أبو برزة، والبراء، وعائذ بن عمرو، فقال له أبو سبرة: بعثني أبوك في مال إلى معاوية، فلقيني عبد الله بن عمرو، فحدّثني، وكتبته بيدي من فيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"موعدكم حوضي. . ." الحديث، فقال ابن زياد حينئذ: أشهد أن الحوض حقّ.
وعند أبي يعلى من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس: دخلت على ابن زياد، وهم يذكرون الحوض، فقال: هذا أنس، فقلت: لقد كانت عجائز بالمدينة كثيرًا ما يسألن ربهنّ أن يسقيهنّ من حوض نبيّهنّ، وسنده صحيح.
قال الحافظ: وروينا في "فوائد العيسويّ" وهو في البعث للبيهقيّ من
(1)
"المفهم" 6/ 90.
طريقه، بسند صحيح، عن حميد، عن أنس نحوه، وفيه: ما حسبت أن أعيش حتى أرى مثلكم يُنكر الحوض.
وأخرج البيهقيّ أيضًا من طريق يزيد الرَّقَاشيّ، عن أنس، في صفة الحوض:"وسيأتيه قوم ذابلةٌ شفاههم، لا يَطْعَمون منه قطرة، مَن كَذّب به اليوم لم يُصِب الشرب منه يومئذ"، ويزيد ضعيف، لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من قول أنس.
قال عياض: أخرج مسلم أحاديث الحوض عن ابن عمر، وأبي سعيد، وسهل بن سعد، وجندب، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وأم سلمة، وعقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وحارثة بن وهب، والمستورِد، وأبي ذرّ، وثوبان، وأنس، وجابر بن سمرة، قال: ورواه غير مسلم عن أبي بكر الصديق، وزيد بن أرقم، وأبي أمامة، وأسماء بنت أبي بكر، وخولة بنت قيس، وعبد الله بن زيد، وسُويد بن جَبَلة، وعبد الله الصُّنَابحيّ، والبراء بن عازب.
وقال النوويّ -بعد حكاية كلامه، مستدركًا عليه-: رواه البخاريّ ومسلم، من رواية أبي هريرة، ورواه غيرهما من رواية عمر، وعائذ بن عمرو، وآخرين، وجمع ذلك كله البيهقيّ في "البعث" بأسانيده، وطرُقه المتكاثرة.
قال الحافظ: أخرجه البخاريّ في "الرقاق" عن الصحابة الذين نَسَب عياض لمسلم تخريجه عنهم، إلا أم سلمة، وثوبان، وجابر بن سمرة، وأبا ذرّ، وأخرجه أيضًا عن عبد الله بن زيد، وأسماء بنت أبي بكر، وأخرجه مسلم عنهما أيضًا، وأغفلهما عياض، وأخرجاه أيضًا عن أسيد بن حُضير، وأغفل عياض أيضًا نسبة الأحاديث، وحديث أبي بكر عند أحمد، وأبي عوانة، وغيرهما، وحديث زيد بن أرقم عند البيهقيّ وغيره، وحديث خولة بنت قيس عند الطبرانيّ، وحديث أبي أمامة عند ابن حبان وغيره، وأما حديث سُويد بن جَبَلة، فأخرجه أبو زرعة الدمشقىّ في "مسند الشاميين"، وكذا ذكره ابن منده في "الصحابة"، وجزم ابن أبي حاتم بأن حديثه مرسل، وأما حديث عبد الله الصُّنَابحيّ، فغَلِط عياض في اسمه، وإنما هو الصنابح بن الأعسر، وحديثه عند أحمد، وابن ماجه، بسند صحيح، ولفظه: "إني فرطكم على الحوض، وإني
مكاثر بكم. . ." الحديث، قال الحافظ: فإن كان كما ظننت
(1)
وكان ضَبَط اسم الصحابيّ، وأنه عبد الله، فتزيد العدّة واحدًا، لكن ما عرفتُ مَن خَرّجه من حديث عبد الله الصنابحيّ، وهو صحابي آخر، غير عبد الرحمن بن عُسيلة الصُّنابحيّ التابعيّ المشهور.
وقول النوويّ: إن البيهقيّ استَوْعَب طرقه، يوهم أنه أخرج زيادة على الأسماء التي ذكرها، حيث قال: وآخرين، وليس كذلك، فإنه لم يُخرج حديث أبي بكر الصديق، ولا سُويد، ولا الصُّنابحيّ، ولا خولة، ولا البراء، وإنما ذكره عن عمر، وعن عائذ بن عمرو، وعن أبي برزة، ولم أر عنده زيادة إلا من مرسل يزيد بن رُومان في نزول قوله تعالى:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)} ، وقد جاء فيه عمن لم يذكروه جميعًا من حديث ابن عباس، ومن حديث كعب بن عُجْرة عند الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه الحاكم، ومن حديث جابر بن عبد الله، عند أحمد، والبزار، بسند صحيح، وعن بُريدة، عند أبي يعلى، ومن حديث أخي زيد بن أرقم، ويقال: إن اسمه ثابت، عند أحمد، ومن حديث أبي الدرداء عند ابن أبي عاصم في "السُّنَّة"، وعند البيهقيّ في "الدلائل"، ومن حديث أُبَيّ بن كعب، وأسامة بن زيد، وحذيفة بن أَسِيد، وحمزة بن عبد المطلب، ولقيط بن عامر، وزبد بن ثابت، والحسن بن عليّ، وحديثه عند أبي يعلى أيضًا، وأبي بكرة، وخولة بنت حكيم، كلها عند ابن أبي عاصم، ومن حديث الْعِرْباض بن سارية، عند ابن حبان في "صحيحه"، وعن أبي مسعود البدريّ، وسلمان الفارسيّ، وسمرة بن جندب، وعقبة بن عبد، وزيد بن أوفى، وكلها في الطبرانيّ، ومن حديث خباب بن الأرتّ، عند الحاكم، ومن حديث النَّوّاس بن سِمْعان، عند ابن أبي الدنيا، ومن حديث ميمونة أم المؤمنين في "الأوسط" للطبرانيّ، ولفظه:"يَرِدُ عليّ الحوضَ أطولكن يدًا. . ." الحديث، ومن حديث سعد بن أبي وقاص، عند أحمد بن منيع في "مسنده"، وذكره ابن منده في "مستخرجه" عن عبد الرحمن بن عوف، وذكره ابن كثير في "نهايته" عن عثمان بن مظعون، وذكره ابن القيم في "الحاوي"، عن معاذ بن
(1)
لعله "كما ظن"؛ أي: عياض، وليُحرّر.
جبل، ولقيط بن صَبِرة، وأظنه عن لقيط بن عامر الذي تقدم ذكره.
قال الحافظ: فجميع من ذكرهم عياض خمسة وعشرون نفسًا، وزاد عليه النووي ثلاثة، وزدت عليهم أجمعين قَدْر ما ذكروه سواءً، فزادت العدّة على الخمسين، ولكثير من هؤلاء الصحابة في ذلك زيادة على الحديث الواحد؛ كأبي هريرة، وأنس، وابن عباس، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو، وأحاديثهم بعضها في مطلق ذِكر الحوض، وفي صفته بعضها، وفيمن يَرِد عليه بعضها، وفيمن يُدْفَع عنه بعضها، وكذلك في الأحاديث التي أوردها البخاريّ في "باب في الحوض" من "الرقاق"، وجملة طرقها تسعة عشر طريقًا، قال: وبلغني أن بعض المتأخرين أوصلها إلى رواية ثمانين صحابيًّا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): هل الحوض خاصّ بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، أم لا؟:
قال في "الفتح": قد اشتَهَر اختصاص نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالحوض، لكن أخرج الترمذيّ من حديث سمرة رفعه:"إن لكل نبيّ حوضًا"، وأشار إلى أنه اختُلف في وصله وإرساله، وأن المرسل أصحّ، قال الحافظ: والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا، بسند صحيح، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبيّ حوضًا، وهو قائم على حوضه، بيده عصًا يدعو من عرف من أمته، ألا إنهم يتباهون أيُّهم أكثر تبعًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا".
وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله، وفي سنده لِينٌ.
وأخرج ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث أبي سعيد، رفعه:"وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العُصْبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وفي إسناده لينٌ، وإن ثبت فالمختصّ بنبيّنا صلى الله عليه وسلم: الكوثر الذي يُصَبّ من مائه في حوضه، فإنه لم يُنقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في "سورة الكوثر". انتهى.
(1)
"الفتح" 15/ 168 - 171، كتاب "الرقاق" رقم (6575).
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر أن مجموع هذه الروايات تدلّ على ثبوت الحوض للأنبياء، فالأَولى حمل خصوصيّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم بالحوض الذي يصبّ عليه الكوثر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في اختلاف الروايات هل الحوض قبل الصراط، أم بعده؟:
قال في "الفتح": إيراد البخاريّ رحمه الله لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة، وبعد نصب الصراط، إشارة منه إلى أن الورود على الحوض يكون بعد نصب الصراط، والمرور عليه، وقد أخرج أحمد، والترمذيّ من حديث النضر بن أنس، عن أنس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال:"أنا فاعلٌ"، فقلت: أين أطلبك؟ قال: "اطلبني أوّلَ ما تطلبني على الصراط"، قلت: فإن لم ألقك، قال:"أنا عند الميزان"، قلت: فإن لم ألقك، قال:"أنا عند الحوض".
وقد استُشكِل كون الحوض بعد الصراط بما سيأتي في بعض أحاديث هذا الباب أن جماعة يُدفعون عن الحوض بعد أن يكادوا يَرِدون، ويُذْهَب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمرّ على الصراط إلى أن يَصِل إلى الحوض يكون قد نجا من النار، فكيف يُرَدّ إليها؟.
ويمكن أن يُحْمَل على أنهم يَقْرُبون من الحوض، بحيث يرونه، ويرون النار، فيُدفعون إلى النار قبل أن يخلُصُوا من بقية الصراط.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم حوضين: أحدهما: في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمى كوثرًا.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصبّ في الحوض، ويُطلق على الحوض كوثر؛ لكونه يُمَدّ منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبيّ أن الحوض يكون قبل الصراط، فإن الناس يَرِدون الموقف عِطاشًا، فَيَرد المؤمنون الحوض، وتتساقط الكفار في النار، بعد أن يقولوا: ربنا عَطِشنا، فتُرفع لهم جهنم؛ كأنها سَرَابٌ، فيقال:"ألا تَرِدون؟ "، فيظنونها ماء، فيتساقطون فيها.
وقد أخرج مسلم من حديث أبي ذرّ: "أن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة"، وله شاهد من حديث ثوبان، وهو حجة على القرطبيّ، لا له؛ لأنه قد تقدم أن الصراط جسر جهنم، وأنه بين الموقف والجنة، وأن المؤمنين يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يَصُبّ من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها.
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ويُفتح نهر الكوثر إلى الحوض"، وقد قال القاضي عياض: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحوض: "مَن شَرِب منه لم يظمأ بعدها أبدًا" يدلّ على أن الشرب منه يقع بعد الحساب، والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذَّب بالنار، ولكن يحتمل أن من قُدّر عليه التعذيب منهم أن لا يعذَّب فيها بالظمأ، بل بغيره.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ويدفع هذا الاحتمال أنه وقع في حديث أُبَيّ بن كعب عند ابن أبي عاصم في ذِكر الحوض: "ومن لم يشرب منه لم يَرْوَ أبدًا"، وعند عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" في الحديث الطويل، عن لقيط بن عامر: أنه وَفَدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ونَهِيك بن عاصم، قال: فقَدِمنا المدينة عند انسلاخ رجب، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة. . . الحديث بطوله، في صفة الجنة، والبعث، وفيه: "تُعْرَضون عليه بادية له صفاحكم، لا تخفى عليه منكم خافية، فيأخذ غرفة من ماء، فينضح بها قِبَلَكم، فلعَمْرُ إلهك ما يخطئ وجه أحدكم قطرة، فأما المسلم فتَدَعُ وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر فتَخْطِمه مثل الخطام الأسود، ثم ينصرف نبيّكم، وينصرف على إثره الصالحون، فيسلكون جِسْرًا من النار، يطأ أحدكم الجمرة، فيقول: حَسْ، فيقول ربك: أو إِنّه
(1)
، ألا فيطلعون على حوض الرسول على أظمأ -والله- ناهلةٍ رأيتها أبدًا، ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع على قدح. . ." الحديث، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السُّنَّة"، والطبرانيّ، والحاكم، وهو صريح في أن الحوض قبل الصراط. انتهى.
(1)
وفي "النهاية" لابن الأثير ص 51: "وإنه"، بحذف الهمزة من أوله، قال: أي: وإنه كذلك، أو: إنه على ما تقول، وقيل:"إنّ" بمعنى: نعم، والهاء للوقف. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي مال إليه الحافظ من كون الحوض قبل الصراط هو الظاهر؛ لظواهر ما تقدّم من الدليل، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5952]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، جَمِيعًا عَنْ مِسْعَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنْدَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(ابْنُ بِشْرٍ) محمد العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(مِسْعَرُ) بن كِدَام -بكسر أوله، وتخفيف ثانيه- ابن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ مِسْعَرٍ)؛ يعني: أن كلًّا من وكيع، وابن بشر رويا هذا الحديث عن مسعر.
وقوله: (قَالَا: حَدَّثنَا شُعْبَةُ. . . إلخ) ضمير التثنية لمعاذ بن معاذ، ومحمد بن جعفر.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ. . . إلخ) ضمير التثنية لمسعر وشعبة.
[تنبيه]: رواية مسعر عن عبد الملك بن عمير ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(31663)
- حدّثنا وكيع، عن مسعر، عن عبد الملك بن عُمير، عن جندب، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فَرَطكم على الحوض". انتهى
(1)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 306.
ورواية شعبة عن عبد الملك بن عُمير ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6217)
حدثنا عبدان، أخبرني أبي، عن شعبة، عن عبد الملك، قال: سمعت جندبًا قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "أنا فرطكم على الحوض". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5953]
(2290 و 2291) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبدًا، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ، أَعْرِفُهُمْ، وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ"، قَالَ أَبُو حَازِمِ: فَسَمِعَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلًا يَقُولُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ، فَيَقُولُ: "إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقةٌ [3](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ، عابدٌ [5](ت 140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
4 -
(سَهْلُ) بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2408.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (458) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا)؛ أي: ابن سعد رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ) الفرط -بفتح الفاء، والراء، وبالطاء المهملة-؛ أي: أنا أتقدّمكم، والفرط: مَن يتقدم الواردين، فيهيئ لهم الأرسان، والدلاء، ويملأ الحياض، ويستقي لهم، وهو على وزن فَعَلٍ بمعنى فاعل، مثلُ تبَعِ بمعنى تابع. قاله في "اللسان"
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قوله: "وأنا فرطكم على الحوض" الفرط، والمتفارط: هو الماشي المتقدم أمام القوم إلى الماء، هذا قول أبي عبيد وغيره، وقال ابن وهب: أنا فرطكم يقول: أنا أمامكم، وأنتم ورائي تتبعوني. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" قال أهل اللغة: الفرط -بفتح الفاء، والراء- والفارط: هو الذي يتقدم الواردين ليصلح لهم الحياض، والدلاء، ونحوها، من أمور الاستقاء، فمعنى فرطكم على الحوض: سابقكم إليه؛ كالمهيِّء له. انتهى
(3)
.
(مَنْ وَرَدَ شَرِبَ) من ذلك الحوض (وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا) وفي رواية موسى بن عقبة: "مَن وَرَده، فشَرِب لم يظمأ بعدها أبدًا" وهذا يفسر المراد بقوله: "من ورد شرب"؛ أي: من ورد مكان الحوض، فمُكِّن من شربه، فشرب لا يظمأ، أو مَن مُكِّن من المرور به شرب، وفي حديث أبي أمامة:"ولم يُسَوَّد وجهه أبدًا"، وزاد ابن أبي عاصم في حديث أُبيّ بن كعب:"مَن صُرِف عنه لم يَرْوَ أبدًا"، ووقع في حديث النَّوّاس بن سمعان، عند ابن أبي الدنيا:"أوّل مَن يَرِد عليه مَن يسقي كل عطشان".
(1)
"لسان العرب" 7/ 366.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 2/ 301.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 53.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ومن شرب لم يظمأ أبدًا"؛ أي: شرب منه، والظمأ مهموز، مقصور كما ورد به القرآن العزيز، وهو العَطَش، يقال: ظَمِئ يَظْمَأ ظَمَأً، فهو ظمآن، وهم ظِماء، بالمدّ؛ كعَطِشَ يَعْطَش عَطَشًا، فهو عَطْشان، وهم عِطَاش، قال القاضي: ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب، والنجاة من النار، فهذا هو الذي لا يظمأ بعده، قال: وقيل: لا يشرب منه إلا من قُدِّر له السلامة من النار، قال: ويَحْتَمِل أن من شرب منه من هذه الأمة، وقُدِّر عليه دخول النار لا يُعَذَّب فيها بالظمأ، بل يكون عذابه بغير ذلك؛ لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه إلا من ارتدّ، وصار كافرًا، قال: وقد قيل: إن جميع الأمم من المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يعذِّب الله تعالى من شاء من عصاتهم، وقيل: إنما يأخذه بيمينه الناجون خاصّةً. قال القاضي: وهذا مثله قوله صلى الله عليه وسلم: "من وَرَدَ شَرِب" هذا صريح في أن الواردين كلهم يشربون، وإنما يُمنع منه الذين يُذادون، ويُمنعون الورود؛ لارتدادهم، وقد سبق في "كتاب الوضوء" بيان هذا الذَّوْد، والْمَذُودين. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لم يظمأ" قيل: هو كناية عن أنه يدخل الجنة؛ لأنه صفة من يدخلها، وفي حديث أبي سعيد:"إنك لا تدري ما بَدّلوا"، وقع في رواية الكشميهنيّ:"ما أحدثوا"، وحاصل ما حُمِل عليه حال المذكورين أنهم إن كانوا ممن ارتدّ عن الإسلام، فلا إشكال في تبرِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم، وإبعادهم، وإن كانوا ممن لم يرتدّ، لكن أَحْدَث معصيةً كبيرةً من أعمال البدن، أو بدعة من اعتقاد القلب، فقد أجاب بعضهم بأنه يَحْتَمِل أن يكون أعرض عنهم، ولم يشفع لهم اتِّبَاعًا لأمر الله فيهم، حتى يعاقبهم على جنايتهم، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمته، فيُخْرَجون عند إخراج الموحّدين من النار، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(وَلَيَرِدَنَّ) بنون التوكيد المشدّدة، مضارع ورد، يقال: ورد علينا زيد:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 54.
(2)
"الفتح" 16/ 435، كتاب "الفتن" رقم (7050).
ورُودًا: حضر، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَرَدَ البعيرُ وغيرُهُ الماءَ يَرِدُهُ وُرُودًا: بلغه، ووافاه، من غير دخول، وقد يَحْصُل دخولٌ فيه، والاسم: الوِرْدُ بالكسر، وأَوْرَدْتُهُ الماءَ، فَالوِرْدُ خلاف الصَّدَرِ، والإِيْرَادُ خلاف الإِصْدَارِ، والمَوْرِدُ مثلُ مسجد: موضع الورود، ووَرَدَ زيدٌ الماءَ، فهو وَارِدٌ، وجماعة وَارِدَةٌ، ووُرَّادٌ، ووِرْدٌ تسميةً بالمصدر، ووَرَدَ زيدٌ علينا وُرُودًا: حَضَرَ، ومنه وَرَدَ الكتاب على الاستعارة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: المناسب هنا معنى حَضَرَ، والله تعالى أعلم.
(عَلَيَّ أَقْوَامٌ، أَعْرِفُهُمْ، وَيَعْرِفُونِي) يَحْتَمل أن يكون بنون مشدّدة، وأصله يعرفونني بنونين، إحداهما نون الرفع، والثانية نون الوقاية، فأدغمت إحداهما في الأخرى، ويَحْتَمل أن يكون بنون واحدة مخفّفة، حُذفت إحداهما للتخفيف، والصحيح أنها نون الرفع؛ لأنه عُهد حذفها لغير ذلك
(2)
، ويجوز أيضًا أن يقرأ بنونين إن ثبت رواية، وبالأوجه الثلاثة قرئ قوله تعالى:{تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} [الزمر: 64] فقرأ نافع بنون مخفّفة، وقرأ ابن عامر بنونين، وقرأ الباقون بالإدغام، قاله ابن مالك في "شرح الكافية"
(3)
. (ثُمَّ يُحَالُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُحجز، ويُمْنَع الاتّصال (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ") حيث يؤمر بهم إلى النار.
(قَالَ أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار، وهو موصول بالسند السابق، وليس تعليقًا، (فَسَمِعَ النُّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيَّاشِ) -بتحتانية، وشين معجمة- الزُّرَقيّ الأنصاريّ، أبو سلمة المدنيّ، ثقةٌ [4] تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 484. وقوله:(وَأَنَا أُحَدِّثُهُمْ) جملة في محلّ نصب على الحال من "النعمان"، والرابط الواو والضمير، كما قال في "الخلاصة":
وَجُمْلَةُ الْحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَو بِهِمَا
(هَذَا الْحَدِيثَ) منصوب على المفعوليّة، (فَقَالَ) النعمان (هَكَذَا) بتقدير
(1)
"المصباح المنير" 2/ 654 - 655.
(2)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 80.
(3)
"شرح الكافية الشافية" 1/ 208.
همزة الاستفهام؛ أي: أهكذا (سَمِعْتَ سَهْلًا يَقُولُ؟ قَالَ) أبو حازم (فَقُلْتُ: نَعَمْ) سمعته يقول هكذا، (قَالَ) النعمان (وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، (لَسَمِعْتُهُ) اللام هي التي يُتلقّى بها جواب القسم؛ لأن المعنى أشهد بالله، (يَزِيدُ)؛ أي: يحدّث بهذا، فيزيد بعده (فَيَقُول) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّهُمْ)؛ أي: الناس الذين حيل بينه وبينهم، (مِنِّي)؛ أي: من أصحابي، فكيف تردّونهم عن الحوض؟ وفي الرواية الآتية:"فأقول: يا ربّ أصحابي، أصحابي"(فَيُقَالُ)؛ أي: يقول الله عز وجل له، أو الملك (إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ) زاد في الرواية الآتية:"ما زالوا يرجعون على أعقابهم"، وفي لفظ:"إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، (فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)؛ أي: بُعدًا لهم بُعدًا، نُصب على المصدر، وكُرّر للتوكيد، (لِمَنْ بَدَّلَ)؛ أي: غيّر سُنَّتي (بَعْدِي")؛ أي: بعد موتي، أو بعد مفارقته إياي، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهم هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5953 و 5954](2290 و 2291)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6583 و 6584) و"الفتن"(7050 و 7051)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 333 و 339)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 199)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 143 و 156 و 171 و 200)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 212 و 219)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 345 و 359)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 321)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ثبوت حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان شرف هذه الأمة حيث كان نبيّها فرطًا لها على الحوض تشرب بيده الشريفة، فما أعظم الكرامة، وأجلّها.
3 -
(ومنها): بيان ما عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية بأمته، حيث يقول
لهم، وهو على الحوض:"ألا هلُمّ"، فيا سعادتهم، وفوزهم العظيم، اللهم اجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.
4 -
(ومنها): بيان خطر الابتداع في الدين، وتبديل السُّنَّة بالبدعة؛ إذ هو السبب في منع الورود عليه صلى الله عليه وسلم حوضه، فيا خسارة المبتدعين، اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا، أو نُفتن عن ديننا آمين، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5954]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَعْقُوبَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) -بفتح الهمزة، وسكون التحتانية- السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله ثلاث وثمانون سنة (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197) وله اثنتان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(أُسَامَةُ) بن زيد الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِمُ [7](ت 153) وهو ابن بضع وسبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ. . . إلخ) قال العلماء: هذا العطف على سهل، فالقائل:"وعن النعمان" هو أبو حازم، فرواه عن سهل، ثم رواه عن النعمان، عن أبي سعيد، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: رواية أسامة بن زيد الليثيّ عن أبي حازم هذه ساقها الرويانيّ رحمه الله، في "مسنده"، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 54.
(1053)
- نا أحمد
(1)
، نا عمّي ابن وهب، حدّثني أسامة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أنا فرطكم على الحوض، فمن ورده شرِب، ومن شَرِب لم يظمأ، فأبصروا لا يَرِدُ عليّ أقوام، أعرفهم، ويعرفوني، فيحال بيني وبينهم"، قال أبو حازم: فأخبرني النعمان بن أبي عياش، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"فأقول: إنهم مني، فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا لمن بَدّل بعدي". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5955]
(2292 و 2293) - (وَحَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ
(3)
كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبدًا"، قَالَ: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي؟ فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، وَاللهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ"، قَالَ: فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ أَنْ نُفْتَنَ
(4)
عَنْ دِينِنَا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضَّبِّيُّ) هو: داود بن عمرو بن زُهير بن عمرو بن جَمِيل، أبو سليمان البغَداديّ، ثقةٌ [10](ت 228) وهو من كبار شيوخ مسلم (م س) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 22.
(1)
هو: أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب المصريّ [11] ت 264.
(2)
"مسند الرويانيّ" 2/ 212.
(3)
وفي نسخة: "كيزانه".
(4)
وفي نسخة: "أو نفتن".
2 -
(نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ) هو: نافع بن عُمر بن عبد الله بن جَمِيل الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ، ثبتٌ، من كبار [7](ت 169)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
3 -
(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة -بالتصغير- ابن عبد الله بن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير التيميّ المكيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد -بالتصغير- ابن سَعْد بن سَهْم السهميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرَّة على الأصح بالطائف، على الراجح، (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه عبد الله بن عمرو صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العبادلة الأربعة.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله بن عُبيد الله (بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) قيل: اسمه زهير أنه (قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، وفي رواية عن نافع بن عمر بسنده، عن عبد الله بن عمرو، وقد خالف نافع بن عمر في صحابيه عبدُ الله بن عثمان بن خُثيم، فقال: عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أخرجه أحمد، والطبرانيّ، قال الحافظ: ونافع بن عمر أحفظ من ابن خُثيم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا من الحافظ رحمه الله عجيب، كيف عزا هذه الرواية لأحمد، والطبرانيّ، وهي في "صحيح مسلم"، وهي الرواية التالية لهذه الرواية؟ وكيف رجّح عليها هذه، وقد صحّحهما مسلم؟ فالحقّ تصحيح كل منهما، كما رأي مسلم، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ) مبتدأ وخبره؛ أي: مسيرة حوضي شهر، (وَزَوَايَاهُ) جمع زاوية، وهي الركن، (سَوَاءٌ)؛ أي: متساوية؛
يعني: أنه مربّع لا يزيد طوله على عرضه، قاله الطيبيّ
(1)
، وقال النوويّ: قال العلماء: معناه طوله كعرضه، كما قال في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه المذكور في الكتاب:"عرضه مثل طوله". انتهى
(2)
، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وزواياه سواء"؛ أي: أركانه معتدلة؛ يعني: أن ما بين الأركان متساوٍ، فهو معتدل التربيع، وقد اختلفت الألفاظ الدَّالة على مقدار الحوض، كما هو مبيَّن في الروايات المذكورة في مسلم، وقد ظن بعض القاصرين: أن ذلك اضطراب، وليس كذلك؛ وإنما تحدَّث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث الحوض مرات عديدة، وذكر فيها تلك الألفاظ المختلفة إشعارًا بأن ذلك تقدير، لا تحقيق، وكلها تفيد: أنه كبير متسع، متباعد الجوانب والزوايا، ولعل سبب ذِكره للجهات المختلفة في تقدير الحوض: أن ذلك إنما كان بحَسَب من حضره ممن يعرف تلك الجهات، فيخاطِب كل قوم بالجهة التي يعرفونها، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ) بفتح الواو، وكسر الراء؛ أي: الفضّة، وفي رواية:"أبيض من اللبن".
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ماؤه أبيض من الورق" هكذا هو في جميع النسخ: الوَرِق، بكسر الراء، وهو الفضة، والنحويون يقولون: إن فعل التعجب الذي يقال فيه: هو أفعل من كذا إنما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف، فإن زاد لم يُتعجب من فاعله، وإنما يُتعجب من مصدره، فلا يقال: ما أبيض زيدًا، ولا زيد أبيض من عمرو، وإنما يقال: ما أشدّ بياضه، وهو أشدّ بياضًا من كذا، وقد جاء في الشِّعر أشياء من هذا الذي أنكروه، فعَدُّوه شاذًّا، لا يقاس عليه، وهذا الحديث يدلّ على صحته، وهي لغة، وإن كانت قليلة الاستعمال، ومنها قول عمر رضي الله عنه:"ومن ضَيّعها فهو لِمَا سواها أضيع". انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أبيض من الوَرِق" جاء "أبيض" هنا في هذا
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3515.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 55.
(3)
"المفهم" 6/ 91 - 92.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 55.
الحديث على الأصل المرفوض؛ كما قد جاء في قول طرفة بن العبد [من البسيط]:
إِذَا الرِّجَالُ شَتَوْا وَاشْتَدّ أَكْلُهُمُ
…
فأنت أبْيَضُهم سِرْبالَ طَبَّاخِ
وكما قد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "توافُون سبعين أمَّة أنتم أخْيَرهم"، رواه الدارميّ؛ أي: خَيْرهم، وكما قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم:"لينتهينّ أقوامٌ عن وَدْعهم الجمعات"، رواه مسلم، وكل ذلك جاء مَنْبَهَةً على الأصل المرفوض، والمستعمل الفصيح كما جاء في الرواية الأخرى:"أشدّ بياضًا من الثلج"، ولا معنى لقول من قال من مُتعسِّفة النحاة: لا يجوز التلفظ بهذه الأصول المرفوضة؛ مع صحَّة هذه الروايات، وشهرة تلك الكلمات. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ماؤه أبيض من اللبن" قال المازريّ: مقتضى كلام النحاة أن يقال: أشدّ بياضًا، ولا يقال: أبيض من كذا، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلّة، ويشهد له هذا الحديث وغيره.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من تصرف الرواة، فقد وقع في رواية أبي ذرّ عند مسلم بلفظ:"أَشَدّ بياضًا من اللبن"، وكذا لابن مسعود عند أحمد، وكذا لأبي أمامة عند ابن أبي عاصم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "من تصرّف الرواة" فيه نظر لا يخفى، بل الأَولى أن يُجعل لغة، وإن كانت قليلة، فتأملّ بالإمعان، ثم رأيت العينيّ رحمه الله تعقّب الحافظ في هذا، ونصّه: قلت: القول بأن هذا جاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم أَولى من نسبة الرواة إلى الغلط، على زعم النحاة، واستشهاده لذلك برواية مسلم لا يفيده؛ لأنه لا مانع أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم استَعْمَل أفعل التفضيل من اللون، فيكون حجة على النحاة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد العينيّ رحمه الله في هذا التعقّب، وأفاد، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 92.
(2)
"الفتح" 15/ 176، كتاب "الرقاق" رقم (6575).
(3)
"عمدة القاري" 23/ 139.
(وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الترمذيّ: "أطيب ريحًا من المسك"، ومثله في حديث أبي أمامة، عند ابن حبان:"أطيب رائحةً"، وزاد ابن أبي عاصم، وابن أبي الدنيا في حديث بُريدة:"وألْيَن من الزُّبْد"، وزاد مسلم من حديث أبي ذرّ، وثوبان:"وأحلى من العسل"، ومثله لأحمد عن أُبيّ بن كعب، وله عن أبي أمامة:"وأحلى مَذَاقًا من العسل"، وزاد أحمد في حديث ابن عمر، وفي حديث ابن مسعود:"وأبرد من الثلج"، وكذا في حديث أبي بَرْزة، وعند البزار من رواية عديّ بن ثابت، عن أنس، ولأبي يعلى من وجه آخر عن أنس، وعند الترمذيّ في حديث ابن عمر:"وماؤه أشدّ بردًا من الثلج"
(1)
. (وَكِيزَانُهُ) وفي بعض النسخ: "كيزانه" بلا واو، وهو بكسر الكاف: جمع كُوز، قال في "التاج": الكُوزُ بالضَّمِّ من الأَواني مَعروفٌ، يقال: إنه من كازَ الشيءَ إذا جمعَه، جمعه أَكوازٌ، وكِيزانٌ، وكِوَزَةٌ، حكاها سيبويه، مثلُ عُودٍ، وأَعوادٍ، وعِيدانٍ، وعِوَدَةٍ. انتهى
(2)
. (كَنُجُومِ السَّمَاءِ)، وفي حديث أنس الآتي:"وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"، ولأحمد من رواية الحسن، عن أنس:"أكثر من عدد نجوم السماء"، وفي حديث المستورِد الآتي:"تُرَى فيه الآنية مثل الكواكب"، ويأتي لمسلم عن ابن عمر:"فيه أباريق كنجوم السماء".
وقال النوويّ رحمه الله: وفي رواية: "فيه أباريق كنجوم السماء"، وفي رواية:"والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء، وكواكبها"، وفي رواية:"وأن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"، وفي رواية:"آنيته عدد النجوم"، وفي رواية:"ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء"، وفي رواية:"كان الأباريق فيه النجوم".
قال: والمختار الصواب أن هذا العدد للآنية على ظاهره، وأنها أكثر عددًا من نجوم السماء، ولا مانع عقليّ، ولا شرعيّ، يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكّدًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء".
(1)
"الفتح" 15/ 176، كتاب "الرقاق" رقم (6575).
(2)
"تاج العروس" 1/ 3797،
وقال القاضي عياض: هذا إشارة إلى كثرة العدد، وغايته الكثيرة من باب قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يَضَعُ العصا عن عاتقه"، وهو باب من المبالغة معروف في الشرع، واللغة، ولا يُعَدّ كذبًا؛ إذا كان المخبَر عنه في حيز الكثرة والعِظَم، ومبلغ الغاية في بابه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، قال: ومثله: كلّمته ألفَ مرة، ولقيته مائة كَرّة، فهذا جائز إذا كان كثيرًا، وإلا فلا. انتهى كلام القاضي عياض، قال النوويّ: والصواب الأول
(1)
؛ يعني: كونه على حقيقته، لا أنه من باب المبالغة، والله تعالى أعلم.
(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الحوض، وفي رواية للبخاريّ:"من منها"؛ أي: من الكيزان، (فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبدًا")؛ أي: فلا يَعْطش أبدًا، وزاد ابن أبي عاصم في حديث أُبَيّ بن كعب:"ومن صُرف عنه لم يَرْوَ أبدًا"
(2)
.
(قَالَ) ابن أبي مليكة، فهو موصول بالسند المذكور، وليس معلّقًا، جَمَع مسلم بين حديث عبد الله بن عمرو، وحديث أسماء بسند واحد، وقد فرّق البخاريّ بينهما بنفس السند، (وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمتها في "الطهارة" 33/ 681. (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، حَتَّى أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي)؛ أي: دون أن يصلوا إليّ، قال في "الفتح": هو مبيِّن لقوله في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "ثم لَيُخْتَلَجُنَّ دوني"، وأن المراد طائفة منهم. (فَأَقُولُ: يَا رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي؟) فيه ردّ لقول من حَمَلهم على غير هذه الأمة، (فَيُقَالُ) القائل له هو الله تعالى، كما بُيّن في رواية أخرى، ويَحْتَمِل أن يكون المَلَك، (أَمَا) أداة استفتاح، وتنبيه؛ كألا، (شَعَرْتَ) بفتح العين المهملة؛ أي: علمت، (مَا) موصولة مفعول "شعر"، (عَمِلُوا بَعْدَكَ) فيه إشارة إلى أنه لم يعرف أشخاصهم بأعيانها، وإن كان قد عرف أنهم من هذه الأمة بالعلامة. (وَاللهِ مَا بَرِحُوا) بكسر الراء؛ أي: ما زالوا (بَعْدَكَ)؛ أي: بعد موتك، أو بعد مفارقتهم إياك، (يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ")؛ أي: يرتدّون، كما في حديث الآخَرين. (قَالَ) نافع بن عمر، فهو موصول بالسند المذكور، (فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَو أَنْ نُفْتَنَ) بالبناء
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 55 - 57.
(2)
"عمدة القاري" 23/ 139.
للمفعول، وفي بعض النسخ:"أو نفتن" بحذف "أن"، (عَنْ دِينِنَا) أشار ابن أبي مليكة رحمه الله بهذا إلى أن الرجوع على العقب كناية عن مخالفة الأمر الذي تكون الفتنة سببه، فاستعاذ منهما جميعًا
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5955](2292 و 2293)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6579 و 6593) و"الفتن"(7048)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6452)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 143 و 9/ 27)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 432)، و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(140)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(728)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1067 و 1076)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إثبات حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان سعته، وأنه مسافة شهر، وأن زواياه متساوية، وسيأتي بيان الجمع بين مختلف الروايات في ذلك في المسألة التالية.
3 -
(ومنها): بيانه صفته، وأنه أبيض من الفضّة، واللبن، وأحلى من العسل.
4 -
(ومنها): بيان كثرة كيزانه، ككثرة نجوم السماء.
5 -
(ومنها): أن من شرب منه مرّة لا يظمأ بعدها أبدًا.
6 -
(ومنها): بيان شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، وشدّة عنايته بهم، فإنه ينتظرهم في ذلك اليوم العظيم، حتى يقوم بإزالة ما أصابهم من الكرب والعطش، فيناولهم الكؤوس ليزول ما بهم من البؤس، اللهم اجعلنا ممن يشرب الحوض من يده صلى الله عليه وسلم آمين.
(1)
"الفتح" 15/ 176، كتاب "الرقاق" رقم (6575).
7 -
(ومنها): بيان شؤم الابتداع والانحراف عن سنّته صلى الله عليه وسلم، ومنهجه القويم، فإنه يكون سببًا للطرد من ذلك الشراب اللذيذ الكريم، اللهم إنا نعوذ بك من ذلك الموقف الذميم آمين.
8 -
(ومنها): أن في قول ابن أبي مليكة رحمه الله: "اللهم إنا نعوذ بك. . . إلخ" أنه ينبغي لمن قرأ هذا الحديث، أو نحوه أن يتعوّذ بالله مما ذُكر فيه من البلاء والفتن، ويؤيّد هذا أن هذا كان من هديه صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، فقد أخرج أحمد في "مسنده" من حديث حذيفة رضي الله عنه حديثًا طويلًا، وفيه:"لا يمرّ بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل، ورَغِب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل، واستعاذ"، وفي رواية أبي داود:"لا يمر بآية رحمة إلا وَقَف، وسأل، ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف، وتعوّذ"، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف الروايات في تحديد سعة حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم:
(اعلم): أنه قد اختُلِف في ذلك اختلافًا كثيرًا، فوقع في حديث أنس رضي الله عنه:"كما بين أيلة وصنعاء من اليمن"، ووقع في حديث جابر بن سمرة أيضًا:"كما بين صنعاء وأيلة"، وفي حديث حذيفة مثله، لكن قال: عدن بدل صنعاء، وفي حديث أبي هريرة:"أبعد من أيلة إلى عدن"، وفي حديث أبي ذرّ:"ما بين عُمَان إلى أيلة"، وفي حديث أبي بردة عند ابن حبان:"ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر"، وهذه الروايات متقاربة؛ لأنها كلها نحو شهر، أو تزيد، أو تنقص.
ووقع في روايات أخرى التحديد بما هو دون ذلك، فوقع في حديث عقبة بن عامر، عند أحمد:"كما بين أيلة إلى الجحفة"، وفي حديث جابر:"كما بين صنعاء إلى المدينة"، وفي حديث ثوبان:"ما بين عدن وعَمّان البلقاء"، ونحوه لابن حبان، عن أبي أمامة، وعَمّان هذه بفتح المهملة، وتشديد الميم، للأكثر، وحُكِي تخفيفها، وتُنسب إلى البلقاء؛ لِقُرْبها منها، والبلقاء بفتح الموحدة، وسكون اللام، بعدها قاف، وبالمدّ بلدة معروفة من فِلسطين.
وعند عبد الرزاق في حديث ثوبان: "ما بين بُصْرَى إلى صنعاء، أو ما
بين أيلة إلى مكة"، وبصرى بضم الموحدة، وسكون المهملة، بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز.
وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند أحمد:"بُعْد ما بين مكة وأيلة"، وفي لفظ:"ما بين مكة وعمان"، وفي حديث حُذيفة بن أَسِيد:"ما بين صنعاء إلى بصرى"، ومثله لابن حبان في حديث عتبة بن عبد، وفي رواية الحسن، عن أنس، عند أحمد:"كما بين مكة إلى أيلة، أو بين صنعاء ومكة"، وفي حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة، وابن ماجه:"ما بين الكعبة إلى بيت المقدس"، وفي حديث عتبة بن عبد عند الطبرانيّ:"كما بين البيضاء إلى بصرى"، والبيضاء بالقرب من الرَّبَذَة البلد المعروف بين مكة والمدينة، وهذه المسافات متقاربة، وكلّها ترجع إلى نحو نصف شهر، أو تزيد على ذلك قليلًا، أو تنقص، وأقل ما ورد في ذلك ما يأتي في رواية لمسلم في حديث ابن عمر من طريق محمد بن بشر، عن عبيد الله بن عمر، بسنده، وزاد: قال: قال عبيد الله: فسألته، قال: قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاثة أيام. ونحوه له في رواية عبد الله بن نُمير، عن عبيد الله بن عمر، لكن قال:"ثلاث ليال".
وقد جمع العلماء بين هذا الاختلاف، فقال عياض: هذا من اختلاف التقدير؛ لأن ذلك لم يقع في حديث واحد، فيُعَدَّ اضطرابًا من الرواة، وإنما جاء في أحاديث مختلفة، عن غير واحد من الصحابة، سمعوه في مواطن مختلفة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يضرب في كل منها مَثَلًا لِبُعد أقطار الحوض، وسعته بما يسنح له من العبارة، ويقرّب ذلك للعلم ببُعد ما بين البلاد النائية، بعضِها من بعض، لا على إرادة المسافة المحققة، قال: فبهذا يُجمع بين الألفاظ المختلفة من جهة المعنى. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ رحمه الله: وفيه نظر من جهة أن ضرب المثل والتقدير إنما يكون فيما يتقارب، وإما هذا الاختلاف المتباعد الذي يزيد تارة على ثلاثين يومًا، وينقص إلى ثلاثة أيام فلا، قال القرطبيّ: ظنّ بعض القاصرين أن الاختلاف في قدر الحوض اضطرابٌ، وليس كذلك، ثم نقل كلام عياض، وزاد: وليس اختلافًا، بل كلها تفيد أنه كبير متسع متباعد الجوانب، ثم قال: ولعل ذِكره للجهات المختلفة بحسب مَن حضره ممن يَعرف تلك الجهة، فيخاطِب كل قوم بالجهة التي يعرفونها.
وأجاب النوويّ بأنه ليس في ذِكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح، فلا معارضة، وحاصله: أنه يشير إلى أنه أخبر أوّلًا بالمسافة اليسيرة، ثم أُعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها؛ كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافةً، وتقدم قول من جمع الاختلاف بتفاوت الطول والعرض، ورَدُّه بما في حديث عبد الله بن عمرو:"زواياه سواءٌ".
ووقع أيضًا في حديث النَّوَّاس بن سِمَعان، وجابر، وأبي بَرْزَة، وأبي ذَرّ:"طوله وعرضه سواءٌ".
وجَمَع غيره بين الاختلافين الأوَّلَين باختلاف السير البطيء، وهو سير الأثقال، والسير السريع، وهو سير الراكب الْمُخِفّ، ويُحْمَل رواية أقلها، وهو الثلاث، على سير البريد، فقد عُهِد منهم من قطع مسافة الشهر في ثلاثة أيام، ولو كان نادرًا جِدًّا.
قال الحافظ: وفي هذا الجواب عن المسافة الأخيرة نظر، وهو فيما قبله مسلَّم، وهو أَولى ما يُجمع به، وأما مسافة الثلاث، فإن الحافظ ضياء الدين المقدسيّ ذكر في الجزء الذي جَمَعه في الحوض أن في سياق لفظها غَلَطًا، وذلك الاختصار وقع في سياقه من بعض رواته، ثم ساقه من حديث أبي هريرة، وأخرجه من فوائد عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقوليّ بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعًا، في ذِكر الحوض، فقال فيه:"عَرْضه مثل ما بينكم وبين جرباء، وأَذْرُح"، قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حَذْف، تقديره: كما بين مقامي وبين جرباء وأذرح، فسقط "مقامي وبين".
وقال الحافظ صلاح الدين العلائيّ بعد أن حَكَى قول ابن الأثير في "النهاية": هما قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ثم غَلّطه في ذلك، وقال: ليس كما قال، بل بينهما غلوة سهم، وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القَدْر المحذوف عند الدارقطنيّ وغيره، بلفظ:"ما بين المدينة وجرباء وأذرح".
قال الحافظ: وهذا يوافق رواية أبي سعيد، عند ابن ماجه:"كما بين الكعبة وبيت المقدس".
وقد وقع ذِكر جرباء وأذرح في حديث آخر عند مسلم، وفيه:"وافى أهل جرباء وأذرُح بحرسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ذَكَره في غزوة تبوك، وهو يؤيد قول العلائيّ إنهما متقاربتان.
وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى أنه لاختلاف السير البطيء، والسير السريع. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، إلا أن الذي يظهر لي في الجمع ما تقدّم للنوويّ رحمه الله، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أوّلًا بالمسافات القصيرة، ثم أخبر بعد ذلك بالمسافات الطويلة، حيث تفضل الله سبحانه وتعالى عليه بالزيادة، {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وبهذا تجتمع الروايات المختلفة في هذا الباب، وتتّفق، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5956]
(2294) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَي أَصْحَابِهِ-: "إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، أنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، فَوَاللهِ لَيُقْتَطَعَنَّ دُونِي رِجَالٌ، فَلأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ مِنِّي، وَمِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ، مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ) القرشيّ الطائفيّ، أبو محمد، ويقال: أبو زكريا المكيّ، الحذّاء، الخرّاز، قال ابن سعد: طائفيّ سكن مكة، صدوقٌ، سيّئ الحفظ [10].
(1)
"الفتح" 15/ 173 - 176، كتاب "الرقاق" رقم (6579).
رَوَى عن عبيد الله بن عمر العُمريّ، وموسى بن عقبة، وداود بن أبي هند، وابن جريج، وإسماعيل بن أمية، وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وغيرهم.
وروى عنه وكيع، وهو من أقرانه، والشافعيّ، وابن المبارك، ومات قبله، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، والحميديّ، وقتيبة، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، وغيرهم.
قال الميمونيّ عن أحمد بن حنبل: سمعت منه حديثًا واحدًا، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: يحيى بن سليم كذا وكذا، والله إن حديثه يعني فيه شيء، وكأنه لم يحمده، وقال في موضع آخر: كان قد أتقن حديث ابن خُثيم، فقلنا له: أعطنا كتابك، فقال: أعطوني رَهْنًا، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: شيخٌ صالحٌ، محله الصدق، ولم يكن بالحافظ، يُكتب حديثه، ولا يُحتجّ به، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وهو منكَر الحديث عن عبيد الله بن عمر، وقال الدُّولابيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، مات سنة ثلاث، أو أربع وتسعين ومائة، وقال البخاريّ عن أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: مات سنة خمس وتسعين، وهو مكيّ، كان يَختلف إلى الطائف، فنُسب إليه، وقال الشافعيّ: فاضلٌ كنا نَعُدّه من الأبدال، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال يعقوب بن سفيان: سُنّيّ رجل صالحٌ، وكتابه لا بأس به، وإذا حدَّث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدَّث حفظًا، فيُعرف، ويُنكَر، وقال النسائيّ في "الكنى": ليس بالقويّ، وقال العقيليّ: قال أحمد بن حنبل: أتيته، فكتبت عنه شيئًا، فرأيته يخلط في الأحاديث، فتركته، وفيه شيء، قال أبو جعفر: ولَيَّن أمره، وقال الساجيّ: صدوق يَهِم في الحديث، وأخطأ في أحاديث، رواها عبيد الله بن عمر، لم يَحمده أحمد، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم، وقال الدارقطنيّ: سيئ الحفظ، وقال البخاري في "تاريخه" في ترجمة عبد الرحمن بن نافع: ما حَدَّث الحميديّ عن يحيى بن سُليم، فهو صحيح. انتهى.
أخرج له الستّة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(ابْنُ خُثَيْمٍ) هو: عبد الله بن عثمان بن خُثيم القارئ المكيّ، أبو عثمان، حليف بني زُهرة، صدوق [5].
رَوَى عن أبي الطفيل، وصفية بنت شيبة، وقيلة أم بني أنمار، ولها صحبة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وأبي الزبير، وابن أبي مليكة، وغيرهم.
ورَوى عنه السفيانان، وابن جريج، ومعمر، ووهيب، ويحيى بن سليم، وغيرهم.
قال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة حجة، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ما به بأس، صالح الحديث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال مرّة: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال عمرو بن عليّ: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وقال عبد الله بن الدَّوْرقيّ عن ابن معين: أحاديثه ليست بالقوية، نقله ابن عديّ، وقال: وهو عزيز الحديث، وأحاديثه أحاديث حسان، وقال ابن سعد: توفي في آخر خلافة أبي العباس، أو أول خلافة أبي جعفر، وكان ثقةً، وله أحاديث حسنة، وأخرج النسائيّ في "الحج" حديثًا من رواية ابن جريج عنه، عن أبي الزبير، عن جابر، ثم قال: ابن خثيم ليس بالقويّ، إنما أخرجت هذا؛ لئلا يُجعل ابن جريج، عن ابن الزبير، ثم قال: لم يترك يحيى، ولا عبد الرحمن حديث ابن خثيم، إلا أن عليّ ابن المدينيّ قال: ابنُ خثيم منكر الحديث، وكأن عليًّا خُلِق للحديث. انتهى.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيهما خلاف شهيرٌ، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
و"عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة" تقدم في الحديث السابق.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمكيين، وفيه عائشة رضي الله عنهما أفقه النساء مطلقًا، وأحب الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأفضل أزواجه، وهي من المكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ)، وقوله:(وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَي أَصْحَابِهِ) جملة حاليّة من المفعول؛ أي: بينهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: هو نازل بين ظَهْرَانَيْهِمْ -بفتح النون- قال ابن فارس: ولا تُكْسَر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان؛ للتأكيد، وبين ظَهْرَيْهِمْ، وبين أَظْهُرِهِمْ، كلها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأن المعنى: أن ظَهْرًا منهم قُدّامه، وظَهْرًا وراءه، فكأنه مكنوف من جانبيه، هذا أصله، ثم كَثُر حتى استُعْمِل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم. انتهى
(1)
.
وقال في "التاج": هو نازِلٌ بَيْنَ ظَهْرَيْهِم، وظَهْرَانَيْهِم، ولا تُكْسَرُ النّونُ، وكذا بين أَظْهُرِهِمْ؛ أَي: وَسَطُهم، وفي مُعْظَمِهِمْ، قال ابنُ الأَثير: قد تَكررّت هذه اللفظةُ في الحَدِيثِ، والمُرادُ بها أَنّهم أَقامُوا بينهُم على سَبيلِ الاسْتِظْهارِ، والاسْتِنَادِ إِليهم، وزِيدَت فيه أَلِف ونون مفتوحة تأْكيدًا، ومعناه أَنّ ظَهْرًا منهم قُدّامَه، وظَهْرًا وراءَه، فهو مَكْنُوفٌ من جانِبَيْه، ومن جَوَانِبِه إِذا قيل: بين أَظْهُرِهِمْ، ثم كَثُرَ، حتَّى استُعمِل في الإِقامةِ بين القومِ مُطْلَقًا. انتهى
(2)
.
("إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ، أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ) بفتح، فكسر، مضارع وَرَد، كوعد، من الورود، وهو الحضور، (عَلَيَّ مِنْكُمْ)؛ أي: من يحضُر ليشرب من حوضي، (فَوَاللهِ لَيُقْتَطَعَنَّ) بالبناء للمفعول، مبالغة في القطع. (دُونِي)؛ أي: قبل وصولهم إليّ، (رِجَالٌ، فَلأَقُولَنَّ: أَيْ رَبِّ مِنِّي)"أي" بفتح، فسكون حرف نداء للبعيد، هذا أصلها، ولكن هنا للقريب، وقوله:(وَمِنْ أُمَّتِي) تأكيد لِمَا قبله، (فَيَقُولُ) الرب سبحانه وتعالى (إِنَّكَ لَا تَدْرِي)؛ أي: لا تعلم (مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ)؛ يعني: أنهم ليسوا منك، ولا من أمتك؛ لأنهم عملوا بعدك أعمالًا تُبعدهم عنك، وتجعلهم في
(1)
"المصباح المنير" 2/ 387.
(2)
"تاج العروس" 1/ 3137.
صفّ المطرودين، وقوله:(مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ) إشارة إلى أن إحداثهم الأعمال المخالفة لسُنَّته صلى الله عليه وسلم مستمرّ، حتى ماتوا عليها، وفيه أن المبتدع لو تاب تاب الله عليه، وصار من أمته صلى الله عليه وسلم أمة الإجابة، ووَرَد حوضه، وشرب منه، اللهم اجعلنا ممن يَرِدُه، ويشرب منه بمنّك ورحمتك، وأنت أرحم الراحمين آمين، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5956](2294)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 121)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 433)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث مما انتقده الدارقطنيّ رحمه الله في "التتبّع"، فقال -بعد إيراده رواية المصنّف هذه بنصّها- ما نصّه: قال أبو الحسن: وقد تابع يحيى بن سُليم هند بن خالد، رواه عن ابن خُثيم مثله، قاله أحمد بن حنبل عن عفّان، قال أبو الحسن أيضًا: وابن خُثيم ضعيف، وخالفه نافع بن عمر، عن ابن أبي مُليكة، عن أسماء بنت أبي بكر، وعن ابن عمرو. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: غرض الدارقطنيّ رحمه الله بهذا تضعيف رواية ابن خُثيم، حيث خالف، وهو ضعيف نافع بن عمر، وهو ثقة في إسناد هذا الحديث، فجعله عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة رضي الله عنها، وجعله نافع عن ابن أبي مُليكة، عن عبد الله بن عمرو، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم، فتكون رواية ابن خثيم بهذا شاذّةً؛ لِمَا ذُكر.
والذي يظهر لي أن مسلمًا لا يرى هذه المخالفة ضارّة في صحّة الحديث، فالحديث عنده ثابت بالوجهين، ولذا أخرجه بهما، وابن خُثيم، وإن ضعّفه بعضهم، فقد وثّقه الآخرون، كما قدّمنا في ترجمته، فقد قال ابن معين: ثقة حجة، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ما به بأس، صالح الحديث،
(1)
"التتبّع" 374 بنسخة رسالة الشيخ ربيع المدخليّ.
وقال النسائيّ في رواية: ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ، ووثّقه مسلم حيث أخرج هذا الحديث من روايته، وكذا وثّقه ابن حبان، وضعّفه الآخرون.
فتصحيح روايةِ مثلِ هذا ليس ببعيد.
والحاصل أن متن الحديث صحيح متّفق عليه، بل متواتر، كما مرّ البحث عنه مستوفًى، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5957]
(2295) - (وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمًا مِنْ ذَلِكَ، وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَيُّهَا النَّاسُ"، فَقُلْتُ لِلْجَارَيةِ: اسْتَأْخِرِي عَنِّي، قَالَتْ: إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ، وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ، فَقُلْتُ: إِنِّي مِنَ النَّاس، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ، فَإِيَّايَ، لَا يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، فَيُذَبَّ عَنِّي، كَمَا يُذَبَّ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، فَأَقُولُ: فِيمَ هَذَا؟ فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقولُ: سُحْقًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ) هو: يونس بن عبد الأعلي بن مَيْسَرة الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10](ت 264) وله ست وتسعون سنة (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) ذُكر في السند الماضي.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ، مولى بني مخزوم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5] (ت 120) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ عَبَّاسٍ الْهَاشِمِيُّ) هو: القاسم بن العباس بن محمد بن مُعَتِّب بن أبي لَهَب الهاشميّ، أبو العباس المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) أو بعدها (م 4) تقدم في "الصيام" 22/ 2667.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) المخزوميّ، أبو رافع المدنيّ، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الحيض" 11/ 750.
7 -
(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم المخزومية، أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، ماتت سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: قبل ذلك، والأول أصحّ (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين إلى بُكير، والباقون مدنيّون.
شرح الحديث:
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) هند بن أبي أُميّة المخزوميّ رضي الله عنهما، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ بدلًا، أو عَطْف بيان، (أَنَّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّاسَ)؛ أي: الصحابة والصحابيّات الذين تعيش هي بينهم، (يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ، وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ تعني: أنه صلى الله عليه وسلم حدّث الناس بحديث الحوض بغير حضورها، فكانوا يتحدّثون به كما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم. (فَلَمَّا كَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَوْمًا)؛ أي: في يوم (مِنْ ذَلِكَ) الوقت الذي ذكر فيه صلى الله عليه وسلم الحوض، (وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي) جملة حاليّة، و"الجارية": هي الأمة، قال الفيّوميّ رحمه الله: والجَارِيَةُ هي السفينة، سُمِّيت بذلك؛ لِجَرْيها في البحر، ومنه قيل للأَمَة: جَارِيَة على التشبيه؛ لِجَرْيها مُسْتَسْخَرةً في أشغال مواليها، والأصل فيها الشابّة؛ لخفتها، ثم توسعوا حتى سَمُّوا كلّ أمة جاريةً، وإن كانت عجوزًا، لا تقدر على السعي تسميةً بما كانت عليه، والجمع فيهم: الجَوَارِي. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 98.
وقولها: (تَمْشُطُنِي) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، وكسره، يقال: مَشَطْتُ الشعرَ مَشْطًا، من بابي قتل، وضرب: سَرَّحته، والتثقيل مبالغة، وامْتَشَطَتِ المرأةُ: مَشَطَتْ شعرها، والمُشْطُ الذي يُمتشط به، بضم الميم، وتَميم تَكْسِر، وهو القياس؛ لأنه آلة، والجمع أَمْشَاطٌ، والمُشَاطَةُ بالضم: ما يَسقط من الشعر عند مَشْطه. انتهى
(1)
.
(فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ)، وفي الرواية التالية:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر"، ("أَيُّهَا النَّاسُ") ناداهم ليحدّثهم بما جاءه من الوحي، (فَقُلْتُ لِلْجَارِيةِ: اسْتَأْخِرِي)؛ أي: تأخّري (عَنِّي) واتركي المشط؛ لئلا يمنعني من سماع حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه ما كانت عليه أم سلمة رضي الله عنها من كمال العقل، ووفور العلم، وشدّة الشغف إلى استماع أحاديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم ما قال:"أيها الناس" إلا لخير يحثّهم عليه، أو شرّ يحذّرهم منه.
(قَالَتْ) الجارية (إِنَّمَا دَعَا الرِّجَالَ)؛ أي بقوله: "أيها الناس"، (وَلَمْ يَدْعُ النِّسَاءَ) هذا فيه أن الناس إنما يُطلق على الرجال، لكن هذا فَهْم الجارية، ولعلها لكونها عجميّة ما علمت إطلاقه على النساء، ولذا ردّت عليها أم سلمة حيث قالت:(فَقُلْتُ: إِنِّي مِنَ النَّاسِ)؛ أي: يشملني لفظ الناس، قال المجد رحمه الله: النَّاسُ يكونُ من الإِنْسِ، ومِن الجِنِّ، جَمْعُ إِنْسٍ، أَصْلُه أُنَاسٌ، وهو جَمْعٌ عَزِيزٌ، أُدْخِلَ عليهِ "أَلْ". انتهى
(2)
.
وقال الجوهريّ
(3)
: والناسُ قد يكون من الإنسِ، ومن الجنّ، وأصله:
أناسٌ فخفِّف، قال الشاعر [الكامل المرفّل]:
إِنَّ المَنايا يَطَّلِعْـ
…
ـنَ على الأُناسِ الآمِنينا
وقال الفيّوميّ رحمه الله: النَّاسُ اسمٌ وُضِع للجمع؛ كالقوم، والرهط، وواحده إِنْسَانٌ من غير لفظه، مُشْتَقّ من نَاسَ يَنُوسُ: إذا تَدَلَّى، وتحرك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} [الناس: 5]، ثم فَسَّر النّاس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} [الناس: 6]،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 574.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1324.
(3)
"الصحاح في اللغة" 2/ 238.
وسُمِّي الجنُّ نَاسًا، كما سُمُّوا رجالًا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، وكانت العرب تقول: رأيت نَاسًا من الجنّ، ويصغَّر النَّاسُ على نُوَيْسٍ، لكن غَلَبَ استعماله في الإنس. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما تقدّم من النصوص يدلّ على أن الناس يُطلق على الذكر والأنثى، وهو الذي قال به الأصوليّون، كما أشرت إليه في "التحفة المرضيّة" في الأصول عند تعداد ألفاظ العموم، حيث قلت:
وَالنَّاسُ وَالْقَوْمُ لِكُلٍّ عَمَّا
…
وَالْمُسْلِمُونَ وافْعَلُوا قَدْ أَمَّا
راجع شرح "التحفة"
(2)
لزيادة الإيضاح.
والحاصل: أن ما قالته أم سلمة رضي الله عنها من أن الناس يشمل النساء، هو الموافق للّغة، وقول الأصوليين، وأما ما قالته الجارية فلقصور فهمها للغة؛ لكونها أعجميّة، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَكُمْ فَرَطٌ عَلَى الْحَوْضِ)؛ أي: متقدّم إليه؛ لأهيّئ لكم ما يليق بالوارد، وأحوطكم، وآخذ لكم طريق النجاة، وقوله:(فَإِيَّايَ) مفعولٌ مقدّمٌ لـ "يأتينّ"، وفيه أن مفعول الفعل المؤكّد بالنون لا يتقدّم عليه؛ لمنافاته الاهتمام بتوكيده، وظاهر مذهب ابن مالك جوازه، حيث يستعمله كثيرًا؛ كقوله: وَالرَّفْعَ وَالنَّصْبَ اجْعَلَنْ إِعْرَابَا، وقوله: وَبِهِ الْكَافَ صِلَا، وغير ذلك.
وقوله: (لَا) ناهية، (يَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ، فَيُذَبَّ عَنِّي) بالبناء للمفعول؛ أي: يُطردَ، ويُمنع عن حضور مجلسي، وأصل الذب: الطرد
(3)
، فـ "يُذَبَّ" بالنصب بـ "أن" مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
(كَمَا يُذَبُّ) بالبناء للمفعول أيضًا، (الْبَعِيرُ) بفتح الموحّدة، وقد تُكسر، قاله المجد
(4)
، وقال الفيّوميّ: البَعِيرُ مثلُ الإنسان، يقع على الذكر والأنثى،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 630.
(2)
راجع: "المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة" 3/ 243 - 245.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 268.
(4)
راجع: "القاموس" ص 116.
يقال: حَلَبْتُ بَعِيرِي، والجَمَلُ بمنزلة الرَّجُل يَختصّ بالذَّكَر، والنَّاقَةُ بمنزلة المرأة تختصّ بالأنثى. انتهى
(1)
.
وقوله: (الضَّالُّ)؛ أي: الضائع، وهو نعت لـ "البعير"، وفيه دلالة على أنه يقال لغير الإنسان: ضالّ بلا هاء، والذي في كتب اللغة أن الضّالّ للإنسان، والضالّة للبهائم، قال في "التاج": والضَّالَّةُ مِنَ الإبِلِ: التي تَبْقَى بِمَضْيَعَةٍ، بَلا رَبٍّ يُعْرَفُ، وقالَ ابنُ الأَثِيرِ: الضَّالَّةُ هي الضَّائِعَةُ مِنْ كُلِّ ما يُقْتَنَى مِنَ الحَيَوان وغَيرِه، وهي في الأَصْلِ فاعِلَةٌ، ثمَّ اتُّسِعَ فيها، فصارَتْ مِنَ الصِّفاتِ الغالِبَةِ، وقال الجَوْهَرِيُّ: الضَّالَّةُ: ما ضَلَّ مِنَ البَهِيمَةِ، لِلذَّكَرِ، والأُنْثَى، زادَ غيرُه: والاثْنَيْنِ، والجَمِيعُ، ويُجْمَعُ عَلى ضَوَالّ. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَلَّ الرجل الطريق، وضَلَّ عنه يَضِلُّ، من باب ضرب ضَلَالًا، وضَلَالةً: زَلّ عنه، فلم يهتدِ إليه، فهو ضَالٌّ، هذه لغة نجد، وهي الفصحى، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، وفي لغة لأهل العالية من باب تَعِبَ، والأصل في الضَّلالِ: الغَيْبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضَالَّة بالهاء للذكر والأنثى، والجمع: الضَّوَالُّ، مثل دابةّ ودوابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائعٌ، ولُقَطة، وضَلَّ البعير: غاب، وخفي موضعه، وأَضْلَلْتُهُ بالألف: فقدته، قال الأزهريّ: وأَضْلَلْتَ الشيءَ بالألف: إذا ضاع منك، فلم تَعْرِف موضعَهُ؛ كالدّابّة، والناقة، وما أشبههما، فإن أخطأت موضعَ الشيء الثابت؛ كالدار، قلتَ: ضَلَلْتُهُ -بفتح اللام- وضَلِلْتُهُ -بكسرها- ولا تقل: أَضْلَلْتُهُ بالألف، وقال ابن الأعرابيّ: أَضَلَّنِي كذا بالألف: إذا عجزت عنه، فلم تَقْدِر عليه، وقال في "البارع": ضَلَّنِي فلان، وكذا في غير الإنسان يَضِلُّنِي: إذا ذهب عنك، وعجزت عنه، وإذا طلبت حيوانًا، فأخطأتَ مكانه، ولم تهتد إليه، فهو بمنزلة الثوابت، فتقول: ضَلَلْتُهُ، وقال الفارابيّ: أَضْلَلْتُهُ بالألف: أضعته، فقول الغزاليّ: أَضَلَّ رَحْله حَمْله على الفقدان أظهر من الإضاعة، وقوله: لا يجوز بيع الآبق، والضَّالِّ إن كان المراد الإنسانَ فاللفظ صحيح، وإن كان المراد غيره فينبغي أن يقال:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(2)
"تاج العروس" 1/ 7253.
والضَّالَّةِ بالهاء، فإن الضالَّ هو الإنسان، والضَّالَّةُ الحيوان الضائع، وضَلَّ الناسي: غاب حفظه، وأرض مَضِلَّةٌ بفتح الميم، والضادُ يُفتَح، ويُكْسَر؛ أي: يُضَلُّ فيها الطريقُ. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: المفهوم من كلام أهل اللغة أنه لا يقال للبعير: ضالّ، ونما يقال: ضالّة بالهاء، لكن الحديث يدلّ على خلافه، فتأمل بالإمعان.
قال صلى الله عليه وسلم: (فَأَقُولُ: فِيمَ هَذَا؟)؛ أي: في أيّ شيء هذا الذبّ، والمنع من ورود الحوض، والشرب منه؟، فقوله:"فِيم؟ " هي "في" الجارّة"، وهي سببيّة، و"ما" الاستفهاميّة حُذفت ألفها؛ تخفيفًا؛ كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)} [النبأ: 1]، وقوله: {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، قال في "الخلاصة":
و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمَا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا
…
بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى"
(فَيُقَالُ) القائل هو الله سبحانه وتعالى، أو المَلَك، (إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا)؛ أي: ما ابتدعوا، سواء كان بالارتداد، أو بنوع أيّ فسق مخالف لسُنَّته صلى الله عليه وسلم، (بَعْدَكَ)؛ أي: بعد موتك، أو بعد مفارقتهم مجلسك، قال صلى الله عليه وسلم:(فَأَقُولُ: سُحْقًا")؛ أي: بُعدًا وهلاكًا لهؤلاء المُحْدِثين المبتدِعين، ونَصْبه على المصدريّة، والجملة دعائيّة، يدعو عليهم بالطرد، والعذاب، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5957 و 5958](2295)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11460)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 297)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 200)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 297)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 363 - 364.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5958]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ -وَهُوَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَمْرٍو- حَدَّثَنَا أفلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ تُحَدِّثُ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ -عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهِيَ تَمْتَشِطُ-: "أَيُّهَا النَّاسُ"، فَقَالَتْ لِمَاشِطَتِهَا: كُفِّي رَأْسِي، بِنَحْوِ حَدِيثِ بُكَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبَّاسٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العَبْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد الأربعين ومائتين (م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكِسّيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ، حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
4 -
(أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عَمْرٍو) القيسيّ الْعَقَديّ -بفتح المهملة، والقاف- ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
5 -
(أفلَحُ بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ مولاهم، أبو محمد الْقُبَائيّ -بضم القاف- المدنيّ، صدوقٌ [7].
رَوَى عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، وبريدة بن سفيان الأسلميّ، ومحمد بن كعب، وغيرهم.
وروى عنه ابن المبارك، وأبو عامر العَقَديّ، وعيسى بن يونس، وزيد بن الحباب، وحماد بن خالد الخياط، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن معين مرّةً: ثقة، يروي خمسة أحاديث، وقال أبو حاتم: شيخٌ صالح الحديث، وقال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، مات بالمدينة سنة (156)، وذكره العقيلي في "الضعفاء"،
فقال: لم يرو عنه ابن مهديّ، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به، ولا الرواية عنه بحال.
قال الحافظ: وقرأت بخط الحافظ أبي عبد الله الذهبي بعد هذه الحكاية: ابنُ حبان ربما قَصَّبَ الثقةَ حتى كأنه لا يدري ما يخرج من رأسه، ثم بيَّن مستَنده، فساق حديثه عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة:"إن طالت بك مدة، فسترى قومًا، يَغْدُون في سخط الله، ويَرُوحون في لعنته، يَحمِلون سياطًا، مثل أذناب البقر"، ثم قال: وهذا بهذا اللفظ باطل، وقد رواه سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة بلفظ:"اثنان من أمتي لم أرهما: رجال بأيديهم سياط، مثلُ أذناب البقر، ونساء كاسياتٌ عارياتٌ"، قال الذهبيّ: بل حديث أفلح حديث صحيح غريب، وهذا شاهد لمعناه. انتهى.
قال الحافظ: والحديث في "صحيح مسلم" من الوجهين، فمستند ابن حبان في تضعيفه مردود، وقد غَفَل مع ذلك، فذكره في الطبقة الرابعة من "الثقات"، وذَهِل ابن الجوزيّ، فأورد الحديث من الوجهين في "الموضوعات"، وهو من أقبح ما وقع له فيها، فإنه قَلّد فيه ابن حبان من غير تأمّل. انتهى
(1)
.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان، هذا برقم (2295)، وحديث (2857):"يوشك إن طالت بك مدّة أن ترى قومًا في أيديهم مثل أذناب البقر. . ." الحديث، وأعاده بعده.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقولها: (كُفِّي رَأْسِي) هكذا نُسخ مسلم، ووقع في مُسْنَدَي أحمد، وإسحاق بن راهويه بلفظ:"لُفّي رأسي" باللام بدل الكاف، والظاهر أن "رأسي" في رواية مسلم منصوب بنزع الخافض؛ أي: كفّي عن رأسي؛ أي: عن مشطه؛ لأن كفّ يتعدّى بـ "عن"، يقال: كفّ عن الشيء كفًّا، من باب قتل: تركه، وكففته كفًّا، مَنَعْته، فكفّ هو، يتعدّى، ولا يتعدّى، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 186 - 187.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 536.
وقال المجد رحمه الله: وكففته عنه: دفعته، وصرفته، ككففته، فكفّ هو، لازم متعدّ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "كُفّي رأسي" هو بالكاف؛ أي: اجمعيه، وضُمِّي شعره بعضه إلى بعض. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تفسير الكفّ بمعنى الجمع والضمّ ليس مشهورًا، فما قدّمته هو الأظهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ بُكَيْرٍ. . . إلخ)؛ يعني: أن أفلح بن سعيد حدّث عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة رضي الله عنها بنحو ما حدّث به القاسم بن عبّاس في السند الماضي عنه.
[تنبيه]: رواية أفلح بن سعيد عن عبد الله بن رافع هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(26588)
- حدثنا أبو عامر، ثنا أفلح بن سعيد، قال: ثنا عبد الله بن رافع، قال: كانت أم سلمة تُحَدّث أنها سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر، وهي تمتشط:"أيها الناس"، فقالت لماشطتها: لُفِّي رأسي، قالت: فقالت: فَدَيْتُك، إنما يقول:"أيها الناس"، قلت: ويحك أَوَ لسنا من الناس؟ فَلَفَّت رأسها، وقامت في حجرتها، فسمعته يقول:"أيها الناس، بينما أنا على الحوض، جيء بكم زُمَرًا، فتفرّقت بكم الطُّرُق، فناديتكم، ألا هَلُمّوا إلى الطريق، فناداني منادٍ من بعدي، فقال: إنهم قد بَدّلوا بعدك، فقلت: ألا سُحْقًا، ألا سُحْقًا". انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5959]
(2296) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيْتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأنظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ، وَإِنِّي قَدْ
(1)
"القاموس المحيط" ص 1139.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 58.
أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ، أَو مَفَاتِيحَ الأَرْضِ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تتَنَافَسُوا فِيهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المشهور المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) المصريّ، أبو رجاء، واسم أبيه سُويد، واختُلِف في ولائه، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يُرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) 15/ 167.
3 -
(أَبُو الْخَيْرِ) مرْثَد بن عبد الله الْيَزَنيّ -بفتح التحتانية، والزاي، بعدها نون- المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 90)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 686.
4 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ) الْجُهَنيّ الصحابيّ المشهور، اختُلِف في كنيته على سبعة أقوال، أشهرها أنه أبو حماد، وُلِّي إِمْرة مصر لمعاوية ثلاث سنين، وكان فقيهًا فاضلًا، مات في قرب الستين (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
و"قُتيبة" ذُكر في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، وشيخه، وإن كان بَغْلانيًّا، إلا أنه دخل مصر للأخذ عن أهلها، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه معدود من أصحّ الأسانيد، كما قاله في "الفتح"
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْخَيْرِ) مرثَد بن عبد الله الْيَزَني (عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ) الْجُهَنيّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْمًا، فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ) -بضمّتين- الجبل المعروف بالمدينة الذي وقعت فيه الغزوة المشهورة. (صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيْتِ) بنصب "صلاته"، على أنه مفعول مطلق نوعيّ؛ أي: مثْل صلاته، زاد في رواية للبخاريّ:"بعد ثمان سنين"، وزاد مسلم في الرواية التالية، وهي أيضًا عند البخاريّ:"كالْمُوَدِّع للأحياء والأموات"، وزادا فيه أيضًا: "فكانت آخر نظرة
(1)
"الفتح" 4/ 122، كتاب "الجنائز" رقم (1344).
نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكانت أُحد في شوّال سنة ثلاث، ومات صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، فعلى هذا ففي قوله: "بعد ثمان سنين" تجوّز على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين، ودون النصف، كما في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت"؛ أي: دعا لهم بدعاء الموتى، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد استقبل القبلة، ودعا لهم، واستغفر، وهذا كما فعل حيث أمره الله تعالى أن يستغفر لأهل البقيع، فقام عليهم ليلًا، واستغفر لهم، ثم انصرف، كما تقدم في "الجنائز". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حَمْل الصلاة على الدعاء، وإن قال به كثير من العلماء، إلا أنه ضعيف، فالصواب حمله على حقيقته، ومما يردّ التأويل المذكور قوله:"صلاته على الميت"، فهو صريح في أن المراد حقيقة الصلاة على الجنازة، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ)، وقد وقع في مرسل أيوب بن بشر من رواية الزهريّ عنه عند ابن أبي شيبة:"خرج عاصبًا رأسه حتى جلس على المنبر، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أُحد، واستغفر لهم، فأكثر الصلاة عليهم"، وهذا يُحْمَل على أن المراد أول ما تكلم به؛ أي: عند خروجه قبل أن يصعد المنبر
(3)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ) بفتحتين بمعنى فارط، كتَبَعٍ بمعنى تابع، وهو الذي يتقدّم الواردة، فيُهيّئ لهم الأرشاء، والدلاء، ويستقي لهم، يريد أنه شفيع لأمته يتقدّمهم؛ إذ الشفيع يتقدّم المشفوع له، وقال في "العمدة": معنى "فرط لكم": سابقكم إليه؛ كالمهيئ له
(4)
. (وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ) فيه الحلف لتأكيد الخبر، وتعظيمه، (لأنظُرُ إِلَى حَوْضِي الآنَ) هو على ظاهره، وكأنه كُشف له عنه في تلك الحالة، قاله في "الفتح"، وقال أيضًا في موضع
(1)
"الفتح" 4/ 122، كتاب "الجنائز" رقم (1344).
(2)
"المفهم" 6/ 93.
(3)
"الفتح" 9/ 112، كتاب "المغازي" رقم (4042).
(4)
"عمدة القاري" 8/ 157.
آخر: قوله: "لأنظر إلى حوضي الآن" يَحْتَمِل أنه كُشف له عنه لَمّا خَطَب، وهذا هو الظاهر، ويَحْتَمِل أن يريد رؤية القلب، وقال ابن التين: النكتة في ذِكره عقب التحذير الذي قبله أنه يشير إلى تحذيرهم من فِعْل ما يقتضي إبعادهم عن الحوض، وفي الحديث عِدّة أعلام من أعلام النبوة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "رؤية القلب"، لا داعي إلى هذا الاحتمال، بل هو بعيد، فالصواب أنه على ظاهره، وأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى حوضه في وقت إخباره الصحابة بهذا الحديث، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ) بالبناء للمفعول، (مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "مفاتيح" في اللفظين بالياء، قال القاضي: ورُوي "مفاتح" بحذفها، فمن أثبتها فهو جمع مِفتاح، ومن حذفها فجَمْع مِفْتَح على وزن مِنْبر، وهما لغتان فيه. انتهى
(2)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي، (مَفَاتِيحَ الأَرْضِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه بُشِّر بفتح البلاد، وإظهار الدِّين، وإعلاء كلمة المسلمين، وتمليكه جميع ما كان في أيدي ملوكها من الصفراء، والبيضاء، والنفائس، والذخائر، فقد ملَّكه الله تعالى ديارهم، ورقابهم، وأرضهم، وأموالهم. كلُّ ذلك وفاءً بمضمون:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [التوبة: 33]
(3)
.
(وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ)؛ أي: على مجموعكم؛ لأن ذلك وقع من البعض -أعاذنا الله تعالى منه- (أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه قد أَمِنَ على جملة أصحابه أن يُبدِّلوا دين الإسلام بدين الشرك، ولا يلزم من ذلك أن لا يقع ذلك من آحادٍ منهم؛ فإنَّ الخبر عن الجملة لا يلزم صِدْقه على كل واحد من آحادها دائمًا؛ كيف لا؟! وهو الذي أخبر بأن منهم من يرتدّ بعد موته صلى الله عليه وسلم، كما جاء نصًّا في غير ما موضع من أحاديث الحوض وغيرها، وقد ظهر في الوجود ردَّة كثيرٍ ممن صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصلَّى معه، وجاهد، ثم كفر بعد موته، وقد تقدم قول ابن إسحاق وحكايته أنه لم يبق بعد موت
(1)
"الفتح" 15/ 182، كتاب "الرقاق" رقم (6593).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 59.
(3)
"المفهم" 6/ 93.
النبيّ صلى الله عليه وسلم مسجد من مساجد المسلمين إلا كان في أهله ردَّة، إلا ما كان من ثلاثة مساجد، وقتال أبي بكر رضي الله عنه لأهل الردة معلوم متواتر، وإذا كان كذلك فيتعيَّن حمل هذا الحديث على ما ذكرناه.
ويَحْتَمِل أن يكون هذا خبرًا عن خصوص أصحابه الذين أعلمه الله تعالى بمآل حالهم، وأنهم لا يزالون على هدي الإسلام، وشرعه، إلى أن يلقوا الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم على هديه؛ إذ قد شَهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير منهم بذلك، وشوهدت استقامة أحوالهم حتى توفاهم الله تعالى عليه.
ويَحْتَمِل أن يُحْمَل هذا الخبر على جميع الأمة، فيكون معناه الإخبارَ عن دوام الدين، واتصال ظهوره إلى قيام الساعة، وأنه لا ينقطع بغلبة الشرك على جميع أهله، ولا بارتدادهم، كما قد شَهِد بذلك الكتاب، والسُّنَّة، وإجماع الأمة، والأول أظهر من الحديث، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فِيهَا") وفي الرواية التالية: "ولكنّي أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، وتقتتلوا، فتَهْلَكوا كما هلك من كان قبلكم"، فقوله:"أن تنافسوا فيها" بفتح المثناة، والأصل أن تتنافسوا، فحُذفت إحدى التائين، والتنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء، ومحبة الانفراد به، والمغالبة عليه، وأصلها من الشيء النفيس في نوعه، يقال: نافست في الشيء مُنافسةً، ونَفَاسةً، ونِفاسًا، ونَفُس الشيء بالضم نَفاسةً: صار مرغوبًا فيه، ونَفِست به بالكسر: بَخِلت، ونَفِست عليه: لم أره أهلًا لذلك.
وقوله: "فتهلكوا"؛ أي: لأن المال مرغوب فيه، فترتاح النفس لِطَلَبه، فتمْنَع منه، فتقع العداوة المقتضية للمقاتلة المفضية إلى الهلاك
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ولكني أخشى عليكم الدنيا. . . إلخ" هذا الذي توقعه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي وقع بعده؛ فعمَّت الفتن، وعَظُمت الْمِحَن، ولم ينج منها إلا من عُصِم، ولا يزال الْهَرْج إلى يوم القيامة، فنسأل الله تعالى عاقبة
(1)
"المفهم" 6/ 93.
(2)
"الفتح" 15/ 182، كتاب "الرقاق" رقم (6593).
خير وسلامة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5959 و 5960](2296)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1344) و"المناقب"(3596) و"المغازي"(4042 و 4085) و"الرقاق"(6426 و 6590)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3223 و 3224)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 61 - 62) و"الكبرى"(2081)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 154)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3198)، و (الطبرانيّ" في "الكبير" (17/ 767)، و (الطحاويّ) في "شرح الآثار"(1/ 504)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 78)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 14)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(322 و 3823)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات حوض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه حوض حقيقيّ على ظاهره، مخلوقٌ موجود اليومَ، وهو كذلك عند أهل السُّنَّة والجماعة، لا يتأولونه، ويجعلون الإيمان به فرضًا، وأحاديثه قد بلغت التواتر، قال القاضي عياض رحمه الله بعد الإشارة إلى كثير منها: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواترًا. انتهى.
2 -
(ومنها): بيان مشروعيّة الصلاة على الشهداء، قال الخطابيّ رحمه الله: فيه أنه صلى الله عليه وسلم قد صلى على أهل أحد بعد مُدّة، فدلّ على أن الشهيد يصلى عليه، كما يصلى على من مات حتف أنفه، وإليه ذهب أبو حنيفة، وأوَّلَ الخبر في ترك الصلاة علمهم يوم أُحد على معنى إشتغاله عنهم، وقلّة فراغه لذلك، وكان يومًا صعبًا على المسلمين، فعُذروا بترك الصلاة عليهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت البحث في هذه المسألة في "شرح
(1)
"المفهم" 6/ 94.
النسائيّ" في "كتاب الجنائز" (61/ 1953)
(1)
، ورجّحت هناك ما ذهب إليه القائلون بمشروعيّة الصلاة على الشهيد؛ لوضوح أدلّته، ثم هو على الجواز لا على الوجوب؛ لثبوت عدم صلاته صلى الله عليه وسلم على قتلى أُحد يوم موتهم، فدلّ على الجواز، ولذا قال الإمام أحمد رحمه الله: الصلاة عليه أجْوَد، وإن لم يصلّوا عليه أجزأ، وقال ابن حزم رحمه الله: إن صُلّي على الشهيد فحسنٌ، وإن لم يُصلّ عليه فحسن، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): بيان فضل هذه الأمة، حيث كان نبيّها صلى الله عليه وسلم فَرَطًا لها، يتقدّمها، وينتظرها على حوضه الشريف، لتشرب من يده الكريمة، فلها البشرى العظيمة.
4 -
(ومنها): ما قاله وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: في هذا الحديث معجزات للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن معناه الإخبارُ بأن أمته تملك خزائن الأرض، وقد وقع ذلك، وأنها لا ترتدّ جملة، وقد عصمهم الله تعالى من ذلك، وأنها تتنافس في الدنيا، وتقتتل عليها، وقد وقع ذلك -عصمنا الله تعالى منه آمين-
(2)
. وقال في "الفتح": في هذا الحديث معجزات للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ولذلك أورده البخاريّ في "علامات النبوة"، والله تعالى أعلم.
قال ابن بطال: فيه أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فُتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشرّ فتنتها، فلا يطمئن إلى زخرفها ولا ينافس غيره فيها. ويستدل به على أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأن فتنة الدنيا مقرونة بالغنى، والغنى مظنة الوقوع في الفتنة، التي قد تجر إلى هلاك النفس غالبًا، والفقير آمن من ذلك.
5 -
(ومنها): ما قاله في "العمدة": وفيه معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث نظر إلى حوضه وهو في الدنيا، وأخبر عنه، وفيه معجزة أخرى أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، ومَلَكَتْها أمّته بعده، وأن أمته لا يُخاف عليهم من الشرك، وإنما يُخاف عليهم من التنافس، ويقع منهم التحاسد، والتباخل. انتهى
(3)
.
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى على المجتبى" 19/ 207 - 213.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 4/ 310.
(3)
"عمدة القاري" 8/ 157.
6 -
(ومنها): أن فيه جوازَ الحلف من غير استحلاف؛ لتفخيم الشيء، وتوكيده.
7 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": فيه إنذار بما سيقع، فوقع كما قال صلى الله عليه وسلم، وقد فُتِحت عليهم الفتوح بعده، وآل الأمر إلى أن تحاسدوا، وتقاتلوا، ووقع ما هو المشاهد المحسوس لكل أَحد مما يشهد بمصداق خبره صلى الله عليه وسلم، ووقع من ذلك في هذا الحديث إخباره بأنه فَرَطهم؛ أي: سابقهم، وكان كذلك، وأن أصحابه لا يُشركون بعده، فكان كذلك، ووقع ما أنذر به من التنافس في الدنيا، وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في معناه:"إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض. . ." الحديث، فوقع كما أخبر به، وفُتِحَت عليهم الفتوح الكثيرة، وصُبّت عليهم الدنيا صَبًّا
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5960]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا وَهْبٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَرِيرٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ، يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ؛ كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ، فَقَالَ: "إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ، إِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا، أَنْ تنافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا كمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ"، قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد، أبو العباس الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
2 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضَعف، وله أوهام إذا حَدّث من حفظه
(1)
"الفتح" 6/ 614.
[6]
مات سنة مائة وسبعين بعدما اختَلَط، لكنه لم يحدّث في حال اختلاطه (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) الغافقيّ -بمعجمة، ثم فاء، وقاف- أبو العباس المصريّ، صدوقٌ ربما أخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 820.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ) بفتح الصاد، وكسر العين المهملتين، يقال: صَعِد في السلّم -كسمِعَ- صُعُودًا: إذا رَقِي
(1)
.
وقوله: (كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ) قال في "الفتح": توديع الأحياء ظاهر؛ لأن سياقه يُشعر بأن ذلك كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وأما توديع الأموات، فيَحْتَمِل أن يكون الصحابيّ أراد بذلك انقطاع زيارته الأموات بجسده؛ لأنه بعد موته، وإن كان حيًّا، فهي حياة أُخروية، لا تُشبه الحياة الدنيا، والله أعلم.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بتوديع الأموات: ما أشار إليه في حديث عائشة رضي الله عنها من الاستغفار لأهل البقيع. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله عند قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يومًا، فصلّى. . . إلخ": معناه: خرج إلى قتلى أُحُد، ودعا لهم دُعاء مُوَدِّع، ثم دخل المدينة، فَصَعِد المنبرَ، فخطب الأحياء خُطبة مُوَدِّع، كما قال النَّوّاس بن سمعان، قلنا: يا رسول الله؛ كأنها موعظة مُوَدِّع، وفيه معنى المعجزة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ودعا لهم دُعاء مودِّع" قد عرفت أن الصحيح حَمْل الصلاة على أنها صلاة جنازة حقيقيةً، لا كناية عن الدعاء؛ لِمَا أسلفناه من التحقيق.
وأما قوله: "كما قال النوّاس بن سمعان"، الظاهر أنه مصحَّف من العِرْباض بن سارية رضي الله عنه، فإن هذا الحديث مشهور به، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" ص 739.
(2)
"الفتح" 9/ 114، كتاب "المغازى" رقم (4042).
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 59 - 60.
وقوله: (وَإِنَّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَى الْجُحْفَةِ) قال النوويّ رحمه الله: أما أيلة -فبفتح الهمزة، وإسكان المثناة تحتُ، وفتح اللام- وهي مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر، متوسطة بين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودمشق، ومصر، بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق نحو ثنتي عشرة مرحلةً، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل، قال الحازميّ: قيل: هي آخر الحجاز، وأول الشام.
وأما الجحفة فَسَبق بيانها في "كتاب الحج"، وهي بنحو سبع مراحل من المدينة، بينها وبين مكة. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا) أصله تتنافسوا، فحُذفت منه إحدى التاءين؛ كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
والتنافس من المنافسة، وهي الرغبة في الشيء، ومحبة الانفراد به، والمغالبة عليه.
وقوله: (قَالَ عُقْبَةُ) هو ابن عامر راوي الحديث رحمه الله، (فَكَانَتْ)؛ أي: هذه الرؤية (آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) بيّن به أن هذه الخطبة هي من أواخر ما خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة، وله الفضل والنعمة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5961]
(2297) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، وَلأُنَازِعَنَّ أَقْوَامًا، ثُمَّ لأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ").
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 57 - 58.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- الكوفيّ، أبو عبد الرحمن، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [5](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(شَقِيقُ) بن سَلَمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة، وقيل: مات سنة (82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل -بمعجمة، وفاء- ابن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن، من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، مناقبه جمة، وأَمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أَبُو مُعَاوِيةَ" هو: محمد بن خازم الضرير، و"الأعمش" هو: سليمان بن مِهران.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، قَرَن بينهم؛ لِمَا سبق غير مرّة، وأن "أبا كريب" منهم أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه "أبو معاوية" مشهور بكنيته، وهو أحفظ من روى لحديث الأعمش، إلا أن يكون الثوريّ، و"الأعمش" مشهور بلقبه، وفيه "ابن مسعود" من أشهر السابقين إلى الإسلام، ومن أفقه الصحابة، وأقرئهم لكتاب الله تعالى، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ شَقِيقِ) بن سلمة أبي وائل، وفي حديث شعبة، عن مغيرة الآتي:"سمعت أبا وائل"، (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ) تقدّم تفسيره مستوفًى. (وَلأُنَازِعَنَّ أَقْوَامًا) ببناء الفعل للفاعل؛ أي: لأخاصمنّ الملائكة الذين يذودون الناس عن الحوض، وفي رواية البخاريّ: "ولَيُرفعنّ رجال منكم، ثمّ لَيُختَلَجُنّ دوني"، وقوله: "ولَيُرْفَعَنّ"
بضم أوله، وفتح الفاء والعين، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُظهرهم الله تعالى لي حتى أراهم، وقوله:"ثُمّ لَيُخْتَلَجُنّ" بفتح اللام، وضم التحتانية، وسكون الخاء المعجمة، وفتح المثناة، واللام، وضم الجيم، بعدها نون ثقيلة، مبنيًّا للمفعول أيضًا؛ أي: يُنزَعُون، أو يُجذبون مني، يقال: اختَلَجه منه: إذا نَزَعه منه، أو جذبه بغير إرادته، قاله في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ لأُغْلَبَنَّ عَلَيْهِمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: تغلبني الملائكة، فتردّهم إلى النار، (فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي، أَصْحَابِي)؛ أي: هؤلاء أصحابي، وكرّره للتأكيد؛ أي: فأشفع فيهم، فشفّعني، (فَيُقَالُ) وتقدّم في حديث عائشة رضي الله عنها بلفظ:"فيقول"، وعليه فالقائل هو الله عز وجل، وأما في هذه الرواية فيَحْتَمل أن يكون هو الله تعالى، أو الملَك، (إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ")؛ أي: من البدع، ومخالفة السُّنَّة، أعمّ من أن يكون موجبًا للردّة، أو للإثم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5961 و 5962 و 5963 و 5964](2297)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6575) و"الفِتَن"(7049)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 384 و 402 و 406 و 407 و 425 و 439 و 453 و 455 و 5/ 393)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 102 و 9126)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 106 و 124 و 164)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 40 و 41 و 42)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5962]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "أَصْحَابِي، أَصْحَابِي").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان
(1)
"الفتح" 15/ 171، كتاب "الرقاق" رقم (6576).
الْعَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو: ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرّيّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
و"الأعمش" ذُكر قبله.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ. . . إلخ) الفاعل ضمير جرير بن عبد الحميد.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5168)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فَرَطكم على الحوض، فلأنازِعَنّ رجالًا منكم، ثم لأُغْلَبَنّ عليهم، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5963]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعًا عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ، وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُغِيرَةُ) ويقال فيه: المغيرة بن مِقَسم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه كان يُدَلِّس، ولا سيما عن إبراهيم [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"ابن المثنّى" هو: محمد.
(1)
"مسند أبي يعلى" 9/ 102.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ مُغِيرَةَ)؛ يعني: أن كلًّا من جرير، وشعبة رويا هذا الحديث عن مغيرة بن مِقْسم. . . إلخ.
[تنبيه]: رواية شعبة عن مغيرة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6205)
- وحدّثني عمرو بن عليّ، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن المغيرة، قال: سمعت أبا وائل، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أنا فرطكم على الحوض، ولَيُرْفَعَنّ رجال منكم، ثم لَيُختَلَجُنّ دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". انتهى
(1)
.
وأما رواية جرير عن مغيرة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5964]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ، وَمُغِيرَةَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سهل الكِنْديّ الأشعثيّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) من أفراد المصنّف، والنسائيّ تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(عَبْثَرُ) -بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثلثة- ابن القاسم الزُّبيديّ -بالضمّ- أبو زُبيد كذلك الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.
3 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان -بفتح المعجمة، وسكون الزاي- الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقة
(2)
، عارف، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
4 -
(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السُّلَميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغيّر حفظه
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2404.
(2)
هذا أَولى مما في "التقريب"، راجع ترجمته في:"التهذيب".
في الآخر [5](ت 136) وله ثلاث وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
5 -
(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل -بمهملتين، مصغّرًا- ويقال: حِسْل -بكسر، ثم سكون- العبسيّ -بالموحّدة- حليف الأنصار، الصحابي الجليل، من السابقين، صح في "صحيح مسلم" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيّ أيضًا، استُشْهِد بأُحُد، ومات حذيفة في أول خلافة عليّ رضي الله عنهما سنة ستّ وثلاثين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ)؛ يعني: أن كلًّا من عَبْثر، ومحمد بن فُضيل رويا هذا الحديث عن حُصين بن عبد الرحمن. . . إلخ.
وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ، وَمُغِيرَةَ) بنصب "نحوَ" على الحاليّة، أو مفعول به تنازعه "أخبرنا"، و"حدّثنا"، من قوله:"أخبرنا عبثر"، و"حدّثنا ابن فُضيل"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية حُصين عن أبي وائل هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(37177)
- حدّثنا ابن فُضيل، عن حُصين، عن شقيق، عن حذيفة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا فَرَطكم على الحوض، ولأُنازعنّ أقوامًا، ثم لأُغْلَبَنّ عليهم، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5965]
(2298) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ، أنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ"، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ: ألَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ: "الأَوَانِي؟ "، قَالَ: لَا، فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ: "تُرَى فِيهِ الآنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ").
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 455.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ بَزِيعٍ) -بفتح الموحّدة، وكسر الزاي- البصريّ، ثقةٌ [10](ت 247)(م ت س) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج المذكور في السند السابق.
4 -
(مَعْبَدُ بْنُ خَالِدِ) بن مُرَير -بِراء مصغّرًا- الْجَدَليّ -بجيم، ومهملة مفتوحتين- من جَدِيلة قيس الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [3](ت 118)(ع) تقدم في "الزكاة" 18/ 2337.
5 -
(حَارِثَةُ) بن وَهْب الْخُزَاعي الصحابيّ رضي الله عنه، نزل الكوفة، وكان عُمَر
زوج أمه (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1598.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان.
شرح الحديث:
(عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ) هو الْجَدَليّ -بفتح الجيم، والمهملة- من ثقات الكوفيين، ولهم معبد بن خالد اثنان غيره: أحدهما أكبر منه، وهو صحابيّ جُهَنيّ، والآخر أصغر منه، وهو أنصاري مجهول، قاله في "الفتح"
(1)
. (عَنْ حَارِثَةَ) بن وهب الْخُزَاعيّ رضي الله عنه صحابيّ نزل الكوفة، وله أحاديث، وكان أخًا لعُبيد الله -بالتصغير- ابن عُمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأمه
(2)
. (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَوْضُهُ)؛ أي: سعة حوضه صلى الله عليه وسلم، وفيه التفات؛ إذ الظاهر أن يقول -كما في نُسخة عزاها في "الفتح" إلى مسلم، ولم أرها فيه-:"حوضي"، وهو مبتدأ خبره قوله:(مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ")؛ أي: مقدار مسافةِ ما بينهما، قال ابن
(1)
"الفتح" 15/ 182، كتاب "الرقاق" رقم (6591 - 6592).
(2)
"عمدة القاري" 23/ 144.
التين: يريد صنعاء الشام، وتعقّبه الحافظ بأنه لا بُعد في حَمْله على المتبادَر، هو صنعاء اليمن؛ لِمَا تقدم توجيهه، وسيأتي في هذا الباب التقييد بصنعاء اليمن، فلْيُحْمَل المطلق عليه، ثم قال: يَحْتَمِل أن يكون ما بين المدينة وصنعاء الشام قَدْر ما بينها وصنعاء اليمن، وقَدْر ما بينها وبين أيلة، وقدر ما بين جرباء وأَذْرُح. انتهى، قال الحافظ: وهو احتمال مردود، فإنها متفاوتة إلا ما بين المدينة وصنعاء، وبينها وصنعاء الأخرى، والله أعلم
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لحارثة، (الْمُسْتَوْرِدُ) -بضم الميم، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة، بعدها واو ساكنة، ثم راء مكسورة، ثم دال مهملة- هو ابن شداد بن عمرو بن حِسْل
(2)
-بكسر أوله، وسكون ثانيه، وإهمالهما، ثم لام- ابن الأحنف بن حبيب بن عمرو بن سفيان بن محارب بن دثار القرشيّ الفهريّ الحجازيّ، صحابي ابن صحابي رضي الله عنهما شَهِد فتح مصر، وسكن الكوفة، ويقال: مات سنة خمس وأربعين.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبيه، وعنه أبو عبد الرحمن الْحُبُليّ، وقيس بن أبي حازم، ووقاص بن ربيعة، وعبد الكريم بن الحارث، وعليّ بن رَبَاح، وجُبير بن نُفير بخُلْف فيه، وعبد الرحمن بن جبير، وهانئ بن معاوية الصدفيّ، ومعبد بن خالد في أثناء هذا الحديث، حديث حارثة بن وهب الخزاعيّ، قال ابن يونس: يقال: تُوُفّي بالإسكندرية سنة خمس وأربعين، وقال مصعب الزبيريّ: مات بمصر في ولاية معاوية رضي الله عنهم.
روى له البخاريّ في التعليق
(3)
، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (2298)، وحديث (2858):"والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل. . ."، وحديث (2898):"تقوم الساعة، والروم أكثر الناس. . ."، وأعاده بعده.
(1)
"الفتح" 15/ 182، كتاب "الرقاق" رقم (6591 - 6592).
(2)
هكذا في "الفتح"، و"تهذيب الكمال"، ووقع في "تهذيب التهذيب" بدله:"ابن حنبل"، والله تعالى أعلم.
(3)
أي: في هذا الموضع فقط.
وقال في "الفتح": وليس له في البخاريّ إلا هذا الموضع، وحديثه مرفوع، وإن لم يصرح به. انتهى
(1)
.
(أَلَمْ تَسْمَعْهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "الأَوَانِي؟ ")؛ أي: ذكر كثرة أواني حوضه صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) حارثة (لَا)؛ أي: لم أسمعه ذَكَر ذلك، (قالَ الْمُسْتَوْرِدُ) رضي الله عنه نقلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع، وإن لم يصرّح به، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة": وحديثه مرفوع، وإن لم يصرح به، ويلزم رفعه من قوله:"ألم تسمعه؟ "؛ أي: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأواني فيه تكون كذا وكذا
(2)
. ("تُرَى) بالبناء للمفعول، (فِيهِ الآنِيَةُ) بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقوله:(مِثْلَ الْكَوَاكِبِ")؛ أي: كثرةً وضياءً؛ يعني: أنا سمعته قال ذلك، فقوله:"مثلَ الكواكب" منصوب على الحاليّة، وليس مفعولًا ثانيًّا لـ "تُرَى"؛ لأنها هنا بصريّة، وليس علميّة، فلذا لا تتعدّى إلا إلى واحد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "وترى فيه الآنية مثل الكواكب" كذا رويناه بضم التاء من "تُرَى" باثنتين فوقها، ورواه بعضهم:"يَرِي" بفتح الياء باثنتين تحتها، وكسر الراء، وصوّبه بعضهم، وقال: معناه: تُضيء، وتُشرق، من قولهم: وَرَى الزَّنْدُ: إدا أخرج النار، قال: وهذا بعيد، إنما أراد العَدَد وأنها تُرى في الكثرة ككثرة النجوم، كما جاء مُفَسَّرًا في الحديث الآخر. انتهى
(3)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وأما حديث المستورد رضي الله عنه فهو عند مسلم موصول بهذا السند، وأما البخاريّ، فقد علّقه، بعد حديث حارثة، بقوله بعد أن روى الحديث عن عليّ ابن المدينيّ، عن حَرَميّ بن عُمارة، عن شعبة، بسند مسلم هنا، ثم قال: "وزاد ابن أبي عديّ عن شعبة، عن معبد بن خالد، عن حارثة، سمِعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: حوضه
(1)
"الفتح" 15/ 182، كتاب "الرقاق" رقم (6591).
(2)
"عمدة القاري" 23/ 144.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 277.
ما بين صنعاء والمدينة، فقال له المستورِد: ألم تسمعه قال: الأواني؟ قال: لا، قال المستورد: تُرى فيه الآنية مثلَ الكواكب". انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5965 و 5966](2298)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6591 و 6592)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 237)، و (ابن بشكوال) في "الذيل على جزء بقيّ بن مَخْلد"(1/ 155)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5966]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَذَكَرَ الْحَوْضَ بِمِثْلِه، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُسْتَوْرِد، وَقَوْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ) بمهملات، الساميّ -بالمهملة-، البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حافظٌ تكَلَّم أحمد في بعض سماعه [5](ت 231)(م س) من أفراد المصنّف، والنسائيّ تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
2 -
(حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ) بن أبي حفصة نابت، بنون وموحّدة، ثم مثناة، وقيل: كالجادّة، العتكيّ البصريّ، أبو رَوْح، صدوق يَهِم [9](ت 201)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَذَكَرَ الْحَوْضَ) الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يقول"، ويَحْتَمل أن يكون فاعل "ذكر" ضمير حرميّ.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: ساق حرميّ الحديث عن شعبة بمثل ما ساقه ابن أبي عديّ عنه.
(1)
"صحيح البخاريّ" 15/ 165 بنسخة "الفتح".
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُسْتَوْرِدِ) فاعل "يذكُر" ضمير حرميّ، والمراد بقول المستورد ما سبق من قوله:"ألم تسمعه قال: الأواني؟ ".
وقوله: (وَقَوْلَهُ) بالنصب عطفًا على قول المستورد؛ أي: قول حارثة، وجوابه له بقوله: لا.
[تنبيه]: رواية حرميّ بن عمارة عن شعبة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6219)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا حَرَميّ بن عُمارة، حدّثنا شعبة، عن مَعبد بن خالد، أنه سمع حارثة بن وهب يقول: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر الحوض، فقال:"كما بين المدينة وصنعاء". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5967]
(2299) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ- حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا، مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ) سليمان بن داود الْعَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً، وهو أوثق من عمه كامل بن طلحة (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله إحدى وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(أيّوبُ) بن أبي تَمِيمة كيسان السختيانيّ -بفتح المهملة، بعدها معجمة، ثم مثناة، ثم تحتانية، وبعد الألف نون- أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2408.
حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
5 -
(نَافِعٌ) مولى ابن عمر الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد صِيَغ التحمّل والأداء، وهو مسلسل بالبصريين، إلى أيوب، والباقيان مدنيّان، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وهو المشهور بتتبع الآثار النبويّة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَمَامَكُمْ) بفتح الهمزة؛ أي: قُدّامكم، (حَوْضًا) قال في "الفتح": وفي رواية السرخسيّ: "حوضي" بزيادة ياء الإضافة، والأول هو الذي عند كل من أخرج الحديث، كمسلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: رواية "حوضي" هي الآتية لمسلم بعد هذه الرواية، وهي من رواية شيخه محمد بن المثنّى، فتنبّه.
(مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ)؛ أي: جانبيه، (كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ") أما جرباء فهي بفتح الجيم، وسكون الراء، بعدها موحّدة، بلفظ تأنيث أجرب، قال عياض: جاءت في البخاريّ ممدودة، وقال النوويّ: الصواب أنها مقصورة، وكذا ذكرها الحازميّ، والجمهور، قال: والمد خطأ، وأثبت صاحب "التحرير" المدّ، وجوَّز القصر، ويؤيد المدّ قول أبي عبيد البكريّ: هي تأنيث أجرب.
وأما أَذْرُح فبفتح الهمزة، وسكون الذال المعجمة، وضمّ الراء، بعدها حاء مهملة، قال عياض: كذا للجمهور، ووقع في رواية العذريّ في مسلم بالجيم، وهو وَهَمٌ، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 15/ 172، كتاب "الرقاق" رقم (6577).
وقال النوويّ رحمه الله: وأما جربا، فبجيم مفتوحة، ثم راء ساكنة، ثم باء موحّدة، ثم ألف مقصورة، هذا هو الصواب المشهور أنها مقصورة، وكذا قيّدها الحازميّ في كتابه "المؤتلف في الأماكن"، وكذا ذكرها القاضي، وصاحب "المطالع"، والجمهور، وقال القاضي، وصاحب "المطالع": ووقع عند بعض رواة البخاريّ ممدودًا، قالا: وهو خطأ، وقال صاحب "التحرير": هي بالمدّ، وقد تُقْصَر، قال الحازميّ: كان أهل جربا يهودًا كتب لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمان لَمّا قَدِم عليه لحية بن رؤبة صاحب أيلة بقوم منهم، ومن أهل أَذْرُح يطلبون الأمان.
وأما أذرح: فبهمزة مفتوحة، ثم ذال معجمة ساكنة، ثم راء مضمومة، ثم حاء مهملة، هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور، قال القاضي، وصاحب "المطالع": ورواه بعضهم بالجيم، قالا: وهو تصحيف، لا شكّ فيه، وهو كما قالا، وهي مدينة في طرف الشام في قبلة الشوبك، بينها وبينه نحو نصف يوم، وهي في طرف الشَّراط، بفتح الشين المعجمة، في طرفها الشماليّ، وتبوك في قبلة أذرُح، بينهما نحو أربع مراحل، وبين تبوك ومدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم نحو أربع عشرة مرحلة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية عبيد الله العمريّ عن نافع الآتية: "قال عبد الله: فسألته، فقال: قريتين بالشام، بينهما مسيرة ثلاث ليال"، وفي رواية:"ثلاثة أيام"، فقال في "الفتح": وأما مسافة الثلاث فإن الحافظ ضياء الدين المقدسيّ ذكر في الجزء الذي جَمَعه في الحوض، أن في سياق لفظها غَلَطًا، وذلك الاختصار وقع في سياقه من بعض رواته، ثم ساقه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه من فوائد عبد الكريم بن الهيثم الديرعاقوليّ، بسند حسن إلى أبي هريرة مرفوعًا في ذِكْر الحوض، فقال فيه:"عَرْضُهُ مثل ما بينكم وبين جرباء وأذرُح"، قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذفٌ، تقديره: كما بين مقامي وبين جرباء وأذرُح، فسقط "مقامي، وبين".
وقال الحافظ صلاح الدين العلائيّ بعد أن حكى قول ابن الأثير في
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 58.
"النهاية": هما قريتان بالشام، بينهما مسيرة ثلاثة أيام، ثم غلّطه في ذلك، وقال: ليس كما قال، بل بينهما غَلْوَة سَهْم، وهما معروفتان بين القدس والكرك، قال: وقد ثبت القَدْر المحذوف عند الدارقطنيّ وغيره، بلفظ:"ما بين المدينة وجرباء وأذرُح"، قال الحافظ: قلت: وهذا يوافق رواية أبي سعيد عند ابن ماجه: "كما بين الكعبة وبيت المقدس"، وقد وقع ذِكْر جرباء وأذرُح في حديث آخر عند مسلم، وفيه:"وافى أهل جرباء وأذرح بحرسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ذَكَره في غزوة تبوك، وهو يؤيد قول العلائيّ: إنهما متقاربتان، وإذا تقرر ذلك رجع جميع المختلف إلى إنه لاختلاف السير البطيء، والسير السريع. انتهى
(1)
.
وقال قبل ذلك ما حاصله: إن السير البطيء هو سير الأثقال، والسير السريع هو سير الراكب الْمُخِفّ، ويُحمل رواية أقلها، وهو الثلاث على سَيْر البريد، فقد عُهد منهم من قطع مسافة الشهر في ثلاثة أيام، ولو كان نادرًا جدًّا، قال: وفي هذا الجواب عن المسافة الأخيرة نظرٌ، وهو فيما قبله مُسَلَّم، وهو أَولى ما يُجمع به. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا سَقَطًا تبيّن مما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتقديره:"إن أمامكم حوضًا كما بين المدينة وجرباء وأذرُح"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5967 و 5968 و 5969 و 5970 و 5971](2299)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6577)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4745)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 440)، و (أحمد) في "مسنده"
(1)
"الفتح" 15/ 172، كتاب "الرقاق" رقم (6577).
(2)
"الفتح" 15/ 172، كتاب "الرقاق" رقم (6577).
(2/ 21 و 125 و 134)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 244)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 260)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6453)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1073)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 336)، و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(139)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5968]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا، كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثَنَّى: "حَوْضِي").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شَدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن أربع وسبعين (خ م د س ق) تقدم في"المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ، مأمونٌ سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ، متقنٌ، حافظٌ، إمامٌ، قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، أبو عثمان، ثقةٌ، ثبتٌ، قَدَّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبيد الله العمريّ عن نافع هذه بلفظ "حوضي" ساقها بقيّ بن مَخْلَد فيما جَمَعه في "الحوض، والكوثر"، فقال:
(11)
- نا محمد بن المثنى، قال: نا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر. . .
(1)
- 2 ونا أبو بكر، قال: نا محمد بن بشر، قال: نا عبيد الله، عن نافع، أن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمامكم حوضي، كما بين جرباء وأذرُح"، رواه أبو بكر، فقال: عبيد الله: فسألته، فقال: قريتين بالشام، بينهما مسيرة ثلاثة أيام. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5969]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَزَادَ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَسَأْلَتُهُ، فَقَالَ: قَرْيَتَيْنِ بِالشَّامِ، بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بِشْرٍ: ثَلَاثَةِ أيَّامٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا في الباب، غير والد ابن نمير، وهو عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، فتقدّم قريبًا.
وقوله: (وَزَادَ: قَالَ عُبَيْدُ اللهِ) هكذا النُّسخ، وكان الأَولى أن يقول: وزادا بألف التثنية؛ لأنها تعود إلى عبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، ولعله أفرده باعتبار الراوي، فليُتنبّه.
وقوله: (فَسَأَلْتُهُ) السائل هو عبيد الله، والمسؤول هو نافع.
وقوله: (فَقَالَ: قَرْيَتَيْنِ بِالشَّامِ) منصوب بفعل مقدّر؛ أي: يعني قريتين.
وقوله: (بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بِشْرٍ: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) تقدّم أن هذا غير صحيح، بل هما قريتان متجاورتان، قال المجَد رحمه الله: الجرباء: قَرْيَةٌ بِجَنْبِ أَذْرُحَ، وغَلِطَ مَنْ قال: بينهما ثلاثةُ أيامٍ، وإنما الوَهَمُ مِنْ رُواةِ الحَديثِ من إسْقاطِ زِيادَةٍ، ذَكَرَهَا الدارَقُطْنِيُّ، وهي: "ما بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي
(1)
"الحوض والكوثر" لبقيّ بن مخلد رحمه الله 1/ 83 - 84.
كما بَيْنَ المَدينةِ، وجَرْباءَ وأَذْرُحَ". انتهى
(1)
.
وقال المرتضى في "شرحه" عند قوله: "وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ" ما نصّه: وهو قولُ ابنِ الأَثِيرِ، وقَدْ وَقَعَ في روَايَة مُسْلِمٍ، وَنَبَّهَ عليه عِيَاضٌ وغَيْرهُ، وقالوا: الصَّوَابُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ، وإنَّمَا الوَهَمُ مِن رُوَاةِ الحَدِيثِ مِنْ إسْقَاطِ زِيادَةٍ، ذَكَرَهَا الإِمَامُ الدَّارَقُطْنِىُّ في كِتَابِهِ، وهِي -أَي: تِلْكَ الزيادةُ-: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَىْ حَوْضِي -أَي: مقدارُ مَا بينَ حَافَتَيِ الحَوْضِ- كَمَا بيْنَ المدينةِ، وبين هذينِ البَلَدَيْنِ المُتَقَارِبَيْنِ: جَرْبَاءَ وأَذْرُحَ، ومنهم مَنْ صَحَّحَ حذْفَ الوَاوِ العَاطِفَةِ قَبْلَ أَذْرُحَ، وقَالَ ياقوتٌ: وحَدَّثَنِي الأَميرُ شرَفُ الدِّينِ يعقوبُ بنُ محمد الهَذَبَانِيّ قال: رأَيْتُ أَذْرُحَ والجَرْبَاءَ غيرَ مَرَّةٍ، وبينهما مِيلٌ واحد، أَو أَقلُّ؛ لأَنَّ الواقِفَ في هذه يَنْظُرُ هذِهِ، واسْتَدْعَى رَجُلًا من تلك الناحِيةِ، ونحن بِدِمَشْقَ، واسْتَشْهَدَهُ على صِحَّةِ ذلك، فشَهِدَ به، ثم لَقِيتُ أَنا غيرَ واحدٍ من أَهل تلك النَّاحِيَةِ، وسَألْتُهُمْ عن ذلكَ، فكُلٌّ قالَ مثلَ قَوْلِه، وفُتِحَتْ أَذْرُحُ والجَرْبَاءُ في حَيَاةِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم سنَةَ تِسْعٍ، صُولِحَ أَهْلُ أَذْرُحَ على مِائَةِ دِينَارٍ جِزْيَةً. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية عبيد الله عن نافع هذه تقدّمت في التنبيه الماضي، فتنبّه.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5970]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ).
هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الهرويّ الأصلِ، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ بنون، ثم موحّدة، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 85.
(2)
"تاج العروس" 1/ 347.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ، ربما وَهِمَ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عَيّاش الأسديّ، مولى آل الزبير، ثقةٌ، فقيهٌ، إمام في المغازي، لم يصح أن ابن معين لَيّنه [5] (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة عن نافع هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5971]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَمَامَكُمْ حَوْضًا، كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأذْرُحَ، فِيهِ أَبَارِيقُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُمَرُ بْن مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] مات قبل سنة خمسين ومائة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فِيهِ أَبَارِيقُ) بالفتح: جمع إبريق فارسيّ معرّب، قاله الفيّوميّ، وقال المرتضى: والإِبْرِيقُ: إِناء معرُوفٌ، فارِسي مُعَرب: آبْ ري، قال ابن بَرِّيّ: شاهِدُه قول عَدِيّ بنِ زَيْدٍ [من الخفيف]:
وَدَعَا بالصبُوح يَوْمًا فقامَتْ
…
قَيْنَةٌ فِي يَمِينِها إِبرِيقُ
وقال كُراع: هو الكوز، وقالَ أَبو حَنِيفَةَ مرَّةً: هو الكُوز، وقال مرَّةً: هو مِثْل الكوزِ، وهو في كُلِّ ذلك فارِسيّ، جمعه: أَبارِيقُ، وفي التَّنْزِيلِ: {يَطُوفُ
عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} الآية [الواقعة: 17، 18]
(1)
.
وقوله: (كَنُجُومِ السَّمَاءِ)؛ أي: في الكثرة.
وقوله: (مَنْ وَرَدَهُ) من باب وعد، يقال: وَرَد البعير وغيره الماءَ يَرِدُه وُرُودًا: بلغَهُ، ووافاه من غير دخول، وقد يحصل دخول فيه، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقوله: (فَشَرِبَ مِنْهُ) بكسر الراء.
وقوله: (لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا")؛ أي: لم يَعْطَش بعد تلك الشربة، و"أبدًا" كلمة موضوعة لاستغراق ما يُستقبل من الزمان ضدّ "قط"، ومثله عَوْضُ
(3)
، وقال الرَّاغب في "المفردات": الأَبَدُ بالتحريك: عبارةٌ عن مُدّة الزّمانِ الممتَدّ الّذي لا يَتجزّأُ، كما يتجزَّأُ الزَّمَان، وذلك أَنّه يقال: زمانُ كذا، ولا يقال أَبدُ كذا، وكان حقُّه أَن لا يُثنَّى، ولا يُجْمَع؛ إِذْ لا يُتَصوّر حُصولُ أَبد آخرَ يُضَمّ إِليه، فيُثنَّى، ولكن قدْ قيل: آبادٌ، وذلك على حَسبِ تَخصيصِه ببعْضِ ما يَتناولُه؛ كتَخصِيص اسم الجِنْسِ في بعْضِه، ثمّ يثنى، ويُجمع، على أَنّه ذكَرَ بعضُ النّاس أَن آباد مُولّد، وليس من كلام العربِ العَرْباءِ. انتهى
(4)
.
والحديث متّفقٌ عليه، كما تقدّم، إلا أن هذا السياق للمصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5972]
(2300) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَكَوَاكِبِهَا، أَلَا فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ، آنِيَةُ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ
(1)
"تاج العروس" 1/ 6197.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 654.
(3)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 22/ 87.
(4)
"تاج العروس" 1/ 1862.
آخِرَ مَا عَلَيْهِ، يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ) أبو عبد الصمد البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [9] (ت 187) ويقال: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
2 -
(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) هو: عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الكِنْديّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من كبار [4] (ت 128) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
[تنبيه]: قوله: "الْجَوْنيّ" بفتح الجيم، وسكون الواو: نسبة إلى جَوْن، وهو بطن من الأزد، وهو الْجَوْن بن عوف بن خزيمة بن مالك بن الأزد، قاله في "اللباب"
(1)
.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ) الغِفَاريّ البصريّ ابن أخي أبي ذرّ، ثقةٌ [3] مات بعد السبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 52/ 1142.
4 -
(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جُنْدُب بن جُنَادة على الأصح، وقيل: بُرير بموحّدة، مصغَّرًا، أو مكبّرًا، واختُلف في أبيه، فقيل: جندب، أو عَشْرقة، أو عبد الله، أو السَّكَن، تقدم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه كثيرةٌ جدًّا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة تحمّله وأدائه، ثم فصّل؛ لاختلافهم في ذلك، كما سبق بيانه غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو ذرّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، ومن السابقين الأولين للإسلام، ذو مناقب جمّة.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 312.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَزٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟)؛ أَي: ما عدد آنيته؟ فالسؤال للعدد؛ لا لنوع الآنية، بدليل الجواب. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله (لآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَكَوَاكِبِهَا) بالجر عطفًا على "نجوم"، من عَطْف المرادف؛ إذ هما بمعنى واحد. (أَلَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة استفتاح وتنبيه. (فِي اللَّيْلَةِ) متعلّق بمحذوف خبر لمبتدأ مقدّر؛ أي: ذلك كائن في الليلة، وقوله:(الْمُظْلِمَةِ)؛ أي: التي لا قمر فيها، نعت لـ "الليلة"، وَصَفها بها؛ لأن الليلة المقمرة لا تكون فيها النجوم واضحة؛ لاستتارها بضوء القمر، وقوله:(الْمُصْحِيَةِ)؛ أي: التي لا غيم فيها، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَصْحَتِ السماءُ، بالألف، فهي مُصْحِيَةٌ: انكشف غيمها، وأنكر الكسائيّ استعمال اسم الفاعل من الرباعيّ، فقال: لا يقال: أَصْحَتْ، فهي مُصْحِيَةٌ، وإنما يقال: أَصحَتْ فهي صَحْوٌ، وأَصْحَى اليومُ، فهو مُصْحٍ، وأَصْحَيْنَا: صِرْنا في صَحْوٍ، قال السِّجِستانيّ: والعامة تظنّ أن الصَّحْوَ لا يكون إلا ذَهَاب الغيم، وليس كذلك، وإنما الصَّحْوُ: تفرّق الغيم، مع ذهاب البرد. انتهى
(1)
.
ووصف الليلة أيضًا بكونها مصحية؛ لأن وجود الغيم يمنع من رؤيتها. وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ألا في الليلة المظلمة المصحية" بتخفيف "ألا" وهي للاستفتاح، وخَصَّ الليلة المظلمة المصحية؛ لأن النجوم تُرَى فيها أكثر، والمراد بالمظلمة التي لا قمر فيها، مع أن النجوم طالعة، فإن وجود القمر يستر كثيرًا من النجوم. انتهى
(2)
.
وقوله: (آنِيَةُ الْجَنَّةِ) قال النوويّ رحمه الله: ضَبَطه بعضهم برفع "آنيةُ"، وبعضهم بنصبها، وهما صحيحان، فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي آنية الجنة، ومن نصب فبإضمار "أعني"، أو نحوه. انتهى
(3)
.
(مَنْ شَرِبَ مِنْهَا)؛ أي: من تلك الآنية؛ أي: من الشراب الذي فيها،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 334.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 60.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 60.
وهو مبتدأ خبره قوله: (لَمْ يَظْمَأْ) بفتح أوله، وثالثه، يقال: ظَمِئَ ظَمَأً مهموزًا، مثلُ عَطِشَ عَطَشًا، وزنًا ومعنًى، فالذَّكر ظَمْآنُ، والأنثى ظَمْأَى، مثلُ عَطْشَانَ، وعَطْشَى، والجمع ظِمَاءٌ مثلُ سهام، ويتعدى بالتضعيف، والهمزة، فيقال: ظَمَّأْتُهُ، وأَظْمَأْتُهُ. انتهى
(1)
.
وقوله: (آخِرَ مَا عَلَيْهِ) بنصب "آخر" على الطرفيّة، ويَحتمل الرفع إن ثبت روايةً، على أنه خبر لمحذوف؛ أي: ذلك آخر ما عليه من الظمأ، وتقدّم نظيره في "كتاب الإيمان" عند ذكر البيت المعمور في قوله:"آخر ما عليهم"، قال صاحب "مطالع الأنوار" هناك: رويناه "آخرُ ما عليهم" برفع الراء، ونصبها، فالنصب على الظرف، والرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم من دخوله، قال: والرفع أَوْجَهُ. انتهى
(2)
.
(يَشْخُبُ فِيهِ) -بفتح أوله، وسكون الشين المعجمة، وضم الخاء المعجمة، وفتحها-؛ أي: يسيل، وأصل الشخب ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غَمْزة، وعَصْرة لضرع الشاة
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَخَبَت أوداجُ القتيل دمًا شَخْبًا، من بابي قَتَلَ، ونَفَعَ: جَرَت، وشَخَبَ اللبنُ، وكلّ مائعٍ شَخْبًا: دَرَّ، وسال، وشَخَبْتُهُ أنا، يتعدى، ولا يتعدى. انتهى
(4)
.
وقوله: (مِيزَابَانِ) مرفوع على الفاعليّة لـ "يشخُب"، قال النوويّ: أما الميزابان، فبالهمز، ويجوز قلب الهمزة ياء. انتهى
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: المِئْزَاب بهمزة ساكنة، والمِيزابُ بالياء لغةٌ، وجَمْع الأول: مآزيبُ، وجَمْع الثاني: مَيازِيبُ، وربما قيل: مَوَازيب، من وَزَب الماءُ: إذا سال، وقيل: بالواو معرَّب، وقيل: مُولَّدٌ، ويقال: مِرْزَابٌ بِراء مهملة، مكان الهمزة، وبعدها زاي، ومنعه ابن السّكّيت، والفَرَّاء، وأَبو حاتم،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 386.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" هناك 2/ 225.
(3)
"الديباج على مسلم" للسيوطيّ 5/ 314.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 30.
(5)
"شرح النوويّ" 15/ 60.
وفي "التهذيب" عن ابن الأعرابيّ: يقال للمِئْزَاب: مِرْزَاب، ومِزْرَابٌ، بتقديم الراء المهملة، وتأخيرها، ونَقَلَهُ الليث، وجماعة. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنَ الْجَنَّةِ) صفة لـ "ميزاب".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يشخُب فيه ميزابان من الجنة"؛ أي: يسيل، وهو بالشين، والخاء المعجمتين، والشخب -بالفتح في الشين- المصدر، وهو السيلان، وبالضم: الاسم، يقال في المثل: شُخب في الأرض وشُخب في الإناء، وأصل ذلك في الحالب المفرط، وفي الرواية الأخرى:"يَغُتُّ" بِالْغين المعجمة، وبالمثناة فوق
(2)
؛ وسيأتي الكلام فيها.
(مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ، عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ) هذا صريح في كون الحوض متساوي الأركان، كما سبق في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بلفظ صريح كذلك:"وزواياه سواء"، وفيه ردّ على من جَمَع بين مختلف الروايات بحمل بعضها على العرض، وبعضها على الطول؛ لأنه إذا استوت أركانه، فقد بَطَل الحَمْل المذكور، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(مَا بَيْنَ عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ)؛ يعني: أن طوله يكون بمقدار المسافة التي بينهما، قال النوويّ رحمه الله: وأما "عَمّان" فبفتح العين، وتشديد الميم، وهي بلدة بالبلقاء من الشام، قال الحازميّ: قال ابن الأعرابيّ: يجوز أن تكون فَعْلان، من عَمّ يَعُمّ، فلا تنصرف معرفةً، وتنصرف نكرةً، قال: ويجوز أن يكون فَعّالًا، من عَمَنَ، فتنصرف معرفةً ونكرةً؛ إذا عُنِي بها البلد. انتهى، قال النوويّ: والمعروف في روايات الحديث وغيرها تَرْك صَرْفها. انتهى
(3)
.
وقال صاحب "التكملة": قوله: "ما بين عمان إلى أيلة" ضبطه القاضي عياض بفتح العين، وتشديد الميم، وهي عَمّان البلقاء، عاصمة الأردنّ اليوم، ولكن جزم الحافظ في "الفتح" بأنه عُمَان بضمّ العين، وتخفيف الميم، وهو البلد المعروف بالخليج اليوم الذي عاصمته مسقَط، وبذلك جزم البكريّ، قال: ويبدو أنه الأصحّ؛ لكون مسافة ما بين أيلة وعَمّان البلقاء قريبةً، بخلاف
(1)
"المصباح المنير" 1/ 12 - 13.
(2)
"المفهم" 6/ 97.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 58.
المسافة بينهما وبين عُمَان- المسقط. انتهى
(1)
.
وأما "أيلة"، فبفتح الهمزة، وإسكان المثناة تحتُ، وفتح اللام، وهي مدينة معروفة في طرف الشام، على ساحل البحر، وتقدّم تمام البحث فيها.
(مَاؤُهُ)؛ أي: ماء الحوض، (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ") اللهم اجعلنا ممن يشرب من هذا الحوض العظيم بمنّك وكرمك يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين آمين.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5972](2300)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2445)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 306 و 7/ 45)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 149)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 379)، و (بقيّ بن مخلَد) في "الحوض والكوثر"(1/ 95)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5973]
(2301) - (حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ- قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ -وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ- حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي، أَذُودُ النَّاسَ
(2)
لأَهْلِ الْيَمَنِ، أَضْرِبُ بِعَصَايَ، حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ"، فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ، فَقَالَ: "مِنْ مَقَامِي إِلَى عَمَّانَ"، وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ، فَقَالَ: "أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد، البصري، ثقة [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 4/ 511.
(2)
وفي نسخة: "أذود الناس عنه".
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) المذكور في الباب.
3 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
4 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يرسل كثيرًا [3] (ت 7 أو 98) وقيل: مائة، أو بعد ذلك، ولم يثبت أنه جاوز المائة (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
8 -
(مَعْدَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيُّ) ويقال: ابن طلحة الْيَعْمَريّ -بفتح التحتانية، والميم، بينهما مهملة- الشاميّ ثقةٌ [2](م 4) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.
9 -
(ثَوْبَانُ) بن بُجدد، أو ابن جَحْدر، أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن، الهاشميّ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبَهُ، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن سالم، عن معدان، وأن صحابيّه منفرد بهذا الاسم، فلا يوجد في الكتب الستّة من يُسمّى باسمه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ ثَوْبَانَ) بن بُجدد، أو ابن جَحْدر الهاشميّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: أصله من اليمن، أصابه سباء، فاشتراه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأعتقه، وقال:"إن شئت تلحق بمن أنت منهم فعلت، وإن شئت أن تثبت، فأنت منا أهل البيت"، فثبت، ولم يزل معه في سفره، وحَضَرِه، ثم خرج إلى الشام، فنزل الرملةَ، ثم حمص، وابتنى بها دارًا، ومات بها في إمارة عبد الله بن قرط، سنة 54 هـ
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 276.
(أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنِّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي) -بضم العين المهملة، وإسكان القاف-: هو موقف الإبل من الحوض إذا وَرَدَتْه، وقيل: مؤخَّره، قاله النوويّ
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو بضم العين، وسكون القاف، وهو مؤخره حيث تقف الإبل إذا وردته، وتُسكَّن قافه، وتُضم، فيقال: عُقْر، وعُقُر؛ كعُسْر وعُسُر، قاله في "الصحاح"، وقال غيره: عُقْر الدار: أصلها -بفتح العين، وقد تُضم-. انتهى
(2)
.
(أَذُودُ النَّاسَ)؛ أي: أمنعهم، زاد في بعض النُّسخ:"عنه". (لأَهْلِ الْيَمَنِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: أطرد الناس عنه غير أهل اليمن؛ ليرفضّ على أهل اليمن، وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه؛ مجازاةً لهم بحسن صنيعهم، وتقدمهم في الإسلام، والأنصارُ من اليمن، فيَدْفَع غيرهم حتى يشربوا، كما دَفعوا في الدنيا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أعداءه، والمكروهات. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "أذود الناس لأهل اليمن"؛ يعني: السابقين من أهل اليمن الذين نصره الله بهم في حياته، وأظهر الدِّين بهم بعد وفاته، وقد تقدَّم أن المدينة من اليمن، وأنهم أحقّ بهذا الإكرام من غيرهم؛ لِمَا ثبت لهم من سابق النُّصرة، والأثرة؛ ولذلك قال للأنصار:"اصبروا حتى تلقوني على الحوض"، متّفقٌ عليه.
ومعنى "أذود": أدفع؛ فكأنه يُطَرِّق لهم مبالغةً في إكرامهم، حتى يكونوا أوَّل شارب، كما يَفعل بفقراء المهاجرين؛ إذ ينطلق بهم إلى الجنة، فيُدخلهم الجنة قبل الناس كلهم؛ كما قد ثبت في الأحاديث، ولا يُظَنّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يلازم المقام عند الحوض دائمًا، بل يكون عند الحوض تارةً، وعند الميزان أخرى، وعند الصراط أخرى، كما قد صحَّ عنه: أن أنسًا رضي الله عنه قال: أين أجدك يا رسول الله يوم القيامة؟ قال: "عند الحوض، فإنْ لم تجدني، فعند الميزان، فإنْ لم تجدني، فعند الصراط، فإني لا أخطئ هذه المواطن
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 62.
(2)
"المفهم" 6/ 96.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 62.
الثلاث"
(1)
، وكأنه صلى الله عليه وسلم لا يفارق أصحابه، ولا أمته في تلك الشدائد؛ سعيًا في تخليصهم منها، وشفقة عليهم صلى الله عليه وسلم
(2)
، اللهم لا تَحُلْ بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم في تلك المواطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
(أَضْرِبُ بِعَصَايَ) قال القاضي عياض: وعصاه المذكورة في هذا الحديث هي الْمُكْنِيّ عنها بالْهِراوة في وَصْفه صلى الله عليه وسلم في كُتُب الأوائل بصاحب الْهِراوة، قال أهل اللغة: الْهِراوة بكسر الهاء: العصا، قال: ولم يأت لمعناها في صفته صلى الله عليه وسلم تفسير إلا ما يظهر لي في هذا الحديث. انتهى. هذا كلام القاضي.
وتعقّبه النوويّ، فقال: وهذا الذي قاله في تفسير الْهِراوة بهذه العصا بعيد، أو باطلٌ؛ لأن المراد بوصفه بالهراوة: تعريفه بصفة يراها الناس معه، يستدلون بها على صِدْقه، وأنه المبشَّر به المذكور في الكتب السالفة، فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الآخرة، والصواب في تفسير صاحب الهراوة ما قاله الأئمة المحققون: إنه صلى الله عليه وسلم كان يُمسك القضيب بيده كثيرًا، وقيل: لأنه كان يمشي، والعصا بين يديه، وتغرز له، فيصلي إليها، وهذا مشهور في الصحيح، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(حَتَّى يَرْفَضَّ عَلَيْهِمْ")؛ أي: يسيل عليهم، ومنه حديث البراق:"استَصْعَب حتى ارْفَضّ عَرَقًا"؛ أي: سال عرقه، قال أهل اللغة والغريب: وأصله من الدمع، يقال: ارفَضّ الدمعُ: إذا سال متفرقًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يرفضَّ" بالمثناة من تحتُ؛ أي: يضرب من أراد من الناس الشرب من الحوض قَبْل أهل اليمن، ويدفعهم عنه حتى يَصِل أهل اليمن، فيرفضُّ الحوض عليهم؛ أي: يسيل، يقال: ارفضَّ الدمع: إذا سال. انتهى
(4)
.
(فَسُئِلَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْ عَرْضِهِ)؛ أي: سعة عرض الحوض، والسائل لم يُعرف، ويَحْتَمِل أن يكون هو يزيدَ بن الأخنس، فقد أخرج ابن حبّان في "صحيحه"،
(1)
رواه الترمذيّ (2433)، وقال: حسنٌ غريب، وصححه الشيخ الألبانيّ.
(2)
"المفهم" 6/ 96 - 97.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 62.
(4)
"المفهم" 6/ 97.
عن أبي أمامة الباهليّ، أن يزيد بن الأخنس السُّلَميّ قال: "يا رسول الله ما سعة حوضك؟ قال: كما بين عدن إلى عمان، وأن فيه مَثْعَبين
(1)
من ذهب وفضة، قال: فما حوضك يا نبي الله؟ قال: أشدّ بياضًا من اللبن، وأحلى مَذَاقةً من العسل، وأطيب رائحةً من المسك، من شرب منه لم يظمأ أبدًا، ولم يَسْوَدّ وجهه أبدًا". انتهى.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مِنْ مَقَامِي) بفتح الميم اسم مكان من قام الثلاثيّ، ويَحتمل أن يكون بضمّ الميم، من أقام الرباعيّ، ولا يتعيّن الأول كما ادّعاه بعض الشرّاح، فتنبّه؛ أي: المكان الذي قام به صلى الله عليه وسلم في المدينة. (إِلَى عَمَّانَ") بفتح العين، وتشديد الميم، (وَسُئِلَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْ شَرَابِهِ)؛ أي: عن صفة شراب الحوض، ولم يُعرف السائل، ويَحْتَمِل أن يكون هو يزيدَ بن الأخنس، كما تقدَّم آنفًا. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ)"يَغُثُّ"-بفتح الياء، وبغين معجمة مضمومة، ومكسورة، ثم مثناة فوقُ مشدّدة- وهكذا قال ثابت، والخطابيّ، والهرويّ، وصاحب "التحرير"، والجمهور، قال النوويّ: وكذا هو في معظم نُسخ بلادنا، ونقله القاضي عن الأكثرين، قال الهرويّ: ومعناه: يَدْفُقان
(2)
فيه الماء دَفْقًا متتابعًا شديدًا، قالوا: وأصله من إتْباع الشيءِ الشيءِ، وقيل: يَصُبّان فيه دائمًا صبًّا شديدًا، ووقع في بعض النسخ:"يَعُبّ"-بضم العين المهملة، وبباء موحّدة- وحكاها القاضي عن رواية العذريّ، قال: وكذا ذَكَره الحربيّ، وفسّره بمعنى ما سبق؛ أي: لا ينقطع جريانهما، قال: والعَبّ الشُّرْب بسرعة في نَفَس واحد، قال القاضي: ووقع في رواية ابن ماهان: "يَثْعُبُ" بمثلثة، وعَيْن مهملة؛ أي: يتفجر. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "يَغُتّ" هذه هي الرواية المشهورة، ومعناه: الصبُّ المتوالي، المتتابع، وأصله: إتباع الشيء الشيء؛ يعني: أنه يصب دائمًا متتابعًا صبًا شديدًا سريعًا، وقد رواه العذري:"يَعُبُّ" بالعين المهملة، وبالموحّدة،
(1)
مسيل الوادي.
(2)
من باب قتل.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 63.
وكذا ذكره الحربيّ، وفسَّره بالعَبّ، وهو شُرب الماء جرعة بعد جرعة، ورواه ابن ماهان:"يثعب" بثاء مثلثة قبل العين المهملة، ومعناه: يتفجَّر ويسيل، ومنه: وجُرْحه يَثْعُب دمًا. انتهى
(1)
.
(يَمُدَّانِهِ) -بفتح الياء، وضم الميم -؛ أي: يزيدانه، ويُكَثِّرانه، وقال القرطبيّ رحمه الله: فصيحه: يَمُدّانه بفتح الياء، وضمّ الميم، ثلاثيًّا من مدَّ النهر، ومدَّه نهرٌ آخر، فأمَّا الرباعي فقولهم: أمددت الجيش بمدد، وقد جاء الرباعي في الأول، ومعناه فيهما: الزيادة على الأول. انتهى
(2)
.
(مِنَ الْجَنَّةِ)؛ أي: من نهر الجَنَّة المسمّى بالكوثر، كما جاء في رواية أخرى. (أَحَدُهُمَا)؛ أي: أحد الميزابين (مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ") بفتح الواو، وكسر الراء؛ أي: فضّة، قال أبو حاتم بن حبّان رحمه الله بعد إخراجه حديث أبي برزة رضي الله عنه، وفيه:"وأن فيه مثعبين من ذهب وفضّة" ما نصّه: في هذا الخبر مَثْعَبان من ذهب وفضة، وفي خبر ثوبان الذي ذَكَرْنا ميزابان: أحدهما دُرّ، والآخر ذهب، وليس بينهما تضادّ؛ لأن أحد المثعبين يكون من ذهب، والآخر من فضة، قد رُكِّب عليه الدُّرّ، حتى لا يكون بينهما تضادٌّ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5973 و 5974 و 5975](2301)، و (التِّرمذيّ) في "صفة القيامة"(2444)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4303)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(995)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2085)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 275 - 276 و 280 و 281 و 282 و 283)، و (هنّاد) في "الزهد"(137)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنُّة"(708 و 709)، و (الطبرانيّ)
(1)
"المفهم" 6/ 97.
(2)
"المفهم" 6/ 98.
(3)
"صحيح ابن حبان" 14/ 370.
في "الكبير"(1437)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6455 و 6456)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 352 - 353)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1075)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 184)، و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(131 و 132 و 133)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3342)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5974]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، بِإِسنَادِ هِشَام، بِمِثْلِ حَدِيثِه، غَيْرَ أنهُ قَالَ: "أَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ عُقْرِ الْحَوْضِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب -بمعجمة، ثم تحتانية - أبو عليّ البغداديّ، قاضي الْمَوصِلِ وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.
2 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقة، صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى "نحوة" بَطْن من الأزد، لا إلى علم النحو [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة هذه ساقها الحسن بن موسى الأشيب في "جزئه"، فقال:
(9)
- وحدّثنا شيبان بن عبد الرحمن النحويّ، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "أنا يوم القيامة عند عقر، أو عفر الحوض، أذود عنه الناس لأهل اليمن، والله إني لأضربهم بعصاي، حتى يرفَضّ عليهم"، قال: فقال رجل: يا رسول الله ما سعته؟ قال: "مثل ما بين المدينة إلى عَمَّان"، قال: فما شرابه؟ قال: "أشدّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، يَغُتّ، أو يعب فيه ميزابان، يَمُدّانه من الجنة، أحدهما من وَرِق، والآخر من ذهب". انتهى
(1)
.
(1)
"جزء الحسن بن موسى الأشيب" 1/ 36.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5975]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ مَعْدَانَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَ الْحَوْض، فَقُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ: هَذَا حَدِيث سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ؟ فَقَالَ: وَسَمِعْتُهُ أيضًا مِنْ شُعْبَةَ، فَقُلْتُ: انْظُرْ لي فِيه، فَنَظَرَ لي فِيه، فَحَدَّثَني بِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَمَّادِ) بن أبي زياد الشيبانيّ مولاهم البصريّ، خَتَنُ أبي عوانة، ثقةٌ، عابدٌ، من صغار [9](ت 215)(خ م خد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (حَدِيثَ الْحَوْضِ) منصوب على أنه مفعول به لـ "حدّثنا"، وهو من كلام محمد بن بشّار، والمعنى: أن يحيى بن حمّاد حدثنا حديث الحوض عن شعبة
…
إلخ.
وقوله: (فَقُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ حَمَّادٍ
…
إلخ) القائل هو محمد بن بشّار، والمعنى أنه يقول لشيخه يحيى بن حماد: هَذَا حَدِيثٌ سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ؟، فحدّثتنا به عنه، فكيف حدّثتنا به اليوم عن شعبة؟، فَأجابه قَائلًا: وَسَمِعْتُهُ أَيْضًا مِنْ شُعْبَةَ، كما سمعته من أبي عوانة. (فَـ) قال ابن بشّار:(قُلْتُ: انْظُرْ لي فِيهِ)؛ أي: تأكّد لي في كونك رويته عن شعبة أيضًا، (فَنَظَرَ لِي فِيهِ)؛ أي: فتأكّد من كونه رواه عنه، (فَحَدَّثَنِي بِهِ)؛ أي: عن شعبة مرّة أخرى، وهذا دليل على شدّة تحرّي محمد بن بشّار في أخذ الحديث عن شيخه، ولا سيّما إذا حصل عنده شكّ، فإن رواية يحيى عن أبي عوانة أوّلًا، ثم عن شعبة ثانيًا يوقع الشك في نسيانه له، فلذلك طلب منه التثبّت حتى يزول الشكّ، فزال، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5976]
(2302) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّام الْجُمَحِي، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ -يَعْنِي: ابْنَ مُسْلِم - عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لأذودَنَّ عَنْ حَوْضِي رِجَالًا، كمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإبِلِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَّامِ الْجُمَحِي) مولاهم، أبو حرب البصريّ، أخو محمد الأخباريّ
(1)
، صدوقٌ [10] (ت 231) ويقال: بعدها (م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الإيمان" 100/ 526.
2 -
(الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمِ) الْجُمَحيّ، أبو بكر البصريّ، ثقة [7](ت 167)(بخ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 100/ 526.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقة ثبت، ربما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدَّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (460) من رباعيّات الكتاب، وأنَّه مسلسل بالبصريين غير الصحابيّ، فمدنيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لأذودَنَّ) اللام هي الموطّئة لقسم محذوف، وقد جاء مصرّحًا به عند البخاريّ، ولفظه:"والذي نفسي بيده لأذودنّ رجالًا عن حوضي"، وهو بذال معجمة، ثم دال مهملة؛ أي: لأطرُدنّ، ولأمنعنّ (عَنْ حَوْضِي رِجَالًا) ليسوا من أهلها؛ إما لكونهم من أمم الأنبياء السابقين، أو لكونهم مُنعوا بسبب ارتدادهم كما سبق في الروايات الماضية.
وقال في "العمدة": قوله: "لأَذُودنّ"؛ أي: لأطردنّ، من ذاد يذود ذِيادًا؛ أي: دَفَعه، وطرده، ويروى:"فليذادن رجال"؛ أي: يُطردون، وفي "المطالع": كذا رواه أكثر الرواة عن مالك في "الموطأ"، ورواه يحيى، ومُطَرِّف، وابن نافع:"فلا يُذادنّ"، ورواه ابن وضاح على الرواية الأُولى، وكلاهما صحيح المعنى، والنافية أفصح، وأعرف، ومعناه: فلا تفعلوا فِعْلًا يوجب ذلك، كما قال:"لا أُلْفِيَنّ أحدكم على رقبته بعير"؛ أي: لا تفعلوا ما يوجب ذلك. انتهى
(2)
.
(1)
بفتح الهمزة، كما في "اللباب".
(2)
"عمدة القارئ" 12/ 210.
قال في "الفتح": والحكمة في الذوْد المذكور أنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يُرشد كل أحد إلى حوض نبيّه على ما تقدم: أن لكل نبيّ حوضًا، وأنهم يتباهون بكثرة من يتبعهم، فيكون ذلك من جملة إنصافه صلى الله عليه وسلم ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بُخْلًا عليهم بالماء، ويَحْتَمِل أنه يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض، والعلم عند الله تعالى. انتهى
(1)
.
(كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإبِلِ")؛ أي: كما تُمنع وتُطرد الإبل التي ليست لصاحب الحوض، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: كما يذود الساقي الناقة الغريبة عن إبله إذا أرادت الشرب مع إبله. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "كما تذاد الغريبة من الإبل"؛ أي: كما تُطْرَد الناقة الغريبة من الإبل عن الحوض؛ إذا أرادت الشرب مع إبله، وعادة الراعي إذا ساق الإبل إلى الحوض لتشرب أن يطرد الناقة الغريبة؛ إذا رآها بينهم
(3)
.
وفيه إباحة منع صاحب الحوض عن حوضه الإبل التي ليست له.
[تنبيه]: قال في "العمدة": اختُلف في هؤلاء الرجال، فقيل: هم المنافقون، حكاه ابن التين، وقال ابن الجوزيّ: هم المبتدعون، وقال القرطبيّ: هم الذين لا سِيمَا لهم من غير هذه الأمة، وذكر قبيصة في "صحيح البخاريّ أنهم هم المرتدّون الذين بَدّلوا، وقال ابن بطال:
[فإن قيل]: كيف يأتون غُرًّا، والمرتدّ لا غرّة له؟.
[فالجواب]: أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تأتي كل أمة فيها منافقوها"، وقد قال الله تعالى:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] فصحَّ أن المؤمنين يُحشرون، وفيهم المنافقون الذين كانوا معهم في الدنيا، حتى يضْرَب بينهم بسور، والمنافق لا غُرة له، ولا تحجيل، لكن المؤمنون سمُّوا غُرًّا بالجملة، وإن كان المنافق في خلالهم، وقال ابن الجوزيّ:
[فإن قيل]: كيف خَفِي حالهم على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد قال:"تُعْرَض عليّ أعمال أمتي"؟.
(1)
"الفتح" 15/ 180، كتاب "الرقاق" رقم (6585).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 64.
(3)
"عمدة القاري" 12/ 210 - 211.
[فالجواب]: أنه إنما تُعْرَض أعمال الموحدين، لا المنافقين، والكافرين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5976 و 5977](2302)، و (البخاريّ) في "المساقاة"(2367)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 298 و 454 و 467)، و (ابن بشكوال) في "الذيل على جزء بقيّ بن مَخْلَد"(1/ 162)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5977]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، سَمِعَ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية شعبة عن محمد بن زياد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2238)
- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا غُندر، حدّثنا شعبة، عن محمد بن زياد، سمعت أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، لأَذُودنّ رجالًا عن حوضي، كما تُذاد الغريبةُ من الإبل عن الحوض". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5978]
(2303) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، أَنَّ أنس بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْرُ
(3)
حَوْضِي كَمَا بَين أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَن، وإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبارِيقِ كعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ").
(1)
"عمدة القاري" 12/ 210 - 211.
(2)
"صحيح البخاريّ" 2/ 834.
(3)
وفي نسخة: "إنَّ قَدْر".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدَّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدَّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أنسُ بْنُ مالِكٍ) الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، تقدَّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنَّه مسلسل بالمصريين إلى يونس، والباقيان مدنيّان، وفيه أنس الخادم الشهير، وأحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وهو معمّر، مات وقد جاوز المائة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهري (أَنَّ أنسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث ابنَ شهاب، قال في "الفتح": هذا يدفع تعليل من أعلَّ الحديث بأن ابن شهاب لم يسمعه من أنس رضي الله عنه؛ لأن أبا أويس رواه عن ابن شهاب، عن أخيه عبد الله بن مسلم، عن أنس، أخرجه ابن أبي عاصم، وأخرجه التِّرمذيّ من طريق محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزهري، عن أبيه به، قال الحافظ: والذي يظهر أنه كان عند ابن شهاب عن أخيه، عن أنس، ثم سمعه عن أنس، فإن بين السياقين اختلافًا، وقد ذكر ابن أبي عاصم أسماء من رواه عن ابن شهاب، عن أنس بلا واسطة، فزادوا على عشرة. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْرُ) ووقع في بعض النسخ بلفظ: "إن قدر"، (حَوْضِي كمَا بَيْنَ أيلَةَ) -بفتح الهمزة، وسكون التحتانيّة- قال في "الفتح": هي مدينة كانت عامرةً، وهي بطرف بحر القُلْزُم، من طرف الشام، وهي الآن خراب يَمُرّ بها الحاجّ من مصر، فتكون شماليهم، ويمرّ بها الحاج من غَزّة وغيرها، فتكون أمامهم، ويجلبون إليها الميرة من الكرك، والشوبك، وغيرهما يتلقون بها الحاجّ ذهابًا وإيابًا، وإليها تُنسب الْعَقَبة المشهورة عند المصريين،
(1)
"الفتح" 15/ 177، رقم (6580).
وبينها وبين المدينة النبوية نحو الشهر بِسَيْر الأثقال، إن اقتصروا كلَّ يوم على مرحلة، وإلا فدون ذلك، وهي من مصر على أكثر من النصف من ذلك، ولم يُصِب من قال من المتقدمين: إنها على النصف مما بين مصر ومكة، بل هي دون الثُّلث، فإنها أقرب إلى مصر، ونقل عياض عن بعض أهل العلم أن أيلة شِعْب من جبل رضوى الذي في ينبع، وتُعُقّب بأنه اسم وافق اسْمًا، والمراد بأيلة في الخبر: هي المدينة الموصوفة آنفًا، وقد ثبت ذِكرها في "صحيح مسلم" في قصة غزوة تبوك، وفيه: أن صاحب أيلة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحه. وتقدم لها ذِكْر أيضًا في "كتاب الجمعة".
(وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ) إنما قَيَّد في هذه الرواية باليمن احترازًا من صنعاءَ التي بالشام، والأصل فيها صنعاء اليمن، لَمّا هاجر أهل اليمن في زمن عمر رضي الله عنه عند فتوح الشام، نزل أهل صنعاء في مكان من دمشق، فسُمّي باسم بلدهم، فعلى هذا فـ "مِنْ" في قوله في هذه الرواية:"من اليمن" إن كانت ابتدائية فيكون هذا اللفظ مرفوعًا، وإن كانت بيانية، فيكون مُدْرَجًا من قول بعض الرواة، والظاهر أنه الزهري. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الإدراج هنا مما لا دليل عليه، فالذي يظهر أنه مرفوع كلّه، ومما يؤيّد ذلك أنه وقع في "صحيح ابن حبّان" بلفظ:"كما بين أيلة إلى صنعاء اليمن" بالإضافة، فتبصّر بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الأَبارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ")، وتقدّم في حديث ابن عمر:"فيه أباريق كنجوم السماء"، وفي حديث أبي ذرّ رضي الله عنه:"لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها".
[تنبيه]: قال النوويّ في "شرحه": وقع في بعض النُّسخ: "كما" بالكاف، وفي بعضها:"لما" باللام، و "كعدد" بالكاف، وفي بعضها:"لعدد نجوم السماء" باللام، وكلاهما صحيح. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره النووي من اختلاف النُّسخ هنا لم أره لغيره، وفي تصحيحه الجميع نَظَر لا يخفى، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 15/ 177، رقم (6580).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 64.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5978](2303)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6580 و 6582)، و (التِّرمذيّ) في "صفة القيامة"(2442)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4359 و 4360)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 225)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(711 و 712 و 713)، و (البيهقيّ) في "البعث والنشور"(121)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5979]
(2304) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، حَدَّثَنَا عَفانُ بْنُ مُسْلِم الصَّفَارُ، حَدَّثنَا وُهَيْبٌ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: حَدَّثنًا أنسُ بْنُ مَالك، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ الْحَوْضَ رِجَالٌ، مِمَّنْ صَاحَبَنِي، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ، وَرُفِعُوا إِلَيَّ، اخْتُلِجُوا دُوني، فَلأقولَنَّ: أَيْ رَبِّ أُصَيْحَابِي، أصَيْحَابِي، فَلَيُقَالَنَّ لي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدَّم قبل باب.
2 -
(عَفانُ بْنُ مُسْلِم الصَّفَّارُ) البصريّ، تقدَّم أيضًا قبل باب.
3 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبتٌ، لكنَّه تغيّر قليلًا بأخَرَةٍ [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدَّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْب) الْبُنَانيّ -بموحّدة، ونونين- البصريّ، ثقةٌ [4](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنَّه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه،
فبغداديّ، ومسلسل بالتحديث والسماع، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه سبق القول
فيه في الحديث الماضي.
شرح الحديث:
عن عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْب أنه (قَالَ: حَدَّثنَا أنس بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَرِدَنَّ عَلَى الْحَوْضَ رِجالٌ، مِمَّنْ صَاحَبَني) بيان لـ "رجال"، ولفظ البخاريّ:"لَيَردنّ عليّ ناسٌ من أُصيحابيّ الحوضَ حتى إذا عرفتهم اختُلِجوا دوني". (حَتَّى إِذَا رَأَيْتُهُمْ، وَرُفِعُوا إِليَّ) ببناء الفعل للمفعول، (اخْتُلِجُوا) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: اقتُطعوا، وأُخرجوا من بين الواردين. (دُوني)؛ أي: قبل وصولهم إليّ، (فَلأقولَنَّ: أَيْ رَبِّ) "أي" حرف نداء للبعيد، ولكن هنا مستعمل للقريب؛ لأن الله عز وجل قريب ممن دعاه، كما قال عز وجل:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: 186]، و "ربّ" منادى يجوز تثليث بائه المشدّد، وقد تقدَّم أن فيه ستّ لغات، فلا تغفل. (أُصَيْحَابِي، أُصَيْحَابِي) بالتصغير مكرّرًا، ووقع في رواية عند البخاريّ في رواية الكشميهنيّ:"فأقول: أصحابي" مكبَّرًا دون تكرار، وهو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هؤلاء أصيحابي.
وقال النوويّ رحمه الله: وأمَّا قوله: "أصيحابي" فوقع في الروايات مُصغّرًا مُكرّرًا، وفي بعض النسخ:"أصحابي، أصحابي" مُكَبَّرًا مُكرّرًا، قال القاضي: هذا دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الرِّدّة، ولهذا قال فيهم:"سُحْقًا سُحْقًا"، ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة، بل يَشفع لهم، ويهتمّ لأمرهم، قال: وقيل: هؤلاء صنفان: أحدهما: عصاة مرتدون عن الاستقامة، لا عن الإسلام، وهؤلاء مُبَدّلون للأعمال الصالحة بالسيئة، والثاني: مرتدون إلى الكفر حقيقة، ناكصون على أعقابهم، واسم التبديل يشمل الصنفين. انتهى
(1)
.
(فَلَيُقَالَنَّ لِي: إِنَّكَ لَا تَدْرِي)؛ أي: لا تعلم (مَا) موصولة مفعول "تدري"(أَحْدَثُوا بَعْدَكَ") هذا يشمل الردّة عن الإسلام، والردّة عن سنّته المطهّرة، من إحداث البدع، والشركيّات، وكلّ ما هو مضادّ لشريعته صلى الله عليه وسلم.
(1)
"شرط النوويّ" 15/ 64 - 65.
وفي حديث أبي هريرة: "إنهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقرى"، وفي رواية له:"فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سُحْقًا سُحْقًا"؛ أي: بُعْدًا بُعْدًا، والتَّأكيد للمبالغة، وفي حديث أبي سعيد:"فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غَيَّر بعدي"، وزاد في رواية عطاء بن يسار: "فلا أراه يَخْلُص منهم إلا مثل همل النعم
(1)
"، ولأحمد، والطبرانيّ من حديث أبي بكرة رفعه: "ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صحبني، ورآني"، وسنده حسن، وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه، وزاد: "فقلت: يا رسول الله ادع الله أن لا يجعلني منهم، قال: لست منهم"، وسنده حسن، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5979 و 5980](2304)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6582)، و (أبو داود) في "سننه"(4747)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2/ 133)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 102)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 365)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5980]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِي بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، جَمِيعًا عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَى، وَزَادَ:"آنِيَتُهُ عَددُ النُّجُومِ").
(1)
قوله: "همل النعم" بفتح الهاء والميم، وهو ما يُترك مُهملًا، لا يُتَعَهَّد ولا يرعى حتى يضيع، ويهلك؛ أي: لا يخلص منهم من النار إلا قليل. قاله في "عمدة القاري" 23/ 142.
(2)
"الفتح" 11/ 385.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَلِي بْنُ حُجْرِ) -بضم المهملة، وسكون الجيم- ابن إياس السَّعْديّ المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقة، حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ قاضي الموصل، ثقة، [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُل) -بفاءين مضمومتين، ولامين، الأُولى ساكنة- مولى عمرو بن حُريث، صدوق، له أوهام [5](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
والباقون ذُكروا في الباب، و "ابن فُضيل" هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان.
[تنبيه]: رواية المختار بن فُلْفُل عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(37178)
- حدّثنا عليّ بن مُسْهِر، عن المختار بن فُلْفُل، عن أنس بن مالك، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر وعدني ربي، عليه خير كثير، هو حوضي، تَرِدُ عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد النجوم، فَيُخْتَلَج العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: لا تدري ما أحدث بعدك". انتهى
(1)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5981]
(2303)
(2)
- (وَحَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِي، وَهُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى -وَاللَّفْظُ لِعَاصِمِ- حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَي حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِي) ابن المنتشر الأحول التيميّ، أبو عُمر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 455.
(2)
مكرّر.
2 -
(هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن الْفُرات الأسديّ، أبو حمزة البصريّ، ثقة [10](ت 235) على الصحيح (م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الإيمان" 55/ 324.
3 -
(مُعْتمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطفيل، ثقة، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثَّمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
4 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبوالمعتمر البصريّ، نَزَل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 243) وهو ابن سبع وتسعين سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (مَا بَيْنَ نَاحِيَتَي حَوْضِي
…
إلخ) الناحية: الجانب، فاعلة بمعنى مفعولة؛ لأنك نَحَوتها؛ أي: قصدتها، قاله الفيّوميّ
(1)
.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديثين.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5982]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصمَد، حَدَّثَنَا هِشَام (ح) وَحَدَّثنَا حَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَاني، حَدَّثنَا أَبُو الْوَليدِ الطَّيَالِسِي، حَدَّثنَا أَبُو عَوَانَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غير أنهُمَا شَكَّا، فَقَالَا:"أوْ مِثْلَ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ"، وفي حَدِيثِ أبي عَوَانَةَ:"مَا بَيْنَ لَابَتَي حَوْضِي").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُون بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال البزاز، ثقة [10](ت 243) وقد ناهز الثَّمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(عَبْدُ الصمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم، التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتثقيل النون المضمومة- أبو سهل البصريّ، ثقة ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(هِشَام) بن أبي عبد الله سَنْبَر، بمهملة، ثم نون، ثم موحّدة، وزان جعفر، أبو بكر البصريّ الدَّسْتوائيّ، بفتح الدال، وسكون السين المهملتين،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 596.
وفتح المثناة، ثم مَدّ، ثقة ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِي) هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو عليّ الخلال الْحُلْوانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ حافظ، له تصانيف [11](ت 142)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
5 -
(أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِي) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227) وله أربع وتسعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 63.
6 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ
…
إلخ) ضمير التثنية لهشام الدستوائيّ، وأبي عَوَانة.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل حديث سليمان التيميّ عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.
وقوله: (مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمَّانَ) بفتح العين المهملة، وتشديد الميم: بلد بالأردنّ، وهو عاصمتها اليوم.
وقوله: (مَا بَيْنَ لابتي حَوْضِي)؛ أي: جانبيه، استعارة للجانب وسَعَته باللابة، وأصله من لابتي المدينة: وَادٍ عليه يلوب العطاش -أي: يدورون- للشرب، أفاده عياض
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: لابتا الحوض: جانباه اللذان من خارجه حيث يكون شدّة الحرّ والعطش، وأصل اللابة: الحرّة، وهي أرض أُلبست حجارةً سوداء. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(13318)
- حدّثنا عبد الوهاب، قال: أنا هشام، عن قتادة، عن أنس بن
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 365.
(2)
"المفهم" 6/ 98.
مالك، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة، أو مثل ما بين المدينة وعَمَّان"، شك هشام. انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي عوانة عن قتادة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5983]
(
…
) - (وَحَدَّثَني يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِث، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ أنسٌ: قَالَ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تُرَى فِيهِ أَبَارِيقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيب الْحَارِثيُّ) هو: يحيى بن حبيب بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزيُّ) -براء مضمومة، ثم زاي ثقيلة- أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ يَهِمُ [10](ت 231)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 27/ 4601.
3 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
4 -
(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختَلَطَ، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("تُرَى فِيهِ
…
إلخ) بالبناء للمفعول؛ أي: تُرى في الحوض.
والحديث تقدَّم البحث فيه مستوفى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5984]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِثْلَهُ، وَزَادَ: "أَو أكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ").
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 219.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدَّم الإسناد نفسه في هذا الباب قبل تسعة أحاديث.
[تنبيه]: رواية شيبان بن عبد الرحمن النحويّ عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(13521)
- حدّثنا حسن بن موسى، ثنا شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، قال: ثنا أنس بن مالك، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"يُرَى فيه أباريق الذهب والفضة، كعدد نجوم السماء، أوأكثرُ من عدد نجوم السماء". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5985]
(2305) - (حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْوَليدِ السَّكُونِي، حَدَّثَنِي أَبِي رحمه الله حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ألا إِنِّي فَرَط لَكُمْ عَلَى الْحَوْض، وَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صنْعَاءَ وَأَيْلَةَ؛ كَأَنَّ الأَبارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْوَليدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْوَليدِ السَّكُوني) أبو هَمّام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، ثقة [10](ت 243) على الصحيح (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 77/ 402.
[تنبيه]: قوله: "السَّكُونيّ" -بفتح السين المهملة، وضمّ الكاف-: نسبة إلى السَّكُون، وهو بطن من كِندة، وهو السَّكون بن أشرس بن ثور، وهو كِندة، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(أَبُوهُ) شجاع بن الوليد بن قيس السَّكُونيّ، أبو بدر الكوفيّ، صدوق، وَرع، له أوهام [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصيد والذبائح" 7/ 5023.
3 -
(زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ) الجعفيّ الكوفيّ، ثقة [7].
رَوَى عن أبي إسحاق السبيعيّ، ونعيم بن أبي هند، وسعد بن مجاهد
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 238.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 124 - 123.
الطائيّ، وسماك بن حرب، وعطية الْعَوْفيّ، ومجاهد، وثابت البنانيّ، والأسود بن سعيد، وجماعة.
وروى عنه أبو خيثمة الجعفيّ، وهشيم، وأبو بدر، ومحمد بن الْمُعَلَّى الكوفيّ، نزيل الريّ، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أبو داود: زياد بن خيثمة قَرَابة زهير ثقةٌ، وذَكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ الكوفيّ، أبو المغيرة، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّة مضطربةٌ، وقد تغيّر بأَخَرَة، فكان ربَّما تَلَقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة -بضم الجيم، بعدها نون - السُّوَائيّ -بضم المهملة، والمدّ - الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "ألَا) أداة استفتاح وتنبيه، (إِنِّي) بكسر الهمزة وجوبًا؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
(فَرَطٌ) بفتحتين؛ أي: متقدّم (لَكُمْ)؛ أي: لأجل مصلحتكم، (عَلَى الْحَوْض، وَإِنَّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صنْعَاء)؛ أي: صنعاء اليمن، كما سبق التصريح به، (وَأَيْلةَ) البلدة المعروفة بين مصر والشام، (كَأَنَّ الأَبارِيقَ فِيهِ النُّجُومُ")؛ أي: في الكثرة، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 5985 و 5986](2305)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 305)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 373)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 198) و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 455)، و (ابن أبي عاصم) في "السنَّة"(2/ 343) و "الآحاد والمثاني"(3/ 128)، و (بقيّ بن مَخْلَد) في "الحوض والكوثر"(1/ 94)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[5986]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، مَعَ غلَامِي نَافِعٍ: أَخْبِرنِي بِشَيءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَكَتَبَ إِليَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "أناَ الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسمَاعِيلَ) المدنيّ، أبو إسماعيل الحارثيّ مولاهم، أصله من الكوفة، صحيح الكتاب، صدوقٌ، يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
2 -
(المهَاجِرُ بْنُ مِسْمَارٍ) الزهري، مولى سعد المدنيّ، ثقة
(1)
[7](م ت فق) تقدم في "الإمارة" 1/ 4703.
3 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهري المدنيّ، ثقة [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقون ذُكروا في الباب.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وهو مختصر، وقد تقدَّم للمصنّف في "كتاب الإمارة" أن ساقه مطوّلًا، فقال:
[1/ 4703](1822) - (حدّثنا قتيبة بن سعيد، وأبو بكر بن أبي شيبة، قالا: حدّثنا حاتم، وهو ابن إسماعيل، عن المهاجر بن مِسمار، عن عامر بن
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": مقبول، كما مرّ بيانه في هذا الشرح، فتنبّه.
سعد بن أبي وقاص، قال: كتبت إلى جابر بن سمرة مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة، عشيةَ رُجِمَ الأسلميِّ يقول:"لا يزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم من قريش، وسمعته يقول: "عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض، بيت كسرى، أو آل كسرى"، وسمعته يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين، فاحذروهم"، وسمعته يقول: "إذا أَعطى الله أحدَكم خيرًا، فليبدأ بنفسه، وأهل بيته"، وسمعته يقول: "أنا الفَرَط على الحوض". انتهى.
وقد استوفيت شرحه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(10) -) بَابُ إِكْرَامِ الله عز وجل نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم بِقِتَالِ المَلَائِكَةِ مَعَهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5987]
(2306) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ سَعْدِ بِنِ إِبْرَاهِيمَ، عَن أَبِيه، عَن سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَن شِمَالِهِ يَومَ أُحُدٍ رَجُلَيْن، عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ -يَعْني: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، عليهما السلام).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، وُلِّي قضاء المدينة، وكان ثقةً، فاضلًا، عابدًا [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: له رؤية، وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة [2](ت 5 أو 96)(خ م د س ق) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 13/ 4559.
3 -
(سَعْدُ) بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن
كلاب الزهري، أبو إسحاق، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة خمس وخمسين، على المشهور (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و "أبوأُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة، و "مِسعر" هو: ابن كِدَام.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: سعد عن إبراهيم، وفيه أن صحابيّه رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول مَن رَمَى بسهم في سبيل الله، وهو آخر العشرة وفاةً، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ) بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ شِمَالِهِ يَوْمَ أُحُدٍ) -بضمّتين- أي: يوم غزوة أُحُد، وكانت الوقعة في أوائل شوّال سنة ثلاث من الهجرة. (رَجُلَيْن، عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ) بالرفع صفة لـ "ثيابٌ"، على حذف مضاف؛ أي: ذات بياض، وهذا الضبط هو الذي في النسخة الهنديّة بضبط القلم حيث رفعهما جميعًا، ووقع في غيرها:"ثيابُ بياضٍ" بالإضافة بضبط القلم أيضًا، فيكون من إضافة الصفة إلى الموصوف، على حذف مضاف أيضًا؛ أي: ذات بياض، ووقع في شرح الأبيّ بلفظ:"ثيابٌ بِيضٌ"، وهو الواقع في الرواية التالية، فيكون بكسر الموحّدة جَمْع أبيض، وهو صفة أيضًا، والله تعالى أعلم.
قال سعد رضي الله عنه: (مَا) نافية، (رَأَيْتُهُمَا)؛ أي: الرجلين المذكورين (قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ) ببنائهما على الضمّ؛ لِقَطْعهما عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: قبل ذلك اليوم، ولا بعده، وفي رواية الطيالسيّ عن إبراهيم بن سعد:"لم أرهما قبل ذلك اليوم، ولا بعده". انتهى
(1)
.
وقوله: (يَعْنِي: جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عليهما السلام) العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟، أراد بذلك تفسير الرجلين بأنهما هما الملَكان
(1)
"الفتح" 9/ 130، كتاب "المغازي" رقم (4054).
المشهوران: جبريل، وميكائيل عليهم السلام. قال في "الفتح": ولم يُصب من زعم أن أحدهما إسرافيل. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 5987 و 5988](2306)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4054) و "اللباس"(5826)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 89)، و (الدورقيّ) في "مسند سعد"(77)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 171 و 177)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1410)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6987)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 185)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(3/ 255)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما أكرم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بإنزال الملائكة تقاتل معه، وتدافع عنه.
2 -
(ومنها): بيان أن الملائكة تقاتل مع المسلمين؛ إكرامًا لهم، وتكثيرًا لجيوشهم، وتقويةً لقلوبهم، وإرعابًا لقلوب أعدائهم.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان أن قتالهم لم يختصّ بيوم بدر، وهذا هو الصواب، خلافًا لمن زعم الاختصاص به، فهذا صريح في الردّ عليه، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
4 -
(ومنها): أن فيه فضيلةَ الثياب البيض، وأنها لباس الملائكة الذين نَصَروا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يلبس البياض، ويَحُضّ على لباسه، ويأمر بتكفين الأموات فيه، فقد أخرج أصحاب "السنن"، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْبَسُوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير
(1)
"الفتح" 13/ 298، رقم (5826)
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 66.
ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم"، قال التِّرمذيّ: حسن صحيح، وصححه أيضًا ابن جان، والحاكم.
5 -
(ومنها): بيان أن الملائكة تتشكّل بصورة بني آدم، وتُرى حقيقةً بخلاف صورتها الأصليّة.
6 -
(ومنها): أن رؤية الملائكة لا تختمر بالأنبياء، بل يراهم الصحابة، والأولياء.
7 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حيث رأى الملَكين، قال القرطبيّ رحمه الله: رؤية سعد رضي الله عنه لهذين الملكين في ذلك اليوم كرامة من الله تعالى، خصَّه بها، كما قد خصَّ عمران بن حصين رضي الله عنهما بتسليم الملائكة عليه، وأُسيد بن حُضير برؤية الملائكة الذين تنزّلوا لقراءة القرآن، وقتال الملائكة للكفار يوم بدر، ويوم أُحد لم يَخرُج عن عادة القتال المعتاد بين الناس، ولو أَذِن الله تعالى لملَك من أولئك الملائكة بأن يَصيح صيحة واحدة في عسكر العدوّ لهلكوا في لحظة واحدة، أو لخسف بهم موضعهم، أوأسقط عليهم قطعة من الجبل المطلّ عليهم، لكن لو كان ذلك لصار الخبر عيانًا، والإيمان بالغيب مشاهدة، فيبطل سرّ التكليف، فلا يتوجَّه لوم، ولا تعنيف، كما قد صرَّح الله تعالى بذلك قولًا وذكرًا؛ إذ قال:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَو كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5988]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوَارِث، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثنا سَعْدٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَنْ يَسَارِهِ رَجُلَيْن، عَلَيْهِمَا ثِيَابًا بِيضٌ، يُقَاتِلَانِ عَنْهُ؛ كأشَدِّ الْقِتَال، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ).
(1)
"المفهم" 6/ 101.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(ح م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوَارِثِ) بن سعيد، تقدَّم في الباب الماضي.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كَأَشَدِّ الْقِتَالِ) الكاف فيه زائدة، قاله الكرمانيّ، وتعقّبه العينيّ، فقال: بل هي للتشبيه؛ أي: كأشدّ قتال بني آدم. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى فيما قبله، ولله الحمد والمنّة.
(11) - (بَابٌ فِي شَجَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَقَدُّمِهِ لِلْحَرْبِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5989]
(2307) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا - حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاس، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاس، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاس، وَلَقَدْ فَزعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْت، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعًا، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْت، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ، عُرْي، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا"، قَالَ: "وَجَدْنَاهُ بَحْرا، أَو إِنَّهُ لَبَحْرٌ"، قَالَ: وَكَانَ فَرَسًا يُبَطَّاُ).
(1)
"عمدة القاري" 17/ 148.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِي) ابن بكر بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبت إمام [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقة مصنِّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
3 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود البصريّ، ثم البغداديّ، تقدَّم قبل باب.
4 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حُسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قبل باب.
5 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) البصريّ، تقدَّم أيضًا قبل باب.
6 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البُنَانيّ، تقدَّم قريبًا.
7 -
(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدَّم قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (461) من رباعيّات الكتاب، وأنَّ له فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، وأدائه، ثم فرّق بينهم؛ لاختلافهم في ذلك، كما بيّناه غير مرّة، وأنَّه مسلسل بالبصريين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وسعيد، فخراسانيّ، ثم مكيّ، وفيه أنس رضي الله عنه تقدَّم الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ)؛ أي: أحسنهم خَلقًا، وخُلُقًا، (وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ)؛ أي: أكثرهم بذلًا لِمَا يَقدِر عليه، (وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ)؛ أي: أكثرهم إقدامًا مع عدم الفرار، قال في "الفتح": واقتصار أنس رضي الله عنه على هذه الأوصاف الثلاث من جوامع الكلم؛ لأنها أمهات الأخلاق، فإن في كل إنسان ثلاثَ قُوًى: أحدها: الغضبية،
وكمالها الشجاعة، ثانيها: الشهوانية، وكمالها الجود، ثالثها: العقلية، وكمالها النطق بالحكمة، وقد أشار أنس رضي الله عنه إلى ذلك بقوله:"أحسن الناس"؛ لأن الحسن يَشْمَل القول والفعل، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بأحسن الناس: حسن الْخِلْقة، وهو تابع لاعتدال المزاج الذي يتبع صفاء النفس الذي منه جَوْدة القريحة التي تنشأ عنها الحكمة، قاله الكرمانيّ رحمه الله
(1)
.
(وَلَقَدْ فَزع) بكسر الزاي، يقال: فَزع منه فَزَعًا، فهو فَزع، من باب تَعِبَ: خاف، وأفزعته، وفَزّعته، ففزعَ، وفَزِعت إليه: لجأت، وهو مَفْزَعٌ؛ أي: ملجأ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
. (أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلة من الليالي، وقال في "الفتح": قوله: "ولقد فَزعَ أهلُ المدينة"؛ أي: سمعوا صوتًا في الليل، فخافوا أن يَهْجُم عليهم العدوّ. انتهى
(3)
.
وفي رواية قتادة التالية: "كان بالمدينة فَزَع، فاستعار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فرسًا لأبي طلحة، يقال له: مندوب، فركبه
…
". (فَانْطَلَقَ نَاسٌ) من الصحابة (قِبَلَ الصَّوْتِ)؛ أي: جهته، (فَتَلَقَّاهم رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية للبخاريّ: "فاستقبلهم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم"، حال كونه (رَاجِعًا) من قِبَل الصوت، (وَقَدْ سَبَقَهُمْ إلَى الصَّوْتِ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: أنه سبق الناس إلى الصوت، فاستكشف الخبر، فلم يجد ما يُخاف منه، فرجع يُسكّنهم، وقوله:(وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ) حال أيضًا، (لأبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل، زوج أم أنس رضي الله عنهم، (عُرْيٍ) بضمّ العين المهملة، وسكون الراء، يقال: فرس عُرْيٌ: لا سرج عليه، وُصف بالمصدر، ثم جُعل اسمًا، وجُمِعَ، فقيل: خيلٌ أَعْراءٌ، مثلُ قُفْلٍ وأَقْفَال، قالوا: ولا يقال: فرسٌ عُريان، كما لا يقال: رجلٌ عُرْيٌ، قاله الفيّومي رحمه الله
(4)
، وقوله:(فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ) جملة حاليّة أيضًا، وكذا قوله:(وَهُوَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "لَمْ تُرَاعُوا، لَم تُرَاعُوا")؛ أي: لا يصيبكم روعٌ مستقرّ، أو روع يضرّكم، وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: لم يصبكم رَوْعٌ، أو لا رَوْعَ عليكم
(5)
.
(1)
"الفتح" 13/ 585 - 586، كتاب "الأدب" رقم (6033).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 472.
(3)
"الفتح" 13/ 586.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 406.
(5)
"المفهم" 6/ 99.
وقال في "الفتح": هي كلمة تقال عند تسكين الرَّوع تأنيسًا، وإظهارًا للرفق بالمخاطَب. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": معناه: لا تخافوا، والعرب تتكلم بهذه الكلمة واضعةً كلمة "لم" موضع كلمة "لا". انتهى
(2)
.
وقال المباركفوريّ: قوله: "لم تراعوا" بضم التاء والعين مجهول من الرَّوْع؛ بمعنى: الفزع، والخوف؛ أي: لم تخافوا، ولم تفزعوا، وأتى بصيغة الجحد مبالغةً في النفي، وكأنه ما وقع الروع والفزع قط، وقوله:"لم تراعوا" كرره تأكيدًا، أو كلٌّ لخطاب قوم من عن يمينه ويساره. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَجَدْنَاهُ)؛ أي: هذا الفرس، (بَحْرًا)؛ أي: كالبحر في سعة الجري، وفي الرواية التالية:"وإن وجدناه لبحرًا"، قال الخطابيّ رحمه الله:"إنْ" هي النافية، واللام في "لَبَحْرًا" بمعنى:"إلّا"؛ أي: ما وجدناه إلا بحرًا، قال ابن التين: هذا مذهب الكوفيين، وعند البصريين "أن" مخففة من الثقيلة، واللّام زائدة، قال الحافظ: كذا قال، قال الأصمعيّ: يقال للفرس: بَحْرٌ إذا كان واسع الجري، أو لأن جريه لا يَنْفَد كما لا ينفد البحر، ويؤيده ما في رواية سعيد، عن قتادة:"وكان بعد ذلك لا يُجَارَى". انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: وجدنا هذا الفرس يجري جَرْيًا كثيرًا متتابعًا كالبحر، وقد تقدَّم أن أصل البحر: السَّعة، والكثرة، ويقال: فرس سَحْب، وبَحْر، وسَكْب، وسَحٌّ، وفَيْض، وغَمْر: إذا كان سريعًا، كثير الجرْي، شديد الْعَدْو. انتهى
(5)
.
وقال في "العمدة": قوله: "وجدناه بحرًا"؛ أي: وجدنا هذا الفرس واسع الجري كماء البحر؛ كأنه يَسبح في جريه، كما يسبح ماءُ البحر إذا رَكِب بعضُ أمواجه بعضًا. انتهى
(6)
.
(1)
"الفتح" 13/ 586.
(2)
"عمدة القارئ" 14/ 187.
(3)
"تحفة الأحوذيّ" 5/ 275.
(4)
"الفتح" 6/ 484، كتاب "الهبة" رقم (2627).
(5)
"المفهم" 6/ 99.
(6)
"عمدة القاري" 14/ 187.
وقوله: (أَو قال) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَبَحْر") وهذا أبلغ من الأول في وصفه بالجري القويّ
(1)
.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (وَكَانَ) ذلك الفرس (فَرَسًا يُبَطَّأ) بضمّ أوله، وتشديد الطاء المهملة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُنسب إلى البطء، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: يُعرف بالبطء، والعجز، وسُوء السَّيْر. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان فرسًا يُبَطَّأ"؛ أي: يُنسب البطء إليه، وُيعرف به، فلما ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته بركته؛ فسابق الجياد، وصار نِعْم الْعَتَاد، والرواية المشهورة:"يبطأ" بالمثناة تحتُ، والموحّدة، من البطء: ضدّ السُّرْعة، وعند الطبريّ:"ثَبِطًا"؛ أي: ثقيلًا، وهو بمعنى الأول. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 5989 و 5990 و 5991](2307)، و (البخاريّ) في "الهبة"(2627) و "الجهاد"(2857 و 2860 و 2862 و 2867 و 2908 و 2969 و 3040) و "الأدب"(6033 و 6212)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1979)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 171 و 180 و 274 و 291)، و (أبو داود) في "الأدب"(4988)، و (التِّرمذيّ) في "الجهاد"(1685)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5798)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 88 و 10/ 25 و 200)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2160)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خَلْقًا وخُلُقًا، وأجود الناس، وأشجع الناس.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 187.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 67.
(3)
"المفهم" 6/ 99 - 100.
2 -
(ومنها): بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدّة عَجَلته في الخروج إلى العدوّ قبل الناس كلهم، بحيث كَشَفَ الحالَ، ورجع قبل وصول الناس.
3 -
(ومنها): بيان عظيم بركته صلى الله عليه وسلم، ومعجزته في انقلاب الفرس سريعًا بعد أن كان يبطأ، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وجدناه بَحرًا"؛ أي: واسع الجري.
4 -
(ومنها): جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدوّ ما لم يتحقق الهلاك.
5 -
(ومنها): جواز العارية، وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك، وركوب الدابة عُريانًا؛ لاستعجال الحركة
(1)
.
6 -
(ومنها): استحباب تقلُّد السيف في العنق.
7 -
(ومنها): استحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب.
8 -
(ومنها): جواز استعمال المجاز حيث شبَّه الفرس بالبحر؛ لأن الجري منه لا ينقطع كما لا ينقطع ماء البحر، وأول من تكلم بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث ما يدلُّ على أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد جُمِع له من جَوْدة ركوب الخيل، والشجاعة، والشهامة، والانتهاض الغائيّ في الحروب، والفروسية وأهوالها، ما لم يكن عند أحد من الناس، ولذلك قال أصحابه عنه: إنه كان أشجع الناس، وأجرأ الناس في حال البأس، ولذلك قالوا: إن الشجاع منهم كان الذي يلوذ بجنابه إذا التحمت الحروب، وناهيك به؛ فإنَّه ما ولَّى قطٌّ منهزمًا، ولا تحدَّث أحد عنه قط بفرار. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5990]
(. . .) - (وَحَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَع، فَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا لأَبِي طَلْحَةَ، يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوبٌ، فَرَكِبَهُ، فَقَالَ: "مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا").
(1)
"عمدة القاري" 14/ 117.
(2)
"عمدة القاري" 14/ 117.
(3)
"المفهم" 6/ 100.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (يُقَالُ لَهُ: مَنْدُوب) قال النوويّ رحمه الله: وقع في هذا الحديث تسمية هذا الفرس مندوبًا، قال القاضي: وقد كان في أفراس النَّبيّ صلى الله عليه وسلم مندوب، فلعله صار إليه بعد أبي طلحة، قال النوويّ: ويَحْتَمِل أنَّهما فرسان اتفقا في الاسم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قيل: سُمّي مندوبًا من الندب، وهو الرهن عند السباق، وقيل: لندب كان في جسمه، وهو أثر الجرح.
وقال القرطبيّ: مندوب اسم علم لذلك الفرس، وقيل: إنه سُمِّي بذلك؛ لأنه كان يسبق، فيحوز النَّدب، وهو الخطر الذي يُجعل للسابق، وكأنه إنما حَدَث له هذا الاسم بعد أن ركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذُكِر أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرس يسمى مندوبًا، فَيَحْتَمِل أن يكون هذا الفرس انتقل من مُلك أبي طلحة إلى ملك النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إما بالهبة، وإما بالابتياع، ويَحْتَمِل أن يكون فرسًا آخر وافقه في ذلك الاسم، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5991]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ - قَالَا: حَدَّثنا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَفي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرِ: قَالَ: فَرَسًا لنَا، وَلَمْ يَقُلْ: لأَبِي طَلْحَةَ، وَفي حَدِيثِ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أنسًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا قبل باب.
وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) ضمير التثنية لمحمد بن جعفر، وخالد بن الحارث.
وقوله: (قَالَ: فَرَسًا لَنَا، وَلَمْ يَقُلْ: لأَبِي طَلْحَةَ) لا تعارض بين
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 68.
(2)
"المفهم" 6/ 100.
الروايتين؛ لأن أنسًا ربيب أبي طلحة رضي الله عنهما، فما نُسب إليه يجوز أن يُنسب إليه.
وقوله: (وَفي حَدِيثِ خَالِدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) بيّن به أن في روايته بيان قتادة سماعه من أنس رضي الله عنه؛ لأنه مدلّس، فزال به عنه تهمة التدليس.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدَّم تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(12) - (بَابٌ فِي جُودِهِ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5992]
(2308) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ- عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْر، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، إِن جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشِير التُّرْكيّ، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقةٌ [10](ت 235) وهو ابن ثمانين سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(أَبُو عِمْرَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيادٍ) الْوَرْكَانيّ الخراسانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 228)(م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
[تنبيه]: قوله: "الْوَرْكَانيّ" ضَبَطه في "التقريب" بفتحتين، لكن الذي في "اللباب" أنه بفتح الواو، وسكون الراء، وهو الذي تقتضيه عبارة "القاموس"، و "شرحه"، وهو: نسبة إلى محلّة، وقرية، فأمَّا المحلّة فهي بأصبهان معروفة،
وأما القرية فهي من قُرى قاشان: مدينة عند قُمّ، قاله في "اللباب"
(1)
.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقة فقية ثبت [3] (ت 94) وقيل: سنة ثمان، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات سنة ثمان وستين بالطائف (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقيان ذُكرا في البابين الماضيين قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بحاء التحويل، وأنَّه مسلسل بالمدنيين غير شيخيه، فبغداديّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عبيد الله بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وفيه ابن عبَّاس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر، والحبر؛ لسعة علمه، وقال عُمَر رضي الله عنه: لوأدرك ابن عباس أسناننا ما عاشَرَه منّا أحد، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ)؛ أي: أكثرهم جودًا، وسخاء، هذا هو المعلوم من خُلُقِه صلى الله عليه وسلم، فإنَّه ما سئل شيئًا فمنعه؛ إذا كان مما يصحّ بذله، وإعطاؤه.
وقال في "الفتح": قوله: "كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس" فيه احتراس بليغ؛ لئلا يُتَخَيَّل من قوله: "وأجود ما يكون في رمضان" أن الأجودية خاصة منه برمضان فيه، فأثبت له الأجودية المطلقة أوّلًا، ثم عَطَف عليها زيادة ذلك في رمضان قولَهُ:"وأجود ما يكون في رمضان".
وقوله: "أجودَ الناس" بالنصب؛ لأنه خبر "كان"، وقَدَّم ابن عباس رضي الله عنهما
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 361 - 362، و "القاموس المحيط" ص 1394.
هذه الجملة على ما بعدها، وإن كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها، ومعنى "أجود الناس": أكثر الناس جُودًا، والجود: الكرم، وهو من الصفات المحمودة، وقد أخرج التِّرمذيّ من حديث سعد رضي الله عنه، رفعه: "إن الله جَوَاد يُحب الجود
…
"، الحديث، وله من حديث أنس رضي الله عنه، رفعه: "أنا أجْود ولد آدم، وأجْودهم بعدي رجل عَلَّمَ عِلْمًا فنشر علمه، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله" وفي سنده مقال، وقد تقدَّم في الباب الماضي من حديث أنس رضي الله عنه: "كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأجود الناس. . ." الحديث.
وقال في "العمدة": قوله: "أجود الناس" هوأفعل تفضيل، من الجود، وهو العطاء؛ أي: أعطى ما ينبغي لمن ينبغي، ومعناه أنه أسخى الناس لَمّا كانت نفسه أشرف النفوس، ومزاجه أعدل الأمزجة، لا بدّ أن يكون فِعله أحسن الأفعال، وشكله أملح الأشكال، وخُلُقه أحسن الأخلاق، فلا شكّ بكونه أجود، وكيف لا، وهو مستغنٍ عن الفانيات بالباقيات الصالحات؟. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) برفع "أجود" هكذا في أكثر الروايات، و "أجود" اسم "كان"، وخبره محذوف، وهو نحو: أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة، أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر، وهو:"ما يكون"، و "ما" مصدريّة، وخبره "في رمضان"، والتقدير: أجود أكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، وإلى هذا جنح البخاريّ في تبويبه في "كتاب الصيام"؛ إذ قال:"باب أجود ما كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان".
وفي رواية الأصيليّ: "أجود" بالنصب على أنه خبر "كان".
وتُعقّب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها.
وأُجيب بجعل اسم كان ضمير النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، و "أجود" خبرها، والتقدير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدَّة كونه في رمضان أجود منه في غيره
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 75.
(2)
تعقّب العينيّ على الحافظ هذا الوجه، فقال في "عمدته" 1/ 76: هذا لا يصحّ؛ لأن كان إذا كان فيه ضمير النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يكون "أجود" خبرًا لـ "كان"؛ =
قال النوويّ: الرفع أشهر، والنصب جائز، وذكر أنه سأل ابن مالك عنه، فخَرَّج الرفع من ثلاثة أوجه، والنصب من وجهين، وذكر ابن الحاجب في "أماليه" للرفع خمسة أوجه، توارد مع ابن مالك منها في وجهين، وزاد ثلاثة، ولم يعرِّج على النصب.
قال الحافظ: ويرجِّح الرفعَ ورُودُه بدون "كان" عند البخاريّ في "الصوم". انتهى.
(إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام) يصح الكسر في "إن" على الابتداء، والفتح فيه أَولى، فيكون تعليلًا لِجُود النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان، وكان هذا الوجه أَولى، والله أعلم، قال: ولا أذكر الآن كيف قيَّدتها على من قرأتُه عليه. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "لأن جبريل كان يلقاه"، وفيه بيان سبب الأجودية المذكورة، وهي أبْيَن من الرواية الأخرى بلفظ:"وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل"، قاله في "الفتح".
[فائدة]: قال النوويّ رحمه الله في "تهذيبه": في "جبريل" تسع لغات، حكاهنّ ابن الأنباريّ، وابن الجواليقيّ: جبريل، وجبريل، بكسر الجيم، وفتحها، وجبرئل، بفتح الجيم، وهمزة مكسورة، وتشديد اللام، وجبرائل، بعدها ياء، وجبراييل، بيائين بعد الألف، وجبرئيل بهمزة بعد الراء، وياء، وجبرئل بكسر الهمزة، وتخفيف اللام، مع فتح الجيم والراء، وجَبرين، وجِبرين، بفتح الجيم، وكسرها.
قال جماعات من المفسرين، وصاحب "المحكم"، والجوهريّ، وغيرهما من أهل اللغة في جبريل وميكائيل: إن جِبْر، ومِيْك اسمان أضيفا إلى إيل،
= لأنه مضاف إلى الكون، ولا يخبر بكون عما ليس بكون، فيجب أن يُجعَل مبتدأ، وخبره:"في رمضان"، والجملة خبر "كان"، وإن استتر فيه ضمير الشأن فظاهر، فافهم. انتهى كلامه.
قال الجامع: وعندي أن ما قاله الحافظ صحيح، فتأمل التقدير الذي قدّره، فتراه صحيح المعنى، فتبصر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 102.
وإل، وقال: وإيل، وإل اسمان لله تعالى، وجبر، وميك معناه بالسريانية عبد، فتقديره عبد الله، قال أبو علي الفارسيّ: هذا الذي قالوه خطأ من وجهين: أحدهما: إن إيل، وإل لا يْعرفان في أسماء الله تعالى، والثاني: أنه لو كان كذلك لم يتصرف آخر الاسم في وجوه العربية، ولكان آخره مجرورًا أبدًا؛ كعبد الله، قال النوويّ: وهذا الذي قاله أبو عليّ هو الصواب، فإن ما زعموه باطل، لا أصل له.
(واعلم): أن جبريل يقال له: الناموس، بالنون، كما ثبت في "الصحيحين" في حديث المبعث، قال أهل اللغة: الناموس صاحب سرّ الرجل الذي يُطلعه على باطن أمره، وقيل: الناموس صاحب خبر الخير، والجاسوس صاحب خبر الشرّ.
وقد تظاهرت الدلائل على عِظَم مرتبة جبريل عليه السلام، قال الله تعالى:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} [البقرة: 97، 98]، وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} الآية [الشعراء: 193]، وقال تعالى:{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 5] المراد بشديد القوى جبريل عليه السلام، وقال تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13، 14] المراد رأى جبريل، هذا قول الجمهور، فرآه النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على صورته، له ستمائة جناح مرتين، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)} [التكوير: 19 - 24]. انتهى كلامِ النوويّ رحمه الله
(1)
.
(كَانَ يَلْقَاهُ) صلى الله عليه وسلم (فِي كُل سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ)؛ أي: في كل ليلة من ليالي رمضان، بدليل قوله:"حتى ينسلخ"، قال الزمخشريّ: رمضان مصدر رَمِض: إذا احترق من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر، وجُعل علمًا، ومُنِع من الصرف؛ للتعريف، والألف والنون، وسَمَّوه بذلك؛ لارتماضهم فيه من حَرّ الجوع،
(1)
"تهذيب الأسماء واللغات" 1/ 150 - 151.
ومقاساة شدّته
(1)
.
وقال في "الفتح": اختُلِف في تسمية هذا الشهر رمضان، فقيل: لأنه تُرْمَض فيه الذنوب؛ أي: تُحرق؛ لأن الرمضاء شدّة الحرّ، وقيل: وافق ابتداء الصوم فيه زمنًا حارًا، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(حَتَّى يَنْسَلِخَ)؛ أي: إلى أن ينتهي رمضان، وفي رواية للبخاريّ:"في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ"؛ أي: رمضانُ، قال في "الفتح": وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أُنزل عليه القرآن، ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فُرض بعد الهجرة؛ لأنه كان يُسَمَّى رمضان قبل أن يُفرض صيامه. انتهى
(3)
.
(فَيَعْرِضُ) بكسر الراء، من العرض، بفتح، فسكون، والفعل من باب ضرب؛ أي: يقرأ (عَلَيْهِ)؛ أي: على جبريل عليه السلام، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على جبريل عن ظهر قلبه، يقال: عَرَضتُ الكتابَ: إذا قرأته عن ظهر القلب، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الرواية صريحة في كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يعرض القرآن على جبريل، وقد عقد البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" ترجمة بعكسه، فقال:"باب كان جبريل يَعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم"، ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"فيدارسه القرآن"، ولا تعارُض بينها؛ إذ يُحْمَل على أن كلّا منهما كان يعرض على الآخر، فيتدارسان، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) - بفتح السين المهملة - أي: المبعوثة لنفع الناس، هذا إذا جعلنا اللام في الرِّيح للجنس، وإن جعلناها للعهد يكون المعنى: من الرِّيح المرسلة للرحمة، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} الآية [الأعراف: 57]،
(1)
"عمدة القاري" 1/ 75.
(2)
"الفتح" 5/ 228، كتاب "الصوم" رقم (1898).
(3)
"الفتح" 11/ 218، كتاب "فضائل القرآن" رقم (4997).
(4)
"المصباح المنير" 2/ 402.
وقال تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)} [المرسلات: 1]؛ أي: الرياح المرسلات للمعروف على أحد التفاسير، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": فيه استعمال أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقيّ والمجازيّ؛ لأن الجود من النَّبيّ صلى الله عليه وسلم حقيقة، ومن الريح مجاز، فكأنه استعار للريح جُودًا باعتبار مجيئها بالخير، فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة، وهي أنه لوأخّره لَظُنّ تعلّقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المرادُ من الوصف من الأجودية، إلا أنه تفوت فيه المبالغة؛ لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الرِّيح المرسلة مطلقًا. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قيل: الحكمة في كونه صلى الله عليه وسلم أجود في رمضان أن مدارسة القرآن تجدّد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة، وأيضًا فرمضان موسم الخيرات؛ لأن نِعم الله على عباده فيه زائدة على غيره، فكان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْثِر متابعة سُنَّة الله في عباده، فبمجموع ما ذُكِر من الوقت، والمنزول به، والنازل، والمذاكرة، حَصَل المزيد في الجود، والعلمُ عند الله تعالى، قاله في "الفتح"
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرِّيح المرسَلة"، قال في "الفتح": قوله: "فلرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ" الفاء سببية، واللام للابتداء، وزيدت على المبتدأ تأكيدًا، أو هي جواب قَسَم مقدَّر، والمرسلة؛ أي: المطلقة؛ يعني: أنه في الإسراع بالجود أسرع من الرِّيح، وعَبر بالمرسلة إشارةَّ إَلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده كما تعم الرِّيح المرسلة جميع ما تهبّ عليه، ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: "لا يُسأل شيئًا إلا أعطاه"، وثبتت هذه الزيادة في "الصحيح" من حديث جابر رضي الله عنه: "ما
(1)
"عمدة القاري" 1/ 75.
(2)
"الفتح" 11/ 220، كتاب "فضائل القرآن" رقم (4997).
(3)
"الفتح" 1/ 69، كتاب "بدء الوحي" رقم (6).
سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال: لا". انتهى
(1)
.
وقال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: وجه التشبيه بين أجْوَديته صلى الله عليه وسلم بالخير، وبين أجودية الريح المرسلة، أن المراد بالريح: ريح الرحمة التي يُرسلها الله تعالى لإنزال الغيث العامّ الذي يكون سببًا لإصابة الأرض الميتة، وغير الميتة؛ أي: فيعمّ خيره وبرّه مَن هو بصفة الفقر والحاجة، ومن هو بصفة الغني والكفاية، أكثر مما يعم الغيث الناشئ عن الرِّيح المرسلة صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 5992 و 5993](2308)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(6) و "الصوم"(1902) و "بدء الخلق"(3220) و "المناقب"(3554) و "فضائل القرآن"(4997) و (التِّرمذيّ) في "الشمائل"(346)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 125) و "الكبرى"(2405)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 230 و 288 و 326 و 363 و 366 و 373)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1889)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3440 و 6370)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 700)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 305) و "شُعب الإيمان"(2/ 413)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على الجود في كل وقت، ومنها الزيادة في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح.
2 -
(ومنها): استحباب زيارة الصلحاء، وأهل الخير، وتكرار ذلك، إذا كان المزور لا يكرهه.
(1)
"الفتح" 1/ 69، كتاب "بدء الوحي" رقم (6).
(2)
"الفتح" 5/ 233، كتاب "الصوم" رقم (1902).
3 -
(ومنها): استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار؛ إذ لو كان الذكر أفضل، أو مساويًا لَفَعله النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وجبريل صلى الله عليه وسلم.
[فإن قيل]: المقصود تجويد الحفظ.
[قلنا]: الحفظ كان حاصلًا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس.
4 -
(ومنها): استحباب مدارسة القرآن، وغيره من العلوم الشرعية في رمضان.
5 -
(ومنها): بيان أنه يجوز أن يقال: رمضان من غير إضافة، وقد اختلف العلماء في ذلك، وقد مال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى جواز الأمرين، حيث قال:"باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان؟ ومن رأى كلّه واسعًا، وقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان"، وقال: "لا تَقَدَّموا رمضان". انتهى.
قال في "الفتح": أشار البخاريّ بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف، رواه أبو معشر نَجِيح المدني، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله، ولكن قولوا: شهر رمضان"، أخرجه ابن عبديّ في "الكامل"، وضعّفه بأبي معشر، قال البيهقيّ: قد رُوي عن أبي معشر، عن محمد بن كعب، وهو أشبه، وروي عن مجاهد، والحسن من طريقين ضعيفين، وقد احتجّ البخاري لجواز ذلك بعدة أحاديث. انتهى.
وقد ترجم النسائيّ لذلك أيضًا، فقال:"باب الرخصة في أن يقال لشهر رمضان: رمضان"، ثم أورد حديث أبي بكرة مرفوعًا:"لا يقولنّ أحدكم: صُمْت رمضان، ولا قُمْته كله"، وحديث ابن عباس:"عمرة في رمضان تعدل حجة".
وقد يُتَمَسّك للتقييد بالشهر بورود القرآن به حيث قال: {شَهْرُ رَمَضَانَ} مع احتمال أن يكون حَذْف لفظ شهر من الأحاديث من تصرّف الرواة، وكأن هذا هو السر في عدم جزم البخاريّ بالحكم.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الحافظ، وهذا عجيب منه، كيف يقال: إنه من تصرّف الرواة مع كثرة ورود الأحاديث الصحيحة في استعمال
لفظ رمضان؟ فما أخطر هذا المسلك، وأبعده عن الصواب، ولا يخفى مَيْل البخاريّ إلى جوازه لمن تأمل في هذه الترجمة، والأحاديث التي أوردها فيها، فتبصّر بالإمعان، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الموفّق للصواب.
قال: ونُقل من أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقلاني منهم، وكثير من الشافعية: إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يُكره، والجمهور على الجواز. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: رَمَضَانُ: اسم للشهر، قيل: سُمّي بذلك؛ لأن وضعه وافق الرَمَضَ، وهو شدة الحرّ، وجَمْعه رَمَضَانَات، وأَرْمِضَاءُ، وعن يونس أنه سمع رَمَاضِينُ، مثلُ شَعَابين، قال بعض العلماء: يُكْرَه أن يقال: جاء رَمَضَانُ، وشِبْهه، إذا أريد به الشهر، وليس معه قرينة تدلّ عليه، وإنما يقال: جاء شَهْرُ رَمَضَانَ، واستَدَلّ بحديث:"لا تَقُولُوا: رَمَضَانَ، فَإِنَّ رَمَضَانَ اسْم مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَلَكنْ قُولُوا: شَهْرُ رَمَضَانَ"، وهذا الحديث ضَعّفه البيهقيّ، وضُعْفُه ظاهر؛ لأنه لم يُنقل من أحد من العلماء أن رَمَضَانَ من أسماء الله تعالى، فلا يُعمل به، والظاهر جوازه من غير كراهة، كما ذهب إليه البخاريّ، وجماعة من المحقّقين؛ لأنه لم يصحّ في الكراهة شيء، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدلّ على الجواز مطلقًا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ"، متّفقٌ عليه، وقال القاضي عياض: وفي قوله: "إذا جاء رمضان" دليل على جواز استعماله من غير لفظ شهر، خلافًا لمن كرهه من العلماء. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان؛ لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان، كما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي تُوفِّي فيه عارضه به مرتين، كما ثبت في "الصحيح" عن فاطمة رضي الله عنها، والله أعلم بالصواب.
(1)
"الفتح" 5/ 228، كتاب "الصوم" رقم (1898).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 239.
7 -
(ومنها): أن في قوله: "أجود بالخير من الرِّيح المرسلة" جوازَ المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنويّ بالمحسوس؛ ليقرب لِفَهْم سامعه، وذلك أنه أثْبَتَ له أوّلًا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك، فشبّه جُوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها؛ لأن الرِّيح قد تسكن.
8 -
(ومنها): أن فيه الاحتراسَ؛ لأن الرِّيح منها العقيم الضارة، ومنها المبشرة بالخير، فوصفها بالمرسلة لِيُعَيِّن الثانية، وأشار إلى قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الفرقان: 48]، ونحو ذلك، فالريح المرسلة تستمرّ مدة إرسالها، وكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم في رمضان ديمة، لا ينقطع.
9 -
(ومنها): بيان تعظيم شهر رمضان؛ لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه، وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى.
10 -
(ومنها): أنه يستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة.
11 -
(ومنها): أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير.
12 -
(ومنها): استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم، وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك؛ لزيادة التذكرة والاتعاظ.
13 -
(ومنها): أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم؛ لأن الليل مظنة ذلك؛ لِمَا في النهار من الشواغل، والعوارض الدنيوية والدينية، ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم كان يَقْسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء، فيقرأ كلَّ ليلة جزءًا في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك، مِنْ تَهَجُّد بالصلاة، ومِن راحة بَدَن، ومِن تَعاهُد أهل، ولعلّه كان يعيد ذلك الجزء مرارًا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها، ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة، وفي السنة الأخيرة عَرَضه مرتين، لجاز أنه كان يَعرض جميع ما نزل عليه كلّ ليلة، ثم يعيده في بقية الليالي.
وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند، قال: قلت للشعبيّ: قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، أما كان ينزل عليه في سائر السنة؛ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض مع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله، فيُحْكِم الله ما يشاء، ويُثْبت ما يشاء.
قال الحافظ: ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ.
وتؤيده أيضًا الرواية بلفظ: "فيدارسه القرآن"، فإن ظاهرها أن كلًّا منهما كان يقرأ على الآخر، وهي موافقة لقوله:"يعارضه"، فيستدعي ذلك زمانًا زائدًا على ما لو قرأ الواحد، ولا يعارض ذلك قوله تعالى:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)} [الأعلى: 6]، إذا قلنا: إن "لا" نافية، كما هو المشهور، وقول الأكثر؛ لأن المعنى: أنه إذا أقرأه فلا ينسى ما أقرأه، ومن جملة الإقراء مدارسة جبريل، أو المراد: أن المنفي بقوله: {فَلَا تَنْسَى} النسيان الذي لا ذِكر بعده، لا النسيان الذي يعقبه الذِّكر في الحال، حتى لو قُدِّر أنه نسي شيئًا، فإنه يُذَكِّره إياه في الحال. انتهى
(1)
.
14 -
(ومنها): ما ذكره العينيّ رحمه الله على طريقة الأسئلة والأجوبة، فقال:[منها]: ما قيل: إن ههنا أربع جُمَل، فما الجهة الجامعة بينها؟ وأجيب بأن المناسبة بين الجمل الثلاث، وهي قوله: "كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، وفَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ" ظاهرة؛ لأنه أشار بالجملة الأوُلى إلى أنه صلى الله عليه وسلم أجود الناس مطلقًا، وأشار بالثانية إلى أن جُوده في رمضان يُفَضَّل على جوده في سائر أوقاته، وأشار بالثالثة إلى أن جوده في عموم النفع والإسراع فيه كالريح المرسلة، وشبَّه عمومه وسرعة وصوله إلى الناس بالريح المنتشرة، وشتان ما بين الأمرين، فإن أحدهما يُحيي القلب بعد موته، والآخر يحيى الأرض بعد موتها.
وأما المناسبة بين الجملة الرابعة، وهي قوله:"وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن"، وبين الجملة الباقية، فهي أن جوده صلى الله عليه وسلم الذي في
(1)
"الفتح" 11/ 220 - 221.
رمضان الذي فُضل على جوده في غيره إنما كان بأمرين: أحدهما: بكونه في رمضان، والآخر بملاقاته جبريل عليه السلام، ومدارسته معه القرآن، ولمَّا كان ابن عباس رضي الله عنهما في صدد بيان أقسام جوده صلى الله عليه وسلم على سبيل تفضيل بعضه على بعض، أشار فيه إلى بيان السبب الموجب لأعلى جوده، وهو كونه في رمضان، وملاقاته جبريل.
[فإن قلت]: ما وجه كون هذين الأمرين سببًا موجبًا لأعلى جوده صلى الله عليه وسلم؟.
[قلت]: أما رمضان فإنه شهر عظيم، وفيه الصوم، وفيه ليلة القدر، وهو من أشرف العبادات، فلذلك قال الله عز وجل:"الصوم لي، وأنا أجزي به"، فلا جَرَم يتضاعف ثواب الصدقة، والخير فيه، وكذلك العبادات، وعن هذا قال الزهري: تسبيحة في رمضان خير من سبعين في غيره، وقد جاء في الحديث:"إن الله تعالى يُعتق فيه كلَّ ليلة ألف ألف عتيق من النار"
(1)
، وأما ملاقاة جبريل عليه السلام فإن فيها زيادة ترقّيه في المقامات وزيادة اطلاعه على علوم الله - سبحانه وتعالي -، ولا سيما عند مدارسته القرآن معه، مع نزوله إليه في كل ليلة، ولم ينزل إلى غيره من الأنبياء -عليهم الصلاة، والسلام- ما نزل إليه صلى الله عليه وسلم.
[ومنها]: ما قيل: ما الحكمة في مدارسته القرآن في رمضان؟.
[وأجيب]: بأنها كانت لتجديد العهد واليقين، وقال الكرمانيّ: وفائدة دَرْس جبريل عليه السلام: تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم بتجويد لفظه، وتصحيح إخراج الحروف من مخارجها، وليكون سُنَّةً في هذه الأمة؛ كتجويد التلامذة على الشيوخ قراءتهم، وأما تخصيصه رمضان، فلكونه موسم الخيرات؛ لأن نِعَم الله تعالى على عباده فيه زائدة على غيره.
[ومنها]: ما قيل: المفهوم منه أن جبريل عليه السلام كان ينزل على النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من رمضان، وهذا يعارضه ما روي في "صحيح مسلم":"في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ"، وأجيب بأن المحفوظ في مسلم أيضًا مِثْل ما في البخاريّ، ولئن سلّمنا صحة الرواية المذكورة، فلا تعارُض؛ لأن معناه بمعنى
(1)
هذا موضوع، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشَّيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 470.
الأول؛ لأن قوله: "حتى ينسلخ" بمعنى كل ليلة. انتهى
(1)
.
15 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه، وعلى معظمه؛ لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير، فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر إلى أن مات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، فإنها نزلت يوم عرفة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بها بالاتفاق، وكأن الذي نزل في تلك الأيام لمّا كان قليلًا بالنسبة لِمَا تقدم اغتُفِر أمر معارضته، فيستفاد من ذلك أن القرآن يُطلق على البعض مجازًا، ومن ثَمّ لا يحنث من حلف لَيَقْرَأنَّ القرآن، فقرأ بعضه، إلا إن قَصَد الجميع. انتهى
(2)
.
[فائدة]: قال في "الفتح": اختُلِف في العرضة الأخيرة، هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها، أو بحرف واحد منها؟ وعلى الثاني: فهل هو الحرف الذي جَمَع عليه عثمان جميع الناس، أو غيره؟
وقد رَوَى أحمد، وابن أبي داود، والطبريّ من طريق عَبيدة بن عَمْرو السَّلْمانيّ أن الذي جَمَع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة.
ومن طريق محمد بن سيرين، قال: "كان جبريل يعارض النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
…
" الحديث نحو حديث ابن عباس، وزاد في آخره: "فيَرَون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدًا بالعرضة الأخيرة".
وعند الحاكم نحوه من حديث سَمُرة، وإسناده حسن، وقد صححه هو، ولفظه:"عُرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَضات، ويقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة".
ومن طريق مجاهد، عن ابن عباس قال: "أي القراءتين تَرَوْن كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد بن ثابت، فقال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَعْرض القرآن كلَّ سنة على جبريل، فلما كان في السنة التي قُبض فيها عَرَضه عليه
(1)
"عمدة القاري" 1/ 76.
(2)
"الفتح" 11/ 219.
مرتين، وكانت قراءة ابن مسعود آخرهما"، وهذا يغاير حديث سمرة، ومَن وافقه.
وعند مسدد في "مسنده" من طريق إبراهيم النخعيّ أن ابن عباس سمع رجلًا يقول: الحرف الأول، فقال: ما الحرف الأول؟ قال: إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلّمًا، فأخذوا بقراءته، فغيَّر عثمان القراءة، فهم يَدْعُون قراءة ابن مسعود الحرف الأول، فقال ابن عباس: إنه لآخر حرف عَرَض به النَّبيّ صلى الله عليه وسلم على جبريل.
وأخرج النسائيّ من طريق أبي ظبيان، قال: "قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأُولى قراءة ابن أم عبد - يعني: عبد الله بن مسعود - قال: بل هي الأخيرة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل
…
" الحديث، وفي آخره: "فحضر ذلك ابن مسعود، فعَلِم ما نُسِخ من ذلك، وما بُدِّل"، وإسناده صحيح.
قال الحافظ: ويُمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين، فيصح إطلاق الآخِرية على كل منهما. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5993]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبِ) محمد بن العلاء، تقدَّم قبل باب.
2 -
(ابْنُ مُبَارَكٍ) هو: عبد الله بن المبارك المروزيّ، مولى بني حنظلة، ثقة ثبت فقية عالمٌ جوادٌ مجاهد، جُمِعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
(1)
"الفتح" 11/ 219.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدَّم قبل باب.
4 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدَّم أيضًا قبل باب.
5 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدَّم قريبًا.
6 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدَّم أيضًا قريبًا.
و"الزّهريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية يونس، ومعمر، كلاهما عن الزهري ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6)
- حدّثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري (ح) وحدّثنا بِشْر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، ومعمر، عن الزهري نحوَهُ قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الرِّيح المرسلة". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(13) - (بابٌ فِي حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم
-)
[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب حُسْن الْخُلُق، والسخاء، وما يُكره من البخل"، فقال في "الفتح": جَمَع في هذه الترجمة بين هذه الأمور الثلاثة؛ لأن السخاء من جملة محاسن الأخلاق، بل هو من أعظمها، والبخل ضدّه.
فأمَّا حُسْن الخُلُق، فقال الراغب: هو عبارة عن كل مرغوب فيه، إما من جهة العقل، وإما من جهة العِرْض، وإما من جهة الحس، وأكثر ما يقال في عرف العامة فيما يُدْرَك بالبصر، وأكثر ما جاء في الشرع فيما يُدْرَك بالبصيرة. انتهى ملخصًا.
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 6.
وأما الخُلُق فهو بضم الخاء واللام، ويجوز سكونها، قال الراغب: الْخَلْق، والْخُلُق؛ يعني: بالفتح، وبالضم، في الأصل بمعنى واحد؛ كالشَّرْب، والشُّرْب، لكن خُصّ الْخَلْق الذي بالفتح بالهيئات، والصور المدرَكة بالبصر، وخُصَّ الْخُلُق الذي بالضم بالقُوَى والسَّجَايا المدرَكة بالبصيرة. انتهى.
وقد كان النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم كما حَسَّنت خَلْقي فحَسِّن خُلُقي"، أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان، وفي حديث عليّ رضي الله عنه الطويل في دعاء الافتتاح عند مسلم:"واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت".
وقال القرطبيّ في "المفهم": الأخلاق أوصاف الإنسان التي يُعَامِل بها غيره، وهي محمودة، ومذمومة، فالمحمودة على الإجمال: أن تكون مع غيرك على نفسك، فتُنْصِف منها، ولا تُنْصِف لها، وعلى التفصيل: العفو، والحلم، والجود، والصبر، وتحمل الأذى، والرحمة، والشفقة، وقضاء الحوائج، والتوادُّ، وَليْن الجانب، ونحو ذلك، والمذموم منها ضدّ ذلك.
وأما السخاء فهو بمعنى: الْجُود، وهو بَذْل ما يُقتَنَى بغير عِوَض، وعَطْفه على حسن الخلق من عَطْف الخاصّ على العامّ، وإنما أفرد للتنويه به.
وأما البخل فهو ضدّه، وليس من صفات الأنبياء، ولا أجلّة الفضلاء، وقيل: البخل مَنْع ما يُطلب مما يُقتنى، وشَرُّه ما كان طالبه مستحقّاً، ولا سيما إن كان من غير مال المسؤول.
وأشار بقوله: "وما يُكره من البخل" إلى أن بعض ما يجوز إطلاق اسم البخل عليه قد لا يكون مذمومًا. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5994]
(2309) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانيِّ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟، وَهَلَّا
(1)
"الفتح" 13/ 584 - 585، كتاب "الأدب" رقم (6033)، و "عمدة القاري" 22/ 118.
فَعَلْتَ كَذَا؟، زَادَ أَبُو الرَّبِيعِ: لِشَيءٍ لَيْسَ مِمَّا يَصْنَعُهُ الْخَادِمُ
(1)
، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ: وَاللهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدَّم الإسناد نفسه قبل باب، و "أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ العتكيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (462) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَدَمْتُ) بفتح الدال، يقال: خَدَمَه يخْدِمه، ويَخْدُمُهُ، من بابَي ضرب، ونصر خِدْمَةً بالكسر، ويُفتح، قاله المجد رحمه الله
(2)
. (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشْرَ سِنِينَ) وكذا هو في رواية للبخاريّ، ومثله عند أحمد وغيره، عن ثابت، عن أنس، وكذا هو في معظم الروايات، وفي الرواية الآتية عند مسلم في الباب من رواية سعيد بن أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَنَس، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ، وكذا من رواية إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه، وأجاب في "الفتح" بأنه لا مغايرة بينهما؛ لأن ابتداء خدمته له صلى الله عليه وسلم كان بعد قدومه المدينة، وبعد تزويج أمه أم سليم بأبي طلحة، ففي رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: "قَدِم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وليس له خادم، فأخذ أبو طلحة بيدي
…
" الحديث
(3)
، وفيه:"إنَّ أنسًا غلامٌ كَيِّسٌ، فليخدْمك، قال: فخدَمته في السفر والحضر"، وأشار بالسفر إلى ما وقع من طريق عمرو بن أبي عمرو، عن أنس "أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم طلب من أبي طلحة لمّا أراد الخروج إلى خيبر من يخدمه، فأحضر له أنسًا".
واستُشكل هذا مع الحديث الأول؛ لأنَّ بَيْن قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، وبين خروجه إلى خيبر ست سنين وأشهرًا.
(1)
وفي نسخة: "لشيء مما يصنعه الخادم" بإسقاط لفظ "ليس".
(2)
"القاموس المحيط" ص 354.
(3)
متّفقٌ عليه.
وأجيب بأنه طلب من أبي طلحة من يكون أسنّ من أنس، وأقوى على الخدمة في السفر، فعرَفَ أبو طلحة من أنس القوّة على ذلك، فأحضره، فلهذا قال أنس في هذه الرواية: خدمته في الحضر والسفر، وإنما تزوجت أم سليم بأبي طلحة بعد قدوم النَّبيّ صلى الله عليه وسلم بعدة أشهر؛ لأنها بادرت إلى الإسلام، ووالد أنس حيّ، فعَرَف بذلك، فلم يُسلم، وخرج في حاجة له، فقتله عدوّ له، وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه، فاتَّفَقَ أنه خطبها، فاشترطت عليه أن يُسلم، فأسلم، أخرجه ابن سعد بسند حسن، فعلى هذا تكون مدة خدمة أنس تسع سنين وأشهرًا، فألغى الكسر مرّةً، وجَبَره أخرى. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا) هكذا الرواية هنا "أفًّا" بالنصب والتنوين، وهي موافقة لبعض القراءات الشاذّة، كما سيأتي، وهي كلمة ذمّ، وتحقير، واستقذار، قال النوويّ: ذَكَر القاضي عياضٌ وغيره فيها عشر لغات: "أَفّ" بفتح الفاء، وضمها، وكسرها، بلا تنوين، وبالتنوين، فهذه ستّ، و "أُفْ" بضم الهمزة، وإسكان الفاء، و "إِفَ" بكسر الهمزة، وفتح الفاء، و "أفي"، و "أفه" بضم همزتهما، قالوا: وأصل الأُفّ، والتُّفّ: وسخ الأظفار، وتستعمل هذه الكلمة في كل ما يُستقذر، وهي اسم فعل تُستعمل في الواحد، والاثنين، والجمع، والمؤنث، والمذكّر، بلفظ واحد، قال الله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، قال الهرويّ: يقال لكل ما يُضْجَر منه، ويستثقل: أف له، وقيل: معناه الاحتقار، مأخوذ من الأفف، وهو القليل. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الراغب: أصل الأُفّ: كلُّ مستقذَر من وسخ؛ كقلامة الظفر، وما يجري مجراها، ويقال ذلك لكل مُستخَفّ به، ويقال أيضًا عند تكرّه الشيء، وعند التضجر من الشيء، واستعملوا منها الفعل؛ كأفَّفْتُ بفلان، وفي "أف" عدة لغات: الحركات الثلاث، بغير تنوين، وبالتنوين، وهذا كله مع ضم الهمزة، والتشديد، وعلى ذلك اقتصر بعض الشرّاح، وذكر أبو
(1)
"الفتح" 13/ 590، كتاب "الأدب" رقم (6038).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 70.
الحسن الرّمّانيّ فيها لغات كثيرة، فبلّغها تسعًا وثلاثين، ونقلها ابن عطية، وزاد واحدة أكملها أربعين، وقد سردها أبو حيان في "البحر"، واعتَمَدَ على ضبط القلم، ولخَّص ضَبْطها صاحبه الشهاب السمين، قال الحافظ: ولخصته منه، وهي الستة المقدمة، وبالتخفيف كذلك ستة أخرى، وبالسكون مشدّدًا ومخفّفًا، وبزيادة هاء ساكنة في آخره مشدّدًا ومخفّفًا، و"أفى" بالإمالة، وبين بين، وبلا إمالة، الثلاثة بلا تنوين، و "أُفْو" بضم، ثم سكون، و "إِفْي" بكسر، ثم سكون، فذلك اثنتان وعشرون، وهذا كله مع ضم الهمزة، ويجوز كسرها، وفتحها، فأمَّا بكسرها ففي إحدى عشرة: كسر الفاء، وضمها، ومشدّدًا، مع التنوين، وعدمه، أربعةٌ، ومخفّفًا، بالحركات الثلاث، مع التنوين وعدمه ستةٌ، و "أفي" بالإمالة، والتشديد، وأما بفتح الهمزة، ففي ستّ: بفتح الفاء، وكسرها، مع التنوين، وعدمه، أربعة، وبالسكون، وبألف مع التشديد، والتي زادها ابن عطية:"أُفّاهْ" بضم أوله وزيادة ألف، وهاء ساكنة، وقرئ من هذه اللغات ست كلها بضم الهمزة، فأكثر السبعة بكسر الفاء، مشدّدًا، بغير تنوين، ونافع وحفص كذلك، لكن بالتنوين، وابن كثير وابن عامر بالفتح والتشديد، بلا تنوين، وقرأ أبو السّمّاك كذلك، لكن بضم الفاء، وزيد بن علي بالنصب والتنوين، وعن ابن عباس بسكون الفاء.
قال الحافظ: وبقي من الممكن في ذلك: "أفي" كما مضى، لكن بفتح الفاء وسكون الياء، و "أفيه" بزيادة هاء، وإذا ضممت هاتين إلى التي زادها ابن عطية، وأضفتها إلى ما بُدئ به صارت العدة خمسًا وعشرين، كلها بضم الهمزة، فإذا استعملت القياس في اللغة كان الذي بفتح الهمزة كذلك، وبكسرها كذلك، فتكمل خمسًا وسبعين. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَطُّ) فيها خمس لغات: "قَط"، و "قُطّ" بفتح القاف، وضمها، مع تشديد الطاء المضمومة، و "قَطِّ"، بفتح القاف، وكسر الطاء المشدّدة، و "قَطْ"، بفتح القاف، وإسكان الطاء، و "قَطِ"، بفتح القاف، وكسر الطاء المخفّفة، وهي لتوكيد نفي الماضي، أفاده النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"الفتح" 13/ 590 - 591، كتاب "الأدب" رقم (6038).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 70 - 71.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا كلّه إذا كانت قط بمعنى الدهر، فـ "قط" التي بمعنى حسبي، وهو الاكتفاء، فمفتوحة ساكنة الطاء، تقول: ما رأيته إلا مرّة واحدةً فقطْ، فإن أضفت قلت: قَطْكَ هذا الشيءُ؛ أي: حسبك، وقَطْني، وقَطِي، وقَطْهُ، وقَطْهَا، وقد نظمت هذا كلّه، فقلت:
قَطُّ بِمَعْنَى الدَّهْرِ قُلْ قَدْ وَرَدَا
…
لَهَا مِنَ اللُّغَاتِ خَمْسٌ تُقْتَدَى
بَالْفَتْحِ فَالضَّمِّ وَضَمَّتَيْنِ
…
خَفِّفْ، وَشُدَّ الطَّاءِ دُونَ مَيْنِ
خَامِسُهَا قَطِّ بِكَسْرٍ شُدِّدَا
…
أَمَّا بِمَعْنَى حَسْبُ سَاكِنًا بَدَا
فَقُلْ فَقَطْ فَإِنْ أَضَفْتَ قَطْكَ قُلْ
…
قَطِي وَقَطْنِي عَنْهُمُ أَيْضًا نَبُلْ
(1)
(وَلَا قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي لِشَيْءٍ)؛ أي: لأجل فِعْل شيء فَعَلته مما لا يعجبه صلى الله عليه وسلم (لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟) منكرًا عليَّ فِعله، (وَهَلَّا) بفتح الهاء، وتشديد اللام، وتُخفّف، قال الأبيّ رحمه الله:"هلّا" إذا دخلت على الماضي كانت للتنديم، وإن دخلت على المضارع كانت للتحريض، والحضّ على الفعل
(2)
. (فَعَلْتَ كذَا؟)؛ أي: للشيء الذي تركه مما يريده صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عبد العزيز التالية:"والله ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا؟، ولا لشيء لم أصنعه: لِمَ لَمْ تصنع هذا هكذا؟ "، وفي رواية سعيد بن أبي بُردة بعدها:"فما أعلمه قال لي قطّ: لم فعلت كذا وكذا؟ ولا عاب عليّ شيئًا قطّ"، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة بعدها:"ما علِمته قال لشيء صنعته: لِمَ صنعت كذا وكذا، أو لشيء تركته: هلّا فعلت كذا وكذا؟ ".
قال الأبيّ: وعدم اعتراضه صلى الله عليه وسلم على أنس إنما هو فيما يرجع إلى الخدمة والأدب، لا فيما هو تكليف؛ لأن هذا لا يجوز ترك الاعتراض فيه
(3)
؛ أي: لأنه من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (زَادَ أَبُو الرَّبِيعِ) هو سليمان بن داود العتكيّ، شيخه الثاني؛ أي: زاد في روايته لهذا الحديث قوله: (لِشَئءٍ لَيْسَ مِمَّا يَصْنَعُهُ الْخَادِمُ)؛ أي: ولا قال لي لشيء فَعَلْتُه، ليس ذلك الشيء مما يصنعه الخادم المؤدّب: لِمَ فعلت
(1)
راجع: "الفوائد السكيّة" ص 51 - 52.
(2)
"شرح الأبيّ" 6/ 116.
(3)
"شرح الأبيّ" 6/ 116 - 117.
كذا؟
(1)
، ووقع في بعض النسخ:"لشيءٍ مما يصنعه الخادم"، وعلى هذا فيكون المعنى: أي: ولا قال لي لشيء تركته، وذلك الشيء مما يصنعه الخادم: لِمَ تركت كذا؟.
وقال القاضي عياض في "المشارق": قوله: "ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا"، زاد أبو الربيع:"ليس مما يصنعه الخادم"، كذا في أكثر الروايات، وعند السجزيّ:"لشيء"، وهو الصحيح، ولا معنى للأول هنا يستقلّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد علمتَ توجيه هذه النسخة فيما أسلفت، فلا معنى لتخطئتها، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَلَمْ يَذْكُرْ) أبو الربيع (قَوْلَهُ: وَاللهِ)؛ أي: أسقط من روايةِ القَسَم، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 5994 و 5995 و 5996 و 5997](2309)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2768) و"الأدب"(6038) و"الديات"(6911)، وفي "الأدب المفرد"(277)، و (أبو داود) في "الأدب"(4773 و 4774)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(201) و"الشمائل"(338)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(616)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(17946)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101 و 174 و 255 و 265)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 31)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2893 و 2894)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 300)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 402)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الصغير"(1100)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم"(ص 32)، و (البيهقيّ) في
(1)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 22/ 113.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 369.
"شُعَب الإيمان"(2/ 152 و 6/ 258)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3665)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حسن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم الكريم، فقد أحسن الله سبحانه وتعالى خُلُقه، كما حسّن خَلْقَه، قال الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم:"اللهم كما حَسّنت خَلْقي، فأَحسِن خُلُقي".
2 -
(ومنها): بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم، وحُسْن عِشرته، وحلمه، وصفحه، وتواضعه.
3 -
(ومنها): جواز السفر باليتيم، إذا كان ذلك من الصلاح.
4 -
(ومنها): جواز الثناء على المرء بحضرته، إذا أُمن عليه الفتنة، فقد قال أبو طلحة:"إن أنسًا غلام كيّس".
5 -
(ومنها): جواز استخدام الحرّ الصغير الذي لا يجوز أمره.
6 -
(ومنها): أن خدمة الإمام والعالم واجبة على المسلمين، وأن ذلك شرف لمن خَدَمهم؛ لِمَا يُرْجَى من بركة ذلك.
7 -
(ومنها): جواز استخدام اليتيم بلا أجرة، إذا له فيه مصلحة.
8 -
(ومنها): بيان عظيم منقبة أنس بن مالك رضي الله عنه حيث تشرّف بخدمته صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فإن من تشرّف بخدمة سعيد، فهو سعيد، كما قال:
وَإِذَا سَخَّرَ الإِلَهُ أُنَاسًا
…
لِسَعِيدٍ فَإِنَّهُمْ سُعَدَاءُ
وقد نال أنس رضي الله عنه بتلك الخدمة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم المباركة، ففي "الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه أن أم سليم قالت: يا رسول الله أنس خادمك، ادع الله له، قال:"اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته".
وفي رواية عند مسلم في حديث طويل، وفيه:"ثم دعا لنا أهلَ البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي: يا رسول الله خُويدمك ادع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيه".
وفي رواية: جاءت بي أمي أم أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أزَّرتني بنصف خمارها، ورَدّتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله هذا أُنَيْس ابني أتيتك به
يخدمك، فادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله، وولده، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي، وولد ولدي، ليتعادُّون على نحو المائة اليوم.
وفي رواية قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أمي أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله أنيس، فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة.
وفي رواية قال أنس: فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني أمينة ابنتي أنه دُفن من صُلبي إلى مَقْدَم الحَجَّاج البصرة تسعة وعشرون ومئة.
وأخرج الطيالسيّ عن أبي خَلْدة، قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له، وكان له بستان يَحْمِل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك
(1)
.
9 -
(ومنها): أنه يستفاد منه ترك العتاب على ما فات؛ لأن هناك مندوحة عنه باستئناف الأمر به، إذا احتيج إليه، وفائدةُ تنزيه اللسان عن الزجر والذم، واستئلاف خاطر الخادم بترك معاتبته، وكل ذلك في الأمور التي تتعلق بحظّ الإنسان، وأما الأمور اللازمة شرعًا، فلا يُتسامح فيها؛ لأنها من باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5995]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، حَدَّثنَا ثَابِتٌ الْبُنَانيُّ، عَنْ أنسٍ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ الأُبُليّ أبو محمد، صدوقٌ، يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ) بن ربيعة الأزديّ النَّمَريّ، أبو رَوْح البصريّ،
(1)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 400.
(2)
"الفتح" 13/ 590 - 591، كتاب "الأدب" رقم (6038).
قال أبو داود: سلام لقبٌ، واسمه سليمان، ثقةٌ، رُمي بالقدر [7].
رَوَى عن ثابت البنانيّ، والحسن البصريّ، وقتادة، وغيرهم.
وروى عنه ابنه القاسم، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وابن مهديّ، وشيبان بن فرّوخ وغيرهم.
قال موسى بن إسماعيل: كان من أعبد أهل زمانه، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: من الثقات، وقال أيضًا: سئل أبي عن سلام بن مسكين، وسلام بن أبي مطيع، فقال: جميعًا ثقة، إلا أن ابن مسكين أكثر حديثًا، وكان ابن أبي مطيع صاحب سُنَّة، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، صالحٌ، وقال عثمان الدارميّ: قلت لابن معين: سلام أحب إليك في الحسن، أو المبارك؟ فقال: سلام، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال أبو داود: كان يذهب إلى القَدَر، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم عن صالح بن أحمد، عن ابن المدينيّ، عن ابن مهديّ: قال الثوريّ: لم أر ها هنا شيخًا مثله، قال عليّ ابن المدينيّ: وقلت ليحيى بن سعيد: أيما أحب إليك، سلام، أو أبو الأشهب؟ فقال: ما أقربهما، ونقل ابن خلفون عن ابن نمير، وأحمد بن صالح توثيقه.
وقال ابن سعد: تُوُفّي قبل حماد بن سلمة، وقال البخاري عن محمد بن محبوب: مات آخر سنة سبع وستين ومائة، وقال غيره: مات سنة أربع وستين ومائة.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (463) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه آخر]: رواية سلّام بن مسكين عن ثابت هذه ساقها ابن حبّان في "صحيحه" عن شيخ الحسن بن سفيان، عن شيبان بسند المصنّف، فقال:
(2894)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا شيبان بن فَرُّوخ، أخبرنا سلّام بن مسكين، حدّثنا ثابت، عن أنس، قال: "خَدَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرَ
سنين، فما قال لي: أف قطّ، ولا قال لي: أَلَا صنعت كذا وكذا؟ ولمَ تصنع كذا وكذا؟ ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5996]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَاللَّفْظُ لأَحْمَدَ- قَالَا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ، فَلْيَخْدُمْكَ، قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَل) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ المروزيّ، نزيل بغداد، ابو عبد الله، أحد الأئمة، ثقة حافظٌ فقيهٌ حجةٌ وهو رأس الطبقة [10](ت 241) وله سبع وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ المعروف بابن عُلَيّة، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن ثلاث وثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(عَبْدُ العَزِيزِ) بن صُهيب البنانيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (464) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فبغداديّان.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا قَدِمَ) بكسر الدال، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ
(1)
"صحيح ابن حبان" 7/ 153.
أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ) هو زوج أم سُليم والدة أنس، واسمه زيد بن سهل الأنصاريّ المتوفّى سنة (34 هـ) وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720. (بِيَدِي، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لا تعارُض بين هذا وبين ما جاء في الرواية الأخرى من أن أم سُليم هي التي أتت به النبيّ صلى الله عليه وسلم، لإمكان الجمع بأنهما جميعًا أتيا به، بعد تشاورهما، واتّفاقهما على ذلك، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أنَسًا غُلَامٌ كَيِّسٌ) بفتح الكاف، وتشديد الياء المكسورة، وآخره سين مهملة، وهو ضدّ الأحمق، وقال ابن الأثير: الكيّس: العاقل، وقد كاس يكيس كَيْسًا، والكَيْس: العقل، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الهدي": قوله: "غلام كيّس" بالتثقيل، والتخفيف، أي: فَطِنٌ، والكَيْسُ هنا ضدّ العَجْز، فيكون بالتخفيف فقط. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْكَيْسُ وزانُ فَلْس: الظَّرْفُ، والْفِطْنة، وقال ابن الأعرابيّ: العَقْل، ويقال: إنه مُخَفَّف من كَيّسٍ، مثلُ هَيْنٍ وهَيِّنٍ، والأول أصح؛ لأنه مصدر من كَاسَ كيْسًا، من باب باع، وأما المثقل فاسم فاعل، والجمع: أَكْيَاسٌ، مثل جَيِّدٍ وأجياد. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أفاد ما سبق أن "كيسًا" هنا يجوز فيه الوجهان: التشديد، والتخفيف، والله تعالى أعلم.
(فَلْيَخْدُمْكَ) تقدّم أنه من بابي ضرب، ونصر. (قَالَ) أنس (فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ)، أي: كما في غزوة تبوك، (وَالْحَضَرِ)؛ أي: مدّة وجوده في المدينة، (وَاللهِ مَا قَالَ لِي) منكِرًا عليّ، (لِشَيءٍ)، أي: لأجل شيء (صَنَعْتُهُ) مما لا يُحب أن يُصنع هكذا، (لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟، وَلَا لِشَيءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ)؛ أي: تركت صُنعه، (لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟)؛ أي: على الصفة التي يريد أن يصنع له عليها، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 66.
(2)
"هدي الساري" 1/ 181.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 545.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5997]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ- عَنْ أنَسٍ، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ، فَمَا أَعْلَمُهُ قَالَ لِي قَطُّ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلَا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا قَطُّ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يدلِّس، وسماعه من أبي إسحاق بأَخَرَة [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وروايته عن ابن عمر مرسلة [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير.
وقوله: (تِسْعَ سِنِينَ) تقدّم أنه لا تعارُض بينه وبين ما تقدّم من قوله: "عشر سنين"؛ لإمكان الجمع بأنه كان تسعًا وكسرًا، فمرّةً ألغى الكسر، ومرّةً لم يُلغه، قال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "تسع سنين"، وفي أكثر الروايات:"عشر سنين"، فمعناه أنها تسع سنين وأشهُر، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشر سنين تحديدًا، لا تزيد، ولا تنقص، وخَدَمه أنس في أثناء السنة الأولى، ففي رواية التسع لم يَحْسُب الكسر، بل اعتبر السنين الكوامل، وفي رواية العشر حسبها سنة كاملةً، وكلاهما صحيح، وفي هذا الحديث بيان كمال خُلُقه صلى الله عليه وسلم، وحُسن عِشرته، وحلمه، وصَفْحه. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 71.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5998]
(2310) - (حَدَّثَنِي أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ- قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ: قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَني يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ، حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ، وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ
(1)
حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيءٍ تَرَكْتُهُ: هَلَّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ زيدُ بْنُ يَزِيدَ) الثّقَفيّ البصريّ، ثقة [11](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
[تنبيه]: قوله: "الرَّقَاشيّ" بفتح الراء، وتخفيف القاف، بعدها شين معجمة: نسبة إلى امرأة اسمها رَقَاش بنت قيس، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقة [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
3 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العِجْليّ، اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(إِسْحَاقُ) بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ المدنيّ أبو يحيى، ثقةٌ حجة [4] (ت 132) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
و"أنس" رضي الله عنه ذُكر قبله.
(1)
وفي نسخة: "ذهبتَ؟ " بحذف همزة الاستفهام.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 33.
شرح الحديث:
عن عكرمة بن عمّار أنه (قَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ) بن عبد الله بن أبي طلحة، (قَالَ أنَسٌ) رضي الله عنه (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا) قال ابن الأثير رحمه الله: الخُلُق -بضم اللام، وسُكونها-: الدِّين، والطَّبْع، والسَّجِيَّة، وحقيقتُه أنه لِصُورة الإنسانِ الباطنة، وهي نفْسُه، وأوْصافُها، ومَعانِيها المُخْتصَّة بها، بمنزلة الخَلْق لِصُورته الظاهرة، وأوْصافِها، ومَعانيها، ولهما أوصاف حَسَنة، وقَبيحة، والثَّواب، والعِقاب يَتَعَلَّقان بأوصاف الصُّورة الباطنة أكثر مما يَتَعَلَّقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكرّرت الأحاديث في مَدْح حُسْن الخُلُق في غير موضع. انتهى
(1)
.
(فَأرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ)؛ أي: لقضائها، (فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ) قال في "فتح الودود": ظاهره أن أنسًا قال له صلى الله عليه وسلم، وعليه حَمَله شُرّاح الحديث، وَيرِدُ عليه أنه كيف خالف أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهرًا؟ وكيف حلف بالله كاذبًا؟ وكيف حمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على الذهاب بعد الحلف؟ وأجاب في بعض الشروح عن بعض هذه الإيرادات بجواب يصلع جوابًا عن الكلّ، فقال: إن هذا القول صدر عن أنس في صِغَره، وهو غير مكلَّف. انتهى
(2)
.
(وَفي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ)؛ أي: فخرجت أذهب إلى أن مررت على صبيان، وجاء بصيغة المضارع استحضارًا لتلك الحالة، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "حتى أمرّ" حكاية الحال الماضية، كما تقول: شربت الإبل حتى تجرّ بطنها، ويجوز أن تكون "حتّى" ناصبةً بمعنى "كي". انتهى
(3)
، وقوله:(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) جملة منصوبة على الحال؛ أي: والحال أنهم يلعبون (فِي السُّوقِ، فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (قَدْ قَبَضَ)؛ أي: أخذ (بِقَفَايَ) بفتح ياء المتكلم، والقفا مؤخر العنق، (مِنْ وَرَائِي، قَالَ) أنس (فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ يَضْحَكُ) جملة حاليّة، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أُنيْسُ) صغّره للملاطفة، (أَذَهَبْتَ) ووقع
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 144.
(2)
"عون المعبود" 13/ 89.
(3)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3700.
في بعض النسخ بلفظ: "ذهبتَ؟ " بحذف همزة الاستفهام. (حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ ")؛ أي: إلى المكان الذي أمرتك بالذهاب إليه. (قَالَ) أنس (قُلْتُ: نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ) الآن (يَا رَسُولَ اللهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: قول أنس رضي الله عنه: "نعم" في جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أذهبت حيث أمرتك؟ " مع أنه لم يذهب منبئ عن عزمه على ذهابه إلى المأمور به، فإنه قد جزم بذهابه إليه، فكأنه قد ذهب، ولهذا قال: أنا ذاهب، ويُحمَلُ قوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"والله لا أذهب"، وأمثاله على أنه كان صبيًّا غير مكلّف. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا القول صدر عن أنس في حال صغره، وعدم كمال تمييزه؛ إذ لا يصدر مثله ممن كمل تمييزه، وذلك أنه حلف بالله على الامتناع من فعل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهةً، وهو عازمٌ على فعله، فجَمَع بين مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الإخبار بامتناعه، والحلف بالله على نفي ذلك مع العزم على أنه كان يفعله، وفيه ما فيه، ومع ذلك فلم يلتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم لشيءٍ من ذلك، ولا عرَّج عليه، ولا أَدّبه، بل داعبه، وأخذ بقفاه، وهو يضحك رفقًا به، واستلطافًا له، ثم قال:"يا أنيس! أذهبت حيث أمرتك؟ "، فقال له: أنا أذهب، وهذا كله مقتضى خُلُقه الكريم، وحِلْمه العظيم صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
(قَالَ أنسٌ) رضي الله عنه (وَاللهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ، مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيءٍ تَرَكْتُهُ: هَلّا فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا)"هلَّا" بتشديد اللام، ومعناها إذا دخلت على الماضي التوبيخ، أو اللوم على ترك الفعل.
والمعنى: لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء صنعته: لِمَ صنعته؟، ولا لشيء لم أصنعه، وكنت مأمورًا به: لِمَ لا صنعته؟، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3701.
(2)
"المفهم" 6/ 103 - 104.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 5998 و 5999](2310)، و (أبو داود) في "الأدب"(4773)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5999]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، وَأَبو الرَّبِيعِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
2 -
(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقة ثبت [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد أن ساق سند المصنّف هذا ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث عند أبي أحمد وغيره، وفي نسخة أبي العلاء: حدّثنا شيبان، وأبو الربيع، قالا: نا عبد الواحد، عن أبي التيّاح، جَعَل مكان عبد الوارث عبد الواحد، والصواب: عبد الوارث، وهو ابن سعيد التّنُّوريّ، صاحب أبي التيّاح. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: هذا الحديث مختصر من حديث أنس رضي الله عنه قد تقدّم للمصنّف مطوّلًا في "كتاب الآداب" قال:
[6/ 5610](2150) - (حدّثنا أبو الربيع سليمان بن داود العَتَكيّ، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا أبو التّيّاح، حدّثنا أنس بن مالك (ح) وحدّثنا شيبان بن فَرُّوخ -واللفظ له- حدّثنا عبد الوارث، عن أبي التيّاح، عن أنس بن مالك،
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 911.
قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا، وكان لي أخٌ، يقال له: أبو عُمير -قال: أحسبه قال-: كان فَطِيمًا، قال: فكان إذا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه، قال: أبا عُمير ما فعل النُّغَير؟ قال: فكان يَلْعَبُ به". انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله في ذلك الموضع، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(14) - (بَابٌ فِي سَخَائِهِ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6000]
(2311) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ: لَا)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديثين.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير
(1)
قال الجامع عفا الله عنه وعن والديه: هذا الحديث نهاية الألف السادس، وقد انتهيت منه -بحمد الله تعالى وتوفيقه- بعد صلاة العشاء يوم السبت 29/ 8/ 1432 هـ الموافق 30 يولية 2011 م، وكانت المدّة التي بين نهاية الألف الخامس الماضي، ونهاية الألف السادس هذا سنة كاملة إلا أربعة أيام، وهذا من عظيم فضل الله تعالى عليّ، وحسن توفيقه، الحمد لله ربّ العالمين، الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، مباركًا عليه، كما يحبّ ربنا ويرضى، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأسألك اللهمّ أن توفّقني لإتمام الكتاب على الوجه المطلوب، وفي وقت قريب، إنك سميع قريب مجيب، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
-بالتصغير- التيمي المدني، ثقة فاضل من الثالثة، مات سنة ثلاثين أو بعدها، تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (466) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ) وفي رواية الإسماعيليّ من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، ومن طريق عبد الله بن المبارك، كلاهما عن سفيان، سمعت محمد بن المنكدر أنه (سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: مَا) نافية، (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ، فَقَالَ: لَا) وفي رواية البخاريّ: "ما سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء قط، فقال: لا"، قال الكرمانيّ: معناه: ما طُلِب منه شيء من أمر الدنيا، فمَنَعه، قال الفرزدق في زين العابدين [من البسيط]:
مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ
…
لَوْلَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لاؤُهُ نَعَم
(1)
وقال فيه أيضًا:
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوا
…
حُلْوُ الشَّمَائِلِ يَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
مَا قَالَ لَا قَطُّ إِلَّا فِي تَشَهُّدِهِ
…
لَوْلَا التَّشَهُّدُ لَمْ يَنْطِقْ بِذَاكَ فَمُ
(2)
قال الحافظ: وليس المراد أنه يعطي ما يُطلب منه جزمًا، بل المراد أنه لا ينطق بالردّ، بل إن كان عنده أعطاه، إن كان الإعطاء سائغًا، وإلا سكت، وقد ورد بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية، أخرجه ابن سعد، ولفظه:"إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإذا لم يُرِدْ أن يفعل سكت"، وهو قريب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ما عاب طعامًا قطّ، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه"، متّفقٌ عليه.
(1)
"عمدة القاري" 22/ 119.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3702.
وقال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلامٍ: معناه: لم يقل: "لا" منعًا للعطاء، ولا يلزم من ذلك أن لا يقولها اعتذارًا، كما في قوله تعالى:{قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} الآية [التوبة: 92]، ولا يخفى الفرق بين قول: لا أجد ما أحملكم، وبين لا أحملكم.
قال الحافظ: وهو نظير ما تقدم في حديث أبي موسى الأشعريّ لَمّا سأل الأشعريون الْحُمْلان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما عندي ما أحملكم"، لكن يُشكل على ما تقدم أن في حديث الأشعريّ المذكور أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم، فقال:"والله لا أحملكم"، فيمكن أن يُخَصّ من عموم حديث جابر بما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذلك، أو حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل؛ كأن يكون لم يعرف العادة، فلو اقتصر في جوابه على السكوت مع حاجة السائل لتمادى على السؤال مثلًا، ويكون القَسَمُ على ذلك تأكيدًا لِقَطع طمع السائل، والسر في الجمع بين قوله:{لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ، وقوله:"والله لا أحملكم" أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودًا عنده، والثاني أنه لا يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلًا، أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ إلى ذلك.
وفَهِمَ بعضهم مِن لازم عدم قول: "لا" إثبات نَعَم، ورتَّب عليه أنه يلزم منه تحريم البخل؛ لأن من القواعد أنه صلى الله عليه وسلم إذا واظب على شيء كان ذلك علامة وجوبه، والترجمة
(1)
تقتضي أن البخل مكروه.
وأجيب بأنه إذا تم هذا البحث حُملت الكراهة على التحريم، لكنه لا يتمّ؛ لأن الذي يحرم من البخل ما يمنع الواجب.
سَلَّمنا أنه يدلّ على الوجوب، لكن على من هو في مقام النبوة؛ إذ مقابله نقصٌ، مُنَزَّه عنه الأنبياء، فيختص الوجوب بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والترجمة تتضمن أن من البخل ما يكره، ومقابله أن منه ما يحرم، كما أن فيه ما يباح، بل ويستحبّ، بل ويجب، فلذلك اقتصر المصنف -يعني: البخاريّ- على قوله: "يكره". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
يعني: ترجمة البخاريّ في "صحيحه" بقوله: "باب حسن الخلق، والسخاء، وما يُكره من البخل". انتهى.
(2)
"الفتح" 10/ 458.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6000 و 6001](2311)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6034) وفي "الأدب المفرد"(279 و 298)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(345)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1720)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1228)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 34)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2001)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6376 و 6377)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 368)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(1/ 325 - 326)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3685 و 3686)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6001]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا الأَشْجَعِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنيَ: ابْنَ مَهْدِيٍّ- كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، يَقُولُ مِثْلَهُ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
2 -
(الأَشْجَعِيُّ) عُبيد الله بن عُبيد الرحمن، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ، أثبتُ الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: ذكر الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" روايةَ مسلم هذه عن محمد بن المثنّى، قال: هكذا في نسخة أبي أحمد، ووقع في نسخة أبي العلاء:"وحدثني محمد بن حاتم" بدل محمد بن المثنّى، قال: وعن محمد بن حاتم، خرّجه أبو مسعود عن مسلم. انتهى
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 911 - 912.
قال الجامع عفا الله عنه: النسخ التي بين أيدينا عن محمد بن المثنّى، ويمكن أن يكون مسلم رواه عنهما، والله تعالى أعلم.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حَسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المدينيّ: ما رأيت أعلم منه [9](ت 198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
5 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجّةٌ، وكان ربما دلس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161) وله أربع وستون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ) ضمير التثنية للأشجعيّ، وابن مهديّ.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن محمد بن المنكدر هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6034)
- حدّثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن ابن المنكدر، قال: سمعت جابرًا رضي الله عنه يقول: "ما سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء قطّ، فقال: لا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6002]
(2312) - (وَحَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ- حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ أنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلَامِ شَيْئًا، إِلا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ، فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول التيميّ، أبو عُمَر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2244.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حميد الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، اختُلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقة، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر الأمراء [5](ت 2 أو 143) وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
4 -
(مُوسَى بْنُ أنسِ) بن مالك الأنصاريّ، قاضي البصرة، ثقةٌ [4] مات بعد أخيه النضر (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 49/ 1503.
و"أنس" -ضي الله عنه-
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسِ، عَنْ أَبِيهِ) أنس بن مالك رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلَامِ)"على" هنا بمعنى: "مع" للمصاحبة، كما في قوله تعالى:{وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177]، وقوله:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]
(1)
؛ أي: لا يُسأل مع الإسلام (شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ)؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأله مسلم شيئًا إلا أعطاه إياه، إذا كان مما ينبغي إعطاؤه. (قَالَ) أنس (فَجَاءَهُ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": في حفظي أنه صفوان بن أُميّة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: في كونه صفوان نَظَر لا يخفى؛ إذ سياق قصّته يأبى ذلك، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(فَأَعْطَاهُ) صلى الله عليه وسلم (غَنَمًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَنَمُ: اسمُ جنسٍ، يُطلق على الضأن والمعز، وقد تُجمع على أَغْنَام، على معنى قُطْعَاناتٍ من الغنم، ولا واحد لِلْغَنَمِ من لفظها، قاله ابن الأنباريّ، وقال الأزهريّ أيضًا: الغَنَمُ: الشاء، الواحدة شاةٌ، وتقول العرب: راح على فلان غَنَمَانِ؛ أي: قَطِيعان من
(1)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 284.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 397.
الغَنَمِ، كلّ قطيع منفرد بِمَرْعًى وراعٍ، وقال الجوهريّ: الغَنَمُ: اسم مؤنث موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور، والإناث، وعليهما، ويُصَغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنَيْمَةٌ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، وصُغِّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى
(1)
.
وقوله: (بَيْنَ جَبَلَيْنِ) متعلّقة بصفة "غنمًا"؛ أي: كائنةً بين جبلين، وفيه إشارة إلى كثرتها، بحيث ملأت ما بين الجبلين، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "بين جبلين"؛ أي: كثيرة، كأنها تملأ ما بين جبلين
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "فأعطاه غنمًا بين جبلين"؛ يعني: ملء ما بين جبلين كانا هنالك، وكأن هذا -والله أعلم- يوم حنين؛ لكثرة ما كان هنالك من غنائم الإبل، والبقر، والغنم، والذراريّ، ولأن هذا الذي أعطي هذا القَدْر كان من المؤلَّفة قلوبهم؛ ألا ترى أنه رجع إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام لأجل العطاء. انتهى
(3)
.
(فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ) لم يُعرفوا، (فَقَالَ: يَا قَوْمِ) تقدّم أنه يجوز فيها ستّة أوجه، جَمَع ابن مالك رحمه الله خمسة منها في "الخلاصة" حيث قال:
وَاجَعَلْ مُنَادًى صَحَّ إِنْ يُضَفْ لِيَا
…
كَعْبِدِ عَبْدِي عَبْدَ عَبْدَا عَبْدِيَا
والسادسُ يَا قومُ بالضمّ، وهو ضعيف.
(أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمّدًا) صلى الله عليه وسلم، والفاء للتعليل؛ أي: لأنه (يُعْطِي عَطَاءً) مفعول ثانّ، والأول محذوف؛ أي: شخصًا، و"عطاءً" بالتنوين، فيكون قوله:(لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ)؛ أي: الفقرَ، صفةً له والرابط مقدَّر؛ أي: به، وفي الرواية التالية:"عطاءً ما يخاف الفقر"، وفي رواية ابن حبّان:"عطاءَ مَن لا يخاف الفقر" بالإضافة، ولفظ أحمد:"من لا يخاف الفاقة"، قال ابن القيم رحمه الله: وكان فرحه صلى الله عليه وسلم بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما أخذه. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 455.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 72.
(3)
"المفهم" 6/ 105.
(4)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 190.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6002 و 6003](2312)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 284)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4502)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 19)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حُسْن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكثرة كرمه.
2 -
(ومنها): بيان كثرة سخائه، وعظيم جُوده، فكان يُعطي عطاء من لا يخشى فاقة.
3 -
(ومنها): بيان جواز إعطاء الشخص الواحد مبلغًا كثيرًا من المال؛ لمصلحة استمالة قلبه للإسلام.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث مع ما بَعده إعطاء المؤلَّفة، ولا خلاف في إعطاء مؤلفة المسلمين، لكن هل يُعْطَون من الزكاة؟ فيه خلاف، الأصحّ عندنا أنهم يُعْطَون من الزكاة، ومن بيت المال، والثاني: لا يُعْطَون من الزكاة، بل من بيت المال خاصّة، وأما مؤلفة الكفار، فلا يُعطَون من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف، الأصحّ عندنا، لا يُعْطَون؛ لأن الله تعالى قد أعزّ الإسلام عن التألّف، بخلاف أول الأمر، ووقت قلّة المسلمين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6003]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأعْطَاهُ إِيَّاهُ، فَأَتَى قَوْمَهُ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ، فَقَالَ أنسٌ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ، مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا يُسْلِمُ
(2)
حَتَّى يَكُونَ الإِسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا).
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 72.
(2)
وفي نسخة: "فما يُمسي".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السّلَميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقة متقنٌ عابد [9](ت 206)، وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حِفظه بأَخَرَة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف، ويقال: إنه صفوان بن أميّة، والله تعالى أعلم. (سَأَل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَأعْطَاهُ)؛ أي: أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجل، فالهاء هو المفعول الأول، وقوله:(إِيَّاهُ) هو المفعول الثاني، وهو عائد إلى الغنم، وقد تقدّم أن الغنم يذكّر، ويؤنّث.
[تنبيه]: إنما فصل الضمير في "أعطاه إياه"؛ لاتحاد رتبتهما؛ إذ هما للغائبين؛ والقاعدة عند النحاة أنه إذا اجتمع ضميران منصوبان، واتحدا في الرتبة؛ كأن يكونا لمتكلمين، أو مخاطبين، أو غائبين، فإنه يجب الفصل في أحدهما، فتقول: أعطيتني إياي، وأعطيتك إياك، وأعطيته إياه، ولا يجوز اتصالهما. نَعَم إن كانا غائبين، واختلف لفظهما في الإفراد وغيره جاز وَصْلهما، نحو الزيدان الدرهم أعطيتهُماه، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَفِي اتِّحَادِ الرُّتْبَةِ الْزَمْ فَصْلَا
…
وَقَدْ يُبِيحُ الْغَيْبُ فِيهِ وَصْلَا
وإلى حكم الغائب أشار في "الشافية" بقوله:
مَعَ اخْتِلَافٍ مَا وَنَحْوُ "ضَمِنَتْ
…
إِيَّاهُمُ الأَرْضُ" الضَّرُورَةُ اقْتَضَتْ
(1)
(فَأَتَى قَوْمَهُ) المشركين، ولم يُسمَّوا، (فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ) "أي" حرف نداء؛ أي: يا قوم (أَسْلِمُوا، فَوَاللهِ إِنَّ مُحَمَّدًا) صلى الله عليه وسلم (لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ)"ما" نافية، والجملة صفة لـ "عطاءً" بتقدير رابط؛ أي: به. (فَقَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (إِنْ)
(1)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة"، مع "حاشية الخضريّ" 1/ 79.
بكسر الهمزة، وسكون النون مخفّفة من الثقيلة، ولم تَعمل، ولذا لزمت اللام بعدها، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
أي: إنه (كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا)؛ يعني: أنه كان منهم من ينقادُ، فيدخلُ في الإسلام؛ لكثرة ما كان يعطي النبيّ صلى الله عليه وسلم من يتألّفه على الدخول فيه، فيكون قَصْده بالدخول فيه الدنيا، وهذا كان حال الطلقاء يوم حُنين على ما مرَّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (مَا) نافية؛ أي: لا (يُرِيدُ إِلَّا الدُّنْيَا، فَمَا) نافية أيضًا، (يُسْلِمُ)
(2)
، وفي بعض النسخ:"فما يُمسي" من الإمساء؛ أي: يدخل في وقت المساء (حَتَّى يَكُونَ الإسْلَامُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا عَلَيْهَا) من النعيم؛ لأن الله سبحانه وتعالى نوّر قلبه، حيث شرح صدره للإسلام، فأعرض عن الدنيا الفانية، وامتلأ قلبه بحبّ الآخرة الباقية، فأقبل عليها، قال الله عز وجل:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} الآية [الزمر: 22].
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فما يسلم حتى يكون الإسلام
…
إلخ" هكذا هو في معظم النسخ: "فما يُسلم"، وفي بعضها: "فما يُمسي"، وكلاهما صحيح، ومعنى الأول: فما يَلبث بعد إسلامه إلا يسيرًا، حتى يكون الإسلام أحب إليه، والمراد أنه يُظهر الإسلام أوّلًا للدنيا، لا بقصدٍ صحيح بقلبه، ثم من بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونور الإسلام لم يلبث إلا قليلًا، حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان، ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذ أحبَّ إليه من الدنيا، وما فيها. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فما يسلم حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه
…
إلخ" ظاهر مساق هذا الكلام أن إسلامه الأول لم يكن إسلامًا صحيحًا؛ لأنَّه كان يبتغي به الدنيا؛ وإنما يصحُّ له الإسلام إذا استقرّ الإسلام بقلبه، فكان آثر عنده، وأحبّ إليه من الدنيا وما عليها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
(1)
"المفهم" 6/ 105.
(2)
وفي نسخة: "فما يُمسي".
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 72 - 74.
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} الآية [التوبة: 24]. وهذا معنى صحيح، ولكنه ليس بمقصود الحديث، وإنما مقصود أنس من الحديث أن الرجل كان يدخل في دين الإسلام رغبةً في كثرة العطاء، فلا يزال يُعْطَى حتى ينشرح صدره للإسلام، ويستقرّ فيه، ويتنور بأنواره، حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما فيها، كما صرَّح بذلك صفوان حيث قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ. وهكذا اتَّفَقَ لمعظم المؤلَّفة قلوبهم. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6004]
(2313) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَني يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ، ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ، فَنَصَرَ اللهُ دِينَهُ، وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ صَفْوَانَ قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَانِي، وَإِنَّهُ لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِيني، حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
(1)
"المفهم" 6/ 105 - 106.
3 -
(صَفْوَانُ) بن أُمَيّة بن خَلَف بن وهب بن قُدَامة بن جُمَح القرشيّ الْجُمَحِيّ المكيّ الصحابيّ رضي الله عنه من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان رضي الله عنه، وقيل: سنة إحدى، أو اثنتين وأربعين في أوائل خلافة معاوية رضي الله عنه (خت م 4) تقدم في "الزكاة" 44/ 2443.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه (قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهر هذا أنه مرسل، وهو الذي يقتضيه ظاهر صنيع الحافظ المزّيّ رحمه الله-في "تحفته"، وَيحْتَمِل أن يكون موصولًا داخلًا في رواية ابن المسيِّب، عن صفوان بن أُميّة رضي الله عنه كما ياتي في آخره. (غَزْوَةَ الْفَتْحِ) وقوله:(فَتْحِ مَكَّةَ) بالجرّ بدلًا، أو عَطْف بيان لِمَا قبله، وتقدّم أن غزوة الفتح كانت في رمضان سنة ثمان من الهجرة. (ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي: بجميع من كان حاضرًا هنا ممن قَدِم معه، ومن مُسْلِمة الفتح، (فَاقْتَتَلُوا)؛ أي: المسلمون والمشركون، (بِحُنَيْنٍ) بضمّ الحاء المهملة، مصغّرًا: وادٍ بين مكة والطائف، وهو مذكَّر منصرفٌ، وقد يؤنث على معنى البقعة
(1)
.
وقصة حنين أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، ثم خرج منها لقتال هوازن، وثقيف، وقد بقيت أيام من رمضان، فسار إلى حنين، فلما التقى الجمعان انكشف المسلمون، ثم أمدّهم الله بنصره، فعطفوا، وقاتلوا المشركين، فهزموهم، وغَنِموا أموالهم، وعيالهم، ثم صار المشركون إلى أوطاس، فمنهم من سار على نَخْلَةَ اليمانيةِ، ومنهم من سلك الثنايا، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلك نخلة، ويقال: إنه صلى الله عليه وسلم أقام عليها يومًا وليلةً، ثم
(1)
"المصباح المنير" 1/ 154.
صار إلى أوطاس، فاقتتلوا، وانهزم المشركون إلى الطائف، وغَنِم المسلمون منها أيضًا أموالهم، وعيالهم، ثم صار إلى الطائف، فقاتلهم بقية شوال، فلما أهلّ ذو القعدة ترك القتال؛ لأنه شهر حرام، ورَحَل راجعًا، فنزل الْجِعْرانة، وقسم بها غنائم أوطاس وحُنينٍ، ويقال: كانت ستة آلاف سبي، وقد تقدَّمت القصّة في "الجهاد".
(فَنَصَرَ اللهُ دِينَهُ، وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ) استمالة لقلبه إلى الإسلام، (مِائَةً مِنَ النَّعَمِ) بفتحتين. قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّعَمُ: المال الراعي، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه، وأكثر ما يقع على الإبل، قال أبو عبيد: النَّعَمُ: الجِمال فقط، ويؤنّث، ويُذكّر، وجَمْعه: نُعْمَانٌ، مثلُ حَمَلٍ وحُمْلانٍ، وأَنْعَام أيضًا، وقيل: النَّعَمُ: الإبل خاصّةً، والأَنْعَامُ: ذوات الْخُفّ، والظِّلْف، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وقيل: تُطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي: نَعَمٌ، وإن انفردت البقر، والغنم لم تُسمَّ نَعَمًا. انتهى
(1)
. (ثُمَّ) أعطاه (مِائَةً) أخرى، (ثُمَّ) أعطاه (مِائَةً) أخرى.
وقصّة صفوان رضي الله عنه أنه هَرَب يوم فتح مكة، وأسلمت امرأته، وهي ناجية بنت الوليد بن المغيرة، فأحضر له ابن عمه عُمير بن وهب أمانًا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحضر، وحضر وقعة حنين قبل أن يُسْلِم، ثم أسلم، وردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأته بعد أربعة أشهر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم استعار منه سلاحًا لمّا خرج إلى حنين، وهو القائل يوم حنين: لأن يَرُبّني رجل من قريش أحب إلي من أن يَرُبّني رجل من هوازن، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الغنائم فأكثر، فقال: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبيّ، فأسلمَ. وأخرج الترمذيّ من طريق معروف بن خَرّبوذ قال: كان صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية، ووَصله لهم الإسلام من عشر بطون، ونزل صفوان على العباس بالمدينة، ثم أَذِن له النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرجوع إلى مكة، فأقام بها حتى مات بها مقتل عثمان، وقيل: دُفِن مسير الناس إلى الجمل، وقيل: عاش إلى أول خلافة معاوية، قال المدائنيّ: سنة إحدى، وقال خليفة: سنة اثنتين وأربعين، قال الزبير: جاء نعي عثمان حين
(1)
"المصباح المنير" 2/ 613 - 614.
سُوِّي على صفوان، ذكره في "الإصابة"
(1)
.
(قَالَ ابْنُ شِهَاب) بالسند السابق، فهو موصول، وليس معلّقًا. (حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أنَّ صَفْوَانَ) بن أميّة (قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَانِي) من تلك النِّعم (وَإِنَّهُ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (لأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ) حيث يدعو إلى التوحيد المنافي لِمَا هم عليه من الشرك، (فَمَا بَرِحَ) بكسر الراء، من باب تَعِبَ؛ أي: فما زال (يُعْطِيني، حَتَّى إِنَّهُ لأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) فيه مشروعيّة إعطاء المؤلّفة قلوبهم حتى يتمكّن الإيمان في قلوبهم، وقد تقدّم ما قاله النوويّ في ذلك في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث صفوان بن أُميّة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6004](2313)، و (الترمذيّ) في "الزكاة"(666)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 401 و 6/ 465)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(10/ 162)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 19)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6005]
(2314) - (حَدَّثنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ، أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الآخَرِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْتُ أَيْضًا عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ، يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ،
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 433 - 434.
لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، وَقَالَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ، فَأمَرَ مُنَادِيًا، فَنَادَى: مَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ، أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِ، فَقُلْتُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، فَحَثَى أَبُو بَكْرٍ مَرَّةً، ثُمَّ قَالَ لِي: عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ، فَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْحَاقُ) بن راهويه تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(عَمْرُو) بن دينار المكيّ، أبو محمد الأثرم الجمحيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ) بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 61.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذه الأسانيد:
أنها من رباعيّات المصنّف رحمه الله بالنسبة للأول، والثاني، والرابع، وهي (467 و 468 و 469) من رباعيّات الكتاب، وأما الثالث، والخامس فمن خماسيّاته، والحاصل أن للمصنّف في هذا الحديث خمسةَ أسانيد، ثلاثة منها رباعيّات، واثنان خماسيّات، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
قال مسلم رحمه الله: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ) البغداديّ، قال:(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَن) محمد (بْنِ الْمُنْكَدِرِ، أنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وكتابة (ح) تدلّ على التحويل من سند إلى سند آخر، وتُقرأ كما كُتبت، ويُستمرّ في قراءة ما بعدها، قال:(وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ) بن راهويه، وهو شيخ ثان لمسلم، قال:(أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) بن عيينة (عَن) محمد (بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ) رضي الله عنه، (وَعَنْ عَمْرٍو) عطف على قوله:"عن ابن المنكدر"، فهو شيخ ثان لسفَيان بن عُيينة،
وهو عمرو بن دينار الْجُمحيّ المكيّ، (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ) بن الحسين المعروف بالباقر (عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه، وقوله:(أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الآخَرِ)؛ يعني: أن أحد الشيخين: محمد بن المنكدر، وعمرو بن دينار يزيد في روايته على رواية الآخر، وقوله بعد حاء التحويل أيضًا:(وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو شيخ ثالث لمسلم، وهو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، وقوله:(وَاللَّفْظُ لَهُ)؛ يعني: أن لفظ الحديث الآتي لابن أبي عمر، وأما عمرو الناقد، وإسحاق بن راهويه، فروياه بالمعنى. (قَالَ) ابن أبي عمر (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة (سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وقوله:(قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة، فهو طريق خامس للمصنّف عن ابن أبي عمر، عن سفيان (وَسَمِعْتُ أَيْضًا)؛ أي: كما سمعت محمد بن المنكدر، (عَمْرَو بْنَ دِينَارِ، يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ) الباقر أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (وَزَادَ أَحَدُهُمَا)؛ أي: أحد الشيخين: محمد بن المنكدر، وعمرو بن دينار (عَلَى الآخَرِ، قَالَ) جابر رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ) بصيغة تثنية البحر، وهو البلد المعروف، قال الفيّوميّ رحمه الله: البَحْرَانِ على لفظ التثنية: موضع بين البصرة وعُمَان، وهو من بلاد نجد، وُيعرب إعراب المثنى، ويجوز أن تُجعل النون محل الإعراب، مع لزوم الياء مطلقًا، وهي لغة مشهورة، واقتصر عليها الأزهريّ؛ لأنه صار عَلَمًا مفردَ الدلالة، فأشبه المفردات، والنسبة إليه بَحْرَانِيٌّ. انتهى
(1)
.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صَالَحَ أهل البحرين، وأمّر عليهم العلاء بن الحضرميّ، وبعث إليهم أبا عبيدة بن الجرّاح يأتي بجزيتها، فقدم أبو عبيدة بمال كثير، إلى آخر ما يأتي من تمام القصّة في "كتاب الرقاق" -إن شاء الله تعالى- ثم بعد ذلك وعد صلى الله عليه وسلم جابرًا أنه لو جاءنا مال البحرين.
وقال في "الفتح": قوله: "لو جاءنا مال البحرين" سيأتي ذلك في أول "باب الجزية" -يعني: عند البخاريّ- من حديث عمرو بن عوف، وأنه من الجزية، لكن فيهْ "فَقَدِم أبو عبيدة بمال من البحرين"، فيُحْمَل على أن الذي
(1)
"المصباح المنير" 1/ 36.
وعد به النبيّ صلى الله عليه وسلم جابرًا كان بعد السنة التي قَدِم فيها أبو عبيدة بالمال، وظهر بذلك جهة المال المذكور، وأنه من الجزية، فأغنى ذلك عن قول ابن بطال: يَحْتَمِل أن يكون من الخمس، أو من الفيء. انتهى
(1)
.
(لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، وَقَالَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا)؛ أي: أشار
النبيّ صلى الله عليه وسلم عند قوله: "هكذا
…
إلخ"، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو جائز
شائع. (فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، أي: تُوُفّي (قَبْلَ أَنْ يَجيءَ مَالُ
الْبَحْرَيْنِ، فَقَدِمَ) بكسر الدال مبنيًّا للفاعل، أي: قَدِم ذلك المال (عَلَى أَبِي بَكْرِ)
الصدّيق رضي الله عنه في خلافته، (بَعْدَهُ)؛ أي: بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَأَمَرَ) أبو بكر رضي الله عنه
(مُنَادِيًا) لم يُسمّ، وقال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويَحْتَمِل أن يكون بلالًا.
انتهى. (فَنَادَى) ذلك المنادي قائلًا (مَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الدال بمعنى الوعد، (أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِ)؛ أي: لِيَسْتَوْفِيَ عدته، أو دينه، قال جابر:(فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا، وَهَكَذَا، وَهَكَذَا"، فَحَثَى أَبُو بَكْرٍ مَرَّةً)؛ أي: حثية واحدة، وإنما لم يطالبه أبو بكر ببيّنة؛ لأنه لم يَدّع أن له دَينًا في ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع أن له حقًّا في بيت المال الموكولِ الأمرُ فيه إلى اجتهاد الإمام.
ووقع في رواية للبخاريّ: "فأتيت أبا بكر، فسألت، فلم يعطني، ثم أتيته، فلم يعطني، ثم أتيته الثالثة، فقلت: سألتك فلم تعطني، ثم سألتك فلم تعطني، ثم سألتك فلم تعطني، فإما أن تعطيني، وإما أن تبخل عني، قال: قلتَ: تبخل عني؟ ما منعتك من مرة، إلا وأنا أريد أن أعطيك
…
فحثا لي حثيةً
…
" الحديث.
قال في "الفتح": وإنما أخَّر أبو بكر إعطاء جابر حتى قال له ما قال، إمّا لأمر أهمّ من ذلك، أو خشية أن يَحمله ذلك على الحرص على الطلب، أو لئلا يكثر الطالبون لمثل ذلك، ولم يُرِد به المنع على الإطلاق، ولهذا قال:"ما من مرّة إلا وأنا أريد أن أعطيك".
(ثُمَّ قَالَ لِي عُدَّهَا، فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ خَمْسُمِائَةٍ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي:
(1)
"الفتح" 7/ 414.
ففاجأني كونها خمسمائة، (فَقَالَ) أبو بكر رضي الله عنه (خُذْ مِثْلَيْهَا)؛ أي: حتى تكمل لك الحثيات الثلاث التي وعدك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للبخاريّ:"فحثا لي ثلاثًا، وجعل سفيان يحثو بكفّيه جميعًا"، قال في "الفتح": قوله: "وجعل سفيان يحثو بكفيه" يقتضي أن الحثية ما يؤخذ باليدين جميعًا، والذي قاله أهل اللغة أن الحثية ما يملأ الكفّ، والحفنة ما يملأ الكفين، نَعَم ذكر أبو عبيد الهرويّ أن الحثية والحفنة بمعنىً، وهذا الحديث شاهد لذلك. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فقال: خذ مثليها"؛ يعني: خذ معها مثليها، فيكون الجميع ألفًا وخمسمائة؛ لأن له ثلاث حثيات، وإنما حثى له أبو بكر بيده؛ لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيده قائمة مقام يده، وكان له ثلاث حثيات بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه إنجاز العِدَة، قال الشافعيّ، والجمهور: إنجازها، والوفاء بها مستحبّ، لا واجب، وأوجبه الحسن، وبعض المالكية. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: وقع لأبي جحيفة رضي الله عنه مثل ما وقع لجابر رضي الله عنه، فقد أخرج الترمذيّ في "جامعه" من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، قد شاب، وكان الحسن بن عليّ يُشبهه، وأمر لنا بثلاثة عشر قَلُوصًا، فذهبنا نقبضها، فأتانا موته، فلم يُعطونا شيئًا، فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فليجئ، فقمت إليه، فأخبرته، فأمر لنا بها. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6005 و 6006](2314)، و (البخاريّ) في "الكفالة"(2296) و"الهبة"(2598) و"الشهادات"(2683)، و"فرض الخمس"(3137)، و"الجزية"(3164) و" المغازي"(4383) و (الترمذيّ) في "الأدب"
(1)
"الفتح" 7/ 415.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 74.
(3)
"جامع الترمذيّ" 5/ 128.
(2826)
، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 78)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 307)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 318)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 109)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(4/ 27)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سخاء النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث وعد جابرًا رضي الله عنه أن يحثو له بيديه ثلاث حثيات.
2 -
(ومنها): ما قال المهلّب رحمه الله: إنجاز الوعد مأمور به، مندوب إليه عند الجميع، وليس بفرض؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وُعِد به مع الغرماء. انتهى.
وتعقّبه في "الفتح" بأنَّ نَقْل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور، لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البرّ، وابن العربيّ: أجلّ من قال به عمر بن عبد العزيز، وعن بعض المالكية إن ارتبط الوعد بسببٍ وجب الوفاء به، وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوَّجْ، ولك كذا، فتزوَّجَ لذلك، وجب الوفاء به، وخَرَّج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تُملك بالقبض، أو قبله؟
قال الحافظ: وقرأت بخط أبي: في إشكالات على الأذكار للنوويّ، ولم يذكر جوابًا عن الآية -يعني: قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]، وحديث: "آيةُ المنافق ثلاث
…
"-، قال: والدلالة للوجوب منها قويّة، فكيف حملوه على كراهة التنزيه؟ مع الوعيد الشديد، ويُنظر هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف، ولا يجب الوفاء؟ أي: يأثم بالإخلاف، وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بوجوب الوفاء بالوعد هو الأقوى دليلًا، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا من الفقه أن العِدَة واجب الوفاء بها وجوبَ سُنَّة، وذلك من أخلاق أهل الإيمان، قال: وإنما قلنا: إن ذلك ليس بواجب فرضًا لإجماع الجميع من الفقهاء على أن مَن وُعِد بمال ما، كان لم يضرب به مع الغرماء، كذلك قلنا: إيجاب الوفاء به حَسَن في
المروءة، ولا يقضى به، ولا أعلم خلافًا أن ذلك مستحسن، يستحق صاحبه الحمد والشكر والمدح على الوفاء به، ويستحق على الخُلف في ذلك الذم، وقد أثنى الله على من صَدَق وعده، ووفى بنذره، وكفى بهذا مدحًا، وبما خالفه ذمًّا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت فيما مضى أن دعوى الإجماع باطلة، فقد ثبت عن عمر بن عبد العزيز القول بوجوب الوفاء، وكذا نُقل عن الحسن البصريّ، والأدلّة واضحة في الوجوب، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
4 -
(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ أيضًا: ولمّا كان هذا من مكارم الأخلاق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَولى الناس بها، وأنذرهم إليها، وكان أبو بكر رضي الله عنه خليفته، أَدَّى ذلك عنه، وقام مقامه من الموضع الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيمها منه، ولذلك لم يسأل أبو بكر الصدّيقُ البينةَ على ما ادعاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من العِدَة؛ لأن تلك العدة لم تكن شيئًا ادّعاه جابر في ذمة رسول الله، وإنما ادعى شيئًا في بيت المال وإنما ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. انتهى
(2)
كلام ابن عبد البرّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": لمّا قام أبو بكر رضي الله عنه مقام النبيّ صلى الله عليه وسلم تكفل بما كان عليه من واجب، أو تطوع، فلما التزم ذلك لزمه أن يُوفّي جميع ما عليه من دَيْن، أو عِدةٍ، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الوفاء بالوعد، فنفّذ أبو بكر ذلك، وقد عَدّ بعض الشافعية من خصائصه صلى الله عليه وسلم موجوب الوفاء بالوعد أخذًا من هذا الحديث، ولا دلالة في سياقه على الخصوصية، ولا على الوجوب. انتهى
(3)
.
وقال ابن بطال رحمه الله: لمّا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أَولى الناس بمكارم الأخلاق أَدَّى أبو بكر رضي الله عنه مواعيده عنه، ولم يسأل جابرًا البينةَ على ما ادّعاه؛ لأنه لم يَدَّع شيئًا في ذمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما ادَّعَى شيئًا في بيت المال، وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام. انتهى
(4)
.
(1)
"الاستذكار" 5/ 159.
(2)
"الاستذكار" 5/ 160.
(3)
"الفتح" 6/ 80 - 81 كتاب "الكفالة" رقم (2296).
(4)
"الفتح" 6/ 560، كتاب "الشهادات" رقم (2683).
5 -
(ومنها): أن فيه قبولَ خبر الواحد العدل من الصحابة، ولو جَرّ ذلك نفعًا لنفسه، لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهدًا على صحة دعواه، ويَحْتَمِل أن يكون أبو بكر عَلِمَ بذلك، فقضى له بعلمه، فيُسْتَدَلّ به على جواز مثل ذلك للحاكم، قاله في "الفتح"
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "لأعطيناك هكذا، وهكذا، وهكذا، وقال بيديه جميعًا"؛ هذا يدلّ على سخاوة نفس النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمال، وأنه ما كان لنفسه به تعلُّق، فإنَّه كان لا يعدُّه بعدد، ولا يقدره بمقدار، لا عند أخذه، ولا عند بذله، وهذا منه صلى الله عليه وسلم كان وعدًا لجابر رضي الله عنه، وكان المعلوم من خُلُقه الوفاء بالوعد، ولذلك نفّذه له أبو بكر رضي الله عنه بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان خُلُق أبي بكر، وخُلُق الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، ألا ترى أبا بكر كيف نفّذ عِدَة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر بقول جابر، ثم إنه دفعها له على نحو ما قال من غير تقدير؟! وأخبارهم في ذلك معروفة، وأحوالهم موصوفة، وكفى بذلك ما سار مسير المَثَل الذي لم يزل يجري على قول عليّ رضي الله عنه: يا صفراء، ويا بيضاء غُرِّي غَيْري
(2)
. انتهى، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6006]
(
…
) (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: لَمَّا مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا. بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"الفتح" 6/ 80 - 81 كتاب "الكفالة" رقم (2296).
(2)
"المفهم" 6/ 106 - 107.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ قد يخطئ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، وكان يدلِّس، ويرسل (ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين، وقيل: جاز المائة، ولم يثبت (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) فاعل "قال" ضمير ابن جُريج، فله إسنادان: أحدهما: عمرو بن دينار، عن محمد بن عليّ، عن جابر رضي الله عنه، والثاني: محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، وهذا أعلى مما قبله.
وقوله: (مِنْ قِبَلِ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ)، واسم أبيه عبد الله بن عمّار، وكان حليف بني أميّة، صحابيّ شهير، عَمِل على البحرين للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، مات رضي الله عنه سنة أربع عشرة، وقيل: بعد ذلك.
وذكر ابن سعد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوى عامل البحرين يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية، والعلاء بن الحضرميّ صحابي شهير، واسم الحضرمي: عبد الله بن مالك بن ربيعة، وكان من أهل حضرموت، فقَدِم مكة، فحالف بها بني مخزوم، وقيل: كان اسم الحضرمي في الجاهلية زهرمز، وذكر عمر بن شَبّة في "كتاب مكة"، عن أبي غسان عن عبد العزيز بن عمران، أن كسرى لما أغار بنو تميم وبنو شيبان على ماله، أرسل إليهم عسكرًا، عليهم زهرمز، فكانت وقعة ذي قار، فقتلوا الفرس، وأسروا أميرهم، فاشتراه صخر بن رزين الديليّ، فسرقه منه رجل من حضرموت، فتبعه صخر حتى افتداه منه، فقَدِم به مكة، وكان صنّاعًا، فعُتق، وأقام بمكة، ووُلد له أولاد نجباء، وتزوج أبو سفيان ابنته الصعبة، فصارت دعواهم في آل حرب، ثم تزوجها عبيد الله بن عثمان، والد طلحة أحد العشرة، فولدت له طلحة، قال: وقال غير عبد العزيز: إن كلثوم بن رزين، أو أخاه الأسود خرج تاجرًا، فرأى بحضرموت عبدًا فارسيًّا
نجّارًا، يقال له زهرمز، فقدم به مكة، ثم اشتراه من مولاه، وكان حميريًّا يكنى أبا رفاعة، فأقام بمكة، فصار يقال له: الحضرميّ حتى غلب على اسمه، فجاور أبا سفيان، وانقطع إليه، وكان آل رزين حلفاء لحرب بن أمية، وأسلم العلاء قديمًا، ذكره في "الفتح"
(1)
، وقد تقدّمت ترجمته في "الحج" 78/ 3298.
وقوله: (قِبَلَهُ عِدَةٌ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة، أي: جهته، و"الْعِدَة" بكسر، ففتح: الوعد.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ)؛ يعني: أن حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار، ومحمد بن المنكدر نحو حديث سفيان بن عيينة عنهما، كما سبق قبله.
[تنبيه]: رواية ابن جُريج، عن عمرو بن دينار ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2537)
- حدّثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار، عن محمد بن عليّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: لمّا مات النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مالٌ من قِبَل العلاء بن الحضرميّ، فقال أبو بكر: من كان له على النبيّ صلى الله عليه وسلم دَينٌ، أو كانت له قِبَله عِدةٌ، فليأتنا، قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعطيني هكذا، وهكذا، وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعَدّ في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة. انتهى
(2)
.
وأما رواية ابن جُريج عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 262.
(2)
"صحيح البخاريّ" 2/ 953.
(15) - (بَابُ رَحْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم الصِّبْيَانَ، وَالْعِيَالَ، وَتَوَاضُعِهِ، وَفَضْلِ ذَلِكَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6007]
(2315) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ -وَاللَّفْظُ لِشَيْبَانَ- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا ثَابِت الْبُنَانِيُّ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ"، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ امْرَأَةِ قَيْنٍ، يُقَالُ لَهُ: أَبو سَيْفٍ، فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ، وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ، وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ، قَدِ امْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا، فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا أبا سَيْفٍ أَمْسِكْ، جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمْسَكَ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالصَّبِيِّ، فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ الله أَنْ يَقُولَ، فَقَالَ أنَسٌ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ، وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ)، ويقال له: هُدْبة بن خالد بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيْسيّ مولاهم البصريّ، أبو سعيد، ثقةٌ ثقةٌ، قاله يحيى بن معين [7](ت 165) أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا، والباقون، تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (470) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه ثابت البناني مِنْ ألزمِ الناس لأنس،
لزمه أربعين سنةً، وفيه أنس رضي الله عنه الخادم الشهير، وأحد المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وُلدَ) بالبناء للمفعول، (لِيَ) بفتح ياء المتكلّم، وإسكانها، (اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "وُلد"، (غُلَام) قال المجد رحمه الله: الغلام: الطارُّ الشارب، والكهلُ، ضدٌّ، أو من حين يولد إلى أن يَشِبّ، جَمْعه أَغْلمةٌ، وغِلْمةٌ، وغَلْمانٌ، وهي غُلامة. انتهى
(1)
.
[فائدة]: قال في "العمدة": مجموع أولاد النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمانية: القاسم، وبه كان يُكنَى، والطاهر والطيب، ويقال: إن الطاهر هو الطيب، وإبراهيم، وزينب زوجة ابن أبي العاص، ورُقَيّة، وأم كلثوم زوجا عثمان، وفاطمة زوجة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وجميع أولاده من خديجة رضي الله عنها، إلا إبراهيم، فإنه من مارية القبطية. انتهى
(2)
.
(فَسَمَّيْتُهُ)؛ أي: الغلام، (بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ) الخليل عليه السلام، فيه أن الأب يُطلق على الجدّ، وإن علا. (ثُمَّ دَفَعَهُ)؛ أي: دفع صلى الله عليه وسلم ذلك الغلام (إِلَى) امرأة تُكنى بـ (أُمِّ سَيْفٍ) بفتح السين المهملة، وسكون التحتانيّة، آخره فاء، وقوله:(امْرَأَةِ قَيْنٍ) بالجرّ بدل من "أمّ سيف"، أو عَطْف بيان، و"القينُ" بفتح القاف، وسكون التحتانيّة، بعدها نون: الحدّاد، قال الفيّوميّ رحمه الله: القين: الحدّاد، ويُطلق على كلّ صانع، والجمع: قُيُونٌ، مثلُ: عين وعيون. انتهى
(3)
.
وقال في "العمدة": القين: الحدّاد، قال ابن سِيدهْ: قيل: كل صانع قينٌ، والجمع أقيان، وقيون، ويقال: قان يقين قِيانة: صار قينًا، وقان الحديدةَ عملها، وقان الإناء يقينه قينًا: أصلحه، والْمُقَيِّن: الْمُزَيِّن. انتهى
(4)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 958.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 12/ 359.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 521.
(4)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 12/ 357.
(يُقَالُ لَهُ)؛ أي: لذلك القين، (أَبُو سَيْفٍ) قال في "الإصابة": كان من الأنصار، وهو زوج أم سيف، مرضعة إبراهيم وَلَد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث مسلم هذا، ثم قال: وفي رواية البخاريّ: "ودخلنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخذه فقبّله
…
" الحديث.
قال: وقد تقدم في ترجمة البراء بن أوس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفع إبراهيم ولده إلى أم بُردة بنت المنذر زوج البراء بن أوس تُرضعه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي إليه، فيزوره، ويَقيل عندها، أخرجه الواقديّ، فإن كان ثابتًا احْتَمَل أن تكون أم بردة أرضعته، ثم تحوّل إلى أم سيف، وإلا فالذي في "الصحيح" هو المعتمد. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال عياض: أبو سيف هو البراء بن أوس، وأم سيف زوجته، هي أم بردة، واسمها خولة بنت المنذر.
قال الحافظ: جَمَع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح، وبين قول الواقديّ فيما رواه ابن سعد في "الطبقات" عنه عن يعقوب بن أبي صعصعة، عن عبد الله بن أبي صعصعة، قال: لَمّا وُلد له إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار، أيتهنّ ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد، من بني عديّ بن النجّار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد، من بني عديّ بن النجّار أيضًا، فكانت ترضعه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه في بني النجّار. انتهى.
قال: وما جَمَع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء بن أوس. انتهى
(2)
.
(فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَأتِيهِ)؛ أي: يأتي إبراهيم ولده، (وَاتَّبَعْتُهُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى أَبِي سَيْفٍ) وقوله: (وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ) جملة حاليّة من أبي سيف، قال المجد رحمه الله: الكير بالكسر: زِقٌّ يَنْفُخُ فيه الحدّاد، وأما الْمَبْنِيّ من
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 197.
(2)
"الفتح" 4/ 63، كتاب "الجنائز" رقم (1303).
الطين، فَكُور، جَمْعه: أكيارٌ، وكِيَرَةٌ؛ كعِنبَةٍ، وكِيرانٌ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: الكِيرُ بالكسر: زَقّ الحداد الذي يَنفخ به، ويكون أيضًا من جلد غليظ، وله حافات، وجَمْعه: كِيَرَةٌ، مثلُ عِنَبَةٍ، وأَكَيارٍ، وقال ابن السِّكِّيت: سمعت أبا عمرو يقول: الكُورُ بالواو: الْمَبْنِيّ من الطين، والكِيرُ بالياء: الزِّقّ، والجمع: أَكْيَارٌ، مثلُ حِمْلٍ وأَحمالٍ. انتهى
(2)
.
(قَدِ امْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا)؛ أي: من أثر النفخ بالكير، قال أنس:(فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ)؛ أي: عن النفخ بالكير؛ لئلا تؤذي النبيّ صلى الله عليه وسلم بنَتَنه، فقوله:(جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة تعليليّة لِأَمْره بالإمساك، (فَأَمْسَكَ) عن النفخ، وقوله:(فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) عَطْف على محذوف؛ أي: فدخل البيت، فدعا (بِالصَّبِيِّ)، أي: بإبراهيم ولده، (فَضَمَّهُ إِلَيْهِ) عَطْف على محذوف أيضًا؛ أي: فأُتي به، فضمّه إليه (وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ)؛ أي: من التعويذات، والدعاء له بالشفاء. (فَقَالَ أنسٌ) رضي الله عنه (لَقَدْ رَأَيْتُهُ)؛ أي: إبراهيم (وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِه)؛ أي: يجود بها، قال صاحب "العين": أي: يسوق بها، وقيل: معناه: يقارب بها الموت، وقال أبو مروان بن سراج: قد يكون من الكيد، وهو القيء، يقال منه: كاد يكيد، شَبَّه تَقَلّع نَفَسه عند الموت بذلك، وفي لفظ البخاريّ:"وإبراهيم يجود بنفسه"، أي: يُخرجها، ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله يجود به، قاله الطيبيّ
(3)
.
(بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَمَعَتْ) بفتح الميم، وكسرها، يقال: دمَعت العين دَمْعًا، من باب نَفَعَ، ودَمِعَت دَمَعًا، من باب تَعِبَ لغة فيه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(4)
، وقال المجد رحمه الله: الدمع: ماء العين من حُزْن، أو سُرور، جَمْعه دُموع، والدمعة: القطرة منه، والفعل كمنَعَ، وفَرِحَ. انتهى
(5)
. (عَيْنَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا كلّموه في ذلك، ففي رواية البخاريّ من طريق قريش بن حيّا، عن ثابت: "فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تَذرفان، فقال له
(1)
"القاموس المحيط" ص 1158.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 545.
(3)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 4/ 1415.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 199.
(5)
"القاموس المحيط" ص 446.
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟، فقال: يا ابن عوف إنها رحمة، ئم أتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يَحزن
…
".
وقوله: "وأنت يا رسول الله" قال الطيبيّ: فيه معنى التعجب، والواو تستدعي معطوفًا عليه؛ أي: الناس لا يصبرون على المصيبة، وأنت تفعل كفعلهم؛ كأنه تعجب لذلك منه مع عهده منه أنه يَحُثّ على الصبر، وينهى عن الجزع، فأجابه بقوله:"إنها رحمة"؛ أي: الحالة التي شاهدتها مني هي رقة القلب على الولد، لا ما توهمت من الجزع. انتهى.
ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف نفسه: "فقلت: يا رسول الله تبكي، أَوَ لم تنه عن البكاء؟ " وزاد فيه: "إنما نهيت عن صوتين أحمقين، فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة، خَمْش وجوه، وشق جيوب، ورَنّة شيطان، قال: إنما هذا رحمة، ومن لا يَرْحَم لا يُرْحَم"، وفي رواية محمود بن لبيد:"فقال: إنما أنا بشر"، وعند عبد الرزاق من مرسل مكحول:"إنما أنهى الناس عن النياحة، أن يُنْدَب الرجلُ بما ليس فيه"
(1)
.
(تَدْمَعُ الْعَيْنُ)؛ أي: يسيل دمعها، (وَيَحْزَنُ) قال المجدّ رحمه الله: بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، والحزن بالضمّ، ويُحرّك: الهمّ، جمعه أحزان
(2)
. (الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا) يَحْتَمِل أن يكون "يرضى" بفتح أوله، مضارع رَضِيَ ثلاثيًّا مبنيًّا للفاعل، و"ربّنا" مرفوع على الفاعليّة، وَيحْتَمِل -إن صحّ رواية- أن يكون بضمّ أوله مضارع أرضى، مبنيًّا للفاعل أيضًا، و"ربّنا" منصوب على المفعوليّة، والله تعالى أعلم.
(وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ")؛ أي: مُصابون بالحزن الشديد، وفي حديث عبد الرحمن بن عوف، ومحمود بن لبيد:"ولا نقول ما يُسْخِط الربّ"، وزاد في حديث عبد الرحمن في آخره: "لولا أنه أمرٌ حقٌّ، ووعدٌ صدقٌ، وسبيلٌ نأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأوَّلنا لحزِنّا عليك حزنًا، هو أشد من
(1)
"الفتح" 4/ 64، كتاب "الجنائز" رقم (1303).
(2)
"القاموس المحيط" ص 286.
هذا"، ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد، ومرسل مكحول، وزاد في آخره: "وفَصْلُ رضاعه في الجنة"، وفي آخر حديث محمود بن لبيد: "وقال: إن له مرضعًا في الجنة".
ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرًا.
[فائدة]: جزم الواقديّ بأن إبراهيم رضي الله عنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وقال ابن حزم: مات قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر، واتفقوا على أنه وُلد في ذي الحجة سنة ثمان، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": واتفقوا على أن مولده كان في ذي الحجة سنة ثمان، واختلفوا في وقت وفاته، فالواقدي جزم بأنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وقال ابن حزم: مات قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاثة، وقيل: بلغ ستة عشر شهرًا وثمانية أيام، وقيل: سبعة عشر شهرًا، وقيل: سنة وعشرة أشهر وستة أيام، وفي "سنن أبي داود": تُوُفّي وله سبعون يومًا، وعن محمود بن لبيد: توفي وله ثمانية عشر شهرًا، وفي "صحيح مسلم": قال عمرو: "فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم ابني وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يُكْمِلان إرضاعه في الجنة"، وعند ابن سعد بسند صحيح عن البراء بن عازب، يرفعه:"أما إن له مرضعًا في الجنة"، وفي رواية جابر عن عامر عن البراء:"إنه صدّيق شهيد"، وعن محمد بن عمر بن عليّ بن أبي طالب:"أول من دُفن بالبقيع ابن مظعون، ثم اتّبعه إبراهيم"، وعن رجل من آل عليّ بن أبي طالب: لمّا دُفن إبراهيم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هل من أحد يأتي بقربة؟ فأتى رجل من الأنصار بقربة ماء، فقال: رُشّها على قبر إبراهيم".
واختُلف في الصلاة عليه، فصححه ابن حزم، وقال أحمد: منكَر جدًّا، وقال السّدّيّ: سألت أنسًا: أصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم؟ قال: لا أدري، وروى عطاء عن ابن عجلان، عن أنس أنه كبَّر عليه أربعًا، وهو أفقه، أعني: عطاء، وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، أنه ما صلى، وهي مرسلة، فيجوز أن
(1)
"الفتح" 4/ 65، كتاب "الجنائز" رقم (1303).
يكون اشتغل بالكسوف عن الصلاة، وحكى الحافظ أبو العباس العراقي السبتي أن معناه لم يصلّ عليه بنفسه، وصلى عليه غيره، وقيل: لأنه لا يُصَلَّى على نبي، وقد جاء عنه أنه لو عاش كان نبيًّا، وقال أبو العباس كل هذه الأقوال ضعيفة، والصلاة عليه أثبت.
وفيه جواز تقبيل من قارب الموت، وذلك قبل الوداع، والتشفي منه، وفيه جواز البكاء المجرّد والحزن. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6007](2315)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1303)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3126)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 194)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 385)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2902)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 43)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 69)، و"شُعَب الإيمان"(7/ 241)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1528)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز تسمية المولود يوم ولادته.
2 -
(ومنها): بيان جواز التسمية بأسماء الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين-.
3 -
(ومنها): جواز استتباع العالم والكبير بعضَ أصحابه إذا ذهب إلى منزل قوم ونحوه.
4 -
(ومنها): الأدب مع الكبار.
5 -
(ومنها): جواز البكاء على المريض، والحُزن، وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر، بل هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما المذموم الندب،
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 12/ 359.
والنياحة، والويل، والثبور، ونحو ذلك من القول الباطل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا".
6 -
(ومنها): ما قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب، من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى.
7 -
(ومنها): بيان مشروعية تقبيل الولد، وشَمّه.
8 -
(ومنها): مشروعية إرضاع الطفل.
9 -
(ومنها): مشروعيّة عيادة الصغير، والحضور عند المحتضِر، ورحمة العيال.
15 -
(ومنها): جواز الإخبار عن الحزن، وإن كان الكتمان أَولى.
11 -
(ومنها): وقوع الخطاب للغير، وإرادة غيره بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم ولده، مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب؛ لوجهين: أحدهما صِغَره، والثاني نزاعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين؛ إشارةً إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق.
12 -
(ومنها): جواز الاعتراض على من خالف فِعله ظاهر قوله؛ ليظهر الفرق، وحَكَى ابن التين قول من قال: إن فيه دليلًا على تقبيل الميت، وشمّه، ورَدَّه بأن القصة إنما وقعت قبل الموت، وهو كما قال، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6008]
(2316) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ- عَنْ أيّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ، وإنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأخُذُهُ، فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ
(1)
"الفتح" 4/ 65، كتاب "الجنائز" رقم (1303).
يَرْجِعُ، قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي، وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ، وَاِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ في الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّختيانيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ) القرشيّ الثقفيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ [5](بخ م 4) تقدم في "الجمعة" 15/ 2008.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ
…
إلخ) العيال -بكسر العين المهملة-: أهلُ البيت، ومن يمونه الإنسان، الواحد عَيّلٌ، مثلُ: جِيَاب وجَيِّدٍ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أرحم بالعيال" هذا هو المشهور الموجود في النسخ والروايات، قال القاضي عياض: وفي بعض الروايات: "بالعباد".
وقوله: (كانَ إِبْرَاهِيمُ) ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم (مُسْتَرْضَعًا لَهُ) بضمّ الميم، وفتح الضاد، يقال: استَرْضَعَ: إذا طلب المرضعة، والمعنى: أنه طُلبت له امرأةٌ تُرضعه، (فِي عَوَالي الْمَدِينَةِ)؛ أي: في القرى التي هي في أعلى المدينة.
وقوله: (فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ)؛ أي: بيت أبي سيف، (وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يمتلأ بالدخان بسبب نفخ أبي سيف بكيره فيه.
وقوله: (وَكَانَ ظِئْرُهُ) قال النوويّ: أما الظئر فبكسر الظاء، مهموزةً، وهي المرضعة وَلَد غيرها، وزوجُها ظئر لذلك الرضيع، فلفظة الظئر تقع على الأنثى والذكر. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الظِّئْرُ بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها: الناقة تعطف على وَلَد غيرها، ومنه قيل للمرأة الأجنبية، تَحْضُنُ وَلَد غيرها: ظِئْرٌ، وللرجل الحاضن: ظِئْرٌ أيضًا، والجمع: أَظْآرٌ، مثلُ حِمْلٍ وأَحْمال، وربما جُمِعت
(1)
"المصباح المنير" 2/ 438.
المرأة على ظِئَارٍ، بكسر الظاء، وضمّها، وظَأَرْتُ أَظْأَرُ بفتحتين: اتخذت ظِئْرًا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان ظئره": الظئر: أصله اسم للمرضعة، ثم قد يقال على زوجها صاحب اللَّبن ذلك، قال الخليل: ويقال للمذكّر والمؤنث، وقال أبو حاتم: الظُئْر من الناس والإبل: إذا عَطَفَت على ولد غيرها، والجمع: ظُؤَار، وقال ابن السِّكِّيت: لم يأت فُعَال بضم الفاء جمعًا إلا تُؤام جمع تَوْءَم، وظُؤَار جمع ظِئْر، وعُرَاق جمع عَرْق، ورُخال جمع رِخْل
(2)
، وفُرارٌ جمع فَرِير: وهو ولد الظبية، وغَنمٌ رُبَابٌ: جمع شاة رُبَّى، قال ابن ولّاد: وهي حديثة عهد بنتاج، وقال ابن الأنباريّ: تجمع الظِّئر: ظُؤَارًا، وأظؤرًا، ولا يقال: ظُؤْرة، وحكى أبو زيد في جَمْعه: ظُؤْرة، قال الهرويّ: ولا يُجمع على فُعْلةٍ إلا أربعة أحرف: ظِئْرٌ، وظُؤرة، وصاحبٌ، وصُحْبة، وفَارِهَةٌ وفُرْهةٌ، ورائق ورُوقة، وفي "الصحاح": الظئر -مهموز- والجمع ظُؤار على فُعال بالضم، وظُؤُور، وأظآر. انتهى
(3)
.
وقوله: (قَيْنًا) قال القرطبيّ رحمه الله: "القين": الحداد، و"القَيْن": العبد، و"القيْنة": الأمة، مغنّية كانت، أو غير مغنية، وقد غَلِط من ظنها: المغنية فقط، والجمع: الْقِيَان، قال زهير [من البسيط]:
رَدَّ القِيانُ جِمَالَ الْحَيِّ فَاحْتَمَلُوا
…
إِلَى الظَّهِيرَةِ أَمْرٌ بَيْنَهُمْ لَبِكُ
قال القرطبيّ: وأصل هذه اللفظة من اقتان النبتُ اقتنانًا؛ أي: حَسُنَ، واقتانت الروضة: أخذت زُخْرُفها، ومنه قيل للماشطة: قينة، ومُقيِّنَة؛ لأنَّها تزيِّن النساءَ، شُبِّهت بالأمة؛ لأنَّها تُصلح البيت وتزيّنه. انتهى
(4)
.
وقوله: (فَيَأخُذُهُ، فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ) فيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال، والضعفاء، وفيه جواز الاسترضاع، وفيه فضيلة رحمة العيال، والأطفال، وتقبيلهم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 388.
(2)
"الرِّخْل" بالكسر، وككتِف: الأنثى من أولاد الضأن. اهـ. "القاموس".
(3)
"المفهم" 6/ 111.
(4)
"المفهم" 6/ 111.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو: فَلَمَّا تُوُفِّيَ إِبْرَاهِيمُ
…
إلخ) ظاهر هذا السياق الإرسال، قاله في "الفتح". قال الجامع: ويَحْتَمل أن يكون موصولًا؛ أي: قال عمرو بن سعيد عن أنس رضي الله عنه: فلما تُوُفّي
…
إلخ، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَإِنَّهُ مَاتَ فِي الثَّدْيِ) معناه: مات وهو في سنّ رضاع الثدي، أو في حال تَغَذِّيه بلبن الثدي
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن إبراهيم ابني قد مات في الثدي"؛ أي: في حال رضاعه؛ أي: لم يكمل مدَّة رضاعه، قيل: إنه مات وهو ابن ستة عشر شهرًا، وهذا القول أخرجه فَرْط الشفقة، والرحمة، والحزن
(2)
.
وقوله: (وَإِنَّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمِّلَانِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنَّةِ") قال النوويّ: معنى "تُكْملان رضاعه": أي: تتمّانه سنتين، فإنه تُوُفّي وله ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر، فترضعانه بقية السنتين، فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن، قال صاحب "التحرير": وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته، فيدخل الجنة متصلًا بموته، فيتم فيها رضاعه؛ كرامةً له، ولأبيه صلى الله عليه وسلم. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن له لظئرين يُكملان رضاعه في الجنة" هذا يدلُّ على أن حُكمه حكم الشهيد؛ فإنَّ الله تعالى قد أجرى عليه رزقه بعد موته، كما قد أجرى ذلك على الشهيد؛ حيث قال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، وعلى هذا فمن مات من صغار المسلمين بوجه من تلك الوجوه السبعة التي ذكرنا أنها أسباب الشهادة كان شهيدًا، ويلحق بالشهداء الكبار بفضل الله ورحمته إياهم، وإن لم يبلغوا أسنانهم، ولم يُكلَّفوا تكليفهم، فمن قتل من الصغار في الحرب كان حكمه: حكم الكبير، فلا يغسَّل، ولا يصلَّى عليه، ويُدفن بثيابه كما يُفعل بالكبير. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 76.
(2)
"المفهم" 6/ 111.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 76.
(4)
"المفهم" 6/ 111 - 112.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب فال:
[6009]
(2317) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَثْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقالُوا: أَتقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَمْلِكُ
(1)
أَنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ؟ "، وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: "مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دَلّس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
6 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
7 -
(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيهما خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام،
(1)
وفي نسخة: "أو أملك؟ ".
والباقون كلهم كوفيّون، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة رحمه الله أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما أنها (قَالَتْ: قَدِمَ) بكسر الدال، (نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ) وفي رواية البخاريّ:"جاء أعرابيّ"، فقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون هو الأقرع المذكور في الحديث التالي، وَيحْتَمِل أن يكون قيس بن عاصم التميميّ، ثم السعديّ، فقد أخرج أبو الفرج الأصبهانيّ في "الأغاني" ما يُشعر بذلك، ولفظه:"عن أبي هريرة أن قيس بن عاصم دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فذكر قصة فيها:"فهل إلا أن تُنْزَع الرحمة منك"، فهذا أشبه بلفظ حديث عائشة رضي الله عنهما، ووقع نحو ذلك لعيينة بن حِصْن بن حُذيفة الفزاريّ، أخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسند رجاله ثقات، إلى أبي هريرة:"قال: دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه يقبّل الحسن والحسين، فقال: أتقبّلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبّلت أحدًا منهم"، وَيحْتَمِل أن يكون وقع ذلك لجميعهم، فقد وقع في رواية مسلم:"قَدِم ناس من الأعراب". انتهى
(1)
.
(عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا)؛ أي: الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه، (أتقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن معه، (نَعَمْ) نُقبّلهم، (فَقَالُوا)؛ أي: الأعراب، (لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَأَمْلِكُ؟) هكذا النسخ، فيكون بتقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: أَوَ أملك لكم؟، ومعناه النفي؛ أي: لا أملك لكم؛ أي: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلوبكم بعد أن نزعها الله منها، ووقع في بعض النسخ:"أو أملك لك؟ "، وقال في "العمدة": الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، والواو للعطف على مقدَّر بعد الهمزة، نحو: تقول. انتهى
(2)
.
وقوله: (أَنْ كانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ؟ ")"أن" بفتح الهمزة مصدريّة،
(1)
"الفتح" 13/ 540، كتاب "الأدب" رقم (5998).
(2)
"عمدة القاري" 22/ 100.
فيكون المصدر المؤوّل مفعول "أملك" على حذف مضاف؛ أي: لا أملك دفعَ كون الله نزع منكم الرحمة، ونفى القرطبيّ صحة كسر الهمزة روايةً، وعلى تقدير الصحّة، فهي شرطيّة، وجوابها محذوف يدلّ عليه ما قبله؛ أي: إن نزع الله من قلبكم الرحمة، فلا أملك دفع ذلك عنكم.
وفي رواية البخاريّ: "أن نزع الله من قلبك الرحمة"، قال في "العمدة": قوله: "أن نزع" بفتح الهمزة مفعول "أملك"، أي: لا أملك النزع، وحاصل المعنى: لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك، بعد أن نزعها الله منه، وقيل: كلمة "إن" مكسورة، على أنها شرطٌ، والجزاء محذوف، وهو من جنس ما تقدم؛ أي: إنْ نزع الله الرحمة من قلبك، فلا أملك لك ردّها إليه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأملك أن كان الله نزع الرَّحمة من قلبك؟! " كذا وقع هذا اللفظ محذوف همزة الاستفهام، وهي مرادة، تقديره: أوَ أملك؟ وكذا جاء هذا اللفظ في البخاريّ بإثباتها، وهو الأحسن؛ لقلة حذف همزة الاستفهام. و"أن" مفتوحة، وهي مع الفعل بتأويل المصدر، تقديرها: أوَ أملك كون الله نزع الرَّحمة من قلبك؟! وقد أبعد مَنْ كَسَرها، ولم تصح رواية الكسر، ومعنى الكلام: نفي قدرته صلى الله عليه وسلم عن الإتيان بما نزع الله من قلبه من الرحمة.
قال: والرحمة في حقِّنا هي رقَّة، وحُنُوّ يجده الإنسان في نفسه عند مشاهدة مبتلى، أو ضعيف، أو صغير، يحمله على الإحسان إليه، واللطف به، والرفق، والسعيِ في كشف ما به، وقد جعل الله تعالى هذه الرحمة في الحيوان كله، عاقلِهِ وغير عاقله، فبها تعطف الحيوانات على نوعها، وأولادها، فتحنو عليها، وتَلْطُف بها في حال ضعفها وصغرها.
وحكمة هذه الرحمة تسخير القويّ للضعيف، والكبير للصغير حتى ينحفظ نوعه، وتتمّ مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير، وهذه الرحمة التي جعلها الله في القلوب في هذه الدار، وتحصل عنها هذه المصلحة العظيمة، هي رحمة واحدة من مائة رحمة ادَّخرها الله تعالى ليوم القيامة؛ فيرحم بها عباده المؤمنين وقت أهوالها، وشدائدها حتى يخصَّهم منها، ويدخلهم في جنته، وكرامته،
(1)
"عمدة القاري" 22/ 100، بزيادة من "الفتح" 13/ 541.
ولا يُفهم من هذا أن الرحمة التي وَصَفَ الحقُ بها نفسه هي رقَّة وحُنُو، كما هي في حقِّنا؛ لأنَّ ذلك تغيُّر يوجب للمتصف به الحدوث، والله تعالى منزه، ومقدَّس عن ذلك، وعن نقيضه الذي هو القسوة، والغلظ؛ وإنما ذلك راجعٌ في حقِّنا إلى ثمرة تلك الرأفة، وفائدتها، وهي اللطف بالمبتلى، والضعيف، والإحسان إليه، وكشف ما هو فيه من البلاء، فإذا هي في حقه سبحانه وتعالى من صفات الفعل، لا من صفات الذات، وهذا كما تقدَّم في غضبه تعالى، ورضاه في غير موطن.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبي فيه صواب وخطأ، أما صوابه، فقوله: إن الرحمة التي وصف الله تعالى بها نفسه ليست كرحمتنا، فهذا حقّ، وأما الباطل فحمله الرحمة على الثمرة، وأنها ليست من صفات الذات، بل من صفات الفعل، فهذا تأويل لصفة الرحمة عن حقيقتها، والحقّ أنها صفة ثابتة لله عز وجل، كما أثبتها سبحانه وتعالى لنفسه في آيات كثيرة، وأثبتها له الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، فنعتقد أنها ثابتة على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نشبّه، ولا نعطّل، ولا نكيّف، بل نقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثمّ رأيت لبعض المحقّقين تحقيقًا نفيسًا في المسألة، حيث قال: دلّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان:
رحمة هي صفته، وصفاته غير مخلوقة، وإضافتها إلى الله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف، كما قال تعالى عن نبيّ الله سليمان عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، وقال تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهذان الاسمان متضمّنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدلّ على الرحمة الذاتيّة التي لم يزل، ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدلّ على الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54]، وقال:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21].
وأهل السُّنَّة والجماعة يُثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به سبحانه وتعالى، والمعطّلة ومن تَبِعَهم يُنفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى، ومنهم الأشاعرة، ويؤوّلونها بالإرادة، أو النعمة.
والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه من إضافة المخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قوله تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]، وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107]، وقوله سبحانه وتعالى للجنّة، كما في الحديث القدسيّ:"أنتِ رحمتي أرحم بك من أشاء"، والرحمة المذكورة في الحديث -يعني: حديث البخاريّ: "جعل الله الرحمة في مائة جزء. . ."- هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها الله عز وجل مائة جزء، والرحمة المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، ومقتضاها. انتهى ما كتبه
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
قال القرطبيّ: وإذا تقرر هذا، فمن خَلَق الله تعالى في قلبه هذه الرحمة الحاملة له على الرفق، وكَشْف ضر المبتلى، فقد رحمه الله سبحانه وتعالى بذلك في الحال، وجعل ذلك علامة على رحمته إياه في المآل، ومن سَلَب الله ذلك المعنى منه، وابتلاه بنقيض ذلك من القسوة والغلظ، ولم يلطف بضعيف، ولا أشفق على مبتلى، فقد أشقاه في الحال، وجعل ذلك عَلَمًا على شقوته في المآل، نعوذ بالله من ذلك، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الراحمون يرحمهم الرحمن"
(2)
، وقال:"لا يرحم الله من عباده إلا الرحماء"
(3)
، وقال:"لا تُنْزَع الرحمة إلا من شقيّ"
(4)
، وقال:"من لا يَرحم لا يُرحم"
(5)
.
(وَقَالَ) عبد الله (بْنُ نُمَيْرٍ) في روايته: ("مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ") بإفراد الخطاب للذي باشر الكلام معه صلى الله عليه وسلم، والمراد جميعهم، ووقع في قصّة الأقرع بن حابس التالية:"إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ"، وفي حديث جرير رضي الله عنه الآتي:"مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ عز وجل"، والله تعالى أعلم.
(1)
المحقّق المذكور: الشيخ البرّاك، راجع ما كتبه في هامش:"فتح الباري"، في كتاب "التوحيد" 13/ 544 - 545 رقم الحديث (6000).
(2)
حديث صحيح، رواه أبو داود (4941)، والترمذيّ (1925).
(3)
متّفقٌ عليه.
(4)
حديث حسن، رواه أبو داود، والترمذيّ.
(5)
متّفقٌ عليه.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6009](2317)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5998) وفي "الأدب المفرد"(1/ 46)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3665)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 56 و 70)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 100)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الرأفة، والشفقة، والرحمة للصغير والكبير، وهذا من فضل الله تعالى عليه، كما قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)} [آل عمران: 159]، فكان ذلك مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
2 -
(ومنها): بيان ما عليه الأعراب من بقايا الجفاء، وغلظ الطبع، وقسوة القلب الذي كانوا عليه قبل الإسلام، كما أخبر الله عز وجل عن ذلك بقوله:{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)} [التوبة: 97].
3 -
(ومنها): أن من لا يرحم الناس لا يرحمهم الله تعالى، ومن يرحمهم يرحمه جزاء وفاقًا، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث ما يدلّ على جواز تقبيل الصغير على جهة الرحمة، والشفقة، وكراهة الامتناع من ذلك على جهة الأَنفَة، وهذه القُبلة هي على الفم.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "على الفم" مما لا دليل عليه، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ويُكره مثل ذلك في الكبار؛ إذ لم يكن ذلك معروفًا في الصدر
الأول، ولا يدلّ على شفقة، فأما تقبيل الرأس، فإكرام عند من جرت عادتهم بذلك كالأب والأم، وأما تقبيل اليد فكرهه مالك، ورآه من باب الكِبْر، وإذا كان ذلك مكروهًا في اليد كان أحرى وأَولى في الرِّجْل، وقد أجاز تقبيل اليد والرِّجل بعض الناس، مستدلًّا بأن اليهود قبَّلوا يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجليه حين سألوه عن مسائل، فأخبرهم بها، ولا حجة في ذلك؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قد نزهه الله عن الكِبْر، وأُمِنَ ذلك عليه، وليس كذلك غيره؛ ولأن ذلك أظهر من اليهود تعظيمه، واعتقادهم صدقه، فأقرَّهم على ذلك ليبيِّن للحاضرين -بإذلالهم أنفسهم له- ما عندهم من معرفتهم بصدقه، وأن كفرهم بذلك عناد وجحد، ولو فَهِمت الصحابة رضي الله عنهم جواز تقبيل يده، ورِجله لكانوا أوَّل سابق إلى ذلك، فيفعلون ذلك به دائمًا، وفي كل وقت، كما كانوا يتبركون ببزاقه، ونخامته، ويدلكون بذلك وجوههم، ويتطيّبون بعرقه، ويقتتلون على وَضُوئه، ولم يُرْوَ قطُّ عن واحد منهم بطريق صحيح أنه قبّل له يدًا ولا رجلًا؛ فصحَّ ما قلناه، والله وليّ التوفيق. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من نفيه ثبوت تقبيل اليد والرِّجل ليس كما زعم، بل هو ثابت عنه صلى الله عليه وسلم، من وجوه كثيرة.
قال ابن بطّال رحمه الله: اختلفوا في تقبيل اليد فأنكره مالك، وأنكر ما روي فيه، وأجازه آخرون واحتجوا بما رُوي عن ابن عمر أنهم لما رجعوا من الغزو حيث فَرّوا قالوا: نحن الفرارون، فقال: بل أنتم العَكّارون، أنا فئة المؤمنين، قال: فقبّلنا يده، قال: وقبّل أبو لبابة، وكعب بن مالك، وصاحباه يد النبيّ صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم، ذكره الأبهريّ، وقبّل أبو عبيدة يد عمر حين قدم، وقبّل زيد بن ثابت يد ابن عباس حين أخذ ابن عباس بركابه.
قال الأبهريّ: وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدِينه، أو لِعلمه، أو لِشرفه، فإن ذلك جائز، قال ابن بطال: وذكر الترمذيّ من حديث صفوان بن عسال: "أن
(1)
"المفهم" 6/ 110.
يهوديين أتيا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات. . . الحديث، وفي آخره: فقبّلا
يده ورجله"، قال الترمذيّ: حسن صحيح.
قال الحافظ رحمه الله: حديث ابن عمر أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، وحديث أبي لبابة أخرجه البيهقيّ في "الدلائل"، وابن المقرئ، وحديث كعب وصاحبيه أخرجه ابن المقرئ، وحديث أبي عبيدة أخرجه سفيان في "جامعه"، وحديث ابن عباس أخرجه الطبريّ، وابن المقرئ، وحديث صفوان أخرجه أيضًا النسائيّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم.
قال: وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقرئ جزءًا في تقبيل اليد، سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرةً وآثارًا.
فمن جَيِّدها حديث الزارع العبديّ، وكان في وفد عبد القيس:"قال: فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبّل يد النبيّ صلى الله عليه وسلم ورِجله"، أخرجه أبو داود
(1)
، ومن حديث مزيدة العَصَريّ مثله، ومن حديث أسامة بن شريك:"قال: قمنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبّلنا يده"، وسنده قويّ، ومن حديث جابر أن عمر قام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبّل يده، ومن حديث بُريدة في قصة الأعرابيّ والشجرة:"فقال: يا رسول الله ائذن لي أن أقبّل رأسك، ورجليك، فأذن له".
وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من رواية عبد الرحمن بن رزين: قال: أخرج لنا سلمة بن الأكوع كفًّا له ضخمة؛ كأنها كف بعير، فقمنا إليها، فقبّلناها.
وعن ثابت أنه قبّل يد أنس، وأخرج أيضًا أن عليًّا قبّل يد العباس، ورِجله، وأخرجه ابن المقرئ، وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعيّ قال: قلت لابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناوَلنيها، فقبّلتها
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ثبت بما ذُكر مشروعيّة تقبيل اليد والرِّجل؛ فإن هذه الأحاديث منها ما هو صحيح حجة بنفسه، ومنها ما هو ضعيف شاهد للصحيح، وإنما كرهه من كرهه كمالك إذا كان للتكبّر والتعظيم، كما سبق عن
(1)
حديث حسن، رواه أبو داود.
(2)
"الفتح" 11/ 57.
الأبهريّ، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، وقد كنت كتبت فيه رسالة جمعت فيها ما ورد في التقبيل ونحوه، أسأل الله تعالى أن يرزقني إتمامها، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6010]
(2318) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الْحَسَنَ، فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ، مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ) الأقرع لقبٌ، واسمه فيما نَقَل ابنُ دريد: فِرَاس بن حابس بن عِقال -بكسر المهملة، وتخفيف القاف- ابن محمد بن سفيان بن مُجاشع بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، وكانت وفاة الأقرع بن حابس في خلافة عثمان
(1)
، وكان الأقرع من المؤلّفة قلوبهم، وممن حسُن إسلامه
(2)
. (أَبْصَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ الْحَسَنَ) بن عليّ رضي الله عنه سِبْطه، (فَقَالَ) الأقرع (إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ، مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ) زاد الإسماعيليّ في روايته: "ما قَبَّلت إنسانًا قطّ"، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ) الضمير للشأن،
(1)
"الفتح" 8/ 591.
(2)
"الفتح" 13/ 539.
وهو الضمير الذي تفسّره جملة بعده، قال ابن مالك: رحمه الله في "الكافية الشافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُملَةٍ كَـ"إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"
لِلابْتِدَا أَو نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ
…
إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ
…
كَـ"إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"
وَجَائِزٌ تَأنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا
…
أُنِّثَ أَو تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا
وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا
…
تَأْنِيثُهُ كَـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"
(مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ") بالرفع فيهما على الخبر، وقال عياض: هو للأكثر، وقال أبو البقاء:"مَنْ" موصولة، ويجوز أن تكون شرطية، فيُقرأ بالجزم فيهما، قال السهيليّ: جَعْله على الخبر أشبه بسياق الكلام؛ لأنه سيق للردّ على من قال: "وإن لي عشرة من الولد. . . إلخ"؛ أي: الذي يفعل هذا الفعل لا يُرْحَمُ، ولو كانت شرطية لكان في الكلام بعض انقطاع؛ لأن الشرط وجوابه كلام مستأنَف.
قال الحافظ: وهو أَولى من جهة أخرى؛ لأنه يصير من نوعِ ضَرْب المثل، ورجَّح بعضهم كونها موصولة؛ لكون الشرط إذا أعقبه نفي يُنفَى غالبًا بـ "لم"، وهذا لا يقتضي ترجيحًا إذا كان المقام لائقًا بكونها شرطية، وأجاز بعض شراح "المشارق" الرفع في الجزءين، والجزم فيهما، والرفع في الأوَّل، والجزم في الثاني، وبالعكس، فيحصل أربعة أوجه، واستَبْعَد الثالثَ، ووَجَّه بأنه يكون في الثاني بمعنى النهي؛ أي: لا ترحموا من لا يرحم الناس، وأما الرابع فظاهر، وتقديره: من لا يكن من أهل الرحمة، فإنه لا يُرْحَم، ومثله قول الشاعر [من الطويل]:
فَقُلْتُ لَهُ احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا
…
مُطَوَّقَةٌ مَن يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا
وفي جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم للأقرع إشارةٌ إلى أن تقبيل الولد وغيره، من الأهل المحارم، وغيرهم من الأجانب، إنما يكون للشفقة والرحمة، لا للذّة والشهوة، وكذا الضمّ، والشمّ، والمعانقة، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 13/ 539 - 540، كتاب "الأدب" رقم (5997).
ووقع في حديث جرير الآتي: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله"، وهو عند الطبراني بلفظ:"من لا يرحم مَن في الأرض لا يرحمه من في السماء"، وله من حديث ابن مسعود، رفعه:"ارْحَمْ مَن في الأرض يَرْحَمْك من في السماء"، ورواته ثقات، وهو في حديث عبد الله بن عمر، وعند أبي داود، والترمذيّ، والحاكم، بلفظ:"ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وهذا الحديث قد اشتَهَر بالمسلسل بالأولية، وفي حديث الأشعث بن قيس عند الطبرانيّ في "الأوسط":"من لم يرحم المسلمين لم يرحمه الله".
قال ابن بطال رحمه الله: فيه الحضّ على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن، والكافر، والبهائم المملوك منها، وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام، والسقي، والتخفيف في الحمل، وترك التعدي بالضرب.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون المعنى: من لا يرحم غيره بأيّ نوع من الإحسان لا يحصل له الثواب، كما قال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60].
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: من لا يكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا، لا يُرْحَم في الآخرة، أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، لا يرحمه الله؛ لأنه ليس له عنده عهد، فتكون الرحمة الأُولى بمعنى الأعمال، والثانية بمعنى الجزاء؛ أي: لا يثاب إلا مَن عَمِل صالِحًا.
ويَحْتَمِل أن تكون الأُولى الصدقة، والثانية البلاء؛ أي: لا يَسْلَم من البلاء إلا من تصدَّق، أو من لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يُرْحَم مطلقًا، أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا لمن جعل في قلبه الرحمة، ولو كان عمله صالِحًا. انتهى ملخصًا.
قال: وينبغي للمرء أن يتفقد نفسه في هذه الأوجه كلها، فما قَصّر فيه لجأ إلى الله تعالى في الإعانة عليه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 557 - 558، كتاب "الأدب" رقم (6013).
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6010 و 6011](2318)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5997) وفي "الأدب المفرد"(91)، و (أبو داود) في "الأدب"(5218)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1911)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20589)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 228 و 241 و 269 و 514)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1106)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(457 و 5578 و 6947)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 100) وفي "الأدب"(14)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3446)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6011]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7636)
- حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، حدّثني أبو سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسين بن علي رضي الله عنهما والأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: يا رسول الله إن لي عشرة من الولد، ما قبَّلت إنسانًا منهم قطّ، قال: فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن من لا يَرْحَم لا يُرْحَم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6012]
(2319) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا:
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 269.
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ -يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ- كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ، وَأَبِي ظِبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَا يَرْحَمِ النَّاسَ لَا يَرْحَمْهُ اللهُ عز وجل").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بمعجمتين، وزانُ جعفر- المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، كوفيّ نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ، مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
6 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) -بمعجمة مكسورة، وياء، ومثلثة- ابن طَلَق بن معاوية النخعيّ، أبو عُمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغير حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
7 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قريبًا.
8 -
(زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ) الْجُهَنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، مخضرمٌ، ثقةٌ، جليلٌ، لم يُصب مَن قال: في حديثه خَلَلٌ [2] مات بعد الثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين (ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.
9 -
(أَبُو ظِبْيَانَ) -بفتح الظاء المعجمة
(1)
، وسكون الموحّدة- حُصَين بن جُنْدُب بن الحارث الْجَنْبِيّ -بفتح الجيم، وسكون النون، ثم موحدة- الكوفيّ، ثقةٌ [2](ت 90) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
(1)
وقال النوويّ: بفتح الظاء، وكسرها.
10 -
(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر البجليّ الصحابي المشهور، مات رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها (ع) 24/ 205.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الحديث:
أن للمصنّف فيه أربعةَ أسانيد، فرَّق بينها بالتحويلات، وكلّها من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وكلهم كوفيّون إلا زهيرًا فبغداديّ، وإسحاق، فنيسابوريّ، وابنَ خشرم فمروزيّ، وأن شيخيه: أبا غريب، والأشجَّ من مشايخ الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: جرير بن عبد الحميد، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية، وحفص بن غِياث رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده المذكور.
شرح الحديث:
(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) البجليّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَا) نافية يُرفع ما بعدها، أو ناهية يُجزم ما بعدها، (يَرْحَمِ) بفتح حرف المضارعة، مبنيًّا للفاعل، وفاعله ضمير "مَن". (النَّاسَ) منصوب على المفعوليّة. (لَا) على الوجهين المذكورين آنفًا، (يَرْحَمْهُ) بالرفع، أو الجزم، على التوجيه السابق. (اللهُ عز وجل") قال في "العمدة": يجوز في "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم" الرفع، والجزم، أما الرفع فعلى كون "مَنْ" موصولةً على معنى:"الذي لا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ"، وأما الجزم فعلى كون "مَنْ" متضمنة معنى الشرط، فتجزم الذي دخلت عليه، وجوابَه، قال: وفي إطلاق رحمة العباد في مقابلة رحمة الله نوع مشاكلة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "نوع مشاكلة" هذا رأي المؤوِّلين لصفة الرحمة، والحقّ أتها ثابتة لله سبحانه وتعالى حقيقةً على الوجه اللائق به تعالى، كما أسلفت تحقيقه قريبًا.
(1)
"عمدة القاري" 23/ 107.
وقال النوويّ: قال العلماء: هذا عامّ يتناول رحمة الأطفال، وغيرهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6012 و 6013](2319)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6013) و"التوحيد"(7376)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1922)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(662)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 361 و 362 و 366)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 528)، و (الحميديّ) في "مسنده"(802 و 803)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(465 و 467)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2491 و 2494 و 2495)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 161 و 9/ 41) وفي "شُعَب الإيمان"(7/ 475)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3449)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6013]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
3 -
(قَيْسُ) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2]
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 77.
ويقال: له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
4 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضبيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
5 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، وأبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 482.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"عمرو" هو: ابن دينار.
[تنبيه]: رواية قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(1922)
- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، حدّثنا قيس، حدّثنا جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن لا يَرْحَم الناس لا يَرْحَمه الله"، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى
(1)
.
ورواية نافع بن جُبير عن جرير رضي الله عنه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(25356)
- حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن نافع بن جُبير، عن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرحم الله مَن لا يَرْحَم الناس". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع الترمذيّ" 4/ 323.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 214.
(16) - (بَابٌ فِي كثْرَةِ حَيَائِهِ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6014]
(2320) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن حسّان العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ سِنَانِ) بن أسد بن حِبّان -بكسر المهملة، بعدها موحّدة- أبو جعفر القطان الواسطيّ، ثقةٌ حافظٌ [11] (ت 259) وقيل: قبلها (خ د م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1342.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي عُتْبَةَ) الأنصاريّ البصريّ مولى أنس، ثقة [3]. رَوَى عن أنس، وأبي سعيد الخدريّ، وأبي أيوب، وأبي الدرداء، وجابر، وعائشة رضي الله عنهم.
وروى عنه ثابت البنانيّ، وقتادة، وحميد، وعلي بن زيد بن جُدعان.
قال أبو بكر البزار: ثقةٌ مشهورٌ، وقال البخاريّ: قال بعضهم: عبد الله بن عتبة، والأول أصح، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ في "الشمائل"، وابن ماجه، وله عندهم حديثان: أحدهما عند البخاريّ في الحج بعد يأجوج ومأجوج، والآخر عندهم في الحياء؛ أي: حديث الباب.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وفي الأبواب الأربعة الماضية.
[تنبيه]: من لطائف هذا الحديث:
أن له إسنادين فرَّق بينهما بالتحويل، وكلاهما من سُداسيّاته، وأنهما مسلسلان بالبصريين إلا زهيرًا فبغداديّ، وأحمد بن سنان فواسطيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، وتقدّم غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة السَّدُوسيّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ) -بضم العين المهملة، وسكون المثناة، بعدها موحّدة- وهو مولى أنس، وهذا هو المحفوظ عن قتادة، وقد رواه الطبرانيّ من وجه آخر عن شعبة، عن قتادة، فقال: عن أبي السّوّار الْعَدَويّ، عن عمران بن حصين به.
وأخرجه ابن حبان من طريق أحمد بن سنان القطان، قال: قلت لعبد الرحمن بن مهديّ: يا أبا سعيد، أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ حياء من العذراء في خدرها؟ قال: نعم، عن مثل هذا فَسَلْ يا شعبة. فذكره بتمامه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك بن سِنان رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدَّ حَيَاءً) قال القرطبيّ رحمه الله: "الحياء" -ممدودًا-: انقباض يجده الإنسان من نفسه، يَحْمِله على الامتناع من ملابسة ما يعاب عليه، ويُستقبح منه، ونقيضه الصَّلَفُ، وهو التَّصَلُّفُ في الأمور، وعدم المبالاة بما يُستقبح، ويعاب عليه منها، وكلاهما جِبِلّيّ، ومُكْتَسب؛ غير أن الناس منقسمون في القَدْر الحاصل منهما، فمن الناس من جُبِل على الكثير من الحياء، ومنهم من جُبل على القليل منه، ومن الناس من جُبل على الكثير من الصَّلَف، ومنهم من جُبل على القليل منه، ثم إن أهل الكثير من النوعين على مراتب، وكذلك أهل القليل، فقد يكثر أحد النوعين حتى يصير نقيضه
(1)
"الفتح" 8/ 219، كتاب "المناقب" رقم (3562).
كالمعدوم، ثم هذا الجبلِّيّ سبب في تحصيل المكتسب، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جُبل من الحياء على الحظ الأوفر، والنصيب الأكثر، ولذلك قيل فيه: إنه كان أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، ثم إنه كان يأخذ نفسه بالحياء ويستعمله، ويأمر به، ويحضُّ عليه، فيقول:"الحياء من الإيمان"، و"الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء خير كله"، ويقول لأصحابه:"استحيوا من الله حقّ الحياء"، وكان يُعرف الحياء في وجهه لِمَا يظهر عليه من الخَفَر والخجل، وكان إذا أراد أن يَعتِب رجلًا معيَّنًا أعرض عنه، ويقول:"ما بال رجال يفعلون كذا"، ومع هذا كله فكان لا يمنعه الحياء في حقٍّ يقوله، أو أمر دينيّ يفعله، تمسُّكًا بقول الحق:{وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} الآية [الأحزاب: 53]، وهذا هو نهاية الحياء، وكماله، وحُسنه، واعتداله، فإنَّ من يُفْرط عليه الحياء حتى يمنعه من الحقّ فقد ترك الحياء من الخالق، واستحيا من الخلق، ومن كان هكذا فقد حُرِم نافع الحياء، واتصف بالنفاق، والرياء، والحياء من الله هو الأصل والأساس، فإنَّ الله تعالى أحقّ أن يُستحيا منه من الناس. انتهى
(1)
.
(مِنَ الْعَذْرَاءِ) -بفتح العين المهملة، وسكون الذال المعجمة، ثم راء، ومَدّ-؛ أي: البكر، سُمّيت به؛ لأن عُذرتها باقية، وهي جِلدة البكارة. (فِي خِدْرِهَا) -بكسر الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة- الموضع الذي تُحْبَس فيه، وتُسْتَتر، وقال النوويّ: سِتْرٌ يُجعل للبكر في جنب البيت. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "العذراء": البكر التي لم تُنْتَزَع عُذْرتها، و"الْخِدْر": أصله الْهَوْدج، وهو هنا كناية عن بيتها الذي هي ملازمة له إلى أن تخرُج منه إلى بيت زوجها. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "في خِدرها" بكسر المعجمة؛ أي: في سِتْرها، وهو من باب التتميم؛ لأن العذراء في الخلوة يشتدّ حياؤها أكثر مما تكون خارجة عنه؛ لكون الخلوة مظنّة وقوع الفعل بها، فالظاهر أن المراد تقييده بما إذا دُخِل عليها في خدرها، لا حيث تكون منفردة فيه، ومحل وجود الحياء
(1)
"المفهم" 6/ 114 - 115.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 78.
(3)
"المفهم" 6/ 115 - 116.
منه صلى الله عليه وسلم في غير حدود الله تعالى، ولهذا قال للذي اعترف بالزنا:"أَنِكْتَها؟ "، لا يُكني، وأخرج البزار هذا الحديث من حديث أنس رضي الله عنه، وزاد في آخره:"وكان يقول: الحياء خير كله"، وأخرج من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وراء الحجرات، وما رأى أحد عورته قطّ، وإسناده حسن. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ) قال النوويّ رحمه الله: معنى "عرفناه في وجهه": أي: لا يتكلم به؛ لحيائه، بل يتغير وجهه، فنفهم نحن كراهته، وفيه فضيلة الحياء، وهو من شُعَب الإيمان، وهو خير كله، ولا يأتي إلا بخير، وقد سبق هذا كله في "كتاب الإيمان"، وشرحناه واضحًا، وهو محثوث عليه، ما لم ينته إلى الضعف، والْخَوَر، كما سبق. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": فيه إشارة إلى تصحيح ما تقدّم من أنه لم يكن يواجه أحدًا بما يكرهه، بل يتغيّر وجهه، فيَفْهَم أصحابه كراهيته لذلك. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6014](2320)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3562) و"الأدب"(6102 و 6119) وفي "الأدب المفرد"(467)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(351)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4180)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 71 و 79 و 88 و 91 و 92)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2222)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 523 - 524)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6306 و 6307 و 6308)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 368)، و (أبو القاسم البغويّ) في
(1)
"الفتح" 8/ 219، كتاب "المناقب" رقم (3562).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 78.
(3)
"الفتح" 6/ 577.
"الجعديّات"(1029)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 192) و"دلائل النبوّة"(1/ 316) وفي "الأدب"(200)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3693)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الحياء حتى كان أشدّ حياءً من العذراء في خِدْرها، ولكن هذا الحياء فيما يتعلّق بالحظوظ النفسيّة، وأما ما يتعلّق بالحقوق الدينيّة؛ كانتهاك حرمات الله تعالى، أو انتهاك حرمة أحد من المسلمين، فإنه أشدّ الناس غضبًا لذلك، وإزالةً له بالقول، والفعل، دون استحياء من أحد من الناس، بل إنما يستحيي في ذلك من الله سبحانه وتعالى، لا من أحد غيره.
2 -
(ومنها): بيان كون صفة الحياء خُلُقًا عاليًا يَشْرُف به الإنسان، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"الحياء من الإيمان"، و"الحياء لا يأتي إلا بخير"، و"الحياء خير كلّه"، وكلها في الصحيح، قال أبو عبيد الهرويّ: إنما كان الحياء من الإيمان أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي، وإن لم يكن له تقية، فصار كالإيمان القاطع بينه وبين المعاصي، قال عياض وغيره: إنما جُعِل الحياء من الإيمان، وإن كان غريزةً؛ لأن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى قصد، واكتساب، وعلم.
وأما كونه خيرًا كله، ولا يأتي إلا بخير، فأشكل حَمْله على العموم؛ لأنه قد يَصُدّ صاحبه عن مواجهة من يرتكب المنكرات، ويَحمله على الإخلال ببعض الحقوق.
والجواب أن المراد بالحياء في هذه الأحاديث ما يكون شرعيًّا، والحياء الذي ينشأ عنه الإخلال بالحقوق ليس حياءً شرعيًّا، بل هو عجز، ومَهانةٌ، وإنما يُطلق عليه حياءٌ؛ لمشابهته للحياء الشرعيّ، وهو خُلُقٌ يبعث على ترك القبيح.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون أُشيرَ إلى أن من كان الحياء من خُلقه أن الخير يكون فيه أغلب، فيضمحلّ ما لعله يقع منه، مما ذُكر في جنب ما يحصل له بالحياء من الخير، أو لكونه إذا صار عادةً، وتخلّق به صاحبه يكون سببًا لجلب الخير إليه، فيكون منه الخير بالذات والسبب.
وقال أبو العباس القرطبيّ: الحياء المكتسب هو الذي جعله الشارع من الإيمان، وهو المكلَّف به، دون الغريزيّ، غير أن من كان فيه غريزة منه، فإنها تُعِينه على المكتسَب، وقد ينطبع بالمكتسب حتى يصير غريزًا، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد جُمِع له النوعان، فكان في الغريزيّ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان في الحياء المكتسب في الذروة العليا صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: يُستفاد من الحديث الحكم بالدليل؛ لأنهم جزموا بأنهم كانوا يَعرفون ما يكرهه صلى الله عليه وسلم بتغيّر وجهه، ونظيره أنهم كانوا يَعرفون أنه يقرأ في الصلاة باضطراب لحيته، كما تقدم في موضعه
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6015]
(2321) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، حِينَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْكُوفَةِ
(3)
، فَذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا، وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا"، قَالَ عُثْمَانُ: حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفي، تقدّم قريبًا.
2 -
(شَقِيقُ) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة، وقيل: مات سنة (82)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.
(1)
"الفتح" 13/ 692 - 693، كتاب "الأدب" رقم (6119).
(2)
"الفتح" 13/ 679، كتاب "الأدب" رقم (6102).
(3)
وفي نسخة: "قَدِمَ معاوية الكوفة" في الموضعين.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد -بالتصغير- ابن سعد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة على الأصح، بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذكروا في الباب الماضي، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ إذ هما مخضرمان، من الطبقة الثانية.
شرح الحديث:
(عَنْ مَسْرُوقِ) بن الأجدع الْهَمْدانيّ، أنه (قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (حِينَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما من الشام (إِلَى الْكُوفَة) ووقع في بعض النسخ: "حين قَدِم معاوية الكوفةَ" في الموضعين. (فَذَكَرَ) عبد الله بن عمرو (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا)؛ أي: ناطقًا بالفُحْش، وهو الزيادة على الحدّ في الكلام السيّئ، (وَلَا مُتَفَحِّشًا)؛ أي: متكلفًا لذلك؛ أي: لم يكن له الفحش خُلُقًا، ولا مكتسَبًا، وقال القاضي عياض: أصل الفحش: الزيادة، والخروج عن الحدّ، قال الطبريّ: الفاحش: البذيء، قال ابن عرفة: الفواحش عند العرب: القبائح، قال الهرويّ: الفاحش ذو الفحش، والمتفحش الذي يتكلف الفحش، ويتعمده؛ لفساد حاله، قال: وقد يكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الفاحش": المجبول على الفحش، وهو: الجفاء في الأقوال، والأفعال، و"المتفحش": هو المتعاطي لذلك، والمستعمِل له، وقد برَّأ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن جميع ذلك، ونزَّهه، فإنَّه كان رحيمًا، رفيقًا، لطيفًا، سهلًا، متواضعًا، طَلِقًا، برًّا، وَصولًا، محبوبًا، لا تقتحمه عين، ولا
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 78.
تمجُّه نَفْسٌ، ولا يصدر عنه شيء يُكْره صلى الله عليه وسلم، وشرَّف، وكرَّم. انتهى
(1)
.
ووقع عند الترمذيّ من طريق أبي عبد الله الْجَدَليّ قال: "سألت عائشة رضي الله عنهما عن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، ولا سَخّابًا في الأسواق، ولا يَجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو، وَيصْفح"، وقد رَوَى البخاريّ في "الأدب" من حديث أنس رضي الله عنه:"لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّابًا، ولا فحّاشًا، ولا لعّانًا، كان يقول لأحدنا عند الْمَعْتَبَة: ما له، تَرِبت جبينه"، ولأحمد من حديث أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يواجه أحدًا في وجهه بشيء يكرهه"، ولأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنهما:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون"
(2)
.
[فائدة]: قال ابن منظور رحمه الله: قال ابن سِيدَه: الفُحْش، والفَحْشاء، والفاحشة: القبيح من القول، والفعل، وجَمْعها الفواحش، وأفحش عليه في المنطق؛ أي: قال الفُحْش، والفحشاءُ: اسم الفاحشة، وقد فَحَشَ، وفَحُشَ، وأفحش، وفَحُش علينا، وأفحش إفحاشًا، وفُحْشًا، قال: والصحيح أن الإفحاش، والفُحْش: الاسم، ورجل فاحشٌ: ذو فُحْش، وفي الحديث:"إن الله يُبغض الفاحش المتفحش"، فالفاحش: ذو الفحش والخنا من قول، وفعل، والمتفحش: الذي يتكلف سَبّ الناس، ويتعمده، وقد تكرر ذكر الفُحْش، والفاحشة، والفاحش في الحديث، وهو كلُّ ما يشتدّ قُبْحه من الذنوب، والمعاصي، قال ابن الأثير: وكثيرًا ما تَرِد الفاحشة بمعنى الزنا، ويسمى الزنا فاحشةً، وقال الله تعالى:{وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية [الطلاق: 1] قيل: الفاحشة المبيِّنة: أن تزني، فتُخْرَج للحدّ، وقيل: الفاحشة خروجها من بيتها بغير إذن زوجها، وقال الشافعيّ أن تبذو على أحمائها بذَرابة لسانها، فتؤذيهم، وتَلُوك ذلك، وفي حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى، ولا نفقة، وذُكِر أنه نقلها إلى بيت ابن أم مكتوم؛
(1)
"المفهم" 6/ 116.
(2)
"الفتح" 8/ 216، كتاب "المناقب" رقم (3559).
لبذاءتها، وسلاطة لسانها، ولم يُبطل سكناها؛ لقوله عز وجل:{لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} الآية [الطلاق: 1].
وكل خصلة قبيحة فهي فاحشة، من الأقوال، والأفعال، ومنه الحديث: قال لعائشة رضي الله عنها: "لا تقولي ذلك، فإن الله لا يحب الفُحْش، ولا التفاحش"، أراد بالفحش التعدي في القول والجواب، لا الفحش الذي هو من قَذَع الكلام، ورديئه، والتفاحش تفاعل منه.
وقد يكون الفحش بمعنى الزيادة والكثرة، ومنه حديث بعضهم، وقد سئل عن دم البراغيث، فقال: إن لم يكن فاحشًا فلا بأس، وكلُّ شيء جاوز قَدْره وحدّه فهو فاحش، وقد فَحُش الأمر فُحْشًا، وتفاحش، وفَحَّشَ بالشيء: شَنَّعَ.
وأما قول الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} الآية [البقرة: 268]، قال المفسِّرون: معناه: يأمركم بأن لا تتصدقوا، وقيل: الفحشاء هاهنا البخل، والعرب تسمي البخيل فاحشًا، وقال طرفة [من الطويل]:
أَرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الْكِرَامَ وَيَصْطَفِي
…
عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِ
يعني: الذي جاوز الحدّ في البخل، وقال ابن بَرّيّ: الفاحش السيئ الخُلُق المتشدد البخيل، ويعتام: يختار، ويصطفي؛ أي: يأخذ صفوته، وهي خياره، وعقيلة المال: أكرمُه، وأنفسه. انتهى كلام ابن منظور رحمه الله باختصار
(1)
، وإنما نقلت كلامه بطوله؛ لأهمّيّته، ولكثرة ورود لفظ الفحش في الأحاديث بعبارات مختلفة، وبيان ما ورد في معناه من أقوال العلماء في موضع واحد لذلك، والله تعالى وليّ التوفيق.
(وَقَالَ) عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا") ولفظ البخاريّ: "أحسنَكم أخلاقًا"، فقوله:"أحاسنكم" اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله، و"أخلاقًا" منصوب على التمييز.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا"؛ هو جمع أحسن على وزن أفعل التي للتفضيل، وهي إن قُرنت بـ "مِنْ" كانت للمذكَّر، والمؤنث، والاثنين، والجمع، بلفظ واحد، وإن لم تقترن بـ "مِنْ"، وعرَّفتها
(1)
"لسان العرب" 6/ 325 - 326.
بالألف واللام ذُكِّرت، وأُنِّثت، وثُنِّيت، وجُمِعت، وإذا أضيفت: ساغ فيها الأمران؛ كما جاء هنا: "أحاسنكم"، وكما قال تعالى:{أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} [الأنعام: 123]، وقد قال تعالى:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96]، وقد رُوي هذا الحديث:"أحسنكم" موحَّدًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وحُسْن الخُلُق: اختيار الفضائل، وترك الرذائل، وقد أخرج أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"، وأخرجه البزار من هذا الوجه بلفظ:"مكارم" بدل "صالح"، وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" بإسناد حسن، عن صفية بنت حُيَيّ قالت:"ما رأيت أحدًا أحسن خُلُقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وعند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها:"كان خُلُقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه". انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"الأخلاق": جمع خُلُق، وهي عبارة عن أوصاف الإنسان التي بها يعامِل غيره، ويخالطه، وهي منقسمة: إلى محمود ومذموم، فالمحمود منها: صفات الأنبياء، والأولياء، والفضلاء؛ كالصبر عند المكاره، والحِلم عند الجفاء، وتحمّل الأذى، والإحسان للنَّاس، والتودُّد لهم، والمسارعة في حوائجهم، والرحمة، والشفقة، واللطف في المجادلة، والتثبّت في الأمور، ومجانبة المفاسد والشرور.
وعلى الجملة: فاعتدالها أن تكون مع غيرك على نفسك، فتُنصف منها، ولا تنتصف لها، فتعفو عمن ظَلَمك، وتعطي مَن حَرَمك، والمذموم منها: نقيض ذلك كله.
وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم بزيادة حسنة، فقال:"خياركم أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يَأْلَفُون، ويُؤلَفُون، ولا خير فيمن لا يألف، ولا يُؤلف"
(3)
، فهذه الخُلُق، وهؤلاء المتخلِّقون.
(1)
"المفهم" 6/ 116.
(2)
"الفتح" 8/ 216، كتاب "المناقب" رقم (3559).
(3)
قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 8/ 21: رواه الطبراني في "الصغير"، و"الأوسط"، وفيه صالح بن بشير المريّ، وهو ضعيف. انتهى.=
قال: وقد قدَّمنا في غير موضع: أن أصل الخُلُق جِبِلَّة في نوع الإنسان، غير أن الناس في ذلك متفاوتون، فمن الناس من يغلب عليه بعضها، ويقف عن بعضها، وهذا هو المأمور بالرِّياضة، والمجاهدة، حتى يقوى ضعيفها، ويعتدل شاذُّها، كما هو مفصّل في كتب الرياضات. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ عُثْمَانُ: حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ) أراد به بيان اختلاف شيخيه: زهير ابن حرب، وعثمان بن أبي شيبة، فقال عثمان:"حين قَدِم -أي: عبد الله بن عمرو- مع معاوية إلى الكوفة"، بدل قول زهير:"حين قَدِم معاوية إلى الكوفة"، ومآل معنى الروايتين واحد، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6015 و 6016](2321)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3559 و 3579) و"الأدب"(6029 و 6035) وفي "الأدب المفرد"(271)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1975)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2246)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 514)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 161 و 193)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(477 و 6442)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 395)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 365)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(6/ 233) و"دلائل النبوّة"(1/ 313 - 314)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3666)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من حُسْن الخلُق، والبُعد عن الفحش خلُقًا، أو تصنّعًا، فينبغي للمسلم أن يحرص على تحقيق هذا الخلُق بقدر استطاعته، وبالله تعالى التوفيق.
= وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله، راجع:"الصحيحة" 2/ 378.
(1)
"المفهم" 6/ 116 - 117.
2 -
(ومنها): الحثّ على حُسن الخُلُق، وبيان فضيلة صاحبه، وهو صفة أنبياء الله تعالى، وأوليائه، قال الحسن البصريّ رحمه الله: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكَفّ الأذى، وطلاقة الوجه، وقال القاضي عياض رحمه الله: هو مخالطة الناس بالجميل، والْبِشْر، والتودّد لهم، والإشفاق عليهم، واحتمالهم، والحلم عنهم، والصبر عليهم في المكاره، وترك الكِبْر، والاستطالة عليهم، ومجانبة الغِلَظ، والغضب، والمؤاخذة.
قال: وحَكَى الطبريّ خلافًا للسلف في حسن الخلق، هل هو غريزة، أم مكتسب؟ قال القاضي: والصحيح أن منه ما هو غريزةٌ، ومنه ما يُكتسب بالتخلّق، والاقتداء بغيره، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6016]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ -يَعْني: الأَحْمَرَ- كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"أبو سعيد الأشجّ" هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الكِنْديّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ)؛ يعني: كلّ هؤلاء الأربعة، وهم: أبو معاوية، ووكيع، وعبد الله بن نُمير، وأبو خالد الأحمر رووا هذا الحديث عن الأعمش بالإسناد المذكور قبله؛ أي: عن شقيق، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 78 - 79.
(2417)
- حدّثنا يوسف بن موسى، قال: أخبرنا جرير، وأبو معاوية -واللفظ لأبي معاوية- عن الأعمش، عن شقيق بن سلمة، عن مسروق، قال: دخلنا على عبد الله بن عمرو حين قَدِم مع معاوية إلى الكوفة، فذكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ من خياركم أحاسنَكُم أخلاقًا". انتهى
(1)
.
ورواية عبد الله بن نُمير عن الأعمش ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(20573)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان، ثنا عبد الله بن نُمير، عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا، وإنه كان يقول:"إنّ خياركم أحاسنُكُم أخلاقًا". انتهى
(2)
.
وأما روايتا وكيع، وأبي خالد الأحمر، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(17) - (بَابُ تبسُّمِهِ صلى الله عليه وسلم، وَحُسْنِ عِشْرَتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6017]
(2322) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ، وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّة، فَيَضْحَكُونَ، وَيَتبَسَّمُ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"مسند البزار" 6/ 395.
(2)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 192.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُديج، الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 2 أو 3 أو 174)، وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ الكوفيّ، أبو المغيرة، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وقد تغير بأَخَرَةٍ، فكان ربما تلَقَّن [4](ت 123)(خت م) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
4 -
(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة -بضم الجيم، بعدها نون- السُّوَائيّ الصحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (471) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل الكوفة؛ للأخذ من أهلها.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) أنه (قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَال: نَعَمْ)؛ أي: كنت أجالسه، وقوله:(كَثِيرًا) نعتٌ لمصدر محذوف؛ أي: جلوسًا كثيرًا، أو منصوب على الظرفيّة، والأصل وقتًا كثيرًا. (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ)؛ أي: من المكان (الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ) بضمّ اللام، من باب قَعَدَ، (الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ) من مصلّاه، (وَكَانُوا)؛ أي: الصحابة الذين كانوا معه في ذلك الوقت، (يَتَحَدَّثُونَ، فَيَأْخُذُونَ)؛ أي: يشرعون (فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) وفي رواية النسائيّ: "يذكرون حديث الجاهليّة"؛ أي: يذكرون الأعمال التي كانوا يعملونها في أيام كونهم غير مسلمين؛ استقباحًا لها، وشُكرًا لِمَا هداهم الله سبحانه وتعالى إليه من الدين الحنيف، وأبدلهم بالسيّئة الحسنة، فله الحمد والمنّة. (فَيَضْحَكُونَ) تعجّبًا مما سلف لهم في تلك الأيام مما هو مخالف للدين والعقل، (وَيَتَبَسَّمُ صلى الله عليه وسلم) والتبسّم دون
الضحك، يقال: بَسَمَ بَسْمًا، من باب ضرب، وابتسم، وتبسّم: ضحك قليلًا من غير صوت
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب الذكر بعد الصبح، وملازمة مجلسها، ما لم يكن عذر، قال القاضي عياض: هذه سُنَّة كان السلف، وأهل العلم يفعلونها، ويقتصرون في ذلك الوقت على الذكر والدعاء، حتى تطلع الشمس، وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها، من الأمم، وجواز الضحك، والأفضل الاقتصار على التبسم، كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته، قالوا: ويكره إكثار الضحك، وهو في أهل المراتب والعلم أقبح. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب المساجد ومواضع الصلاة"[53/ 1526](670)، وقد استوفيت تمام شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(18) - (بَابٌ فِي رَحْمَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلنِّسَاء، وَأَمْرِ سَوَّاقِ مَطَايَاهُنَّ بِالرِّفْقِ بِهِنَّ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6018]
(2323) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كامِلٍ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَغُلَامٌ أَسْوَدُ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ يَحْدُو، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ، سَوْقًا
(3)
بِالْقَوَارِيرِ").
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 49.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 79.
(3)
وفي نسخة: "سوقك".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، قال العجليّ: فيه نَصْبٌ يسيرٌ [3] مات بالشام هاربًا من القضاء سنة أربع ومائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الْعَتَكيّ، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسن الْجَحْدريّ، و"أيوب" هو: السختيانيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير قُتيبة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) قال صاحب "التنبيه"
(1)
: هذه السفرة هي حجة الوداع، كما رأيته أنا في "مسند أحمد"
(2)
.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 397.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أنه أراد ما أخرجه أحمد في "مسنده" 6/ 337 قال:
(26908)
- حدّثنا عبد الرزاق، قال: ثنا جعفر بن سليمان، عن ثابت، قال: حدّثتني شميسة، أو سمية -قال عبد الرزاق: هو في كتابي: سمينة- عن صفية بنت حيي: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حج بنسائه، فلما كان في بعض الطريق نزل رجل، فساق بهنّ، فأسرع، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم كذاك:"سوقك بالقوارير" -يعني: النساء- فبينا هم يسيرون بَرَك بصفية بنت حيي جملها، وكانت من أحسنهن ظهرًا، فبكت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُخبر بذلك، فجعل يمسح دموعها بيده، وجعلت تزداد بكاء، وهو ينهاها، فلما أكثرت زبرها، وانتهرها، وأمر الناس بالنزول، فنزلوا، ولم يكن يريد أن ينزل، قالت: فنزلوا، وكان يومي، فلما نزلوا ضُرب خباء النبيّ صلى الله عليه وسلم، =
قال الجامع عفا الله عنه: حديث "المسند" فيه ضعف، وليس صريحًا في كون الحادي هو أنجشة، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(وَغُلَامٌ أَسْوَدُ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ يَحْدُو) وفي رواية أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان له حادٍ جَيِّد الْحُداء، وكان حاديَ الرجال، وكان أنجشة يَحدو بأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما حدا أعنقت الإبل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ويحك يا أنجشةُ رُويدًا سوقك بالقوارير"
(1)
.
وفي رواية له: عن أنس بن مالك: أن البراء بن مالك كان يَحْدُو بالرجال، وأنجشة يحدو بالنساء، وكان حسن الصوت، فحدا، فأعنقت الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أنجشة رُويدًا سوقَك بالقوارير". انتهى
(2)
.
= ودخل فيه، قالت: فلم أدر علام أُهْجَم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن يكون في نفسه شيء مني، فانطلقت إلى عائشة، فقلت لها: تعلمين أني لم أكن أبيع يومي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أبدًا، وأني قد وهبت يومي لك على أن تُرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عني، قالت: نعم، قال: فأخذت عائشة خمارًا لها، قد ثردته بزعفران، فرشته بالماء، ليذكى ريحه، ثم لبست ثيابها، ثم انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت طرف الخباء، فقال لها:"ما لك يا عائشة؟ إن هذا ليس بيومك" قالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فقال مع أهله، فلما كان عند الرواح، قال لزينب بنت جحش:"يا زينب أفقري أختك صفية جملًا"، وكانت من أكثرهن ظهرًا، فقالت: أنا أُفقر يهوديتك، فغضب النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك منها، فهجرها، فلم يكلمها حتى قَدِمَ مكة، وأيام منى في سفره حتى رجع إلى المدينة المحرم، وصفر، فلم يأتها، ولم يَقسِم لها، ويئست منه، فلما كان شهر ربيع الأول دخل عليها، فرأت ظله، فقالت: إن هذا لظل رجل، وما يدخل عليَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن هذا؟ فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما رأته قالت: يا رسول الله، ما أدري ما أصنع حين دخلت عليّ، قالت: وكانت لها جارية، وكانت تخبؤها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: فلانة لك، فمشى النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى سرير زينب، وكان قد رُفع، فوضعه بيده، ثم أصاب أهله، ورضي عنهم. انتهى.
قال محقّق "المسند": إسناده ضعيف؛ لجهالة سمية - أو شميسة.
(1)
"مسند أحمد بن حنبل" 3/ 285، وهو حديث صحيح.
(2)
"مسند أحمد بن حنبل" 3/ 254، وهو حديث صحيح.
[تنبيه]: قال في "الإصابة": أنجشة الأسود الحادي، كان حسن الصوت بالحداء، وقال البلاذريّ: كان حبشيًّا يُكنى أبا مارية، روى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: كان أنجشة يحدو بالنساء، وكان البراء بن مالك يحدو بالرجال، فإذا أعنقت الإبل، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أنجشةُ رُويدك سوقك بالقوارير"، ورواه الشيخان مختصرًا من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس، ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، ورواه مسلم من طريق سليمان بن طَرْخان التميميّ عن أنس، قال: كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم حَادٍ يقال له: أنجشة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رُويدًا سَوْقَك بالقوارير"، قال ابن منده: هو مشهور عن سليمان، ومن طريق أبي قلابة، عن أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وغلام أسود، يقال له: أنجشة يحدو، ومن طريق قتادة، عن أنس: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حادٍ حسن الصوت، وروى النسائيّ من طريق زهير، عن سليمان التيميّ، عن أنس، عن أمه، أنها كانت مع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسَوّاق يسوق بهنّ، فذكره، ووقع في حديث واثلة بن الأسقع أن أنجشة كان من المخنثين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج الطبراني بسند لَيِّن من طريق عنبسة بن سعيد، عن حماد مولى بني أمية، عن جناح، عن واثلة بن الأسقع، قال: لَعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين، وقال:"أخرجوهم من بيوتكم"، وأخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم أنجشة، وأخرج عمر فلانًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَحْدُو) يقال: حَدَوتُ الإبلَ أحدُو حَدْوًا: حثثتها على السير بالْحُداء، مثلُ غُرَابٍ، وهو الْغِنَاءُ لها، وحدوته على كذا: بَعَثته عليه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية سليمان التيميّ:"رويدًا"، وفي رواية شعبة:"ارْفُقْ"، ووقع في رواية حميد:"رُويدك ارفُق"، جَمَع بينهما، وأخرجه الحارث عن عبد الله بن
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 119.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 125.
بكر عن حميد، فقال:"كذلك سوقك"، وهي بمعنى: كفاك.
قال عياض: قوله: "رويدًا" منصوب على أنه صفة لمحذوف دلّ عليه اللفظ؛ أي: سُقْ سَوْقًا رُوَيدًا، أو احْدُ حَدْوًا رُويدًا، أو على المصدر؛ أي: ارْوِدْ رُويدًا، مثل ارفُق رِفْقًا، أو على الحال؛ أي: سِرْ رُويدًا، أو رويدك منصوب على الإغراء، أو مفعول بفعل مضمر؛ أي: الْزَم رفقك، أو على المصدر؛ أي: ارْوِدْ رُويدك.
وقال الراغب: "رُوَيْدًا" من أرود يُرْوِد؛ كأمهل يُمْهِل، وزنه ومعناه، وهو من الرَّوْد بفتح الراء، وسكون ثانية، وهو التردّد في طلب الشيء برفق، راد، وارتاد، والرائد طالب الكلأ، ورادت المرأة تُرود: إذا مشت على هينتها.
وقال الرامهرمزيّ: "رُويدًا" تصغير رَوْد، وهو مصدر فعل الرائد، وهو المبعوث في طلب الشيء، ولم يستعمل في معنى المهملة إلا مُصَغَّرًا، قال: وذكر صاحب "العين" أنه إذا أريد به معنى الترويد في الوعيد لم ينوّن.
وقال السهيليّ: قوله: "رُويدًا"؛ أي: ارفق، جاء بلفظ التصغير؛ لأن المراد التقليل؛ أي: ارفق قليلًا، وقد يكون من تصغير المرخم، وهو أن يصغر الاسم بعد حذف الزوائد، كما قالوا في أسود: سُوَيد، فكذا في أرود رويد.
وقوله: (سَوْقَكَ) وفي بعض النسخ: "سَوْقًا"، وقال في "الفتح": قوله: "سوقك" كذا للأكثر، وفي رواية حميد:"سيرك" وهو بالنصب على نزع الخافض؛ أي: ارفُق في سوقك، أو سُقْهنّ كسوقك.
وقال القرطبيّ في "المفهم"
(1)
: "رُويدًا"؛ أي: ارفق، و"سوقك" مفعول به، ووقع في رواية مسلم:"سَوْقًا"، وكذا للإسماعيلي في رواية شعبة، وهو منصوب على الإغراء بقوله: ارفق سوقًا، أو على المصدر؛ أي: سُقْ سَوْقًا.
وقال ابن الصائغ المتأخر: "رويدك" إما مصدر، والكاف في محل خفض، وإما اسم فعل، والكاف حرف خطاب، و"سوقك" بالنصب على الوجهين، والمراد به: حَدْوَكَ؛ إطلاقًا لاسم المسبَّب على السبب.
وقال ابن مالك
(2)
: "رويدك" اسم فعل بمعنى: أَرْوِدْ؛ أي: أمهل،
(1)
"المفهم" 6/ 133.
(2)
"شواهد التوضيح" ص 259.
والكاف المتصلة به حرف خطاب، وفتحة داله بنائية، ولك أن تجعل "رويدك" مصدرًا مضافًا إلى الكاف، ناصبها "سوقك"، وفتحة داله على هذا إعرابية.
وقال أبو البقاء
(1)
: الوجه النصب برُويدًا، والتقدير: أمهل سوقك، والكاف حرف خطاب، وليست اسمًا، ورُويدًا يتعدى إلى مفعول واحد. انتهى
(2)
.
وقوله: (بِالْقَوَارِيرِ) وفي رواية همّام، عن قتادة الآتية:"رُويدًا يا أنجشةُ، لا تكسر القوارير"؛ يعني: ضَعَفَة النساء، ولفظ البخاريّ:"قال قتادة: يعني: ضعفة النساء".
والقوارير: جمع قارورة، وهي الزجاجة، سُمِّيت بذلك؛ لاستقرار الشراب فيها، وقال الرامهرمزيّ: كَنَى عن النساء بالقوارير؛ لرقتهنّ، وضعفهنّ عن الحركة، والنساء يُشَبَّهن بالقوارير في الرقة، واللطافة، وضَعف البنية، وقيل: المعنى: سُقْهُنّ كسوقك القوارير، لو كانت محمولة على الإبل.
وقال غيره: شبههنّ بالقوارير؛ لسرعة انقلابهنّ عن الرضا، وقلة دوامهنّ على الوفاء؛ كالقوارير يُسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر، وقد استَعْمَلَت الشعراء ذلك، قال بشار [من البسيط]:
ارْفُقْ بِعَمْرٍو إِذَا حَرَّكْت نسْبَتَهُ
…
فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ قَوَارِيرِ
قال الخطابيّ
(3)
: كان أنجشة أسود، وكان في سوقه عُنْفٌ، فأمره أن يرفق بالمطايا، وقيل: كان حسن الصوت بالْحُداء، فكره أن تسمع النساء الحداء، فإنّ حُسن الصوت يحرك من النفوس، فشبَّه ضَعف عزائمهن، وسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في سرعة الكسر إليها.
وجزم ابن بطال بالأول، فقال: القوارير كناية عن النساء اللاتي كُنّ على الإبل التي تساق حينئذ، فأمر الحادي بالرفق في الحداء؛ لأنه يحثّ الإبل حتى تُسرع، فإذا أسرعت لم يُؤمَن على النساء السقوط، وإذا مشت رُويدًا أُمِن على
(1)
"إعراب الحديث النبويّ" ص 128، رقم (49)"مسند أنس".
(2)
"الفتح" 14/ 17 - 18، كتاب "الأدب" رقم (6149).
(3)
"الأعلام" 3/ 2203.
النساء السقوط، قال: وهذا من الاستعارة البديعة؛ لأن القوارير أسرع شيء تكسيرًا، فأفادت الكناية من الحضّ على الرفق بالنساء في السير ما لم تُفده الحقيقة، لو قال: ارْفُق بالنساء.
وقال الطيبيّ: هي استعارةٌ؛ لأن المشبَّه به غير مذكور، والقرينة حالية، لا مقالية، ولفظ الكسر ترشيح لها.
وجزم أبو عبيد الهرويّ بالثاني، وقال: شبه النساء بالقوارير؛ لضَعف عزائمهنّ، والقوارير يُسرع إليها الكسر، فخشي من سماعهن النشيد الذي يحدو به أن يقع بقلوبهن منه، فأمره بالكفّ، فشبّه عزائمهن بسرعة تأثير الصوت فيهن بالقوارير في إسراع الكسر إليه.
ورَجّح عياض هذا الثاني، فقال: هذا أشبه بمساق الكلام، وهو الذي يدلّ عليه كلام أبي قلابة، وإلا فلو عَبَّر عن السقوط بالكسر، لم يُعِبْه أحد.
وجوَّز القرطبي في "المفهم" الأمرين، فقال: شَبّههن بالقوارير؛ لسرعة تأثرهنّ، وعدم تجلدهنّ، فخاف عليهنّ من حث السير بسرعة السقوط، أو التألم من كثرة الحركة، والاضطراب الناشئ عن السرعة، أو خاف عليهن الفتنة من سماع النشيد.
قال الحافظ: والراجح عند البخاريّ الثاني، ولذلك أدخل هذا الحديث في باب المعاريض، ولو أُريدَ المعنى الأول، لم يكن في لفظ القوارير تعريض. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الوجه الأول هو الأظهر، والأرجح، والأقرب، ومما يقوّي ذلك أنه وقع في رواية أحمد ما لفظه:"فلما حدا أعنقت الإبل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ويحك. . ." الحديث، فتبيّن أن السبب هو إسراع الإبل، فخشي صلى الله عليه وسلم بذلك سقوطهنّ، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 14/ 17 - 20، كتاب "الأدب" رقم (6149).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6018 و 6019 و 6020 و 6021 و 6022 و 6023](2323)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6149 و 6161 و 6209 و 6210 و 6211)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 134 و 6135) وفي "عمل اليوم والليلة"(525)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 117 و 186 و 227)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 382)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 121)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 191 و 192 و 7/ 116 و 121)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5800 و 5801 و 5802 و 5803)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 227)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(13/ 157 - 158)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز الْحُدَاء، وهو بضم الحاء، ممدودًا: الغناء والترنّم بأراجيز في مواضعها، من سَوْق الإبل، وقطع الأسفار.
2 -
(ومنها): جواز إنشاد الرقيق من الشعر بالأصوات الحسنة.
3 -
(ومنها): بيان جواز السفر بالنساء.
4 -
(ومنها): بيان جواز استعمال المجاز.
5 -
(ومنها): مباعدة النساء من الرجال، ومن سماع كلامهم، إلا الوعظ ونحوه.
6 -
(ومنها): ما قال العلماء: سُمِّي النساء قوارير؛ لضعف عزائمهن، تشبيهًا بقارورة الزجاج؛ لِضَعفها، وإسراع الانكسار إليها.
قال النوويّ: واختُلِف في المراد بتسميتهن قوارير على قولين، ذكرهما القاضي وغيره، أصحهما عند القاضي، وآخرين، وهو الذي جزم به الهرويّ، وصاحب "التحرير"، وآخرون: أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت، وكان يحدو بهنّ، ويُنشد شيئًا من القريض، والرجز، وما فيه تشبيب، فلم يأمَن أن يفتنهن، ويقع في قلوبهن حداؤه، فأمره بالكفّ عن ذلك. ومن أمثالهم المشهورة: الغِنَا رُقية الزنى، قال القاضي، هذا أشبه بمقصوده صلى الله عليه وسلم، وبمقتضى اللفظ، قال: وهو الذي يدلّ عليه كلام أبي قلابة المذكور في هذا الحديث في مسلم.
والقول الثاني: أن المراد به الرفق في السير؛ لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي، واستلذَّته، فأزعجت الراكب، وأتعبته، فنهاه عن ذلك؛ لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة، ويخاف ضررهنّ، وسقوطهن. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن الأرجح عندي هو القول الثاني، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6019]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنَسٍ بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، تقدّم قبل بابين.
والباقون كلهم ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (472) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد عن ثابت هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، مقرونة بروايته عن أيوب الماضية، فقال:
(5857)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد، عن ثابت، عن أنس، وأيوبَ، عن أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وكان غلام يحدو بهنّ، يقال له: أنجشة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رُويدك يا أنجشةُ، سوقَك بالقوارير"، قال أبو قلابة: يعني: النساء. انتهى
(2)
.
وساقها أيضًا أحمد رحمه الله في "مسنده" منفردة بسند المصنّف، فقال:
(13695)
- حدثنا أبو كامل، ثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك، أن البراء بن مالك كان يَحدو بالرجال، وأنجشة يحدو بالنساء، وكان حَسَن الصوت، فحدا، فأعنقت الإبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أنجشةُ رُويدًا سوقَك بالقوارير". انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 81.
(2)
"صحيح البخاري" 5/ 2294.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6020]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أتى عَلَى أَزْوَاجِهِ، وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ، يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ"، قَالَ: قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ، لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى أَزْوَاجِهِ) هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان متأخّر المسير عنهنّ، وتقدّمن عليه.
وقوله: (وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ بِهِنَّ) جملة حاليّة، و"السّوّاق" بفتح السين المهملة، وتشديد الواو صيغة مبالغة من السوق.
وقوله: (وَيْحَكَ) قال النوويّ: هكذا وقع في مسلم، ووقع في غيره:"ويلك"، قال القاضي عياض: قال سيبويه: "ويل" كلمة تقال لمن وقع في هلكة، و"ويح" زَجْر لمن أشرف على الوقوع في هلكة، وقال الفراء:"ويل"، و"ويح"، و"ويس" بمعنًى، وقيل:"ويح" كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها؛ يعني: في عُرفنا، فَيُرْثَى له، ويُتَرَحَّم عليه، و"ويل" ضدّه، قال القاضي: قال بعض أهل اللغة: لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء، وإنما يراد بها المدح والتعجب. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَا أَنْجَشَةُ) بهمزة مفتوحة، وإسكان النون، وبالجيم، وبشين معجمة.
وقوله: (رُويدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ) قال النوويّ رحمه الله: أما "رويدك" فمنصوب على الصفة بمصدر محذوف؛ أي: "سُقْ سَوْقًا رُويدًا"، ومعناه الأمر بالرفق بهنّ، و"سَوْقَك" منصوب بإسقاط الجارّ؛ أي: ارْفُقْ في سوقك بالقوارير.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 288، و"شرح النوويّ" 15/ 81.
وقوله: (قَالَ)؛ أي: أيوب (قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ، لَوْ تَكَلَّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا) بكسر العين المهملة، من باب عاب، (عَلَيْهِ)؛ أي: على المتكلّم بها، قال الداوديّ: هذا قاله أبو قلابة لأهل العراق لِمَا كان عندهم من التكلف، ومعارضة الحقّ بالباطل.
وقال الكرمانيّ: لعله نظر إلى أن شرط الاستعارة أن يكون وجه الشبه جليًّا، وليس بين القارورة والمرأة وجهٌ للتشبيه من حيث ذاتهما ظاهرٌ، لكن الحقّ أنه كلام في غاية الحُسن، والسلامة عن العيب، ولا يلزم في الاستعارة أن يكون جلاء وجه الشبه من حيث ذاتهما، بل يكفي الجلاء الحاصل من القرائن الحاصلة، وهو هنا كذلك.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون قَصْدُ أبي قلابة أن هذه الاستعارة تُحْسِن من مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغة، ولو صدرت من غيره ممن لا بلاغة له لَعِبْتُموها، قال: وهذا هو اللائق بمنصب أبي قلابة.
قال الحافظ: وليس ما قاله الداوديّ بعيدًا، ولكن المراد من كان يتنطع في العبارة، ويتجنب الألفاظ التي تشتمل على شيء من الهزل، وقريب من ذلك قول شداد بن أوس الصحابيّ لغلامه: ائتنا بسُفْرة نعبث بها، فأُنكِرت عليه، أخرجه أحمد، والطبرانيّ، ذكره في "الفتح"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6021]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُنَّ يَسُوقُ
(2)
بِهِنَّ سَوَّاقٌ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَيْ أَنْجَشَةُ، رُوَيْدًا سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ").
(1)
"الفتح" 14/ 19، كتاب "الأدب" رقم (6149).
(2)
وفي نسخة: "وهو يسوق".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) -بتقديم الزاي، مصغرًا- البصريّ، أبو معاوية العيشيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، تقدّم قريبًا، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين الْجَحْدريّ، و"التيميّ" هو: سليمان المذكور قبله.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: هذان الإسنادان من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهما (473 و 474) من رباعيّات الكتاب. وقوله:(كَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مَعَ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أمّ سليم هي والدة أنس رضي الله عنهما، وهي بنت مِلْحان بن خالد الأنصاريّة، يقال: اسمها سهلة، أو رُميلة، أو رُميثة، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716.
ولفظ البخاريّ: "ومعهنّ أم سُليم"، قال في "الفتح": قوله: "ومعهنّ أم سليم"، في رواية حميد، عن أنس عند الحارث:"وكان يحدو بأمهات المؤمنين، ونسائهم"، وفي رواية وُهيب، عن أيوب عند البخاريّ:"كانت أمّ سليم في الثَّقَل"، وفي رواية سليمان التيميّ عن أنس، عند مسلم:"كانت أم سليم مع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم"، أخرجه من طريق يزيد بن زريع عنه، وأخرجه النسائيّ من طريق زهير، والرامهرمزيّ في "الأمثال" من طريق حماد بن مَسْعَدة، كلاهما عن سليمان، فقال: عن أنس، عن أم سليم، جعله من مسند أم سليم، والأول هو المحفوظ.
وحَكَى عياض
(1)
أن في رواية السمرقنديّ في مسلم: "أم سلمة" بدل "أم سليم". قال: وقوله في الرواية الأخرى: "مع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم " يُقَوِّي أنها ليست من نسائه، قال الحافظ: وتضافر الروايات على أنها أم سليم يَقضي بأن قوله: "أم سلمة" تصحيف. انتهى
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 289.
(2)
"الفتح" 14/ 17، كتاب "الأدب" رقم (6149).
وقوله: (وَهُنَّ يَسُوقُ بِهِنَّ سَوَّاقٌ) جملة حاليّة، ووقع في بعض النسخ:"وهو يسوق بهنّ سَوّاقٌ"، فيكون "هو" ضمير الشأن، وهو مبتدأ، خبره الجملة بعده، وهي المفسّرة له، والجملة أيضًا حال.
وقوله: (أَيْ أَنْجَشَةُ)"أي" حرف نداء للقريب، أو للأوسط، أو للبعيد، خلاف بين النحاة، وقلت في "التحفة المرضيّة"، مشيرًا إلى هذا الخلاف:
"أيْ" لِنِدَا الأَوْسَطِ أَو ذِي الْقُرْبِ أَو
…
ذِي الْبُعْدِ وَالتَّفْسِيرَ أَيْضًا قَدْ رَأَوْا
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6022]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَادٍ حَسَنُ الصَّوْتِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (رُوَيْدًا يَا أَنْجَشَةُ لَا تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ"؛ يَعْني: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد التّنّوريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ -بفتح العين المهملة، وسكون الواو، بعدها ذال معجمة- أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ رُبّما وَهِمَ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"ابن المثنّى" هو: محمد بن المثنّى، أبو موسى الْعَنَزيّ.
وقوله: (حَادٍ) اسم فاعل من حَدَا يَحْدُو، قال القاضي عياضٌ:"حادٍ" مثلُ رَامٍ، وحِداءٌ ممدودًا، مثل سِقاءٍ
(1)
، ونزل يحدو، الْحَدْوُ هنا: غِناءُ سَوّاق الإبل، وزَجْره بها، وأصله الاتّباع، حَدا يَحدُو: إذا اتَّبَع شيئًا. انتهى
(2)
.
(1)
سيأتي عن "التاج" أنه بالضمّ والكسر؛ كغُرابٍ، وكِتاب، فتنبّه.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 184.
وقال في "التاج": حَدَا الإبل، وحَدَا بها حَدْوًا، بالفتح، وحُدَاءً؛ كغُرَابٍ، وحِدَاءً؛ ككِتَاب: زَجَرَها، وساقها، وقال الجوهريّ: الْحَدْو: سَوْقُ الإبل، والغِناءُ لها. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَعْنِي: ضَعَفَةَ النِّسَاءِ) هذا من قول قتادة، ولفظ البخاريّ:"قال قتادة: يعني: ضعفة النساء".
والحديث متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6023]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ: حَادٍ حَسَنُ الصَّوْتِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ غَلِط في أحاديث [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(10360)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا معاذ بن هشام، حدّثني أبي، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَتَى على أنجشة، وهو يسوق بنسائه، فقال:"رُويدك سوقَكَ، ولا يكسر القوارير". انتهى
(2)
.
(1)
"تاج العروس" 1/ 8339.
(2)
"السُّنن الكبرى" 6/ 134.
(19) - (بَابُ قُرْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ النَّاسِ، وَتبَرُّكِهِمْ بِه، وَتَوَاضُعِهِ لَهُمْ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6024]
(2324) - (حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي النَّضْرِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ -يَعْنِي: هَاشِمَ بْنَ الْقَاسِمِ- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ، فِيهَا الْمَاءُ، فَمَا يُؤْتَى بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيه، فَرُبَّمَا جَاءُوهُ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ، فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِيهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى) الْخُوَارِزْميّ، وهو الْخُتّليّ -بضم المعجمة، وتشديد المثناة المفتوحة- أبو عليّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 244) وله ست وثمانون سنةً (م 4) تقدم في "الرَّضاع" 14/ 3630.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) البغداديّ، وقد يُنسَب لجدّه، اسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال -بالمهملة- البزاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
4 -
(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه: قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من سليمان، والباقون بغداديّون، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ)؛ أي: صلاة الغداة، وهي صلاة الصبح، (جَاءَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ)؛ أي: خَدَم أهل المدينة، وهو بفتحتين: جمع خادم، أو خادمة، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدِمُهُ، وَيخْدُمه، من بابي ضرب، ونصر، خِدْمَةً بالكسر، وتُفتح، فهو خادمٌ غُلامًا كان أو جاريةً، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنّث قليلٌ، والجمع: خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَدًا، ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى: ستصير كذلك، كما يقال: حائضةٌ غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل؛ للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يَخْدُمني، أو جعلته كذلك. انتهى
(1)
.
(بِآنِيَتِهِمْ) جمع إناء، متعلّق بـ "جاء"، (فِيهَا)؛ أي: في تلك الآنية، (الْمَاءُ) ليغمس فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم يده، فيتبرّكوا به. (فَمَا يُؤْتَى)"ما" نافية، والفعل مبنيّ للمفعول؛ أي: ما يؤتى النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِإِنَاءٍ إِلَّا غَمَسَ يَدَهُ فِيهِ)؛ أي: في ذلك الإناء، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"فيها" بالتأنيث، والظاهر أنه غلط، بخلاف ما يأتي فإنه للغداة، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم. (فَرُبَّمَا جَاءُوهُ)؛ أي: جاؤوه صلى الله عليه وسلم بماء في الإناء (فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ، فَيَغْمِسُ يَدَهُ) في الإناء (فِيهَا)؛ أي: في تلك الغداة الباردة، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 165، بزيادة من "القاموس المحيط" ص 354.
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6024](2324)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 137)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 380)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 154)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب.
2 -
(ومنها): بيان بروزه صلى الله عليه وسلم للناس، وقُربه منهم؛ لِيَصِلَ أهل الحقوق إلى حقوقهم، ويُرشد مسترشدهم؛ ليشاهدوا أفعاله، وحركاته، فَيُقتَدَى بها وهكذا ينبغي لولاة الأمور.
3 -
(ومنها): بيان صبره صلى الله عليه وسلم على المشقة في نفسه؛ لمصلحة المسلمين، وإجابته من سأله حاجةً، أو تبريكًا بمسّ يده، وإدخالها في الماء، كما ذكروا.
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: موافقة النبيّ صلى الله عليه وسلم لمن يطلب منه غمس يده في الماء، وللجارية التي كلَّمته: دليل على كمال حُسن خُلُقه وتواضعه، واسعافٌ منه لمن طلب منه ما يجوز طلبه، وإن شقّ ذلك عليه، وليحصل لهم أجرٌ على نيَّاتهم، وبركة في أطعماتهم، وقضاء حاجاتهم، وقد كانت الأَمَة تأخذ بيده فتنطلق به حيث شاءت من المدينة، وهذا كمالٌ لا يعرفه إلا الذي خصَّه به. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): بيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه، من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم، وتبركهم بإدخال يده الكريمة في الآنية، وتبركهم بشَعره الكريم، وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد رجل سَبَق إليه.
وأما التبرّك بآثار الصالحين، وإنْ ذَكَره النوويّ وغيره، فيحتاج إلى دليل، فإن الصحابة رضي الله عنهم ما كانوا يتبرّكون بالخلفاء الراشدين، وكذا لم يثبت عن أحد من التابعين أنهم تبرّكوا ببزاق الصحابة، ولا بشعورهم، ولا بنخامتهم، وكلّ ذلك لم يثبت إلا في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد تبرّكوا بنخامته صلى الله عليه وسلم، وشَعْره، وعَرَقه،
(1)
المراد فوائد هذا الحديث، والأحاديث بعده، فتنبّه.
(2)
"المفهم" 6/ 112 - 113.
وقد شرب بعضهم دمه، وبعضهم بوله، ولم يفعلوا شيئًا من ذلك مع أبي بكر الصدّيق، ولا مع بقيّة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"عليكم بسنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة"، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): بيان تواضعه صلى الله عليه وسلم بوقوفه مع المرأة الضعيفة، كما في الحديث الآتي.
7 -
(ومنها): طهارة الماء المستعمَل، وأنه طَهور أيضًا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6025]
(2325) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ، وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ، فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) الْقُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا قبله، و"أبو النضر" هو: هاشم بن القاسم، و"سليمان" هو: ابن طرخان التيميّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالبصريين من سليمان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَلَّاقُ يَحْلِقُهُ) جملة حاليّة من "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وكذا قوله:(وَأَطَافَ)؛ أي: أحاط (بهِ) صلى الله عليه وسلم (أَصْحَابُهُ) رضي الله عنهم؛ ليأخذوا ما يتساقط من شعره صلى الله عليه وسلم؛ تبرّكًا، (فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلَّا فِي يَدِ رَجُلٍ)؛ يعني: أنهم يتسابقون فيها، ويتنافسون، فلا تقع شعرة على الأرض، بل تسَقط في يد رجل منهم، وفيه التبرّك بشَعْره صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا طهارة شعر الآدميّ.
وهذا مثل ما وقع في قصّة الحديبية من حديث عروة، عن المسور، ومروان:"خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم زمن حديبية. . ."، فذكر الحديث، وفيه:"وما تنخّم النبيّ صلى الله عليه وسلم نُخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجلده".
وفي حديث أبي جحيفة رضي الله عنه: "ورأيت بلالًا أخذ وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلم، والناس يبتدرون الوَضُوء، فمن أصاب منه شيئًا تمسَّح به، ومن لم يُصِبْ منه شيئًا أخذ من بلل يد صاحبه".
وقال عروة بن مسعود لقريش لمّا تفاوض معه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وشاهد تعظيم أصحابه صلى الله عليه وسلم له، فقال:"أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر، وكسرى، والنجاشيّ، والله إن رأيت ملكًا قط يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمدًا، والله إنْ تنخّم نُخامة إلا وقعت في كفّ رجل منهم، فدلك بها وجهه، وجِلْده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضُوئه، وإذا تكلم خَفَضُوا أصواتهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيمًا له"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6025](2325)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 133 و 137)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 380)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 275)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 430 و 2/ 181)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 68)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6026]
(2326) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: "يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"، فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه حماد بن سلمة أثبت من روى عن ثابت، وثابت ألزم من روى عن أنس رضي الله عنه، يقال: لزمه أربعين سنةً، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأةً) قال صاحب "التنبيه": أظنّها أم زُفر
(1)
، قال الذهبيّ في "التجريد": أم زُفر كان بها جنون، ذُكرت في حديث مرسل. انتهى
(2)
. (كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ)؛ أي: من الجنون، (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أُمَّ فُلَانٍ انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ) بكسر السين المهملة، بعدها كافان: جمع سِكّة، مثلُ سِدْرة وسِدَر، وهي الزُّقاق، والسّكّة أيضًا الطريق المصطفّة من النخل، والسكّة أيضًا حديدة منقوشة تُطبع بها الدراهم، والدنانير
(3)
، ولا يناسب هذا المعنى هنا. (شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ"، فَخَلَا)؛ أي: انفرد صلى الله عليه وسلم (مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ)؛ أي: بعض طرق المدينة المسلوكة للناس ليقضي حاجتها، ويُفتيها في الخلوة، (حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا) فيه أن الخلوة بالمرأة الأجنبيّة إذا كانت في الطريق، والناس يُشاهدون جائز، وإنما يُنهى عنه إذا كانا في محل لا يراهما أحد، قال النوويّ رحمه الله: ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية، فإن هذا كان في ممر الناس، ومشاهدتهم إياه وإياها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها مما لا يُظهره
(4)
.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 398.
(2)
"التجريد" 2/ 320.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 282.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 83.
والحديث دليل على كمال حُسن خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد أخرج أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كانت الأمة من أهل المدينة، لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به في حاجتها
(1)
، وعلَّقه البخاريّ في "صحيحه" بصيغة الجزم.
وأخرج ابن ماجه من طريق عليّ بن زيد، عن أنس بن مالك، قال: إن كانت الأَمَة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت، من المدينة في حاجتها
(2)
، وعليّ بن زيد ضعيف، لكن يشهد له ما قبله
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6026](2326)، و (أبو داود) في "الأدب"(4819)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(324)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 98 و 285)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4527)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3472)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(1/ 331 - 332)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3672)، والله تعالى أعلم.
(20) - (بَابُ مُبَاعَدَتِهِ صلى الله عليه وسلم لِلآثَامِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنَ الْمُبَاحِ أَسْهَلَهُ، وَانْتِقَامِهِ للهِ عِنْدَ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6027]
(2327) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل " 3/ 98.
(2)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1398.
(3)
ولذا صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ عز وجل).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلِّها: مالكٌ عن نافع، عن ابن عمر [7](179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الفقيه المدنيّ، تقدّم قبل بابين.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين سوى شيخيه، فالأول بغلانيّ، والثاني نيسابوريّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وعروة من الفقهاء السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: مَا) نافية، (خُيِّرَ) بالبناء للمفعول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ)؛ أي: من أمور الدنيا، يدلّ عليه قوله:"ما لم يكن إثمًا"؛ لأن أمور الدين لا إثم فيها، وأُبهم فاعل "خُيِّرَ" ليكون أعمّ من أن يكون من قِبَل الله، أو من قِبَل المخلوقين. (إلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا)؛ أي: أسهلهما، (مَا لَمْ يَكنْ إِثْمًا)؛ أي: ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم، فإنه حينئذ يختار الأشَدّ، وفي حديث أنس عند الطبرانيّ في "الأوسط":"إلا اختار أيْسَرَهما ما لم يكن لله فيه سُخْطٌ"، ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه
من قِبَل المخلوقين واضح، وأما من قِبَل الله تعالى ففيه إشكال؛ لأن التخيير إنما يكون بين جائزين، لكن إذا حَمَلناه على ما يُفضي إلى الإثم أمكن ذلك، بأن يخيّره بين أن يَفتح عليه من كنوز الأرض ما يخشى من الاشتغال به أن لا يتفرغ للعبادة مثلًا، وبين أن لا يؤتيه من الدنيا إلا الكفاف، فيختار الكفاف، وإن كانت السعة أسهل منه، والإثم على هذا أمر نسبيّ لا يراد منه معنى الخطيئة؛ لثبوت العصمة صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن بطال: هذا التخيير ليس من الله؛ لأن الله لا يُخَيِّر رسوله بين أمرين: أحدهما إثم، إلا إن كان في الدِّين، وأحدهما يؤول إلى الإثم؛ كالغلوّ، فإنه مذموم، كما لو أوجب الإنسان على نفسه شيئًا شاقًّا من العبادة، فعجز عنه، ومن ثم نَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الترهب.
وقال ابن التين: المراد: التخيير في أمر الدنيا، وأما أمر الآخرة فكلما صَعُب كان أعظم ثوابًا. قال الحافظ: كذا قال، وما أشار إليه ابن بطال أولى، وأولى منهما أن ذلك في أمور الدنيا؛ لأن بعض أمورها قد يُفضي إلى الإثم كثيرًا، والأقرب أن فاعل التخيير: الآدميّ، وهو ظاهر، وأمثلته كثيرة، ولا سيما إذا صدر من الكافر. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما"؛ تعني: أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا خيَّره أحد في شيئين يجوز له فِعل كل واحد منهما، أو عُرضت عليه مصلحتان؛ مالَ للأيسر منهما، وترك الأثقل؛ أخذًا بالسُّهولة لنفسه، وتعليمًا لأمَّته، فإذا كان في أحد الشيئين إثم تَرَكه، وأخذ الآخر، وإن كان الأثقل.
وكونه صلى الله عليه وسلم سقط إلى الأرض لَمّا جَعَل إزاره على عنقه يدلّ على أن الله تعالى حفظه من صِغَره، وتولى تأديبه بنفسه، ولم يَكِله في شيء من ذلك لغيره، ولم يزل الله يفعل ذلك به حتى كَرِهَ له أحوال الجاهلية، وحماه عنها، حتى لم يَجْرِ عليه شيء منها، كلُّ ذلك لطفٌ به، وعطفٌ عليه، وجَمْع للمحاسن لديه. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 15/ 553، كتاب "الحدود" رقم (6786).
(2)
"المفهم" 6/ 118.
(فَإِنْ كَانَ) ذلك الأمر المخيّر فيه (إِثْمًا)؛ أي: مقتضيًا للإثم، (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك المخيّر به.
(وَمَا انْتَقَمَ)؛ أي: ما عاقب أحدًا على مكروه أتاه من قِبَله
(1)
. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ)؛ أي: خاصّة، فلا يَرِد أمره بقتل عقبة بن أبي مُعيط، وعبد الله بن خَطَل، وغيرهما، ممن كان يؤذيه؛ لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله، وقيل: أرادت أنه لا ينتقم إذا أوذي في غير السبب الذي يُخرج إلى الكفر، كما عفا عن الأعرابي الذي جفا في رفع صوته عليه، وعن الآخر الذي جَبَذَ بردائه حتى أثَّر في كتفه، (إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ) بالبناء للمفعول، يقال: انْتَهَك الرجلُ الْحُرْمةَ: تناولها بما لا يحِلّ
(2)
. (حُرْمَةُ اللهِ عز وجل)"الْحُرمة" بالضمّ: ما لا يحلّ انتهاكه، والمعنى: إلا أن تُرْتَكَب الأشياء التي حرّمها الله عز وجل.
وقال في "العمدة": قوله: "إلا أن تُنتهك" هذا الاستثناء منقطع؛ أي: لكن إذا انتُهِكَت حرمة الله انتَصَر لله تعالى، وانتَقَم ممن ارتَكَب ذلك. انتهى
(3)
.
وحَمَل الداوديّ عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما الْعِرْض فقد اقتصّ ممن نال منه، قال: واقتص ممن لَدّه في مرضه بعد نهيه عن ذلك، بأن أَمَر بلدِّهم، مع أنهم كانوا في ذلك تأولوا أنه إنما نهاهم عن عادة البشرية، من كراهة النفس للدواء، كذا قال.
وقد أخرج الحاكم هذا الحديث من طريق معمر، عن الزهريّ، بهذا الإسناد مطوّلًا، وأوله:"ما لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا بذكر -أي: بصريح- اسمه، ولا ضرب بيده شيئًا قطّ، إلا أن يَضْرِب بها في سبيل الله، ولا سُئل في شيء قط، فمنعه، إلا أن يُسأل مأثَمًا، ولا انتقم لنفسه من شيء، إلا أن تُنتهك حرمات الله، فيكون لله ينتقم. . ." الحديث.
وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أنس رضي الله عنه، وفيه: "وما انتَقَم
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 109.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 628.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 112.
لنفسه، إلا أن تُنتهَك حرمة الله، فإن انتُهِكت حرمةُ الله كان أشدّ الناس غضبًا لله"
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 6027 و 6028 و 6029 و 6030 و 6031](2327)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3560) و "الأدب"(6126 و 6853)، و"الحدود"(6786) وفي "الأدب المفرد"(1/ 104)، و (أبو داود) في "الأدب"(4785)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 181)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 293)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 346)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 333) و"الصغير"(2/ 78)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 366)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 670)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 41) و"شُعَب الإيمان"(6/ 275)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من اختياره أيسر الأمور، وأسهلها، ومباعدته للآثام، وعدم انتقامه لحظّ نفسه، إلا إن انتُهكت حرمة الله تعالى، فيكون أشدّ الناس غضبًا لذلك.
2 -
(ومنها): الحثّ على ترك الأخذ بالشيء العسر، والاقتناع باليسر، وترك الإلحاح فيما لا يَضْطَر إليه الإنسان.
3 -
(ومنها): أنه يؤخذ من ذلك الندب إلى الأخذ بالرُّخَص ما لم يَظهر الخطأ.
4 -
(ومنها): الحثّ على العفو إلا في حقوق الله تعالى.
5 -
(ومنها): الندب إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحل ذلك ما لم يُفض إلى ما هو أشدّ منه.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 216 - 217، كتاب "المناقب" رقم (3560).
6 -
(ومنها): أن فيه ترك الحكم للنفس، وإن كان الحاكم متمكنًا من ذلك، بحيث يؤمَن منه الحيف على المحكوم عليه، لكن لحسم المادة، والله أعلم.
7 -
(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ، ويندُب الأمراء، وسائر الحكام، والعلماء، إلى أنه ينبغي لكل واحد منهم أن يتجافى عن الانتقام لنفسه، تأسّيًا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا ينسى الفضل، والأخذ به في العفو عمن ظلمه.
قال: وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يقضي لنفسه، وأجمع الجمهور من الفقهاء على أن القاضي لا يقضي لمن لا تجوز له شهادته من بنيه وآبائه، قاله في "الاستذكار".
وقال في "التمهيد": وفي هذا الحديث دليلٌ على أن على العالِم أن يتجافى عن الانتقام لنفسه، ويعفو، ويأخذ بالفضل إن أحب أن يتأسى بنبيّه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يُطِق كلًّا فبعضًا، وكذلك السلطان. قال الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، قال المفسرون: كان خُلُقه ما قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199]. قال: وعلى العالم أن يغضب عند المنكر، ويغيّره إذا لم يكن لنفسه، وفي معنى هذا الحديث أن لا يقضي الإنسان لنفسه، ولا يحكم لها، ولا لمن في ولايته، وهذا ما لا خلاف فيه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): ما قاله أيضًا: في هذا الحديث دليل على أن الأخذ برخصة الله أَولى لذوي العلم والحجا، من الأخذ بالشدّة، فإن الله يحب أن تؤتى رُخَصه، كما يحب أن يُنتهَى عن محارمه، وتُجتنَب عزائمه. انتهى
(2)
.
وقال في "التمهيد": في هذا الحديث دليلٌ على أن المرء ينبغي له ترك ما عَسُر عليه من أمور الدنيا والآخرة، وترك الإلحاح فيه إذا لم يَضطَرّ إليه، والميل إلى اليسر أبدًا، فإن اليسر في الأمور كلها أحب إلى الله تعالى، وإلى
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 147 - 148.
(2)
"الاستذكار" 8/ 274 - 275.
رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} الآية [البقرة: 185]، وفي معنى هذا الأخذ برُخَص الله تعالى، ورُخَص رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ برخص العلماء، ما لم يكن القول خطأ بيّنًا. انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يصبر على جَهْل مَنْ جَهِل عليه، ويَحْتَمِل جفاءه، ويَصْفَح عمَّن آذاه في خاصة نفسه؛ كصَفْحه عمَّن قال: يا محمد اعْدِل، فإنَّ هذه قسمة ما أُرِيدَ بها وجه الله تعالى، وما عَدَلت منذ اليوم!، وكصَفْحه عن الذي جَبَذ رداءه عليه حتى شقَّه، وأثَّر في عنقه.
[فإنْ قيل]: فأذاه صلى الله عليه وسلم انتهاك حرمة من حُرَم الله تعالى، فكيف يترك الانتقام لله تعالى فيها؟ وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].
[فالجواب]: أنه صلى الله عليه وسلم ترك الانتقام مِمَّن آذاه استئلافًا، وتَرْكًا لما ينفِّر عن الدخول في دينه، كما قال صلى الله عليه وسلم لَمّا طلب عمر رضي الله عنه قتل عبد الله بن أُبيّ المنافق لَمّا قال:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} الآية [المنافقون: 8]: "دَعْهُ لا يتحدّث الناسُ أن محمَّدًا يقتل أصحابه"، متّفقٌ عليه ..
وقد قال مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عمَّن شتمه؛ مشيرًا إلى ما ذكرنا.
وإذا تقرّر هذا فمراد عائشة رضي الله عنها بقولها: "إلا أن تُنتهك حرمة الله": الحرمة التي لا ترجع لحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كحرمة الله، وحرمة محارمه، فإنَّه كان يقيم حدود الله على من انتهك شيئًا منها، ولا يعفو عنها، كما قال في حديث السَّارقة:"لو أن فاطمة سرقت لقطعت يدها"، متّفقٌ عليه.
قال القرطبيّ: لكن ينبغي أن يُفْهَم أن صَفْحه صلى الله عليه وسلم عمَّن آذاه كان مخصوصًا به، وبزمانه؛ لِمَا ذكرناه، وأما بعد ذلك فلا يُعفَى عنه بوجه.
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمع العلماء على أن من سَبَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كَفَرَ، واختلفوا: هل حُكْمه حُكْم المرتدّ يُستتاب؟ أو حُكم الزنديق لا يُستتاب؟
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 8/ 146.
وهل قَتْله للكفر، أو للحدِّ؟، فجمهورهم على أن حكمه حكم الزنديق، لا تُقبل توبته، وهو مشهور مذهب مالك، وقول الشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، ورأوا أن قَتْله للحدِّ، ولا ترفعه التوبة، لكن تنفعه عند الله تعالى، ولا يسقط حدّ القتل عنه.
وقال أبو حنيفة، والثوريّ: هي كفر، وردَّة، وتُقبل توبته إذا تاب، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك. قال: واختلفوا في الذمِّيّ إذا سبَّه بغير الوجه الذي به كُفِّر؛ فعامَّة العلماء على أنه يُقتل لحقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبو حنيفة، والثوريّ، والكوفيون: لا يرون قتله، قالوا: ما هو عليه من الكفر أشدّ.
قال: واختَلَف أهل المدينة، وأصحاب مالك في قَتْله إذا سبَّه بالوجه الذي به كُفِّرَ؛ من تكذيبه، وجَحْد نبوَّته؟ والأصح الأشهر قَتْله، واختلفوا في إسلام الكافر بعد سبِّه: هل يُسقط ذلك القتلَ عنه أم لا؟ والأشهر عندنا سقوطه؛ لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله، وحكى أبو محمد بن نصر في درء القتل عنه روايتين.
قال: ويستفاد من حديث عائشة رضي الله عنها ترغيب الحكام، وولاة الأمور في الصفح عمن جَهِل عليهم، وجفاهم، والصبر على أذاهم، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يفعل، وأن الحاكم لا يحكم لنفسه، وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يحكم لنفسه، ولا لمن لا تجوز شهادته له؛ على ما حكاه عياض رحمه الله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6028]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ -فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ- ابْنِ شِهَابٍ، وَفي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ).
(1)
"المفهم" 6/ 118 - 120.
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ) بن موسى الضَّبّيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُميَ بالنَّصْب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
4 -
(فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضِ) بن مسعود التميميّ، أبو عليّ الزاهد المشهور، أصله من خُراسان، وسكن مكة، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ [8] (ت 187) وقيل: قبلها (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
5 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السُّلَميّ، أبو عتاب -بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة- الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلِّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ) تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ - ابْنِ شِهَابٍ، وَفي رِوَايَةِ جَرِيرٍ: مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيّ) أراد بهذا بيان اختلاف فضيل بن عياض، وجرير بن عبد الحميد في روايتهما عن الزهريّ، فقال فضيل:"عن محمد بن شهاب" نَسَبه إلى جدّه الأعلى، وقال جرير:"عن محمد الزهريّ"، هذا هو المعنى الصحيح في هذا.
وذكر القاضي عياض رحمه الله في "المشارق" بعد سَوْقه سَنَد مسلم هذا ما نصّه: وفي "فضائل النبيّ صلى الله عليه وسلم" حديث: "ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين": نا زهير بن حرب، وإسحاق جميعًا عن جرير، ونا أحمد بن عبدة، نا فُضيل بن عياض، كلاهما عن منصور، عن محمد، وفي رواية فُضيل: ابن شهاب، وفي رواية جرير: عن الزهريّ، كذا في جميع النُّسخ من مسلم عند شيوخنا. ووقع في بعض النسخ: منصور عن محمد، وفي رواية: محمد بغير واو، وهو الصواب، وفيه مع ذلك تقديم وتأخير، وتقديره: عن محمد بن شهاب في رواية فضيل، فقدّم وأخَّر، وفصل بين المضاف والمضاف إليه، زيادة الواو بين الوصف والموصوف، فأدخل في رواية فضيل بين محمد وابن شهاب، وبإسقاط الواو والألف من ابن شهاب يصح الكلام، على ما قررناه، وعند ابن الحذّاء:
"في رواية فضيل: عن ابن شهاب" فزاده إشكالًا، والصواب ما ذكرناه، وإنما أراد أن فُضيلًا زاد في روايته "ابن شهاب" على قول غيره: محمد فقط، وعلى الصواب ذَكَره البخاريّ في "كتاب التفسير"، وفي "الهجرة". انتهى
(1)
.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) ضمير التثنية لجرير بن عبد الحميد، وفضيل بن عياض.
[تنبيه]: يوجد في هامش النسخة الهنديّة ما نصّه: قال أبو أحمد: حدّثنا أبو العبّاس السّرّاج، حدّثنا عبد الله بن عمران العابديّ، حدّثنا فُضيل بن عياض بهذا الحديث. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن أبا أحمد هو الجلوديّ، تلميذ أبي إسحاق النيسابوريّ تلميذ مسلم، وغرضه أنه روى هذا الحديث من غير طريق مسلم عاليًّا بدرجة، حيث كان بينه وبين فُضيل من طريق مسلم ثلاث وسائط: أبو إسحاق، ومسلم، وأحمد بن عبدة، فلمّا رواه عن أبي العبّاس السرّاج صار بينه وبين فضيل واسطتان فقط: أبو العبّاس، وعبد الله بن عمران، فلذلك ذَكَره هنا؛ لميّزة العلوّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: رواية جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر، ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(813)
- أخبرنا جرير، عن منصور، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، قالت:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثْمًا، ولا انتَصَر لنفسه من مظلمة، ما لم يكن مُحَرَّمًا، فإذا كان محرمًا اشتدّ غضبه عند ذلك". انتهى
(2)
.
ورواية فُضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر، ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(4452)
- حدّثنا العباس بن الوليد النَّرْسيّ، حدّثنا فُضيل بن عياض، عن منصور، عن محمد بن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من ظُلامة ظُلِمها قطّ، إلا أن يُنْتَهَك من محارم الله
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 377 - 378.
(2)
"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 294.
شيءٌ، فإذا انتُهِك من محارم الله شيءٌ، كان أشدّهم في ذلك، وما خُيِّر بين أمرين قطّ، إلا اختار أيسرهما". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6029]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: رواية يونس عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6853)
- حدّثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا يونس، عن الزهريّ، أخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه، حتى يُنتهك من حرمات الله، فينتقم لله". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6030]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا، فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(هِشَامُ) بن عروة المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم.
(1)
"مسند أبي يعلى" 7/ 431.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2513.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6031 - 6032](. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، إِلَى قَوْلِهِ: أَيْسَرَهُمَا، وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلهم ذُكروا في السند الماضي، وقبل ثلاثة أبواب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير. وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ) ضمير التثنية لأبي كريب، ومحمد بن عبد الله بن نُمَير؛ أي: لم يذكرا في روايتهما عن عبد الله بن نُمير، وهذه العبارة صحيحة مستقيمة، وأما ما ذكره بعض الشرّاح
(1)
من أن هذا غلط، والصواب:"ولم يذكر" بإفراد الضمير الراجع إلى عبد الله بن نمير، وذكر علة باردة، فليس بشيء؛ لأن أبا كريب له طريقان في هذا الحديث، أحدهما: عن أبي أسامة، عن هشام، وهو الذي في السند، والثاني: عن عبد الله بن نمير، وهو الذي شارك فيه محمد بن عبد الله بن نمير، ففي روايته الأُولى ساق الحديث بتمامه، وفي روايته الثانية ذَكَر إلى قوله:"أيسرهما"، فلا إشكال في هذا، ولا غبار عليه، ولا داعي إلى تغليط ما اتّفقت عليه النُّسخ، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن نُمير عن هشام هذه لم أجد من ساقها، فليُنْظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6032]
(2328) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِه، وَلَا امْرَأةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَىْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ
(1)
راجع: "شرح الشيخ الهرري" 22/ 161 - 162.
صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَىْءٌ مِنْ مَحَارِمِ الله، فَيَنْتَقِمَ للهِ عز وجل).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: مَا) نافية، (ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ)، وقوله:(وَلَا امْرَأةً، وَلَا خَادِمًا) من عَطْف الخاصّ على العامّ، وفيه أن ضرب الزوجة، والخادم، والدابة، وإن كان مباحًا للأدب، فتَرْكه أفضل. (إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَىْءٌ قَطُّ) معنى "نيل منه" بالبناء للمفعول: أصيب بأذًى، من قول، أو فعل، (فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ) بالبناء للمفعول، (شَىْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ) وانتهاك حرمة الله تعالى: هو ارتكاب ما حَرّمه الله تعالى، (فَيَنْتَقِمَ للهِ عز وجل)؛ أي: غضبًا له سبحانه وتعالى، وطلبًا لمرضاته، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وإلا فأصل الحديث متّفقٌ عليه، كما أسلفت بيانه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6033]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإسْنَادِ، يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ. . . إلخ)؛ يعني: أن كلّ هؤلاء الثلاثة: عبدةَ، ووكيعًا، وأبا معاوية رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة بسنده المذكور، أعني عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان عن هشام خاصّة ساقها الترمذيّ رحمه الله في "الشمائل"، فقال:
(349)
- حدّثنا هارون بن إسحاق الْهَمْدانيّ، ثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"ما ضَرَب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضَرَب خادمًا، أو امرأةً". انتهى
(1)
.
ورواية وكيع عن هشام خاصّةً ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1984)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"ما ضَرَب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا له، ولا امرأةً، ولا ضَرَب بيده شيئًا". انتهى
(2)
.
وأما رواية عبدة، ووكيع كلاهما عن هشام، فساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(9165)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبدة، ووكيع، قالا: نا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَرَب خادمًا له قطّ، ولا امرأةً، ولا ضَرَب بيده شيئًا قطّ -زاد عبدة- إلا أن يجاهد في سبيل الله". انتهى
(3)
.
وأما رواية أبي معاوية عن هشام، فلم أجد من ساقها، فلْيُنْظَر، والله تعالى أعلم.
(21) - (بَابُ طِيبِ رَائِحَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلينِ مَسِّهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6034]
(2329) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ -وَهُوَ ابْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ- عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الأُولَى، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى أَهْلِه، وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ
(1)
"الشمائل المحمديّة" 1/ 288.
(2)
"سنن ابن ماجه" 1/ 638.
(3)
"السُّنن الكبرى للنسائيّ" 5/ 371.
وِلْدَانٌ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ، وَاحِدًا وَاحِدًا، قَالَ: وَأمَّا أنَا فَمَسَحَ خَدِّي، قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا، أَو رِيحًا؛ كَأنَّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ حَمَّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنَّادُ) أبو محمد الكوفيّ، وقد يُنسب إلى جدّه، صدوقٌ رُمي بالرفض [10].
رَوَى عن أسباط بن نصر الهمدانيّ، ومسهر بن عبد الملك بن سلع، ومندل بن عليّ، وعليّ بن هاشم بن الْبَرِيد، وعامر بن يسار، وحماد بن أبي سليمان، وغيرهم.
وروى عنه مسلم حديث الباب فقط، وروى عنه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه في "التفسير" بواسطة عبد الله بن محمد المسنديّ، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن رافع، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو حاتم: صدوق، وقال أبو داود: كان من الرافضة، ذكر عثمان بشيء، فطلبه السلطان، فهرب، وقال مطين: ثقةٌ تُوُفي في صفر سنة (222)، وكذا ذكره ابن حبان في "الثقات"، وكذا أرّخه ابن سعد، وقال: كان ثقة، إن شاء الله، وقال الساجيّ: يُتَّهَم في عثمان، وعنده مناكير، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم حديثين، ووقع في عدة مواضع منسوبًا لجدّه، منها في أواخر "سنن أبي داود"، وفي "مستدرك الحاكم"، وأخرجه ابن حبان من الوجه الذي أخرجاه منه، فوقع عمرو بن حماد، ولم يطلع المنذريّ على ذلك، فقال: لم نجد له فيما رأيناه من كتبهم ذِكرًا، فإن كان هو عمرو بن طلحة، ووقع فيه تصحيف، وهو من هذه الطبقة فلا يُحْتَجّ بحديثه، قال الحافظ: وفي قوله: لا يُحتج بحديثه نَظَر، فإنّ أبا حاتم قال فيه: محله الصدق. انتهى
(1)
.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(1)
"تهذيب التهذيب" 8/ 20.
[تنبيه]: قوله: "الْقَنّاد" -بفتح القاف، وتشديد النون-: نسبة إلى بيع الْقَنْد، وهو السّكّر، قاله في "اللباب"
(1)
.
2 -
(أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيُّ) -بسكون الميم- أبو يوسف، ويقال: أبو نصر، صدوقٌ، كثير الخطأ، يُغْرب [8].
رَوَى عن سماك بن حرب، وإسماعيل السُّدّيّ، ومنصور بن المعتمر، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن المفضل الحفريّ الكوفيّ، وعمرو بن حماد القنّاد، وأبو غسان النَّهْديّ، ويونس بن بكير، وعبد الله بن صالح العجليّ، وغيرهم.
قال حرب: قلت لأحمد: كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنه ضعّفه، وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعفه، وقال: أحاديثه عامته سَقَطٌ، مقلوبة الأسانيد، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ.
وعلَّق له البخاريّ حديثًا في "الاستسقاء"، وقد وصله الإمام أحمد، والبيهقيّ في "السنن الكبرى"، قال الحافظ: وهو حديث منكر، أوضحته في "التغليق"، وقال البخاريّ في "تاريخه الأوسط": صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الساجيّ في "الضعفاء": روى أحاديث لا يتابَع عليها، عن سماك بن حرب، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: ثقةٌ، وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأسٌ.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: قوله: "الْهَمْدانيّ" -بفتح الهاء، وسكون الميم، وفتح الدال المهملة-: نسبة إلى هَمْدان، واسمه أوسلة بن مالك بن زيد بن ربيعة، قاله في "اللباب"
(2)
.
والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 56.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 391.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كلاحقه، وهو (475) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما أنه (قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الأُولَى)؛ يعني: صلاة الظهر، فهو على حذف مضاف؛ أي: صلاة الساعة الأُولى، كما مسجد الجامع؛ أي: مسجد المكان الجامع، وحِبّةِ الْحَمْقاء؛ أي: حِبّة البَقْلة الحمقاء.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "صلاة الأولى" هذا من باب إضافة الاسم إلى صفته، كما قالوا: مسجد الجامع، وقد تقدم القول فيه؛ يعني بالصلاة الأولى: صلاة الظهر، فإنَّها أول صلاة صلاها جبريل عليه السلام بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يريد بها صلاة الصبح؛ لأنَّها أول صلاة النهار. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ خَرَجَ) صلى الله عليه وسلم من المسجد (إِلَى أَهْلِهِ)؛ أي: بيوت أزواجه، (وَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ) بكسر الواو: جمع وَليد، وهو الصغير، (فَجَعَلَ)؛ أي: شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهِمْ) تثنية خَدّ بفتح الخاء المعجمة، وتشديد الدال المهملة، قال في "التاج": الخَدَّانِ بالفتح، والخُدَّتانِ بالضم، وهو قليل: ما جاوَزَ مُؤَخَّرَ العيْنَيْنِ إلى مُنتهى الشِّدقِ، أو الخَدَّانِ: اللَّذَانِ يَكْتَنِفَانِ الأنف عن يمينٍ وشِمالٍ، أو الخَدَّانِ من الوَجْه: من لَدُنِ المَحْجِرِ إلى اللَّحْيِ من الجانِبَيْنِ جميعًا، ومنه اشتُقَّ اسمُ المِخَدَّةِ، قال اللِّحْيَانيُّ: هو مُذَكَّر، لا غيرُ، والجمع: خُدُودٌ، لا يُكَسَّر على غير ذلك. انتهى
(2)
. (وَاحِدًا وَاحِدًا) منصوبان على الحال؛ أي: حال كونهم مرتّبين واحدًا بعد واحد، وإنما يمسحهم كذلك تأنيسًا وتبريكًا لهم. (قَالَ) جابر بن سمُرة رضي الله عنهما (وَأَمَّا أنَا فَمَسَحَ خَدِّي) الواحدة، ويَحْتَمل أن يكون "خدّيّ" بالتثنية، وإنما فصله عما قبله ليُرتّب عليه قوله:
(1)
"المفهم" 6/ 121.
(2)
"تاج العروس" 1/ 1967.
"فوجدت ليده. . . إلخ". (قَالَ) جابر رضي الله عنه (فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ) الشريفة (بَرْدًا، أَوْ رِيحًا)"أو" يَحْتَمِل أن تكون بمعنى الواو على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
أَتَى الْخِلَافَةَ أَو كَانَتْ لَهُ قَدَرَا
…
كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
أي: وكانت، ويؤيّد هذا قوله:"كأنما أُخرجت من جُؤنة عطّار"، ويؤيّده أيضًا أنه وقع في "مصنّف ابن أبي شيبة"، و"معجم الطبرانيّ الكبير" بالواو.
ويَحْتَمِل أن تكون "أو" للشكّ من الراوي في أيّ اللفظتين قال؟ فعلى هذا يكون وَصَفها أولًا بكونها باردة، وثانيًا بكونها عَطِرةً، ويُستفاد ذلك من قوله:"كَأنَّمَا أَخْرَجَهَا من جؤنة عطّار".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فوجدت ليده بردًا، أو ريحًا": "أو" هذه الأَوْلَى أن تكون بمعنى: الواو، لا للشكّ؛ لأنَّها لو كانت شكًّا، فإذا قدَّرنا إسقاط:"أو ريحًا" لم يستقم تشبيه برودة يده بإخراجها من جُونة عطار؛ فإنَّ ذلك إنما هو تشبيه للرائحة، فإذا حملت "أو" على معنى: الواو الجامعة استقام التشبيه للرائحة، والإخبار عن وجدان برودة اليد التي تكون عن صحة العضو، ويَحْتَمِل أن يريد بالبرودة: برودة الطِّيب، فإنَّهم يصفونه بالبرودة، كما قال الأعشى [من المتقارب]:
وتَبْرُدُ بَرْدَ رِداءَ العَرُو
…
سِ بالصَّيفِ رَقْرَقْتَ فِيهِ العَبِيرَا
انتهى
(1)
.
وقوله: (كَأنَّمَا أَخْرَجَهَا)"ما" كافّة كفّت "كأنّ" عن العمل، وهيّئتها للدخول على الفعل، قال في "الخلاصة":
وَوَصْلُ "مَا" بِذِي الْحُرُوفِ مُبْطِلُ
…
إِعْمَالَهَا وَقَدْ يُبَقَّى الْعَمَلُ
(مِنْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ) قال المجد رحمه الله: الْجُؤنة بالضمّ: سُلَيلَةٌ مُغَشّاةٌ أَدَمًا تكون مع العطّارين، وأصله الهمز، جَمْعه كَصُرَدٍ. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: "الْجُؤْنة" -بضم الجيم، وهمزة بعدها، ويجوز ترك الهمزة بقلبها واوًا، كما في نظائرها، وقد ذكرها كثيرون، أو الأكثرون في
(1)
"المفهم" 6/ 121 - 122.
الواو-، قال القاضي عياض: هي مهموزةٌ، وقد يُترك همزها، وقال الجوهريّ: هي بالواو، وقد تُهمز، وهي السَّفَطُ
(1)
الذي فيه متاع العطار، هكذا فسَّره الجمهور، وقال صاحب "العين": هي سُلَيْلةٌ مُستديرةٌ مُغَشّاةٌ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْجُونة": بضم الجيم، وفتح النون: هي سَفَطٌ يَحْمِل فيه العطارُ متاعه، قاله الحربيّ، وهو مهموز، وقد يُسَهَّل، وقال صاحب "العين": هو سُليلةٌ مستديرة مُغشَّاة أَدَمًا. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث مما انتقد الحافظ الكبير أبو زرعة الرازيّ على مسلم في إسناده، حيث إن فيه أسباط بن نصر، وهذا أحد الانتقادين، وثانيهما أن في تسمية كتابه:"الصحيح" فتحٌ لباب الشرّ لأهل البدع، حيث يقولون كلما احتُجّ عليهم بحديث صحيح، وليس فيه: إنه ليس في كتاب "الصحيح".
فقد سبق في مقدّمة شرح المقدّمة عن سعيد بن عمرو البردعيّ، أنه حضر أبا زرعة الرازيّ، وذكر كتاب "الصحيح" الذي ألَّفه مسلم، ثم الفضل الصائغ على مثاله، وحَكَى إنكار أبي زرعة على مسلم روايته فيه عن أسباط بن نصر، وقَطَن بن نُسير، وأحمد بن عيسى المصري، وأنه قال أيضًا: يُطْرِقُ لأهل البدع علينا، فيجدون السبيل بأن يقولوا للحديث إذا احتُجّ به عليهم: ليس هذا في كتاب "الصحيح".
قال سعيد بن عمرو: فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه، وروايته في كتاب "الصحيح" عن
(1)
"السَّفَط" بفتحتين: ما يُخَبَّأُ فيه الطِّيب ونحوه، جَمْعه أسفاط؛ كسبب وأسباب. انتهى. "المصباح" 1/ 279.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 85.
(3)
"المفهم" 6/ 122.
أسباط بن نصر، وقَطَن بن نسير، وأحمد بن عيسى، قال لي مسلم: إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط، وقطن، وأحمد، ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إليّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية أوثق منهم بنزول، فأقتصر على ذلك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات، وقَدِمَ مسلم بعد ذلك الرَّيَّ، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله، محمد بن مسلم بن وَارَةَ، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحوًا مما قاله لي أبو زرعة: إن هذا يُطْرِق لأهل البدع علينا، فاعتذر إليه مسلم، وقال: إنما أخرجت هذا الكتاب، وقلت: هو صحيح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح؛ ليكون مجموعًا عندي، وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف، أو نحو ذلك، مما اعتذر به إلى محمد بن مسلم، فقَبِلَ عذره، وحَدَّثَه. والله تعالى أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل جواب مسلم رحمه الله عن الانتقاد الأول، وهو إخراجه لأسباط ونحوه: أنه إنما أخرج لهؤلاء؛ طلبًا للعلوّ؛ لاختصاره، حيث يكون الحديث ثابتًا من طريق الثقات نازلًا عليه، فَيُؤْثِرُ طريق هؤلاء اختصارًا، وهذا عذر مقبول؛ لأن الحديث ثابت عنده عن الثقات، وإنما تركهم لنزول طريقهم.
وأما الجواب عن الثاني وهو الانتقاد بأن هذا يُطْرِق لأهل البدع. . . إلخ، فإنه أجاب عنه بأنه لم يقل: إنه جمع الأحاديث الصحيحة كلها في كتابه، وإنما قال: إن جميع ما في كتابه صحيح، ولا يلزم منه نفي الصحّة عن غيره حتى يتمسّك به أهل البدع، وهذا أيضًا جواب سديد، ولذا قَبِلَ الجوابين كل من أبي زرعة، ومحمد بن مسلم بن وَرَاة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 6034](2329)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 323)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 228)، والله تعالى أعلم.
(1)
"قرّة عين المحتاج" 1/ 55.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان حُسن خُلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للأطفال، وملاطفتهم حيث يمسح خدودهم، ويبارك عليهم.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث بيان طيب ريحه صلى الله عليه وسلم، وهو مما أكرمه الله تعالى به، قال العلماء: كانت هذه الريح الطيبة صفته صلى الله عليه وسلم، وإن لم يَمَسّ طيبًا، ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات؛ مبالغةً في طِيب ريحه؛ لملاقاة الملائكة، وأخذ الوحي الكريم، ومجالسة المسلمين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6035]
(2330) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا هَاشِمٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْقَاسِمِ- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -وَهُوَ: اَبْنُ الْمُغِيرَةِ- عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ أَنَسٌ: مَا شَمِمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ، وَلَا مِسْكًا، وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيح رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا مَسِسْتُ شَيْئًا قَطُّ، دِيبَاجًا، وَلَا حَرِيرًا، ألْيَنَ مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه كان يتشيع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:
أن الأول من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، وهو (476) من رباعيّات الكتاب، والثاني من خماسيّاته.
شرح الحديث:
(عَنْ ثَابِتٍ) الْبُنانيّ أنه قال: (قَالَ أَنَسٌ)؛ أي: ابن مالك رضي الله عنه، (مَا)
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 85.
نافية، (شَمِمْتُ) بكسر الميم الأُولى، وفَتْحها، يقال: شمِمتُ الشيءَ أشمّه، من باب تَعِبَ، وشَمَمْتُهُ أَشُمُّهُ، من باب قَتَل لغةٌ، واشْتَممتُ مثلُ شَممتُ، قاله الفيّوميّ
(1)
. (عَنْبَرًا) قال الفيّوميّ: فَنْعَلٌ، فالنون عنده زائدة، وقال غيره: فَعْلَلٌ، فهي عنده أصليّة، وهو طِيب معروف، يُذكّر، ويؤنّث، فيقال: هو العنبر، وهي العنبر
(2)
، وقال المجد رحمه الله: العنبر كجَعْفَر، من الطيب: رَوْث دابّة بحريّة، أو نَبْعُ عين فيه، ويؤنّث
(3)
، وقوله:(قَطُّ) تقدّم فيها خمس لغات، وهي لنفي الماضي، (وَلَا) شممت (مِسْكًا) بكسر الميم، وسكون السين المهملة: طِيب معروفٌ، وهو معرّبٌ، والعرب تسمّيه المشموم، وهو عندهم أطيب الطيب
(4)
. (وَلَا) شممت (شَيْئًا) تعميم بعد تخصيص، (أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا) نافية، (مَسِسْتُ) بكسر السين الأولى، وفَتْحها، يقال: مسِسته، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب قَتَلَ: إذا أفضى إليه بيده من غير حائل
(5)
، وقال المجد رحمه الله: مَسِسته بالكسر أَمَسّه مَسًّا، ومسِيسًا، ومِسِّيسَى؛ كخِلِّيفَى، ومَسَسْتُهُ؛ كنصرته، وربّما قيل: مِسْته بحذف السين؛ أي: لَمَسته. انتهى.
وقوله: "وربما قيل: مِسْته بحذف السين"؛ أي: مع كسر الميم، وفتحها، وهذا هو الذي أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَظَلْتُ ظِلْتُ فِي ظَلِلْتُ اسْتُعْمِلَا
…
وَقِرْنَ فِي اقْرِرْنَ وَقَرْنَ نُقِلَا
(شَيْئًا قَطُّ، دِيبَاجًا) بكسر الدال المهملة، وحُكِي فتحها، وقال أبو عبيدة: الفتح مولَّد؛ أي: ليس بعربيّ، قاله في "الفتح"، وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدِّيبَاجُ: ثوبٌ سَدَاه ولُحْمَته إِبْرَيْسَمٌ، ويقال: هو معرَّبٌ، ثم كثر، حتى اشتَقَّت العرب منه، فقالوا: دَبَجَ الغيثُ الأرضَ دَبْجًا، من باب ضرب: إذا سقاها، فأنبتت أزهارًا مُختلفةً؛ لأنه عندهم اسم لِلْمُنَقَّشِ، واختُلِف في الياء، فقيل: زائدة، ووزنه فِيعَالٌ، ولهذا يُجمع بالياء، فيقال: دَبَابِيجُ، وقيل: هي أصل، والأصل دَبَّاجٌ، بالتضعيف، فأُبدل من أحد المضعَّفَين حرف العلة، ولهذا يُرَدّ في الجمع
(1)
"المصباح المنير" 1/ 323.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 390.
(3)
"القاموس المحيط" ص 915.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 573.
(5)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 572.
إلى أصله، فيقال: دَيَابِيجٌ، بياء موحّدة بعد الدال. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَا حَرِيرًا) من عَطْف العامّ على الخاصّ؛ لأن الديباح أخصّ من الحرير، كما عرفته آنفًا. (أَلْيَنَ)؛ أي: أنعم (مَسًّا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، قيل: هذا يخالف ما وقع في حديث أنس رضي الله عنه: "أنه كان ضخم اليدين"، وفي رواية له:"والقدمين"، وفي رواية له:"شَثْنَ القدمين، والكفين"، وفي حديث هند بن أبي هالة الذي أخرجه الترمذيّ في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن فيه:"أنه كان شَثْنَ الكفين، والقدمين"؛ أي: غليظهما في خشونة، وهكذا وصفه عليّ من عِدّة طُرُق عنه عند الترمذيّ، والحاكم، وابن أبي خيثمة، وغيرهم، وكذا في صفة عائشة رضي الله عنها له عند ابن أبي خيثمة.
والجمع بينهما أن المراد: اللين في الجلد، والغِلَظ في العظام، فيجتمع له نعومة البدن، وقوته، أو حيث وُصف باللين واللطافة حيث لا يَعْمل بهما شيئًا، كان بالنسبة إلى أصل الخلقة، وحيث وُصف بالغِلَظ والخشونة فهو بالنسبة إلى امتهانهما بالعمل، فإنه يتعاطى كثيرًا من أموره بنفسه صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث معاذ عند الطبرانيّ والبزار: "أردفني النبيّ صلى الله عليه وسلم خلفه في سفر، فما مسست شيئًا قط ألين من جِلْده صلى الله عليه وسلم
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 6035 و 6036](2330)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3561)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2015) وفي "الشمائل"(1/ 285)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 315)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 222 و 227 و 265 و 267)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 31)، و (ابن حبّان)
(1)
"المصباح المنير" 1/ 188.
(2)
"الفتح" 8/ 218، كتاب "المناقب" رقم (3561).
في "صحيحه"(6303 و 6304)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 128 و 405 و 463)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 402)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 413)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(1/ 254 و 255)، و (ابن عساكر) في "السيرة النبويّة"(ص 240 و 241)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه صلى الله عليه وسلم كان أكمل الخلق خَلْقًا، كما أنه أكملهم خُلُقًا، فاجتمع له كمال الخَلْق والخُلُق، فسبحان من كمّله، وجمّله، وأظهره نبراسًا للهداية، وداعيًا إليه بإذنه، وماحيًا للضلالة والغواية.
2 -
(ومنها): بيان أنه كان أطيب من العنبر، والمسك رائحة، فقد طيَّب الله رائحته؛ ليصلح لملاقاة الملائكة الكرام، ومجالستهم، ومناجاتهم.
وقد جاءت أحاديث كثيرة دلّت على طِيب رائحته صلى الله عليه وسلم، وأنه أطيب من المسك، وغيره من أنواع الطيب.
ففي حديث أبي جحيفة رضي الله عنه: "فأخذت بيده، فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك"، ووقع مثله في حديث جابر بن يزيد بن الأسود، عن أبيه، عند الطبرانيّ بإسناد قويّ، وقد تقدّم في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما المذكور قبل هذا، قال:"فمسح خدّي، فوجدت ليده بردًا، أو ريحًا كأنما أخرجها من جُؤنة عَطّار"، وفي حديث وائل بن حجر عند الطبرانيّ، والبيهقيّ:"لقد كنت أصافح رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يمس جلدي جلده، فأتعرّفه بعدُ في يدي، وإنه لأطيب رائحة من المسك"، وفي حديثه عند أحمد:"أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء، فشرب منه، ثم مَجّ في الدلو، ثم في البئر، ففاح منه مثل ريح المسك"، ويأتي عند مسلم في الباب التالي من حديث أنس في جمع أم سليم عَرَقه صلى الله عليه وسلم، وجَعْلها إياه في الطيب، وفي بعض طرقه:"وهو أطيب الطيب"، وأخرج أبو يعلى، والطبرانيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة الذي استعان به صلى الله عليه وسلم على تجهيز ابنته، فلم يكن عنده شيء:"فاستدعى بقارورة، فسلّت له فيها من عَرَقه، وقال له: مُرْها، فلتطيّب به، فكانت إذا تطيّبت به شَمّ أهلُ المدينة رائحة ذلك الطيب، فَسُمُّوا بيت المطيّبين"، وروى أبو يعلى، والبزار بإسناد صحيح، عن أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مَرّ
في طريق من طرق المدينة، وُجِد منه رائحة المسك، فيقال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان نعومة بَدَنه صلى الله عليه وسلم، حيث كان ألْيَن من الحرير والديباج، فكلّ من مسّه يشهد له بذلك، فيقول: لقد مسست حريرًا، وديباجًا، فلم أر أَلْين من كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبحان من أفاض عليه فَضْله الجسيم، وفيضه العميم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6036]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ؛ كَأَنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلُؤُ، إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ، وَلَا مَسِسْتُ
(2)
دِيبَاجَةً، وَلَا حَرِيرَةً، ألْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكَةً، وَلَا عَنْبَرَةً، أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السرخسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانٌ) -بفتح الحاء المهملة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بأَخَرَةٍ، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللَّوْنِ) هو الأبيض
(1)
"الفتح" 8/ 213 - 214، كتاب "المناقب" رقم (3553).
(2)
وقي نسخة: "وما مسست".
المستنير، وهو أحسن الألوان، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أزهر اللون"؛ يعني: أبيض اللون في صفاء، كما قال في الرواية الأخرى:"ليس بالأبيض الأمهق"؛ أي: المتألِّق البياض الذي صفته تُشبه بياض الثلج، والجصِّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أزهر اللون"؛ أي: أبيض مُشْرَب بحمرة، وقد وقع ذلك صريحًا في مسلم من حديث أنس رضي الله عنه، من وجه آخر، وعند سعيد بن منصور، والطيالسيّ، والترمذيّ، والحاكم، من حديث عليّ رضي الله عنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أبيض مشربًا بياضه بحمرة"، وهو عند ابن سعد أيضًا عن عليّ، وعن جابر، وعند البيهقيّ من طرُق عن عليّ، وفي "الشمائل" من حديث هند بن أبي هالة أنه أزهر اللون
(3)
.
وقال في "الروض": الزهرة لغةً إشراق في اللون؛ أي: لون كان من بياض، أو غيره، وقول بعضهم: إن الأزهر الأبيض خاصّةً، والزهر اسم للأبيض من النَّوْر فقط، خطّأه أبو حنيفة فيه، وقال: إنما الزهرة إشراق في الألوان كلها، وفي حديث يوم أُحد:"نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيناه تُزهران تحت المغفر". انتهى
(4)
.
(كَأَنَّ عَرَقَهُ) قال في "التاج": العَرَقُ مُحرّكة: رشْحُ جِلْدِ الحَيَوان، وقِيلَ: هو ما جَرَى من أُصولِ الشَّعَرِ من ماءِ الجِلْد، اسم للجِنْس، لا يُجمَع، وهو في الحَيوانِ أصْلٌ، ويُسْتعارُ لغَيْرِه، قال اللّيثُ: لم أسمَعْ للعَرَقِ جمْعًا، فإنْ جُمِع كان قِياسُه على فَعَلٍ وأفْعالٍ، مثل جدَثٍ وأجْداثٍ، وقد عرِقَ كفَرِح، ورجُلٌ عُرَقٌ كصُرَدٍ: كثيرُ العرَق. انتهى
(5)
. (اللُّؤْلُؤُ) قال في "التاج": اللُّؤْلُؤُ: الدُّرُّ، سمِّي به؛ لضَوئِه، ولمَعانِه، واحِدُه لُؤلُؤَةٌ بِهاءٍ، والجمع: الَّلَالِئُ، وبائعُه لاِّلٌ. انتهى
(6)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 86.
(2)
"المفهم" 6/ 122.
(3)
"الفتح" 8/ 206، كتاب "المناقب" رقم (3561).
(4)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 5/ 74.
(5)
"تاج العروس" 1/ 6473.
(6)
"تاج العروس" 1/ 210.
وقال النوويّ: اللؤلؤ بهمز أوله، وآخره، وبتركهما، وبهمز الأول، دون الثاني، وعكسه
(1)
.
والمعنى: أن عَرَقه صلى الله عليه وسلم مثل اللؤلؤ في الصفاء، والبياض، والله تعالى أعلم.
(إِذَا مَشَى تَكَفَّأَ) بالهمز، وقد يُترك همزه، وزعم كثيرون أن أكثر ما يُرْوَى بلا همز، وليس كما قالوا، قال شَمِر: أي: مال يمينًا، وشمالًا، كما تُكفأ السفينةُ، قال الأزهريّ: هذا خطأ؛ لأن هذا صفة المختال، وإنما معناه: أن يميل إلى سَمْته وقَصْد مشيه، كما قال في الرواية الأخرى:"كأنما ينحطّ في صبب"، قال القاضي: لا بُعد فيما قاله شَمِر؛ إذا كان خِلْقةً، وجِبِلّةً، والمذموم منه ما كان مستعمَلًا مقصودًا
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا مشى مشى تكفؤًا" مهموزًا، قال شمر: أي: مال يمينًا وشمالًا، قال الأزهريّ: هذا خطأ، وهذه صفة المختال، ولم تكن صفته صلى الله عليه وسلم؛ وإنما معناه: أنه يميل إلى سمته، ويقصد في مشيته؛ كما قال في الرواية الأخرى:"كأنما ينحطّ من صبب".
قلت
(3)
: ويبيِّنه ما قد جاء في رواية ثالثةٍ: "يمشي تقلعًا"
(4)
.
(وَلَا مَسِسْتُ) بفتح السين الأُولى، وكسرها، وفي بعضِ النسخ:"وما مسست"، (دِيبَاجَةً) واحدة الديباج، وتقدّم معناها. (وَلَا حَرِيرَةً) واحدة الحرير، وهي الإبريسم، (ألْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا شَمَمْتُ) بكسر الميِم الأولى، وفَتْحها، (مِسْكَةً) واحدة المِسك، مثل ذَهَب وذَهَبة، (وَلَا عَنْبَرَةً) واحدة العنبر، وتقدّم معناها.
قال في "الفتح": قوله: "ولا عَنْبَرَةٌ" ضُبِط بوجهين: أحدهما: بسكون النون، بعدها موحّدة، والآخر: بكسر الموحّدة، بعدها تحتانية، والأول: معروف، والثاني: طِيب معمول من أخلاط، يجمعها الزعفران، وقيل: هو الزعفران نفسه، ووقع عند البيهقيّ: "ولا شَمَمت مِسْكًا، ولا عنبرًا، ولا
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 86.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 86.
(3)
القائل: هو القرطبيّ.
(4)
"المفهم" 6/ 122 - 123.
عَبِيرًا"، ذكرهما جميعًا
(1)
. (أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم كان طيِّب الريح، وإن لم يتطيَّب، ثم إنه كان يستعمل الطيب، ويُعجبه رائحته؛ لأنَّه كان يناجي الملائكة؛ ولأنه مُستلذٌّ لحس الشمِّ؛ كالحلاوة لحسِّ الذوق؛ ولأنه مقوٍّ للدماغ، ومحرِّك لشهوة الجماع؛ ولأنه مما يُرضي الله تعالى إذا قُصِد به القربة، والتهيؤ للصلاة. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(22) - (بَابُ طِيبِ عَرَقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَالتَّبرُّكِ بِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6037]
(2331) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْقَاسِمِ- عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تَسْلُتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟ "، قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ عِنْدَنَا)؛ أي: نام القيلولة، يقال: قال يقيل قَيْلًا، وقائلةً، وقيلولةً، ومَقالًا، ومقيلًا: نام نصف النهار، وأما قال يقول، فهو من القول، وقد تلطّف النضير المناويّ حيث قال في لُغْز [من الخفيف]:
قَالَ قَالَ النَّبِيُّ قَوْلًا صَحِيحَا
…
قُلْتُ قَالَ النَّبِيُّ قَولًا صَحِيحَا
وفسّره السراج الورَّاق في جوابه، حيث قال [من الخفيف أيضًا]:
(1)
"الفتح" 8/ 218.
(2)
"المفهم" 6/ 122.
فَابْنِ مِنْهُ مُضَارِعًا يَظْهَرِ الْخَا
…
فِي وَيَبْدُو الَّذِي كَنَيْتَ صَحِيحَا
(1)
(فَعَرِقَ) بكسر الراء، يقال: عَرِقَ يَعْرَقُ عَرَقًا، من باب تَعِبَ، فهو عَرْقَانُ، قال ابن فارس: ولم يُسمَع للعَرَق جَمْع، قاله الفيّوميّ، وتقدّم عن "التاج": أن العَرَق بفتحتين: رشْحُ جِلْدِ الحَيَوان، وقِيلَ: هو ما جَرَى من أُصولِ الشَّعَرِ من ماءِ الجِلْدِ.
وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس رضي الله عنه التالية:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم، فينام على فراشها، وليست فيه، فجاء ذات يوم، فنام على فراشها، فأُتيت، فقيل لها: هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت، وقد عَرِق، واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش"، وفي رواية أبي قلابة، عن أنس:"كان يأتيها، فيقيل عندها، فتبسط له نطعًا، فيقيل عليه، وكان كثير العرق".
(وَجَاءَتْ أُمِّي) هي أم سُليم بنت مِلْحَان رضي الله عنها، (بِقَارُورَةٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: القَارُورَةُ: إناء من زُجاج، والجَمْع: القَوَارِيرُ، والقَارُورَةُ أيضًا: وعاء الرُّطَب والتمر، وهي القَوْصَرَّةُ، وتُطلق القَارُورَةُ على المرأة؛ لأن الولد، أو المنيّ يَقِرُّ في رَحِمها، كما يَقِرّ الشيءُ في الإناء، أو تشبيهًا بآنية الزجاج؛ لِضَعفها، قال الأزهريّ: والعرب تَكنِي عن المرأة بالقَارُورَة، والْقَوْصَرّة. انتهى
(2)
.
(فَجَعَلَتْ)؛ أي: شرعت أم سُليم (تَسْلُتُ) بفتح أوله، وضمّ اللام، سَلَتَتِ المرأةُ خِضابها من يدها سَلْتًا، من باب قَتَلَ: نَحَّتْهُ، وأزالته، قاله الفيّوميّ
(3)
، وجعله المجد: بضمّ اللام، وكسرها، من بابَي نصر، وضرب. (الْعَرَقَ فِيهَا)؛ أي: في القارورة، وفي رواية البخاريّ:"أخذت من عَرَقه، وشَعْره، فجعلته في قارورة"، قال الحافظ: وفي ذِكر الشَّعر غرابة في هذه القصّة، وقد حَمَله بعضهم على ما ينتثر من شعره عند الترجّل، ثم رأيت في رواية محمد بن سعد ما يزيل اللَّبس، فإنه أخرج بسند صحيح عن ثابت، عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا حلق شَعْره بمنى أخذ أبو طلحة شعره، فأتى به أمّ سليم، فجعلته في سُكّها،
(1)
"تكملة فتح الملهم" 4/ 545.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 497.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 284.
قالت أم سليم: وكان يجيء، فيقيل عندي على نطع، فجعلت أَسْلُت العرق. . . الحديث، فيستفاد من هذه الرواية أنها لما أَخَذت العرق وقت قيلولته، أضافته إلى الشَّعر الذي عندها، لا أنها أخذت من شعره لمّا نام، ويستفاد منها أيضًا أن القصة المذكورة، كانت بعد حجة الوداع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما حلق رأسه بمنى فيها.
وقوله: "في سك" -بضم المهملة، وتشديد الكاف-: هو طيب مركب، وفي "النهاية": طيب معروف، يضاف إلى غيره من الطيب، ويستعمل، وفي رواية الحسن بن سفيان:"ثم تجعلها في سكها".
(فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟ ") من سَلْت عرقي في قارورتك، (قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا) وفي رواية النسائيّ: "أجعل عرقك في طيبي، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم"، والمعنى: نجمعه في قارورتنا، ونخلط به طيبنا؛ لأنه أطيب منه، كما قالت. (وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ) وأحسنه رائحة، وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عن أنس رضي الله عنه التالية:"قال: فجاءت، وقد عَرِق، واستنقع عرقه على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عَتيدتها، فجعلت تنشف ذلك العرق، فتعصره في قواريرها، ففزع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تصنعين يا أم سليم؟ فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: أصبت".
و"العتيدة" -بمهملة، ثم مثناة-، وزن عظيمة: السَّلَّة، أو الْحُقّ، وهي مأخوذة من العَتَاد، وهو الشيء المُعَدّ للأمر المهمّ.
وفي رواية أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه الآتية:"فكانت تجمع عَرَقه، فتجعله في الطيب، والقوارير، فقال: ما هذا؟ قالت: عرقك أَذُوف به طيبي"، و"أذوف" -بمعجمة مضمومة، ثم فاء-؛ أي: أخلط، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 6037 و 6038](2331)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6281)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5373) و"الكبرى"(9806)،
و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2087)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 103 و 226 و 231 و 287)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 378)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6305)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2791 و 2795)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 421) و "دلائل النبوّة"(1/ 257 - 258) و"شُعَب الإيمان"(2/ 154)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3660)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث كان يقيل عند أم سُليم رضي الله عنها.
2 -
(ومنها): بيان كونه صلى الله عليه وسلم كثير العرق، وكان عرقه أطيب من جميع أنواع الطيب، بل كانوا يجعلونه في طيبهم حتى يكون أطيب.
3 -
(ومنها): استحباب التبرّك بعرقه صلى الله عليه وسلم، وشعره، ونحو ذلك.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة محبّته صلى الله عليه وسلم، والتبرّك بآثاره.
5 -
(ومنها): ما قال الحافظ رحمه الله: يستفاد من هذه الروايات اطلاعُ النبيّ صلى الله عليه وسلم على فعل أم سليم رضي الله عنها، وتصويبه، ولا معارضة بين قولها: إنها كانت تجمعه لأجل طيبه، وبين قولها للبركة، بل يُحْمَل على أنها كانت تفعل ذلك للأمرين معًا. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله: إن فيه مشروعية القائلة للكبير في بيوت معارفه؛ لِمَا في ذلك من ثبوت المودة، وتأكيد المحبة.
7 -
(ومنها): ما قاله أيضًا: إن فيه طهارة شعر الآدميّ، وعرقه، وقال غيره: لا دلالة فيه؛ لأنه من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك متمكن في القوّة، ولا سيما إن ثبت الدليل على عدم طهارة كل منهما. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي قاله المهلّب رحمه الله هو الصواب؛ لأنه لا دليل على الخصوصية، ولأنه لم يثبت الدليل على عدم طهارتهما، بل
(1)
"الفتح" 14/ 239، كتاب "الاستئذان" رقم (6281).
(2)
"الفتح" 14/ 239، كتاب "الاستئذان" رقم (6281).
الأدلّة بطهارتهما واضحة، ولذا استدلّ البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "كتاب الطهارة" على طهارة شعر الإنسان بكونه صلى الله عليه وسلم فرّق شعره لمّا حلق بين أصحابه رضي الله عنهم، فتأمل بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6038]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ العَزِيزِ -وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ- عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا، وَلَيْسَتْ فِيه، قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَنَامَ عَلَى فِرَاشِهَا، فَأُتِيَتْ، فَقِيلَ لَهَا: هَذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَامَ
(1)
فِي بَيْتِكِ عَلَى فِرَاشِكِ، قَالَ: فَجَاءَتْ، وَقَدْ عَرِقَ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ، عَلَى الْفِرَاشِ، فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا، فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ، فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا، فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَا تَصْنَعِينَ يَا أمَّ سُلَيْمٍ؟ "، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا، قَالَ:"أَصَبْتِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عُمَير سكن بغداد، ووَلي قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9] مات ببغداد سنة خمس ومائتين، وقيل: بعد ذلك (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
2 -
(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجِشُون -بكسر الجيم، بعدها معجمة مضمومة- المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدَير، ثقةٌ فقيهٌ مصنِّفٌ [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) أبو يحيى المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (فَيَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا) قد سبق أنها كانت محرمًا له صلى الله عليه وسلم، ففيه الدخول على المحارم، والنوم عندهنّ، وفي بيوتهنّ، وجواز النوم على الأَدَمِ، وهي الأنطاع، والجلود، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
(1)
وفي نسخة: "نائم".
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 87.
وقوله: (فَأُتِيَتْ) بالبناء للمفعول.
وقوله: (نَامَ فِي بَيْتِكِ) وفي بعض النسخ: "نائم في بيتك".
وقوله: (وَقَدْ عَرِقَ) بكسر الراء، جملة حاليّة.
وقوله: (وَاسْتَنْقَعَ) بالبناء للفاعل؛ أي: اجتمع (عَرَقُهُ) صلى الله عليه وسلم (عَلَى قِطْعَةِ أَدِيمٍ) بفتح الهمزة، وكسر الدال المهملة: الجلد المدبوغ، والجمع: أَدَمٌ بفتحتين، وأُدُمٌ بضمّين، وهو القياس، مثلُ بريد وبُرُدٍ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا) -بعين مهملة مفتوحة، ثم مثناة من فوقُ، ثم من تحتُ- وهي كالصندوق الصغير، تجعل المرأة فيه ما يَعِزّ من متاعها
(2)
.
وقوله: (فَجَعَلَتْ تُنَشِّفُ. . . إلخ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من النشف؛ أي: تأخذه بخرقة، يقال: نَشَفْتُ الماءَ نَشْفًا، من باب ضرب: إذا أخذته من غَدِير، أو أرض بخرقة، ونحوها، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّ أوله، وتشديد الشين المعجمة، من التنشيف، للمبالغة، ويقال: تَنَشَّفَ الرجلُ: مَسَح الماءَ عن جسده بخرقة، ونحوها، أفاده الفيّومي رحمه الله
(3)
.
وقوله: (فَتَعْصِرُهُ) بكسر الصاد المهملة، يقال: عصرت العنب ونحوه، من باب ضرب: إذا استخرجت ماءه.
وقوله: (فَفَزِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بكسر الزاي، من باب تَعِبَ، قال النوويّ: معنى فَزِعَ: استَيْقظَ.
وقوله: (قَالَ: "أَصَبْتِ") هذا صريح في كونه صلى الله عليه وسلم علِم ما صنعته أم سليم رضي الله عنها بعرقه، فأقرّها عليه، وقال لها:"أصبت" فيما صنعت من جمع العرق للتبرك به.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6039]
(2332) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 9.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 87.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 606.
حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا أيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِيهَا، فَيَقِيلُ عِنْدَهَا، فَتَبْسُطُ لَهُ نَطْعًا، فَيَقِيلُ عَلَيْه، وَكَانَ كثِيرَ الْعَرَقِ، فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ، فَتَجْعَلُهُ فِي الطِّيبِ، وَالْقَوَارِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا؟ "، قَالَتْ: عَرَقُكَ، أَدُوفُ بِهِ طيبِي).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، وربما وَهِمَ، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
2 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأَخَرَةٍ [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
3 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو الْجَرْميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ) رضي الله عنها هذا صريح في كون الحديث من مسند أم سُليم بخلاف الروايات السابقة، فإن فيها أنه من مسند أنس رضي الله عنه، ولا تعارض بينهما؛ لإمكان الجمع بأن أنسًا حضر القصّة، ثم حدّثته أمه بتفصيل ما جرى هناك، فكان يُسنده أحيانًا، ويرويه عن أمه أحيانًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَيَقِيلُ عِنْدَهَا)؛ أي: ينام القيلولة، وهي النوم نصف النهار.
وقوله: (فَتَبْسُطُ لَهُ نَطْعًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: النِّطْعُ: المتخذ من الأَدِيم معروف، وفيه أربع لغات: فتح النون، وكسرها، ومع كل واحد فتح الطاء، وسكونها، والجمع أَنْطَاعٌ، ونُطُوعٌ، والنِّطَعُ وزانُ عِنَب: ما ظهر من غار الفم الأعلى، ومنه الحروف النِّطعيَّةُ، وهي الطاء، والدال، والتاء. انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 611.
وقولها: (أَدُوفُ بِهِ طِيبِي) قال النوويّ: هو بالدال المهملة، وبالمعجمة، والأكثرون على المهملة، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، ومعناه: أخلط، وسبق بيان هذه اللفظة في أول "كتاب الإيمان". انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "أدوف به طيبي"؛ أي: أخلط، يقال: دُفت الدواء أدوفه: إذا بَلَلْته بماء، وخلطته، فهو مَدُوفٌ، ومَدْوُوفٌ، على الأصل، مثلُ مَصُون ومَصْوُون، وليس لهما نظير، ويقال فيه: داف يديف بالياء، والواوُ فيه أكثر. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "أدوف به طيبي"؛ أي: أخلط، يقال: داف يديف بالياء، والواوُ فيه أكثر، قال الجوهريّ: دُفْتُ الدواءَ وغيره؛ أي: بَلَلْته بماء، أو بغيره، فهو مَدُوفٌ، ومَدْوُوفٌ، وكذلك مِسْك مَدُوف؛ أي: مبلول، ويقال: مسحوق، قال: وليس يأتي مفعول من ذوات الثلاثة، من بنات الواو بالتمام إلا حرفان: مسك مَدْوُوفٌ، وثوبٌ مَصْوُونٌ، فإن هذين الحرفين جاءا نادرين، والكلام مَدُوفٌ، ومَصُونٌ، وذلك لثقل الضمة على الواو، والياء أقوى على احتمالها منها، فلهذا جاء ما كان من بنات الياء بالتمام، والنقصان، نحو: ثوب مَخِيطٌ، ومَخْيُوطٌ. انتهى
(3)
.
والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(23) - (بَابُ عَرَقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الْبَرْدِ، حِينَ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6040]
(2333) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: إِنْ كَانَ لَيُنْزَلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ، ثُمَّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ عَرَقًا).
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 87 - 88.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 140.
(3)
"لسان العرب" 9/ 108.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: إِنْ كَانَ)"إن" بكسر الهمزة، وسكون النون: مخفّفة من الثقيلة، وهي مهملة، ولذا دخلت اللام بعدها، قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
(لَيُنْزَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُنزلُ الله تعالى الوحيَ (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ)، وفي رواية البخاريّ:"في اليوم الشديد البرد"، وفيه دلالة على كثرة معاناة التعب، والكرب عند نزول الوحي؛ لِمَا فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة الْعَرَق في شدة البرد، فإنه يُشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية. (ثُمَّ تَفِيضُ) بفتح أوله، من باب باع؛ أي: تسيل (جَبْهَتُهُ عَرَقًا) منصوب على التمييز، زاد في رواية البيهقيّ في "الدلائل":"وإن كان ليوحَى إليه، وهو على ناقته، فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه".
وأرادت عائشة رضي الله عنها بهذا الإشارةَ إلى كثرة معاناته صلى الله عليه وسلم التعَبَ والكربَ عند نزول الوحي، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا ورد عليه الوحي يجد له مشقة، ويغشاه الكرب، لثقل ما يُلقَى عليه، قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]، ولذلك كان يَعتريه مثل حال المحموم، كما روي "أنه كان يأخذه عند الوحي الرُّحَضَاء
(1)
"؛ أي: البُهْرُ
(2)
والعَرَق من الشدّة، وأكثر ما يسمى به عرق الحُمَّى، ولذلك كان جبينه يتفصد عَرَقًا، وإنما كان ذلك ليبلو صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه من أعباء النبوة.
وفي حديث يعلى بن أمية: "فأدخل رأسه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحْمَرٌّ وجهه، وهو يغطّ، ثم سُرِّيَ عنه".
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الآتي هنا بعد حديث، قال: "كان
(1)
بضمّ، ففتح: العرق في إثر الحمّى.
(2)
بضمّ، فسكون: تتابع النفَس، وبالفتح: المصدر.
نبي الله -صلى الل عليه وسلم- إذا أُنزل عليه الوحي كُرِب لذلك، وتَرَبَّدَ وجهه".
وفي حديث الإفك، "قالت عائشة رضي الله عنها: فأخذه ما كان يأخذه من البُرَحَاء عند الوحي، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشَّاتِي، من ثقل الوحي الذي ينزل عليه". أفاده في "العمدة"
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته يُنْزِلُ عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيُفْصَم عنه، وإن جبينه ليتفصد عَرَقًا".
وقوله: "ليتفصّد" -بالفاء، وتشديد المهملة-: مأخوذ من الفَصْد، وهو قطع الْعِرْق لإسالة الدم، شُبِّه جبينه بالْعِرْق المفصود مبالغةً في كثرة الْعَرَق.
[تنبيه]: حَكَى العسكري في "التصحيف" عن بعض شيوخه أنه قرأ "ليتقصد" بالقاف، ثم قال العسكريّ: إن ثبت فهو من قولهم: تقصَّد الشيءُ: إذا تكسّر، وتقطّع، ولا يخفى بُعْده. انتهى، وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فردّه عليه المؤتمن الساجيّ بالفاء، قال: فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رَدّ على ابن طاهر لمّا قرأها بالقاف، قال: فكابرني، قال الحافظ: ولعل ابن طاهر وجّهها بما أشار إليه العسكريّ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6041]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَابْنُ بِشْرٍ، جَمِيعًا عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَل النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يَأْتِيكَ
(1)
"عمدة القاري" 1/ 43.
(2)
"الفتح" 1/ 52، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ
(1)
، ثُمَّ يَفْصِمُ عَنِّي، وَقَدْ وَعَيْتُهُ، وَأَحْيَانًا مَلَكٌ فِي مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ، فَأَعِي مَا يَقُولُ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفي، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أَبو عبد الله الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة أسانيد، فرّق بينها بالتحويل، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، المجموعين في قول بعضهم:
ألَا إنَّ مَنْ لَا يَقْتَدِي بأئِمَّةٍ
…
فَقِسْمَتُهُ ضِيزَى عَنِ الْحَق خَارِجَهْ
فَخُذْهُمْ عُبَيْدُ الله عُرْوَةُ قَاسِمُ
…
سَعِيدٌ أبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة المجموعين في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ
وقد تقدّم هذا كلّه غير مرّة، وإنما أعدته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به، وبالله تعالى التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِ) بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم، أخو أبي جهل شقيقه، وابن عم خالد بن الوليد، شَهِد بدرًا كافرًا، فانهزم، وأسلم يوم الفتح، وحَسُن إسلامه، وأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين مائة من الإبل، قُتِلَ باليرموك سنة (15)، وكان شريفًا في قومه، وله
(1)
وفي نسخة: "وهو أشدّ عليّ".
اثنان وثلاثون ولدًا، منهم أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، أحد الفقهاء السبعة على قول، وليس في الصحابة الحارث بن هشام إلا هذا، وإلا الحارث بن هشام الجُهَنِيّ، روى عنه المصريون، ذكره ابن عبد البر. قاله في "العمدة"
(1)
.
(سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيَحْتَمِل أن تكون عائشة رضي الله عنها حضرت ذلك، وعلى هذا اعتَمَد أصحاب الأطراف، فأخرجوه في مسند عائشة رضي الله عنها.
ويَحْتَمِل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعدُ، فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور، وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي "مسند أحمد"، و"معجم البغويّ"، وغيرهما، من طريق عامر بن صالح الزبيريّ، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، عن الحارث بن هشام، قال: سألت. . . قال الحافظ: وعامر فيه ضَعفٌ، لكن وجدت له متابعًا عند ابن منده، والمشهور الأول. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي كونه من مسند عائشة رضي الله عنها هو الأقرب، كما عليه أصحاب الأطراف، فلا ينبغي ترجيح خلافه برواية ضعيفة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(كيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟) مقول لقول مقدَّر؛ أي: قائلًا: "كيف يأتيك الوحي؟ ". وفي رواية البخاري: "فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ ".
ثم إنه يَحْتَمِل أن يكون المسؤول عنه صفة الوحي نفسه، ويَحْتَمِل أن يكون صفة حامله، أو ما هو أعمّ من ذلك، وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز؛ لأن الإتيان حقيقةٌ مِنْ وَصْف حامله، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال السنديّ رحمه الله: ظاهره أن السؤال عن كيفية الوحي نفسه، لا عن كيفية المَلَك الحامل له، ويدل عليه أول الجواب، لكن آخر الجواب يميل إلى
(1)
"عمدة القاري" 1/ 49.
(2)
"الفتح" 1/ 52، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
(3)
"الفتح" 1/ 47، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
أن المقصود بيان كيفية الملك الحامل، فيقال: يلزم من كون الملَك في صورة الإنسان كون الوحي في صوت مفهومٍ متبيَّنٍ أولَ الوَهْلَة، فبالنظر إلى هذا اللازم صار بيانًا لكيفية الوحي، فلذلك قوبل بصلصلة الجرس، ويَحْتَمِل أن يكون السؤال عن كيفية الحامل؛ أي: كيف يأتيك حامل الوحي؟ انتهى
(1)
.
و"كيف" اسم لدخول الجارّ عليه بلا تأويل، في قولهم: على كيف تبيع الأحمرين؟ وتُستعمل شرطية، نحو: كيف تصنعْ أصنعْ، واستفهامية، نحو: كيف زيدٌ؟، ولغير ذلك، وهي هنا للاستفهام.
و"الوحي": الإشارة، والكتابة، والرسالة، والكلام الخفيّ، وكل ما ألقيته إلى غيرك، يقال: وَحَيْتُ إليه الكلام، وأوحيت، وَوَحَى وَحْيًا، وأوحَى أيضًا؛ أي: كتب، قال العَجَّاجُ [من الرجز]:
حَتَّى نَحَاهُمْ جَدُّنَا وَالنَّاحِي
…
لِقَدَرٍ كانَ وَحَاهُ الْوَاحِي
والوَحْيُ المكتوبُ، والكتاب أيضًا، وعلى ذلك جمعوه، فقالوا: وُحِيٌّ، مثل حَلْيٍ، وحُلِيٍّ.
قال لَبِيد [من الكامل]:
فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا
…
خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا
أراد: ما يُكتَب في الحجارة، ويُنقَش عليها.
وأَوْحَى إليه: بعثه، وأوحى إليه: ألهمه، وفي التنزيل:{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]، وفيه:{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 5]؛ أي: إليها، فمعنى هذا: أمَرَها، ووَحَى في هذا المعنى؛ قال العَجّاج [من الرجز]:
وَحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتِ
…
وَشَدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثُّبَّتِ
ووَحَى إليه، وأوحى: كلَّمه بكلام يخفيه من غيره، ووحَى إليه، وأوحَى: أومأ، وفي التنزيل العزيز:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]. وقال أبو الهَيْثَم: وأما اللغة الفاشية في القرآن فبالألف، وأما في غير القرآن: فوحيت إلى فلان مشهورة. انتهى ملخصًا من "لسان العرب"
(2)
.
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 2/ 146.
(2)
"لسان العرب" 15/ 379 - 380.
هذا من حيث اللغة، وأما شرعًا، فهو الإعلام بالشرع، وقد يُطلق الوحى، ويراد به اسم المفعول منه؛ أي: الْمُوحَى، وهو كلام الله المنزل على النبيّ رضي الله عنهم.
وله أقسام، وصور، فأما أقسامه في حق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فعلى ثلاثة أضرب:
(أحدها): سماع كلام الله تعالى؛ كسماع موسى عليه الصلاة والسلام.
(والثاني): وحي رسالة بواسطة الملك.
(والثالث): وحي تَلَقٍّ بالقلب؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نَفَث في رُوعي. . ."؛ أي: في نفسي.
وأما الوحي إلى غير الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فهو الإلهام؛ كالوحي إلى النحل.
وأما صُوَره فسبعة، على ما ذكره السهيليّ رحمه الله:
(الأولى): المنام، كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها المشهور.
(الثانية): أن يأتيه الوحي مثل صَلْصَلة الْجَرَس، كما في هذا الحديث.
(الثالثة): أن يَنفُث في رُوعه الكلام، كما مر آنفًا.
(الرابعة): أن يتمثَّل له الملك رجلًا، كما يأتي في هذا الحديث.
(الخامسة): أن يتراءى له جبريل عليه السلام في صورته التي خُلِقَ عليها.
(السادسة): أن يكلمه الله من وراء حجاب.
(السابعة): وحي إسرافيل عليه السلام، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن الشعبيّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، فقُرِنَ بنبوّته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين، فكان يعلّمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين؛ قُرِن بنبوّته جبريل عليه السلام، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة: عشرًا بمكة، وعشرًا بالمدينة، فمات، وهو ابن ثلاث وَستين سنة، وأنكر بعضهم كونه وُكل به غير جبريل عليه السلام. انتهى ملخصًا من "عمدة القاري"
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا على هذا السؤال ("أَحْيَانًا يَأْتِينِي) الوحي (فِي مِثْلِ
(1)
"عمدة القاري" 1/ 40.
صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ)؛ أي: يأتيني في صوت متدارك، لا يُدْرَك في أول الوَهْلَة؛ كصوت الجرَس؛ أي: يجيء في صورة وهيئة لها مثل هذا الصوت، فنبّه بالصوت الغير المعهود على أنه يجيء في هيئة غير معهودة، فلذا قابله بقوله:"في صورة الفتى"، وعلى الوجهين فصلصلة الجرس مثال لصوت الوحي. قاله السنديّ رحمه الله
(1)
.
و"الصلصلة" -بمهملتين مفتوحتين، بينهما لام ساكنة- في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أُطلق على كل صوت له طنين. وقيل: هو صوت متدارِك، لا يُدْرَك في أول وهلة. قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال في "العمدة": "الصلصلة" -بفتح الصادين المهملتين-: الصوت الذي لا يُفْهَم أوّلَ وَهْلَة. ويقال: هي صوت كل شيء مصوّت؛ كصلصلة السلسلة. وفي "العُباب": صلصلة اللجام: صوته إذا ضوعف.
وقال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه، ولا يتبيّنه أولَ ما يقرع سَمْعه حتى يفهمه مِن بَعدُ. وقال أبو علي الهجري في أماليه:"الصلصلة" للحديد، والنحاس، والصُّفْر، ويابس الطين، وما أشبه ذلك صوته.
وفي "المحكم": صَلَّ يَصِلُّ صَلِيلًا، وصَلْصَلَ، وتصَلْصَل صَلْصَلَةً، وتَصَلْصُلًا: صوّت. وقال القاضي: الصلصلة: صوت الحديد فيما له طنين. وقيل: معنى الحديث: هو قوةُ صوتِ حَفِيفِ أجنحة الملائكة، لتشغله عن غير ذلك، وتؤيده الرواية الأخرى:"كأنه سلسلة على صفوان"؛ أي: حفيف الأجنحة
(3)
. انتهى
(4)
.
و"الجرس" -بفتح الجيم، والراء-: الجُلْجُل الذي يُعَلَّق في رؤوس الدواب، واشتقاقه من الجَرْسِ -بإسكان الراء- وهو الحِسّ.
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 2/ 146.
(2)
"الفتح" 1/ 49، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
(3)
"حفيف الأجنحة" بالحاء المهملة: صوتها.
(4)
"عمدة القاري" 1/ 40.
وقال الكرماني: الجَرَس: شِبْه ناقوس صغير، أو سَطْل في داخله قطعة نُحاس معلَّق منكوسًا على البعير، فإذا تحركت النحاسة، فأصابت السطل، فتحصل صلصلة، والعامة تقول: جرص بالصاد، وليس في كلام العرب كلمة اجتمع فيها الصاد والجيم، إلا الصمج، وهو القِندِيل، وأما الجص فَمُعَرّب.
وقال ابن دريد: اشتقاقه من الجَرْس؛ أي: الصوت والحس. وقال ابن سِيَده: الجَرْس؛ أي: بالفتح، والجِرْس؛ أي: بالكسر، والجَرَسُ؛ أي: بفتحتين: الحركة والصوت من كل ذي صوت. وقيل: الْجَرْس بالفتح إذا أُفرد، فإذا قالوا: ما سمعتُ له حِسًّا ولا جِرْسًا كسروا، فأتبعوا اللفظ باللفظ. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح":
[فإن قيل]: المحمود لا يُشَبَّهُ بالمذموم؛ إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبَّه الوحي، وهو محمود، والمشبَّه به صوت الجرس، وهو مذموم، لصحة النهي عنه، والتنفير من مرافقة ما هو معلَّق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة، كما أخرجه مسلم، وأبو داود، وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟.
[والجواب]: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبَّه بالمشبَّه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفةٍ ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذَكَر ما ألِفَ السامعون سماعَهُ تقريبًا لأفهامهم.
والحاصل: أن الصوت له جهتان: جهة قوة، وجهة طَنِين، فمن حيث القُوَّةُ وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلل بكونه مزمار الشيطان.
ويَحْتَمِل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور، وفيه نظر.
قيل: والصلصلة المذكورة: صوت الملك بالوحي. قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك، يسمعه، ولا يتبيّنه أولَ ما يسمعه حتى يفهمه بعدُ. وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 410.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحيُ، فلا يبقى فيه مكان لغيره، ولمّا كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به، دون غيره من الآلات. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
(وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ) وفي بعض النسخ: "وهو أشدّ عليّ"؛ أي: إن هذا النوع من الوحي، أشد أنواع الوحي عليّ، قال في "الفتح": يُفْهَم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدّها، وهو واضح؛ لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتّصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية، وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع، وهو البشرية، وهو النوع الثاني، والأول أشدّ بلا شك.
وقال شيخ الإسلام البلقينيّ: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تُؤْذِن بتعظيمه؛ للاهتمام به، كما في حديث ابن عباس:"كان يعالج من التنزيل شدّةً"، قال: وقال بعضهم: وإنما كان شديدًا عليه؛ ليستجمع قلبه، فيكون أوعى لِمَا سمع. انتهى.
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، كما بُيِّن في حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه في قصة لابس الجبة المتضمِّخ بالطيب في الحج، فإن فيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه، وإنه ليغطّ، وفائدة هذه الشدّة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.
(ثُمَّ يَفْصِمُ عَنِّي) -بفتح أوله، وسكون الفاء، وكسر الصاد المهملة-؛ أي: يُقلع، ويتجلى ما يغشاني، ويُروى بضم أوله، من الرباعيّ، وفي رواية لأبي ذرّ بضمّ أوله، وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم: القطع، ومنه قوله تعالى:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وقيل: الفصم بالفاء: القطع بلا إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة، فَذِكْرُه بالفصم إشارةٌ إلى أن الملك فارقه؛ ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"الفتح" 1/ 49 - 50، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
(2)
"الفتح" 1/ 49 - 50، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله
(1)
: "فيفصم عني"؛ أي: ينفرج عني، ويذهب، كما يُفصَمُ الخلخالُ إذا فتحتَه لتخرجه عن الرِّجل، وكل عُقدة حللتها، فقد فصمتها، قال الله تعالى:{فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وانفصام العروة: أن تَنْفَكَّ عن موضعها، وأصل الفصم عند العرب: أن تفكّ الخَلْخال، ولا تُبينَ كسره، فإذا كسرته، فقد قصمته -بالقاف- قال ذو الرمة [من البسيط]:
كَأنَّهُ دُمْلُجٌ مِنْ فِضةٍ نَبَهٌ
(2)
…
فِي مَلْعَبٍ مِنْ جَوَارِي الْحَي مَفْصُومُ
وقال في "العمدة": قوله: "فيفصم عني" فيه ثلاث روايات:
[الأولى]: وهي أفصحها بفتح الياء، وإسكان الفاء، وكسر الصاد المهملة. قال الخطابي: معناه، يُقلع، ويتجلى ما يغشاني منه، قال: وأصل الفصم: القطع، ومنه:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة: 256]، وقيل: إنه الصَّدْع بلا إبانة، وبالقاف قطعٌ بإبانة، فمعنى الحديث: أن الملَك فارقه ليعود.
[الثانية]: بضم أوله، وفتح ثالثه، على صيغة المجهول من المضارع الثلاثي.
[الثالثة]: بضم أوله، وكسر ثالثه، من أفصم المطرُ: إذا أقلع، وهي لغة قليلة.
وقال العلامة ابن منظور رحمه الله: الفَصْم: الكسر من غير بينونة، فَصَمه يَفْصِمُه فَصْمًا، فانْفَصَم: كسره من غير أن يَبين، وتَفَصَّم مثله، وفَصَّمه فَتَفَصَّم، وخَلْخال أفْصَمُ مُتَفَصِّم، قال عمارة بن راشد [من الطويل]:
وأمَّا الألى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهامةٍ
…
فَكُلُّ كَعابٍ تَتْرُكُ الحِجلَ أَفْصَما
وفُصِم جانبُ البيتِ: انهدمَ، والانفِصامُ: الانقطاع، وفي التنزيل العزيز:{لَا انْفِصَامَ لَهَا} ؛ أي: لا انقطاع لها، وقيل: لا انكسار لها، وقال أبو عبيد: الفَصم بالفاء: أن ينصدع الشيء من غير أن يَبِين، من فَصَمتُ الشيء أَفْصِمه فَصْمًا: إذا فعلت ذلك به، فهو مَفصُوم، قال ذو الرمة يذكر غزالًا شبّهه بدُمْلُج فضة [من الطويل]:
(1)
"التمهيد" 22/ 114 - 115، و"الاستذكار" 8/ 67 - 68.
(2)
"النبه" بفتحتين: كل شيء سقط عن الإنسان، فنسيه، قاله في "اللسان".
كأنَّه دُمْلُجٌ مِن فِضَّةٍ نَبَهٌ
…
في مَلْعَبٍ مِن جواري الحَيِّ مَفْصُومُ
شَبَّه الغزال، وهو نائم بدملج فضة قد طُرح، ونُسِي، وكل شيء سقط من إنسان، فنسيه، ولم يهتد له فهو نَبَهٌ. انتهى
(1)
.
(وَقَدْ وَعَيْتُهُ) -بفتح العين-؛ أي: حَفِظت، وفَهِمت. قال ابن منظور رحمه الله: الوَعْيُ حفظ القلب الشيءَ، يقال: وَعَى الشيءَ، والحديثَ يَعِيه وَعْيًا، من باب وَعَدَ، وأوعاه: حَفِظَه، وفَهِمَهُ، وقَبِلَه، فهو واعٍ، وفلان أوعى من فلان؛ أي: أحفظ، وأفهم. وقال الجوهريّ رحمه الله: أوعَيتُ الزادَ والمتاعَ: إذا جعلته في الوعاء، قال عَبِيدُ بن الأبْرَصِ [من البسيط]:
الْخَيْرُ يَبْقَى وَإنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ
…
وَالشَّرُّ أخْبثُ مَا أوْعَيْتَ مِنْ زَادِ
انتهى كلام ابن منظور بتصرف، واختصار
(2)
.
والجملة في محل نصب على الحال من فاعل "يفصم".
وفي رواية البخاريّ: "وقد وَعَيتُ عنه ما قال"، و"ما" مصدرية حرفية، أو اسم موصول، والعائد مقدَّر؛ أي: والحال أني قد حفظت عن ذلك الملَك قوله، أو القول الذي قاله.
وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)} [المدثر: 25]؛ لأنهم كانوا يُنكرون الوحي، ويُنكرون مجيء الملَك به، قاله في "الفتح"
(3)
.
(وَأَحْيَانًا) جمع حِين، يُطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتًا يأتيني، وانتصابه على الظرفية، وعامله "يأتيني" مقدّرًا بدليل ما قبله، فقوله:(مَلَكٌ) فاعل بالفعل المقدّر؛ أي: يأتيني ملك.
وفي رواية للبخاريّ في "بدء الخلق": "كل ذلك يأتي الملك"؛ أي: كل ذلك حالتان، فذكرهما.
وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل، فيُلقيه عليّ كما يلقي
(1)
"لسان العرب" 12/ 453.
(2)
"لسان العرب" 15/ 397.
(3)
"الفتح" 1/ 49 - 51، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
الرَّجُل على الرَّجُل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا يَتَفَلَّتُ مني".
قال الحافظ رحمه الله: وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} الآية [القيامة: 16]، فإن الملَك قد تمثّل رجلًا في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية، وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحاح.
وأُورِدَ على ما اقتضاه الحديث -وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي؛ كمجيئه كدَوِي النحل، والنَّفْثِ في الرُّوع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة.
وإما من حامل الوحي؛ كمجيئه في صورته التي خُلِق عليها، له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض، وقد سَدّ الأفق.
والجواب: مَنْع الحصر في الحالتين المتقدِّم ذِكرهما، وحَمْلهما على الغالب، أو حَمْل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لِنُدُورهما، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بَيَّنَ بها صفة الوحي، لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي، فدويّ النحل لا يعارض صلصلة الجرس؛ لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يُسمَع عنده كدويّ النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشبَّهه عمر بدويّ النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبَّهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما النَّفْث في الرُّوع، فيَحْتَمِل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملَك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في رُوعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه؛ لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة، فقال ابن بطال: لا تَرِدُ؛ لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس؛ لأن الرؤيا قد يَشرَكُهُ فيها غيره. انتهى.
والرؤيا الصادقة، وإن كانت جزءًا من النبوة، فهي باعتبار صِدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيًّا، وليس كذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضًا على الوجهين المذكورين، لا غير، قاله الكرماني. قال الحافظ: وفيه نظر.
وقد ذكر الْحَلِيميّ أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعًا -فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذُكِر.
وحديثُ: "إن روح القدس نفث في رُوعي". أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(فِي مِثْلِ صُورَةِ الرَّجُلِ) وفي رواية البخاريّ: "وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا"، والتمثل مشتق من المَثَل؛ أي: يَتصور، "وأل" في "الملك" للعهد، والمعهود هو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، ولفظه:"كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل، فيلقيه عليّ، كما يلقي الرجل على الرجل. . ." الحديث. وهو مرسل تقدم الكلام عليه.
وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر، قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة، تتشكل أيَّ شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية. ذكره في "الفتح".
[تنبيه]: المراد بالرَّجُلِ دحية بن خليفة الكلبيّ، وقد يكون غيره.
قال الحافظ السيوطيّ رحمه الله: قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة، تتشكل أيَّ شكل أرادوا.
وقد سأل عبد الحق الصَّقَلِيُّ إمامَ الحرمين حين اجتمع به بمكة عن هذه، وكيف كان جبريل يجيء مرّة في صورة دحية، وجاء مرة في هيئة رجل شديد
(1)
"الفتح" 1/ 48 - 49، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
بياض الثياب، شديد سواد الشعر، وصورته الأصلية له ستمائة جناح، وكل جناح منها يسد الأفق؟.
فقال: مِنْ قائل: إنه سبحانه يُفني الزائدَ من خلقه، ثم يعيده، ومن قائل: إن ذلك إنما هو تمثيل في عين الرائي، لا في جسم جبريل، وهو الذي يعطيه قوله:"يتمثل لي".
قال: وتحقيقه أن جبريل عبارة عن الحقيقة الملكية الخاصة، والملك لا يتغير بالصورة والقوالب، كما أن حقيقتنا لا تتغير بها، ألا ترى أن الجسم يتغير، ويفنى مع أن الأرواح لا تتغير، كما أنها في الجنة تركب على أجسام لطيفة نورانية ملكية، تنعكس الأبدان الآدمية الكثيفة هناك إلى عالم الكمال الجسماني على نحو الأجسام الملكية الآن، فحقيقة جبريل كانت معلومة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم مجعولة في أيّ قَالَب كان.
قلت
(1)
: ولهذا ورد في حديث مجيئه، وسؤاله عن الإيمان:"ما جاءني قط، إلا وأنا أعرفه، إلا أن يكون هذه المرة". انتهى المقصود من كلام السيوطيّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": قال إمام الحرمين: تمثّل جبريل معناه: أن الله أفنى الزائد من خَلْقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بَعْدُ.
وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبًا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيًّا؛ لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلًا، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تَسْرَحُ في الجنة.
وقال شيخ الإسلام -يعني: البلقيني-: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصليّ، إلا أنه انضم، فصار على قَدْر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته.
(1)
القائل السيوطيّ، فتنبّه.
(2)
"زهر الربى في شرح المجتبى" 2/ 148.
ومثال ذلك القُطن إذا جُمع بعد أن كان منتفشًا، فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة، وذاته لمَ تتغير، وهذا على سبيل التقريب.
والحق أن تمثُّل الملَك رجلًا ليس معناه: أن ذاته انقلبت رجلًا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسًا لمن يخاطبه، والظاهر أيضًا أن القدر الزائد لا يزول، ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: لا ينقضي عجبي من هؤلاء الأفاضل كيف استساغوا الخوض في هذا البحث الذي هو من فضول الكلام، ومن الخوض فيما لا يعني؟ فيا ليتهم لم يضيّعوا الوقت في شيء لا ينفعهم، ولا ينفع الأمة، بل هو مجرّد إضاعة للوقت، وذلك لأمور:
(الأول): أنه مما لم يُكَلِّفِ الشرعُ أحدًا بالخوض فيه.
(الثاني): أنه من القول بلا علم؛ لأنه ليس عليه أثارة من علم، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36].
(الثالث): أنه مما لم يَخُضْ فيه السلف، ولو كان فيه خير لكانوا أسبق الناس إليه.
فالواجب على العاقل أن لا يخوض في مثل هذا إلا بدليل، فما جاءنا من النبيّ صلى الله عليه وسلم بيانه من كون الملائكة خُلقوا من نور، وأن لهم أجنحة، وأنهم يتشكلون بشكل البشر، وأن جبريل يأتيه بصورة رجل، ونحو ذلك آمنّا به، وتكلمنا بتفاصيل ما أوضحه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما لا فلا، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
زاد في رواية البخاريّ: "فيكلمني"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، ووقع في رواية البيهقيّ من طريق القعنبيّ، عن مالك:"فيعلمني" بالعين بدل الكاف، والظاهر أنه تصحيف، فقد وقع في "الموطإ" روايةِ القعنبيّ بالكاف، وكذا
(1)
"الفتح" 1/ 51، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
للدارقطنيّ في حديث مالك من طريق القعنبيّ وغيره. انتهى
(1)
.
(فَأَعِي مَا يَقُولُ) زاد أبو عوانة في "صحيحه": "وهو أهونه عليّ"، وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول:"وقد وعَيتُ" بلفظ الماضي، وهنا بلفظ الاستقبال؛ لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل بعد المكالمة، أو أنه في الأول قد تلبَّس بالصفات الملكية، فإذا عاد إلى حالته الجِبِلّية كان حافظًا لِما قيل له، فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني، فإنه على حالته المعهودة، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6040 و 6041](2333)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(2) و"بدء الخلق"(3215) وفي "خلق أفعال العباد"(1/ 94)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3638)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2/ 146 - 147) و"الكبرى"(1005 و 1006)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 202 - 203)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(5/ 410)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 158 و 257)، و (عبد بن حميد)(1490)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 252)، و (الحميديّ) في "مسنده"(256)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(38)، و (أبو نعيم) في "دلائل النبوّة"(1/ 279)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 259)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 688)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 314)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 52) و"الأسماء والصفات"(ص 204) و "دلائل النبوّة"(7/ 52 - 53)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3737)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
(1)
"الفتح" 1/ 51 - 52، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
(2)
"الفتح" 1/ 52، كتاب "بدء الوحي" رقم (2).
1 -
(منها): أن فيه دليلًا على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يسألونه عن كثير من المعاني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبهم، ويعلّمهم، وكانت طائفة منهم تسأل، وطائفة تحفظ، وكلهم أدّى، وبلّغ ما عَلِم، ولم يكتم حتى أكمل الله دينه، والحمد لله.
2 -
(ومنها): أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين.
3 -
(ومنها): جواز السؤال عن أحوال الأنبياء عليهم السلام من الوحي وغيره.
4 -
(ومنها): أن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل.
5 -
(ومنها): أن فيه إثباتَ الملائكة ردًّا على من أنكرهم، من الملاحدة، والفلاسفة.
6 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن الملَك له قدرة على التشكل بما شاء من الصور.
7 -
(ومنها): ما قاله الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث: نوعان أو ثلاثة من أنواع نزول الوحي، وقد ورد في غير ما حديث من نزول الوحي أنواع، حتى الرؤيا الصالحة جعلها جزءًا من أجزاء النبوة، ولكنه أراد بهذا الحديث نزول ما يُتْلَى، والله أعلم.
وقد روى حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان الوحي إذا نزل سمعت الملائكة صوتًا كإمرار السلسلة على الصَّفَا.
وفي حديث يوم حنين أنهم سمعوا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، متفق عليه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتبدى له جبريل عليه السلام بين السماء والأرض، وذلك بُيّنَ في حديث جابر بن عبد الله الذي أخرجه الشيخان، وأحيانًا يأتيه جبريل في هيئة إنسان، فيكلمه مشافهة كما يكلم المرء أخاه، وذلك بُيّن في حديث عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر في الإيمان، والإسلام، وحديثه حين جاء جبريل في صفة دحية الكلبي، وفي
حديث عمر بن الخطاب، ويعلى بن أمية إذا نزل عليه الوحي يحمرّ وجهه، وَيغطّ غَطيط البكر، وينفخ، إلى غير ذلك من أنواع الوحي الكثيرة.
وروى ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَو يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)} [الشورى: 51].
قال: نرى هذه الآية تعمّ مَنْ أوحَى الله إليه من البشر كلهم، والكلام ما كلم الله موسى عليه السلام من وراء حجاب.
والوحي ما يوحي الله إلى نبيّ من أنبيائه، فيثبت الله ما أراد من الوحي في قلب النبيّ، فيتكلم به النبيّ، ويكتبه، فهو كلام الله ووحيه.
ومنه ما يكون بين الله ورسله لا يكلم به أحد من الأنبياء أحدًا من الناس، ولكن يكون سرّ غَيْب بين الله وبين رسله.
ومنه ما يتكلم به الأنبياء، ولا يكتمونه أحدًا، ولا يؤمَرون بكتمانه، ولكنهم يحدّثون به الناس حديثًا، ويبيّنون لهم أن الله عز وجل أمرهم أن يبيّنوه للناس، ويبلغوهم إياه.
ومن الوحي ما يُرسل الله من يشاء من ملائكته، فيوحيه وحيًا في قلوب من يشاء من أنبيائه ورسله.
وقد بَيَّن في كتابه أنه كان يرسل جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقال في كتابه:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 97]. وقال عز وجل: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} [الشعراء: 192 - 195].
وروي عن مجاهد في قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} قال: أن ينفث في نفسه، {أَو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} قال: موسى حين كلمه الله، {أَو يُرْسِلَ رَسُولًا} قال: جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأشباهه من الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. انتهى كلام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله ببعض تصرف
(1)
، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1)
"التمهيد" 22/ 113 - 114، و"الاستذكار" 8/ 60 - 67.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6042]
(2334) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ
(1)
لِذَلِكَ، وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ -بالمهملة- أبو محمد البصريّ، وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السدوسيّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن، واسم أبيه يسار -بالتحتانية، والمهملة- الأنصاري مولاهم البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، وكان يرسل كثيرًا، ويدلّس، رأس أهل الطبقة [3](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.
6 -
(حِطَّانُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الرّقَاشيّ البصريّ، ثقةٌ [2] مات في ولاية بشر على العراق بعد السبعين (م 4) تقدم في "الصلاة" 16/ 909.
7 -
(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو الوليد الصحابيّ المشهور، أحد النقباء، البدريّ، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية، قال سعيد بن عُفير: كان طوله عشرة أشبار (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه
(1)
وفي نسخة: "إذا أُنزل عليه كُرِبَ".
ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: قتادة، عن الحسن، عن حطّان بن عبد الله، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ)، وفي بعض النسخ:"إذا أنزل عليه" بإسقاط لفظة "الوحي". (كُرِبَ) بضم الكاف، وكسر الراء. (لِذَلِكَ، وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ)؛ أي: تغيَّر وصار كلون الرماد، أو عَلَته غَبَرَةٌ، والرَّبَد تغيّر البياض إلى السواد، وإنما حصل له ذلك؛ لِعِظَم موقع الوحي، قال الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5].
قال النوويّ رحمه الله: وفي ظاهر هذا مخالفة لِمَا سبق في أول "كتاب الحج" في حديث المُحْرِم الذي أحرم بالعمرة، وعليه خلوق، وأن يعلى بن أمية نظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي، وهو محمرّ الوجه.
وجوابه أنها حمرة كَدِرةٌ، وهذا معنى التربُّد، أو أنه في أوله يتربد، ثم يحمرّ، أو بالعكس. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله:
قوله: "كُرِب لذلك" وجدناه بتقييد من يوثق بتقييده مبنيًّا لِمَا لم يُسَمّ فاعله؛ أي: أصيب بالكرب، وهو الألم والغم.
وقوله: "تربَّد وجهه": علته رُبدة، وهي: لون بين السواد والغبرة، ومنه قيل للنعام: رُبدٌ، جَمْع ربداء؛ كحمراء وحُمْر. انتهى
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6042 و 6043](2334 و 2335)، وقد تقّدم أثناء حديث في "كتاب الحدود" برقم [3/ 4408](1690)، و (أحمد) في
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 89.
(2)
"المفهم" 6/ 173.
"مسنده"(5/ 317 و 318 و 320 و 327)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 197)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6043]
(2335) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطَّانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ نَكَسَ رَأسَهُ، وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُؤُوسَهُمْ، فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ
(1)
رَفَعَ رَأسَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد الله الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، ربما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (نَكَسَ رَأسَهُ، وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُؤُوسَهُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: تنكيسه صلى الله عليه وسلم رأسه لِثِقَل ما يُلْقَى عليه، ولشدة ما يَجده من الكرب، وتنكيس أصحابه رضي الله عنهم رؤوسهم عند ذلك استعظامٌ لذلك الأمر، وهيبةٌ له. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ رَفَعَ رَأسَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم نُسخ بلادنا: "أُتلي" بهمزة، ومثناة فوقُ ساكنة، ولام، وياء، ومعناه: ارتَفَعَ عنه الوحي، هكذا فسَّره صاحب "التحرير"، وغيره، ووقع في بعض النسخ "أُجلي" بالجيم، وفي رواية ابن ماهان:"انجلى"، ومعناهما: أزيل عنه، وزال عنه، وفي رواية البخاري:"انجلى"، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف الرواة في هذا الحرف، قال القاضي
(1)
وفي نسخة: "فلما انجلى عنه".
(2)
"المفهم" 6/ 173.
(3)
"شرح النوويّ" 89، 15.
عياض رحمه الله: قيَّده شيخنا أبو عبد الله محمد بن عيسى الجياني بضم الهمزة، وتاء باثنتين من فوقها ساكنة، ولام مكسورة، مثال: أُعْطِيَ، وعند الفارسي مثله، إلا أنه بثاء مثلثة، وعند العذري من طريق شيخه الأسدي: بكسر الثاء المثلثة: أُثِلَ، مثل ضُرِب، وكان عند شيخنا الحافظ أبي عليّ:"أُجْلِي" بالجيم، مثل أُعْطِي أيضًا، وعند ابن ماهان:"انجلى" بالنون، وكذا رواه البخاري، وهاتان الروايتان لهما وجه؛ أي: انكشف عنه، وذهب، وفُرّج عنه، يقال: انجلى عنه الغمّ، وأجليته؛ أي: فرّجته، فتفرّج، وأَجْلَوا عن قتيل؛ أي: أفرجوا عنه، وتركوه، ورواه البخاريّ في "كتاب الاعتصام":"فلما صَعِد الوحي"، وهو صحيح، وفي البخاريّ في "سورة سبحان":"فلما نزل الوحي"، وكذا في مسلم في حديث سؤال اليهوديّ، وهذا وَهَمٌ بَيِّنٌ، ورواه ابن أبي خيثمة:"فلما أُعلِيَ عنه"؛ أي: نُحِّيَ عنه، كما قال أبو جهل: اعْلُ عَنِّي؛ أي: تَنَحَّ، ذكر هذا كلّه القاضي عياض في كتابه "مشارق الأنوار"
(1)
.
(24) - (بَابٌ فِي سَدْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَعْرَهُ، وَفَرْقِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6044]
(2336) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ مَنْصُورٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِيَانِ ابْنَ سَعْدٍ- عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُءُوسَهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ بِه، فَسَدَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ، ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل أحد عشر بابًا، واسم أبي مزاحم: بَشِير، و"عبيد الله بن عبد الله" هو: ابن عتبة بن مسعود.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 17.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، كذا وصله إبراهيم بن سعد هنا، ويونس عند البخاريّ، واختُلف على معمر في وَصْله وإرساله، قال عبد الرزاق في "مصنفه": أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله:"لَمّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. . ." فذكره مرسلًا، وكذا أرسله مالك، حيث أخرجه في "الموطأ" عن زياد بن سعد، عن الزهري، ولم يذكر مَن فوقه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الوصل أرجح من الإرسال هنا؛ لأن الذي وَصَله إبراهيم بن سعد، كما هنا، ويونس عند البخاريّ، وهما ثقتان ثبتان، وإن كان مالك، ومعمر كذلك أيضًا، إلا أن معهما زيادةَ علم، فوجب قبولها، ولذلك اتّفق الشيخان على إخراج الحديث في "صحيحيهما"، والله تعالى أعلم.
(قَال) ابن عبّاس رضي الله عنهما (كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ) اليهود والنصارى، (يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ) من بابَي نصر، وضرب، قال في "القاموس": سَدَل الشعر يَسْدِله -أي: بالكسر- ويَسْدُله -أي: بالضمّ- وأسدله: أرخاه، وأرسله. انتهى. والسدلُ: إرسال الشعر حول الرأس، من غير أن يُقسّم بنصفين، وقال النوويّ: قال أهل اللغة: يقال: سدل يسدُل، ويسدِل بضمّ الدال، وكسرها. انتهى.
(وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُمْ) من بابَي نصر، وضرب، وقال في "المصباح": فرقتُ بين الشيء فَرْقًا، من باب قتل: فصلت أبعاضه، وفرَقتُ بين الحقّ والباطل: فصلت أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، وفي لغةٍ من باب ضرب، وقرأ بها بعض التابعين. انتهى. وقال في "الفتح": قوله: "يفرقون": هو بسكون الفاء، وضم الراء، وقد شدّدها بعضهم، حكاه عياض، قال: والتخفيف أشهر. انتهى
(2)
.
والفرق أن يَقْسِم الشعر نصفين: نصفه من يمينه على الصدر، ونصفه من يساره عليه.
(1)
"الفتح" 13/ 428، كتاب "اللباس" رقم (5917).
(2)
"الفتح" 13/ 429، كتاب "اللباس" رقم (5917).
(وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَم يُؤْمَرْ بِهِ)، وفي رواية معمر:"وكان إذا شكّ في أمر، لم يؤمر فيه بشيء، صَنع ما يصنع أهل الكتاب". (فَسَدَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: موافقةً لأهل الكتاب، (نَاصِيَتَهُ) قال في "التاج": الناصية، والناصاة: قُصَاص الشعر، في مقدم الرأس، والجمع النواصي، قال الأزهريّ: الناصية في كلام العرب: منبت الشعر في مقدم الرأس، لا الشعر الذي تسميه العامة الناصية، وسمى الشعر ناصية؛ لنباته من ذلك الموضِع. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ فرَقَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخفيف الراء على الأشهر، من بابي نصر، وضرب، كما مرّ آنفًا. (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لِقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد ذلك، وفي رواية معمر:"ثم أُمر بالفرق، ففرَق"، وكان الفرق آخر الأمرين.
قال في "الفتح": وكأن السر في ذلك أن أهل الأوثان، أبعد عن الإيمان، من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة، فكان يُحب موافقتهم؛ ليتألّفهم ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه، والذين حوله، واستمرّ أهل الكتاب على كفرهم، تمحّضت المخالفة لأهل الكتاب.
وقال القرطبيّ: قال القاضي عياض: سَدْل الشعر إرساله، والمراد به هنا عند العلماء: إرساله على الجبين، واتخاذه كالقَصَّة، يقال: سدل شعره، وثوبه: إذا أرسله، ولم يضمّ جوانبه، والفرق: تفريق الشعر بعضه عن بعض، والفرق: تفريقك بين كل شيئين، قال الحربيّ: والمفرّق: موضع الفرق، والفرق في الشعر سُنَّة؛ لأنَّه الذي رجع إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والظاهر أنه بوحي؛ لقول الراوي:"كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، فسدل، ثم فرق بَعْدُ"، فظاهره: أنه لأمر من الله تعالى، حتى جعله بعضهم نَسْخًا، وعلى هذا لا يجوز السَّدل، ولا اتِّخاذ الناصية والْجُمَّة، وقد روي: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حَرَسًا يجزُّون كل من لم يفرق شعره.
(1)
"تاج العروس" 1/ 8625.
قال القرطبيّ: وفيما قاله القاضي رحمه الله، وحكاه نظر، بل الظاهر من مساق الحديث أن السَّدل إنما كان يفعله لأجل محبته استئلاف أهل الكتاب بموافقتهم، لكنه كان يوافقهم فيما لم يُشرع له فيه، فلما استمروا على عنادهم، ولم ينتفعوا بالموافقة، أحبَّ مخالفتهم أيضًا فيما لم يُشرع له، فصارت مخالفتهم محبوبة له، لا واجبة عليه، كما كانت موافقتهم.
وقوله: "فيما لم يؤمر"؛ يعني: فيما لم يُطْلب منه، والطلب يشمل الواجب والمندوب، كما قررناه في الأصول، وأما توهُّم النَّسخ في هذا، فلا يُلتفت إليه؛ لإمكان الجمع، كما قررناه، وهذا بعد تسليم أن محبة موافقتهم ومخالفتهم حكم شرعيّ، فإنَّه يَحْتَمِل أن يكون ذلك أمرًا مصلحيًّا، هذا مع إنه لو كان السَّدل منسوخًا بوجوب الفرق لصار الصحابة رضي الله عنهم إليه، أو بعضهم، وغاية ما روي عنهم أنه كان منهم من فرق، ومنهم من سدل، فلم يعب السَّادل على الفارق، ولا الفارق على السَّادل، وقد صحَّ عنه رضي الله عنه أنه كان له لِمَّةٌ، فإن انفرقت فرقها، وإلا تركها، وهذا يدلُّ على أن هذا كان غالب حاله؛ لأنَّ ذلك ذَكَره مع جملة أوصافه الدائمة، وحِليته التي كان موصوفًا معروفًا بها، فالصحيح: أن الفرق مستحبٌّ، لا واجب، وهذا الذي اختاره مالك، وهو قول جلّ أهل المذاهب. والله تعالى أعلم.
وقوله: "كان يحبُّ موافقة أهل الكتاب" قد قلنا: إن ذلك كان في أوَّل الأمر عند قدومه المدينة في الوقت الذي كان يستقبل قبلتهم، وإن ذلك كله كانت حكمته التأنيس لأهل الكتاب، حتى يُصْغُوا إلى ما جاء به، فيتبيّن لهم أنه الحقّ، والاستئلاف لهم ليدخلوا في الدين، فلما غلبت عليهم الشقوة، ولم ينفع معهم ذلك نَسَخ الله تعالى استقبال قبلتهم بالتوجه نحو الكعبة، وأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في غير شيء؛ كقوله:"إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم"، وذكر أبو عمر في "التمهيد" عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اخضبوا، وافرقوا، خالفوا اليهود"، قال: إسناده حسن، ورجاله كلهم ثقات؛ وكقوله في الحائض:"اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، حتى قالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، فاستقر آخر أمره على مخالفتهم فيما لم يُحكم عليه فيه بحكم، فإذا ثبت هذا فلا حجَّة
في قول عائشة رضي الله عنها: "كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب" على أن شَرْعهم شَرْع له، فتأمَّل ذلك.
قال: واختلاف هذه الأحاديث في كيفية شَعْر رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو اختلاف أحوال؛ إذ قد فعل ذلك كله، فقد سدل، وفرق، وكان شعره لِمَّة، ووفرة، وجُمَّة. وقد روى الترمذيّ من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت:"قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وله أربع غدائر"، قال: هذا حديث حسن صحيح.
والغدائر: الضفائر، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
غدائره مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا
…
تَضِلُّ الْعِقَاصُ في مُثَنًّى ومُرْسَلِ
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ: وقد جزم الحازميّ بأن السدل نُسِخ بالفرق، واستدلّ برواية معمر حيث قال:"ثم أُمر بالفرق، ففرق وكان الفرق آخر الأمرين"، قال الحافظ: وهو ظاهر.
وقال النوويّ: الصحيح المختار جواز السدل والفرق، وأن الفرق أفضل، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأرجح القول بأن السدل منسوخ بالفرق؛ كما دلّت عليه رواية معمر المذكورة آنفًا، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: واختلفوا في معنى قوله: "يحب موافقة أهل الكتاب"، فقيل: فَعَله اسئتلافًا لهم في أول الإسلام، وموافقةً لهم على مخالفة عبدة الأوثان، فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم، وأظهر الإسلام على الدين كله صرّح بمخالفتهم في غير شيء، منها: صبغ الشيب.
وقال آخرون: يَحْتَمِل أنه أُمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شيء، وإنما كان هذا فيما عَلِم أنهم لم يبدّلوه.
واستدَلّ به بعضهم، على أن شَرْع من قبلنا شَرْع لنا، حتى يَرِد في شرعنا ما يخالفه، وعَكَس بعضهم، فاستَدَلّ به على أنه ليس بشرع لنا؛ لأنه لو كان
(1)
"المفهم" 6/ 124 - 127.
كذلك، لم يقل:"يحب"، بل كان يتحتم الاتباع، والحقّ أن لا دليل في هذا على المسألة؛ لأن القائل به يَقْصُره على ما وَرَدَ في شرعنا أنه شرع لهم، لا ما يؤخذ عنهم هم؛ إذ لا وثوق بنقلهم.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم في غير موضع من هذا الشرح ترجيح القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا، بأدلته الصحيحة الصريحة، وقد عقدت له بابًا في "التحفة المرضيّة" في الأصول، فراجعها مع شرحها
(1)
تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
قال الحافظ -بعد ذكر ما سبق عن القرطبيّ واعتراضه على عياض-: ويَحْتَمِل أيضًا، وهو أقرب أن الحالة التي تدور بين الأمرين، لا ثالث لهما، إذا لم ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، كان يعمل فيه بموافقة أهل الكتاب؛ لأنهم أصحاب شرع، بخلاف عبدة الأوثان، فإنهم ليسوا على شريعة، فلما أسلم المشركون انحصرت المخالفة في أهل الكتاب، فأُمر بمخالفتهم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال هو الأظهر عندي، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6044 و 6045](2336)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3558 و 3944) و"اللباس"(5917)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4188)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(29)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5240) و"الكبرى"(9334)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(2632)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 188)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 246 و 261)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2377)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5485)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 430)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"
(1)
راجع: "المنحة الرضيّة" 2/ 211 - 222.
(2)
"الفتح" 10/ 362.
(1/ 489 و 3/ 39)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 229)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز فرق شعر الرأس.
2 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قول ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث: "كان يحب موافقة أهل الكتاب"، وقوله:"ثم فرق بعدُ" نَسْخ حكم تلك الموافقة، كما تقدّم.
3 -
(ومنها): أن بعض الأصوليين استدلّ به على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يَرِدْ شرعنا بخلافه. وقال آخرون: بل هذا دليلٌ أنه ليس شرعًا لنا؛ لأنه قال: "يحبّ موافقتهم"، فأشار إلى خِيرته، ولو كان شرعًا لنا، لتحتّم اتّباعه. ذكره النوويّ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت قريبًا أن الأرجح هو القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا بالشروط المذكورة في "التحفة المرضيّة"، فراجعها مع شرحها
(1)
، وبالله تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": ومما يُشْبه الفرق والسدل صبغ الشعر، وتَرْكه، كما تقدم، ومنها صوم عاشوراء، ثم أمر بنوع مخالفة لهم فيه بصوم يوم قبله أو بعده، ومنها استقبال القبلة، ومخالفتهم في مخالطة الحائض، حتى قال:"اصنعوا كل شيء إلا الجماع"، فقالوا: ما يَدَعُ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه، وقد تقدم بيانه في "كتاب الحيض"، وهذا الذي استقر عليه الأمر.
5 -
(ومنها): ما قال ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث من الفقه تَرْك حَلْق شعر الرأس، وحبس الْجُمَم، وفيه دليل على أن حبس الجمّة أفضل من الحلق؛ لأن ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصته أفضل مما أقرّ الناس عليه، ولم ينههم عنه؛ لأنه في كل أحواله في خاصة نفسه على أفضل الأمور، وأكملها، وأرفعها صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضًا من الفقه أن الفرق في الشعر سنةٌ، وأنه أَولى من السَّدْل؛ لأنه آخِر ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الفرق لا يكون
(1)
راجع: "المنحة الرضيّة" 2/ 211 - 222.
إلا مع كثرة الشعر، وطوله، والناصيةُ شعر مقدم الرأس كله، وسَدْله تَرْكه منسدلًا سائلًا على هيئته، والتفريق أن يُقسَم شعر ناصيته يمينًا وشمالًا، فتظهر جبهته، وجبينه من الجانبين، والفرق سُنَّة مسنونة، وقد قيل: إنها من ملة إبراهيم وسُنَّته صلى الله عليه وسلم، ذكر الكلبيّ عن أبي صالح، عن ابن عباس في قول الله عز وجل:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} الآية [البقرة: 124] قال: الكلمات عشر خصال: خمس منها في الرأس، وخمس في الجسد، فأما التي في الرأس: ففرق الشعر، وقصّ الشارب، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق، وأما التي في البدن: فالختان، وحلق العانة، والاستنجاء، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقوله:{فَأَتَمَّهُنَّ} ؛ أي: عمل بهنّ، قال أبو عمر: يؤكّد هذا قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} الآية [النحل: 123]، وقوله تبارك وتعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68]. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): فيما يظهر -كما قال الحافظ رحمه الله- النهيُ عن صوم يوم السبت، وقد جاء ذلك من طرق متعددة، في النسائي، وغيره، وصرّح أبو داود بأنه منسوخ، وناسخه حديث أم سلمة رضي الله عنه، أنه كان يصوم يوم السبت والأحد، يتحرى ذلك، ويقول:"إنهما يوما عيد الكفار، وأنا أحب أن أخالفهم"، وفي لفظ:"ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان أكثر صيامه السبت والأحد"، أخرجه أحمد، والنسائيّ، وأشار بقوله:"يوما عيد" إلى أن يوم السبت عيد عند اليهود، والأحد عيد عند النصارى، وأيام العيد لا تصام، فخالفهم بصيامه، ويُستفاد من هذا أن الذي قاله بعض الشافعية، من كراهة إفراد السبت، وكذا الأحد، ليس جيدًا، بل الأَولى في المحافظة على ذلك يوم الجمعة، كما ورد الحديث الصحيح فيه، وأما السبت والأحد، فالأَولى أن يصاما معًا، وفرادى؛ امتثالًا لعموم الأمر بمخالفة أهل الكتاب.
قال الحافظ: وقد جمعت المسائل التي وردت الأحاديث فيها، بمخالفة أهل الكتاب، فزادت على الثلاثين حكمًا، وقد أودعتها كتابي الذي سمّيته:
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 6/ 74 - 75.
"القول الثبت، في الصوم يوم السبت". انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6045]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قريبًا، و"أبو الطاهر" هو: أحمد بن عمرو بن السرح المصريّ، و"يونس" هو: ابن يزيد المصريّ.
[تنبيه]: رواية يونس عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3365)
- حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَسْدُلُ شعره، وكان المشركون يَفْرِقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يَسدلون رؤوسهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحِبّ موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه". انتهى
(2)
.
(25) - (بَابٌ فِي حُسْنِ أَوْصَافِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وصِفَةِ شَعْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6046]
(2337) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا، مَرْبُوعًا، بُعَيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، عَظِيمَ الْجُمَّة، إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ، عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ، ما رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"الفتح" 13/ 429 - 430، كتاب "اللباس" رقم (5917).
(2)
"صحيح البخاريّ " 3/ 1305.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمْرو بن عبد الله بن عُبيد، الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ، ثقةٌ، مكثرٌ، عابدٌ، اختلط بأخرة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
2 -
(الْبَرَاءُ) بن عازب بن الحارث بن عَدِيّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، استصغر يوم بدر، نزل الكوفة، وكان هو وابن عمر لِدَةً، مات سنة اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
والباقون تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من مشايخ الجماعة بلا واسطة، وأنه مسلسل بالتحديث، والسماع، ومسلسلٌ بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان.
شرح الحديث:
عن أبي إِسْحَاقَ السَّبيعيّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ) بن عازب رضي الله عنهما، قال في "الفتح": كذا قال أكثر أصحاب أبي إسحاق، وخالفهم أشعث، فقال: عن أبي إسحاق، عن جابر بن سَمُرة، أخرجه النسائيّ، وأعله الترمذيّ، وحسّنه، ونَقَل عن البخاريّ أنه قال: حديث أبي إسحاق عن البراء، وعن جابر بن سمرة صحيحان، وصححه الحاكم. انتهى
(1)
.
(يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) قيل: هو بفتح الراء، وكسر الجيم؛ أي: رَجِل الشعر، وهو الذي بين الجعودة والسبوطة، قاله الأصمعيّ وغيره، وفي "الجامع": شعرٌ رَجِلٌ إذا لم يكن شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة، بل بينهما، وذكر بعضهم أنه وقع في الروايات المعتمدة بضمّ الجيم، فيَحْتَمِل أن يكون المراد به المعنى المتبادَر المتعارف الذي يراد بلفظ الرجل، وهو المقابل للمرأة، ومعناه واضحٌ، وهو موطِّئ؛ لأن الخبر في الحقيقة هو قوله:"مربوعًا"؛ إذ هو يفيد الفائدة المعتدّ بها، والمراد به أنه كان لا طويلًا، ولا قصيرًا، ويَحْتَمل أن يراد به شَعْره صلى الله عليه وسلم الأطهرُ؛ إذ الرجل بكسر الجيم،
(1)
"الفتح" 13/ 336، كتاب "اللباس" رقم (5848).
وفتحها، وضمّها، وسكونها بمعنى واحد، وهو الذي في شعره تكسّر يسير، ويؤيّد ما صحّ في بعض النُّسخ بكسر الجيم، وسكونها، وحينئذ لا يحتاج إلى توطئة الخبر، وكأن هذا المعنى أصوب؛ إذ لا يليق بحال الصحابيّ أن يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بكونه رجلًا بالمعنى المتبادر منه، ولم يُسمع في غير هذا الخبر ذكر أحد من الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعنوان كان رجلًا، بل الظاهر أنه من زيادات بعض الرواة، ممن دون الصحابيّ، لكن الطعن في الرواة مستبعد؛ والأحسن أن يُحمل على المعنى المرادف، أو على المتعارف، ويراد به كامل الرجوليّة، أو موطئ للخبر، وهو كثير في العرف، يقال: فلان رجل كريمٌ، وقد جاء في القرآن قوله تعالى:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55]، فقوله:"مربوعًا": صفة لـ "رجلًا" على هذا المعنى، وخبر آخر لـ "كان" على ذلك المعنى، وكذا إعراب قوله:"بعيد ما بين المنكبين". انتهى منقولًا من "جمع الوسائل" باختصار وتصرّف
(1)
.
(مَرْبُوعًا)؛ أي: بين الطويل والقصير، يقال: رجل رَبْعَةٌ، ومربوع.
وقال النوويّ: قوله كان "مربوعًا" هو بمعنى قوله في الرواية الثانية: "ليس بالطويل، ولا بالقصير". انتهى
(2)
.
(بَعِيدَ) قيل: رُويَ مكبرًا، ومصغّرًا
(3)
. (مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ)؛ أي: عريض أعلى الظهر، ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن سعد:"رَحْبَ الصدر"، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال المناويّ: قوله: "المنكبين": تثنية منكب: مُجتمع عظم العضد والمنكب، وهو لفظ مشترك يُطلق على ما ذُكِر، وعلى المحل المرتفع من الأرض، وعلى ريشة من أربع في جناح الطير. انتهى
(5)
.
(عَظِيمَ الْجُمَّةِ) -بضم الجيم-، قيل: الجمة أكبر من الوَفْرة، وذلك إذا سقطت على المنكبين، والوفرة إلى شحمة الأذن، واللِّمّة بينهما تُلِمّ بالمنكبين،
(1)
راجع: "هامش النسخة التركيّة" 7/ 83.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 91.
(3)
"تحفة الأحوذيّ" 5/ 319.
(4)
"الفتح" 8/ 211، كتاب "المناقب" رقم (3551).
(5)
"فيض القدير" 5/ 78.
قاله في "المشارق"
(1)
.
وقال ابن منظور: الْجُمّة بالضم: مُجتَمَع شعر الرأس، وهي أكثر من الْوَفْرة، وقال أيضًا: الجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين. انتهى
(2)
.
(إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ) قال ابن الأثير رحمه الله: شحمة الأذن: موضع خرق القُرْط، وهو ما لان من أسفلها. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه"، وفي رواية:"ما رأيت من ذي لِمّة أحسن منه"، وفي رواية:"كان يضرب شعره منكبيه"، وفي رواية:"إلى أنصاف أذنيه"، وفي رواية:"بين أذنيه وعاتقه".
قال أهل اللغة: الجمة أكثر من الوفرة، فالجمة: الشعر الذي نزل إلى المنكبين، والوفرة: ما نزل إلى شحمة الأذنين، واللِّمّة: التي ألمت بالمنكبين.
قال القاضي عياض رحمه الله: والجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه، وهو الذي بين أذنيه وعاتقه، وما خَلْفه هو الذي يضرب منكبيه، قال: وقيل: بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا غفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصّرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكان يقصّر ويطوّل بحَسَب ذلك، والعاتق ما بين المنكب والعنق، وأما شحمة الأذن فهو اللين منها في أسفلها، وهو مُعَلَّق القُرْط منها، وتُوَضِّح هذه الروايات رواية إبراهيم الحربيّ:"كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الْوَفْرة ودون الْجُمّة". انتهى
(4)
.
(عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ)، ومثله في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، ولأبي داود من حديث هلال بن عامر عن أبيه:"رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب بمنى على بعير، وعليه بُرْد أحمر"، وإسناده حسنٌ، وللطبراني بسند حسن، عن طارق المحاربيّ نحوه، لكن قال:"بسوق ذي المجاز".
قال في "العمدة": "الْحُلَّة" -بالضمّ-: ثوبان: إزار ورداء، وقيل: أن يكون ثوبين من جنس واحد، سُمِّيا بذلك؛ لأن كل واحد منهما يَحُلّ على الآخر، وقيل: أصل تسميتها بهذا إذا كان الثوبان جديدين، ما حُلّ طيّهما،
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 153.
(2)
"لسان العرب" 12/ 107.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 449.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 91 - 92.
فقيل لهما: حُلّة لهذا، ثم استمرّ عليهما الاسم، وقال ابن الأثير: الحلة: واحدةُ الْحُلَل، وهي بُرود اليمن، ولا تسمى حُلّة، إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد، وقال غيره: والجمع: حُلَلٌ، وحِلالٌ، وحَلّله الْحُلّة: ألبسه إياها. انتهى
(1)
.
(مَا) نافية، (رَأَيْتُ شَيْئًا قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من الزمان، فقط ظرف مستغرق لِمَا مضى من الزمان، متعلّق بالنفي؛ أي: ما رأيت فيما مضى من عمري شيئًا أحسن منه صلى الله عليه وسلم خَلْقًا، وخُلُقًا
(2)
.
وقوله: (أَحْسَنَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم) قال الأبيّ رحمه الله: هو مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87] في نفي الأحسن، والمساوي. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6046 و 6047 و 6048](2337)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3551) و"اللباس"(5848 و 5901)، و (أبو داود) في "اللباس"(4072) و"الترجّل"(4183 و 4184)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3635) وفي "الشمائل"(3 و 4)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 183) و"الكبرى"(9325 و 9326 و 9327 و 9328)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3599)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(721)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 365 و 450)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 290 و 295 و 300 و 303)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6284 و 6285)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1700 و 1705)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 427 و 428)، و (البيهقيّ) في "دلائل
(1)
"عمدة القاري" 4/ 100.
(2)
راجع: "شرح الشيخ الهرري" حفظه الله تعالى 23/ 181.
(3)
"شرح الأبيّ" 6/ 131.
النبوّة" (1/ 222 - 223)، و (أبو الشيخ) في "أخلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم" (ص 112)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان صفات النبيّ صلى الله عليه وسلم الْخَلْقيّة، فقد زيّنه الله تعالى أكمل تزيين، وجعله أحسن الناس أجمعين، فهو صلى الله عليه وسلم. ولقد أجاد من قال:
وَأَجْمَلَ مِنْكَ لَمْ تَرَ عَيْنِي وَلَا
…
أَحْسَنَ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النِّسَاءُ
ومن قال:
خُلِقْتَ مُبَرَّءًا مِنْ كُلِّ عَيْبٍ
…
كَأَنَّكَ خُلِقْتَ كَمَا تَشَاءُ
2 -
(ومنها): جواز اتّخاذ الجمّة، وهو الشعر الذي نزل إلى المنكبين، والوفرة ما كان إلى شحمة الأذنين.
3 -
(ومنها): جواز لباس الحلّة الحمراء، قال القرطبيّ رحمه الله: وقد أخطأ من كَرِه لباسه مطلقًا، غير أنه قد يختص بلباسه في بعض الأوقات أهل الفسق والدعارة والمجون، فحينئذ يُكره لباسه؛ لأنَّه إذ ذاك تشبَّه بهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من تشبَّه بقومٍ فهو منهم"، لكن ليس هذا مخصوصًا بالحمرة، بل هو جار في كل الألوان والأحوال، حتى لو اختص أهل الظلم والفسق بشيء مما أصله سُنَّة كالخاتم والخضاب والفرق لكان ينبغي لأهل الدين ألا يتشبهوا بهم؛ مخافة الوقوع فيما كرهه الشرع من التشبه بأهل الفسق، ولأنه قد يَظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيعتقد ذلك فيه، وينسبه إليهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظانّ بذلك والمظنون بسبب المعونة عليه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "مما أصله سنّة. . . إلخ" فيه نظر لا
يخفى؛ إذ فيه فساد كبير؛ لأنه لو تركنا السُّنَّة لأجل أن بعض الفسقة يفعلها لضاعت السنن، فالحقّ أن ما ثبت شرعًا لا يُترك لأجل موافقته لأهواء بعض الكفرة، والفسقة، ومن ذلك ما سمعته من بعض الناس ممن يحلقون لحاهم لمّا سئلوا عن ذلك قالوا: إن القساوسة عندنا يوفّرون لحاهم، فنريد مخالفتهم،
(1)
"المفهم" 6/ 127 - 129.
فهكذا تضيع السنن، وهكذا يُلقي الشيطان شُبَهًا إلى أوليائه ليجادلوا بها أهل الحقّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبالجملة فشُبَهُ هذا الباب واسعة، فينبغي التنبّه لها، والتصديّ لأهل الأهواء بالردّ عليهم، ومناصحتهم، وأن لا يُخضَع لِمَا يُلقونه من الشُّبه والترّهات.
ومما يقطع دابر هذه الشبهة أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} الآية [البقرة: 222] أمر الصحابة رضي الله عنهم أن يباشروا المرأة في حال حيضها، ويجتنبوا جماعها في الفرج مخالفةً لليهود، فإنهم كانوا لا يساكنونها في بيت واحد فضلًا عن مباشرتها، فلما سمعت اليهود ذلك عابوا عليه ذلك، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله أفلا نجامعهنّ؛ أي: إدخالًا للغيظ عليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقد تبيَّن بهذا أنه لا يجوز إغاظة العدوّ بارتكاب ما حرّم الله تعالى.
وخلاصة القول أن ترك السُّنن، أو ارتكاب بعض المنهيّات بالشبهة المذكورة من أخطر الفساد في الدين، ومن أكبر مدخل للشيطان في تلبيس الحقّ على المسلمين، وحَمْلهم على الانحراف عن هدي نبيّهم صلى الله عليه وسلم، وهدي صحابته الأكرمين رضي الله عنهم، كما قال الله عز وجل:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6047]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ، أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، شَعْرُهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْه، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: لَهُ شَعَرٌ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل باب.
3 -
(وَكِيعُ) بنَ الجرّاح الرؤاسيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (مِنْ ذِي لِمَّةٍ) بكسر اللام، وتشديد الميم، قال الجزريّ في "النهاية": الجمة من شعر الرأس ما سقط على المنكبين، واللِّمة من شعر الرأس دون الجمة، سُمّيت بذلك؛ لأنها ألمَّت بالمنكبين، والوفرة من شعر الرأس إذا وصل إلى شحمة الأذن. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَحْسَنَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال المجد: الحلة بالضم: إزار ورداء، بُرْدٌ أو غيره، ولا يكون حلة إلا من ثوبين، أو ثوب له بطانة. انتهى
(2)
.
وفي رواية النسائيّ: "ما رأيت أحدًا أحسن فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقلت في "شرحي": الظاهر أن الجارّ والمجرور حال من "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا بيان الحال التي رآه عليها، متفكّرًا في جماله، ويَحْتَمِل أنه حال من "أحد"؛ لكونه في حيّز النفي، فصحّ وقوعه ذا حال، أو متعلّق بـ "رأيت"، لا لكون الرؤية كانت في الحلّة، بل لكون مفعولها كان في الحلّة، حال الرؤية، مثلُ: رأيت زيدًا في المسجد، ومثله كثير.
وقوله: (شَعْرُهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ)، ولفظ النسائيّ:"وَجُمَّتُهُ تَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ" بضم الجيم، وتشديد الميم قال الفيّوميّ: الجمّة من الإنسان: مُجتمع شَعْر ناصيته، يقال: هي التي تبلغ المنكبين، والجمع جُمَم، مثل غُرْفة وغُرَف. انتهى. وفي رواية البخاريّ من طريق شعبة، عن أبي إسحاق:"له شعر يبلغ شحمة أذنيه"، وهو مغاير لهذه الرواية، وجُمع بينهما بأن المراد: أن معظم شعره، كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متّصل إلى المنكب، أو يُحمل على حالتين. وقد وقع نظير ذلك في حديث أنس الآتي من رواية قتادة عنه أن شعره:"كان بين أذنيه وعاتقه"، وفي حديث حميد، عن ثابت، عنه:"إلى أنصاف أذنيه"، ومثله عند الترمذيّ من رواية ثابت عنه. وعند ابن سعد من
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 5/ 318.
(2)
"القاموس المحيط" ص 315.
رواية حمّاد، عن ثابت عنه:"لا يُجاوز شَعْره أذنيه"، وهو محمول على ما تقدّم، أو على أحوال متغايرة. وروى أبو داود من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة، ودون الجمّة"، وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذيّ وغيره:"فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه، إذا هو وفّره"؛ أي: جعله وفرة، فهذا القيد يؤيّد الجمع المتقدّم. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (لَيْسَ بِالطَّوِيل، وَلَا بِالْقَصِيرِ)، وفي الرواية الآتية:"ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير"، وتقدم: أنه "كان مربوعًا"، وفي لفظ:"رَبْعةً"، ووقع في حديث عائشة عند ابن أبي خيثمة:"لم يكن أحدٌ يماشيه من الناس يُنسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان، فيطولهما، فإذا فارقاه نُسبا إلى الطول، ونُسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة"
(2)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: لَهُ شَعَرٌ) بيّن به اختلاف شيخيه عمرو الناقد، وأبي كريب، حيث قال عمرو:"شعره يضرب منكبيه"، وقال أبو كريب:"له شعر يضرب منكبيه"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6048]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُ
(3)
خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الذَّاهِب، وَلَا بِالْقَصِيرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) السَّلُوليّ -بفتح المهملة- مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ تُكُلّم فيه للتشيع [9] (ت 204) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة 22/ 638.
(1)
"الفتح" 8/ 211 - 212، كتاب "المناقب" رقم (3551).
(2)
"الفتح" 8/ 210، كتاب "المناقب" رقم (3551).
(3)
وفي نسخة: "وأحسنهم".
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ) بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، صدوقٌ يَهِمُ [8]
(1)
(ت 198)(خ م د س ق) تقدم في "الحج" 7/ 2838.
3 -
(أَبُوهُ) يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الكوفيّ، وقد يُنسب لجدّه، ثقةٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "الحج" 7/ 2838.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَهُ) وقع في النسخة الهنديّة هكذا: "وأحسنه" بالإفراد، ووقع في غيرها:"وأحسنهم" بالجمع، وقوله:(خَلْقًا) قال القاضي عياض: ضبطناه: "خَلْقًا" -بفتح الخاء، وإسكان اللام- هنا؛ لأن مراده صفات جسمه، قال: وأما في حديث أنس فرويناه بالضم؛ لأنه إنما أخبر عن حسن معاشرته.
قال: وأما قوله: "وأحسنه"، فقال أبو حاتم السجستانيّ وغيره: هكذا تقوله العرب: وأحسنه، يريدون: وأحسنهم، ولكن لا يتكلمون به، وإنما يقولون: أجمل الناس، وأحسنه، ومنه الحديث:"خير نساءٍ رَكِبْن الإبلَ نساءُ قريشٍ، أشفقه على وَلَد، وأعطفه على زوج"، وحديث أبي سفيان:"عندي أحسن نساء العرب، وأجمله". انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وأحسنه خَلْقًا" -بفتح الخاء المعجمة- للأكثر، وضَبَطه ابن التين بضم أوله، واستشهد بقوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، ووقع في رواية الإسماعيلي بالشك:"وأحسنه خَلْقًا، أو خُلُقًا"، ويؤيده قوله قبله:"أحسن الناس وجهًا"، فإن فيه إشارة إلى الحُسْن الحسيّ، فيكون في الثاني إشارةٌ إلى الحسن المعنويّ. انتهى
(3)
.
وقال في موضع آخر: قوله: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنه خَلْقًا" بالإفراد في الثاني، وحديث ابن عباس في قول أبي سفيان:"عندي أحسن العرب، وأجمله أم حبيبة" بالإفراد في الثاني أيضًا، قال أبو حاتم السجستانيّ: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردًا، قال النحويون: معناه:
(1)
هذا هو الظاهر، وأما في "التقريب" أنه من السابعة، فلا يخفى بُعده.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 92.
(3)
"الفتح" 8/ 210، رقم (3551).
وأجمل مَن هناك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأحسنه خَلْقًا": الرواية بتوحيد ضمير "أحسنه"، وبفتح الخاء، وسكون اللام مِنْ "خَلْقًا"، فأما توحيد الضمير؛ فقال أبو حاتم: العرب تقول: فلان أجمل الناس، وأحسنه؛ يريدون أحسنهم، ولا يتكلمون به، قال: والنحويون يذهبون به إلى أنه أحسن مَن ثمَّةَ.
وأما "خَلْقًا": فأراد به حُسْن الجسم؛ بدليل قوله بعده: "ليس بالطويل الذاهب، ولا بالقصير"، وأما في حديث أنس، فروايته: بضم الخاء، واللام؛ لأنَّه يعني به: حسن المعاشرة، بدليل سياق ما بعده من الحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقوله: (لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الذَّاهِبِ) قال القاضي عياض رحمه الله: الذاهب: المفرِط في الطول، كما قال في الرواية الأخرى:"البائن". انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(26) - (بَابُ صِفَةِ شَعْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6049]
(2338) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ شَعَرًا رَجِلًا، لَيْسَ بِالْجَعْدِ، وَلَا السَّبِطِ، بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ)
(4)
.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد، أبو النضر البصريّ.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"الفتح" بزيادة من غيره.
(2)
"المفهم" 6/ 129 - 130.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 271.
(4)
وفي نسخة: "وعاتقيه".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (477) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، وبالتحديث.
شرح الحديث:
عن قَتَادَةَ أنه (قَالَ: قُلْتُ لأَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (كَيْفَ كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) أنس رضي الله عنه (كَانَ) شعره صلى الله عليه وسلم (شَعَرًا رَجِلًا) -بفتح الراء، وكسر الجيم- وهو الذي بين الْجُعُودة والسبوطة، قاله الأصمعيّ وغيره، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "رَجِلًا"؛ أي: ليس بالجعد، ولا بالسَّبط، والرواية في رَجِلًا، بفتح الراء، وكسر الجيم، وهي المشهورة، وقال الأصمعيّ: يقال: شعر رَجِل: بفتح الراء وكسر الجيم، ورَجَل: بفتح الجيم، ورَجْل: بسكونها، ثلاث لغات إذا كان بين السُّبوطة، والجعُودة، وقال غيره: شعر مرجَّل؛ أي: مُسَرَّحٌ، فكأنّ شعره صلى الله عليه وسلم بأصل خِلْقته مُسَرَّحًا. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: كان شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا -بفتح الراء، وكسر الجيم، وقد تُضَمّ، وتفتح- أي: فيه تكسُّرٌ يسير، يقال: رَجَّلَ شعره: إذا مشطه، فكان بين السبوطة والجعودة، وقد فسّره الراوي كذلك في بقية الحديث. انتهى
(3)
.
(لَيْسَ بِالْجَعْدِ، وَلَا السَّبِطِ) وفي رواية البخاريّ: "وليس بالجعد القطط، ولا بالسبط"؛ أي: إن شعره صلى الله عليه وسلم كان بين الجعودة والسبوطة، والشعر الجعد هو الذي يتجعد كشعور السودان، والسبط هو الذي يسترسل، فلا يتكسر منه شيء؛ كشعور الهنود، والقطط بفتح الطاء: البالغ في الجعودة بحيث يتفلفل
(4)
.
(بَيْنَ أُذُنيْهِ وَعَاتِقِهِ) وفي بعض النسخ: "وعاتقيه" بالتثنية؛ أي: إن
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 424.
(2)
"المفهم" 6/ 130.
(3)
"الفتح" 13/ 424، كتاب "اللباس" رقم (5905).
(4)
"الفتح" 13/ 421، كتاب "اللباس" رقم (5905).
شعره صلى الله عليه وسلم بين أذنيه وعاتقه، وفي حديث البراء رضي الله عنه:"له شعر يبلغ شحمة أذنيه إلى منكبيه"، قال في "الفتح": قال ابن التين تبعًا للداوديّ: قوله: "يبلغ شحمة أذنيه" مغاير لقوله: "إلى منكبيه"، وأجيب بأن المراد: أن مُعظم شعره كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصل إلى المنكب، أو يُحْمَل على حالتين، وقد وقع نظير ذلك في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم -يعني: هذا الحديث- من رواية قتادة عنه: "أن شعره صلى الله عليه وسلم كان بين أذنيه وعاتقه"، وفي حديث حميد عنه:"إلى أنصاف أذنيه"، ومثله عند الترمذيّ من رواية ثابت عنه، وعند ابن سعد من رواية حماد، عن ثابت عنه:"لا يجاوز شعره أذنيه"، قال الحافظ: وهو محمول على ما قدمته
(1)
، أو على أحوال متغايرة.
ورَوَى أبو داود من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوَفْرة، ودون الْجُمّة".
وفي حديث هند بن أبي هالة في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الترمذي وغيره: "فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه؛ إذا هو وَفّره"؛ أي: جعله وَفْرةً، فهذا القيد يؤيد الجمع المتقدم.
وروى أبو داود، والترمذيّ من حديث أم هانئ رضي الله عنها قالت:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أربع غَدائر"، ورجاله ثقات. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [26/ 6049 و 6050 و 6051](2338)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3547 و 3548) و"اللباس"(5905 و 5906 و 5907)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4185 و 4186)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(26)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 183)، و (ابن ماجه) في
(1)
أراد قوله: إن مُعظم شعره كان عند شحمة أذنه، وما استرسل منه متصل إلى المنكب.
(2)
"الفتح" 8/ 211 - 212، كتاب "المناقب" رقم (3551).
"اللباس"(3634)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20519)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 118 و 135 و 203)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6291)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 428)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 219 و 220 - 221) و"الدلائل"(1/ 421)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6050]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَاَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
3 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان التّنّوريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وما يتعلّق به في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6051]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أنَسٍ، قَالَ: كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أنصَافِ أُذُنَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (478) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ) تقدّم أن هذا لا ينافي الرواية الأخرى: "يضرب منكبيه"؛ إذ يمكن حمله على اختلاف الأوقات.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(27) - (بَابٌ فِي صِفَةِ فَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعَيْنَيْهِ، وَعَقِبَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6052]
(2339) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَلِيعَ الْفَمِ، أَشْكَلَ الْعَيْنِ، مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ، قَالَ: قُلْتُ: مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدّموا قبل باب، وقبله بثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَلِيعَ الْفَمِ) -بفتح الضاد المعجمة، وكسر اللام-؛ أي: عظيمه، أو واسعه، والعرب تتمدح بعِظَمِه، وتذمّ صِغَره، قال الزمخشريّ: والضليع في الأصل: الذي عَظُمت أضلاعه، ووفرت، فأجفر جنباه، ثم استُعمل في موضع العظيم، وإن لم يكن ثَمّ أضلاع، وقيل: ضليعه مهزوله،
وذابله، والمراد ذُبول شفتيه، ورقّتهما، وحُسنهما، وقيل: هذا كناية عن قوّة فصاحته، وكونه يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه
(1)
، ويأتي تفسير الصحابيّ له.
وقال النوويّ: أما قوله في ضليع الفم، فكذا قاله الأكثرون، وهو الأظهر، قالوا: والعرب تمدح بذلك، وتذم صغر الفم، وهو معنى قول ثعلب في ضليع الفم: واسع الفم، وقال شَمِر: عظيم الأسنان. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ضليع الفم" فسَّره سماك: بأنه عظيم الفم، وهو بمعنى واسع الفم، كما قاله ثعلب، والعرب تتمدَّح بسعة الفم، وتكره صِغَره، قال: وكأنهم يتخيَّلون أن سعة الفم يكون عنها: سعة الكلام، والفصاحة، وأن ضيق الفم يكون عنه قلَّة الكلام، واللُّكنة، وقد وُصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه كان يفتتح الكلام، ويختمه باشداقه؛ أي: لِسَعة شدقيه، وعدم تصنّعه، ومن هذا المعنى سُمّي الرجل أشدق. انتهى
(3)
.
وقال ابن منظور: ضليع الفم؛ أي: عظيمه، وقيل: واسعه، حكاه الهرويّ في "الغريبين"، والعرب تحمد عظم الفم، وسعته، وتذم صغره، ومنه قولهم في صفة منطقه: إنه كان يفتتح الكلام، ويختتمه بأشداقه، وذلك لِرُحْب شدقيه، قال الأصمعيّ: قلت لأعرابيّ: ما الْجَمَالُ؟ فقال: غُؤُور العينين، وإشراف الحاجبين، ورَحْب الشّدْقين، وقال شمر في قوله:"ضليع الفم": أراد عِظَم الأسنان، وتراصفها، ويقال: رجل ضليع الثنايا: غليظها، ورجل أضلعُ سِنَّه شبيهة بالضلع، وكذلك امرأة ضلعاء. انتهى
(4)
.
(أَشْكَلَ الْعَيْنِ) قال المجد: الأشكل ما فيه حمرة وبياض مختلط، أو ما فيه بياض يَضرب إلى الحمرة والكدرة، والأشكل من الإبل ما يَخْلِط سوادَهُ حمرةٌ، واسم اللون: الشُّكْلة بالضم، ومنه الشُّكلة في العين، وهي كالشُّهْلة، وقد أشكلت، وكان أشكل العين، وقيل: أي: طويل شقّ العين، وشكَلَ العِنَبُ: أينع بعضه، أو اسودّ، وأخذ في النضج؛ كَتَشَكَّلَ، وشَكَّلَ. انتهى
(5)
.
(1)
"فيض القدير" 5/ 75.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 93.
(3)
"المفهم" 6/ 137 - 138.
(4)
"لسان العرب" 8/ 226.
(5)
"القاموس المحيط" 1/ 1317.
وقال القرطبيّ: قوله: "أشكل العينين": قال أبو عبيد: الشُّهلة: حمرة في سواد العين، والشُّكلة: حمرة في بياضها، وهو محمود، قال صاحب "الأفعال": شَكِلَت العين -بكسر الكاف-، شُكْلَة، وشُكْلًا: إذا خالط بياضها حمرة، قال القرطبيّ: ونحو هذا في "الصحاح"، وزاد: عين شَكْلاء: بيّنة الشَّكَل، ورجل أشكل، ودمٌ أشكل: إذا كان فيه بياض وحمرة، وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، فأمَّا ما فسَّره به سماك من أنه طويل شق العين، فغير معروف عندهم، ولم أقف على من قاله غيره. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": قال أبو عبيد: الشُّكلة كهيئة الْحُمْرة، تكون في بياض العين، فإذا كانت في سواد العين فهي شُهْلة، وأنشد [من الطويل]:
وَلَا عَيْبَ فِيهَا غَيْرُ شُكْلَةِ عَيْنِهَا
…
كَذَاكَ عِتَاقُ الطَّيْرِ شَكْلٌ عُيُونُهَا
عِتَاقُ الطير: هي الصُّقُور، والْبُزَاة، ولا توصف بالحمرة، ولكن توصف بزُرْقة العين، وشُهلتِها، قال: ويُروى هذا البيت: غَيْرُ شُهْلة عينها، وقيل: الشُّكلة في العين: الصُّفرة التي تخالط بياض العين الذي حول الحدقة، على صفة عين الصقر، ثم قال: ولكنا لم نسمع الشُّكْلة إلا في الحمرة، ولم نسمعها في الصفرة، وأنشد:
وَنَحْنُ حَفَزْنَا
(2)
الْحَوْفَزَانَ
(3)
بِطَعْنَةٍ
…
سَقَتْهُ نَجِيعًا مِنْ دَمِ الْجَوْفِ أَشْكَلَا
قال: فهو هنا حُمرة لا شكّ فيه، وقوله في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كان ضَلِيع الفم، أشكل العين، منهوس العقبين" فسّره سماك بن حرب بأنه طويل شقّ العين، قال ابن سِيدَهْ: وهذا نادرٌ، قال: ويمكن أن يكون من الشُّكلة المتقدمة، وقال ابن الأثير: أشكلُ العين؛ أي: في بياضها شيء من حمرة، وهو محمود محبوب، يقال: ماءٌ أشكل: إذا خالطه الدم، وفي حديث مقتل عمر رضي الله عنه:"فخرج النبيذ مُشْكِلًا"؛ أي: مختلطًا بالدم، غير صريح، وكل
(1)
"المفهم" 6/ 138.
(2)
أي: طعنّا بالرمح.
(3)
"الْحَوْفَزَان" لقب الحارث بن شَرِيك الشيبانيّ، لُقّب بذلك؛ لأن قيس بن عاصم التميميّ حفزه بالرمح؛ أي: طعنه حين خاف أن يفوته. انتهى. "الصحاح" ص 247.
مختلط مشكل، وتشكّل العنب: أينع بعضه، وقال في "المحكم": شَكَلَ العنبُ
(1)
، وتشكّل: اسوَدّ، وأخذ في النُّضْج. انتهى
(2)
.
(مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ) قال المناويّ: بإعجام الشين، وإهمالها؛ أي: قليل لحم العقب، بفتح، فكسر: مُؤَخَّر القدم، ففي "جامع الأصول": رجل منهوس القدمين، والعقبين بسين، وشين: خفيف لحمهما، وفي "القاموس": المنهوس من الرجال: قليل اللحم. انتهى.
وقال النوويّ: وأما المنهوس فبالسين المهملة، هكذا ضبطه الجمهور، وقال صاحب "التحرير"، وابن الأثير: رُوِي بالمهملة، والمعجمة، وهما متقاربان، ومعناه: قليل لحم العقب، كما قال، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وقال الخطّابيّ: "منهوس العقب": قليل لحم العقب، وهو مأخوذ من النَّهْس، وهو عِرْقُ العظم، وأَخْذُ ما عليه من اللحم، والنهس أبلغ من النهش، والمبخوص قريب منهما، والبخصة، والبخص: لحم أسفل القدمين، وقيل للقليل منه: مبخوص، على معنى أن ذلك قد نيل منه، وأُخذ، فعَرِي مكانه من اللحم. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "منهوس العقبين" يُرْوَى بالسين المهملة، والمعجمة، قال ابن الأعرابيّ: يقال: رجل منهوس القدمين، ومنهوش القدمين؛ أي: قليل لحمهما؛ كما قال سماك، وهو مأخوذ من النهس، والنهش، قال أبو العباس: النهس أخذٌ بأطراف الأسنان، والنهش بالأضراس. انتهى
(5)
.
(قَالَ) شعبة (قُلْتُ لِسِمَاكٍ)؛ أي: ابن حرب، (مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ) سماك (عَظِيمُ الْفَمِ، قَالَ) شعبة (قُلْتُ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقِّ الْعَيْنِ) قال القاضي عياض: هذا وَهَمٌ من سماك باتفاق العلماء، وغَلَطٌ ظاهرٌ، وصوابه: ما اتفق عليه العلماء، ونقله أبو عبيد، وجميع أصحاب الغريب: أن الشُّكلة
(1)
في "القاموس": شَكَلَ العنبُ، مخفّفًا، ومشَدّدًا، وتشكّل.
(2)
"لسان العرب" 11/ 358.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 93.
(4)
"غريب الحديث للخطابيّ" 1/ 77.
(5)
"المفهم" 6/ 138.
حمرة في بياض العينين، وهو محمودٌ والشُّهلة بالهاء حمرة في سواد العين. انتهى
(1)
.
(قَالَ: قُلْتُ: مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ)، وهكذا قال أهل اللغة، كما تقدّم نقل كلامهم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 6052](2339)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3646) وفي "الشمائل"(9)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(765)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 88 و 103)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد المسند"(5/ 97)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6288 و 6289)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1904)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 416)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(1/ 210 و 211)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3634)، والله تعالى أعلم.
(28) - (بَابٌ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ، مَلِيحَ الْوَجْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6053]
(2340) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، كَانَ أَبْيَضَ، مَلِيحَ الْوَجْهِ. قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ: مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ سَنَةَ مِائَةٍ، وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 307.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مُصَنِّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان الواسطيّ المزنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182) وكان مولده سنة عشر ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
3 -
(الْجُرَيْرِيُّ) -بضمّ الجيم- سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختَلَطَ قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
4 -
(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، وربما سُمّي عَمْرًا، وُلد عام أحد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عن أبي بكر، فمن بعده، وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم، قاله مسلم وغيره (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (479) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق، كما نصّ عليه مسلم هنا، وهو آخر من مات منهم بمكة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنِ الْجُرَيْرِيِّ) سعيد بن إياس، وهو بضمّ الجيم، مصغّرًا: نسبة إلى جُرير بن عباد، أخي الحارث بن عباد بن ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، قاله في "اللباب"
(1)
. (عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ) بضمّ الطاء المهملة، (قَالَ) الْجُريريّ (قُلْتُ لَهُ)؛ أي: لأبي الطُّفيل، (أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) أبو الطُّفيل (نَعَمْ) رأيته صلى الله عليه وسلم (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (أَبْيَضَ)؛ أي: أبيض اللون؛ يعني: في صفاء، كما جاء أنه كان أزهر اللون، وكما قال في الرواية الأخرى:"ليس بالأبيض الأمهق". (مَلِيحَ الْوَجْهِ)؛ أي: حَسَنه، يقال:
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 276.
مَلُحَ الشيءُ بضمّ اللام مَلاحةً: بَهُجَ، وحَسُنَ منظرُهُ، فهو مليحٌ، والأنثى مليحةٌ، والجمع مِلَاحٌ
(1)
.
(قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ) صاحب الكتاب رحمه الله، (مَاتَ أَبُو الطُّفَيْلِ) رضي الله عنه (سَنَةَ مِائَةٍ)؛ أي: من الهجرة النبويّة.
قال الجامع عفا الله عنه: اختُلف في تاريخ وفاة أبي الطفيل رضي الله عنه، فذكر مسلم هذا، وذكر غيره غيره، قال الحافظ الذهبيّ رحمه الله في "سير أعلام النبلاء": وكان أبو الطفيل ثقةً فيما ينقله، صادقًا، عالِمًا، شاعرًا، فارسًا، عُمِّر دهرًا طويلًا، وشَهِد مع عليّ حروبه، قال خليفة: وأقام بمكة حتى مات سنة مئة أو نحوها، كذا قال، ثم قال: ويقال: سنة سبع ومائة، وقال البخاريّ: حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا مبارك، عن كثير بن أعين، قال: أخبرني أبو الطفيل بمكة سنة سبع ومائة، وقال وهب بن جرير: سمعت أبي يقول: كنت بمكة سنة عشر ومائة، فرأيت جنازةً، فسألت عنها، فقالوا: هذا أبو الطفيل.
قال الذهبيّ: هذا هو الصحيح من وفاته؛ لثبوته، ويعضده ما قبله. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: على الإطلاق، فإنه لم يوجد بعده أحدٌ ادعى الصحبة، إلا ما نُقل عن بعض الوضّاعين، ممن ادّعاها بعد ذلك، كَرَتَن الهنديّ، فقد قال الذهبيّ رحمه الله في "الميزان": رتن الهنديّ، وما أدراك ما رتن؟! شيخ دجال بلا ريب، ظهر بعد الستمائة، فادَّعَى الصحبة، والصحابة لا يكذبون، وهذا اجترأ على الله ورسوله، وقد ألّفت في أمره جزءًا، وقد قيل: إنه مات سنة (632 هـ)، وقيل: بعدها، ومع كونه كذابًا، فقد كذبوا عليه جملة كبيرة من أسمج الكذب والمحال
(3)
.
وقال السيوطيّ في "تدريب الراوي": وأما كونه آخر الصحابة موتًا مطلقًا، فجزم به مسلم، ومصعب الزبيري، وابن منده، والمزيّ، في آخرين،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 579.
(2)
"سير أعلام النبلاء" 3/ 470.
(3)
راجع: "ميزان الاعتدال" 2/ 45، بزيادة من غيره.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي الطفيل: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما على وجه الأرض رجل رآه غيري. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الطفيل رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 6053 و 6054](2340)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(790)، و (أبو داود) في "الأدب"(4864)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(14)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 454)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 205)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 418)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6054]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ رَأَيْتُهُ؟ قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ، مَلِيحًا، مُقَصَّدًا.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) هو: عبيد الله بن عُمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الساميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (480) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كَانَ أَبْيَضَ، مَلِيحًا، مُقَصَّدًا) بتشديد الصاد المهملة؛ أي:
(1)
"تدريب الراوي" 2/ 228.
مقتصدًا؛ يعني: أنه ليس بجسيم، ولا نحيف، ولا طويل، ولا قصير؛ كأنه نُحِي به القصد من الأمور.
وقال البيضاويّ: المقصد يريد به المتوسط بين الطويل والقصير، والناحل والجسيم، وقال القرطبيّ: المقصّد: القَصْد في جسمه، وطوله؛ يعني: كان غير ضئيل، ولا ضخم، ولا طويلًا ذاهبًا، ولا قصيرًا متردّدًا، بل كان وسطًا فيهما. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ: المقصَّد من الرجال: الذي ليس بجسيم، ولا قصير، ورواه بعضهم: مُقْصَدًا ساكن القاف، مخفف الصاد، مفتوحها، قال: وهو الرَّبْعَةُ من الرجال، قال: وكلُّ شيء مستوٍ غير مسرف، ولا ناقص، فهو قصد، ومقصد. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(29) - (بَابُ شَيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6055]
(2341) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ -قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيُّ- عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سُئِلَ أنَسُ بْنُ مَالِكٍ، هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنَّهَ لَمْ يَكُنْ رَأَى مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا -قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: كَأَنَّهُ يُقَلِّلُهُ- وَقَدْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيُّ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن
(1)
"المفهم" 6/ 130، و"فيض القدير على الجامع الصغير" 5/ 69.
(2)
"غريب الحديث للخطابيّ" 1/ 217.
عبد الرحمن الأوديّ -بسكون الواو- أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(هِشَامُ) بن حسان الأزديّ القردوسيّ -بالقاف، وضمّ الدال- أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقالٌ؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عَمْرة البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، عابدٌ، كبير القَدْر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا قبل بابين، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخْذه عنهم، ثم فصّل بعدُ؛ لاختلافهم فيها، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَن) محمد (بْنِ سِيرِينَ) أنه (فَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، والسائل هو ابن سيرين نفسه، كما في الروايتين التاليتين، وقد سأله أيضًا قتادة، كما في رواية النسائيّ. (هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) أي: هل غيّر صلى الله عليه وسلم شَيْبه بالخضاب؟ قال الفيّوميّ رحمه الله تعالى: خَضَبتُ اليد، وغيرَها خَضْبًا، من باب ضرب إذا غيّرتها بالخِضاب، وهو الحنّاء، ونحوه، قال ابن القطّاع: فإذا لم يذكروا الشيب، والشعر قالوا: خضب خِضابًا، واختضبتُ بالخضاب. وفي نسخة من "التهذيب": يقال للرجل: خاضبٌ إذا اختضب بالحنّاء، فإن كان بغير الحنّاء، قيل: صَبَغ شعره، ولا يقال: اختضب. انتهى بتصرّف يسير.
وقال ابن منظور رحمه الله تعالى: الخِضاب: ما يُختضب به، من حِنّاء، وكَتَم، ونحوه. وفي "الصحاح": الخِضاب: ما يُختضب به. واختضب بالحنّاء، ونحوه، وخَضَب الشيءَ يَخْضِبُهُ خَضْبًا، وخَضّبه: غيّر لونه بحمرة، أو صُفْرة، أو غيرهما، قال الأعشى [من الطويل]:
أَرَى رَجُلًا مِنْكُمْ أَسِيفًا كَأَنَّمَا
…
يَضُمُّ إِلَى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبَا
ذكّره على إرادة العضو، أو على قوله [من المتقارب]:
فَلَا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا
…
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
ويجوز أن يكون صفة لرجل، أو حالًا من المضمر في "يضمّ"، أو المخفوضِ في "كشحيه".
وخضَب الرجل شيبه بالحنّاء يَخضِبه، والْخِضاب: الاسم. قال السهيليّ: عبد المطّلب أول من خضب بالسواد من العرب. ويقال: اختضب الرجل، واختضبت المرأة، من غير ذِكر الشعر. وكلُّ ما غُيّر لونه فهو مخضوبٌ، وخَضِيبٌ، وكذلك الأنثى، يقال: كفّ خَضِيبٌ، وامرأة خَضِيبٌ، والجمع خُضُبٌ. قال في "التهذيب": كلُّ لون غَيَّرَ لونَهُ حمرةٌ فهو مخضوبٌ. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أنس (إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَى مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا)؛ أي: إلا قليلًا، كما أشار إليه بقوله:(قَالَ) عبد الله (بْنُ إِدْرِيسَ) الراوي عن هشام بن حسّان، (كَأَنَّهُ)؛ أي: كأن أنسًا رضي الله عنه (يُقَلِّلُهُ)؛ أي: يشير بكلامه هذا إلى قلّة شيبه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ:"قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيء في صُدغيه"؛ أي: قَالَ أنس رضي الله عنه: لَمْ يَبْلُغْ النبيّ صلى الله عليه وسلم حال الخضب، فإنه لم يَشِب شيبًا يحتاج معه إلى الخضاب، وإِنَّمَا كَانَ شَيْءٌ من الشيب فِي صُدْغَيْهِ.
وفي رواية للنسائيّ أيضًا: "لَمْ يَكُنْ يَخْضِبُ، إِنَّمَا كَانَ الشَّمَطُ عِنْدَ الْعَنْفَقَةِ يَسِيرًا، وَفِي الصُّدْغَيْنِ يَسِيرًا، وَفِي الرَّأسِ يَسِيرًا".
و"الصُّدْغُ" -بضم الصاد، وسكون الدال المهملتين، وآخره غين معجمة-: هو ما بين لَحْظ العين إلى أصل الأذن، وجمعه أَصْداغ، مثلُ قُفْل وأقفال، ويُسمّى الشعر الذي تدلّى على هذا الموضع صُدْغًا. قاله في "المصباح".
وقوله: "إنما كان الشمط" -بفتحتين-: هو بياض الرأس، يخالط سواده، والفعل كفرح.
وقوله: "عند العَنْفَقَة" -بفتح العين المهملة، والفاء، بينهما نون ساكنة-: شُعيرات بين الشفة السفلى والذَّقَنِ. أفاده في "القاموس".
(1)
"لسان العرب" 1/ 357 - 358.
وقال ابن الأثير: العَنْفَقَة: الشعر الذي في الشفة السفلى. وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذَّقَن، وأصل العَنْفَقة: خفّة الشيء، وقلّته. انتهى
(1)
.
وقال في "اللسان": الْعَنْفَقُ: خفّة الشيء وقلّته، والعَنفقة: ما بين الشفة السفلى والذقن منه؛ لخفّة شعرها. وقيل: العَنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى، كان عليها شعرٌ، أو لم يكن. وقيل: العَنْفقة: ما نبت على الشفة السفلى من الشعر، قال الشاعر:
أَعْرِفُ مِنْكُمْ جُدُلَ الْعَوَاتِقِ
…
وَشَعَرَ الأَقْفَاءِ وَالْعَنَافِقِ
قال الأزهريّ: هي شَعَراتٌ من مقدّمة الشفة السفلى، ورجلٌ بادي الْعَنْفقة: إذا عَرِي موضعها من الشعر. انتهى.
قال النوويّ رحمه الله تعالى: اتفق العلماء على أن المراد بالشَّمَط هنا ابتداءُ الشيب، يقال منه: شَمِط -أي: كفرح- وأشمط. انتهى.
(وَقَدْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (بِالْحِنَّاءِ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد النون، والمدّ: معروفٌ، والحنّاءة أخصّ منه، والجمع حِنّانٌ، قال الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَرُوحُ بِلِمَّةٍ فَيْنَانَةٍ
…
سَوْدَاءَ لَمْ تُخْضَبْ مِنَ الْحِنَّانِ
وحَنّأ لحيته، وحنّأ رأسه تحنيئًا، وتحنئةً: خَضَبه بالحنّاء، قاله في "اللسان"
(2)
.
وقال في "التاج": الحِنَّاءُ بالكسر، والمدّ، والتشديد، معروفٌ، وهو الذي أَعدَّه الناس للخِضاب، وقال السَّمعانيُّ: نبتٌ يَخْضِبونَ به الأَطرافَ، وفي "شرح الكِفاية": اتَّفقوا على أَصالة همزته، فوزنه فِعَّال، وهو مفردٌ بلا شُبْهَةٍ، وقال ابن دُريد، وابنُ ولَّادٍ: هو جمعٌ لحِنَّاءةٍ بالهاء، ونقله عِيَاضٌ، وسَلَّمَه، وفيه نظرٌ، وقد صرَّحَ الجُمهور بأنَّ الحِنَّاءةَ أَخصُّ من الحِنَّاءِ، لا أَنَّه مفردٌ لها، كما قاله الجوهريّ، والصاغانيّ، جمعه: حُنْآنٌ بالضَّمِّ، مثالُ عُثمان، قاله أَبو الطَّيِّب اللغويّ، وأنشد أَبو حَنِيفَةَ في "كتاب النبات":
فلقَدْ أَرُوحُ بلِمَّةٍ فَيْنانَةٍ
…
سَوْداءَ لم تُخْضَبْ من الحُنْآنِ
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 309.
(2)
"لسان العرب" 1/ 61.
وقال السهيليُّ في "الرَّوْض": هو حُنَّانٌ بضم، فتشديدٍ، جُمع على غيرِ قياسٍ، ثم قال: وهي عندي لغةٌ في الحِنَّاءِ، لا جمعٌ، وأنشد البيت، ونُقِل عن الفرَّاء: الحِنَّان بالكسر، مع التشديد. انتهى
(1)
.
(وَالْكَتَمِ) بفتحتين: نبتٌ فيه حمرة، يُخلَطُ بالْوَسْمَة، ويُختضَبُ به للسواد، وفي كتب الطبّ: الكتم من نبات الجبال، ورقه كورق الآس، يُخضب به مدقوقًا، وله ثمرٌ كقدر الْفُلفُل، ويسوَدُّ إذا نضج، وقد يُعتصر منه دهنٌ، يُستصبح به في البوادي. قاله الفيّوميّ.
وقال السنديّ رحمه الله: "الكتم" بكاف، وتاء مثنّاة من فوقُ، مفتوحتين، والمشهور تخفيف التاء، وبعضهم يُشدّدها: نبت يُخلط بالحنّاء، ويُخضَبُ به الشعر، ثم قيل: المراد ها هنا استعمال كلّ منهما بالانفراد؛ لأن اجتماعهما يحصل به السواد، وهو منهيّ عنه، ويَحْتَمِل أن المراد: المجموع، والنهي عن السواد الخالص، والله تعالى أعلم. انتهى.
وقال في "العون": الكتم -بفتحتين-: نبات باليمن، يخرج الصبغ أسود يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، والصبغ بهما معًا يخرج بين السواد والحمرة
(2)
.
وفي رواية مسلم التالية من حديث أنس رضي الله عنه: قال: "واختَضَب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء بَحْتًا"؛ أي: منفردًا، وهذا يُشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائمًا.
قال الإمام ابن الأثير: الكتم هو نبت يُخلط مع الوَسِمَة، ويُصبغ به الشعر أسود، وقيل: هو الوسمة، ومنه الحديث:"إن أبا بكر كان يصبغ بالحناء والكتم"، ويُشبه أن يراد به استعمال الكتم مفردًا عن الحناء، فإن الحناء إذا خُضب به مع الكتم جاء أسود، وقد صح النهي عن السواد، ولعل الحديث بالحناء، أو الكتم، على التخيير، ولكن الروايات على اختلافها بالحناء والكتم.
وقال أبو عبيد: "الكتم": مشددة التاء، والمشهور التخفيف، و"الوسمة" -
(1)
"تاج العروس" 1/ 103 - 104.
(2)
"عون المعبود" 11/ 173.
بكسر السين: نَبْت، وقيل: شجر باليمن يُخضب بورقه الشعر أسود. انتهى.
وقال الأردبيلي في "الأزهار": ويشبه أن يكون المراد: استعمال الكتم مفردًا عن الحناء، وبه قطع الخطابي؛ لأنهما إذا خُلطا، أو خضب بالحناء، ثم بالكتم جاء أسود، وقد نُهي عن الأسود.
وقال بعض العلماء: المراد بالحديث تفضيل الحناء والكتم، على غيرهما في تغيير الشيب، لا بيان كيفية التغيير، فلا بأس بالواو، ويكون معنى الحديث: الحناء والكتم من أفضل ما غُيِّر به الشيب، لا بيان كيفية التغيير. انتهى كلام الأردبيلي.
وقال العلامة المناويّ في "شرح الجامع الصغير": الكتم -بالتحريك-: نبت يخلط بالوسمة، ويخضب به، ذكره في "الصحاح"، وورقه كورق الزيتون، وثمره قدر الفلفل، وليس هو ورق النيل، كما تُوُهّم، ولا يشكل بالنهي عن الخضاب بالسواد؛ لأن الكتم إنما يسودّ منفردًا، فإذا ضمّ للحناء صيَّر الشعر بين أحمر وأسود، والمنهي عنه الأسود البحت.
وقال المناويّ في "شرح الشمانل": الكتم - بفتحتين، ومثناة فوقية، وأبو عبيد شدّدها: نبت فيه حمرة، يُخلط بالوسمة، ويخضب به.
وفي كتب الطب: الكتم من نبات الجبال، ورقه كورق الآس يُخضب به مدقوقًا، وله ثمر كقدر الفلفل، ويَسْودُّ إذا نَضِجَ، ويعتصر منه دهن يستصبح به في البوادي، ثم قال: ففيه إشعار بأن أبا بكر كان يجمع بينهما، لا بالكتم الصرف الموجب للسواد الصرف؛ لأنه مذموم. انتهى.
وفي "القاموس": نبت يخلط بالحناء، ويخضب به الشعر، فيبقى لونه، وأصله إذا طُبخ بالماء كان منه مداد للكتابة. انتهى.
وقال الحافظ: الكتم الصرف يوجب سوادًا مائلًا إلى الحمرة، والحناء يوجب الحمرة، فاستعمالهما يوجب ما بين السواد والحمرة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن الخضب بالحناء، والكتم جائزٌ، مطلقًا، سواء كانا مخلوطين، أو استُعمل كل منهما منفردًا؛ لإطلاق النصّ،
(1)
"عون المعبود" 11/ 173 - 174.
ولا يقال: يشمله النهي عن الخضاب بالسواد؛ لأن المراد به السواد البحت، فتأمّل. والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 6055 و 6556 و 6057 و 6058 و 6059 و 6060 و 6061](2341)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3550)، و (أبو داود) في "الترجّل"(4209)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(1/ 55 و 60)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5088 و 5089) وفي "الكبرى"(9361 و 9362)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 108 و 178 و 206)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 663)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 275)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 431 و 432)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف الروايات في شَيْبه صلى الله عليه وسلم:
في حديث أنس رضي الله عنه: "لم يبلغ الخضاب، كان في لحيته شعرات بيض"، وفي رواية:"لم ير من الشيب إلا قليلًا"، وفي رواية:"لو شئت أن أَعُدّ شمطات، كُنّ في رأسه، ولم يخضب"، وفي رواية:"لم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كان البياض في عَنْفَقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نُبَذٌ"، وفي رواية:"ما شانه الله ببيضاء"، وفي رواية أبي جحيفة رضي الله عنه:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه منه بيضاء، ووضع الراوي بعض أصابعه على عنفقته"، وفي رواية له:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، قد شاب"، وفي رواية جابر بن سمرة رضي الله عنه أنه سئل عن شيب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقال: كان إذا دهن رأسه، لم يُرَ منه شيء، وإذا لم يدهن رُئي منه"، وفي رواية له: "كان قد شَمِط مقدم رأسه ولحيته"، وفي رواية لأنس رضي الله عنه: "يُعَدُّ عَدًّا، توفي وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"، وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها: أنها أخرجت لهم شعرات، من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمرًا، مخضوبة بالحناء والكتم.
قال النوويّ رحمه الله: وأما اختلاف الرواية في قَدْر شيبة، فالجمع بينها، أنه
رأى شيئًا يسيرًا، فمن أثبت شيبة، أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه، كما قال في الرواية الأخرى: لم يشتد الشيب؛ أي: لم يكثر، ولم يخرج شعره عن سواده، وحُسْنه، كما قال في الرواية الأخرى: لم ير من الشيب إلا قليلًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله في وجه الجمع حَسَنٌ جدًّا.
[فائدة]: قال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: قد أكثر الناس في صفته صلى الله عليه وسلم، فمنهم المطوّل، ومنهم المقتصد، قال: وأحسن الناس له صفة في اختصار عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم ساق بسنده إلى إبراهيم بن محمد، من وَلَدِ عليّ قال: كان عليّ إذا نعت النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لم يكن بالطويل الْمُمَّغِط
(2)
، ولا بالقصير المتردد، وكان رَبْعَةً من القوم، ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جَعْدًا، رَجِلًا، ولم يكن بالمطهم، ولا بالمكلثم
(3)
، وكان في الوجه تدوير، أبيض، مشرب حمرة، أدعج العينين
(4)
، أهدب الأشفار، جليل الْمُشاس، والْكَتَد، أجرد، ذو مسربة، شئن الكفين والقدمين، إذا مشى تقلّع؛ كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التفت معًا، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفًّا، وأجرؤ الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفى الناس بذمة، وألينهم عريكةً، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله، ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "الممغط": هو الطويل المديد، وقال الخليل بن أحمد: الفرس المطهم: التام الخلق، وقال أبو عبيد: الْمُشاش رؤوس العظام، وقال الخليل:
(1)
"شرح النووي" 15/ 95.
(2)
قال ميرك: "الممّغط" بتشديد الميم الثانية، وبِالغين المعجمة المكسورة، بعدها طاء
مهملة: اسم فاعل من الانغماط، من باب الانفعال؛ أي: التناهي في الطول، من
قولهم: امّغط النهار: إذا امتدّ، وأصله منغمط. انتهى من هامش "التمهيد" 3/ 29.
(3)
"المكلثم": المدوّر الوجه.
(4)
أي: شديد سواد حدقتهما.
الكتد: ما بين الثَّبَج
(1)
إلى منتصف الكاهل من الظهر، والْمَسْرَبة: شعرات تتصل من الصدر إلى السُّرّة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم: هل خضب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أم لا؟
قال القاضي عياض رحمه الله: اختَلَف العلماء: هل خضب النبيّ صلى الله عليه وسلم؟
فمنعه الأكثرون بحديث أنس رضي الله عنه، وهو مذهب مالك، وقال بعض المحدّثين: خضب؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها أخرجت لهم شعرات، من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمرًا، مخضوبة بالحناء والكتم، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يصبغ بالصفرة، قال: وجمع بعضهم بين الأحاديث بما أشار إليه في حديث أم سلمة رضي الله عنها، من كلام أنس رضي الله عنه في قوله: فقال: ما أدري في هذا الذي يحدِّثون، إلا أن يكون شيء من الطيب الذي كان يطيّب به شعره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، كان يستعمل الطيب كثيرًا، وهو يزيل سواد الشعر، فأشار أنس رضي الله عنه إلى أن تغيير ذلك ليس بصبغ، وإنما هو لضَعف لون سواده بسبب الطيب، قال: ويَحْتَمِل أن تلك الشعرات تغيّرت بعده؛ لكثرة تَطْيِيب أم سلمة لها؛ إكرامًا. هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله.
قال النوويّ: والمختار أنه صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت، وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كُلُّ بما رأى، وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعيِّن، فحديث ابن عمر في "الصحيحين"، ولا يمكن تركه، ولا تأويل له، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله عند قول أنس رضي الله عنه: "لو شئت أن أعدّ شَمَطات كنّ في رأسه، فعلت" ما نصّه: ظاهره أنه لم يكن يختضب، كما قد نصّ عليه في بقيّة الحديث، وبهذا الظاهر أخذ مالك، فقال: لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البرّ.
(1)
الثبج: ما بين الكاهل إلى الظهر.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 3/ 27 - 31.
(3)
"شرح النووي" 15/ 95.
وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خضَبَ، متمسّكين في ذلك بما رواه أبو داود، عن أبي رِمْثَة، قال: انطلقت مع أبي نحو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ذو وَفْرة، وبها رَدعٌ من حنّاء، وعليه بُردان أخضران.
وروى أبو داود أيضًا عن زيد بن أسلم أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصبغ لحيته بالصفرة حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها. . . الحديث. ويعتضد هذا بأمره صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب، كما قال:"غيّروا هذا الشيب، واجتنبوا السواد"، وقال:"غيّروا الشيب، ولا تشبّهوا باليهود"، وما كان صلى الله عليه وسلم يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به.
ومما يعتضد به ذلك ما رواه البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قال:"دخلت على أم سلمة رضي الله عنها، فأخرجت لنا شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخضوبًا"، زاد ابن أبي شيبة:"بالحنّاء والكتم"، والإسناد واحد.
ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله عنهما، فلو علما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يختضب لَمَا اختضبا، فإنهما ما كانا باللذين يَعدِلان عن سُنَّته، ولا عن اتّباعه، والفصل لهؤلاء من أحاديث أنس، وما في معناه: بأن الخضاب لم يكن منه صلى الله عليه وسلم دائمًا، ولا في كلّ حالٍ، وإنما كان في بعض الأوقات، فلم يلتفت أنس رضي الله عنه لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول. وأَولى من هذا أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لمّا لم يكن شَيْبه كثيرًا، وإنما كان في لحيته، وصُدْغيه نحو العشرين شعرةً بيضًا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رِمْثة، وابن عمر رضي الله عنهم بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحنّاء، وإنما كان تغييرًا بالطيب، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما:"كان يصبغ بالصفرة"، ولم يقل: بالحنّاء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة رضي الله عنه:"ردْعٌ من حنّاء"؛ لأنه شبّهها بها، وأما حديث أم سلمة رضي الله عنها، فيَحْتَمِل أن يكون ذلك فُعل بِشَعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بطيب، أو غيره؛ احترامًا، وإكرامًا، والله أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المفهم" 6/ 131 - 132.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح ما تقدّم عن النوويّ رحمه الله أنه المختار، وهو أنه صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت، وتَرَكه في معظم الأوقات، فأخبر كُلٌّ بما رأى، وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعيّن، فحديث ابن عمر في "الصحيحين"، ولا يمكن تركه، ولا تأويل له، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6056]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمِ الأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أنسَ بْنَ مَالِكٍ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ، كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ) الهاشميّ مولاهم، أبو عبد الله البغداديّ الرُّصافيّ، ثقةٌ [10](ت 238) وله ثلاث وتسعون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقانيّ -بضم الخاء المعجمة، وسكون اللام، بعدها قاف- أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصَا -بفتح المعجمة، وضم القاف الخفيفة، وبالمهملة- صدوقٌ يخطئ قليلًا [8] (ت 194) وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.
3 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ،
ثقةٌ، لم يتكلم فيه إلا القطانُ، فكأنه بسبب دخوله في الولاية [4] مات بعد سنة
أربعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (لَمْ يَبْلُغِ الْخِضَابَ)؛ أي: لقلّة شيبه، كما بيّنه بقوله:(كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ)؛ أي: والعادة أن القليل من الشعر الأبيض إذا بدا في اللحية لم يُبادر بخضبه حتى يكثر، ومرجع القلة والكثرة في ذلك إلى العُرف، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 13/ 413، كتاب "اللباس" رقم (5895).
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6057]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَخَضَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الشَّيْبِ إِلَّا قليلًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ) هو: مُعَلَّى -بفتح ثانية، وتشديد اللام المفتوحة- ابن أسد العميّ -بفتح المهملة، وتشديد الميم- أبو الهيثم البصريّ، أخو بهز، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 218) على الصحيح (خ م قد ت س ق) تقدم في "الطهارة" 34/ 684.
3 -
(وُهَيْبُ بْنُ خَالِدِ) بن عجلان الباهليّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة السَّختيانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6058]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، قَالَ: سُئِلَ أنسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأسِهِ فَعَلْتُ، وَقَالَ: لَمْ يَخْتَضِبْ، وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ، وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وقد تقدّم الإسناد نفسه قبل أبواب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (481) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ)"الشمط" -بفتحتين-: هو بياض الرأس، يخالط سواده، والفعل كفَرِح.
وقال القرطبيّ: الشَّمَطات: جمع شَمَطة، ويعني بها: الشعرات البيض المخالطة للشعر الأسود، قال الأصمعيّ: إذا رأى الرجل البياض؛ فهو أَشْمَط، وقد شَمِطَ؛ أي: كفَرِحَ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: اتفق العلماء على أن المراد بالشَّمَط هنا ابتداءُ الشيب، يقال منه: شَمِط -أي: كفرح- وأشمط. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ، وَالْكَتَمِ) قال النوويّ رحمه الله: أما الحناء فممدود، وهو معروف، وأما الكتم فبفتح الكاف، والتاء المثناة من فوقُ المخففة، هذا هو المشهور، وقال أبو عبيدة: هو بتشديد التاء، وحكاه غيره، وهو نبات يُصبغ به الشعر، يكثر بياضه، أو حمرته إلى الدهمة. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ بَحْتًا) -بموحّدة مفتوحة، ومهملة ساكنة، بعدها مثناة- أي: صِرْفًا خالصًا لم يُخلط بالكتم، قال الحافظ: وهذا يُشعر بأن أبا بكر كان يجمع بينهما دائمًا، والكتم نبات باليمن يُخرج الصبغ أسود، يميل إلى الحمرة، وصبغ الحناء أحمر، فالصبغ بهما معًا يخرج بين السواد والحمرة. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ: الكَتَم -بالتحريك-: نبت يخلط بالوسمة؛ يختضب به. قاله في "الصحاح". والبحت -بالموحدة والحاء المهملة-: هو الخالص من الشيء، المنفرد عن غيره. وقال أبو حنيفة اللغوي: الوسمة: الحظر، والعِظْلِم، والثبلج، والتَّنومة، وكله يصبغ به. والحناء ممدودة. قال أبو علي: جمع حناءة. والكتم -مخفف التاء-: هو المعروف. وأبو عبيد يقولها بالتشديد.
وقال القرطبيّ أيضًا: قول أنس رضي الله عنه: "لم ير من الشيب إلا قليلًا"، وفي
(1)
"المفهم" 6/ 132.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 95.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 95 - 96.
(4)
"الفتح" 10/ 355.
الرواية الأخرى: "لو شئت أن أَعُدَّ شّمَطاتٍ في رأسه فعلت" ظاهره: أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم يختضب، كما قد نصَّ عليه في بقية الحديث، وبهذا الظاهر أخذ مالك، فقال: لم يختضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه ذهب أبو عمر بن عبد البرّ، وذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه خَضَب، متمسِّكين في ذلك بما رواه أبو داود عن أبي رِمْثة رضي الله عنه:"قال: انطلقت مع أبي نحو النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا هو ذو وَفْرة، وبها ردعٌ من حنَّاء، وعليه بُردان أخضران"، وروى أبو داود أيضًا عن زيد بن أسلم: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصبغ لحيته بالصفرة، حتى تمتلئ ثيابه من الصفرة، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شيء أحبَّ إليه منها، وقد كان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته. ويعتضد هذا بأمره صلى الله عليه وسلم بتغيير الشيب، كما قال:"غيِّروا هذا الشيب، واجتنبوا السواد"، وقال:"غيِّروا الشيب، ولا تشبَّهوا باليهود"، وما كان يأمر بشيء إلا كان أول آخذ به.
ومما يعتضد به ما رواه البخاريّ عن عبد الله بن موهب، قال: دخلت على أم سلمة، فأخرجت لي شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبًا، زاد ابن أبي شيبة: بالحناء، والكتم، والإسناد واحد.
ومما يعتضد به هؤلاء خضاب الخليفتين رضي الله عنهما، فلو علما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يختضب قط لَمَا اختضبا، فإنَّهما ما كانا باللذين يعدلان عن سُنَّته، ولا عن اتباعه.
وانفُصِل لهؤلاء من أحاديث أنس، وما في معناها: بأن الخضاب لم يكن منه صلى الله عليه وسلم دائمًا، ولا في كل حال؛ وإنَّما كان في بعض الأوقات، فلم يُلتفت لهذه الأوقات القليلة، وأطلق القول، وأَولى من هذا أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم لمّا لم يكن شيبه كثيرًا؛ وإنَّما كان في لحيته وصدغيه نحو العشرين شعرة بيضًا، لم يكن الخضاب يظهر فيها غالبًا، والله تعالى أعلم.
وقد اعتذر أصحاب القول الأول عن حديث أبي رمثة وابن عمر رضي الله عنهم بأن ذلك لم يكن خضابًا بالحناء؛ بل كان تغييرًا بالطيب، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان يصبغ بالصفرة، ولم يقل: بالحناء، وهذه الصفرة هي التي قال عنها أبو رمثة: ردع من حناء؛ لأنَّه شبَّهها بها، وأما حديث أم سلمة فيَحْتَمِل أن يكون ذلك فُعِل بشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بطيب، أو غيره احترامًا، وإكرامًا، والله
أعلم انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى على اللبيب أن ما قاله الأولون هو الحقّ، وأن تأويلات هؤلاء فيها من التكلّف، والتعسّف ما لا يخفى، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6059]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: يُكْرَهُ
(2)
أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِه، وَلِحْيَتِهِ، قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ، وَفِي الصُّدْغَيْنِ، وَفِي الرَّأْسِ نَبْذٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ الجهضميّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلِب للقضاء، فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الجهضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
3 -
(الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ) الضُّبَعيّ -بضم المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو سعيد البصريّ القسّام القصير، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1569.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (قَالَ: يُكْرَهُ) وفي بعض النسخ: "قال: كان يُكْرَه"، وهو مبنيّ للمفعول، ونائب فاعله المصدر المؤوّل من قوله:"أن ينتف الرجل. . . إلخ"، والظاهر أن الذي كرهه هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو واضح في الأحاديث الآتية، ولأن صدور مثل هذا من الصحابيّ له حكم الرفع، كما قال في "ألفيّة الحديث":
(1)
"المفهم" 6/ 131 - 132.
(2)
وفي نسخة: "قال: كان يكره".
وَلْيُعْطَ حُكْمَ الرَّفْعِ فِي الصَّوَابِ
…
نَحْوُ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ صَحَابِي
كَذَا أُمِرْنَا وَكَذَا كُنَّا نَرَى
…
فِي عَهْدِهِ أَو عَنْ إِضَافَةٍ عَرَى
والله تعالى أعلم.
(أَنْ يَنْتِفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ. . . إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: وكراهته صلى الله عليه وسلم نَتْف الشيب إنَّما كان؛ لأنه وقارٌ، كما قد روى مالك:"إن أوَّل من رأى الشيب إبراهيم عليه السلام، فقال: يا رب! ما هذا؟ فقال: وقار، قال: يا رب زدني وقارًا"، أو لأنه نورٌ يوم القيامة، كما روى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفوا الشيب! ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"، وفي أخرى:"إلا كتب الله له حسنة، وحطَّ عنه خطيئة". انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: هذا متفقٌ عليه، قال أصحابنا، وأصحاب مالك: يُكره، ولا يَحْرم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ولا يحرم" فيه نظر لا يخفى، فقد نهى صلى الله عليه وسلم نهيًا صريحًا عن نتفه، فقد أخرج أحمد، وأبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقال:"لا تنتفوا الشيب، فإنه نور المسلم، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام، إلا كتب الله له بها حسنة، ورفعه بها درجة، وحطَّ عنه بها خطيئة"، وهو حديث صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنتفوا الشيب، فإنه نور يوم القيامة، ومن شاب شيبة في الإسلام كتب الله له بها حسنة، وحَطّ عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة"، رواه ابن حبان في "صحيحه".
فهذا النهي الصحيح الصريح دليل واضحٌ على تحريم النتف؛ لأن النهي عند جمهور العلماء للتحريم، ما لم يصرفه صارف، ولا صارف هنا، وقد حقّقت هذا في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" في الأصول، فراجعهما
(2)
تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"المفهم" 6/ 132.
(2)
راجع: "التحفة المرضيّة"، و"شرحها" 3/ 191 - 198.
[فإن قلت]: فإذا كان حال الشيب كذلك، فَلِمَ شُرع سَتْره بالخضاب؟.
[قلنا]: ذلك لمصلحة أخرى دينية، وهو إرغام الأعداء، وإظهار الجلادة لهم.
وقال ابن العربيّ: وإنما نُهِي عن النتف دون الخضب؛ لأن فيه تغييرَ الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب، فإنه لا يغيّر الخلقة على الناظر إليه. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": مراد أنس رضي الله عنه أنه لم يكن في شعره صلى الله عليه وسلم ما يحتاج إلى الخضاب، وقد صرح بذلك في رواية محمد بن سيرين الماضية قال:"سألت أنس بن مالك: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خَضَب؟ قال: لم يبلغ الخضاب"، وفي رواية ثابت عن أنس:"لو شئت أن أَعُدّ شَمَطات كُنّ في رأسه لفعلت"، زاد ابن سعد والحاكم:"ما شانه بالشيب"، وفي حديث جابر بن سمرة:"فقد شَمِط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادَّهَن لم يتبيَّن، فإذا لم يدّهِن تبيّن".
وأما ما رواه الحاكم، وأصحاب "السُّنن" من حديث أبي رِمْثة قال:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحناء"، فهو موافق لقول ابن عمر:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة"، وقد تقدم في "الحج"، وغيره.
والجمع بينه وبين حديث أنس أن يُحمل نفي أنس على غلبة الشيب، حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتفق أنه رآه وهو مخضب.
ويُحْمَلَ حديث من أثبت الخضب على أنه فَعَله لإرادة بيان الجواز، ولم يواظب عليه.
وأما ما تقدم عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"ما شانه الله ببيضاء"، فمحمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حُسْنه صلى الله عليه وسلم.
وقد أنكر أحمد إنكار أنس أنه خضب، وذكر حديث ابن عمر أنه رأى
(1)
"عون المعبود" 11/ 171.
النبيّ صلى الله عليه وسلم يخضب بالصفرة، وهو في "الصحيحين"، ووافق مالك أنسًا في إنكار
الخضاب، وتأوّل ما ورد في ذلك. انتهى
(1)
.
وقوله: (إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ)، وفي حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال:"كان في عَنْفَقَته شعرات بيض".
و"العنفقة" -بفتح العين المهملة، والفاء، بينهما نون ساكنة-: شُعيرات بين الشفة السفلى والذَّقَنِ. أفاده في "القاموس".
وقال ابن الأثير: العَنْفَقَة: الشعر الذي في الشفة السفلى. وقيل: الشعر الذي بينها وبين الذَّقَن، وأصل العَنْفَقة: خفّة الشيء، وقلّته. انتهى
(2)
.
وقال في "اللسان": الْعَنْفَقُ: خفة الشيء وقلّته، والعَنفقة: ما بين الشفة السفلى والذقن منه؛ لخفّة شعرها. وقيل: العَنفقة: ما بين الذقن وطرف الشفة السفلى، كان عليها شعرٌ، أو لم يكن. وقيل: العَنْفقة: ما نبت على الشفة السفلى من الشعر، قال الشاعر [من الرجز]:
أَعْرِفُ مِنْكُمْ جُدُلَ الْعَوَاتِقِ
…
وَشَعَرَ الأَقْفَاءِ وَالْعَنَافِقِ
قال الأزهريّ: هي شَعَراتٌ من مقدّمة الشفة السفلى، ورجلٌ بادي الْعَنْفقة: إذا عَرِي موضعها من الشعر. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَفِي الصُّدْغَيْنِ)"الصدغ" -بضم الصاد، وإسكان الدال المهملتين، بعدها غين معجمة-: ما بين الأذن والعين، ويقال ذلك أيضًا للشعر المتدلي من الرأس في ذلك المكان.
وقوله: (وَفِى الرَّأسِ نَبْذٌ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أحدهما: ضمّ النون، وفتح الباء، والثاني: فتح النون، وإسكان الباء، وبه جزم القاضي، ومعناه: شَعَرات متفرقة. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نَبْذٌ" الرواية فيه بفتح النون، وسكون الباء؛ أي: شيء قليل متبدّد، وبعض النَّاس يقوله:"نُبَذٌ" بضمّ النون، وفتح الباء: جمع نُبْذة؛ كغرفة وغُرَف، وظُلْمة وظُلَم، وهذا لا يسشقيم هنا؛ لأنَّه كان يلزم
(1)
"الفتح" 6/ 572.
(2)
"النهاية" 3/ 309.
(3)
"لسان العرب" 10/ 277.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 96.
منه أن يكون شيبة نبذًا مجتمعة في أنفسها، متفرقة في مواضع عديدة، ويلزم عليه أن يكون شيبه كثيرًا، فيكون هذا مخالفًا لِمَا قاله أنس في الأحاديث الأُخَر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وعُرِف من مجموع الروايات أن الذي شاب من عَنْفَقته أكثر مما شاب من غيرها. انتهى.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6060]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: رواية المثنّى بن سعيد عن قتادة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(9362)
- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدّثنا عبد الصمد، قال: حدّثنا المثنى -يعني: ابن سعيد- قال: حدّثنا قتادة، عن أنس:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخضب، إنما كان الشَّمَط عند العَنْفَقَة يسيرًا، وفي الصُّدْغين يسيرًا، وفي الرأس يسيرًا". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6061]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ، سَمِعَ أَبَا إِيَاسٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا شَانَهُ اللهُ بِبَيْضَاءَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) هو: أحمد بن إبراهيم بن كثير بن زيد
(1)
"المفهم" 6/ 132.
(2)
"السُّنن الكبرى" 5/ 418.
النُّكْريّ -بضم النون- البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.
2 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال البزاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) بن الجارود، أبو داود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ غَلِط في أحاديث [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
4 -
(خُلَيْدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن طَرِيف الحنفيّ، أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ، لم يثبت أن ابن معين ضعّفه [6](م ت س) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 4/ 4527.
5 -
(أَبُو إِيَاسٍ) معاوية بن قُرّة بن إياس بن هلال الْمُزَنيّ البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 113) وهو ابن ست وسبعين سنةً (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 36/ 1853.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (مَا شَانَهُ اللهُ بِبَيْضَاءَ) الشين: العيب، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: لم يكن شيبه كثيرًا بيِّنًا حتى تزول عنه بهجة الشباب، ورونقه، ويلحق بالشيوخ الذين يكون الشيبُ لهم عيبًا، فإنَّه يدلّ على ضَعْفهم، ومفارقة قوة الشباب ونشاطه، ويَحْتَمِل أن يريد أن ما ظهر عليه من الشيب اليسير زاده ذلك في عين الناظر إليه أُبَّهَةً، وتوقيرًا، وتعظيمًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير: جَعَلَ أنسٌ الشيبَ هنا عيبًا، وليس بعيب، فإنه قد جاء في الحديث أنه وقار، وأنه نور
(2)
، قال: ووجه الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وسلم لمّا رأى
(1)
"المفهم" 6/ 133.
(2)
أراد ما رواه أبو داود عن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا تنتفوا الشيب، فإنه نور الإسلام، ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورًا يوم القيامة"، وهو حديث صحيح، وللترمذيّ، والنسائيّ عن كعب بن عجرة رضي الله عنه رفعه:"من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة"، وهو أيضًا صحيح، زاد الحاكم في "الكنى":"ما لم يغيّرها"، وللبيهقيّ عنه مرفوعًا:"الشَّيْب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة، ورفع بها درجة"، وللديلميّ عن أنس مرفوعًا:"الشيب نور، من خلع الشيب فقد خلع نور الإسلام"، وللديلمي عنه رفعه: "أيما رجل نتف شعرة بيضاء =
أبا قُحافة رأسه كالثغامة أمرهم بتغييره، وكرهه، ولذلك قال:"غَيِّروا الشيب"، فلما عَلِم أنس ذلك من عادته قال: ما شانه الله ببيضاء؛ بناءً على هذا القول، وحَمْلًا له على هذا الرأي، ولم يسمع الحديث الآخر، قال: ولعل أحدهما ناسخ للآخر. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ: قوله: "ما شانه الله ببيضاء" محمول على أن تلك الشعرات البيض لم يتغير بها شيء من حُسْنه صلى الله عليه وسلم.
قال الزرقانيّ رحمه الله: وهذا أحسن من تعجب ابن الأثير مِنْ جَعْل أنس الشيب عيبًا، وتعسفه الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى أبا قحافة، ورأسه كالثغامة أمرهم بتغييره، وكَرِهه، فلمّا عَلِم أنس ذلك من عادته قال:"ما شانه الله ببيضاء" بناءً على هذا القول، وحَمْلًا له على هذا الرأي؛ يعني: كراهة الشيب، ولم يسمع الحديث الآخر، ولعل أحدهما ناسخ للآخر، فإن في نفيه نظرًا؛ إذ أنس قد روى بعض أحاديث مدحه، كما رأيت، وكذا في ترجيه؛ لأن النسخ إنما يكون بمعرفة التاريخ. انتهى كلام الزرقانيّ
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن الأثير رحمه الله ليس بعيدًا، إلا النسخ، فإنه بعيد؛ لعدم العلم بالتاريخ، فتنبّه.
والحديث بهذا اللفظ من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6062]
(2342) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءَ، وَوَضَعَ زُهَيْرٌ بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ، قِيلَ لَهُ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَبْرِي النَّبْلَ، وَأَرِيشُهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن
= متعمِّدًا صارت رمحًا يوم القيامة يُطعن به". انتهى. "شرح الزرقانيّ" 4/ 361.
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 521.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 362.
قيس التميميّ اليربوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميمي النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ) زُهير بن معاوية بن حُدَيج، الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأخَرَةٍ [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(أَبُو جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله السُّوَائيّ -بضم المهملة، والمدّ- ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، مشهور بكنيته، ويقال له: وهب الخير، صحابيّ معروف، وصَحِبَ عليًّا، ومات سنة أربع وسبعين (ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.
[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:
أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة التالية، وهما (482 و 483)، وهو مسلسل بالكوفيين غير يحيى، كما مرّ آنفًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله، مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وكان يقال له أيضًا: وهب الله، ووهب الخير، قاله في "الفتح". (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ) إشارة إلى عَنْفقته، (مِنْهُ بَيْضَاءَ، وَوَضَعَ زُهَيْرٌ) الراوي عن أبي إسحاق، (بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَى عَنْفَقَتِهِ) قال في "التاج": العَنْفَقُ: كجَعْفَرٍ، أهمله الجوهريّ، وقال ابنُ دُرْيد: هو خِفّة الشّيء، وقِلّتهُ، ومنه اشْتِقاق العَنْفَقَة، قال اللّيثُ: اسمٌ لشُعَيْرات بيْن الشّفَة السُّفْلى والذّقَن، وقال غيرُه: هي ما بيْنَ الشّفَةِ السُّفْلى والذّقَن؛ لخِفّة شعرِها، وقيل: هي ما بيْن الذّقَنِ وطرَفِ الشّفة السُّفْلى، كان عليها شعْرٌ، أو لم يكُنْ، وقيل: هي ما نبَتَ على الشَّفَة السُّفْلى من الشّعَر، وقال الأزهريُّ: هي شعَراتٌ من مُقدِّمة الشّفةِ السُّفْلى. انتهى
(1)
.
(1)
"تاج العروس" 1/ 6507.
(قِيلَ لَهُ)؛ أي: لأبي جُحيفة، ولم يُذكر القائل، (مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ؟)؛ أي: يوم رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصفة المذكورة، (قَالَ) أبو جحيفة (أَبْرِي) بفتح الهمزة، من باب ضرب، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَرَيْتُ القلمَ بَرْيًا، من باب رَمَى: نَحَتُّهُ، فهو مَبْرِيٌّ، وبَرَوْتُهُ -أي: بالواو- لُغَةً، واسم الفعل: البِرَايَةُ، بالكسر، وهذه العبارة فيها تسامحٌ؛ لأنهم قالوا: لا يسمى قَلَمًا إلا بعد البِرَايَةِ، وقبلها يسمى قَصَبَةً، فكيف يقال للمَبْرِيّ: بَرَيْتُهُ، لكنه سُمّي باسم ما يؤول إليه مجازًا، مثل عَصَرْتُ الخمرَ. انتهى
(1)
. (النَّبْلَ) -بفتح النون، وإسكان الموحّدة-، قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّبْلُ: السهام العربية، وهي مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها، بل الواحد سَهْمٌ، فهي مفردة اللفظ، مجموعة المعنى، ورجل نَابِلٌ معه نَبْلٌ، ونَبَّالٌ بالتشديد: يَعْمَل النَّبْلَ، وجَمْعها: نِبَالٌ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَامٍ. انتهى
(2)
. (وَأَرِيشُهَا) -بفتح الهمزة أيضًا-، يقال: رِشْتُ السهمَ رَيْشًا، من باب باع: إذا أصلحت ريشه، فهو مَرِيشٌ
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أبري النِّبل"؛ أي: أنحته، و"أَرِيشُه"؛ أي: أجعل فيها الريش؛ ويعني: أنَّه قد كان كَبِر، وقَوِيَ، وعَرَف، وهذا حال المراهق
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 6062](2342)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3545)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3628)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 140)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 187)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 308 و 309)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 123)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 47، بزيادة من "القاموس" ص 103.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 591.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 248.
(4)
"المفهم" 6/ 133.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6063]
(2343) - (حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ، قَدْ شَابَ، كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يُشْبِهُهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الأحمسيّ مولاهم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ، ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
و"أبو جُحَيفة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كلاحقيه، وهو (485) من رباعيّات الكتاب. شرح الحديث:(عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) وهب بن عبد الله السُّوَائيّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ)؛ أي: أبيض اللون، (قَدْ شَابَ) تقدّم في الرواية السابقة أن عَنْفقته هي التي شابت. (كَانَ) ولفظ البخاريّ:"وكان" بواو العطف، (الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ) بن أبي طالب الهاشميّ، سِبْط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته، أمير المؤمنين، أبو محمد، وُلد في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، قاله ابن سعد، وابن الْبَرْقيّ، وغير واحد، وقيل: في شعبان منها، وقيل: وُلد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت، رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث حفظها عنه، منها في السنن الأربعة قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر. . . الحديث، ومنها عن أبي الْحَوْراء -بالحاء المهملة، والراء- قلت للحسن: ما تذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أخذت تمرة من تمر الصدقة،
فتركتها في فمي، فنزعها بلعابها. . . الحديث، وهذه القصة أخرجها أصحاب الصحيح من حديث أبي هريرة، وروى الحسن أيضًا عن أبيه، وأخيه الحسين، وخالة هند بن أبي هالة، روى عنه ابنه الحسن، وعائشة أم المؤمنين، وابن أخيه علي بن الحسين، وابناه عبد الله والباقر، وعكرمة، وابن سيرين، وجبير بن نفير، وأبو الحوراء -بمهملتين- واسمه ربيعة بن شيبان، وأبو مِجْلز، وغيرهم.
وروى الشيخان من طريق إسماعيل بن أبي خالد، سمعت أبا جحيفة يقول:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحسن بن علي يشبهه".
وروى الترمذيّ من حديث أسامة بن زيد قال: طرقت النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الحاجة، فقال:"هذان ابناي، وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما، فأحبهما، وأحب من يحبهما".
وفي الترمذيّ أيضًا من حديث بريدة قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران، يمشيان، ويعثران، فنزل من المنبر، فحملهما، ووضعهما بين يديه. . ." الحديث.
ومن طريق الزهريّ عن أنس قال: "لم يكن أشْبَه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن، وفي رواية معمر عنه: "أشبه وجهًا".
وفي البخاريّ عن أسامة: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُجلسني، والحسن بن عليّ، فيقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما".
وفي البخاريّ أيضًا عن ابن أبي مليكة، عن عقبة بن الحارث، قال: صلى بنا أبو بكر العصر، ثم خرج، فرأى الحسن بن عليّ يلعب، فأخذه، فحَمَله على عنقه، وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي، ليس شبيهًا بعلي، وعلي يضحك، ومناقبه رضي الله عنه جمّة.
قال الواقديّ: مات سنة تسع وأربعين، وقال المدائنيّ: مات سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقال الهيثم بن عديّ: سنة أربع وأربعين، وقال ابن منده: مات سنة تسع وأربعين، وقيل: خمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ويقال: إنه مات مسمومًا، قال ابن سعد: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم، أخبرنا ابن عون، عن عمير بن إسحاق: دخلت أنا وصاحب لي على الحسن بن عليّ، فقال: لقد لفظت طائفة من كبدي، وإني قد سُقيت السّمّ
مرارًا، فلم أُسْقَ مثل هذا، فأتاه الحسين بن عليّ، فسأله: من سقاك؟ فأبى أن يخبره رضي الله عنه
(1)
.
(يُشْبِهُهُ)؛ أي: يُشبه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "قلت لأبي جحيفة: صفه لي، قال: كان أبيض، قد شَمِطَ، وأمر لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة قَلُوصًا، قال: فقُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن نقبضها". انتهى.
قوله: "كان أبيض قد شَمِط" -بفتح الشين المعجمة، وكسر الميم- أي: صار سواد شعره مخالطًا لبياضه، وقد بُيِّن في الرواية الماضية أن موضع الشَّمَط كان في الْعَنْفَقة، والعنفقة ما بين الذَّقَن والشفة السفلى، سواء كان عليها شعر أم لا، وتُطْلق على الشعر أيضًا.
وقوله: "وأمر لنا"؛ أي: له ولقومه من بني سُوَاءة -بضم المهملة، وتخفيف الواو، والمدّ، والهمز، وآخره هاء تأنيث- ابن عامر بن صعصعة، وكان أمَر لهم بذلك على سبيل جائزة الوفد.
وقوله: "قَلُوصًا" -بفتح القاف-، هي الأنثى من الإبل، وقيل: الشابّة، وقيل: الطويلة القوائم.
وقوله: "فقُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن نقبضها" فيه إشعار بأن ذلك كان قُرب وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد شَهِد أبو جحيفة ومن معه من قومه حجة الوداع، قال الحافظ: فالذي يظهر أن أبا بكر وفي لهم بالوعد المذكور، كما صنع بغيرهم، قال: ثم وجدت ذلك منقولًا صريحًا، ففي رواية الإسماعيليّ من طريق محمد بن فضيل، بالإسناد المذكور:"فذهبنا نقبضها، فأتانا موته، فلم يعطونا شيئًا، فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عِدَةٌ فليجيء، فقمت إليه، فأخبرته، فأمر لنا بها"، ذكره في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 68 - 73.
(2)
"الفتح" 8/ 205، كتاب "المناقب" رقم (3544).
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي جُحَيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 6063 و 6064](2343)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3543 و 3544)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(2826 و 2827 و 3777)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(59)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 307)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 128)، و (تمام) في "فوائده"(2/ 273)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(13/ 183)، و (الخطيب البغداديّ) في "الفصل للوصل المدرج"(179 و 180)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6064]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، بِهَذَا، وَلَمْ يَقُولُوا: أَبْيَضَ، قَدْ شَابَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"خالد بن عبد الله" هو: الطحان الواسطيّ، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(334)
- حدّثنا بشر بن موسى، ثنا الحميديّ، ثنا سفيان، ثنا ابن أبي خالد، قال: مَشَيت مع أبي جحيفة إلى الجمعة، فقلت: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، وكان الحسن بن علي يُشَبَّهُ به. انتهى
(1)
.
(1)
"المعجم الكبير" للطبرانيّ 22/ 128.
ورواية خالد بن عبد الله الطحّان عن إسماعيل ساقها تمّام الرازيّ رحمه الله في "فوائده"، فقال:
(1723)
- أخبرنا أبو بكر محمد بن سهل بن عثمان التَّنُوخِيّ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا خالد بن عبد الله، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي جحيفة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن يُشْبِهُهُ. انتهى
(1)
.
ورواية محمد بن بشر عن إسماعيل ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(2546)
- حدّثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا محمد بن بِشْر، ثنا إسماعيل، قال: قال لي أبو جحيفة: قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن بن عليّ يُشْبِهُهُ. انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6065]
(2344) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، سُئِلَ عَنْ شِيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ رُئِيَ مِنْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو داود" هو: الطيالسيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ) أنه (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما، وقوله:(سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال، (فَقَالَ) جابر (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ) بالبناء للمفعول، (مِنْهُ شَيْءٌ)؛ أي: لم يظهر من شعره صلى الله عليه وسلم شيء من البياض، وفيه استحباب دَهْن الشعر، وإزالته شَعْثه به. (وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: دهنت الشعرَ وغيره دَهْنًا، في باب نصر، والدُّهْنُ بالضمّ: ما يُدهن به، من زيت وغيره، وجَمْعه دهانٌ
(1)
"الفوائد لتمام الرازيّ" 2/ 273.
بالكسر، وادّهن على افْتَعَلَ: تطلّى بالدهن، وأدهن على أفعل
(1)
. (رُئِيَ مِنْهُ)؛ أي: ظهر من شعره بعض البياض، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى) حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 6065 و 6066](2344)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3644) وفي "الشمائل"(17 و 39 و 44)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5116) و"الكبرى"(9405)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 86 و 88 و 90 و 95 و 100 و 102 و 103 و 104 و 107)، و (عبد الله بن أحمد) في "زوائده"(5/ 98)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6066]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَمِطَ مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَلِحْيَتِهِ، وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ لَمْ يَتَبَيَّنْ، وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيَّنَ، وَكَانَ كثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السَّيْفِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَكَانَ مُسْتَدِيرًا، وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ، مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ، يُشْبِهُ جَسَدَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن موسى بن أبي المختار باذام العَبْسيّ الكوفيّ، أبو محمد، ثقةٌ كان يتشيع، قال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نعيم، واستُصْغِر في سفيان الثوريّ [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ تُكُلّم فيه بلا حجة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 202.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاكِ) بن حرب (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَمِطَ) بفتح الشين المعجمة، وكسر الميم، من باب فَرِحَ؛ أي: صار سواد شعره مخالطًا لبياضه. (مُقَدَّمُ رَأْسِهِ، وَلحْيَتِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد شَمِطَ مقدّم رأسه ولحيته"؛ أي: خالط الشيب ذينك الموضعين، ومقدم اللحية؛ يعني به: الْعَنْفَقة، كما قال أبو جحيفة:"رأيت هذه منه بيضاء؛ يعني: عنفقته، ومقدمه"؛ يعني به: الصِّدغين، كما قال أنس: إنما كان البياض في عَنْفَقته وصدغيه، وهذا يدلّ على أن قول أنس في الرواية الأخرى: إنه كان في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه عشرون شعرة بيضاء، إنَّما كان ذلك منه تقديرًا على جهة التقريب، والتقليل، لا التحقيق. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ إِذَا ادَّهَنَ)؛ أي: مسح شعره بالدهن، (لَمْ يَتَبَيَّنْ) ذلك الشَّمَط، (وَإِذَا شَعِثَ) بفتح أوله، وكَسْر ثانيه، قال الفيّوميّ رحمه الله: شَعِثَ الشعرُ شَعْثًا، فهو شَعِثٌ، من باب تَعِبَ: تَغَيَّرَ، وتلبّد؛ لقلة تعهّده بالدهن، ورجل أَشْعَثُ، وامرأة شَعْثَاءُ، مثل أحمر وحمراء، والشَّعَثُ أيضًا الوَسَخُ، ورجل شَعِثٌ: وَسِخُ الجسد، شعث الرأس أيضًا، وهو أَشْعَثُ أغبر؛ أي: من غير استحداد، ولا تنظف، والشَّعَثُ أيضًا: الانتشار، والتفرق، كما يَتَشَعَّبُ رأس السواك. انتهى
(2)
،
وقوله: (رَأْسُهُ) مرفوع على الفاعليّة بـ "شَعِثَ"، وقوله:(تبَيَّنَ) جواب "إذا".
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أنه كان إذا تطيَّب بطيب يكون فيه دُهن فيه صفرة خَفِي شيبه، وهذه هي الصفرة التي رأى عليه ابن عمر، وأبو رمثة، والله أعلم.
وشعثُ الرأس: انتفاشُ الشعر؛ لعدم تسريحه، وأراد به هنا إذا لم يتطيَّب. انتهى
(3)
.
(1)
"المفهم" 6/ 133 - 134.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 314.
(3)
"المفهم" 6/ 134.
(وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(1)
. (وَجْهُهُ) صلى الله عليه وسلم (مِثْلُ السَّيْفِ؟) الكلام على تقدير الاستفهام؛ أي: هل وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟؛ أي: في الطول واللمعان، وللبخاريّ من طريق أبي إسحاق السَّبيعيّ، قال: سئل البراء -أي: ابن عازب رضي الله عنهما- أكان وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ قال: لا، بل مثل القمر.
قال في "الفتح": كأن السائل أراد أنه مثل السيف في الطول، فردّ عليه البراء، فقال: بل مثل القمر؛ أي: في التدوير، ويَحْتَمِل أن يكون أراد مثل السيف في اللَّمَعان والصِّقَال، فقال: بل فوق ذلك، وعدل إلى القمر؛ لِجَمْعه الصفتين من التدوير واللمعان، ووقع في رواية زهير:"أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حديدًا، مثل السيف؟ "، وهو يؤيد الأول. انتهى
(2)
.
(قَالَ) جابر رضي الله عنه (لَا)؛ أي: ليس وجهه صلى الله عليه وسلم مثل السيف، (بَلْ كَانَ مِثْلَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كان وجهه مثل السيف" يَحْتَمِل هذا التشبيه وجهين:
أحدهما: أن السيوف كانت عندهم مستحسنة محبوبة يتجمَّلون بها، ولا يفارقونها، فشبّه وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم به؛ لأنَّه مستحسن محبوب يُتجمل به حين المجالسة، ولا يُستغنى عنه.
وثانيهما: أنه كان صلى الله عليه وسلم أزهر، صافي البياض، يبرق وجهه، وقد رُوي: أنه كان يتلألأ وجهه في الجدر؛ فشبَّه وجهه بالسيف في صفاء بياضه، وبريقه، والله تعالى أعلم.
قال: وقوله: "لا، بل مثل الشمس والقمر" هذا نفيٌ لتشبيه وجهه بالسيف، لِمَا في السيف من الطول، فقد يَحْتَمِل أن وجهه كان طويلًا؛ وإنَّما كان مستديرًا في تمام خَلْق، ولأنه تقصير في التشبيه، فأضرب عن ذلك، وذَكَر من التشبيه ما هو أوقع، وأبلغ؛ فقال:"بل مثل الشمس والقمر"، وهذا التشبيه هو الغاية في الحُسن؛ إذ ليس فيما نشاهده من هذه الوجوه أحسن، ولا أرفع،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 399.
(2)
"الفتح" 8/ 212، كتاب "المناقب" رقم (3552).
ولا أنفع منهما، وهما اللذان جرت عادة الشعراء والبلغاء بأن يشبّهوا بهما ما يستحسنونه. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ) وجهه صلى الله عليه وسلم (مُسْتَدِيرًا) إنما قال مستديرًا للتنبيه على أنه جَمَع الصفتين؛ لأن قوله: "مثل السيف" يَحْتَمِل أن يريد به الطول، أو اللَّمَعَان، فردّه المسئول ردًّا بليغًا، ولَمّا جرى التعارف في أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبًا الإشراق، والتشبيه بالقمر إنما يراد به الْمَلاحة دون غيرهما، أتى بقوله:"وكان مستديرًا" إشارةً إلى أنه أراد التشبيه بالصفتين معًا: الحسنِ، والاستدارة.
ولأحمد، وابن سعد، وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه:"ما رأيت شيئًا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في جبهته".
قال الطيبيّ: شبّه جريان الشمس في فلكها بجريان الحُسن في وجهه صلى الله عليه وسلم، وفيه عكس التشبيه للمبالغة، قال: ويَحْتَمِل أن يكون من باب تناهي التشبيه، جَعَلَ وجهه مَقَرًّا، ومكانًا للشمس.
ورَوَى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" من طريق يونس بن أبي يعفور، عن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، عن امرأة من هَمْدَان، قالت: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لها: شبّهيه، قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله، ولا بعده مثله.
وفي حديث الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها: "لو رأيته لرأيت الشمس طالعةً"، أخرجه الطبرانيّ، والدارميّ.
وفي حديث يزيد الرّقاشيّ عن ابن عباس: "جميلُ دوائر الوجه، قد ملأت لحيته من هذه إلى هذه، حتى كادت تملأ نحره".
ورَوَى الذُّهْليّ في "الزهريات" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صفته صلى الله عليه وسلم: "كان أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العينين، أهدب الأشفار. . ." الحديث.
قال الحافظ: وكأن قوله: "أسيل الخدين" هو الحامل على من سأل: أكان وجهه مثل السيف؟.
ووقع في حديث عليّ رضي الله عنه عند أبي عبيد في "الغريب": "وكان في وجهه
(1)
"المفهم" 6/ 134.
تدوير"، قال أبو عبيد في شرحه: يريد أنه لم يكن في غاية من التدوير، بل كان فيه سهولة، وهي أحلى عند العرب. انتهى
(1)
.
قال جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما: (وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ)؛ أي: خاتم النبوّة، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ورأيت الخاتم. . . إلخ"؛ الألف واللام في الخاتم لتعريف العهد؛ أي: خاتم النبوة الذي من علاماته المعروفة له في الكتب السابقة، وفي صدور علماء الملل السالفة، ولذلك لمّا حصل عند سلمان الفارسيّ رضي الله عنه العلم بصفاته، وأحواله، وعلاماته وموضع مبعثه، ودار هجرته؛ جدَّ في الطلب حتى ظفر بما طلب، ولمّا لقيه جعل يتأمل ظهره، فعلم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يقف على ما يعرفه من خاتم النبوة، فنزع رداءه من على ظهره، فلما رأى سلمان الخاتم أكبَّ عليه يقبّله، وهو يقول: أشهد أنك رسول الله.
وروى الترمذيّ عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، ونزلوا بصومعة راهب كان هنالك، وقد سُمِّي في غير هذا الخبر: بَحِيرًا، فخرج إليهم ذلك الراهب، وكان قبلُ لا يخرج إليهم، ولا يلتفت إليهم، فلما خرج جعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما عِلْمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر، ولا شجر إلا خرَّ ساجدًا له، ولا يسجدان إلا لنبيّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروفه مثل التفاحة. . .، وذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: حديث حسن غريب.
وعلى هذا؛ فخاتم النبوة معناه: علامةُ نبوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم؛ وقد اختلفت ألفاظ النَّقَلة في صفة ذلك الخاتم، فروى جابر بن سمرة، وأبو موسى ما ذكرناه آنفًا، وروى السائب بن يزيد: أنه مثل زرِّ الحجلة، وروى عبد الله بن سَرْجِس: أنه رأى جُمْعًا عليه خِيلان مثل: الثآليل. وروى الترمذيّ عن جابر بن سمرة، قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم-يعني: الذي بين كتفيه- غدَّة حمراء مثل بيضة الحمامة، وقال: حسن صحيح.
قال القرطبيّ: وهذه الكلمات كلها متقاربة المعنى، مفيدة أن خاتم النبوة
(1)
"الفتح" 8/ 212 - 213، كتاب "المناقب" رقم (3552).
كان نتوءًا قاتمًا أحمر تحت كتفه الأيسر، قَدْره إذا قُلِّل: بيضة الحمامة، وإذا كُثِّر: جُمْعُ اليد، وقد جاء في البخاريّ:"كان بَضْعة ناشزةً"؛ أي: مرتفعة. انتهى
(1)
.
(عِنْدَ كَتِفِهِ) صلى الله عليه وسلم الظرف متعلّق بحال محذوف؛ أي: حال كونه كائنًا عند كتفه صلى الله عليه وسلم، (مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ) بنصب "مثلَ" على الحال، والمعنى أنه مرتفع على جسده الشريف ليس كالخال الكبير، ويؤيّده رواية الترمذيّ في "الشمائل" بلفظ:"كان في ظهره بضعةً ناشزة"؛ أي: مرتفعة على جسده.
وقوله: (يُشْبِهُ جَسَدَهُ) جملة حاليّة أيضًا؛ أي: إن لون ذلك الخاتم يُشبه لون جسده صلى الله عليه وسلم، وسيأتي تمام البحث في خاتم النبوّة في الباب التالي -إن شاء الله تعالى-.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(30) - (بَابُ إِثْبَاتِ خَاتَمِ النُبوَّةِ، وَصِفَتِهِ، وَمَحِلِّهِ مِنْ جَسَدِهِ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6067]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ خَاتِمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَأنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل بابين، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرح، وتخريجه في الحديثين المذكورين قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6068]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
(1)
"المفهم" 6/ 136.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ صَالِحِ) بن صالح بن حَيّ، وهو حَيّان بن شُفَيّ -بالشين المعجمة، والفاء، مُصَغَّرًا- الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- الثوريّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ، رُمي بالتشيع [7](ت 169) وكان مولده سنة مائة (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1714.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير.
[تنبيه]: رواية حسن بن صالح عن سماك بن حرب هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(2009)
- حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا عليّ بن حكيم الأوديّ، ثنا حُميد بن عبد الرحمن (ح) وحدّثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ح) وحدّثنا الحسين بن إسحاق التستريّ، ثنا عثمان بن أبي شيبة، قالا: ثنا عبيد الله بن موسى، قالا: ثنا حسن بن صالح، عن سماك بن حرب، عن جابر، قال: رأيت الخاتم في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل بيضة الحمامة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6069]
(2345) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -وَهُوَ: ابْنُ إِسْمَاعِيلَ- عَنِ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتِمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
(1)
"المعجم الكبير" 2/ 241.
3 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، أصله من الكوفة، صدوقٌ يَهِم، صحيح الكتاب [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
4 -
(الْجَعْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن أوس، ويقال: أويس الكنديّ، ويقال: التميميّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ويقال له: الجعيد أيضًا، وقد يُنسب إلى جدّه، وقد يُصَغَّر، ثقة [5].
رَوَى عن السائب بن يزيد، وعائشة بنت سعد، ويزيد بن خُصيفة، وغيرهم.
وروى عنه سليمان بن بلال، والدَّراورديّ، وحاتم بن إسماعيل، والقطان، وغيرهم.
قال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، قال البخاريّ: قال مكيّ: سمعت منه سنة (144)، وذكره ابن حبان في "الثقات" في التابعين، ثم أعاده في أتباعهم. انتهى.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ) بن سعيد بن ثُمامة الكنديّ، وقيل غير ذلك في نسبه، ويُعْرَف بابن أخت النَّمِر، صحابيّ صغير، له أحاديثُ قليلة، وحُجَّ به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وولّاه عُمر سوق المدينة، ومات سنة إحدى وتسعين، وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1712.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة التالية، وأن صحابيّه آخر من مات من الصحابة بالمدينة، كما قاله ابن أبي داود، وقال غيره: بل محمود بن الربيع، وقيل: بل محمود بن لبيد، فإنه مات سنة تسع وتسعين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) وفي رواية البخاريّ: "عن الجعيد بن
عبد الرحمن" بالتصغير. (قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: ذَهَبَتْ
بِي) قال بعضهم: الفرق بين ذهب به، وأذهبه، أن معنى ذهب به: استصحبه،
ومضى به معه، ومعنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهبًا
(1)
. (خَالَتِي) قال الحافظ:
لم أقف على اسمها، وأما أمه فاسمها عُلْبة -بضم المهملة، وسكون اللام، بعدها موحّدة- بنت شُريح أخت مَخْرمة بن شُريح
(2)
. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ) بفتح الواو، وكسر الجيم، وبالتنوين؛ أي: مَرِضٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَجِعَ فلانًا رأسُهُ، أو بطنه، يُجْعَل الإنسانُ مفعولًا، والعضو فاعلًا، وقد يجوز العكس، وكأنه على القلب؛ لفهم المعنى، يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ؛ أي: مريضٌ متألِّمٌ، ويقع الوَجَعُ على كلّ مرض، وجَمْعه أَوْجَاعٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب، ووِجَاعٌ أيضًا بالكسر، مثلُ جَبَلٍ وجِبَال، وقوم وَجِعُونَ، ووَجْعَى، مثلُ مَرْضَى، ونساء وَجِعَاتٌ، ووَجَاعَى. انتهى
(3)
.
ووقع في رواية البخاريّ في "المناقب" بلفظ: "وَقِعٌ" -بفتح الواو، وكسر القاف، وبالتنوين-؛ أي: كوَجِعٍ وزنًا ومعنًى، وجاء "وَجِعَ" بلفظ الفعل الماضي، مبنيًّا للفاعل، والمراد أنّه كان يشتكي رجله، كما ثبت في غير هذا الطريق. (فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ) صلى الله عليه وسلم (فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ) بفتح الواو؛ أي: الماء الذي توضّأ منه، (ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتِمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) في حديث عبد الله بن سَرْجِس الآتي:"قال: فنظرت إلى خاتم النبوّة بين كتفيه عند ناغض كتفه الأيسر"، والناغض: أعلى الكتف، وقيل غيره، وقوله:(مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ) بنصب "مثلَ" على الحال، والزرّ -بكسر الزاي، وتشديد الراء-، و"الحجلة" -بفتح المهملة، والجيم-، واحدة الحجال، وهي بيوت تُزَيَّن بالثياب، والأَسِرّة، والستور، لها عُرًى، وأزرارٌ، وقيل: المراد بالحجلة: الطير، وهو اليعقوب، يقال للأنثى منه: حجلة، وعلى هذا
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 77.
(2)
"الفتح" 8: 197، كتاب "المناقب" رقم (3541).
(3)
"المصباح المنير" 2/ 648.
فالمراد بزِرّها: بيضتها، ويؤيده أن في حديث جابر بن سَمُرة الماضي:"مثل بيضة الحمامة"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما زِرّ الحجلة، فبزاي، ثم ياء، والحجلة، بفتح الحاء، والجيم، هذا هو الصحيح المشهور، والمراد بالحجلة: واحدة الحجال، وهي بيت كالقُبّة، لها أزرار كبار، وعُرًى، هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور، وقال بعضهم: المراد بالحجلة: الطائر المعروف، وزِرّها بيضتها، وأشار إليه الترمذيّ، وأنكره عليه العلماء، وقال الخطابيّ: رُوِي أيضًا بتقديم الراء على الزاي، ويكون المراد: البيض، يقال: رَزَّت الجرادة، بفتح الراء، وتشديد الزاي: إذا كَبَست ذَنَبها في الأرض، فباضت، وجاء في "صحيح البخاريّ"
(2)
: "كانت بَضْعَةً ناشزةً"؛ أي: مرتفعة على جسده. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مثل زرِّ الحجلة" الرواية المعروفة فيه: "زر" بتقديم الزاي، قال أبو الفرج الجوزيّ: الحجلة: بيت كالقبة يُستر بالثياب، ويُجعل له باب من جنسه، فيه زرّ وعروة، تُشَدُّ إذا أغلق، وقال القاضي أبو الفضل: الزرُّ: الذي يعقد به النساء عرى أحجالهن كأزرار القميص، والحجلة هنا: واحدة الحِجال، وهي ستور ذات سُجوف. وقال غيرهما: الحجلة: هي الطائر المعروف، وَزِرَّها: بيضتها؛ كما قال جابر: بيضة الحمامة.
قال القرطبيّ: والأول أشهر في الزر، والثاني: أشبه بالمعنى، وقد أبعد الخطابيّ، فرواه: رز الحجلة بتقديم الراء، أراد: بيضة الحجلة، يقال: أرزت الجرادة؛ أي: أدخلت ذنبها في الأرض لِتَبِيض.
قال القرطبيّ: وهذا لا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ العرب لا تسمى البيضة رزة، ولا تؤخذ اللغة قياسًا. انتهى
(4)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "مثل زر الحجلة" كذا
(1)
"الفتح" 1/ 507، كتاب "الوضوء" رقم (190).
(2)
هكذا عزا النووي في "شرحه" إلى "صحيح البخاريّ"، وهو غلطٌ، وإنما هو عند الترمذيّ في "الشمائل"، كما عزاه إليه في "الفتح"، والله تعالى أعلم.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 98.
(4)
"المفهم" 6/ 136 - 137.
هو بتقديم الزاي مكسورة، والحجلة بحاء مهملة، مفتوحة، وجيم مفتوحة، كذا في "صحيح مسلم"، وفي كتاب البخاريّ مثله في "باب خاتم النبوءة"، وقال البخاريّ في "تفسيره": الحجلة من حجل الفرس كذا قيّده بعضهم هنا، بضم الحاء، وسكون الجيم في الأول، وحاء للقابسيّ في موضع بسكون الجيم الذي بين عينيه، ومن حجل الفرس بفتح الجيم، ومنهم من ضم الحاء، ومنهم من كسرها، وكانه أراد بياضها، لكنه سَمّى الغُرّة التي بين عيني الفرس حجلة، وإنما الحجلة في القوائم، ثم ما فائدة ذكر الزّرّ مع هذا؟ وفسَّره الترمذي في "كتابه"، فقال: زِرّ بيض، وقاله الخطابيّ: رزّ بتقديم الراء على الزاي، فأما تفسير الزر بالبيض، ومراده بالحجلة هذا الطائر المشهور، فغير معروف جملةً، لكن قد يُعتمد بقوله في غير هذا الحديث:"مثل بيضة الحمامة"، إلا أن يكون على ما قاله الخطابيّ، ورواه من تقديم الراء، فله وجه؛ لأن الرزّ بَيْض الجراد، يقال: رَزّت الجرادة: إذا أدخلت ذنبها في الأرض لِتَبِيْض، فاستعار ذلك لطائر الحجل الذي هو القبج، والصحيح من هذا كله المشهور، والبين الوجه الأول:"زِرّ الحجلة"، والزر واحد الأزرار التي تُدْخَل في العُرَى؛ كأزرار القميص، والحجلة واحد الحجال، وهو سِتْر، وسُجُوف. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وجزم السهيليّ بأن المراد بالحجلة هنا الكِلّة
(2)
التي تُعَلَّق على السرير، ويُزيَّن بها للعروس؛ كالبشخانات، والزّرّ على هذا حقيقة؛ لأنها تكون ذات أزرار، وعُرًى، واستبعد قول من قال: إنها من حُجَل الفرس الذي بين عينيه، بأن التحجيل إنما يكون في القوائم، وأما الذي في الوجه فهو الغُرّة، قال الحافظ: وهو كما قال، إلا أن منهم من يُطلقه على ذلك مجازًا، وكأنه أراد أنها قَدْر الزرّ، وإلا فالغرّة لا زِرّ لها، وجزم الترمذيّ بأن المراد بالحجلة: الطير المعروف، وأن المراد بزرّها: بيضها، وتعضده رواية أنه مثل بيضة الحمامة.
قال: وقد وردت في صفة خاتم النبوة أحاديث مقاربة لِمَا ذُكر هنا:
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 183.
(2)
بكسر الكاف: الستر الرقيق، كما في "القاموس".
منها عند مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما: "كأنه بيضة حمامة"، ووقع في رواية ابن حبان من طريق سماك بن حرب:"كبيضة نعامة"، ونبَّه على أنها غلط، وعن عبد الله بن سَرْجِس:"نظرت خاتم النبوة جُمْعًا عليه خِيلان"، وعند ابن حبان من حديث ابن عمر:"مثل البندقة من اللحم"، وعند الترمذيّ:"كبضعة ناشزة من اللحم"، وعند قاسم بن ثابت من حديث قُرّة بن إياس:"مثل السَّلْعة".
وأما ما ورد من أنها كانت كأثر مِحْجم، أو كالشامة السوداء، أو الخضراء، أو مكتوب عليها:"محمد رسول الله"، أو:"سِرْ، فأنت المنصور"، أو نحو ذلك فلم يثبت منها شيء، وقد أطنب الحافظ قطب الدين في استيعابها في "شرح السيرة"، وتبعه مغلطاي في "الزهر الباسم"، ولم يبيِّن شيئًا من حالها، والحقّ ما ذكرته، ولا تغترّ بما وقع منها في "صحيح ابن حبان"، فإنه غفل حيث صحح ذلك، والله أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 6069](2345)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(190)، و"المناقب"(3540 و 3541) و"المرضى"(5670) و"الدعوات"(6352)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3643) وفي "الشمائل"(16)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 361)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 156 و 157)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه الصحابة، والصحابيّات من شدّة محبّتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والتبرّك بآثاره، وطَلَبِهم منه الدعاء، ومسح أعضائهم المريضة.
2 -
(ومنها): بيان طهارة الماء المستعمَل، وأنه باق على طهارته، وطهوريّته، فيجوز شربه، والوضوء منه، خلافًا لمن منع منه، وقد حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ"، ولله الحمد والمنّة.
وقد أورد البخاريّ رحمه الله هذا الحديث تحت ترجمة: "باب استعمال فضل وَضوء الناس"، فأورد أحاديث، ومن جملتها هذا الحديث، فقال في "الفتح":
أراد البخاري الاستدلال بهذه الأحاديث على ردّ قول من قال بنجاسة الماء المستعمَل، وهو قول أبي يوسف، وحَكَى الشافعي في "الأم" عن محمد بن الحسن أن أبا يوسف رجع عنه، ثم رجع إليه بعد شهرين، وعن أبي حنيفة ثلاث روايات:
الأولى: طاهر، لا طهور، وهي رواية محمد بن الحسن عنه، وهو قوله، وقول الشافعي في الجديد، وهو المفتى به عند الحنفية.
الثانية: نجس نجاسة خفيفةً، وهي رواية أبي يوسف عنه.
الثالثة: نجس نجاسة غليظة، وهي رواية الحسن اللؤلؤي عنه، وهذه الأحاديث تردّ عليه؛ لأن النجس لا يُتبرَّك به، وحديث المجّة، وإن لم يكن فيه تصريح بالوضوء، لكن توجيهه أن القائل بنجاسة الماء المستعمَل إذا علّله بأنه ماء مضاف قيل له: هو مضاف إلى طاهر، لم يتغير به، وكذلك الماء الذي خالطه الريق طاهر؛ لحديث المجّة، وأما من علله منهم بأنه ماء الذنوب، فيجب إبعاده محتجًّا بالأحاديث الواردة في ذلك عند مسلم وغيره، فأحاديث الباب أيضًا تردّ عليه؛ لأن ما يجب إبعاده لا يتبرك به، ولا يشرب، قال ابن المنذر: وفي إجماع أهل العلم على أن البلل الباقي على أعضاء المتوضئ، وما قطر منه على ثيابه طاهر، دليل قويّ على طهارة الماء المستعمل. انتهى.
3 -
(ومنها): إثبات خاتم النبوّة له صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان بين كتفي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان من علامات نبوّته التي كان أهل الكتاب يعرفونه بها.
قال في "الفتح": وادعى القاضي عياض أن الخاتم هو أثر شقّ الملَكين لِمَا بين كتفيه. وتعقبه النوويّ، فقال: هذا باطل؛ لأن الشقّ إنما كان في صدره وبطنه، وكذا قال القرطبيّ، وأثره إنما كان خطًّا واضحًا من صدره إلي مراقّ بطنه، كما في "الصحيحين". قال: ولم يثبت قط أنه بلغ بالشقّ حتى نَفَذ من وراء ظهره، ولو ثبت للزم عليه أن يكون مستطيلًا من بين كتفيه إلى قطنته؛ لأنه الذي يحاذي الصدر من سرته إلى مراقّ بطنه، قال: فهذه غفلة من هذا الإمام، ولعل ذلك وقع من بعض نسّاخ كتابه، فإنه لم يسمع عليه فيما علمت، كذا قال. قال الحافظ: وقد وقفت على مستند القاضي، وهو حديث عتبة بن عبد السُّلَميّ
الذي أخرجه أحمد، والطبرانيّ، وغيرهما عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان بدء أمرك؟ فذكر القصة في ارتضاعه في بني سعد، وفيه أن الملَكين لمّا شقّا صدره قال أحدهما للآخر: خِطْه فخاطه، وختم عليه بخاتم النبوة. انتهى.
فلما ثبت أن خاتم النبوة كان بين كتفيه حَمَل ذلك عياض على أن الشقّ لَمّا وقع في صدره، ثم خِيط حتى التأم كما كان، ووقع الختم بين كتفيه، كان ذلك أثر الشقّ، وفَهِم النوويّ وغيره منه أن قوله:"بين كتفيه" متعلق بالشقّ، وليس كذلك، بل هو متعلق بأثر الختم.
ويؤيده ما وقع في حديث شداد بن أوس عند أبي يعلى، و"الدلائل" لأبي نعيم:"أن الملَك لمّا أخرج قلبه، وغسله، ختم، ثم أعاده عليه بخاتم في يده من نور، فامتلأ نورًا"، وذلك نور النبوة والحكمة، فيَحْتَمِل أن يكون ظهر من وراء ظهره، عند كتفه الأيسر؛ لأن القلب في تلك الجهة.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود الطيالسيّ، والحارث بن أبي أسامة، و"الدلائل" لأبي نعيم أيضًا:"أن جبريل وميكائيل لمّا تراءيا له عند المبعث، هَبَط جبريل، فسلقني لحلاوة الغفا، ثم شقّ عن قلبي، فاستخرجه، ثم غسله في طست من ذهب، بماء زمزم، ثم أعاده مكانه، ثم لَأَمَه، ثم ألقاني، وختم في ظهري، حتى وجدت مس الخاتم في قلبي، وقال اقرأ. . ." الحديث، هذا مستند القاضي فيما ذكره، وليس بباطل.
قال: ومقتضى هذه الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودًا حين ولادته، ففيه تعقيب على من زعم أنه وُلد به، وهو قول نقله أبو الفتح اليعمريّ بلفظ: قيل: وُلد به، وقيل: حين وُضع، نقله مغلطاي، عن يحيى بن عائذ، والذي تقدم أثبت، ووقع مثله في حديث أبي ذرّ عند أحمد، والبيهقيّ في "الدلائل"، وفيه:"وجُعِل خاتم النبوة بين كتفيّ كما هو الآن"، وفي حديث شداد بن أوس في "المغازي" لابن عائد في قصة شقّ صدره، وهو في بلاد بني سعد بن بكر:"وأقبل وفي يده خاتم له شعاع، فوضعه بين كتفيه، وثدييه. . ." الحديث، وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده، والعلم عند الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 562.
4 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": قال القرطبيّ رحمه الله: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئًا بارزًا أحمر عند كتفه الأيسر، قَدْره إذا قُلِّل قَدْر بيضة الحمامة، وإذا كُبِّر جُمْع اليد، والله أعلم.
ووقع في حديث عبد الله بن سرجس عند مسلم: "أن خاتم النبوة كان بين كتفيه، عند ناغض كتفه اليسرى"، وفي حديث عباد بن عمرو عند الطبراني:"كأنه ركبة عنز على طرف كتفه الأيسر"، ولكن سنده ضعيف.
قال العلماء: السر في ذلك أن القلب في تلك الجهة، وقد ورد في خبر مقطوع أن رجلًا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان، فرأى الشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه الأيسر حذاء قلبه، له خرطوم كالبعوضة، أخرجه ابن عبد البرّ بسند قويّ إلى ميمون بن مهران، عن عمر بن عبد العزيز، فذكره، وذكره أيضًا صاحب "الفائق" في مصنفه في "م ص ر"، وله شاهد مرفوع عن أنس، عند أبي يعلى، وابن عديّ، ولفظه:"أن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم. . ." الحديث، وأورد ابن أبي داود في "كتاب الشريعة" من طريق عروة بن رُويم: "أن عيسى عليه السلام سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن آدم، قال: فإذا برأسه مثل الحية، واضع رأسه على تمرة
(1)
القلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا غفل وسوس".
قال السهيليّ: وُضِع خاتم النبوة عند نغض كتفه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع يدخل منه الشيطان. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6070]
(2346) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ- (ح) وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ (ح) وَحَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ -يَعْنِي:
(1)
كذا النسخة "تمرة" بالتاء، والظاهر أنه بالثاء.
(2)
"الفتح" 8/ 199، كتاب "المناقب" رقم (3541).
ابْنَ زِيَادٍ - حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا -أَو قَالَ: ثَرِيدًا- قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [محمد: 19]، قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْه، عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى، جُمْعًا عَلَيْهِ خِيلَانٌ؛ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حُسين الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنة، وهو أوثق من عمه كامل بن طلحة (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرَويّ الأصلِ، ثم الْحَدَثاني -بفتح المهملة، والمثلثة- ويقال له: الأنباريّ -بنون، ثم موحدة- أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِيَ، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
4 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ، له غرائب بعد أن أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
5 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حَامِدُ بْنُ عُمَرَ بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
7 -
(عَبْدُ الوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ، في حديثه عن الأعمش وحده مقالٌ [8] (ت 176) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ سَرْجِسَ) -بفتح السين المهملة، وسكون الراء، وكسر
الجيم، بعدها سين مهملة- المزنيّ، حليف بني مخزوم، صحابيّ سكن البصرة (م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 10/ 1651.
[تنبيه]: من لطائف هذه الأسانيد:
أنها من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالتالي، وهي (488 و 489 و 490) وأنهم بصريّون، سوى سويد، وعليّ بن مسهر، كما مرّ في ترجمتهما أنفًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَاصِمٍ) بن سليمان (الأَحْوَلِ) البصريّ (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَرْجِسَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا -أَو) للشكّ من الراوي (قَالَ: ثَرِيدًا- (بدل: "خبزًا ولحمًا"، قال الفيّوميّ رحمه الله: الثَّرِيدُ: فَعِيل؛ بمعنى: مفعول، ويقال أيضًا: مَثْرُودٌ، يقال: ثَرَدْتُ الخبزَ ثَرْدًا، من باب قَتَلَ، وهو أن تَفُتّه، ثم تَبُلّه بمرق، والاسم: الثُّرْدَةُ. انتهى
(1)
.
وقال في "التاج": ثرَدَ الخُبْزَ: فَتَّه، ثم بَلَّه بمَرَقٍ، ثمّ شَرَّفَه وَسْطَ القَصعةِ، وهو الثَّريدُ، والثَّريدةُ، والثُّرْدَةُ، كما في "الأَساس"؛ كاتَّرَدَه، واثَّردَه، بالتاءِ المثنّاة الفوقيّة، والثاءِ المثلّثَة على افْتَعَله؛ أي: بتشديد التاءِ والثَّاءِ؛ أَي: اتّخذَه، كان في أَصْله اثْتَرده على افتَعَل، فلما اجتمَعَ حَرفانِ مَخْرجاهما مُتقارِبانِ، في كلمةٍ واحدةٍ، وَجَبَ الإِدغام، إِلّا أَنَّ الثّاءَ لمّا كانت مهموسةً، والتاء مجهورة، لم يَصِحَّ ذلك، فأَبدَلُوا من الأَول تاءً، فأَدغموه في مثله، وناسٌ من العرب يُبدِلُون من التاءِ ثاءً، فيُدغمون، فيقولون: اثَّرَدت، فيكون الحرف الأَصليّ هو الظاهر، كما في "الصّحاح". انتهى
(2)
.
(قَالَ) عاصم الأحول: (فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لعبد الله بن سَرْجِسَ رضي الله عنه، (أَسْتَغْفَرَ) يَحْتَمِل أن تكون الهمزة للاستفهام، فتكون مفتوحةً، ويَحْتَمِل أن تكون همزة وصل فأصلها السكون، وتُكسر عند الابتداء بها، وتقدّر قبلها همزة الاستفهام. (لَكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ) عبد الله (نَعَمْ) استغفر لي (وَلَكَ) ولجميع المؤمنين؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم لم يخصّني بالاستغفار، بل استغفر لي، ولك،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 81.
(2)
"تاج العروس" 1/ 1909.
ولجميع المؤمنين والمؤمنات، حيث أمره الله عز وجل بذلك. (ثُمَّ تَلَا) عبد الله حجته على ما قاله، (هَذِهِ الآيَةَ:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية [محمد: 19]) فـ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ. . .} بدل، أو عطف بيان لـ "الآية". (قَالَ) عبد الله (ثُمَّ دُرْتُ) بضمّ أوله، من باب قال، (خَلْفَهُ)؛ أي: تحوّلت من مكاني إلى وراء ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ) حال كونه كائنًا (بَيْنَ كتِفَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَى) "الناغض": بالنون، والغين، والضاد المعجمتين، والغين مكسورة، قال الجمهور: النُّغْض بالضمّ، والنَّغْض بالفتح، والناغض: أعلى الكتف، وقيل: هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل: ما يظهر منه عند التحرك، قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "التاج": النُّغْضُ بالضَّمِّ، ويُفتحُ، وهو قليل: غُرْضوفُ
(2)
الكتِفِ، وقيل: أَعلى مُنْقَطَعِ غُضْروفِ الكَتِفِ، أَو حيثُ يَجيءُ، ويذْهَبُ مِنْهُ، وقال شَمِرٌ: النَّاغِضُ من الإِنْسانِ: أَصْلُ العُنُقِ حيثُ يَنْغُضُ رأسُه، ونُغْضُ الكَتِفِ: هو العَظْمُ الرَّقيقُ عَلَى طَرَفِها. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ناغض الكتف: هو ما رَقّ منه، ولان، سُمِّي بذلك لنغوضه؛ أي: حركته، يقال: نغض رأسه؛ أي: حرّكه، ونغضت القناة: هززتها، ومنه قوله تعالى:{فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} الآية [الإسراء: 51]؛ أي: يحركونها استهزاء، ويُسمَّى الناغض: الغُضْروف، وكذا جاء في رواية أخرى. انتهى
(4)
.
وقوله: (جُمْعًا) منصوب على الحال؛ أي: نظرت إلى خاتم النبوة مثل الْجُمْع، قال ابن قتيبة: هو جُمع الكف، يقال: ضربه بِجُمع كفه: إذا جمعها، فضربه بها، وهو بالضم، ويقال بكسرها. انتهى
(5)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 98.
(2)
"الغُرْضُوف" بتقديم الراء، والغُضْروف، بتقديم الضاد: كل عظم رَخْصٍ، يؤكل، وهو مارن الأنف، ونُغْضُ الكتف، ورؤوس الأضلاع، أفاده في "القاموس".
(3)
"تاج العروس" 1/ 4742.
(4)
"المفهم" 6/ 137.
(5)
"المفهم" 6/ 137.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "جُمْعًا" فبضم الجيم، وإسكان الميم، ومعناه: أنه كجمع الكفّ، وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع، وتضمها. انتهى
(1)
.
(عَلَيْهِ خِيلَانٌ؛ كَأَمْثَالِ الثَّآلِيلِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الخِيلان: جمع خال، وهي نُقَطٌ سودٌ كانت على الخاتم، شبَّهها لسعتها بالثآليل؛ لا أنها كانت ثآليل، وهي جمع ثؤلول: وهي حُبَيبات تعلو الجلد. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما الْخِيلان: فبكسر الخاء المعجمة، وإسكان الياء: جمع خال، وهو الشامة في الجسد، والله أعلم.
قال القاضي عياض: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنها شاخص في جسده، قَدْر بيضة الحمامة، وهو نحو بيضة الْحَجَلَة، وزِرّ الْحَجَلة، وأما رواية جُمْع الكفّ، وناشزٌ، فظاهرها المخالفة، فتؤوّل على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناها: على هيئة جُمْع الكفّ، لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن سَرْجِس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 6070](2346)، و (الترمذيّ) في "الشمائل"(23)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(295 و 421 و 422)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 82)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 131)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(2/ 336)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 98.
(2)
"المفهم" 6/ 137.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 98 - 99.
(31) - (بَابٌ فِي صِفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَبْعَثِهِ، وَمُدَّةِ عُمْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6071]
(2347) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلَا بِالآدَمِ، وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ، وَلَا بِالسَّبِطِ، بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَلَى رَأسِ سِتِّينَ سَنَةً، وَلَيْسَ في رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التيميّ مولاهم، أبو عثمان المدنيّ، المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فَرُّوخ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ، قال ابن سعد: كانوا يتّقونه لموضع الرأي [5](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 11/ 1652.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الأربعة الماضية، وهو (491) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ من أهلها، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) فَرُّوخ الفقيه المدنيّ المعروف بربيعة الرأي، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّهُ)؛ أي: أن ربيعة (سَمِعَهُ)؛ أي: سمع أنس بن مالك رضي الله عنه (يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ)؛ أي: المُفْرِط في الطول، مع اضطراب القامة، قال الأخفش: هو عيب في الرجال
والنساء، وفي رواية البخاريّ:"كان رَبْعةً من القوم"، وهو بفتح الراء، وسكون الموحدة؛ أي: مربوعًا، والتأنيث باعتبار النفس، يقال: رجلٌ رَبْعَةٌ، وامرأة ربعةٌ، وقد فسّره في الحديث المذكور بقوله:"ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير"، والمراد بالطويل البائن: المفرط في الطول مع اضطراب القامة، وقد تقدم في حديث البراء رضي الله عنه قريبًا أنه قال:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مربوعًا"، ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الذُّهْليّ في "الزهريات" بإسناد حسن:"كان رَبْعَةً، وهو إلى الطول أقرب"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ليس بالطويل البائن"؛ أي: الذي يباين الناس بزيادة طوله، وهو طوله صلى الله عليه وسلم الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى:"بالمشذَّب"، وفي الأخرى:"بالممغط" بالعين، والغين؛ أي: المتناهي في الطول، وهو عند العرب: العَشَنَّقُ، والعَشَنَّط. انتهى
(2)
.
(وَلَا بِالْقَصِيرِ)، وفي رواية:"ولا بالقصير المتردِّد" قال القرطبيّ: أي: الذي تداخل بعضه في بعض، وهو المسمَّى عند العرب بحنبل، وأقصر منه: الحنتل، وكِلا الطرفين مُستقبح عند العرب، وخير الأمور أوساطها، وكذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله. انتهى
(3)
.
(وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ) بالميم: شديد البياض كلون الْجِصّ، وهو كَرِيه المنظر، وربما توَهّمه الناظر أبرص، قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
وقال القرطبيّ: الأبيض الأمهق؛ أي: الشديد البياض الذي لا يخالط بياضه حمرة، ولا غيرها، والعرب تكرهه؛ لأنَّه يشبه البرص. انتهى
(5)
.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "ليس بأبيض أمهق"، قال في "الفتح": كذا في الأصول، ووقع عند الداوديّ تبعًا لرواية المروزيّ:"أمهق، ليس بأبيض"، واعترضه الداوديّ، وقال عياض: إنه وَهَمٌ، قال: وكذلك رواية من روى: أنه "ليس بالأبيض، ولا الآدم" ليس بصواب، قال الحافظ: كذا قال،
(1)
"عمدة القاري" 16/ 105.
(2)
"المفهم" 6/ 139.
(3)
"المفهم" 6/ 139.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 99.
(5)
"المفهم" 6/ 139.
وليس بجيّد في هذا الثاني؛ لأن المراد: أنه ليس بالأبيض الشديد البياض، ولا بالآدم الشديد الأُدْمة، وإنما يخالط بياضه الحمرة، والعرب قد تُطلق على من كان كذلك أسمر، ولهذا جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند أحمد، والبزار، وابن منده بإسناد صحيح، وصححه ابن حبان:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أسمر"، وقد رَدّ المحبّ الطبريّ هذه الرواية بقوله في حديث الباب:"ولا بالأبيض الأمهق، وليس بالآدم"، والجمع بينهما ممكن.
وأخرجه البيهقيّ في "الدلائل" من وجه آخر عن أنس، فذكر الصفة النبوية، قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض، بياضه إلى السمرة"، وفي حديث يزيد الرقاشيّ عن ابن عباس في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رجلٌ بين رجلين جسمه، ولحمه أحمر"، وفي لفظ:"أسمر إلى البياض"، أخرجه أحمد، وسنده حسن.
وتبيَّن من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة الحمرة التي تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبَت: ما يخالطه الحمرة، والمنفيّ: ما لا يخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه، وتسميه أمهق.
وبهذا تبيّن أن رواية المروزيّ: "أمهق، ليس بأبيض" مقلوبة، والله أعلم.
على أنه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق: الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية، ولا سمرته، ولا حمرته، فقد نُقِل عن رؤبة أن الْمَهَق خضرة الماء، فهذا التوجيه يتمّ على تقدير ثبوت الرواية.
وقد تقدم في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه إطلاق كونه أبيض، وكذا في حديث أبي الطُّفيل عند مسلم، وفي رواية عند الطبرانيّ:"ما أنسى شدّة بياض وجهه، مع شدّة سواد شعره"، وكذا في شعر أبي طالب المتقدّم في "الاستسقاء":
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
وفي حديث سُراقة عند ابن إسحاق: "فجعلت أنظر إلى ساقه؛ كأنها جُمّارة"
(1)
، ولأحمد من حديث مُحَرِّش الكعبيّ في عمرة الجعرانة، أنه قال:
(1)
قال في "النهاية في غريب الأثر" 1/ 294: الْجُمّارة: قلب النخلة، وشحمتها، شبّه ساقه ببياضها. انتهى.
"فنظرت إلى ظهره؛ كأنه سَبِيكة فضة"، وعن سعيد بن المسيِّب، أنه سمع أبا هريرة يَصِف النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كان شديد البياض"، أخرجه يعقوب بن سفيان، والبزار بإسناد قويّ.
والجمع بينهما بما تقدم، وقال البيهقيّ: يقال: إن المشَرَّب منه حمرة، وإلى السمرة ما ضحى منه للشمس والريح، وأما ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر.
قلت
(1)
: وهذا ذكره ابن أبي خيثمة عقب حديث عائشة رضي الله عنها في صفته صلى الله عليه وسلم بأبسط من هذا، وزاد:"ولونه الذي لا يُشَكّ فيه الأبيض الأزهر".
وأما ما وقع في زيادات عبد الله بن أحمد في "المسند" من طريق عليّ: "أبيض مشرَّب شديد الوضح"، فهو مخالف لحديث أنس:"ليس بالأمهق"، وهو أصحّ.
ويمكن الجمع بحمل ما في رواية عليّ على ما تحت الثياب، مما لا يلاقي الشمس. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(وَلَا بِالآدَمِ)؛ أي: الأسمر، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم ليس بأسمر، ولا بأبيض كريه البياض، بل أبيض بياضًا نَيِّرًا، كما قال في الحديث السابق:"أنه صلى الله عليه وسلم كان أزهر اللون"، وكذا قال في الرواية التي بعده:"كان أزهر".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ليس بالآدم"؛ أي: الذي تغلب سمرتُهُ السوادَ، فإنَّ السُّمرة بياضٌ يميل إلى سواد، والسُّحْمة -بالسين- فوقه، ثم الصُّحْمة -بالصاد- فوقه، وهو غالب لون الحبشة، ثم الأُدْمَة فوقه، وهو غالب ألوان العرب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم كان بياضه مشربًا بحمرة في صفاء، فصَدَق عليه أنه أزهر، وأنه مُشْرَبٌ، وهذا اللون هو أعدل الألوان، وأحسنها. انتهى
(2)
.
(وَلَا بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ) قال القرطبيّ: يُرْوَى بفتح الطاء، وكسرها، وهو الشديد الجعودة الذي لا يطول إلا باليد، وهو حال شعور السودان، (وَلَا بِالسَّبِطِ)؛ أي: المسترسل الذي لا تَكَسّر فيه، وهو غالب شعور الروم،
(1)
القائل: هو الحافظ ابن حجر.
(2)
"المفهم" 6/ 139.
والرَّجِلُ هو الوسط بين ذينك. انتهى
(1)
.
ولفظ البخاريّ: "ليس بجعدٍ قَطَطٍ، ولا سَبِطِ"، قال في "الفتح": بفتح أوله، وكسر الموحّدة، والجعودة في الشعر: أن لا يتكسر، ولا يسترسل، والسبوطة ضدّه، فكأنه أراد أنه وسط بينهما.
ووقع في حديث عليّ عند الترمذيّ، وابن أبي خيثمة:"ولم يكن بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان جَعْدًا، رجِلًا"، وقوله:"رجل" بكسر الجيم، ومنهم من يسكّنها؛ أي: مُتَسَرِّح، وهو مرفوع على الاستئناف؛ أي: هو رَجِل، ووقع عند الأصيليّ بالخفض، وهو وَهَمٌ؛ لأنه يصير معطوفًا على المنفيّ، وقد وُجِّه على أن خفضه على المجاورة، وفي بعض الروايات بفتح اللام، وتشديد الجيم، على أنه فعل ماض. انتهى
(2)
.
(بَعَثَهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً)؛ أي: من مولده صلى الله عليه وسلم؛ أي: عند كمالها بعثه الله رسولًا، وهذا هو أكثر الأقوال، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه بُعِث على رأس ثلاث وأربعين سنة، وهو قول سعيد بن المسيِّب، قاله القرطبيّ
(3)
.
ولفظ البخاريّ: "أُنزل عليه، وهو ابن أربعين"، قال في "الفتح": وهذا إنما يتمّ على القول بأنه بُعِث في الشهر الذي وُلد فيه، والمشهور عند الجمهور أنه وُلد في شهر ربيع الأول، وأنه بُعث في شهر رمضان، فعلى هذا يكون له حين بُعث أربعون سنة ونصفٌ، أو تسع وثلاثون ونصفٌ، فمن قال: أربعين ألغى الكسر، أو جَبَر، لكن قال المسعوديّ وابن عبد البرّ: إنه بُعث في شهر ربيع الأول، فعلى هذا يكون له أربعون سنة سواءً، وقال بعضهم: بُعِث، وله أربعون سنةً وعشرة أيام، وعند الجعابيّ: أربعون سنة وعشرون يومًا، وعن الزبير بن بكار أنه وُلد في شهر رمضان، وهو شاذّ، فإن كان محفوظًا، وضُمَّ إلى المشهور أن المبعث في رمضان، فيصحّ أنه بُعث عند إكمال الأربعين
(1)
"المفهم" 6/ 139.
(2)
"الفتح" 8/ 208، كتاب "المناقب" رقم (3548).
(3)
"المفهم" 6/ 139.
أيضًا، وأبعدُ منه قول من قال: بُعث في رمضان، وهو ابن أربعين سنةً وشهرين، فإنه يقتضي أنه وُلد في شهر رجب، قال الحافظ: ولم أر من صرَّح به، ثم رأيته كذلك مصرَّحًا به في تاريخ أبي عبد الرحمن العتقيّ، وعزاه للحسين بن عليّ، وزاد: لسبع وعشرين من رجب، وهو شاذّ.
ومن الشاذّ أيضًا ما رواه الحاكم من طريق يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، قال: أُنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وأربعين، وهو قول الواقديّ، وتبعه البلاذريّ، وابن أبي عاصم، وفي تاريخ يعقوب بن سفيان وغيره، عن مكحول، أنه بُعث بعد ثنتين وأربعين. انتهى
(1)
.
(فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ)؛ يعني: بعد البعثة، وقبل الهجرة، وهذا مما اختُلِف فيه، فقيل: عشر، وقيل: ثلاث عشرة، وقيل: خمس عشرة، ولم يُختَلَف أنه أقام بالمدينة عشرًا
(2)
.
(وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ) ولا خلاف في هذا، كما مرّ آنفًا. (وَتَوَفَّاهُ اللهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً) هذا أحد قَوْلي أنس رضي الله عنه، وفي الرواية الأخرى عنه:"ثلاث وستين"، ووافقه على ذلك عبد الله بن عباس، ومعاوية، وعائشة رضي الله عنهم، وهو أصحُّ الأقوال، وأصحُّ الروايات، على ما ذكره البخاريّ، وقد ذُكر عن أنس: خمس وستين سنة، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس، ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم وُلد عام الفيل، قاله القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: ذَكَرَ في الباب ثلاث روايات:
إحداها: أنه صلى الله عليه وسلم تُوُفّيَ، وهو ابن ستين سنةً، والثانية: خمس وستون، والثالثة: ثلاث وستون، وهي أصحها، وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية عائشة، وأنس، وابن عباس رضي الله عنهم.
واتَّفَقَ العلماء على أن أصحها ثلاث وستون، وتأوّلوا الباقي عليه، فرواية ستين اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضًا، وحَصَل فيها اشتباه، وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله:"خمس وستون"،
(1)
"الفتح" 8/ 208، كتاب "المناقب" رقم (3548).
(2)
"المفهم" 6/ 139.
(3)
"المفهم" 6/ 139.
وَنَسبه إلى الغلط، وأنه لم يُدرِك أول النبوة، ولا كثرت صحبته، بخلاف الباقين. واتَّفَقُوا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين، وبمكة قبل النبوة أربعين سنة، وإنما الخلاف في قَدْر إقامته بمكة بعد النبوة، وقبل الهجرة، والصحيح أنها ثلاث عشرة، فيكون عمره ثلاثًا وستين، وهذا الذي ذكرناه أنه بُعث على رأس أربعين سنة، هو الصواب المشهور الذي أَطْبَقَ عليه العلماءُ، وحَكَى القاضي عياض عن ابن عباس، وسعيد بن المسيِّب روايةً شاذّةً أنه صلى الله عليه وسلم بُعث على رأس ثلاث وأربعين سنة، والصواب أربعون كما سبق، ووُلد عام الفيل على الصحيح المشهور، وقيل: بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل: بأربع سنين، وادَّعَى القاضي عياض الإجماع على عام الفيل، وليس كما ادَّعَى.
واتَّفَقُوا أنه وُلد يوم الاثنين، في شهر ربيع الأول، وتُوفي يوم الاثنين، من شهر ربيع الأول، واختلفوا في يوم الولادة، هل هو ثاني الشهر، أم ثامنه، أم عاشره، أم ثاني عشرة؟ ويوم الوفاة ثاني عشرة ضُحًى، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند قوله: "لَبِث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرًا" ما نصّه: هذا يخالف المرويّ عن عائشة عقبه أنه عاش ثلاثًا وستين إلا أن يُحْمَل على إلغاء الكسر، كما قيل مثله في حديث أنس رضي الله عنه، وأكثر ما قيل في عمره: إنه خمس وستون سنةً، أخرجه مسلم من طريق عَمّار بن أبي عمّار، عن ابن عباس، ومثله لأحمد عن يوسف بن مِهْران، عن ابن عباس، وهو مغاير لحديث الباب؛ لأن مقتضاه أن يكون عاش ستين إلا أن يُحْمَل على إلغاء الكسر، أو على قول من قال: إنه بُعث ابن ثلاث وأربعين، وهو مقتضى رواية عمرو بن دينار، عن ابن عباس: أنه مكث بمكة ثلاث عشرة، ومات ابن ثلاث وستين، وفي رواية هشام بن حسان، عن عكرمة، عن ابن عباس:"لبث بمكة ثلاث عشرة، وبُعث لأربعين، ومات وهو ابن ثلاث وستين"، وهذا موافق لقول الجمهور.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 99 - 100.
والحاصل: أن كل مَن رُوي عنه من الصحابة ما يخالف المشهور، وهو ثلاث وستون، جاء عنه المشهور، وهم ابن عباس، وعائشة، وأنس، ولم يُختلف على معاوية أنه عاش ثلاثًا وستين، وبه جزم سعيد بن المسيِّب، والشعبيّ، ومجاهد، وقال أحمد: هو الثبت عندنا، وقد جَمَع السهيليّ بين القولين المحكيين بوجه آخر، وهو أن من قال: مكث ثلاث عشرة عَدّ من أول ما جاءه الملك بالنبوة، ومن قال: مكث عشرًا أخذ ما بعد فترة الوحي، ومجيء الملَك بـ {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]، قال الحافظ: وهو مبنيّ على صحة خبر الشعبيّ الذي نقلته من تاريخ الإمام أحمد في بدء الوحي، ولكن وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد ما يخالفه.
ومن الشذوذ ما رواه عمر بن شَبّة أنه عاش إحدى، أو اثنتين وستين، ولم يبلغ ثلاثًا وستين، وكذا رواه ابن عساكر من وجه آخر، أنه عاش اثنتين وستين ونصفًا، وهذا يصح على قول من قال: وُلد في رمضان، وهو شاذّ من القول، وقد جَمَع بعضهم بين الروايات المشهورة بأن من قال: خمس وستون جَبَر الكسر، وفيه نظر؛ لأنه يخرج منه أربع وستون فقط، وقَلّ من تنبّه لذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تحصّل من مجموع ما ذُكر من الروايات أن أصحها أنه صلى الله عليه وسلم بُعث وهو ابن أربعين سنةً، فعاش بمكة ثلاث عشرة، وبالمدينة عشرًا، وتُوفّي وهو ابن ثلاث وستون سنةً، والله تعالى أعلم.
(وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ) قال القرطبيّ رحمه الله: قد قلنا: إن هذا منه تقديرٌ على جهة التقليل، وذكرنا أن شيبة صلى الله عليه وسلم كان أكثر من هذا. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء"؛ أي: بل دون ذلك، ولابن أبي خيثمة من طريق أبي بكر بن عياش: قلت لربيعة: جالستَ أنسًا؟ قال: نعم، وسمعته يقول: شاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين
(1)
"الفتح" 9/ 620، كتاب "المغازي" رقم (4464).
(2)
"المفهم" 6/ 139.
شيبةً ها هنا؛ يعني: العنفقة، ولإسحاق بن راهويه، وابن حبان، والبيهقيّ من حديث ابن عمر:"كان شيب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوًا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه"، وقد اقتضى حديث عبد الله بن بسر أن شيبة كان لا يزيد على عشر شعرات لإيراده بصيغة جمع القلة، لكن خَصّ ذلك بعنفقته، فيُحْمَل الزائد على ذلك في صدغيه، كما في حديث البراء، لكن وقع عند ابن سعد بإسناد صحيح عن حميد، عن أنس، في أثناء حديث، قال:"ولم يبلغ ما في لحيته من الشيب عشرين شعرة"، قال حميد: وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة، وقد روى ابن سعد أيضًا بإسناد صحيح، عن ثابت، عن أنس، قال:"ما كان في رأس النبيّ صلى الله عليه وسلم ولحيته إلا سبع عشرة، أو ثماني عشرة"، ولابن أبي خيثمة من حديث حميد، عن أنس:"لم يكن في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء"، قال حميد: كن سبع عشرة، وفي مسند عبد بن حميد، من طريق حماد، عن ثابت، عن أنس:"ما عددت في رأسه ولحيته إلا أربع عشرة شعرةً"، وعند ابن ماجه من وجه آخر، عن أنس:"إلا سبع عشرة، أو عشرين شعرةً"، وروى الحاكم في "المستدرك" من طريق عبد الله بن محمد بن عَقِيل، عن أنس، قال:"لو عددت ما أقبل عليّ من شيبة في رأسه ولحيته، ما كنت أزيدهنّ على إحدى عشرة شيبةً"، وفي حديث الهيثم بن دهر، عند ابن سعد:"ثلاثون عددًا"
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 6071 و 6072](2347)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3547 و 3548) و"اللباس"(5900)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3623) وفي "الشمائل"(1/ 28 و 325)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 919)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 90 و 224 و 413 و 432 و 2/ 308)، و (ابن
(1)
"الفتح" 8/ 208، كتاب "المناقب" رقم (3548).
حبّان) في "صحيحه"(6387)، و (الطبريّ) في "تاريخه"(2/ 291)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 205)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 319)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 438)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 201 و 229) وفي "الدلائل"(7/ 236) و"شُعَب الإيمان"(2/ 148)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3635)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان صفات النبيّ صلى الله عليه وسلم الْخَلْقَيّة -بالفتح- وأنه مُعتدل الخلق، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المشذّب، بل هو بينهما، وهو الأكمل الممدوح في قامة الإنسان.
2 -
(ومنها): بيان شعره صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالجعد القَطَط، ولا بالسَّبِط، بل بينهما، وهو الأكمل الممدوح في أنواع الشعور.
3 -
(ومنها): بيان وقت مبعثه صلى الله عليه وسلم، وهو أنه بُعث على رأس أربعين سنة من مولده، على أرجح الروايات.
4 -
(ومنها): بيان مدّة إقامته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، فقد عاش بمكة ثلاثًا وعشرين سنة على الصحيح، وبالمدينة عشر سنين بلا خلاف، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله: "بالمدينة عشر سنين"، فمُجْمَع عليه، لا خلاف بين العلماء فيه. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان وقت وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد تُوفّي وهو ابن ثلاث وستّين سنة على الصحيح، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6072]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ- (ح) وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، كِلَاهُمَا عَنْ رَبِيعَةَ -
(1)
"التمهيد" لابن عبد البر 3/ 9.
يَعْنِي: ابْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِهِمَا:"كَانَ أَزْهَرَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابري -بفتح الميم، والقاف، ثم موحّدة مكسورة- أبو زكريّاء البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرِ) بن إياس السَّعْديّ المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ورُبّما نُسِب إلى جدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود الخمسين ومائتين (م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
5 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) القَطَوَانيّ، أبو الهيثم البَجَليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يتشيع، وله أفراد، من كبار [10] (ت 213) وقيل: بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
6 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ رَبِيعَةَ)؛ يعني: أن كلًّا من إسماعيل بن جعفر، وسليمان بن بلال رويا هذا الحديث عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِهِمَا) هكذا النُّسخ التي بين أيدينا بإفراد فاعل "زاد"، وله وجه صحيح؛ أي: زاد الراوي عن كل من إسماعيل، وسليمان في
حديثهما قوله: "كان أزهر"، ولا حاجة إلى إصلاح بعض الشرّاح
(1)
بقوله: "وزادا" بالألف؛ لأن هذا تعدّ على المصنّف رحمه الله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كَانَ أَزْهَرَ)، وتقدّم بلفظ:"كان أزهر اللون"؛ أي: نَيِّره، وحَسَنه، قال ابن الأثير رحمه الله: الأزهر: الأبيض المستنير، والزَّهْر، والزَّهْرة البياض النيِّر، وهو أحسن الألوان. انتهى
(2)
.
وقال الطبريّ في "تهذيبه": الزهراء: البيضاء النقية البياض في حُسن، يقال منه: هذه امرأة زهراء، وهذا رجل أزهر، وذلك إذا كان الغالب على ألوانهما البياض في حُسن، وبَهاء، ومنه قيل للسراج إذا كان يضيء: هو يزهر، قال: وأرى أن النجم الذي يسمى الزُّهْرة سُمّي زهرة؛ لإضاءته، وصفاء نوره. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: رواية إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، بسند المصنّف، فقال:
(3643)
- حدّثنا يحيى بن أيوب، حدّثنا إسماعيل، قال: وأخبرني ربيعة، أنه سمع أنس بن مالك يقول:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رَجِلَ الشعر، ليس بالسَّبِط، ولا الجعد القَطِطِ، كان أزهر، ليس بالآدم، ولا الأبيض الأمهق، كان رَبْعَةً من القوم، ليس بالقصير، ولا بالطويل البائن، بُعِث على رأس أربعين، أقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرًا، وتُوُفّي على رأس ستين، ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاءَ". انتهى
(4)
.
ورواية سليمان بن بلال ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(13543)
- حدثنا أبو سلمة الْخُزَاعيّ، أنبأنا سليمان بن بلال، قال: حدّثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن، أنه سمع أنس بن مالك، ينعت النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
هو: الشيخ الهرريّ، ومن الغريب قوله: إن قوله: "وزاد" وقع في أغلب النسخ؛ إيهامًا بأن هناك نُسخًا بلفظ: "وزادا"، وهكذا يفعل في كثير من مواضع الكتاب، فينبغي التنبّه له.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 321.
(3)
"تهذيب الآثار" 2/ 865 - 866.
(4)
"مسند أبي يعلى" 6/ 319 - 320.
بما شاء أن ينعته، قال: ثم سمعت أنسًا يقول: "وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم رَبْعَةً من القوم، ليس بالقصير، ولا بالطويل البائن، أزهر، ليس بالآدم، ولا بالأبيض، ولا الأمهق، رَجِلَ الشعر، ليس بالسَّبِط، ولا الْجَعْد القَطِطِ، بُعِث على رأس أربعين، أقام بمكة عشرًا، وبالمدينة عشرًا، وتُوُفّي على رأس ستين سنةً، ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاءَ". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(32) - (بَابُ كَمْ سِنُّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ قُبِضَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6073]
(2348) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الرَّازِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ زَائِدَةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الرَّازِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو) بن بكر زُنَيج -بزاي، ونون، وجيم، مصغرًا- ثقةٌ [10] مات في آخر سنة أربعين ومائتين، أو أول التي بعدها (م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 58.
2 -
(حَكَّامُ بْنُ سَلْمٍ) أبو عبد الرحمن الكنانيّ -بنونين- الرازيّ، ثقةٌ له غرائب [8].
رَوَى عن عنبسة بن سعيد، وعمرو بن أبي قيس، وسعيد بن سابق، وغيرهم من أهل الريّ، وعن حميد الطويل، وعلي بن عبد الأعلى، وعثمان بن زائدة، والثوريّ، وجماعة.
وروى عنه عليّ بن بحر بن بريّ، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وأبو كريب، ويحيى بن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزُنيج، وغيرهم.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 240.
قال الأثرم عن أحمد: كان حسن الهيئة، قَدِم علينا، وكان يحدّث عن عنبسة أحاديث غرائب، وقال ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال ابن سعد، وأبو حاتم، ويعقوب بن شيبة، ويعقوب بن سفيان، والعجليّ، زاد ابن سعد: إن شاء الله. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: رَوَى عن الأعمش، وقال الدارقطنيّ: لا بأس به، وقال إسحاق بن راهويه في "تفسيره": ثنا حكام بن سَلْم، وكان ثقةً، وقال نصر بن عبد الرحمن الوَشّاء: كتبنا عنه سنة تسعين ومائة، ومات بمكة قبل أن يحج.
روى له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ زَائِدَةَ) المقرئ، أبو محمد الكوفيّ العابد، نزيل الريّ، ثقةٌ زاهدٌ [9].
رَوَى عن رَقَبة بن مَصْقَلة، والزبير بن عديّ، وعمارة بن القعقاع، والعلاء بن المسيب، وعطاء بن السائب، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم.
وروى عنه حَكّام بن سَلْم الرازيّ، وعبد الله بن سعد الدَّشْتَكِيّ، وإسحاق بن سليمان، وعبد الصمد بن عبد العزيز، وأبو الوليد الطيالسيّ، وآخرون.
قال ابن عيينة: ما جاءنا من العراق أفضل منه، وقال أبو الوليد الطيالسيّ: ما رأت عيناي مثله، وكذا قال إدريس أبو أحمد الروذيّ صاحب الثوريّ، وقال هشام بن عبيد الله: كنا لا نقدِّم عليه في بلادنا في الورع أحدًا، وقال العجليّ: ثقةٌ رجلٌ صالحٌ، وقال أبو حاتم: من أفاضل المسلمين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان من العبّاد المتقشفين، وأهل الورع الدقيق، والجهد الجهيد، وقال البخاريّ في "التاريخ": أثنى عليه أبو الوليد خيرًا.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ) الْهَمْدانيّ الياميّ -بالتحتانية- أبو عديّ الكوفيّ، وَليَ قضاء الريّ، ثقةٌ [5](ت 131)(ع) تقدم في "الإيمان" 82/ 438.
و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قُبِضَ) بالبناء للمفعول؛ أي: تُوُفّي (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) سنةً، والجملة حاليّة من "رسول الله صلى الله عليه وسلم"، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم قُبِض، وعمره ثلاث وستّون سنة، وكان ذلك -كما قال النوويّ- ضُحَى يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولا خلاف بين أهل السِّير في ذلك، إلا في تعيين اليوم من الشهر، فالجمهور على أنه في يوم الثاني عشر، وقال موسى بن عقبة، والليث بن سعد: مُسْتَهَلَّ الشهر، وقال سليمان التيميّ: ثانية، قال العراقىّ: والقول الأول، وإن كان قول الجمهور، فقد استشكله السهيليّ من حيث التاريخ، وذلك لأن يوم عرفة في حجة الوداع كان يوم الجمعة بالإِجماع؛ لحديث عمر المتفق عليه، وحينئذ فلا يمكن أن يكون ثاني عشر ربيع الأول من السنة التي تليها يوم الاثنين، لا على تقدير كمال الشهور، ولا نقصها، ولا كمال بعض، ونقص بعض؛ لأن ذا الحجة أوله الخميس، فإن نقص هو والمحرم وصفر كان ثاني عشر ربيع الأول يوم الخميس، وإن كملت الثلاثة فثاني عشره الأحد، وإن نقص بعضٌ وكمل بعض فثاني عشره الجمعة، أو السبت، قال: وقد رأيت بعض أهل العلم يجيب، بأن تُفرض الشهور الثلاثة كوامل، ويكون قولهم لاثنتي عشرة ليلة خلت منه؛ أي: بأيامها كاملة، فيكون وفاته بعد استكمال ذلك، والدخول في الثالث عشر، قال: وفيه نَظَر من حيث إن الذي يظهر من كلام أهل السِّيَر نقصان الثلاثة، أو اثنين منهما، بدليل ما رواه البيهقيّ بسند صحيح إلى سليمان التيميّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرِض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وكان أولُ يومٍ مَرِض فيه يومَ السبت، وكانت وفاته اليوم العاشر يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع، وهذا يدلّ على أن أول صفر السبت، فلزم نقصان ذي الحجة والمحرم، وقوله: كانت وفاته صلى الله عليه وسلم؛ أي: من مرضه، فيدلّ على نقصان صَفَر أيضًا.
وروى الواقديّ عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لإِحدى عشرة بقيت من صفر. . . إلى أن قال: اشتكى ثلاثة عشرة يومًا، وتوفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع، فهذا يدلّ
على نقص الشهر أيضًا، إلا أنه جعل مدة مرضه أكثر مما في حديث التيميّ، ويُجْمَع بينهما بأن المراد بهذا ابتداء مرضه، وبالأول اشتداده، والواقديّ وإن ضُعِّف في الحديث، فهو من أئمة السِّير، وأبو معشر نَجِيح مختلَفٌ فيه.
ورَوَى الخطيب في الرواة عن مالك، من رواية سعيد بن مسلمة بن قتيبة الباهليّ: ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لَمّا قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرِض ثمانيةً، فتُوُفّي لليلتين خلتا من ربيع الأول. . . الحديث، فاتَّضح أن قول التيميّ، ومن وافقه راجح، من حيث التاريخ.
وقول النوويّ كابن الصلاح: ضُحى، يُشكل عليه ما في "صحيح مسلم" من رواية أنس: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث، وفيه: فتوفي من آخر ذلك اليوم، وهذا يدل على أنه تأخر بعد الضحى، ويُجْمَع بينهما بأن المراد أول النصف الثاني، فهو آخر وقت الضحى، وهو آخر النهار باعتبار أنه من النصف الثاني، ويدلّ عليه ما رواه ابن عبد البرّ بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتفاع الضحى، وانتصاف النهار يوم الاثنين، وذكر موسى بن عقبة في "مغازيه" عن ابن شهاب: تُوُفّي يوم الاثنين حين زالت الشمس، ذكر ذلك كلّه السيوطيّ رحمه الله في "التدريب"
(1)
.
(وَأَبُو بَكْرٍ) عَطْف على "رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: وقُبض أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) سنة أيضًا، توفي رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، يوم الاثنين، وقيل: ليلة الثلاثاء، بين المغرب والعشاء لثمان، وقيل: لثلاث بقين، وقيل: في جمادى الآخرة ليلة الاثنين لسبع عشرة مضت منه، وقيل: يوم الجمعة لسبع ليال بقين، وقيل: لثمان بقين منه، والصحيح الذي جزم به الأئمة، وصححه الحفاظ، وثبت بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنها وغيرها عشيةَ ليلة يوم الثلاثاء، لثمان بقين من جمادى الآخرة
(2)
.
(وَعُمَرُ) معطوف أيضًا على "رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: وقُبض عمر بن
(1)
"تدريب الراوي في شرح تقريب النواويّ" 2/ 351 - 353.
(2)
"تدريب الراوي في شرح تقريب النواويّ" 2/ 355.
الخطّاب رضي الله عنه (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) سنةً أيضًا في ذي الحجة آخر يوم منه، يوم الجمعة سنة ثلاث وعشرين، ودُفِن يوم السبت، مُسْتَهَلّ المُحَرَّم.
[تنبيه]: ما ذُكر في حديث أنس رضي الله عنه هذا من كون عمر كل من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما ثلاثًا وستّين هو الصحيح الذي قاله الجمهور من الصحابة والتابعين، فمَنْ بعدهم، وصحَّحه ابن عبد البرّ، والجمهور، وقيل: سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: ستون، رُوي عن أنس، وفاطمة البتول، وعروة بن الزبير، ومالك، وقيل: خمس وستون، رُوي عن ابن عباس، وأنس أيضًا، ودغفل بن طلحة، وقيل: اثنتان وستون، قاله قتادة، وحُكِي الآخران أيضًا في أبي بكر رضي الله عنه، وحُكِي الأول في عمر رضي الله عنه، وقيل: عاش عمر ستًّا وستين، وقيل: إحدى وستين، وقيل: تسعًا وخمسين، وقيل: سبعًا وخمسين، وقيل: ستًّا وخمسين، وقيل: خمسًا وخمسين.
وقد أشار السيوطيّ رحمه الله إلى القول الصحيح في وفاته صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومدّة عمرهم في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
مَاتَ بِإِحْدَى عَشْرَةَ النَّبِي وَفِي
…
إِحْدَى وَعِشْرِينَ أَبُو بَكْرٍ قُفِي
وَبَعْدَ عَشْرٍ عُمَرٌ وَالأُمَوِي
(1)
…
آخِرَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ عَلِي
فِي الأَرْبَعِينَ وَهْوَ وَالثَّلَاثُ
…
سِتِّينَ عَاشُوا بَعْدَهَا ثَلَاثُ
[تنبيه آخر]: قُتِل عثمان بن عفّان رضي الله عنه في ذي الحجة يوم الجمعة ثاني عشرة، وقيل: ثامنه، وقيل: ثامن عشريه، وقيل: ثاني عشره، وقيل: ثالث عشرة سنة خمس وثلاثين، وقيل: أوّل سنة ست وثلاثين، وفي "تاريخ البخاريّ": سنة أربع وثلاثين، قال ابن ناصر: وهو خطأ من راويه، وهو ابن اثنتين وثمانين، قاله أبو اليقظان، وادَّعَى الواقدي الاتفاق عليه، وقيل: ابن تسعين، وقال ابن إسحاق: ابن ثمانين، وقال قتادة: ست وثمانين، وقيل: ثمان وثمانين.
وقُتِل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في شهر رمضان ليلة الحادي والعشرين منه، وقيل: يوم الجمعة، وقيل: ليلتها سابع عشره، وقيل: حادي عشره، وقيل
(1)
يعني: عثمان بن عفّان رضي الله عنه؛ لأنه من بني أميّة.
غير ذلك، سنة أربعين، وقال ابن زبر: سنة تسع وثلاثين، وهو وَهَمٌ لم يتابَع عليه، وهو ابن ثلاث وستين، وقيل: أربع وستين، وقيل: خمس وستين، وقيل: اثنتينِ وستين، وقيل: ثمان وخمسين، وقيل: سبع وخمسين، ذكر هذا كلّه في "التدريب"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا مما انفرد به المصنّف، فلم أر أحدًا أخرجه غيره، أخرجه هنا [32/ 6073](2348)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6074]
(2349) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) بن سعد الْفَهْميّ مولاهم المصريّ، أبو عبد الله، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوه) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نَبِيلٌ، فقيهٌ، من كبار [10](ت 199) وله أربع وستون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جدّه) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) -بضمّ العين المهملة- ابن خالد بن عَقِيل -بفتح العين- الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
(1)
"تدريب الراوي في شرح تقريب النواويّ" 2/ 355 - 356.
5 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام الفقيه المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا، وشَرْح الحديث يُعلم مما سبق.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ. . . إلخ)؛ أي: بالسند السابق، فهو موصول، فتنبّه.
وقوله: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ)؛ أي: حدّثني عن عائشة رضي الله عنها بمثل ما حدثني عروة عنها.
والحاصل: أن رواية ابن المسيّب موصولة، وليست مرسلة، فقد أخرجه الإسماعيليّ من طريق يونس، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن عائشة رضي الله عنها، نبّه على ذلك في "الفتح"
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 6074 و 6075](2349)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3536) و"المغازي"(4466)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3654) وفي "الشمائل"(380)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 93)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6075]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، مِثْلَ حَدِيثِ عُقَيْلٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) إبراهيم بن عثمان العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ، وله أوهام [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنةً (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 35/ 246.
(1)
"الفتح" 9/ 621، كتاب "المغازيّ" رقم (4466).
2 -
(عَبَّادُ بْنُ مُوسَى) الختلي -بضم المعجمة وتشديد المثناة المفتوحة- أبو محمد، نزيل بغداد، ثقةٌ من العاشرة، مات سنة ثلاثين على الصحيح (خ م د س) تقدم في "اللباس والزينة" 14/ 4576.
3 -
(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن النعمان بن أبي عيّاش الزُّرَقيّ الأنصاريّ المدنيّ، نزيل بغداد، صدوق يَهِمُ [7](خ م د س ق) تقدم في "اللباس والزينة" 14/ 5476.
[تنبيه]: كون طلحة بن يحيى هنا هو ابنَ أبي عيّاش هو الصواب، وأما ما قاله بعض الشرّاح
(1)
من أنه طلحة بن يحيى بن عبيد الله، فغلط؛ لأن هذا السند نفسَه تقدّم للمصنّف في "كتاب اللباس" برقم [14/ 5476](2094) وقد صرّح فيه بأنه ابن النعمان بن أبي عيّاش، ودونك نصّه:
(2094)
- وحدّثنا عثمان بن أبي شيبة، وعبّاد بن موسى، قالا: حدّثنا طلحة بن يحيى، وهو الأنصاريّ، ثم الزُّرَقيّ، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لَبِس خاتم فضة في يمينه، فيه فَصّ حبشيّ، كان يجعل فصّه مما يلي كفّه". انتهى.
فليُتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
4 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قريبًا.
و"ابن شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد عن ابن شهاب ساقها ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"، فقال:
وحدّثنا خلف بن قاسم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن عمر أبو الميمون بدمشق، قال: حدّثنا أبو زرعة، قال: حدّثنا أحمد بن صالح، قال: حدّثنا عنبسة بن خالد، قال: حدّثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، قالت: تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وستين. انتهى، والله تعالى أعلم.
(1)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع:"شرحه" 23/ 210.
(33) - (بَابُ كَمْ أَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6076]
(2350) - (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: كَمْ كَانَ النَّبِيُّ
(1)
صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ؟ قَالَ: عَشْرًا، قَالَ: قُلْتُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو مَعْمَرِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيُّ) هو: إسماعيل بن إبراهيم بن معمر بن الحسن الهلاليّ القَطِيعيّ، أصله هَرَويّ، ثقةٌ مأمونٌ [10](ت 236)(خ م س) تقدم في "الرضاع" 1/ 3569.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
و"عروة" بن الزبير ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كلاحقه، وهو (492) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (كَمْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ؟ قَالَ: عَشْرًا) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا وقع لبعض الرواة، ومعناه: كم مدَّة كونه وإقامته بها؟ أي: بعد المبعث، وقد رُوي: لبثَ، بمعناه. انتهى
(2)
، وتمام شرح الحديث يأتي بعده -إن شاء الله تعالى-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6077]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: كَمْ لَبِثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ؟ قَالَ: عَشْرًا، قُلْتُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: بِضْعَ عَشْرَةَ، قَالَ: فَغَفَّرَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ).
(1)
وفي نسخة: "كم لبث النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ ".
(2)
"المفهم" 6/ 140 - 141.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ صنف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، وهو (493) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو) بن دينار أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ) بن الزبير (كَمْ لَبِثَ) بكسر الباء، من باب تعب؛ أي: أقام (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ؟ قَالَ) عروة (عَشْرًا)؛ أي: لبث عشر سنين.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله عروة من أنه صلى الله عليه وسلم لَبِث بمكة عشر سنين، قد جاء عن عائشة، وابن عبّاس رضي الله عنهم مثله، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، من طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَبِث بمكة عشر سنين، ينزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرًا". انتهى.
قال في "الفتح" في شرح هذا الحديث: وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنةً؛ إذا انضمّ إلى المشهور أنه بُعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر، فإن كل من رُوي عنه أنه عاش ستين، أو أكثر من ثلاث وستين، جاء عنه أنه عاش ثلاثًا وستين، فالمعتمد أنه عاش ثلاثًا وستين، وما يخالف ذلك إما أن يُحْمَل على إلغاء الكسر في السنين، وإما على جبر الكسر في الشهور، وأما حديث الباب فيمكن أن يُجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر، وهو أنه بُعث على رأس الأربعين، فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر، إلى أن نزل عليه الملَك في شهر رمضان، من غير فترة، ثم فَتَر الوحي، ثم تواتر، وتتابع، فكانت مدّة تواتره وتَتابعه بمكة عشر سنين، من غير فترة، أو أنه على
رأس الأربعين قُرِن به ميكائيل، أو إسرافيل، فكان يُلقي إليه الكلمة، أو الشيء مدة ثلاث سنين، كما جاء من وجه مرسل، ثم قُرِن به جبريل، فكان ينزل عليه بالقرآن مدة عشر سنين بمكة. انتهى
(1)
.
قَالَ عمرو بن دينار: (قُلْتُ: فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: بِضْعَ عَشْرَةَ) بيّنت الرواية السابقة، واللاحقة أن المراد بالبضع ثَلَاثَ عَشْرَةَ؛ يعني: أنه لبث صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثة عشرة سنة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنَّ ابن عباس يقول: بضع عشرة" قد تقدَّم أن الأشهر في البضع أنه من الثلاث إلى التسع، فيصلح البضع هنا لقول ابن عباس الثلاث عشرة، والخمس عشرة، فأنكر عروة ذلك. انتهى.
(قَالَ) عمرو (فَغَفَّرَهُ)؛ أي: دعا عروة لابن عبّاس رضي الله عنهما بالمغفرة، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "فَغَفّره" بالغين، والفاء، وكذا نقله القاضي عن رواية الْجُلوديّ؛ ومعناه: دعا له بالمغفرة، فقال: غفر الله له، وهذه اللفظة يقولونها غالبًا لمن غَلِطَ في شيء، فكأنه قال: أخطأ، غفر الله له، قال القاضي: وفي رواية ابن ماهان: "فَصَغَّره" بصاد مهملة، ثم غين معجمة؛ أي: استصغره عن معرفته هذا، وإدراكه ذلك، وضَبْطه، وإنما أسند فيه إلى قول الشاعر، وليس معه عِلم بذلك، ويرجح القاضي هذا القول. انتهى.
وقال القرطبيّ: قوله: "فغَفَّرَ" من المغفرة، وهي رواية الجلوديّ؛ أي: قال: غفر الله له، وفي رواية ابن ماهان: فصغَّره من الصِّغَر؛ أي: أشار إلى أن ابن عباس كان صغيرًا في ذلك الوقت، فلم يضبطه؛ لِصِغَره، وقيل: إنه وُلد في الشِّعْب قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا هو المناسب لقول عروة. انتهى
(2)
.
(وَقَالَ) عروة (إِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ)؛ أي: إنما أخذ قوله: "بضع عشرة" من قول الشاعر، وهو أبو قيس صِرْمة بن أبي أنس، حيث يقول [من الطويل]:
(1)
"الفتح" 11/ 154 - 155، كتاب "فضائل القرآن" رقم (4978).
(2)
"المفهم" 6/ 142.
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضع عَشْرَةَ حِجَّةً
…
يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى خَلِيلًا مُوَاتِيَا
(1)
وقد وقع هذا البيت في بعض نُسخ "صحيح مسلم"، وليس هو في عامتها، قال النوويّ: وأبو قيس هذا هو صِرْمة بن أبي أنس بن مالك بن عبديّ بن عامر بن غَنْم بن عبديّ بن النجار الأنصاريّ، هكذا نسبه ابن إسحاق، قال: كان قد ترَهَّب في الجاهلية، ولَبِس المُسوح، وفارق الأوثان، واغتَسَلَ من الجنابة، واتَّخَذ بيتًا له مسجدًا، لا يدخل عليه حائض، ولا جنب، وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قَدِمَ النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم، فحَسُن إسلامه، وهو شيخ كبير، وكان قوّالًا بالحقّ، وكان معظِّمًا لله تعالى في الجاهلية، يقول الشعر في تعظيمه سبحانه وتعالى. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 6076 و 6077 و 6078 و 6079](2350 و 2351)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3851 و 3902 و 3903) و"المغازي"(4465) و"فضائل القرآن"(4979)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3621 و 3622 و 3652) وفي "الشمائل"(378)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 328)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 228 و 236 و 249 و 370 و 371)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 135) و"الكبير"(11/ 110)، والله تعالى أعلم.
(1)
قوله: "ثوى" بالثاء المثلّثة من الثواء، وهو الإقامة، يقال: ثوى بالمكان: إذا أقام به، ويقال: الثواء: طول المُكث، وقوله:"حِجّة" بكسر الحاء؛ أي: سنةً، وقوله:"يُذكّر" بتشديد الكاف؛ أي: يعظ الناس، ويدعوهم إلى الله تعالى، وقوله:"خليلًا"، ويُروى:"صَدِيقًا"، وقوله:"مواتيًا"؛ أي: موافقًا متابعًا له، من المواتاة، وهي الموافقة، والانقياد للأمر، والله تعالى أعلم.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 100 - 103.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6078]
(2351) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَتُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) الحمّال، أبو موسى البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حَسّان الْقَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
4 -
(زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ) المكيّ، ثقةٌ رُمِيَ بالقدر [6](ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 130.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (مَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ) قال في "الفتح": هذا أصحّ مما أخرجه أحمد عن يحيى بن سعيد، عن هشام بن حَسّان، عن عكرمة، عن ابن عبّاس قال:"أُنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرًا"، وأصحّ مما أخرجه مسلم من وجه آخر عن ابن عباس:"أن إقامة النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة كانت خمس عشرة سنةً". انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أؤلَ الكتاب قال:
[6079]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَثنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيّ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، يُوحَى إِلَيْه، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَمَاتَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً).
(1)
"الفتح" 8/ 671.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(بشْرُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو عمرو الأفوه البصريّ، سكن مكة، وكان واعظًا، ثقةٌ متقنٌ طُعِن فيه برأي جهم، ثم اعتَذَر، وتاب [9](ت 5 أو 196) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(حَمَّادُ) بن سلمة بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأَخَرَةٍ، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ) هو: نصر بن عمران بن عِصَام الصبعيّ البصريّ، نزيل خراسان، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
[تنبيه]: قوله: (الضُّبَعِيُّ) -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها عين مهملة-: نسبة إلى ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، نزلوا البصرة، قاله في "اللباب"
(1)
.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَة
…
إلخ) هذا هو الموافق لِمَا عليه الجمهور، وهو أصحّ مما يأتي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما من رواية عمّار مولى بني هاشم، عنه أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6080]
(2352) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَّامٌ أَبُو الأَحْوَص، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، فَذَكَرُوا سِنِي
(2)
رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَكْبَرَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَبْدُ اللهِ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 260.
(2)
وفي نسخة: "سنّ" في الموضعين.
وَسِتِّينَ، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم، يُقَالُ لَهُ: عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عِنْدَ مُعَاوِيةَ، فَذَكَرُوا سِنِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ مُعَاوِيةُ: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ الْجُعْفِيُّ) هو: عبد الله بن عُمر بن محمد بن أبان بن صالح بن عُمير الأمويّ مولاهم، ويقال له: الجعفيّ نسبة إلى خالة حسين بن عليّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مُشْكُدانة -بضم الميم، والكاف، بينهما معجمة ساكنة، وبعد الألف نون- وهو وعاء المسك بالفارسية، صدوقٌ فيه تشيعٌ [10](ت 239)(م د س) تقدم في "الاستسقاء" 5/ 2088.
2 -
(سَلَّامٌ أَبُو الأَحْوَصِ) ابن سُلَيم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عبيد، الْهَمْدانيّ السبيعيّ -بفتح المهملة، وكسر الموحّدة- ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، اختَلَطَ بأَخَرَة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
4 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) الْبَجَليّ، مقبول [3].
رَوَى عن أبي مسعود الأنصاريّ، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وجرير بن عبد الله البجَليّ، وقَرَظة بن كعب، وجابر بن سَمُرة، وغيرهم.
وروى عنه أبو إسحاق السبيعيّ، والْعَيزار بن حُريث، وابراهيم بن عامر الْجُمَحيّ.
ذكره ابن حبان في "الثقات".
روى له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
5 -
(جَرِيرُ) بن عبد الله بن جابر البَجَليّ الصحابي المشهور، مات رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.
6 -
(مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأمويّ، أبو
عبد الرحمن الخليفة الصحابي المشهور، أسلم قبل الفتح، وكَتَب الوحي، ومات رضي الله عنه في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعي عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ، أنه (قَالَ) أبو إسحاق (كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذليّ، ابن أخي عبد الله بن مسعود، وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووثقه العجليّ، وجماعة، من كبار الطبقة الثانية، مات بعد السبعين، تقدّمت ترجمته في "الطلاق" 8/ 3721. (فَذَكَرُوا سِنِي) جمع سَنَةٍ؛ أي: مقدار عمره صلى الله عليه وسلم، وفي بعض النسخ:"سِنّ" بتشديد النون، وهو مضاف إلى (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ) الحاضرين عند عبد الله بن عتبة (كَانَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (أَكْبَرَ) سنًّا (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عَبْدُ اللهِ) ردًّا على هذا القول، وأن الصواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر رضي الله عنه، فذكر حجته على ذلك بقوله:(قُبِضَ) بالبناء للمفعول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَقُتِلَ) بالبناء للمفعول، (عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) حاصل ما أشار إليه عبد الله بن عتبة أنه صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر رضي الله عنه؛ لأن أعمار الثلاثة متساوية، وهو ثلاث وستّون سنةٌ، فإذا كانت متساويةً، وقد مات صلى الله عليه وسلم قبل أبي بكر بمدّة، تبيّن أنه صلى الله عليه وسلم أكبر من أبي بكر رضي الله عنه دون شكّ، ولا ريب.
(قَالَ) أبو إسحاق (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْم، يُقَالُ لَهُ: عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) البجليّ، تقدّمت ترجمته آنفًا. (حَدَّثَنَا جَرِيرٌ)؛ أَي: ابن عبد الله البجليّ رضي الله عنه (قَالَ) جرير (كُنَّا قُعُودًا) بالضمّ: جمع قاعد، (عِنْدَ مُعَاوِيَةَ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (فَذَكَرُوا)؛ أي: القوم الحاضرون عنده (سِنِي) جمع سنة، كما تقدّم؛ أي: مقدار مدّة عمره صلى الله عليه وسلم وفي بعض النسخ: "سِنّ" بتشديد النون، وهو أيضًا مضاف إلى (رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ مُعَاوِيةُ) رضي الله عنه (قُبِضَ) بالبناء للمفعول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتَينَ، وَقُتِلَ عُمَرُ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) فاتّفق قول معاوية رضي الله عنه مع قول عبد الله بن عتبة رحمه الله، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في مقدار عمرهم، كما أسلفت تحقيقه قريبًا، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 6580 و 6581](2352)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3653) وفي "الشمائل"(379)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7115)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 96 و 97 و 100)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(421)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 174)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 68)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6081]
(. . .) - (وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يُحَدِّثُ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيّ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ، وهو صحيح، وتقديره: وأبو بكر وعمر كذلك، ثم استأنف، فقال: وأنا ابن ثلاث وستين؛ أي: وأنا متوقِّع موافقتهم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول معاوية رضي الله عنه: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأبو بكر وعمر" رضي الله عنهما هما معطوفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يُرفعا بالابتداء، وخبرهما محذوف؛ أي: وهما كذلك.
وقوله: "وأنا ابن ثلاث وستين" الواو للحال، فَيَحْتَمِل أن يريد أنه كان وقت تُوُفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وستين، ويَحْتَمِل أن يكون كذلك وقت حَدَّثَ بهذا الحديث، والحاصل: أنه وصل إلى ثلاث وستين سنة، وقد قيل في هذا: إن معاوية رضي الله عنه استَشْعَر أنه يوافقهم في السنّ، فيموت، وهو ابن ثلاث وستين سنةً، وليس بصحيح عند أحد من علماء التاريخ، فإنَّ أقل ما قيل في عمره يوم تُوُفّي أنه كان ثمانيًا وسبعين سنة، وأكثر ما قيل فيه: ست وثمانون، وقيل: اثنان وثمانون سنة، وكانت وفاته بدمشق، وبها دُفن سنة ستين في النصف من رجبها، قال ابن إسحاق: كان معاوية رضي الله عنه أميرًا عشرين سنةً، وكان خليفةً عشرين سنةً، وقال غيره: كانت خلافته تسع عشرة سنة وستة أشهر وثمانية وعشرين يومًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6082]
(2353) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ: كَمْ أَتَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ مِثْلَكَ مِنْ قَوْمِهِ
(2)
يَخْفَى عَلَيْهِ ذَاكَ، قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ قَوْلَكَ فِيه، قَالَ: أَتَحْسُبُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمْسِكْ أَرْبَعِينَ بُعِثَ لَهَا، خَمْسَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ، يَأْمَنُ، وَيَخَافُ، وَعَشْرَ
(3)
مِنْ مُهَاجَرِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) هو: محمد بن المنهال التميميّ، أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ) -بتقديم الزاي، مصغَّرًا- أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [3](ت 182)(ع) تَقدم في "الإيمان" 7/ 132.
(1)
"المفهم" 6/ 144.
(2)
وفي نسخة: "من قومك".
(3)
وفي نسخة: "وعشرًا".
3 -
(يُونُسُ بْنُ عُبَيْدِ) بن دينار العَبْديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
4 -
(عَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ) هو: عَمّار بن أبي عَمّار، مولى بني هاشم، ويقال: مولى بني الحارث بن نوفل، أبو عَمْرو، ويقال: أبو عُمَر، ويقال: أبو عبد الله المكيّ، صدوقٌ، ربما أخطأ [3].
رَوَى عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأبي قتادة، وعبد الله بن نوفل بن الحارث، وجابر بن عبد الله، وغيرهم.
وروى عنه عطاء بن أبي رباح، ونافع، وهما من أقرانه، وعلي بن زيد بن جُدْعان، وشعبة، حديثًا واحدًا، ومعمر، ويونس بن عبيد، وخالد الحذاء، وغيرهم.
قال أحمد، وأبو داود: ثقةٌ، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ لا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله الْقَسْريّ على العراق، وكان يخطئ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال البخاريّ في "الأوسط" بعد أن ساق حديثه عن ابن عباس في سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا يتابَع عليه، قال: وكان شعبة يتكلم فيه، وقال أبو داود: قلت لأحمد: روى شعبة عنه حديث الحيض؟، قال: لم يسمع غيره، قلت: تركه عمدًا؟ قال: لا، لم يسمع، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ.
روى له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، كرره ثلاث مرات.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، ذُكر قبل حديثين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمَّارِ) بن أبي عمّار (مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ) المكيّ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاس) رضي الله عنهما (كَمْ أَتَى لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من العمر (يَوْمَ مَاتَ؟ فَقَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (مَا كنْتُ أَحْسِبُ)؛ أي: أظنّ، وهو بفتح السين المهملة، وتُكسر في لغة، يقال: حَسِبْتُ زيدًا قائمًا أَحْسَبُهُ، من باب تَعِبَ، في لغة جميع العرب، إلا بني كِنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا، على غير قياس،
حِسْبَانًا بالكسر؛ بمعنى: ظننتُ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(مِثْلَكَ) بالنصب مفعول أول لـ "حسبتُ"؛ لأنه من أفعال القلوب التي تنصب المبتدأ والخبر، وقد سردها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، حيث قال:
انْصِبْ بِفِعْلِ الْقَلْبِ جُزْأَيِ ابْتِدَا
…
أَعْنِي رَأَى خَالَ عَلِمْتُ وَجَدَا
ظَنَّ حَسِبْتُ وَزَعَمْتُ مَعَ عَدّْ
…
حَجَا دَرَى وَجَعَلَ اللَّذْ كَاعْتَقَدْ
وَهَبْ تَعَلَّمْ وَالَّتِي كَصَيَّرَا
…
أَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًا وَخَبَرَا
وقوله: (مِنْ قَوْمِهِ) متعلّق بصفة لـ "مثلك"، وفي بعض النسخ:"من قومك"، والمراد بقومه بنو هاشم؛ لأنه من مواليهم، ومولى القوم منهم، وقوله:(يَخْفَى عَلَيْهِ ذَاكَ)؛ أي: مقدار عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم مات؛ لأنه من الأمور المشهورة بين بني هاشم، فكيف خفي عليك؟، وقوله:"يخفى" بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِب، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لـ "حسبت". (قَالَ) عمّار (قُلْتُ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ النَّاسَ) عن هذه المسألة، ولم يذكر أسماء من سألهم، (فَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ قَوْلَكَ فِيهِ)؛ أي: لأنك ممن له عناية في تحقيق العلم، ولا سيّما مثل هذه المسألة. (قَالَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما (أَتَحْسُبُ؟) بضمّ السين، حَسَبْتُ المالَ أحسُبُه بفتح السين في الماضي، وضمّها في المضارع، من باب قَتَلَ حَسْبًا، وحِسْبَة، بالكسر، وحُسْبَانًا، بالضمّ: بمعنى أحصيته عددًا، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(2)
. (قَالَ) عمّار (قُلْتُ: نَعَمْ) أحسُبُ، (قَالَ) ابن عبّاس (أَمْسِكْ أَرْبَعِينَ) سنةً؛ أي: اضبطها، حتى نبني عليها ما بعدها، (بُعِثَ) بالبناء للمفعول، (لَهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: اللام بمعنى: الوقت، كما في قوله تعالى:{قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]، وقوله:(خَمْسَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ) هكذا النُّسخ، والظاهر أنه حُذف منه العاطف؛ أي: وأمسك خمس عشرة مع الأربعين.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن قوله: "خمس عشرة" شاذّ، تفرّد به عمار بن أبي عمّار، وقد تقدّم في ترجمته أن البخاريّ قال في "الأوسط" بعد ذكر الحديث: لا يتابَع عليه، فدلّ على أنه مما تفرّد به، وهو مخالف لرواية
(1)
"المصباح المنير" 1/ 134.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 134.
ابن عبّاس الأخرى التي وافق فيها الجمهور، من أنه صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثًا وستين سنةً، وهو الصواب، فتنبّه.
وأوَّلَه بعضهم على أنه من باب جبر الكسر؛ أي: بإدخال سنتي الولادة، والوفاة، ولا يخفى ما فيه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَأْمَنُ) من باب تَعِبَ، (وَيَخَافُ) في محل نصب على الحال؛ أي: مكث في مكة خمس عشرة سنة حال كونه آمنًا على نفسه من المشركين أحيانًا، وخائفًا عليها منهم أحيانًا أخرى.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول ابن عباس رضي الله عنهما: "خمس عشرة سنة، يأمن، ويخاف"؛ يعني: أنه كان في تلك الحال غير مستقلّ لإظهار أمره، فكان إذا أخفى أمره تركوه، فأَمِنَ على نفسه، وإذا أعلن أمره، وأفشاه، بأن يدعوهم إلى الله تعالى، ويقرأ عليهم القرآن، تكالبوا عليه، وهمُّوا بقتله، فيخاف على نفسه إلى أن أخبره الله تعالى بعصمته منهم، فأنزل الله عليه قوله:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} [المائدة: 67]، فلم يكن يبالي بهم
(1)
.
(وَعَشْر) هكذا معظم النُّسخ دون إضافة، فيَحْتَمِل أن يكون منصوبًا منوّنًا على لغة ربيعة، فإنهم يقفون على المنصوب المنوّن بالسكون، ويُكتب على لغتهم بلا ألف، ويَحْتَمِل أن يكون غير منوّن؛ لإضافته إلى مقدّر؛ أي: عشر سنين، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"عشرًا"، وهو واضح، والمعنى هنا: وأمسك عشر سنين، (مِنْ مُهَاجَرِهِ) بفتح الجيم، يَحْتَمِل أن يكون مصدرًا ميميًّا على حذف مضاف؛ أي: من وقت هجرته، ويَحْتَمِل أن يكون ظرف زمان؛ لأن وزن مُفَاعَل بضمّ الميم، وفتح العين يصلح لأربعة أشياء: المصدر الميميّ، واسم المفعول، وظرفي الزمان والمكان، كما هو معرف في فنّ الصرف، فتنبّه. (إِلَى الْمَدِينَةِ) متعلّق بما قبله؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم مكث في المدينة بعد الهجرة عشر سنين، وهذا مما لا خلاف فيه، كما سبق تحقيقه، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "المفهم" 6/ 143.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 6082 و 6083 و 6084 و 6085 و 6086](2353)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 295)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 310)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 207)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6083]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ يُونُسَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابد حافظ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ) المدائنيّ، أصله من خُرَاسان، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
والباقيان ذُكرا قبله، و"يونس" هو: ابن عُبيد.
[تنبيه]: رواية شعبة عن يونس بن عُبيد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6084]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي: ابْنَ مُفَضَّلٍ- حَدَّثَنَا خَالِذ الْحَذاءُ، حَدَّثَنَا عَمَّارٌ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، حَدثنا ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفَيَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِي) الجهضميّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(بشْرُ بْنَ مُفَضَّلِ) بن لاحقٍ الرَّقَاشيّ -بقاف، ومعجمة- أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) هو: خالد بن مِهْران أبو الْمُنَازل -بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي- البصريّ، والحذّاء بفتح المهملة، وتشديد الذال المعجمة، قيل له ذلك: لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول: احْذُ على هذا النحو، وهو ثقةٌ، يرسل [5] أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغيّر لَمّا قَدِم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (تُوُفِّيَ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ) قال صاحب "التكملة": هذا مبنيّ على القول بأن إقامته بمكة بعد البعثة خمس عشرة سنة، وهو خلاف ما روي عن أكثر الرواة من أنه صلى الله عليه وسلم إنما أقام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة، وهو المرويّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما نفسِهِ في أول هذا الباب، فلا بدّ في هذه الرواية من تأويل، إما بأن يكون ابن عبّاس ضمٍّ سنة البعثة وسنة الهجرة إلى سنوات الإقامة حتى صار العدد خمس عشرة سنةً، وإما أن يكون جبر الكسر، فاطلق خمس عشرة على ثلاثة عشرة، وإما بأن يكون بعض الرواة عنه وهِمَ في ذِكر العدد، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بوَهَم بعض الرواة هو الأقرب؛ لِمَا لا يخفى من هذه التأويلات من التكلّف والتعسّف، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفئة السيرة":
أَقَامَ فِي مَكةَ قَبْلَ الْهِجْرَةَ
…
ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِغَيْرِ مِرْيَةِ
وَقِيلَ عَشْرًا أَو فَخَمْسَ عَشْرَهْ
…
قَوْلَانِ وَهَّمُوهُمَا بِعليه السلامَّهْ
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6085]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ الحافظ، صاحب التصانيف، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم لن مِقْسَم البصريّ، تقدّم قريبًا.
و"خالد" هو: الْحَذّاء، ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية ابن عُليّة عن خالد الحذّاء ساقها الترمذيّ رحمه الله في "الشمائل"، فقال:
(382)
- حدّثنا أحمد بن مَنِيع، ويعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقيّ قالا: ثنا إسماعيل ابن عُلَيّة، عن خالد الحذّاء، حدّثني عمار مولى بني هاشم، قال: سمعت ابن عباس يقول: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خمس وستين" انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6086]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَيَرَى الضَّوْءَ، سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْه، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً) تقدّم أن الصحيحَ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما روايته الأخرى: "مكث بمكة ثلاثة عشرة سنة"؛ لموافقتها للجمهور، فتنبّه، وقوله:(يَسْمَعُ الصَّوْتَ) جملة حاليّة؛ أي: يسمع صوت المَلَكِ (وَيَرَى الضَّوْءَ)؛ أي: النور الذي يصحب الملك عند نزوله بالوحي، وقال القاضي عياض رحمه الله: أيْ صوت الهاتف به من
(1)
"الشمائل المحمديّة" 1/ 323.
الملائكة، ويرى الضوء؛ أي: نور الملائكة، ونور آيات الله تعالى، حتى رأى الملَك بعينه، وشافهه بوحي الله تعالى. انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: الضَّوْءُ -بالفتح- والضُّوءُ بالضم: الضياء، وجَمْعه أضواء، وهو الضِّوَاء والضِّيَاء، وفي حديث بدء الوحي:"يسمع الصوت، ويرى الضوء"؛ أي: ما كان يسمع من صوت الملَك، ويراه من نوره، وأنوار آيات ربه، وفي "التهذيب": قال الليث: الضَّوْء والضياء: ما أضاء لك، وقال الزجاج في قوله تعالى:{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} الآية [البقرة: 20]: يقال: ضاء السراجُ يضوء، وأضاء يُضيء، قال: واللغة الثانية هي المختارة، وقد يكون الضياء جَمْعًا، وقد ضاءت النارُ، وضاء الشيءُ يَضُوء ضَوْءًا وَضُوءًا، وأضاء يُضيء، ويقال: ضاءت، وأضاءت بمعنًى؛ أي: استنارت، وصارت مضيئةً، وأضاءته يتعدى، ولا يتعدى. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين"؛ أي: أصوات الملائكة، والجمادات، والحجارة، فيسلِّمون عليه بالرسالة، كما خرَّجه الترمذيّ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل، ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله، قال: هذا حديث حسن غريب. ويعني بالضوء: نور الملائكة، ويَحْتَمِل أن يكون أنوارًا تنوِّر بين يديه في أوقات الظلمة، يُحْجَب عنها غيرُهُ، ولذلك نُقل أنه كان يُبصر بالليل كما يبصر بالنهار؛ ويعني: أن هذه الحالة ثبتت عليه سبع سنين، ثم بعد ذلك أوحى الله إليه؛ أي: جاءه الوحي، وشافهه بالخطاب ثماني سنين، وعلى هذا فكَمُل له بمكة خمس عشرة سنة. انتهى
(3)
.
(سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا)؛ أي: لا يرى ملَكًا، ولا غيره ممن سمع صوته، (وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ)؛ أي: يأتيه الملك جهرة بالوحي، فيعاينه،
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 319.
(2)
"لسان العرب" 1/ 112.
(3)
"المفهم" 6/ 143.
ويشافهه به، (وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ)؛ أي: بعد الهجرة، (عَشْرًا)؛ أي: عشر سنين، وتقدّم أن هذا مما لا خلاف فيه.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تخربجه، ولله الحمد والمنّة.
(34) - (بَابٌ فِي أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6087]
(2354) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيه، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأنَا أَحْمَدُ، وَأنا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ الْكُفْرُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي، وَأَنَا الْعَاقِبُ" -وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ-).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْب) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ المذكور في السند الماضي.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيىى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام المشهور، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام العَلَم الحجة المشهور، تقدّم قبل باب.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ) بن عبديّ بن نوفل النوفليّ المدنيّ، ثقةٌ عارفٌ بالنسب [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1040.
7 -
(أَبُوهُ) جبير بن مُطْعِم بن عبديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابي رضي الله عنه، عارف بالأنساب، مات سنة ثمان، أو تسع وخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 746.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخذه عنهم، وهو السماع وحده منهم، ولذا قال:"حدّثني"، ثم فرّق بينهم؛ لاختلافهم على شيخهم سفيان في ذلك، حيث كان أَخْذ إسحاق عنه بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا"، وكان أخْذ الآخرين سماعًا منه، ولذا قالا: "حدّثنا
…
إلخ"، وبيّن أيضًا: أن اللفظ الذي ساقه هنا لفظ زهير بن حرب، وأما الآخران فروياه بالمعنى، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وهو مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم، أنه (سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ) جبير بن مطعم رضي الله عنه.
[تنبيه]: اختَلف الرواة عن مالك في هذا الحديث، فرواه البخاريّ عن إبراهيم بن المنذر، عن مَعْن بن عيسى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه، قال في "الفتح": قوله: "عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه" كذا وقع موصولًا عند مَعْن بن عيسى، عن مالك، وقال الأكثر: عن مالك، عن الزهريّ، عن محمد بن جبير مرسلًا، ووافق مَعْنًا على وصله عن مالك جويريةُ بن أسماء، عند الإسماعيليّ، ومحمد بن المبارك، وعبد الله بن نافع عند أبي عوانة، وأخرجه الدارقطنيّ في "الغرائب" عن آخرين، عن مالك، وقال: إن أكثر أصحاب مالك أرسلوه.
قال الحافظ: وهو معروف الاتّصال عن غير مالك، وَصَله يونس بن يزيد، وعُقيل، ومعمرٌ، وحديثهم عند مسلم، وشعبةُ، وحديثه عند البخاريّ في "التفسير"، وابن عيينة، عند مسلم أيضًا، والترمذيّ، كلهم عن الزهريّ، ورواه عن جبير بن مطعم أيضًا ولده الآخر نافع، وفي حديثه زيادةٌ، وعند البخاريّ في "التاريخ"، وأخرجه أحمد، وابن سعد، وصححه الحاكم، وفي الباب عن أبي موسى الأشعريّ عند مسلم، والبخاريّ في "التاريخ"، وعن حذيفة عند البخاريّ في "التاريخ"، والترمذيّ، وابن سعد، وعن ابن عباس، وأبي الطُّفيل
عند ابن عديّ، ومن مرسل مجاهد، عند ابن سعد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: سأذكر ما في رواياتهم من زيادة فائدة تبعًا للحافظ رحمه الله، والله تعالى وليّ التوفيق.
(أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ)، وفي الرواية التالية: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن لي أسماءً خمسةً: أنا محمد
…
إلخ"، و"محمّد": اسم مفعول من حُمّد المضعّف المبنيّ للمفعول. (وَأَنا أَحْمَدُ) أفعل تفضيل من حَمِدَ مبنيًّا للفاعل، قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: يقال: رجل مُحَمَّد، ومحمود: إذا كَثُرت خصاله المحمودة، وقال ابن فارس وغيره: وبه سُمّي نبيّنا صلى الله عليه وسلم محمدًا، وأحمد؛ أي: ألهم الله تعالى أهله أن سَمَّوه به؛ لِمَا عُلِم من جميل صفاته صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد، وأنا أحمد" كلاهما مأخوذ من الحمد، وقد تكلَّمنا على الحمد في أول الكتاب، فمحمَّد: مُفَعَّلٌ من حَمَّدت الرجلَ مشددًا: إذا نَسَبت الحمدَ إليه، كما يقال: شجَّعت الرجلَ، وبحَّلته: إذا نسبت ذلك إليه، فهو بمعنى المحمود، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أحقّ الخلق بهذا الاسم، فإنَّ الله تعالى قد حَمِده بما لم يحمد به أحدًا من الخلق، وأعطاه من المحامد ما لم يُعطِ مثله أحدًا من الخلق، ويُلهمه يوم القيامة من محامده تعالى ما لا يُلهمه أحدًا من الخلق، وقد حَمِده أهل السماوات والأرض، والدنيا، والآخرة حمدًا لم يُحْمَد به أحدٌ من الخلق، فهو أحمد المحمودِين، وأحمد الحامدِين. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح" ما حاصله: هذان الاسمان -يعني: محمدًا، وأحمد- أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وأشهرهما محمد، وقد تكرر في القرآن، وأما أحمد فذُكر فيه حكايةً عن قول عيسى عليه السلام، فأما محمد فمن باب التفعيل للمبالغة، وأما أحمد فمن باب التفضيل، وقيل: سُمّي أحمد؛ لأنه عَلَم منقول من صفة، وهي أفعل التفضيل، ومعناه أحمد الحامدين، وسبب ذلك ما ثبتٌ في "الصحيحين"
(1)
"الفتح" 8/ 186 - 187، كتاب "المناقب" رقم (3532).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 104.
(3)
"المفهم" 6/ 145.
أنه يُفتح عليه في المقام المحمود بمحامد، لم يُفتح بها على أحد قبله، وقيل: الأنبياء حمّادون، وهوأحمدهم؛ أي: أكثرهم حمدًا، أوأعظمهم في صفة الحمد.
وأما محمد فهو منقول من صفة الحمد أيضًا، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، وقد أخرج البخاريّ في "التاريخ الصغير" من طريق عليّ بن زيد قال: كان أبو طالب يقول [من الطويل]:
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ
…
فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
(1)
والمحمد: الذي حُمِّد مرةً بعد مرة؛ كالممدح، قال الأعشى [من الطويل]:
إِلَيْكَ -أَبَيْتَ اللَّعْنَ- كَانَ وَجِيفُهَا
…
إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
أي: الذي حُمِّد مرةً بعد مرة، أو الذي تكاملت فيه الخصال المحمودة. قال القاضي عياض
(2)
: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمد قبل أن يكون محمدًا، كما وقع في الوجود؛ لأن تسميته أحمد وقعت في الكتب السالفة، وتسميته محمدًا وقعت في القرآن العظيم، وذلك أنه حَمِدَ ربه قبل أن يَحمده الناس، وكذلك في الآخرة يحمد ربه، فَيُشَفِّعه، فَيَحْمَده الناس، وقد خُصّ بسورة الحمد، وبلواء الحمد، وبالمقام المحمود، وشُرع له الحمد بعد الأكل، وبعد الشرب، وبعد الدعاء، وبعد القدوم من السفر، وسُمِّيت أمته الحّمادين، فجُمِعت له صلى الله عليه وسلم معاني الحمد، وأنواعه. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم البحث في هذا الاسم الشريف في
(1)
أخرج الحافظ ابن عبد البرّ في "الاستذكار" 8/ 622 عن عليّ بن زيد بن جُدْعان قال: أحسن بيت قيل فيما قالوا قول عبد المطلب، أو قول أبي طالب:
وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ
…
فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
قال أبو عمر: قد قيل إن أصدق بيت قاله شاعر:
فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا
…
أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ
قال: وهذا البيت في شعر لأبي إياس الديلي يمدح به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرت أبا إياس في "كتاب الصحابة" والحمد لله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله.
(2)
"الشفا" 1/ 328.
(3)
"الفتح" 8/ 186، كتاب "المناقب" رقم (3532).
"شرح المقدّمة" بأتمّ مما هنا، فراجعه
(1)
تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(وَأنا الْمَاحِي الَّذِي يُمْحَى بِيَ) بفتح الياء وسكونها، (الْكُفْرُ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: من الأرض التي زُوِيت له صلى الله عليه وسلم، وأُري أن مُلك أمته سيبلغة، أو يعني بذلك: أنه مُحي به معظم الكفر، وغالبه بظهور دينه على كل الأديان بالحجج الواضحة، والغلبة العامة الفادحة، كما قد صرَّح به الحقّ سبحانه وتعالى بقوله:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [التوبة: 33]. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: المراد محو الكفر من مكة والمدينة، وسائر بلاد العرب، وما زُوِيَ له صلى الله عليه وسلم من الأرض، ووُعِد أن يبلغة مُلك أمته، قالوا: ويَحْتَمِل أن المراد: المحو العامّ، بمعنى الظهور بالحجة والغلبة، كما قال تعالى {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية [التوبة: 33]، وجاء في حديث آخر تفسير الماحي بأنه الذي مُحيت به سيئات من اتبعه، فقد يكون المراد بمحو الكفر هذا، ويكون كقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية [الأنقال: 38]، والحديث الصحيح:"الإسلام يَهْدِم ما كان قبله". انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قيل: المراد بمحو الكفر: إزالته من جزيرة العرب، وفيه نظرٌ؛ لأنه وقع في رواية عُقيل ومعمر:"يمحو بي الله الكَفَرَة"، ويجاب بأن المراد: إزالة الكفر بإزالة أهله، وإنما قُيّد بجزيرة العرب؛ لأن الكفر ما انمحى من جميع البلاد، وقيل: إنه محمول على الأغلب، أوأنه ينمحي بسببه أوّلًا فأولًا إلى أن يضمحلّ في زمن عيسى بن مريم، فإنه يرفع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
وتُعُقِّب بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس.
ويجاب بجواز أن يرتدّ بعضهم بعد موت عيسى، وتُرسل الريح، فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فحينئذ فلا يبقى إلا الشرار.
(1)
راجع: "قرّة عين المحتاج" 1/ 222 - 224.
(2)
"المفهم" 6/ 145.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 104 - 105.
وفي رواية نافع بن جبير: "وأنا الماحي، فإن الله يمحو به سيئات من اتّبعه"، وهذا يُشبه أن يكون من قول الراوي
(1)
.
(وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى عَقِبِي) -بكسر الموحّدة مخففًا على الإفراد، ولبعضهم بالتشديد على التثنية، والموحدة مفتوحة-، قال القرطبيّ رحمه الله: الحاشر: اسم فاعل من حَشَر؛ أي: جَمَع؛ فيعني به: أنه الذي يُحشَر الخلقُ يوم القيامة على أثره؛ أي: ليس بينه وبين القيامة نبيّ آخر، ولا أمة أخرى، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم:"بُعثت أنا والساعة كهاتين"، وقَرَن بين أصبعيه: السبابة والوسطى، متّفقٌ عليه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ: وفي الرواية التالية: "على قدميّ"، قال: فأما الثانية فاتفقت النُّسخ على أنها: "على قدمي"، لكن ضبطوه بتخفيف الياء على الإفراد، وتشديدها على التثنية، وأما الرواية الأولى فهي في معظم النسخ، وفي بعضها:"قدمي" كالثانية، قال العلماء: معناهما: يُحشرون على أَثَري، وزمان نبوّتي، ورسالتي، وليس بعدي نبيّ، وقيل: يتبعوني. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "على قدمي"؛ أي: على أَثَري؛ أي: أنه يُحشر قَبْل الناس، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالقَدَم: الزمان؛ أي: وقت قيامي على قدمي بظهور علامات الحشر؛ إشارةً إلى أنه ليس بعده نبيّ، ولا شريعةٌ.
واستُشْكِل التفسير بأنه يقتضي بأنه محشور، فكيف يُفَسَّر به حاشر، وهو اسم فاعل؟
وأجيب بأن إسناد الفعل إلى الفاعل إضافةٌ، والإضافة تصحّ بأدنى ملابسة، فلمّا كان لا أمة بعد أمته؛ لأنه لا نبيّ بعده نُسِب الحشر إليه؛ لأنه يقع عقبه.
ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أنه أول من يُحشر، كما جاء في الحديث الآخر:"أنا أول من تنشقّ محنه الأرض"، وقيل: معنى القَدَم: السبب، وقيل: المراد: على مشاهدتي قائمًا لله، شاهدًا على الأمم.
(1)
"الفتح" 8/ 189، كتاب "المناقب" رقم (3532).
(2)
"المفهم" 6/ 146.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 105.
ووقع في رواية نافع بن جبير: "وأنا حاشر، بَعِثت مع الساعة، وهو يرجح الأول، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى قوله: "يحشر الناس على قدميّ"؛ أي: قُدّامي، وأمامي؛ كأنهم يَجتمعون إليه، وينضمون حوله، ويكونون أمامه، ووراءه يوم القيامة، قال الخليل: حَشَرَتهم السَّنَةُ: إذا ضَمَّتهم من النواحي، وقد قيل:"على قدمي" على سابقتي، من قوله تعالى:{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [يونس: 2]، والقدم: السابقة بإخلاص الصدقة، والطاعة، قال حسان بن ثابت الأنصاريّ رضي الله عنه[من الطويل]:
لَنَا الْقَدَمُ الْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا
…
لأَوَّلنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ
وقال ذو الرمة [من الطويل]:
لَكُمْ قَدَمٌ لَا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا
…
مَعَ الْحَسَبِ الْعَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى الْبَحْرِ
(2)
(وَأَنَا الْعَاقِبُ") قال القرطبيّ رحمه الله: وفي الرواية الأخرى: "المقفي"، ومعناهما واحد: وهو أنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وخاتمهم، وأكرم أعقابهم، وأفضل من قفّاهم، وقفّاهم؛ أي: كان بعدهم، واتبع آثارهم، قال ابن الأنباريّ: المقفي: المتَّبع للنبيين قبله، يقال: قَفَوتُه، أَقْفُوه، وقَفَيتُه: إذا تبعته، ومثله: قُفْتُه، أقُوفُه، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية [الحديد: 27]، وقوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36]، وقافية كل شيء: آخره. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) هذا التفسير مدرج من الزهريّ، ويؤيّده ما سيأتي عن عقيل قال:"قلت للزهريّ: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبيّ"، ويَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، ويؤيّده ما أخرجه الترمذيّ من طريق ابن عيينة بلفظ:"الذي ليس بعدي نبيّ"، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": ظاهره الإدراج، لكن وقع في رواية سفيان بن عيينة
(1)
"الفتح" 8/ 189 - 190، كتاب "المناقب" رقم (3532).
(2)
"الاستذكار" 8/ 621.
(3)
"المفهم" 6/ 146.
عند الترمذيّ وغيره بلفظ: "الذي ليس بعدي نبيّ"، ووقع في رواية نافع بن جبير:"أنه عقب الأنبياء"، وهو مُحْتَمِل للرفع، والوقف.
وزاد يونس بن يزيد في روايته عن الزهريّ: "الذي ليس بعده نبيّ، وقد سمّاه الله رؤوفًا رحيمًا"، قال البيهقيّ في "الدلائل": قوله: "وقد سمّاه الله
…
إلخ" مُدْرَج من قول الزهريّ، قال الحافظ: وكأنه أشار إلى ما في آخر سورة براءة. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما العاقب فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ"، قال أبو عبيد: سألت سفيان بن عيينة عن العاقب، فقال لي: آخر الأنبياء، وكذلك كل شيء خَلَف بعدَ شيء فهو عاقب، قال ابن عبد البرّ: هذا يشهد له كتاب الله تعالى في قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} الآية [الأحزاب: 40]، وذكر ابن وهب عن مالك، قال: ختم الله به الأنبياء، وختم بمسجده هذه المساجدَ؛ يعني مالك بذلك: مساجد الأنبياء. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [34/ 6087 و 6088 و 6089](2354)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3532) و"التفسير"(4896)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2840) وفي "الشمائل "(359)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(19657)، و (الحميديّ) في "مسنده"(555)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 457)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 80 و 84)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 317 - 318)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6313)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 462)، و (الطبرا نيّ) في
(1)
"الفتح" 8/ 189، كتاب "المناقب" رقم (3532).
(2)
"الاستذكار" 8/ 622.
"الكبير"(1520 و 1521 و 1522 و 1523 و 1524 و 1526 و 1527 و 1528 و 1529 و 1530)، و (أبو نعيم) في "الدلائل"(19)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(1/ 152 - 153)، و (البغويّ) في "الجعديّات"(3445)، و (الطحا ويّ) في "شرح مشكل الآثار"(2/ 50)، و (ابن عساكر) في "السيرة النبويّة"(ص 18)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": ومما وقع من أسمائه صلى الله عليه وسلم في القرآن بالاتّفاق: "الشاهد"، "المبشر"، "النذير"، "المبين"، "الداعي إلى الله"، "السراج المنير"، وفيه أيضًا:"المذكّر"، و"الرحمة"، و"النعمة"، و"الهادي"، و"الشهيد"، و"الأمين"، و"المزَّمل"، و"المدَّثر".
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "المتوكل"، ومن أسمائه المشهورة:"المختار"، و"المصطفى"، و"الشفيع المشفع"، و"الصادق المصدوق"، وغير ذلك.
قال ابن دحية في تصنيف له مفرَد في الأسماء النبوية: قال بعضهم: أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم عدد أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسمًا، قال: ولو بحث عنها باحث لبلغت ثلاثمائة اسم، وذكر في تصنيفه المذكور أماكنها من القرآن، والأخبار، وضَبَط ألفاظها، وشَرَح معانيها، واستطرد كعادته إلى فوائد كثيرة، وغالب الأسماء التي ذكرها وُصِف بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَرِد الكثير منها على سبيل التسمية، مثل عَدّه "اللبنة" -بفتح اللام، وكسر الموحّدة، ثم النون - في أسمائه؛ للحديث الذي تقدّم في "باب كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين"، قال:"فأنا اللبنة"، كذا وقع في حديث أبي هريرة وفي حديث جابر:"موضع اللبنة"، وهو المراد.
ونقل ابن العربي في "شرح الترمذيّ" عن بعض الصوفية أن لله تعالى ألف اسم، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ألف اسم.
وقيل: الحكمة في الاقتصار على الخمسة المذكورة في هذا الحديث، أنها أشهر من غيرها، موجودةٌ في الكتب القديمة، وبين الأمم السالفة
(1)
.
(1)
"الفتح" 8/ 190 - 191، كتاب "المناقب" رقم (3532).
وقد أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله إلى ما تقدّم في "ألفيّة السيرة"، حيث قال:
مُحَمَّدٌ مَعَ الْمُقَفِّي أَحْمَدَا
…
الْحَاشِرُ الْعَاقِبُ وَالْمَاحِي الرَّدَى
وَهْوَ الْمُسَمَّى بِنَبِيِّ الرَّحْمَةِ
…
في "مُسْلِمٍ" وَبِنَبِيِّ التَّوْبَةِ
وَفِيهِ أَيْضًا بِنَبِيّ الْمَلْحَمَهْ
…
وَفِي رِوَايَةٍ نَبيُّ الْمَرْحَمَهْ
طَهَ وَيَاسِينُ مَعَ الرَّسُولِ
…
كَذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ فِي التَّنْزِيلِ
وَالْمُتَوَكِّلُ النَّبِي الأُمِّي
…
وَالرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ أَيَّ رُحْمِ
وَشَاهِدًا مُبَشِّرًا نَذِيرَا
…
كَذَا سِرَاجًا صِلْ بِهِ مُنِيرَا
كَذَا بِهِ الْمُزَّمّلَ الْمُدَّثِّرَا
…
وَدَاعِيَا لِلَّهِ وَالْمُذَكِّرَا
وَرَحْمَةً وَيعْمَةً وَهَادِي
…
وَغَيْرُهَا تَجِل عَنْ تَعْدَادِ
وَقَدْ وَعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ سَبْعَهْ
…
مِنْ بَعْدِ سِتِّينَ وَقِيلَ تِسْعَهْ
مِنْ بَعْدِ تِسْعِينَ وَلابْنِ دِحْيَةِ
…
الْفَحْصُ يُوفِيهَا ثَلَاثَمِائَةِ
وَكَوْنُهَا أَلْفًا فَفِي الْعَارِضَةِ
…
ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الصُّوفِيَّةِ
قال الجامع عفا الله عنه: في بعض ما قاله نظرٌ لا يخفى؛ كعدّه "طه"، و"ياسين"؛ إذ ليس عليهما دليل، وكذا ما قاله ابن دحية، وما ذكره عن بعض الصوفيّة، يحتاج إلى دليل، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "لي خمسة أسماء
…
إلخ"، ما أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" بسنده عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: قال أبو جهل بن هشام حين قدم مكة مُنْصَرفًا عن حمزة: يا معشر قريش، إن محمدًا قد نزل يثرب، وأرسل طلائعه، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئًا، فاحذروا أن تمروا طريقه، وأن تقاربوه، فإنه كالأسد الضاري، إنه حَنِقٌ عليكم، نفيتموه نفي القردان على المناسم، والله إن له لسحرة، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشياطين، وإنكم قد عرفتم عداوة بني قيلة، فهو عدوّ استعان بعدوّ، فقال له مطعم بن عديّ: يا أبا الحكم، والله ما رأيت أحدًا أصدق لسانًا، ولا أصدق موعدًا من أخيكم الذي طردتم، فإذا فعلتم الذي فعلتم، فكونوا أكفّ الناس عنه، فقال أبو سفيان بن الحارث: كونوا أشدّ ما كنتم عليه، فإن بني قيلة إن ظَفِروا بكم لم
يرقبوا فيكم إلًّا ولا ذمّةً، وإن أطعتموني ألحمتموهم خبر كنانة، أو يُخرجوا محمدًا صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، فيكون وحيدًا، مطرودًا، وأما ابنا قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلّة إلا سواء، وسأكفيكم حدّهم، وقال [من الرمل]:
سَأَمْنَحُ جَانبًا مِنِّي غَلِيظًا
…
عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدِ
رِجَالُ الْخَزْرَجِيَّةِ أَهْلُ ذُلٍّ
…
إِذَا مَا كَانَ هَزْلٌ بَعْدَ جِدِّ
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"والذي نفسي بيده لأقتلنّهم، ولأصلبنّهم، ولأهدينهم، وهم كارهون، إني رحمة بعثني الله عز وجل، ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر يُحْشَر الناس على يديّ، وأنا العاقب"، قال أحمد بن صالح: أرجوأن يكون الحديث صحيحًا
(1)
. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6088]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ"، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَؤُوفًا، رَحِيمًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزائد" 6/ 68: رواه الطبرانيّ وِجادةً من طريق أحمد بن صالح المصريّ قال: وجدت في كتاب بالمدينة عن عبد العزيز بن محمد الدراورديّ، ورجاله ثقات. انتهى.
(2)
"المعجم الكبير" 2/ 123.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عَلَى قَدَمَيَّ) قال الطيبيّ رحمه الله؛ أي: على أثري، والظاهر على قدميه؛ اعتبارًا للموصول، إلا أنه اعتَبَر المعنى المدلول بلفظة "أنا". انتهى
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: فأما رواية: "على عقبي"؛ فمعناها: على أثري؛ أي: لا نبيّ بعدي، وأما رواية:"على قدمي"؛ فمعناها: على سابقتي، كما قال تعالى:{أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [يونس: 2]؛ أي: سابقة خير، وإكرام، وترجع إلى ما فُسّرت به الأُولى؛ أي: لا نبيّ بعدي، وقيل: يعني: على سُنَّتي، وقيل: يُحشرون بمشاهدتي، من قوله تعالى:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية [البقرة: 143]، وقيل: يعني: على أمامي، وقُدّامي؛ كأنهم يجتمعون إليه، ويكونون أمامه، وخلفه، وحوله. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَأَنَا الْعَاقِبُ
…
إلخ) العاقب: آخر الرسل عليه السلام؛ أي: أُرسل عقبهم، قال ابن الأعرابيّ: العاقب، والعاقوب: الذي يَخلُف من كان قبله في الخير، ومنه: عَقِب الرجل: لِوَلَده بعده. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَؤُوفًا، رَحِيمًا) تقدّم أنه مُدْرَج من قول الزهريّ،
وهو إشارة إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]. وقال
القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقد سَمَّاه الله رؤوفًا رحيمًا" ليس هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل من قول غيره، وهو الصحابيّ، والله تعالى أعلم، ألا تراه كيف أخبر عنه بخطاب الغيبة، ولو كان من قوله صلى الله عليه وسلم لقال: وقد سمّاني الله: رؤوفًا رحيمًا، هذا الظاهر، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من قوله، وقد يَخْرُج المتكلم من الحضور إلى الغَيبة، كما قال تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} الآية [يونس: 22]، وفي هذا إشارة إلى قوله تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، والرؤوف: الكثير الرأفة، والرحيم: الكثير الرحمة؛ فإنَّهما للمبالغة.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3688.
(2)
"شرح الأبيّ" 6/ 143.
(3)
"شرح الأبيّ" 6/ 143.
وقد جاء في الصحيح: "لي خمسة أسماء" فحصرها بالعدد، وذكر الأسماء المتقدّمة، وقد يقال: ما وجه تخصيص هذه الأسماء الخمسة بالذكر، مع أن أسماءه أكثر من ذلك؟ ويجاب عنه بأن هذه الخمسة الأسماء هي الموجودة في الكتب المتقدِّمة، وأعْرَف عند الأمم السالفة، ويَحْتَمِل أن يقال: إنه في الوقت الذي أخبر بهذه الأسماء الخمسة لم يكن أُوحي إليه في غيرها بشيء، فإنَّ أسماءه إنَّما تلقّاها من الوحي، ولا يسمَّى إلا بما سَمَّاه الله به، وهذا أسدُّ الجوابين إن شاء الله تعالى. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6089]
(. . .) - (وَحَدَّثَني عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، قَالَ: حَدَّثَني أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَيي حَدِيثِ شُعَيْبٍ، وَمَعْمَرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ عُقَيْلٍ
(2)
: قَالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: وَمَا الْعَاقِبُ؟ قَالَ: الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، وَيي حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَعُقَيْلٍ: الْكَفَرَةَ، وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ: الْكُفْرَ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنِّفٌ، شهير، عَمِي في آخر عمره، فتَغَيَّر، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"المفهم" 6/ 149 - 150.
(2)
وفي نسخة: "وفي حديث معمر".
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرَام السَّمَرْقَنديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
5 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الْحَكَم بن نافع الْبَهْرَانيّ -بفتح الموحّدة - الْحِمْصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
6 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأُمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: مِنْ أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب، و"الليث" هو: ابن سعد الإمام المصريّ، و"عُقيل" هو: ابن خالد الأيليّ.
وقوله: (كلهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة: عُقيل، ومعمر، وشعيب بن أبي حمزة رووا هذا الحديث عن الزهريّ بسنده الماضي؛ أعني: عن محمد بن جُبير، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ، وَعُقَيْلٍ: الْكَفَرَةَ، وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ: الْكُفْرَ)؛ يعني: أن معمرًا، وعُقيلًا روياه بلفظ:"الْكَفَرَة" بفتحات: جمع كافر، وشعيب رواه بلفظ:"الْكُفر"، بضمّ، فسكون بلفظ المصدر.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفريق الذي ذكره المصنّف لم أجد من ساقه به، بل الثلاثة رووه بلفظ المصدر، كما سأبيّنه في التنبيه التالى، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عُقيل بن خالد عن الزهريّ ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(1523)
- حدّثنا مطّلب بن شعيب الأزديّ، ثنا عبد الله بن صالح،
حدّثني الليث، حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، أخبرني محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن جُبير بن مطعم، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدميّ، وأنا العاقب الذي لا نبيّ بعدي". انتهى
(1)
.
ورواية معمر عن الزهريّ ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:(19657) - أخبرنا عبد الرزاق
(2)
، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزهريّ، عن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماءً: أنا أحمد، وأنا محمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب"، قال معمر: قلت للزهريّ: وما العاقب؟ قال: الذي ليس بعده نبيّ. انتهى
(3)
.
ورواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4614)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني محمد بن جبير بن مُطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". انتهى
(4)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6090]
(2355) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَة، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو: ابن راهويه المذكور قبل حديثين.
(1)
"المعجم الكبير" 2/ 121.
(2)
هذا لفظ تلميذ عبد الرزاق، فتنبّه.
(3)
"مصنّف عبد الرزاق" 10/ 446.
(4)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1858.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرَّيّ وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءات، وَرعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148) وكان مولده أول سنة إحدى وستين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
4 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَلي المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، كان لا يدلّس، ورُمي بالإرجاء [5] (ت 118) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
5 -
(أَبُو عُبَيْدَةَ) بن عبد الله بن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامرٌ، كوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3] والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة ثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
6 -
(أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الضاد المعجمة- الصحابي المشهور، أَمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهوأحد الْحَكَمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ممن اشتهر بكنيته أبو عبيدة، وأبو موسى، فأما الأول، فالمشهور أن اسمه كنيته، وأما الثاني، فاسمه عبد الله بن قيس الصحابيّ المشهور رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً) كثيرةً (فَقَالَ: "أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ) تقدّم البحث في هذين الاسمين في الحديث الماضي. (وَالْمُقَفِّي) قال شَمِر: هو بمعنى: العاقب، وقال ابن الأعرابيّ: هو الْمُتَّبع للأنبياء عليه السلام، يقال: قفوته
أقفوه، وقفيته أقفيه: إذا اتبعته، وقافية كل شي آخره
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المقفّي، والعاقب: معناهما واحد، وهوأنه صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، وخاتمهم، وأكرم أعقابهم، وأفضل من قفَّاهم، وقفّاهم؛ أي: كان بعدهم، واتّبع آثارهم، قال ابن الأنباريّ: المقفِّي: المتَّبع للنبيين قبله، يقال: قَفَوتُه، أَقْفُوه، وقَفَيتُه: إذا تبعته، ومثله: قُفْتُه، أقُوفُه، ومنه قوله تعالي:{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية [الحديد: 27]، {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية [الإسراء: 36]، وقافية كل شيء: آخره. انتهى
(2)
.
(وَالْحَاشِرُ) تقدّم شرحه، (وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: الذي تكثر التوبة في أمته، وتعمّ حتى لا يوجد فيما ملكته أمته إلا تائب من الكفر، فيقرب معناه على هذا من "الماحي"، إلا أن ذلك يشهد بمحو ما ظهر من الكفر، وهذا يشهد بصحَّة ما يخفى من توبة أمته منه، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أن أمته لمّا كانت أكثر الأمم كانت توبتهم أكثر من توبة غيرهم، ويَحْتَمِل أن تكون توبة أمته أبلغ حتى يكون التائب منهم كمن لم يذنب، ولا يؤاخذ لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ويكون غيرهم يؤاخذ في الدنيا، وإن لم يؤاخذ في الآخرة، والله أعلم. والذي أحوج إلى هذه الأوجه اختصاص نبينا صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، مع أن كل نبيّ جاء بتوبة أمته، فيصدق أنه نبيّ التوبة، فلا بدَّ من إبداء مزيَّة لنبيّنا صلى الله عليه وسلم يختصُّ بها كما بيَّنا. انتهى
(3)
.
(وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ) قال النوويّ رحمه الله: وأما نبي التوبة، ونبي الرحمة، ونبي المرحمة، فمعناها متقارب، ومقصودها أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتوبة، وبالتراحم، قال الله تعالى:{رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [لبلد: 17]، والله أعلم.
قال: وفي حديث آخر: "نبي الملاحم"؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بُعِث بالقتال، قال العلماء: وإنما اقتصر على هذه الأسماء مع أن له صلى الله عليه وسلم أسماء غيرها، كما سبق؛
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 106.
(2)
"المفهم" 6/ 146.
(3)
"المفهم" 6/ 147.
لأنها موجودة في الكتب المتقدمة، وموجودة للأمم السالفة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ونبي الرحمة"، وفي أخرى:"المرحمة"، وفي أخرى:"الملحمة"، فأمَّا الرحمة، والمرحمة فكلاهما بمعنى واحد، وقد تقدَّم أن الرحمة إفاضة النعم على المحتاجين، والشفقة عليهم، واللطف بهم، وقد أعطى الله نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمته منها ما لم يُعْطِه أحدًا من العالمين، ويكفي من ذلك قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فهو أعظم كل رحمة، وأمته القابلة لِمَا جاء به قد حَصَّلت على أعظم حظّ من هذه الرحمة، وشفاعتُهُ يوم القيامة لأهل الموقف أعمُّ كل رحمة، ولأهل الكبائر أجلّ كل نعمة، وخاتمة ذلك شفاعته في ترفيع منازل أهل الجنة.
وأما رواية من روى: "نبي الملحمة": فهذا صحيح في نَعْته، ومعلوم في الكتب القديمة مِنْ وَضفه، فإنَّه قد جاء فيها: أنه نبي الملاحم، وأنه يجيء بالسيف والانتقام ممن خالفه من جميع الأنام، فمنها ما جاء في صحف حبقوق، قال:"جاء الله من التين، وتقدس من فاران، وامتلأت الأرض من تحميد أحمد، وتقديسه، وملأ الأرض من هيبته"، وفيها أيضًا:"تضيء الأرض بنورك، وستنزع في قوسك إغراقًا، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء"؛ ويعني بالتين: الجبال التي تُنْبته، وهي جبال بيت المقدس، ومجيء الله تعالى منها: عبارة عن إظهار كلامه الذي هو الإنجيل على لسان عيسى صلى الله عليه وسلم، وفاران: مكة، كما قال تعالى في التوراة:"إن الله أنزل هاجر، وابنها إسماعيل فاران"؛ يعني: مكة بلا خلاف بينهم، وفي التوراة قال:"قد جاء الله من سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلى من فاران"؛ فمجيئه تعالى من سيناء: كناية عن ظهور موسى صلى الله عليه وسلم بها، وإشراقه من ساعير، وهي جبال الروم من أدوم: كناية عن ظهور عيسى عليه السلام، واستعلاؤه من فاران: كناية عن القهر الذي يقهر به نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الكفر كلّه بالقتل والقتال.
وقال في التوراة: "يا موسى! إني أقيم لبني إسرائيل من إخوتهم نبيّا مثلك، أجعل كلامي على فيه، فمن عصاه انتقمت منه"، وإخوة بني إسرائيل
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 106.
العرب؛ فإنَّهم ولد إسماعيل عليه السلام، وهم المعنيّون هنا، وقوله:"أجعل كلامي على فيه"؛ يعني به: القرآن، والانتقام ممن عصاه: هو القتل، والقتال الذي جاء به، ومثل هذا كثير.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش! لقد جئتكم بالذبح"
(1)
، وقال:
"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به"، متّفق عليه، واللفظ لمسلم، فهو نبي الملحمة التي بسببها عمَّت الرحمة، وثبتت المرحمة، وقد تتبَّع القاضي أبو الفضل ما جاء في كتاب الله تعالى، وفي سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومما نُقل في الكتب القديمة، وإطلاق الأمَّة أسماء كثيرة، وصفات عديدة للنبيّ صلى الله عليه وسلم صَدَقت عليه مسمَّياتها، ووُجِدت فيه معانيها، وعُرِف بها في كتاب "الشفا في التعريف بحقوق المصطفى"، وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربيّ في كتاب "الأحكام" من أسماء النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة وستين اسمًا، من أرادها وجدها هنالك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
[خاتمة]: نختم ما سبق من البحث في أسمائه صلى الله عليه وسلم بما ذكره الإمام أبو بكر بن العربيّ رحمه الله في كتابه "أحكام القرآن"، حيث ساق جملةً من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وشرحها، فأجاد، وأفاد، قال رحمه الله:
وَأَمَّا أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُحْصِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ لِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ الْبَيِّنَة، فَوَعَيْتُ مِنْهَا جُمْلَةً، الْحَاضِرُ الْآنَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا: أَوَّلُهَا الرَّسُولُ، الْمُرْسَلُ، النَّبِيُّ، الْأُمِّيُّ، الشَهِيدُ، الْمُصَدّقُ، النُّورُ، الْمُسْلِمُ، الْبَشِيرُ، الْمُبَشِّرُ، النَّذِيرُ، الْمُنْذِرُ، الْمُبَيِّنُ، الْعَبْدُ، الدَّاعِي، السِّرَاجُ، الْمُنِيرُ، الْإِمَامُ، الذّكْرُ، الْمُذَكّرُ، الْهَادِي، الْمُهَاجِرُ، الْعَامِلُ، الْمُبَارَكُ، الرَّحْمَةُ، الْآمِرُ، النَّاهِي، الطَّيِّبُ، الْكَرِيمُ، الْمُحَلّلُ، الْمُحَرِّمُ، الْوَاضِعُ، الرَّافِعُ، الْمُخْبِرُ، خَاتَمُ
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" 2/ 218 بسند صحيح، والبزّار في "مسنده"(6/ 458)، وابن حبّان في "صحيحه" 14/ 526، وأورده الشيخ الألبانيّ في "صحيح السيرة النبويّة"(149).
(2)
"المفهم" 6/ 147 - 149.
النَّبِيِّينَ، ثَانِي اثْنَيْن، مَنْصُورٌ، أُذُنُ خَيْرٍ، مُصْطَفًى، أَمِينٌ، مَأْمُونٌ، قَاسِمٌ، نَقِيبٌ، مُزَّمِّلٌ، مُدَّثِّرٌ، الْعَلِيُّ، الْحَكِيمُ، الْمُؤمِنُ، الرَّؤُوفُ، الرَّحِيمُ، الصَّاحِبُ، الشَّفِيعُ، الْمُشَفَّعُ، الْمُتَوَكِّلُ، مُحَمَّدٌ، أَحْمَدُ، الْمَاحِي، الْحَاشِرُ، الْمُقَفِّي، الْعَاقِبُ، نَبِيُّ التَّوْبَة، نَبِيُّ الرَّحْمَة، نَبِيُّ الْمَلْحَمَة، عَبْدُ الله، نَبِيُّ الْحَرَمَيْن، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ.
وَلَهُ وَرَاءَ هَذِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ إلَّا صَمَيَانٌ
(1)
.
فَأَمَّا الرَّسُولُ: فَهُوَ الَّذِي تَتَابَعَ خَبَرُهُ عَن الله، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِفَتْحِ السِّين، وَلَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ، وَهُوَ الْمُرْسِلُ: بِكَسْرِ السِّينِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِالتَّبْلِيغِ مُشَافَهَةً، فَلَمْ يَكُ بُدٌّ مِن الرُّسُلِ يَنُوبُونَ عَنْهُ، وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ، كَمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّه، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَصْحَابِهِ:"تَسْمَعُونَ، ويسْمَعُ مِنْكُمْ، ويُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ"
(2)
.
وَأمَّا النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: فَهُوَ مَهْمُوزٌ مِن النَّبَأ، وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنَ النُّبُوَّة، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْض، فَهُوَ صلى الله عليه وسلم مُخْبِرٌ عَن اللهِ سبحانه، رَفِيعُ الْقَدْرِ عِنْدَهُ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْوَصْفَان، وَتَمَّ لَهُ الشَّرَفَانِ.
وَأَمَّا الْأُمِّيُّ: فَفِيهِ أَقْوَالٌ؛ أَصحُّهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} الآية [النحل: 78]، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا شَاءَ.
وَأَمَّا الشَّهِيدُ: فَهُوَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية [البقرة: 143]، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى: أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْمُعْجِزَةُ بِالصِّدْق، وَالْخَلْقُ بِظُهُورِ الْحَقِّ.
(1)
قال في "القاموس" و"شرحه": الصميان محرّكةً: التقلّب، والْوَثْبُ، والسرعة، يقال: صَمَى، وأصمى: إذا أسرع، والصميان: الشجاع الصادق الحملة. انتهى.
(2)
رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم، وابن حبّان.
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَهُوَ بِمَا صَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} الآية [آل عمران: 50].
وَأَمَّا النُّورُ: فَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ بِمَا كَانَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْل، فَنَوَّرَ اللهُ الْأَفْئِدَةَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ به.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ: فَهُوَ خَيْرُهُمْ، وَأَوَّلُهُمْ، كَمَا قَالَ:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]، وَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَرَفِ انْقِيَادِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ حَالٍ إلَى الله، وَبِسَلَامَةٍ عَن الْجَهْلِ وَالْمَعَاصِي.
وَأَمَّا الْبَشِيرُ: فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الْخَلْقَ بِثَوَابِهِمْ إنْ أَطَاعُوا، وَبِعِقَابِهِمْ إنْ عَصَوْا، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)} [التوبة: 21]، وَقَالَ تَعَالَى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21]، وَكَذَلِكَ الْمُبَشِّرُ.
وَأَمَّا النَّذِيرُ، وَالْمُنْذِرُ: فَهُوَ الْمُخْبِرُ عَمَّا يُخَافُ، ويحْذَرُ، وَيَكُفُّ عَمَّا يَؤُولُ إلَيْه، وَيَعْمَلُ بِمَا يُدْفَعُ بهِ.
وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ: فَمَا أَبَانَ عَنْ رَبِّهِ مِنَ الْوَحْي، وَالدِّين، وَأَظْهَرَ مِنَ الْآيَات، وَالْمُعْجِزَاتِ.
وَأَمَّا الْأَمِينُ: فَبِأَنَّهُ حَفِظَ مَا أُوحِيَ إلَيْه، وَمَا وُظِّفَ إلَيْه، وَمَنْ أَجَابَهُ إلَى أَدَاءِ مَا دَعَاهُ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ: فَإِنَّهُ ذَلَّ لِلَّهِ خُلُقًا، وَعِبَادَةً، فَرَفَعَهُ اللهُ عِزًّا وَقَدْرًا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْق، فَقَالَ:"أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ أسدمَ، وَلَا فَخْرَ"
(1)
.
وَأَمَّا الدَّاعِي: فَبِدُعَائِهِ الْخَلْقَ لِيَرْجِعُوا مِنَ الضَّلَالِ إلَى الْحَقِّ.
وَأَمَّا السِّرَاجُ: فَبِمَعْنَى النُّورِ؛ إذْ أَبْصَرَ بِهِ الْخَلْقُ الرُّشْدَ.
وَأَمَّا الْمُنِيرُ: فَهُوَ مُفْعِلٌ مِنَ النُّورِ.
وَأَمَّا الْإِمَامُ: فَلِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِه، وَرُجُوعِهِمْ إلَى قَوْلِه، وَفِعْلِهِ.
(1)
حديث صحيح.
وَأَمَّا الذِّكْرُ: فَإنَّهُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِه، مُشَرِّفٌ غَيْرَهُ، مُخْبِرٌ عَنْ رَبِّه، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ وُجُوهُ الذِّكْرِ الثَّلَاثَةُ.
وَأَمَّا الْمُذَكِّرُ: فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ الذِّكْرَ، وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَة، وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا، وَلَقَد اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ، ثُمَّ ذَهَلُوا، فَذَكَّرَهُم اللهُ بِأَنْبِيَائِه، وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِه، وَقَالَ:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 21، 22]، ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنَ السَّيْطَرَة، وَآتَاهُ السَّلْطَنَةَ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ.
وَأَمَّا الْهَادِي: فَإِنَّهُ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ النَّجْدَيْنِ.
وَأمَّا الْمُهَاجِرُ: فَهَذِهِ الصِّفَةُ لَهُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ، وَهَجَرَ أَهْلَهُ وَوَطَنَهُ، وَهَجَرَ الْخَلْقَ؛ أُنْسًا بِاللهِ وَطَاعَتِه، فَخَلَا عَنْهُمْ، وَاعْتَزَلَهُمْ، وَاعْتَزَلَ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا الْعَامِلُ: فَلِأَنَّهُ قَامَ بِطَاعَةِ رَبِّه، وَوَافَقَ فِعْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ.
وَأَمَّا الْمُبَارَكُ: فَبِمَا جَعَلَ اللهُ فِي حَالِهِ مِنْ نَمَاءِ الثَّوَاب، وَفِي حَالِ أَصْحَابِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَال، وَفِي أُمَّتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ.
وَأَمَّا الرَّحْمَةُ: فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فَرَحِمَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِن الْعَذَاب، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَاب، وَتَضْعِيفِ الثَّوَاب، قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنقال: 33].
وَأَمَّا الْآمِرُ وَالنَّاهِي: فَذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاسِطَةَ أُضِيفَ إلَيْهِ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يُشَاهَدُ آمِرًا نَاهِيًا، وَيُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ وَاسِطَةٌ، وَنَقْلٌ عَن الَّذِي لَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقَةً.
وَأمَّا الطَّيِّبُ: فَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَلْبِ حِينَ رُمِيَتْ مِنْهُ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ، وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَوْل، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصَدِّقُ، وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْفِعْل، فَهُوَ كُلُّهُ طَاعَةٌ.
وَأَمَّا الْكَرِيمُ: فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَرَم، وَهُوَ لَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ.
وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ: فَذَلِكَ مُبَيِّنُ الْحَلَالِ وَالْحَرَام، وَذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللهُ تَعَالَى، كَمَا تَقَدَّمَ، وَالنَّبِيُّ مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالرِّسَالَةِ.
وَأَمَّا الْوَاضِعُ، وَالرَّافِعُ: فَهُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا بِبَيَانِه، وَرَفَعَ قَوْمًا، وَوَضَعَ آخَرِينَ، وَلذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْعَطَاءِ غَيْرُهُ [من المتقارب]:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيـ
…
دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ
…
يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا
…
وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الْعَطَاءِ بِمَنْ فَضَّلَ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ: فَهُوَ النَّبِيءُ مَهْمُوزًا.
وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ: فَهُوَ آخِرُهُمْ: وَهِيَ عِبَارَةٌ مَلِيحَةٌ شَرِيفَةٌ، تَشْرِيفًا فِي الْإِخْبَارِ بِالْمَجَازِ عَن الْآخِرِيَّةِ؛ إذْ الْخَتْمُ آخِرُ الْكِتَاب، وَذَلِكَ بِمَا فُضِّلَ بِه، فَشَرِيعَتُهُ بَاقِيَةٌ وَفَضِيلَتُهُ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَاقْتِرَانُهُ فِي الْخَبَرِ بِاللهِ
(1)
.
وَأَمَّا مَنْصُورٌ: فَهُوَ الْمُعَانُ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِالْعِزَّةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاء، وَهَذَا عَامّ فِي الرُّسُل، وَلَهُ أَكْثَرُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وَقَالَ لَهُ: اُغْزُهُمْ نَمُدَّك، وَقَاتِلْهُمْ نَعُدَّك، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ.
وَأَمَّا أُذُنُ خَيْرٍ: فَهُوَ بِمَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِدْرَاكِ لِقِيلِ الْأَصْوَات، لَا يَعِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا، وَلَا يَسْمَعُ إلَّا أَحْسَنَهُ.
وَأَمَّا الْمُصْطَفَى: فَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَفْوَةُ الْخَلْق، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ اللهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ
(1)
هكذا في الكتاب، ولم يظهر لي معناه، وأما في الآية فالمراد به: أنه ثاني أبي بكر في الغار، فليُحرّر.
إسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".
وَأَمَّا الْأَمِينُ: فَهُوَ الَّذِي تُلْقَى إلَيْهِ مَقَالِيدُ الْمَعَانِي ثِقَةَ بِقِيَامِهِ عَلَيْهَا، وَحِفْظًا مِنْهُ.
وَأَمَّا الْمَأْمُونُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِ شَرٌّ.
وَأَمَّا قَاسِمٌ: فَبِمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الزَّكَوَات، وَالْأَخْمَاس، وَسَائِرِ الْأمْوَال، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، واللهُ يُعْطِي"
(1)
.
وَأَمَّا نَقِيبٌ: فَإِنَّهُ فَخَرَ بِالْأَنْصَارِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْحَاب مِنَ الصَّحَابَة، بِأَنْ قَالَ لَهَا:"أَنَا نَقِيبُكُمْ"
(2)
؛ إذْ كُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا نَقِيبٌ، يَتَوَلَّى أُمُورَهَا، وَيَحْفَظُ أَخْبَارَهَا، وَيَجْمَعُ نَشْرَهَا، وَالْتَزَمَ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ لِلْأَنْصَار، تَشْرِيفًا لَهُمْ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرْسِلًا: فَبِبَعْثِهِ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ إلَى النَّاسِ فِي الْآفَاقِ مِمَّنْ نَأَى عَنْهُ.
وَأَمَّا الْعَلِيُّ: فَبِمَا رَفَعَ اللهُ مِنْ مَكَانِهِ وَشَرَّفَ مِنْ شَأْنِه، وَأَوْضَحَ عَلَى الدَّعَاوَى مِنْ بُرْهَانِهِ.
وَأَمَّا الْحَكِيمُ: فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَأَدَّى عَنْ رَبِّهِ قَانُونَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ.
وَأَمَّا الْمُومِنُ: فَهُوَ الْمُصَدِّقُ لِرَبِّه، الْعَامِلُ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا بِمَا أَوْجَبَ الْأَمْنَ لَهُ.
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَاُنهُ، فَإِنَّهُ صَدَّقَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى، وَصَدَّقَ قَوْلَهُ بِفِعْلِه، فَتَمَّ لَهُ الْوَصْفُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ: فَبِمَا أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَى النَّاس، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك" 3/ 206. لمّا مات أسعد بن زرارة رضي الله عنه نقيب بني النجّار جاءت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد مات نقيبنا فنَقب علينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا نقيبكم"، قال الذهبي: فكانوا يفخرون بذلك. "سير أعلام النبلاء" 1/ 300.
"لِكُلّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
(1)
، وَقَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُ:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ".
وَأَمَّا الصَّاحِبُ: فَبِمَا كَانَ مَعَ مَن اتَّبَعَهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَعَظِيمِ الْوَفَاء، وَالْمُرُوءَةِ وَالْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ.
وَأَمَّا الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ: فَإِنَّهُ يَرْغَبُ إلَى اللهِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَاب، وَإِسْقَاطِ الْعَذَابِ وَتَخْفِيفِه، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُخَصُّ بِهِ دُونَ الْخَلْق، ويُكَرَّمُ بِسَبَبِهِ غَايَةَ الْكَرَامَةِ.
وَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ: فَهُوَ الْمُلْقِي مَقَالِيدَ الْأُمُورِ إلَى اللهِ عِلْمًا، كَمَا قَالَ:"لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك"، وَعَمَلًا، كَمَا قَالَ:"إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَو إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي"؟.
وَأَمَّا الْمُقَفَّى: فِي التَّفْسِيرِ فَكَالْعَابِدِ.
وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ: لِأَنَّهُ تَابَ اللهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْقَوْلِ وَالاعْتِقَادِ دُونَ تَكْلِيفِ قَتْلٍ أَو إصْرٍ.
وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ: تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الرَّحِيمِ.
وَنَبِي الْمَلْحَمَةِ: لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَعُودُوا جَزْرًا عَلَى وَضَمٍ وَلَحْمًا عَلَى وَضَمٍ. انتهى كلام ابن العربيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(35) - (بابُ عِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم بِاللهِ تَعَالَى، وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ لَهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6091]
(2356) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَت: صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا،
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
"أحكام القرآن" لابن العربيّ 7/ 381 - 389.
فَتَرَخصَ فِيه، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِه، فَكَأَنَّهُمْ كلرِهُوهُ، وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ:"مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخُّصْتُ فِيه، فَكَرِهُوهُ، وَتنزَّهُوا عَنْهُ؟ فَوَاللهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح -بالتصغير- الْهَمَدانيّ الكوفيّ العطار مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضل [4] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
2 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 2 أو 63)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 227.
3 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وأعلم نساء الأمة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا، فَتَرَخَّصَ فِيهِ)، وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش الآتية:"رَخَّص النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر"، يقال: تَرَخَّصَ في الأُمُورِ: أَخَذَ فِيهَا بالرُّخْصَة، أفاده المرتضى
(1)
، والرُّخْصَةُ بالضمّ وزانُ غُرفة، وتُضمّ الخاء للإتباع: التسهيل في الأمر، والتيسير، يقال: رَخَّصَ، الشرع لنا في كذا تَرْخِيصًا، وأَرْخَصَ إِرْخَاصًا: إذا يسَّره، وسهّله، أفاده الفيّوميّ
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عائشة رضي الله عنها: "صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا، فترخَّص فيه"؛ أي: فَعَل أمرًا ترك فيه التشديد؛ لأنه رُخِّص له فيه، كما قال في
(1)
"تاج العروس" 1/ 4455.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 223.
الرواية الأخرى: "ما بال رجال يرغبون عما رُخِّص لي فيه؟ "، ولعل هذا من عائشة رضي الله عنها إشارة لحديث النَّفر الذين استقلُّوا عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي، ولا أنام، وقال الآخر: وأنا أصوم، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا لا أنكح النساء، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال:"وأما أنا فأصلي، وأنام، وأصوم، وأُفطر، وأنكح النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني"، وقد تقدَّم في "النكاح". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لم يُذكر في الرواية تعيين الأمر الذي ترخّص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتنزّهوا عنه، إلا أن ابن بطال رحمه الله أومأ إلى أنه القبلة للصائم، وقال غيره: لعله الفطر في السفر، ذكره في "الفتح"
(2)
، ولم يذكر مستنَد ذلك.
ثم رأيت الحافظ قال في "الفتح" في موضع آخر: ولم أعرف أعيان القوم المشار إليهم في هذا الحديث، ولا الشيء الذي ترخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت ما يمكن أن يُعْرَف به ذلك، وهو ما أخرجه مسلم في "كتاب الصيام" من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إني أصبح جنبًا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل، وأصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب، فأصوم"، فقال: يا رسول الله، إنك لست مثلنا، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي".
وفي حديث أنس رضي الله عنه: "أن ثلاثة رهط سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرّ. . ." الحديث، وفيه قولهم: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، وفيه قوله لهم:"والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم، وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء"
(3)
.
(فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاسًا) لم تُعرف أسماؤهم كما مرّ آنفًا. (مِنْ أَصْحَابِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَكَأَنَّهُمْ كَرِهُوهُ)؛ أي: ما ترخّص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ)؛ أي: باعدوا
(1)
"المفهم" 6/ 151 - 152.
(2)
"الفتح" 17/ 176، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7301).
(3)
"الفتح" 13/ 678 - 679، كتاب "الأدب" رقم (6101).
أنفسهم عنها؛ يعني: أنهم لم يريدوا العمل بها طلبًا للعزيمة حيث كانت رخصة، (فَبَلَغَهُ)؛ أي: بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ)؛ أي: كراهة هؤلاء، وتنزّههم عما ترخّص فيه، (فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم حال كونه (خَطِيبًا) للناس، وفي رواية أبي معاوية الآتية:"فَغَضِبَ، حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ"، (فَقَالَ:"مَا بَالُ رِجَالٍ) وفي رواية أبي معاوبة: "ما بالُ أقوام"، (بَلَغَهُمْ عَنِّي أَمْرٌ تَرَخَّصْتُ فِيهِ)؛ أي: أخذت فيه بالرخصة، (فَكَرِهُوهُ) أي: فكرهوا الأخذ برخصتي، (وَتَنَزَّهُوا عَنْهُ؟ ")، وفي رواية أبي معاوية:"يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بال رجال
…
إلخ" هذا منه صلى الله عليه وسلم
عدول عن مواجهة هؤلاء القوم بالعتاب، وكانوا معيَّنين عنده، لكنه فعل ذلك لغلبة الحياء عليه، ولتلطُّفه في التأديب، ولسَتْر المعاتب، وتنزهُ هؤلاء عما ترخص به النبيّ صلى الله عليه وسلم أوقعهم فيه ظنُّ أن المغفور له يُسامَح في بعض الأمور، وتسقط عنه بعض التكاليف، والأمر بالعكس؛ لوجهين:
أحدهما: أن المغفور له يتعيَّن عليه وظيفة الشكر، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ "، متفقٌ عليه.
وثانيهما: أن الأعلم بالله تعالى، وبأحكامه هو الأخشى له، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلمكم بالله تعالى، وأشدكم له خشية"، وقال في موضع آخر:"وأعلمكم بما أتقي". انتهى
(1)
.
(فَوَاللهِ لأَنَّا أَعْلَمُهُمْ بِالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً)؛ معناه: أنهم يتوهمون أن رغبتهم عما فعلت أقرب لهبم عند الله تعالى، وليس كما توهموا، بل أنا أعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية، وإنما يكون القُرب إليه سبحانه وتعالى والخشية له على حَسَب ما أَمَرَ، لا بمخيّلات النفوس، وتَكَلُّف أعمال لم يأمر بها، والله أعلم
(2)
.
وقال في "الفتح": أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أعلمهم" إلى القوّة العلمية، وبقوله:"أشدهم له خشية" إلى القوة العملية؛ أي: أنا أعلمهم بالفضل، وأَولاهم بالعمل به.
(1)
"المفهم" 6/ 152.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 107.
وحاصل ما أشار إليه أنه صلى الله عليه وسلم قد جمع بين القوة العلمية والقوة العملية؛ أي: إنهم توهموا أن رغبتهم عما أفعل أقرب لهم عند الله تعالى، وليس كذلك؛ إذ هوأعلمُهم بالقربة، وأَولاهم بالعمل بها.
وقال ابن بطال رحمه الله: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم رفيقًا بأمته، فلذلك خُفِّف عنهم العتاب؛ لأنهم فعلوا ما يجوز لهم من الأخذ بالشدّة، ولو كان ذلك حرامًا لأَمَرهم بالرجوع إلى فعله.
قال الحافظ رحمه الله: أما المعاتبة فقد حصلت منه لهم بلا ريب، وإنما لم يميِّز الذي صدر منه ذلك سَتْرًا عليه، فحصل منه الرفق من هذه الحيثية، لا بترك العتاب أصلًا، وأما استدلالة بكون ما فعلوه غير حرام، فواضح من جهة أنه لم يُلزمهم بفعل ما فعله هو
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 6091 و 6092 و 6093](2356)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6101) و"الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"(7301) وفي "الأدب المفرد"(1/ 156)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 67)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 45 و 181)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 818)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2015 و 2021)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 310)، و (تمام) في "فوائده"(1/ 229)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 139)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الحثّ على الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وذمّ التعمق، والتنزه عن المباح شكًّا في إباحته.
2 -
(ومنها): حسن العشرة عند الموعظة، والإنكار، والتلطف في ذلك،
(1)
"الفتح" 13/ 678، كتاب "الأدب" رقم (6101).
حيث قال رحمه الله: "ما بال رجال"، ولم يقل: ما بال فلان بتعيينه، سترًا عليه.
3 -
(ومنها) بيان أن الخير كلّه في الاتباع، سواء كان ذلك في العزيمة، أو الرخصة.
4 -
(ومنها): بيان أن استعمال الرخصة بقصد الاتباع في المحل الذي وردت فيه أَولى من استعمال العزيمة، بل ربما كان استعمال العزيمة حينئذ مرجوحًا، كما في إتمام الصلاة في السفر
(1)
، وربما كان مذمومًا؛ إذا كان رغبةً عن السُّنَّة؛ كترك المسح على الخفين.
ونقل ابن التين عن الداوديّ أن التنزه عما ترخّص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب؛ لأنه يرى نفسه أتقى دئه تعالى من رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إلحاد.
قال الحافظ: لا شك في إلحاد من اعتقد ذلك، ولكن الذي اعتَلّ به من أُشيَر إليهم في الحديث أنه غُفر له ما تقدم وما تأخر؛ أي: فإذا ترخص في شيء لم يكن مثل غيره، ممن لم يُغْفَر له ذلك، فيحتاج الذي لم يُغْفَر له إلى الأخذ بالعزيمة والشدة؛ لينجو، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه، وإن كان غفر الله له، لكنه مع ذلك أخشى الناس لله، وأتقاهم، فمهما فعله صلى الله عليه وسلم من عزيمة، ورخصة، فهو فيه في غاية التقوى والخشية، لم يحمله التفضل بالمغفرة على ترك الجذ في العمل قيامًا بالشكر، ومهما ترخص فيه، فإنما هو للإعانة على العزيمة؛ ليعملها بنشاط. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): أن العبادة الأَولى فيها القصد، وملازمة ما يمكن الدوام عليه.
6 -
(ومنها): أن العلماء هم أخشى الناس دئه تعالى، كما قال الله عز وجل:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الآية [فاطر: 28].
7 -
(ومنها): أن الرجل الصالح ينبغي أن لا يترك الاجتهاد في العمل اعتمادًا على صلاحه.
8 -
(ومنها): أن الرجل يجوز له الإخبار بفضيلته؛ إذا دعت إلى ذلك
(1)
تقدّم في "كتاب الصلاة" أن القصر واجب على القول الراجح؛ لقوّة دليله، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 17/ 176، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7301).
حاجة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "فوالله لأنا أعلمهم
…
إلخ " مع أنه نهى عن تزكية النفس، فقال:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
9 -
(ومنها): جواز الغضب عند ردّ أمر الشرع، ونفوذ الحكم في حال الغضب، والتغير.
وقال النوويّ: وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع، وإن كان المنتهك متأوِّلًا تأويلًا باطلًا
(1)
.
10 -
(ومنها): أن القُرب إلى الله تعالى سبب لزيادة العلم به، وشدة خشيته.
11 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، وأن الدين يُسْر، وأن الشريعة حنيفية سمحة.
12 -
(ومنها): أن فيه الإشارةَ إلى شدة رغبة الصحابة رضي الله عنهم في العبادة، وطلبهم الازدياد من الخير
(2)
.
13 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله تعالى؛ لِمَا خصَّه الله تعالى به في أصل الخلقة، من كمال الفطنة، وجَوْدة القريحة، وسداد النظر، وسرعة الإدراك، ولمَا رفع الله تعالى عنه من موانع الإدراك، وقواطع النظر قبل تمامه، ومن اجتمعت له هذه الأمور سَهُل عليه الوصول إلى العلوم النظرية، وصارت في حقه كالضرورية، ثم إن الله تعالى قد أطلعه من علم صفاته وأحكامه، وأحوال العالم كلّه على ما لم يُطْلِع عليه غيره، وهذا كلُّه معلوم من حاله صلى الله عليه وسلم بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، وإذا كان في علمه بالله تعالى أعلم الناس لزم أن يكون أخشى الناس لله تعالى؛ لأنَّ الخشية منبعثة عن العلم، وبحسبه، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الآية [فاطر: 28]، وقد أشار بعض المتصوفة إلى أن علوم الأنبياء ضرورية، وسمّاها كشفًا، وهذا كلام فيه إجمالٌ، ويحتاج إلى استفصال، فيقال لقائله: إن أردت بكونها ضرورية أنها حاصلة في أصل فطرتهم، وأنهم جُبلوا عليها، بحيث لم يستعملوا في شيء منها أفكارهم، ولا حَدّقوا نحوها
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 107.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 167.
بصائرهم، ولا أنظارهم، فهو قول باطل؛ لِمَا يُعْلَم قطعًا أنهم مكلّفون بمعرفة الله، ومعرفة صفاته، وأحكامه، ومأمورون بها، والضروريّ لا يكلَّف به؛ لأنَّه حاصل، والحاصل لا يُطْلَب، ولا يبتغَى، ولأن الإنسان لا يتمكن من ترك ما جُبل عليه، ولا من فِعله، وما كان كذلك لم يقع في الشريعة التكليف به بالنصّ والإجماع، وإنما الخلاف في جوازه عقلًا، وإن أراد به أن تلك العلوم تصير في حقهم ضرورية بعد تحصيلها بالطرق النظرية، والقيام بالوظائف التكليفية، فتتوالى عليهم تلك العلوم، فلا يتأتى لهم التشكك فيها، ولا الانفكاك عنها، فنقول: ذلك صحيح في حقّ الأنبياء قطعًا، وخصوصًا في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما هو المعلوم من حاله، وحالهم -صلى الله عليه، وعليهم أجمعين -، وأما غيرهم فيجوز أن يُكرم الله تعالى بعض أوليائه بشيء من نوع ذلك، لكن على وجه الندور والقلة، وليس مُطردًا في كل الأولياء، ومن فُتِح له في شيء من ذلك ففي بعض الأوقات، وبعض المعلومات، ويكون ذلك خرقًا للعادات، فإنَّ سُنَّة الله تعالى في العلوم النظرية أنها لا تتوالى، ولا تدوم، ويمكن أن يُشكِّكَ فيما كان منها معلومًا، هذه سُنَّة الله الجارية، وحكمته الماضية، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلًا، ولا تحويلًا. انتهى
(1)
.
14 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: ويُستفاد من هذا الحديث النهي عن التنطع في الدين، وعن الأخذ بالتشديد في جميع الأمور فإنَّ دين الله يُسر، وهو الحنيفية السَّمحة، وإن الله يحب أن تؤتى رُخَصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وحاصل الأمر أن الواجب التمسك بالاقتداء بهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فما شدَّد فيه التزمناه على شدَّته، وفعلناه على مشقته، وما ترخص فيه أخذنا برخصته، وشكرنا الله تعالى على تخفيفه ونعمته، ومن رغب عن هذا، فليس على سُنَّته، ولا على منهاج شريعته. انتهى
(2)
.
15 -
(ومنها): ما قاله أيضًا: وفيه حجَّة على القول بمشروعية الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله، كما نقوله في جميع أقواله، إلا ما دلَّ دليل على أنه
(1)
"المفهم" 6/ 150 - 151.
(2)
"المفهم" 6/ 150 - 151.
من خصوصياته، وقد أوضحنا هذا في الأصول. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة الاقتداء بأفعال النبيّ صلى الله عليه وسلم جميعها إلا ما خُصّ به، قد استوفيت بحثه في "التحفة المرضيّة"
(2)
، و"شرحها" في الأصول، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6092]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ -يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ- (ح) وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، نَحْوَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) -بمعجمة مكسورة، وياء، ومثلّثة- ابن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيَّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بمعجمتين، وزانُ جعفر- المروزيّ، ثقةٌ من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
4 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، كوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) ضمير التثنية لحفص بن غياث، وعيسى بن يونس.
وقوله: (بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ
…
إلخ)؛ يعني: ابن عبد الحميد المذكور في الحديث الماض، وإسناده: عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها.
(1)
"المفهم" 6/ 151.
(2)
راجع: "التحفة المرضيّة" ص 46 - 48.
[تنبيه]: رواية حفص بن غياث عن الأعممش ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5750)
- حدّثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدّثنا الأعمش، حدّثنا مسلم، عن مسروق، قالت عائشة: صَنَع النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، فرَخَص فيه، فتنزّه عنه قومٌ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخَطَب، فحمد الله، ثم قال:"ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأَعْلَمُهم بالله، وأشدّهم له خشية". انتهى
(1)
.
ورواية عيسى بن يونس عن الأعمش ساقها ابن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1458)
- أخبرنا عيسى بن يونس، نا الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة، قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرًا، ترخَّص فيه، فبلغة أن أناسًا منهم بلغهم ذلك، فتنزهوا عنه، فخطبهم، فقال: "ما بال أقوام بلغهم أني صنعت أمرًا، ترخّصت فيه، يتنزهون عنه، والله إني لأعلمهم بالله، وأشدّهم له خشيةً. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6093]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: رَخَّصَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرٍ، فَتَنَزَّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النَّاس، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَغَضِبَ، حَتَّى بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِه، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمَّا رُخِّصَ لِي فِيهِ؟ فَوَاللهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِالله، وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قريبًا. والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله تعالى الحمد والمنّة.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2263.
(2)
"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 818.
(36) - (بَابُ وُجُوبِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا أَمَرَ، وَنَهَي، وَتَحْرِيمِ الاعْتِرَاضِ عَلَى حُكْمِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6094]
(2357) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَار، خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: سَرِّح الْمَاءَ يَمُرُّ. فَأَبِي عَلَيْهِمْ، فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "لِلزُّبَيْرِ:"اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ"، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"يَا زُبَيْرُ اسق، ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْرِ"، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللهِ إِنِّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء: 65]).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام الفقيه المدنيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب -بالمعجمة مصغرًا- قُتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين (ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
والباقيان تقدّما قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه شيخين فرَّق بينهما بالتحويل؛ لاختلافهما في كيفيّة التحمّل والأداء، فقتيبة أخذه سماعًا من ليث، ولذا قال:"حَدَّثَنَا ليث"، وابن رُمح أخذه منه بقراءة غيره عليه، ولذا قال:"أخبرنا الليث"، وأن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعي عن تابعيّ، وأن فيه عروةَ أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وأن صحابيّه، أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، وقد أذهب الله به مزاعم اليهود، حيث قالوا: نحن سحرناهم، فلا يولد لهم ولد، فأبطل الله تعالى تلك المزاعم بولادته، وفرح المسلمون به فرحًا شديدًا، وأن أول ما ولج بطنه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث حنّكه، وأنه شرب دمه صلى الله عليه وسلم، فكان من أقوى الناس، وأشجعهم رضي الله عنه، ووَليَ الخلافة تسع سنين، إلى أن قُتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين، كما ذكرناه آنفًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ)، وفي رواية للبخاريّ من طريق ابن جريجٍ، عن ابن شهاب، عن عروة أنه حدّثه (أَنَّ) أخاه (عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) قال الحافظ رحمه الله تعالى: هذا هو المشهور من رواية الليث بن سعد، عن ابن شهاب، وقد رواه ابن وهب، عن الليث ويونس جميعًا، عن ابن شهاب، أن عروة حدثه، عن أخيه عبد الله بن الزبير، عن الزبير بن العوام. أخرجه النسائي، وابن الجارود، والإسماعيلي. وكأن ابن وهب حَمَل رواية الليث، على رواية يونس، وإلا فرواية الليث ليس فيها ذِكر الزبير. والله أعلم.
وأخرجه البخاريّ في "الصلح" من طريق شعيب، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن الزبير بغير ذِكر عبد الله. وقد أخرجه البخاريّ في الباب الذي يليه من طريق معمر، عن ابن شهاب، عن عروة مرسلًا، وأعاده في "التفسير" من وجه آخر عن معمر، وكذا أخرجه الطبري، من طريق عبد الرَّحمن بن إسحاق، حدثنا ابن شهاب، وأخرجه البخاريّ من رواية ابن
جريجٍ كذلك بالإرسال، لكن أخرجه الإسماعيلي، من وجه آخر عن ابن جريجٍ كرواية شعيب التي ليس فيها:"عن عبد الله".
وذكر الدارقطني في "العلل" أن ابن أبي عَتِيق، وعُمر بن سَعْد وافقا شعيبًا وابن جريجٍ، على قولهما:"عروة عن الزبير"، قال: وكذلك قال أحمد بن صالح، وحرملة، عن ابن وهب، قال: وكذلك قال شبيب بن سعيد، عن يونس، قال: وهو المحفوظ.
قال الحافظ: وإنما صححه البخاري مع هذا الاختلاف؛ اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه، وعلى صحة سماع عبد الله بن الزبير، من النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفما دار فهو على ثقة، ثم الحهديث وَرَدَ في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه، وقد وافقه مسلم على تصحيح طريق الليث، التي ليس فيها ذِكر الزبير.
وزعم الحميدي في "جَمْعه" أن الشيخين أخرجاه من طريق عروة، عن أخيه عبد الله، عن أبيه، وليس كما قال، فإنه بهذا السياق في رواية يونس المذكورة، ولم يُخرجها من أصحاب الكتب الستة إلَّا النسائي، وأشار إليها الترمذي خاصة.
وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري، والطبراني، من حديث أم سلمة، وهي عند الزهري أيضًا، من مرسل سعيد بن المسيب، كما سيأتي بيانه. انتهى
(1)
.
(أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) زاد في رواية شعيب: "قد شهد بدرًا"، وفي رواية عبد الرَّحمن بن إسحاق، عن الزهري، عند الطبري، في هذا الحديث: أنه من بني أمية بن زيد، وهم بطن من الأوس. ووقع في رواية يزيد بن خالد، عن الليث، عن الزهري، عند ابن المقري في "معجمه" في هذا الحديث: أن اسمه حميد. قال أبو موسى المديني في "ذيل الصحابة": لهذا الحديث طُرُقٌ، لا أعلم في شيء منها ذِكر حميد، إلَّا في هذا الطريق. انتهى.
وليس في البدريين من الأنصار من اسمه حميد. وحَكَى ابن بشكوال في
(1)
"الفتح" 5/ 307 - 308.
"مبهماته" عن شيخه أبي الحسن بن مُغِيث، أنه ثابت بن قيس بن شَمّاس، قال: ولم يأت على ذلك بشاهد.
قال الحافظ: وليس ثابت بدريًّا. وحَكَى الواحدي أنه ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الذي نزل فيه قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية [التوبة: 75]، ولم يذكر مستَنَده، وليس بدريًا أيضًا، نعم ذكر ابن إسحاق في البدريين ثعلبة بن حاطب، وهو من بني أمية بن زيد، وهو عندي غير الذي قبله؛ لأنَّ هذا ذَكر ابن الكلبي أنه استُشهِد بأُحُد، وذاك عاش إلى خلافة عثمان. وحَكَى الواحدي أيضًا، وشيخه الثعلبي، والمهدوي: أنه حاطب بن أبي بلتعة.
وتُعُقّب بأن حاطبًا، وإن كان بدريًا، لكنه من المهاجرين، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم، من طريق سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، في قوله تعالى: فَلَاوَرَئمكَ لَا لؤينُولتَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65]، قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة، اختصما في ماء
…
الحديث، وإسناده قوي مع إرساله، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير، فيكون موصولًا، وعلى هذا فيُؤَوّل قوله:"من الأنصار" على إرادة المعنى الأعم، كما وقع ذلك في حق غير واحد؛ كعبد اللُّه بن حُذَافة.
وأما قول الكرماني بأن حاطبًا كان حليفًا للأنصار، ففيه نظر. وأما قوله:"من بني أمية بن زيد"، فلعله كان مسكنه هناك؛ كعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر الثعلبي بغير سند: أن الزبير وحاطبًا لَمّا خرجا مَرّا بالمقداد، قال: لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قَضَى لابن عمته، ولوى شِدْقه، فَفَطَنَ له يهودي، فقال: قاتل الله هؤلاء، يشهدون أنه رسول الله، ويتهمونه. وفي صحة هذا نَظَر. ويترشح بأن حاطبًا كان حليفًا لآل الزبير بن العوام، من بني أسد، وكأنه كان مجاورًا للزبير. والله أعلم.
وأما قول الداودي، وأبي إسحاق الزجاج، وغيرهما: إن خصم الزبير كان منافقًا، فقد وجّهه القرطبي بأن قول من قال: إنه كان من الأنصار؛ يعني: نسبًا، لا دِينًا، قال: وهذا هو الظاهر من حاله. ويحتمل أنه لَمْ يكن منافقًا، ولكن أصدر ذلك منه بادرةُ نفس، وزلّة شيطان، كما قد اتّفق لحاطب بن أبي
بَلْتعة، ولحسّان، ومِسْطَح، وحَمْنَة في قضيّة الإفك، وغيرهم ممن بدرت منهم بوادر شيطانيّة، وأهواء نفسانيّة، لكن لُطِف بهم حتى رجعوا عن الزلّة، وصحّت لهم التوبة، ولم يؤاخذوا بالْحَوْبة
(1)
.
وقَوَّى هذا شارح المصابيح التوربشتيُّ، وَوَهَّى ما عداه، وقال: لَمْ تَجْر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال: بل هي زلة من الشيطان، تمكَّن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكَر من غير المعصوم في تلك الحالة. انتهى.
وقد قال الداودي بعد جزمه بأنه كان منافقًا: وقيل: كان بدريًّا، فإن صح فقد وقع ذلك قبل شهودها؛ لانتفاء النفاق عمن شهدها. انتهى.
وقد عرفتَ أنه لا ملازمة بين صدور هذه القضية منه، وبين النفاق.
وقال ابن التين: إن كان بدريًا، فمعنى قوله:{لَا يُؤْمِنُونَ} لا يستكملون الإيمان. انتهى
(2)
.
(خَاصَمَ الزُّبَيْرَ) وفي رواية معمر عند البخاريّ: "خاصم الزبيرُ رجلًا".
والمخاصمة: مفاعلة من الجانبين، فكلٌّ منهما مخاصم للآخر. (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ)"الشِّرَاج" -بكسر المعجمة، وبالجيم-: جَمْع شَرْجٍ -بفتح أوله، وسكون الراء- مثل بَحْر وبِحَار، ويُجمع على شُرُوج أيضًا. وحكى ابن دُريد: شَرَج -بفتح الراء-. وحكى القرطبي: شَرَجَة. والمراد بها هنا: مَسِيلُ الماء، وإنما أضيفت إلى الحرة، لكونها فيها.
و"الحرّة": موضع معروف بالمدينة، وهي في خمسة مواضع، المشهور منها اثنتان: حَرّة واقم، وحَرّةُ ليلى. وقال الداوديّ: هو نهر عند الحرة بالمدينة، فأغرب، وليس بالمدينة نهر. قال أبو عبيد: كان بالمدينة واديان يسيلان بماء المطر، فيتنافس الناس فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعلى فالأعلى.
(التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ) وفي رواية شعيب عند البخاريّ: "كانا يسقيان بها كلاهما".
(1)
"المفهم" 6/ 153 - 154.
(2)
"الفتح" 5/ 308 - 309.
(فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ)؛ أي: للزبير، (سَرِّحِ الْمَاءَ) فعل أمر من التسريح؛ أي: أطلقه. وقوله: (يَمُرُّ) جملة في محل نصب على الحال من "الماء"؛ أي: حال كونه مارًّا. وإنما قال له ذلك؛ لأن الماء كان يمرّ بأرض الزبير، قبل أرض الأنصاري، فيحبسه؛ لإكمال سقي أرضه، ثم يرسله إلى أرض جاره، فالتمس منه الأنصاري تعجيل ذلك (فَأَبَى عَلَيْهِمْ)؛ أي: فامتنع الزبير على ذلك الرجل، وأصحابه من التسريح قبل إكمال سقي أرضه، (فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مشيرًا إلى الصلح، قبل القضاء ("اسْقِ يَا زُبَيْرُ) بوصل الهمزة، وقطعها، يقال: سقاه، وأسقاه، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وقال تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16].
وزاد في رواية البخاريّ: "فأَمَره بالمعروف"، وهي جملة معترضة من كلام الراوي، وقد أوضحه شعيب في روايته، حيث قال في آخره:"وكان قد أشار على الزبير برأي، فيه سعة له وللأنصاري"، وضبطه الكرماني:"فأَمِرَّهُ" -بكسر الميم، وتشديد الراء- على أنه فعلُ أمْر من الإمرار، وهو مُحْتَمِلٌ.
وقال الخطابي: معناه: أمَرَه بالعادة المعروفة، التي جرت بينهم في مقدار الشرب. انتهى. ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أمَره بالقصد، والأمر الوسط؛ مراعاةً للجوار، وهو ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم أمَره أوّلًا أن يسامح ببعض حقه، على سبيل الصلح، وبهذا ترجم الإمام البخاريّ في "كتاب الصلح":"إذا أشار الإمام بالمصلحة"، فلمّا لَمْ يَرْضَ الأنصاريّ بذلك، استقصى الحكم، وحَكَم به.
وحكى الخطابيّ أن فيه دليلًا على جواز فسخ الحاكم حكمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأيّ الأمرين شاء، فقدَّم الأسهل؛ إيثارًا لحسن الجوار، فلمّا جَهِل الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ في زجره.
وتُعُقِّب بأنه لَمْ يثبت الحكم أَوّلًا، كما تقدم بيانه، قال: وقيل: بل الحكم كان ما أمر به أولًا، فلمّا لَمْ يقبل الخصم ذلك، عاقبه بما حَكَم عليه به ثانيًا، على ما بَدَر منه، وكان ذلك لمّا كانت العقوبة بالأموال. انتهى.
وقد وافق ابنُ الصباغ من الشافعية على هذا الأخير. قال الحافظ: وفيه نَظَر، وسياق طرق الحديث يابى ذلك كما تري، لا سيما قوله: "واستوفى
للزبير حقه، في صريح الحكم"، فمجموع الطرق دالّ على أنه أمر الزبير أولًا أن يترك بعض حقه، وثانيًا أن يستوفي جميع حقه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله
(2)
: والمخاصمة إنما كانت في السقي بالماء الذي يسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَربه على شَرب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصلح، فقال له:"اسق يا زبير"(ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ")؛ أي: تساهل في سقيك، وعجّل في إرسال الماء إلى جارك، يحُضّه على المسامحة والتيسير. (فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ) لمّا سمع بهذا، ولم يرضَ به" لأنه كان يريد أن لا يُمسك الماء أصلًا، وعند ذلك نَطَق بالكلمة الجائرة، المهلكة الفاقرة. (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟) -بفتح همزة "أَنْ"- وهي للتعليل؛ كأنه قال: حكمتَ له بالتقديم؛ لأجل أنه ابن عمتك؛ أي: لأن أم الزبير: هي صفية بنت عبد المطلب، عمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال البيضاوي: يُحذف حرف الجر من "أَنْ" كئيرًا، تخفيفًا، والتقدير: لأنَّ كان، أو بأن كان، ونحوُهُ:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)} [القلم: 14]؛ كما أي: لا تطعه لأجل ذلك.
وحكى القرطبي تبعًا لعياض أن همزة "أن" ممدودة، قال: لأنه استفهام على جهة إنكار. قال الحافظ: ولم يقع لنا في الرواية مَدٌّ، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام.
وحكى الكرماني: "إِنْ كان" -بكسر الهمزة- على أنَّها شرطية، والجواب محذوف. قال الحافظ: ولا أعرف هذه الرواية، نَعَم وقع في رواية عبد الرَّحمن بن إسحاق: فقال: "اعدِل يا رسول الله، وإن كان ابن عمتك"، والظاهر أن "إِنْ" هذه بالكسر، و"ابْنَ" بالنصب على الخبرية.
ووقع في رواية معمر عند البخاريّ: "أنه ابن عمتك". قال ابن مالك: يجوز في "أنه" -بفتح الهمزة، وكسرها-؛ لأنَّها وقعت بعد كلام تام، مُعَلَّل بمضمون ما صُدِّر بها، فإذا كُسرت قُدّر ما قبلها الفاءُ، وإذا فتحت قُدّر ما قبلها
(1)
"الفتح" 5/ 313.
(2)
"المفهم" 6/ 154.
اللامُ، وبعضهم يقدّر بعد الكلام المصدّر بالمكسورة، مثل ما قبلها مقرونًا بالفاء، فيقول في قوله مثلًا: اضربه إنه مسيء: اضربه إنه مسيء، فاضربه، ومن شواهده:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} الآية [الإسراء: 32]، ولم يُقرأ هنا إلَّا بالكسر، وإن جاز الفتح في العربية، وقد ثبت الوجهان في قوله تعالى:{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)} [الطور: 28]، قرأ نافع، والكسائي:{إِنَّهُ} بالفتح، والباقون بالكسر. انتهى
(1)
.
(فَـ) عند ذلك (تَلَوَّنَ)؛ أي: تغيَّر (وَجْهُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وهو كناية عن الغضب، والتألّم من كلمته، زاد عبد الرَّحمن بن إسحاق في روايته:"حتى عرفنا أن قد ساءه ما قال".
والمعنى: أن وجهه صلى الله عليه وسلم تغيّر من شدّة الغضب؛ لانتهاك حرمات النبوة، وقُبح كلام هذا الإنسان.
(ثُمَّ) إنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حَكَم للزبير باستيفاء حقّه، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا زُبَيْرُ اسْقِ) بالضَّبطين المتقدّمين، (ثُمَّ احْبِسِ الْمَاءَ) بكسر الباء الموحّدة: أمْر من الحَبْس؛ أي: أمْسِكه، ولا تُرسله إليه (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْجَدْر")؛ أي: إلى أن يصير الماء إلى الجدر، بفتح الجيم وكسرها، وبالدال المهملة، وهو: الجدار، وجَمْع الجدار: جُدُر ككتاب وكتب، وجَمْع الْجَدْر: جُدُور؛ كفلس وفلوس.
ومعنى يرجع إلى الجدر: أي: يصير إليه، والمراد بالجدر: أصل الحائط. وقيل: أصول الشجر، والصحيح الأول. وقدَّره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبتلّ كعب رِجْلِ الإنسان، فلصاحب الأرض الأُولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحدّ، ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبير صاحب الأرض الأولى، فَأَدَلّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"اسق، ثم أرسل الماء إلى جارك"؛ أي: اسق شيئًا يسيرًا، دون قَدْر حقك، ثم أرسله إلى جارك؛ إدلالًا على الزبير، ولعِلمه بأنه يرضى بذلك، ويُؤْثِر الإحسان إلى جاره، فلما قال الجار ما قال، أمره أن يأخذ جميع حقه. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "الجدر" -بفتح الجيم، وسكون الدال المهملة- هو
(1)
راجع: "الْفَتْحُ" 5/ 310.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 108.
الْمُسَنّاة، وهو: ما وُضع بين شَرَبَات النخل؛ كالجدار. وقيل: المراد: الحواجز التي تَحْبِس الماء، وجزم به السهيلي. ويُروَى "الْجُدُر" بضم الدال، حكاه أبو موسى، وهو جَمْع جِدار. وقال ابن التين: ضُبِط في أكثر الروايات بفتح الدال، وفي بعضها بالسكون، وهو الذي في اللغة، وهوأصل الحائط. وقال القرطبي: لَمْ يقع في الرواية إلَّا بالسكون، والمعنى: أن يصل الماء إلى أصول النخل. قال: ويُروَى -بكسر الجيم -: وهو الجدار، والمراد به: جُدران الشَّرَبَات التي في أصول النخل، فإنها تُرفَعُ، حتى تصير تُشْبه الجدار.
و"الشَّرَبَات" -بمعجمة، وفتحات: هي الْحُفَرُ التي تُحفَر في أصول النخل. وحكى الخطابي: "الجذر" بسكون الذال المعجمة، وهو جذر الحساب، والمعنى: حتى يبلغ تمام الشرب.
قال الكرماني: المراد بقوله: "أمسك"؛ أي: أمسك نفسك عن السقي، ولو كان المراد: أمسك الماء، لقال بعد ذلك: أرسل الماء إلى جارك.
وتُعُقِّب بأنه ثبت التصريح به في هذه الرواية، حيث قال:"احبس الماء"، وفي رواية معمر عند البخاريّ في "التفسير" قال:"ثم أرسل الماء إلى جارك".
والحاصل: أن أمْره بإرسال الماء كان قبل اعتراض الأنصاري، وأمْره بحبسه كان بعد ذلك.
وقال في "المفهم": والمخاصمة: إنما كانت في السقي بالماء الذي يَسيل فيها، وكان الزبير يتقدّم شَرْبُهُ على شَرْب الأنصاريّ، فكان الزبير يُمسك الماء لحاجته، فطلب الأنصاريّ أن يُسرّحه له قبل استيفاء حاجته، فلما ترافعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم معهما مسلك الصلح، فقال له:"اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك"؛ أي: تساهل في سقيك، وعَجّلْ في إرسال الماء إلى جارك، يَحُضُّه على المسامحة والتيسير، فلمّا سمع الأنصاريّ بهذا لَمْ يَرْضَ بذلك، وغَضِبَ؛ لأنه كان يُريد أن لا يُمسك الماء أصلًا، وعند ذلك نَطَق بالكلمة الجائرة المهلِكة الفاقرة، فقال: آن كان ابن عمّتك؟ بمدّ همزة "أن" المفتوحة؛ لأنه استفهام على جهة الإنكار؛ أي: أتحكم له عليّ؛ لأجل أنه من قرابتك؟ وعند ذلك تلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا، وتألّمًا من كلمته، ثم إنه بعد ذلك حَكَم للزبير باستيفاء حقّه، فقال: "اسق يا زبير، ثم أمسك الماء حتى
يرجع إلى الجدر". وفي غير هذه الرواية
(1)
: "فاستوعى للزبير حقّه". انتهى
(2)
.
[تنبيه]: ذكر البخاريّ رحمه الله تعالى في "صحيحه" بعد سوقه الحديث من طريق ابن جريجٍ، عن الزهريّ ما نصّه: فقال لي ابن شهاب: فقدّرت الأنصار والناس قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اسق، ثم احبس حتى يرجع إلى الجَدْر، وكان ذلك إلى الكعبين. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: "فقال لي ابن شهاب" القائل هو ابن جريجٍ، راوي الحديث. وقوله:"وكان ذلك إلى الكعبين"؛ يعني: أنهم لَمّا رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر، قاسوا ما وقعت فيه القصّة، فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيارًا لاستحقاق الأول، فالأول.
والمراد بالأول هنا: من يكون مبدأ الماء من ناحيته. وقال بعض المتأخرين من الشافعيّة: المراد: من لَمْ يتقدمه أحد في الغِرَاس بطريق الأحياء، والذي يليه من أحيا بعده، وهَلُمَّ جَرًّا. قال: وظاهر الخبر أن الأول من يكون أقرب إلى مجرى الماء، وليس هو المرادَ.
وقال ابن التين: الجمهور على أن الحكم أن يُمْسِك إلى الكعبين، وخصَّه ابن كنانة بالنخل والشجر، قال: وأما الزروع فإلى الشِّرَاك. وقال الطبري: الأراضي مختلفة، فيُمسك لكل أرض ما يكفيها؛ لأنَّ الذي في قصة الزبير واقعة عَيْن. واختلف أصحاب مالك: هل يرسل الأول بعد استيفائه جميع الماء، أو يرسل منه ما زاد على الكعبين؟ والأول أظهر. ومحله إذا لَمْ يبق له ول حاجة. والله أعلم.
وقد وقع في مرسل عبد الله بن أبي بكر في "الموطأ": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مسيل مَهْزُور، ومُذَينب أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل". و"مهزور" -بفتح أوله، وسكون الهاء، وضم الزاي، وسكون الواو، بعدها راء. و"مُذينب" -بذال معجمة، ونون بالتصغير -: واديان معروفان بالمدينة. وله إسناد موصول في غرائب مالك للدارقطني، من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وأخرجه أبو داود، وابن ماجه، والطبري من حديث
(1)
هي رواية البخاريّ برقم (2362).
(2)
"المفهم" 6/ 154.
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وإسناد كل منهما حسن.
وأخرج عبد الرزاق هذا الحديث المرسل، بإسناد آخر موصول، ثم رَوَى عن معمر، عن الزهري قال: نظرنا في قوله: "احبس الماء حتى يبلغ الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين. انتهى.
وقد رَوَى البيهقي من رواية ابن المبارك، عن معمر قال: سمعت غير الزهري يقول: نظروا في قوله: "حتى يرجع إلى الجدر"، فكان ذلك إلى الكعبين، وكأن معمرًا سمع ذلك من ابن جريجٍ، فأرسله في رواية عبد الرزاق، وقد بيَّن ابن جريجٍ أنه سمعه من الزهري. ووقع في رواية عبد الرَّحمن بن إسحاق:"احبس الماء إلى الجدر، أو إلى الكعبين"، وهو شك منه، والصواب ما رواه ابن جريجٍ. وذكر الشاشي من الشافعية أن معنى قوله:"إلى الجدر"؛ أي: إلى الكعبين، وكانه أشار إلى هذا التقدير، وإلا فليس الجدر مرادفًا للكعب. انتهى
(1)
.
قَالَ عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما (فَقَالَ الزُّبَيْرُ) رضي الله عنه (وَاللهِ إِنِّي لَأَحْسِبُ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ) قال في "الفتح": ووقع في رواية ابن جريجٍ: "فقال الزبير: والله إن هذه الآية أُنزلت في ذلك"، وفي رواية عبد الرَّحمن بن إسحاق:"ونزلت: {فَلَا وَرَبِّكَ} الآية [النساء: 65] ".
والراجح رواية الأكثر، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك. لكن وقع في رواية أم سلمة عند الطبري، والطبراني، الجزم بذلك، وأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه، وكذا في مرسل سعيد بن المسيِّب، الذي تقدمت الإشارة إليه.
وجزم مجاهد، والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الآية [النساء: 60]. فرَوَى إسحاق بن راهويه في "تفسيره" بإسناد صحيح، عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود، ورجل من المنافقين خصومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه على عِلْم أنه لا يقبل الرشوة، ودعا المنافق اليهوديّ إلى حُكّامهم؛ لأنه
(1)
"الفتح" 5/ 313 - 314.
علم أنهم يأخذونها، فأنزل الله هذه الآيات، إلى قوله:{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد نحوه.
وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس: أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلميّ قبل أن يُسْلِم، وَيصْحَبَ.
ورَوَى بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد: أنه كعب بن الأشرف.
وقد رَوَى الكلبي في "تفسيره" عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية، في رجل من المنافقين، كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف، فذكر القصة، وفيه: أن عمر قتل المنافق، وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات، وتَسميةِ عمر الفاروقَ، وهذا الإسناد، وإن كان ضعيفًا، لكن تقوَّى بطريق مجاهد، ولا يضره الاختلاف؛ لإمكان التعدد.
وأفاد الواحدي بإسناد صحيح، عن سعيد، عن قتادة، أن اسم الأنصاري المذكور: قيس.
ورجَّح الطبري في "تفسيره" وعزاه إلى أهل التأويل في "تهذيبه" أن سبب نزولها هذه القصة؛ ليتّسق نظام الآياتِ كلها في سبب واحد، قال: ولم يَعرِض بينها ما يقتضي خلاف ذلك، ثم قال: ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك، فيتناولها عموم الآية
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الطبريّ حسنٌ جدًّا؛ جمعًا بين الآثار المذكورة، وإلا فما في "الصحيح" أصحّ. والله تعالى أعلم.
({فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}) قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في "تفسيره": يُقسِم الله تعالى بنفسه المكريمة المقدسة أنه لا يؤمِن أحد حتى يُحَكِّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حَكَم به، فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال:{ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا} الآية [النساء: 65]؛ أي: إذا حكّموك يطيعونك في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حَرَجًا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن،
(1)
راجع: "الفتح" 5/ 310 - 311.
فيُسلّمون لذلك تسليمًا كلئأ من غير ممانعة، ولا مدافعة، ولا منازعة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى):
حديث عبد الله بن الزبير بن العوّام رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 6594](2357)، و (البخاريّ) في "المساقاة"(2360 و 2361 و 2363) و"الصلح"(2708) و"التفسير"(4585)، و (أبو داود) في "الأقضية"(3637)، و (الترمذيّ) في "الإحكام"(1363)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5409 و 5418) و"الكبرى"(5963 و 5977)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(15) و"المرهون"(2480)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 4 - 5)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(24)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9912)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1021)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 364)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 153 و 10/ 106)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث عند مسلم، وكذا عند البخاريّ من مسند عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، من رواية أخيه عروة عنه، وثبت أيضًا من مسند الزبير رضي الله عنه من رواية عروة عن أبيه الزبير عند البخاريّ في "الصلح"(2708)، ومرسلًا في "المساقاة"(2361 و 2362)، و"التفسير"(4585)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 165)، و (الطبريّ) في "التفسير"(9913)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 153 - 154 و 10/ 106)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2194)، وقد صحّ سماع عروة عن أبيه، كما في "تاريخ البخاريّ"(7/ 31).
والحاصل: أن الحديث صحيح من مسند الزبير نفسه، ومن مسند وَلَدِه عبد الله رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 532.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب اتّباعه صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان جواز الحكم في حالة الغضب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختُلف في الحاكم الأمين غيره صلى الله عليه وسلم، والأرجح عدم الجواز؛ لأنَّ ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، دون غيره؛ لأنه معصوم في حالة الغضب؛ كحالة الرضا.
قال القرطبيّ رحمه الله: [فإن قيل]: كيف حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم للزبير على الأنصاريّ في حال غضبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يقضي القاضي، وهو غضبان"؟.
[فالجواب]: أنا قدّمنا أن هذا معلّل بما يُخاف على القاضي من التشويش المؤدّي به إلى الغلط في الحكم، والخطأ فيه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدالّ على صدقه فيما يبلّغه عن الله تعالى، وفي أحكامه، ولذلك قالوا: أنكتب عنك في الرضا والغضب؟ قال: "نعم"، فدلّ على أنَّ المراد بالحديث: من يجوز عليه الخطأ من القضاة، فلم يدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك العموم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن من سبق إلى شيء من مياه الأودية والسيول، التي لا تُملك، فهو أحقّ به، لكن ليس له إذا استغنى أن يحبس الماء عن الذي يليه.
4 -
(ومنها): أن الأَولى بالماء الجاري الأولُ، فالأولُ، حتى يستوفي حاجته، وهذا ما لَمْ يكن أصله ملكًا للأسفل، مختصًّا به، فليس للأعلى أن يشرب منه شيئًا، وإن كان يمرّ عليه.
5 -
(ومنها): أن القَدْر الذي يستحقّ الأعلى من الماء كفايته، وغاية ذلك أن يبلغ الماء إلى الكعبين.
6 -
(ومنها): أن للحاكم أن يشير بالصلح بين الخصمين، ويأمر به، ويرشد إليه، ولا يُلزمه به، إلَّا إذا رضي.
7 -
(ومنها): أن الحاكم يستوفي لصاحب الحقّ حقّه؛ إذا لَمْ يتراضيا، وأن يحكم بالحق لمن توجه له، ولو لَمْ يسأله صاحب الحقّ.
8 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: أن فيه الاكتفاءَ من الخصوم بما
(1)
"المفهم" 6/ 155.
يُفهَم عنه مقصودهم، وأن لا يكلّفوا النصّ على الدعاوي، ولا تحديد المدّعى فيه، ولا حصره بجميع صفاته، كما قد تنطّع في ذلك قُضاة الشافعيّة.
9 -
(ومنها): مشروعيّة توبيخ من جفا على الحاكم، ومعاقبته.
10 -
(ومنها): أنه يُسْتَدلّ به على أنَّ للإمام أن يعفو عن التعزير المتعلّق به، لكن محل ذلك ما لَمْ يؤدّ إلى هتك حرمة الشرع، والاستهانة بأحكامه، فإن أدّى إلى ذلك أُدّب المرتكب، وهذا هو الذي صدر من خصم الزبير، فقد آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكنه لَمْ يقتله؛ لعظيم حِلمه، وكريم صَفْحه؛ امتثالًا لأمر الله عز وجل له بقوله:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85]، وقوله:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، ولئلا يكون قَتْله منفّرًا لغيره عن الدخول في دين الإسلام. قال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": فلو صدر اليوم مثل هذا من أحد في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لقُتل قِتْلَةَ زنديق. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: فلو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاريّ اليومَ من إنسان، مِنْ نِسْبَته صلى الله عليه وسلم إلى هوي، كان كفرًا، وجرت على قائله أحكام المرتدين، فيجب قَتْله بشَرْطه، قالوا: وإنما تركه النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس، وَيدْفَع بالتي هي أحسن، ويصبر على أذى المنافقين، ومن في قلبه مرض، ويقول:"يَسِّرُوا، ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تنفروا"، ويقول:"لا يتحدث الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه"، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13]. انتهى
(2)
.
11 -
(ومنها): ما حكاه الخطابيّ رحمه الله أن فيه دليلًا على جواز فسخ الحاكم حُكْمه، قال: لأنه كان له في الأصل أن يحكم بأيّ الأمرين شاء، فقدَّم الأسهل إيثارًا لِحُسن الجوار، فلمّا جَهِلَ الخصم موضع حقه، رجع عن حكمه الأول، وحكم بالثاني؛ ليكون ذلك أبلغ في زجره.
وتُعُقّب بأنه لَمْ يثبت الحكم أَوّلًا كما تقدم بيانه.
قال: وقيل: بل الحكم كان ما أَمَرَ به أَوّلًا، فلمّا لَمْ يقبل الخصم ذلك
(1)
"المفهم" 6/ 157.
(2)
"شرح مسلم" 15/ 108.
عاقبه بما حَكَم عليه به ثانيًا على ما بَدَر منه، وكان ذلك لمَّا كانت العقوبة بالأموال. انتهى. وقد وافق ابن الصباغ من الشافعية على هذا الأخير.
قال الحافظ: وفيه نظر، وسياق طُرُق الحديث يأبى ذلك، كما ترى لا سيما قوله:"واستَوْعَى للزبير حقّه، في صريح الحكم"، فمجموع الطّرُق دالّ على أنه أَمَرَ الزبير أَوّلًا أن يترك بعض حقه، وثانيًا أن يستوفي جميع حقه. قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6095]
(1337)
(2)
- (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِي، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، قَالَا: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 904) أو (ت 104) وكان مولده سنة بضع وعشرين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 423.
والباقون تقدّموا قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، قَالَا: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ)(يُحَدِّثُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) شرطيّة، مبتدأ، (نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ)؛ أي: من المحرّمات، (فَاجْتَنِبُوهُ)؛ أي: ابتعدوا عنه، وفيه أنْ النهي على نقيض الأمر، وذلك أنه لا يكون مُمْتَثِلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومن فعل واحدًا فقد خالف، وعصي، فليس في النهي إلَّا ترك ما نُهي عنه
(1)
"الفتح" 5/ 313.
(2)
هذا الرقم تقدّم، فهو مكرّر.
مطلقًا دائمًا، وحينئذ يكون ممتثلًا لِتَرْك ما أُمِر بتركه، بخلاف الأمر، وقد تقدّم تمام البحث في هذا في "كتاب الحجِّ".
(وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ)؛ أي: من ذلك المأمور به (مَا اسْتَطَعْتُمْ)"ما" موصولة مفعول "افعلوا"؛ أي: الذي تستطيعون فعله، أو هي مصدريّة؛ أي: افعلوا قدر استطاعتكم.
قال النوويّ رحمه الله: هذا من قواعد الإسلام المهمّة، ومن جوامع الكلم التي أُعطيها صلى الله عليه وسلم، ويدخل فيه ما لا يُحصَى من الإحكام؛ كالصلاة بأنواعها، فإذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء، أو الغسل غَسَل الممكن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته، أو لغسل النجاسة، فَعَل الممكن، وإذا وجبت إزالة منكرات، أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم، أو نحو ذلك، وأمكنه البعض فعل الممكن، وإذا وجد ما يستر بعض عورته، أو حَفِظَ بعض الفاتحة أتى بالممكن، وأشباه هذا غير منحصرة. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)؛ أي: من اليهود والنصاري، و"من" بكسر الميم هي الجارّة بخلاف الرواية الآتية فإنها بفتح الميم موصولة، فتنبّه.
(كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ)؛ أي: سؤالهم ما لا ينبغي لهم سؤاله؛ كسؤالهم الرؤية، والكلام، وكقضيّة البقرة. (وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ")؛ يعني: أنهم إذا أمرهم الأنبياء بعد السؤال، أو قبله اختلفوا عليهم، فهلكوا، واستحقّوا الإهلاك.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الحجِّ" برقم [70/ 3258](1337) فإن شئت فارجع إليه، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6096]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ -وَهُوَ: مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ- أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَاد، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ سَوَاءً).
(1)
"شرح النوويّ" 9/ 106.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلمي القَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237) وله سبع وستون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
2 -
(أَبُو سَلَمَةَ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ) هو: مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ بن عبد العزيز البغداديّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 210) على الصحيح (خ م مد س) تقدم في "البيوع" 27/ 3985.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 239)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية يزيد بن الهاد عن ابن شهاب هذه ساقها البيهقيُّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(970)
- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا يحيى بن أبي طالب، ثنا أبو سلمة الخزاعيّ، ثنا ليث، عن يزيد -يعني: ابن الهاد- عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6097]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ - (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 1/ 215.
عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كُلُّهُمْ قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ذَرُونِي مَا تَرَكتُكُمْ"، وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: "مَا تُرِكْتُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
(1)
"، ثُمَّ ذَكَرُوا نَحْوَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ).
رجال هذا الإسناد: اثنان وعشرون:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(أَبو صَالِحِ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلُب الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) -بكسر الحاء المهملة- هو: المغيرة بن عبد الرَّحمن بن عبد الله بن خالد بن حِزَام المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عَسْقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
5 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
6 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرَّحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
7 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن معاذ بن نصر بن حَسّان الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظ، رَجّحَ ابنُ معين أخاه المثنّى عليه [10](ت 137)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
8 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
9 -
(مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبت، ربّما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.
(1)
وفي نسخة: "من قبلكم".
10 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن أبا معاوية، وعبد الله بن نُمير رويا هذا الحديث عن الأعمش
…
إلخ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ)؛ يعني: أن المغيرة الحِزاميّ، وسفيان بن عيينة رويا هذا الحديث عن أبي الزناد
…
إلخ.
وقوله: (كُلُّهُمْ قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: أن كل هؤلاء الأربعة، وهم: أبو صالح، والأعرج، ومحمد بن زياد، وهمّام بن منبّه قالوا: "عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ".
وقوله: ("ذَرُونِي) وفي رواية البخاريّ: "دَعُوني"؛ أي: اتركوني من السؤال عن القيود في المطلَقات، قال في "القاموس": ذَرْه؛ أي: دَعْه، يَذَرُه تركًا، ولا تقل: وَذْرًا، وأصله: وَذِرَهُ يَذَر؛ كوَسِعَه يَسَعُهُ، لكن ما نطقوا بماضيه، ولا بمصدره، ولا باسم الفاعل، أو قيل: وَذِرْتُهُ شاذًّا. انتهى.
(مَا تَرَكتُكُمْ")؛ أي: لأني مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الإحكام، فما كان مشروعًا أبيّنه لكم لا مَحَالَةَ، ولا حاجة إلى السؤال.
وقال السنديّ رحمه الله: "ما" مصدرية ظرفيّة؛ أي: مدّة تركي إياكم عن التكليف بالقيود فيها، وليس المراد: لا تطلبوا مني العلم ما دام لا أبيّنُ لكم بنفسي. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ما تركتكم"؛ أي: مدَّة تركي إياكم بغير أمر بشيء، ولا نهي عن شيء، فَإنما غاير بين اللفظين؛ لأنهم أماتوا الماضي، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو "يَذَرُ"، وفِعل الأمر، وهو "ذَرْ"، ومثله:"دَعْ"، و"يَدَعُ"، ولكن سُمع:"وَدَعَ"، كما قُرئ به في الشاذّ في قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3]، قرأ بذلك إبراهيم بن أبي عَبْلَة، وطائفة، وقال الشاعر [من الطويل]:
(1)
"شرح السنديّ على النسائي" 5/ 110.
وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
…
فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السُّمْرِ
ويَحْتَمِل أن يكون ذَكَر ذلك على سبيل التفنّن في العبارة، وإلا لقال: اتركوني.
والمراد بهذا الأمر: تَرْك السؤال عن شيء لَمْ يقع، خشية أن ينزل به وجوبه، أو تحريمه، وعن كثرة السؤال؛ لِمَا فيه غالبًا من التعنّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَلُ، فقد يؤدّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ هَمَّامٍ: "مَا تُرِكْتُمْ)؛ أي: بالبناء للمفعول؛ يعني: أن همّام بن منبّه رواه بلفظ: "مَا تُرِكْتُمْ".
وقوله: (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) وقع في بعض النُّسخ بلفظ: "مَن قبلكم"؛ أي: بحذف لفظ "كان"، و"من" في النسختين مفتوحة الميم، بخلاف الرواية السابقة، فإنها بكسر الميم، فتنبّه.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرُوا نَحْوَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ
…
إلخ) الضمير للأربعة المذكورين، وهم أبو صالح، والأعرج، ومحمد بن زياد، وهمام بن منبّه، فإنهم رووا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيّب عنه، ولو حذف لفظ الزهريّ، فقال: نحو حديث سَعِيدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، لكان أوضح؛ لأنَّ المتابعة لهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(13371)
- أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفّان العامريّ، ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَرُونِي ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنَّبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء، فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فانتهوا"، قال: رواه مسلم في "الصحيح" عن محمد بن عبد الله بن نُمير، عن أبيه. انتهى
(1)
.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 7/ 103.
ورواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" مقرونة، فقال:
(18)
- أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحيّ، حَدَّثَنَا إبراهيم بن بشار، حَدَّثَنَا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، وسفيان عن ابن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكئرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فانتهوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"، قال ابن عجلان: فحدثت به أبان بن صالح، فقال لي: ما أجود هذه الكلمة، قوله:"فأتوا منه ما استطعتم". انتهى
(1)
.
ورواية محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"
(2)
، فقال:
(9888)
- حَدَّثَنَا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ذَرُوني ما تركتكم، فإنما أهلك أهل الكتاب قبلكم، أو من كان قبلكم، بكثرة اختلافهم على أنبيائهم، وكثرة سؤالهم، فانظروا ما أمرتكم به، فاتبعوه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه، فدعوه، أو ذروه". انتهى
(3)
.
وتقدّمت للمصنّف رحمه الله في "الحج"، قال:
[70/ 3258](1337) - وحدّثني زهير بن حرب، حَدَّثَنَا يزيد بن هارون، أخبرنا الربيع بن مسلم القرشيّ، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج، فحُجُّوا"، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو قلت: نعم، لوجبت، ولَمَا استطعتم"، ثم قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم،
(1)
"صحيح ابن حبان" 1/ 198.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: إنما أوردت رواية أحمد رحمه الله مع أن مسلمًا ساقها؛ لكونها من رواية شعبة الموافقة لِمَا هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 456.
فإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فدَعُوه". انتهى
(1)
.
ورواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1693)
- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ أبو بكر القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلميّ، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن هَمّام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن محمد صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، وإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بالأمر، فأتوا منه ما استطعتم". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنئ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرَّمة - عفا الله عنه وعن والديه -:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء السابع والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى: "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"، بعد صلاة العصر من يوم الاثنين المبارك، وهو اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك
(3)
(15/ 9/ 1432 هـ) الموافق (15 أغسطس 2011 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
(1)
"صحيح مسلم" 2/ 975.
(2)
"سُنن البيهقي الكبرى" 1/ 388.
(3)
قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة شهران، و (22) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة.
{سُبْحَانَ ربِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الثامن والثلاثون مفتتحًا بـ (37) - (بَابُ وَجُوبِ تَوْقِيرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْكِ إِكْثَارِ سُؤَالِهِ عَمَّا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْهِ
…
إلخ) رقم الحديث [6098](2358).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *