الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: ابتدأتُ بكتابة الجزء الثامن والثلاثين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط" الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله يوم الاتنين المبارك الخامس عشر من شهر رمضان (15/ 9/ 1432 هـ).
(37) - (بَابُ وُجُوبِ تَوْقِيرِهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَرْكِ إِكْثَارِ سُؤَالِهِ عَمَّا لَا ضَرُورَةَ إِلَيْه، أَو لَا يَتَعَلَقُ بِهِ تَكْلِيفٌ، وَمَا لَا يَقَعُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6098]
(2358) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلتِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكْر بن عبد الرَّحمن التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226) على الصحيح (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، حجّة، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرة بن كلاب القرشيّ الزهريّ، أبو بكر الفقيه الحافظ، مُتَّفَقٌ على جلالته وإتقانه، وهو من رؤوس الطبقة [4](ت 125)، وقيل: قبل ذلك بسنة، أو سنتين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
4 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] مات سنة أربع ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 159.
5 -
(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة خمس وخمسين، على المشهور، وهو آخر العشرة وفاةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن أهلها، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين الأولين، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم، كما مرّ آنفًا، وأول من رَمَى بسهم في سبيل الله تعالى رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ)، وفي رواية يونس الآتية:"أنه سمع سعدًا"(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ)، وقوله:(فِي الْمُسْلِمِينَ) كان أصله نعتًا لـ "جُرْمًا" تقدّم عليه، فأُعرب حالًا؛ إذ القاعدة أن نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما في قول الشاعر [من مجزوّ الوافر]:
لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
…
يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ
(جُرْمًا) منصوب على التمييز؛ أي: من حيث الجُرم، قال ابن الأثير رحمه الله: الْجُرْم: الذَّنْب، وقد جَرَمَ، واجترم، وتجرّم. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: جَرَمَ جَرْمًا، من باب ضرب: أذنب، واكتسب الإثم، والاسم منه: جُرْمٌ بالضمّ، والجَرِيمَةُ مثله، وأَجْرَمَ، إِجْرَامًا كذلك. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الْجُرم والجريمة: الذَّنْب، وهذا صريحٌ في أن السؤال الذي يكون على هذا الوجه، ويحصل للمسلمين عنه هذا الحرج هو من
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 262.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 97.
أعظم الذنوب، وقال أبو الفرج ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا محمولٌ على أن من سأل عن الشيء عنتًا وعبثًا، فعوقب لسوء قَصْده بتحريم ما سأل عنه، والتحريم يعمّ، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: فيه من المبالغة أنه جعل نفسه عظيمًا، ففخّم، ثم فسَّره بقوله:"جُرْمًا"؛ ليدل على أنَّ الأعظم نفسه جرمٌ؛ كقوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} الآية [القمر: 12]، وقوله:"في المسلمين"؛ أي: في حقهم وَجِهَتهم، وإنما كان أعظم؛ لأنَّ سراية هذا الضرر عمّت المسلمين إلى انقراض العالم، وبيان ذلك أن القتل، وإن كان أكبر الكبائر بعد الشرك، فإنه يتعدّى إلى المقتول، أو إلى عاقلته، أو إلى قبيلته، ولكن جُرم من حُرّم ما سأل عنه لأجل مسألته يتعدّى إلى سائر المسلمين، فلا يمكن أن يوجد جُرم ينتهي في معنى العموم إلى هذا الحدّ.
قال: والسؤال في كتاب الله تعالى، وفي الحديث نوعان: أحدهما ما كان على طريق التكلّف والعنت، وهو مكروه يُنهى عنه، وكل ما كان من هذا الوجه، ووقع السكوت عن جوابه، فإنما هو ردعٌ وزجرٌ للسائل، فإن وقع الجواب عنه، فهو عقوبة وتغليظ.
وقال المظهر: هذا في حقّ من سأل عبثًا وتكلُّفًا؛ كمسألة بني إسرائيل في بيان البقرة، دون من يسأل سؤال حاجة، فهو مثابٌ؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
واحتجّ بهذا الحديث من يذهب إلى أن الأشياء قبل ورود الشرع بها على الإباحة حتى يقوم دليلٌ على الحظر. انتهى ما ذكره الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
(مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ)، وفي رواية سفيان التالية:"عن أمر"، وفي رواية معمر:"رجل سأل عن شيء، ونَقَّر عنه" وهو بفتح النون، وتشديد القاف، بعدها راء؛ أي: بالغ في البحث عنه، والاستقصاء. (لَمْ يُحَرَّمْ) بتشديد الراء مبنيًّا للمجهول، من التحريم، صفة لـ:"شيءٍ"، (عَلَى الْمُسْلِمِينَ) متعلّق
(1)
"المفهم" 6/ 166.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 620 - 621.
بـ "يُحرّم"، (فَحُرِّمَ) بتشديد الراء مبنيًّا للمجهول أيضًا، من التحريم. (عَلَيْهِمْ)، وفي رواية سفيان:"على الناس"، (مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ") مصدر ميميّ، مِن سأل؛ أي: لأجل سؤاله.
وأخرج البزار من وجه آخر عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "كان الناس يتساءلون عن الشيء من الأمر، فيسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو حلال، فلا يزالون يسالونه عنه حتى يُحَرَّم عليهم".
قال ابن بطال عن المهلَّب: ظاهر الحديث يَتَمسّك به القدرية في أن الله يفعل شيئًا من أجل شيء، وليس كذلك، بل هو على كل شيء قدير، فهو فاعل السبب والمسبَّب، كل ذلك بتقديره، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذُكِر، فعَظُم جُرْم مَن فعل ذلك؛ لكثرة الكارهين لفعله.
وقال غيره: أهل السُّنَّة لا ينكرون إمكان التعليل، وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون المقدّر الشيء الفلانيّ تتعلق به الحرمة، إن سئل عنه، فقد سبق القضاء بذلك، لا أن السؤال علة للتحريم.
وقال ابن التين: قيل: الجرم اللاحق به: إلحاق المسلمين المضرّة لسؤاله، وهي مَنْعهم التصرف فيما كان حلالًا قبل مسألته.
وقال عياض: المراد بالْجُرم هنا: الْحَدَث على المسلمين، لا الذي هو بمعنى الإثم المعاقَب عليه؛ لأنَّ السؤال كان مباحًا، ولهذا قال:"سلوني".
وتعَقَّبه النوويّ، فقال: هذا الجواب ضعيفٌ، بل باطلٌ، والصواب الذي قاله الخطابيّ، والتيميّ، وغيرهما، أن المراد بالجرم: الإثم والذنب، وحملوه على من سأل تكلفًا، وتعنتًا فيما لا حاجة له به إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الأمر بالسؤال عما يُحتاج إليه؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} الآية [الأنبياء: 7]، فمن سأل عن نازلة وقعت له؛ لضرورته إليها، فهو معذور، فلا إثم عليه، ولا عَتْبَ، فكلٌّ من الأمر بالسؤال، والزجر عنه مخصوص بجهة غير الأخرى.
قال الحافظ رحمه الله: ويؤيد ما ذهب إليه الجماعة من تأويل الحديث المذكور ما أخرجه الطبريّ من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن الحج: أفي كل عام؟: "لو قلت: نعم لوجبت، ولو
وجبت، ثم تركتم لضللتم"، وله من طريق أبي عياض، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "ولو تركتموه لكفرتم"، وبسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه مثله، وأصله في مسلم، عن أبي هريرة بدون الزيادة، وإطلاق الكفر إما على من جحد الوجوب، فهو على ظاهره، وإما على من تَرَك مع الإقرار، فهو على سبيل الزجر، والتغليظ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 6098 و 6099 و 6100](2358)، و (البخاريّ) في "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"(6289)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4610)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 270)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 176 و 179)، و (تمّام) في "فوائده"(2/ 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 105)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 223)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه يؤخذ منه أن من عَمِل شيئًا أضرّ به غيره كان آثمًا.
وسبك منه الكرمانيّ سؤالًا وجوابًا، فقال: السؤال ليس بجريمة، ولئن كانت، فليس بكبيرة، ولئن كانت فليس بأكبر الكبائر.
وجوابه أن السؤال عن الشيء بحيث يصير سببًا لتحريم شيء مباح هو أعظم الْجُرم؛ لأنه صار سببًا لتضييق الأمر على جميع المكلَّفين، فالقتل مثلًا كبيرة، ولكن مضرّته راجعة إلى المقتول وحده، أو إلى من هو منه بسبيل، بخلاف صورة المسألة، فضررها عامّ للجميع، وتَلَقَّى هذا الأخير من الطيبيّ استدلالًا وتمثيلًا.
قال الحافظ: وينبغي أن يضاف إليه أن السؤال المذكور إنما صار كذلك
(1)
"الفتح، 17/ 159 - 160، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7289).
بعد ثبوت النهي عنه، فالإقدام عليه حرام، فيترتب عليه الإثم، وبتعدِّي ضرره يَعْظُم الإثم، والله أعلم.
2 -
(ومنها): أنه يستفاد منه عِظَم الذَّنْب، بحيث يجوز وصف من كان السبب في وقوعه بأنه وقع في أعظم الذنوب، كما تقدم تقريره، والله أعلم.
3 -
(ومنها): بيان أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يَرِد الشرع بخلاف ذلك
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6099]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: - أَحْفَظُهُ كَمَا أَحْفَظُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَل عَنْ أَمْرٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطيُّ الأصلِ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيىى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صَنَفَ "المسند"، وكان لازَمَ ابن عيينةَ، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) بن أبي عِمران ميمون الهلاليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ حافظ فقيهٌ إمام حجّةٌ، وكان ربما دَلّس لكن عن الثقات، من رؤوس الطبقة [8] مات في رجب سنة (198) وله إحدى وتسعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 383.
(1)
"الفتح" 17/ 159 - 160، كتاب "الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة" رقم (7289).
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ: -أَحْفَظُهُ كَمَا أَحْفَظُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - الزُّهْرِيُّ).
قال الجامع عفا الله عنه: يَحْتَمِل أن "الزهريّ" فاعلًا لـ "قال"، وجملة "أحفظه
…
إلخ" معترضة بين الفعل والفاعل؛ للتأكيد، والمعنى: أحفظ هذا الحديث حفظًا مُتقنًا؛ كحفظي "بسم الله الرَّحمن الرحيم"، وهو غاية قوّة حفظه.
ويَحْتَمل أن يكون فاعلإ قال" ضمير سفيان، وجملة "أحفظه
…
إلخ" مقول القول، وقوله: "الزهريّ" فاعل لمحذوف اختصارًا؛ أي: حَدَّثَنَا الزهريّ، وهذا الوجه أقرب.
ووقع في رواية أبي يعلى في "مسنده" بلفظ: "حَدَّثَنَا سفيان بن عيينة، قال: أحفظ كما أحفظ بسم الله الرَّحمن الرحيم، عن الزهريّ
…
إلخ"، وهو واضح، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6100]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الإِسْنَاد، وَزَادَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ:"رَجُلٌ سَأَل عَنْ شَعءٍ، وَنَقَّرَ عَنْهُ"، وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عِمران، أبو حفص التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 187) وله اثنتان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، وقيل: سنة ستين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكِسّيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان وغير واحد، ثقةٌ حافظ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
5 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنِّف، شَهِيرٌ، عَمِي في آخر عمره، فتغيّر، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
6 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عُرْوة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، إلَّا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
وقوله: (وَنَقَّرَ عَنْهُ) -بفتح النون، وتشديد القاف، بعدها راء-؛ أي: بالغ في البحث عنه، والاستقصاء.
وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعْدًا)؛ يعني: أن يونس قال في روايته عن الزهريّ، عن عامر بن سعد أنه سمع سعدًا، فصرّح بسماع عامر عن أبيه سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية يونس بن يزيد عن الزهريّ ساقها تمّام رحمه الله في فوائده، إلَّا أنه لَمْ يصرّح بالسماع، فقال:
(1402)
- أخبرنا أبو مضر يحيى بن أحمد بن بسطام العبسيّ، ثنا عمر بن مضر العبسيّ، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح، حدّثني الليث بن سعد، حدّثني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لَمْ يُحَرَّم، فحُرّم على المسلمين من أجل مسألته". انتهى
(1)
.
(1)
"الفوائد لتمام الرازيّ" 2/ 152.
ورواية معمر عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1520)
- حَدَّثَنَا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر المسلمين في المسلمين جُرْمًا رجلًا سأل عن شيء، ونَقَّرَ عنه، حتى أُنزل في ذلك الشيءِ تحريمٌ، من أجل مسألته". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6101]
(2359) - (حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ السُّلَمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ اللُّؤْلُؤِيُّ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ مَحْمُودٌ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، حَدثَنَا مُوسَى بْنُ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ، فَخَطَبَ، فَقَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرّ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا"، قَالَ: فَمَا أتى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ: غَطَّوْا رُؤُوسَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ، فَالَ: فَقَامَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، فَالَ: فَقَامَ ذَاكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ فُلَانٌ"، فَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية [المائدة: 101]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) العَدوي مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 239)، وقيل: بعد ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ السُّلَمِيُّ) ابن إسماعيل البخاريّ، نزيل مرو، ثقةٌ
(2)
[11](م) تقدم في "الصيام" 39/ 2754، من أفراد المصنّف.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 176.
(2)
وفي "التقريب": مقبول، وفيه نظر، فقد روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، وكان مستملي النضر بن شُميل، وروى عنه مسلم في "صحيحه"، ووثقه ابن حبّان، والذهبيّ في "الميزان" 4/ 15، فلا شكّ أنه ثقةٌ فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
3 -
(يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ اللُّؤْلُؤِيُّ) هو: يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بن معاوية، أبو زكريّا اللؤلؤيّ المروزيّ نزيل بخاري، مقبول [11](ت 257)(م) من أفراد المصنّف أيضًا، تقدم في "الصيام" 39/ 2754.
4 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مَرْوَ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
5 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الْوَرْد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بِسْطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ متقنٌ، كان الثوريّ يقول: هوأمير المؤمنين في الحديث، وهوأوّل من فَتَّش بالعراق عن الرجال، وذَبَّ عن السُّنَّة، وكان عابدًا [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
6 -
(مُوسَى بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، قاضي البصرة، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 49/ 1503.
7 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَدَمه عشر سنين، ومات سمنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثمّ فصل؛ لمَا ذكرناه غير مرّة، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على المفعوليّة، (عَنْ أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم (شَيْءٌ)، مرفوع على الفاعليّة؛ أي: شيء كرهه، وأنكره عليهم، وفي رواية قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ الآتية:"أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء"؛ أي: عن بعض أصحابه، وذلك أنه بلغة -والله تعالى أعلم - أن بعض مَن دَخَل في أصحابه، ولم يتحقق إيمانه هَمَّ أن يمتحن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأسئلة، ويُكثر عليه منها
لِيُعْجزه، وهذا كان دأب المنافقين وغيرهم من المُعادِين له، ولدِين الإسلام؛ فإنَّهم كانوا:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة: 32]، ولذلك لمّا فَهِم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك قال لهم في هذا المجلس:"سلوني، سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلَّا أنبأتكم به"، فكلّ من سأله في ذلك المقام عن شيء أخبره به - أحبَّه أو كرهه -، ولذلك أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} [المائدة: 101]، فأدَّبهم الله تعالى بترك السؤال عما ليس بِمُهم، وخصوصًا عما تقدَّم من أحوال الجاهلية التي قد عفا الله عنها، وغفرها، ولمّا سمعت الصحابة رضي الله عنهم هذا كله انتهت عن سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا في أمر لا يجدون منه بدًّا، ولذلك قال أنس رضي الله عنه فيما تقدم:"نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع". انتهى
(1)
.
(فَخَطَبَ)، وفي رواية ابن شهاب عن أَنَس الآتية:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْر، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ"، (فَقَالَ:"عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) بضم العين المهملة مبنيًّا للمفعول؛ أي: أُظهرت لي، وقُرّبت منّي، وفي رواية ابن شهاب: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفأ، فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ"، (فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ) صفة لمحذوف؛ أي: فلم أر يومًا مثل هذا اليوم (فِي الْخَيْرِ) هو ما رآه في الجنّة، (وَالشَّرِّ) هو ما رآه في النار، (وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ)؛ أي: من أحوال الآخرة، وأهوالها، وقيل: ما أعلم من عظيم قدرة الله، وانتقامه من أهل الجرائم، وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها، وقيل: معناه لو دام علمكم كما دام علمي؛ لأن علمه متواصل بخلاف علم غيره
(2)
.
(لَضَحِكْتُمْ قَلِيلَا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا") قيل: معنى القلة هنا: العدمُ، والتقدير:
(1)
"المفهم" 6/ 165 - 166.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 1/ 529.
لتركتم الضحك، ولم يقع منكم؛ لغلبة الخوف، واستيلاء الحزن عليكم. وقال النوويّ رحمه الله: فيه أن الجَنَّة والنار مخلوقتان، وقد سبق شرح عرضهما، ومعنى الحديث: لَمْ أر خيرًا أكثر مما رأيته اليوم في الجَنَّة، ولا شرًّا أكثر مما رأيته اليوم في النار، ولو رأيتم ما رأيت، وعلمتم ما علمت مما رأيته اليوم، وقبل اليوم، لأشفقتم إشفاقًا بليغًا، ولقلّ ضحككم، وكثر بكاؤكم.
وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة "لو" في مثل هذا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "لو تعلمون ما أعلم"؛ أي: من عِظَم انتقام الله من أهل الجرائم، وأهوال القيامة، وأحوالها ما علمته، لَمَا ضحكتم أصلًا المعبَّر عنه بقوله:"لضحكتم قليلًا"؛ إذ القليل بمعنى: العديم على ما يقتضيه السياق؛ لأنَّ "لو" حرف امتناع لامتناع، وقيل: معناه: لو تعلمون ما أعلم مما أُعِدّ في الجَنَّة من النعيم، وما حُفَّت به من الحُجُب، لَسَهُل عليكم ما كُلِّفتم به، ثم إذا تأملتم ما وراء ذلك من الأمور الخطرات، وانكشاف المعظمات يوم العرض على فاطر السماوات، لاشتد خوفكم، ولبكيتم كثيرًا، فالمعنى مع البكاء لامتناع عِلْمكم بالذي أعلم، وقدَّم الضحك لكونه من المسرة، وفيه من أنواع البديع مقابلة الضحك بالبكاء، والقلة بالكثرة، ومطابقة كل منهما بالآخر، قيل: الخطاب إن كان للكفار فليس لهم ما يوجب ضحكًا أصلًا، أو للمؤمنين فعاقبتهم الجَنَّة، وإن دخلوا النار فما يوجب البكاء؟
فالجواب أن الخطاب للمؤمن، لكن خرج الخبر في مقام ترجيح الخوف على الرجاء. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا" دلالة على اختصاصه بمعارف بصرية، وقلبية، وقد يُطلِع الله عليها غيره من المخلصين من أمته، لكن بطريق الإجمال، وأما تفاصيلها فاختُصّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد جَمَع الله له بين علم اليقين، وعين اليقين، مع الخشية القلبية،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 112.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 315.
واستحضار العظمة الإلهية، على وجه لَمْ يجتمع لغيره، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: في حديث عائشة رضي الله عنها: "إن أتقاكم، وأعلمكم بالله لأنا". انتهى
(1)
.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك اليوم الذي خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه هذه الخطبة البليغة، (قَالَ) أنس (غَطَّوْا) بفتح الطاء المشدّدة، وأصله: غَطَّيُوا بوزن تكلّموا، فقُلبت الياء ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثمّ حُذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير؛ أي: ستروا (رُؤُوسَهُمْ، وَلَهُمْ خَنِينٌ) قال النوويّ رحمه الله: هو بالخاء المعجمة، هكذا هو في معظم النُّسخ، ولمعظم الرواة، ولبعضهم بالحاء المهملة، وممن ذكر الوجهين القاضي عياض، وصاحب "التحرير"، وآخرون، قالوا: ومعناه بالمعجمة: صوت البكاء، وهو نوع من البكاء دون الانتحاب، قالوا: وأصل الخنين: خروج الصوت من الأنف كالحنين -بالمهملة- من الفم، وقال الخليل: هو صوت فيه غُنّة، وقال الأصمعيّ: إذا تردّد بكاؤه، فصار في حوته غُنّة فهو خنين، وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين، وهو شدة البكاء. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "لهم حنين" بالحاء المهملة في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهنيّ بالخاء المعجمة، قال النوويّ: هكذا في معظم النُّسخ، ولمعظم الرواة؛ يعني: بالمعجمة، قال القرطبيّ: وهو المشهور، وهو خروج الصوت من الأنف بغنة، وفي "التوضيح": وعند العذريّ بحاء مهملة، وممن ذكرها القاضي، وصاحب "التحرير"، وذكر القزاز أنه قد يكون الحنين والخنين واحدًا، إلَّا أن الذي بالمهملة من الصدر، وبالمعجمة من الأنف، وقال ابن سِيدهْ: الحنين من بكاء النساء دون الانتحاب، وقيل: هو تردد البكاء حتى يصير في الصوت غنة، وقيل: هو رفع الصوت بالبكاء، وقيل: هو صوت يخرج من الأنف حتى يَخِنّ، والخنين أيضًا الضحك؛ إذا أظهره الإنسان، فخرج خافيًا، وقال في الحاء المهملة: الحنين: الشديد من البكاء، والطرب، وقيل: هو صوت الطرب، كان ذلك عن حزن، أو فَرَح. وقال الخطابيّ: الحنين: بكاء دون الانتحاب.
(1)
"فتح الباري" 11/ 527.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 112 - 113.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَقَامَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالاسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا)، وفي الرواية التالية:"وبمحمد رسولًا"، وفي رواية قتادة من الزيادة:"نعوذ بالله من شرّ الفتن"، وفي مرسل السّدّيّ عند الطبريّ في نحو هذه القصة: "فقام إليه عمر، فقبّل رجله، وقال: رضينا بالله ربًّا
…
"، فذكر مثله، وزاد: "وبالقرآن إمامًا، فاعف عفا الله عنك، فلم يزل به حتى رضي".
قال ابن بطال رحمه الله: فَهِم عمر منه أن تلك الأسئلة
(1)
قد تكون على سبيل التعنت أو الشك، فخشي أن تنزل العقوبة بسبب ذلك، فقال: "رضينا بالله ربًّا
…
إلخ"، فَرَضِيَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فسكت. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "فقال: رضينا بالله" معناه: رضينا بما عندنا من كتاب الله، وسُنَّة نبيناء صلى الله عليه وسلم، واكتفينا به عن السؤال أبلغ كفاية، وقوله هذه المقالة إنما كان أدبًا، وإكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقةً على المسلمين؛ لئلا يؤذوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيدخلوا تحت قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟، ويقول الرجل تَضِلّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
[فإن قلت]: بماذا نُصِب "ربًّا، ودينًا، ونبيًّا"؟.
[قلت]: على التمييز، وهو وإن كان الأصل أن يكون في المعنى فاعلًا يجوز أن يكون مفعولًا أيضًا؛ كقوله تعالى:{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} [القمر: 12]، ويجوز أن يكون نصبها على المفعولية؛ لأن "رَضِي" إذا عُدِّي بالباء يتعدى إلى مفعول آخر.
والمراد من الدين ها هنا التوحيد، وبه فسَّر الزمخشريّ في قوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} الآية [آل عمران: 85]؛ يعني: التوحيد.
وأما في حديث عمر رضي الله عنه قال: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم؛
(1)
سيأتي بيان الأسئلة في الرواية التالية.
(2)
"الفتح" 1/ 188.
إذ طلع علينا رجل. . ." الحديث، فقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين على الإسلام، والإيمان، والإحسان، بقوله: "إنه جبريل عليه السلام أتاكم يعلمكم دينكم"، وإنما علّمهم هذه الثلاثة.
والحاصل: أن الدِّين تارةً يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل عليه السلام،
وتارة يطلق على الإسلام، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} الآية [المائدة: 3]، وهذا يَمنع قول من
يقول: بين الآية والحديث معارضة، حيث أطلق الدين في الحديث على ثلاثة أشياء، وفي الآية على شيء واحد، واختلاف الإطلاق إما بالاشتراك، أو بالحقيقة، أو المجاز، أو بالتواطئ، ففي الحديث أطلق على مجموع الثلاثة، وهوأحد مدلوليه، وفي الآية أطلق على الإسلام وحده، وهو مسماه الآخر.
[فإن قلت]: لِمَ قال: بالإسلام؟ ولم يقل: بالإيمان؟.
[قلت]: الإسلام، والإيمان واحد، فلا يَرِدُ السؤال. انتهى
(1)
.
(قَالَ: فَقَامَ ذَاكَ الرَّجُلُ)، وفي الرواية التالية:"فقام عبد الله بن حُذافة"، وفي رواية للعسكريّ: نزلت في قيس بن حذافة، وفي رواية للإسماعيليّ أنه خارجة بن حُذافة، قال الحافظ: والأول أشهر، وكلهم له صحبة. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ فُلَانٌ")، وفي الرواية التالية:"أبوك حُذافة"، (فَنَزَلَتْ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} ) فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . .} إلخ مرفوع على الفاعليّة لـ "نزلت" محكيّ؛ لِقَصْد لفظه.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": نَهَى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها، وقوله:{وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]؛ أي: وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تُبَيَّن لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه، فلعله أن يُحَرَّم من أجل تلك المسألة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 114 - 115.
(2)
"الفتح" 8/ 281.
(3)
"تفسير ابن كثير" 1/ 153.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 6101 و 6102 و 6103 و 6104 و 6105 و 6106](2359)، و (البخاريّ) في "العلم"(93) و"مواقيت الصلاة"(540)، و"الأذان"(749) و"الدعوات"(6362) و"الرقاق"(6468) و"الفتن"(7089) و"الاعتصام"(7294)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3056)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 338)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(6244)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20896)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 107 و 162 و 177 و 254)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(106 و 1502)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 436 و 6/ 287 و 360 و 361)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3720)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ترجيح التخويف في الخطبة على التوسع في الترخيص؛ لِمَا في ذِكر الرُّخَص من ملاءمة النفوس لِمَا جُبِلت عليه من الشهوة، والطبيب الحاذق يقابل العلة بما يضادّها.
2 -
(ومنها): إيثار الستر على المسلمين، وكراهة التشديد عليهم، وكراهية التنقيب عما لَمْ يقع، وتكلّف الأجوبة لمن يقصد بذلك التمرّن على التفقه، والله أعلم.
3 -
(ومنها): مراقبة الصحابة رضي الله عنهم أحوالّ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وشدّة إشفاقهم إذا غضب؛ خشيةَ أن يكون لأمر يَعُمّ، فيعمّهم.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه عمر رضي الله عنه من الإدلال على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
5 -
(ومنها): جواز تقبيل رِجل الرَّجل.
6 -
(ومنها): جواز الغضب في الموعظة إذا وُجد هناك ما يستدعي ذلك،
من مخالفة أمر، أو نحو ذلك.
7 -
(ومنها): جواز بروك الطالب بين يدي من يستفيد منه، وكذا التابع بين يدي المتبوع إذا سأله في حاجة.
8 -
(ومنها): مشروعية التعوذ من الفتن عند وجود شيء قد يظهر منه قرينة وقوعها، حيث قال عمر رضي الله عنه، كما في الرواية:"عائذًا بالله من سوء الفتن".
9 -
(ومنها): جواز استعمال المزاوجة في الدعاء، حيث قال عمر رضي الله عنه أيضًا:"اعفُ عفا الله عنك"، وإلا فالنبيّ صلى الله عليه وسلم معفوّ عنه قبل ذلك.
10 -
(ومنها): النهي عن إكثار السؤال، والابتداء بالسؤال عما لا يقع، قال النوويّ رحمه الله: وإنما كُرِه ذلك لِمَعان:
[منها]: أنه ربما كان سببًا لتحريم شيء على المسلمين، فيلحقهم به المشقة، وقد بيّن هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي:"أعظم المسلمين جُرْمًا مَن سأل عن شيء لَمْ يُحَرَّم على المسلمين، فحُرِّم عليهم من أجل مسألته".
[ومنها]: أنه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل، ويسوؤه، ولهذا أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، كما صُرِّح به في الحديث في سبب نزولها.
[ومنها]: أنهم ربما أَحْفَوه صلى الله عليه وسلم بالمسألة، وألحقوه المشقة والأذي، فيكون ذلك سببًا لهلاكهم، وقد صُرِّح بهذا في حديث أنس رضي الله عنه المذكور في الكتاب في قوله:"سألوا نبيّ الله عز وجل حتى أحفوه بالمسألة"، إلى آخره، وقد قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)} [الأحزاب: 57]. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن عبد البرّ رحمه الله: سئل مالك رحمه الله عن معنى النهي عن كثرة السؤال، فقال: ما أدري، أنُهِي عن الذي أنتم فيه من السؤال عن النوازل، أو عن مسألة الناس المال؟ قال ابن عبد البرّ: الظاهر الأول، وأما الثاني فلا معنى للتفرقة بين كثرته وقلَّته، لا حيث يجوز، ولا حيث لا يجوز، قال: وقيل: كانوا يسألون عن الشيء، ويُلِحُّون فيه إلى أن يُحَرَّم، قال: وأكثر العلماء على أنَّ المراد: كثرة السؤال عن النوازل، والأغلوطات، والتوليدات. انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 110.
وقال ابن عبد البرّ أيضًا: والسؤال إذا لَمْ يحلّ فلا يحل منه الكثير ولا القليل، وإذا كان جائزًا حلالًا فلا بأس بالإكثار منه حتى يبلغ إلى الحد المنهي عنه، والله أعلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَكره كثرة المسائل، ويعيبها، والانفكاكُ عندي من هذا المعنى، والانفصال من هذا السؤال والإدخال، أن السؤال اليوم لا يُخاف منه أن ينزل تحريم، ولا تحليل من أجله، فمن سأل مُستفهِمًا راغبًا في العلم، ونفي الجهل عن نفسه، باحثًا عن معنًى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء الْعِيِّ السؤالُ، ومن سأل معنتًا، غير متفقه، ولا متعلِّم، فهذا لا يحلّ قليل سؤاله، ولا كثيرةُ. انتهى
(1)
.
11 -
(ومنها): أن الحديث بيّن سبب نزول الآية المذكورة، قال في "الفتح" عند قوله:"فنزلت هذه الآية": ووقع في "الفتن" من طريق قتادة، عن أنس في آخر هذا الحديث، بعد أن ساقه مطوَّلًا قال: "فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية [المائدة: 101].
وأخرج الشيخان عن قتادة، عن أنس بن مالك:"أن الناس سألوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فخرج ذات يوم، فصَعِد المنبر، فقال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلَّا بيّنته لكم، فلمّا سمع ذلك القومُ أرَمُّوا، ورَهِبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر، قال أنس: فجعلت ألتفت يمينًا وشمالًا، فإذا كل رجل لافّ رأسه في ثوبه يبكي، فأنشأ رجل من المسجد كان يُلاحَي، فيدعى لغير أبيه، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، عائذًا بالله من سوء الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمْ أر كاليوم قطّ في الخير والشرّ، إني صُوِّرت لي الجَنَّة والنار، فرأيتهما دون هذا الحائط".
وروى الطبريّ من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله عز وجل غضبان مُحمارٌّ وجهه، حتى جلس على المنبر، فقام إليه رجل، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام آخر، فقال: من أبي؟ فقال: حُذافةُ،
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 21/ 292.
فقام عمر، فذكر كلامه، وزاد فيه:"وبالقرآن إمامًا"، قال: فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، قال الحافظ: وهذا شاهد جيّد لحديث موسى بن أنس المذكور.
وأما ما روى الترمذيّ من حديث عليّ رضي الله عنه قال: "لما نزلت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]، قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت، ثم قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فقال: لا، ولو قلت: نعم، لوجبت، فأنزل الله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا} ، فهذا لا ينافي حديث أبي هريرة رضي الله عنه لاحتمال أن تكون نزلت في الأمرين، ولعل مراجعتهم له في ذلك هي سبب غضبه.
وقد رَوَى أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والطبريّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه نحو حديث عليّ هذا، وكذا أخرجه من وجه ضعيف، ومن آخر منقطع، عن ابن عباس رضي الله عنهما. وجاء في سبب نزولها قول ثالث، وهو ما يدل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاريّ عن أبي الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءً، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تَضِلّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها، قال الحافظ: وهو أصح إسنادًا، لكن لا مانع أن يكون الجميع سبب نزولها، والله أعلم.
وجاء في سبب نزولها قولان آخران، فأخرج الطبريّ، وسعيد بن منصور، من طريق خُصيف عن مجاهد، عن ابن عباس أن المراد بالأشياء: البَحِيرةُ، والوَصِيلةُ، والسائبةُ، والحامُ، قال: فكان عكرمة يقول: إنهم كانوا يسألون عن الآيات، فنُهُوا عن ذلك، قال: والمراد بالآيات: نحو سؤال قريش أن يَجعل الصفا لهم ذهبًا، وسؤال اليهود أن يُنزل عليهم كتابًا من السماء، ونحو ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد الكريم، عن عكرمة، قال: نزلت في الذي سأل عن أبيه.
وعن سعيد بن جبير: في الذين سألوا عن البَحيرة، وغيرها.
وعن مِقْسَمٍ: فيما سأل الأمم أنبياءها عن الآيات.
قال الحافظ: وهذا الذي قاله مُحْتَمِلٌ، وكذا ما أخرج ابن أبي حاتم من
طريق عطيّة، قال: نُهُوا أن يسالوا مثل ما سأل النصارى من المائدة، فأصبحوا بها كافرين، وقد رجّحه الماورديّ، وكأنه من حيث المعنى؛ لوقوع قصة المائدة في السورة بعد ذلك، واستبعد نزولها في قصة من سأل عن أبيه، أو عن الحجِّ كل عام، وهو إغفال منه لِمَا في "الصحيحين"، ورجَّح ابن الْمُنَيِّر نزولها في النهي عن كثرة المسائل عما كان، وعما لَمْ يكن، واستَنَد إلى كثير مما أورده البخاريّ في "باب ما يُكره من كثرة السؤال" في "كتاب الاعتصام"، وهو مُتّجِه، لكن لا مانع أن تتعدد الأسباب، وما في "الصحيح" أصح. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي أن الآية الكريمة نزلت في الأسباب التي ذُكرت في الروايات السابقة؛ إذ لا مانع من ذلك، فلا حاجة إلى التكلّف بترجيح بعضها على بعض دودن بيّنة وحجة، وإن صير إلى الترجيح ولا بدّ، فما في "الصحيحين" أرجح، لكن الجمع بتعدّد الأسباب، أَولي، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6102]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبِي؛ قَالَ: "أَبُوكَ فُلَان"، وَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} الآية [المائدة: 10]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيٍّ الْقَيْسِيُّ) البصريّ البحرانيّ - بالموحّدة، والمهملة - صدوقٌ، من [11](ت 250)(ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584، وهو أحد التسعة الذي روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
2 -
(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضل، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
(1)
"الفتح" 10/ 102 - 103، كتاب "التفسير" رقم (4621).
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبِي؟) تقدّم أنه عبد الله بن حُذافة، وقيل: غيره.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6103]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْر، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَر، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ، فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ، فَوَاللهِ لَا تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِه، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا"، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: "سَلُوني"، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُدَافَةَ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ"، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي"، بَرَكَ عُمَرُ، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًا، وَبِالإسْلَام دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ، ثم قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلَى وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا، فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِط، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ أَعَقَّ مِنْكَ، أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمُّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّة، فَتَفْضَحَهَا عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ: وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه قال: (أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسَ)؛ أي: مالت عن بطن السماء، يقال: زاغت الشمس تزيغ زَيْغًا: مالت، وزاغ الشيءُ كذلك، وزاغ يزوغ زَوْغًا -بالواو- لغةٌ
(1)
. (فَصَلَّى لَهُمْ صَلَاةَ الظُّهْرِ) هذا يقتضي أن زوال الشمس أول وقت الظهر؛ إذ لَمْ يُنقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى قبله، وهذا هو الذي استقرّ عليه الإجماع، وكان فيه خلاف قديم عن بعض الصحابة، أنه جوّز صلاة الظهر قبل الزوال، وعن أحمد، وإسحاق مثله في الجمعة، كما سبق بيانه في بابه
(2)
. (فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ عَلَى الْمِنْبَر، فَذَكَرَ السَّاعَةَ، وَذَكَرَ أَنَّ قَبْلَهَا أُمُورًا عِظَامًا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ، فَوَاللهِ لَا تَسْأَلُونَنِي) هكذا بنونين، ووقع عند البخاريّ:"فلا تسألوني" بنون واحدة، قال في "العمدة": قوله: "فلا تسألوني" بلفظ النفي، وحذف نون الوقاية منه جائز
(3)
. (عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ)؛ أي: إلَّا أُخبركم به، فاستَعْمل الماضي موضع المستقبل؛ إشارةً إلى تحققه، وأنه كالواقع، وقال المهلّب: إنما خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة، وقال:"سلوني"؛ لأنه بلغة أن قومًا من المنافقين يسألون منه، ويُعجِّزونه عن بعض ما يسألونه، فتغيَّظ، وقال:"لا تسألوني عن شيء إلَّا أخبرتكم به".
(مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا"، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَأَكْثَرَ النَّاسُ الْبُكَاءَ) يُمَدّ، ويُقْصَر؛ إذا مددت أردت الصوت الذي يكون مع البكاء، وإذا قصرت أردت الدموع وخروجها. (حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وذلك لِمَا سمعوا من الأمور العظام الهائلة التي بين أيديهم، وخوفًا من نزول عذاب الله لِغضبه صلى الله عليه وسلم كما كان ينزل على الأمم عند ردّهم على أنَّبيائهم - عليهم الصلاة والسلام - (وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ) كلمة "أنْ" مصدرية، تقديره: وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم القول بقوله: (سَلُونِي) وأصله: اسألوني، فنُقلت حركة الهمزة إلى السين، فحُذفت، واستُغني عن همزة الوصل، فقيل: سلوني على وزن
(1)
"المصباح المنير" 1/ 261.
(2)
"الفتح" 2/ 21.
(3)
"عمدة القاري" 5/ 27.
فَلُوني، قاله في "العمدة"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي ذكره أهل اللغة أن سال لغة في سأل، قال الفيّوميّ رحمه الله بعد ذِكر معنى سأل ما نصّه: والأمر مِن سَأَلَ: اسْأَلْ بهمزة وصل، فإن كان معه واو جاز الهمز؛ لأنه الأصل، وجاز الحذف؛ للتخفيف، نحو: واسْأَلُوا، وسَلُوا، وفيه لغةٌ، سَالَ يَسَالُ، من باب خاف، والأمر من هذه: سَلْ، وفي المثنى والمجموع: سَلا، وسَلُوا على غير قياس
(2)
، وسِلْتُهُ أنا، وهما يَتَسَاوَلانِ. انتهى
(3)
.
(فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ) -بضمّ الحاء المهملة، وبالذال المعجمة، وبعد الألف فاء- ابن قيس بن عديّ بن سعد -بفتح السين، وسكون العين- ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي أخو خُنيس بن حذافة زوج حفصة، أصابته جراحة بأُحُد فمات منها، وخلف عليها بعده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله أسلم قديمًا، وكان من المهاجرين الأولين، وكانت فيه دُعابة، وقيل: إنه شهد بدرًا ولم يذكره الزهريّ، ولا موسى بن عقبة، ولا ابن إسحاق في البدريين، وأَسَره الروم في زمن عمر رضي الله عنه، فأرادوه على الكفر، وله في ذلك قصة طويلة، وآخرها أنه قال له ملكهم: قَبِّل رأسي أُطلقك، قال: لا، قال له: وأُطلق من معك من أسرى المسلمين، فقبَّل رأسه، فأطلق معه ثمانين أسيرًا من المسلمين، فأخبر عمر بخبره، فقال: حقّ على كل مسلم أن يُقَبِّل رأس عبد الله بن حُذافة، وأنا أبدأ، فقام عمر، فقبّل رأسه، وقام المسلمون، فقبَّلوا رأسه، تُوُفي عبد الله في خلافة عثمان رضي الله عنهما
(4)
.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 27.
(2)
إن كان على غير قياس؛ لأن القياس يقتضي أن يقال: سألا، وسألوا؛ كقياس خافا، وخافوا، وقد قال بعضهم: إن هذا الإسناد دليلٌ على أن سال يسال تخفيف سأل يسأل، ولكن رُدّ عليه بقولهم: هما يتساولان بالواو، وبقولهم: سِلْت بكسر السين، ولو كان مخفّفًا عن المهموز لقالوا: يتساولان، وسَلت بفتح السين. انتهى من هامش "المصباح".
(3)
"المصباح المنير" 1/ 297.
(4)
"تهذيب الكمال" 14/ 412، و"عمدة القاري" 2/ 28.
(فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟) إنما سأله عن ذلك؛ لأنه كان يُنسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا، فنسبه صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، فـ (قَالَ:"أَبُوكَ حُذَافَةُ") إنما عرف صلى الله عليه وسلم ذلك بالوحي، وهذا هو الظاهر، وقال في "العمدة": إما بالوحي، وهو الظاهر، أو بحكم الفراسة، أو بالقياس، أو بالاستلحاق. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "أو بحكم الفراسة. . . إلخ" لا يخفى ما فيه، والأول هو الحقّ، والله تعالى أعلم.
(فَلَمَّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي") قال العلماء: هذا القول منه صلى الله عليه وسلم محمول على أنه أوحي إليه، وإلا فلا يَعلم كل ما سئل عنه من المغيَّبات إلا بإعلام الله تعالى، قال القاضي عياض: وظاهر الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم: "سلوني" إنما كان غضبًا، كما قال في الرواية الأخرى:"سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أُكثر عليه غَضِبَ، ثم قال للناس: سلوني"، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ترك تلك المسائل، لكن وافقهم في جوابها؛ لأنه لا يمكن ردّ السؤال، ولِمَا رآه من حرصهم عليها، والله أعلم.
(بَرَكَ عُمَرُ) بفتح الموحّدة، وتخفيف الراء من "بَرَك"، من البروك؛ أي: جَثَى على ركبتيه، كبروك البعير، يقال: برك البعير: إذا استناخ، واستُعمل في الآدميّ مجازًا
(2)
. (فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا) قال النوويّ رحمه الله: وأما بروك عمر رضي الله عنه، وقوله، فإنما فعله أدبًا وإكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقةً على المسلمين؛ لئلا يؤذوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيهلكوا، ومعنى كلامه: رضينا بما عندنا من كتاب الله تعالى، وسُنَّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واكتفينا به عن السؤال، ففيه أبلغ كفاية. انتهى
(3)
.
(قَالَ) أنس (فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلَى) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أولى" تهديد، ووعيد، وقيل: كلمة تَلَهّف، فعلى هذا يستعملها مَن نجا من أمر عظيم، والصحيح المشهور
(1)
"عمدة القاري" 2/ 28.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 85، و"الفتح" 1/ 330.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 102.
أنها للتهديد، ومعناها قَرُب منكم ما تكرهونه، ومنه قوله تعالى:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)} [القيامة: 34]؛ أي: قاربك ما تكره، فاحذره، مأخوذ من الْوَلْيِ، وهو القرب. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أولى" هي كلمة تهديد، ووعيد، وإذا كررت كان التهديد أعظم، كما قال تعالى:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} ، وهذا المقام الذي قامه النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مقامًا هائلًا مخوفًا، ولذلك قال أنس رضي الله عنه في الرواية السابقة:"بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء، فخطب، فقال: عُرضت عليّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشدُّ منه. . ." الحديث
(2)
.
(وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ عُرِضَتْ) بالبناء للمفعول، (عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفًا) بالمدّ، ويجوز بالقصر؛ أي: الساعةَ، من قولك: استأنفت؛ أي: ابتدأت، ومنه قوله تعالى:{مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]؛ أي: في وقت يقرب منّا، قاله في "العمدة"
(3)
، وقال النوويّ: المشهور فيه المدّ، ويقال: بالقصر، وقرئ بهما في السبع، والأكثرون بالمدّ
(4)
.
(فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ) بضم العين؛ أي: جانبه، وفي رواية:"لقد مثّلت"، وفي رواية:"لقد صُوِّرت".
قال في "العمدة": [فإن قلت]: انطباع الصورة إنما يكون في الأجسام الصقيلة.
[قلت]: هذا من حيث العادة، فلا يمتنع خرق العادة، لا سيما في حقّ هذا النبيّ العظيم صلى الله عليه وسلم، ومع هذا هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، وتلك في صلاة الكسوف، ولا مانع أن تُرَى الجنة والنار مرتين، وأكثر، على صور مختلفة.
وقال القرطبيّ: ليس من المحال إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، لا
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 102 - 104.
(2)
"المفهم" 6/ 164.
(3)
"عمدة القاري" 23/ 264.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 154.
سيما على مذهب أهل السُّنَّة في أن الجنة والنار قد خُلقتا، وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خَلَق لنبيه صلى الله عليه وسلم إدراكًا خاصًّا به، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما، ومنهم من تأول الرؤية هنا بالعلم، وقد أَبعد؛ لعدم المانع من الأخذ بالحقيقة، والعدول عن الأصل من غير ضرورة. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "عُرِضت علي الجنة والنار"؛ أي: نُصبتا، ومُثِّلتا إليّ كما تنطبع الصورة في المرآة.
وقوله: "آنفًا" بالمدّ، والنصب على الظرفية؛ أي: قريبًا، وقيل: أوّلَ وقت كُنّا فيه، وقيل: الساعةَ، وقال أبو البقاء: تقديره: زمانًا آنفًا؛ أي: قريبًا من وقتنا، حُذِف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، زاد في رواية:"وأنا أصلّي"، وقد تجلى له الكون كله، وزُويت له الأرض بأسرها، فأُري مشارقها ومغاربها، وكلّ ذلك عند اندراج المسافات في حقّه.
وقوله: "في عُرْض هذا الحائط" بضم العين المهملة: جانبه، أو وسطه. وقوله:"فلم أر": فلم أبصر، "كاليوم" صفة محذوف؛ أي: يومًا كهذا اليوم، وأراد باليوم: الوقت الذي هو فيه، أو المعنى: لم أر منظرًا مثل منظر رأيته اليوم، فحَذَف المرئيّ، وأَدْخَل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه، وبُعْده عن النظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظرًا في الخير والشرّ؛ أي: ما أبصرت مثل الخير الذي رأيته في الجنة، والشر الذي رأيته في النار، فبالغوا في طلب الجنة، والهرب من النار.
وقوله: "ولو تعلمون ما أعلم" من شدة عقاب الله، وقوّة سطوته بأهل المعاصي، لضحكتم قليلًا؛ أي: لتركتم الضحك في غالب الأحيان، وأكثر الأزمان، ولبكيتم كثيرًا لغلبة سلطان الوجل على قلوبكم.
ولا يَرِد على ما تقرّر أوّلًا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصقيلة، ما ذاك إلا أنه شرط عاديّ، فيجوز أن تنخرق العادة، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، ونُصْحُ المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته، وتعليمهم ما ينفعهم، وتحذيرهم مما يضرّهم، وتعذيب أهل الوعيد على المعاصي.
(1)
"عمدة القاري" 7/ 83.
[تنبيه]: قال بعضهم: من الحِكَم، والفوائد التي اشتَمَل عليها رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم الجنة والنار الأُنس بأهوال القيامة؛ ليتفرغ فيه لشفاعة أمته صلى الله عليه وسلم، ويقول: أمتي، أمتي، حيث يقول غيره من عظيم الهول: نفسي، نفسي. انتهى
(1)
.
(فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ")؛ أي: لم أر خيرًا أكثر مما رأيته اليوم في الجنة، ولا شرًّا أكثر مما رأيته اليوم في النار.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ بالسند السابق، وليس معلّقًا، (أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الْهُذلي، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه المشهور، تُوفّي سنة (94) على الصحيح، وتقدّم في "المقدمة" 3/ 14. (قَالَ) عبيد الله (قَالَتْ أُمُّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ) لم تُسَمّ أمه، ثم إن عبيد الله لم يروه عنها، ولا عن ابنها عبد الله، وإنما رواه بواسطة رجل مجهول، كما بيَّنه في الرواية التالية، فتكون هذه الزيادة ضعيفةً؛ لجهالة من حدّث عبيد الله بها.
[فإن قلت]: كيف أخرجها مسلم مع ضعفها؟.
[قلت]: مراد مسلم أصل الحديث، دون الزيادة، وهو صحيح، فلا تضرّه الزيادة، والله تعالى أعلم.
(لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا) نافية، (سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطُّ)؛ أي: في الزمان الماضي، وتقدّم البحث فيها مستوفًى. (أَعَقَّ)؛ أي: أكثر عُقوقًا لأمه، يقال: عقّ الولد أباه عُقُوقًا، من باب قَعَدَ: إذا عصاه، وترك الإحسان إليه، فهو عاقّ، والجمع: عَقَقَةٌ بفتحات
(2)
. (مِنْكَ، أَأَمِنْتَ) بهمزتين، أُولاهما للاستفهام الإنكاريّ، والفعل بكسر الميم، من باب فَهِمَ، قال المجد رحمه الله: الأَمْنُ، والآمِنُ كصاحِبٍ: ضِدُّ الخَوْف، أمِنَ كفَرِحَ أمْنًا، وأمانًا، بفَتْحِهِما، وأمَنًا، وأمَنَةً، محرَّكتينِ، وإمْنًا، بالكسر، فهو أمِنٌ، وأمِينٌ، كَفَرِحٍ، وأميرٍ. انتهى
(3)
.
(أنْ تَكُونَ أُمُّكَ)"أن" مصدريّة، والمؤوّل مفعول "أمنتَ"؛ لأن أَمِن يتعدّى بنفسه وبحرف الجرّ، فيقال: أَمِنته، وأمنته، وأمنت منه
(4)
. (قَدْ قَارَفَتْ)؛ أي:
(1)
"فيض القدير" 4/ 312.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 422.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 1518.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 24.
فعلت واكتسبت (بَعْضَ مَما تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: من الزنا، قال النوويّ رحمه الله: أما قولها: "قارفت": فمعناه: عَمِلت سُوءًا، والمراد: الزنى، والجاهلية هم مَن قبل النبوة، سُمُّوا به؛ لكثرة جهالاتهم، وكان سبب سؤاله أن بعض الناس كان يَطْعُن في نسبه، على عادة الجاهلية من الطعن في الأنساب، وقد بُيِّن هذا في الحديث الآخر بقوله؛ "كان يُلاحَى، فيُدعَى لغير أبيه"، والْمُلاحاة: المخاصمة، والسِّباب
(1)
. (فَتَفْضَحَهَا) بفتح حرف المضارعة، والضاد المعجمة، يقال: فضحته فَضْحًا، من باب نَفَع: إذا كشفته، والفضيحة: العيب، والجمع فضائح
(2)
.
وقال النوويّ: معناه: لو كنتَ من زنا، فنفاك النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أبيك حُذافة، فضحتني (عَلَى أَعْيُن النَّاسِ؟)؛ أي: عَلَنًا وجهرًا. (قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ) ردًّا على أمه (وَاللهِ لَوْ أَلْحَقَنِي) النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: ذكر نسبي الحقيقيّ (بِعَبْدٍ أَسْوَدَ لَلَحِقْتُهُ)؛ أي: انتسبت إلى ذلك العبد الأسود، قال النوويّ رحمه الله: قد يقال: هذا لا يُتَصَوَّر؛ لأن الزنى لا يَثبُت به النسب.
ويجاب عنه بأنه يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: أن ابن حُذافة ما كان بلغه هذا الحكم، وكان يظنّ أن ولد الزنى يَلحَق الزاني، وقد خَفِي هذا على أكبر منه، وهو سعد بن أبي وقاص حين خاصم في ابن وَليدة زَمْعة، فظنّ أنه يَلحق أخاه بالزنى.
والثاني: أنه يُتصوّر الإلحاق بعد وطئها بشبهة، فيثبت النسب منه، والله أعلم. انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6104]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 114.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 475.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 114.
كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ مَعَهُ، غَيْرَ أَنَّ شُعَيْبًا قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ أُمَّ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَتْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرَام السَّمَرْقَنْديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرَانيّ -بفتح الموحدة- الْحِمْصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأُمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الْحِمْصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لمعمر بن راشد، وشعيب بن أبي حمزة.
وقوله: (وَحَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ مَعَهُ)؛ يعني: أن قول ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. . . إلخ، مذكور في جملة حديث معمر، وشعيب عن الزهري، مثل ما ذُكر في حديث يونس عنه، وإنما بيّن مسلم هذا؛ لأن بعض الرواة لم يذكر عنهما ذلك، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" روايتهما بدون زيادة حديث عبيد الله، فقال رحمه الله في رواية معمر عن الزهريّ دون الزيادة:
(6864)
- وحدّثني محمود، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عظامًا، ثم قال: "من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فوالله لا
تسألوني عن شيء، إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا"، قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: "سلوني"، فقال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟، قال: "النار"، فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: "أبوك حذافة"، قال: ثم أكثر أن يقول: "سلوني، سلوني"، فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَولى، والذي نفسي بيده، لقد عُرضت علي الجنة والنار آنفًا في عُرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أر كاليوم في الخير والشرّ". انتهى
(1)
.
وقال في رواية شعيب عن الزهري دون الزيادة:
(515)
- حدّثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فقام على المنبر، فذكر الساعة، فذكر أن فيها أمورًا عظامًا، ثم قال:"من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، ما دُمت في مقامي هذا"، فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول:"سَلُوني"، فقام عبد الله بن حُذافة السهميّ، فقال: من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أكثر أن يقول:"سلوني"، فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، فسكت، ثم قال:"عُرِضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عُرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر". انتهى
(2)
.
(غَيْرَ أَنَّ شُعَيْبًا قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ)، وقوله:(قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. . . إلخ)؛ أي: قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: حديث رجل. . . إلخ، ولم يسمّ الرجل، وهذا بيان صريح أن عبيد الله لم يرو هذه الزيادة إلا بواسطة رجل مجهول بينه وبين أم عبد الله حذافة، فتكون هذه الزيادة ضعيفة، كما أسلفت بيان ذلك في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم ..
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2660.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 200.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه بالزيادة المذكورة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(3601)
- حدّثنا إسحاق، حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر، عن الزهريّ، قال: حدّثني أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلى الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة، وذكر أن بين يديها أمورًا عظامًا، قال:"من أحب أن يسأل عن شيء، فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا حدثتكم به، ما دمت في مقامي هذا"، قال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مدخل أبي
(1)
يا رسول الله؟، قال:"النار"، فقام عبد الله بن حذافة، قال: من أبي يا رسول الله؟ قال: "أبوك حذافة"، ثم أكثر أن يقول:"سلوني"، فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لقد عُرضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عُرض هذا الحائط، فلم أر كاليوم في الخير والشرّ".
قال الزهريّ: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قالت أم عبد الله بن حذافة: ما رأيت ابنًا قطّ أعقّ منك، أكنت تأمَن أن تكون أمك قارفت في الجاهلية، فتفضحها على رؤوس النساء؟ قال عبد الله: والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته. انتهى
(2)
.
وأما رواية شعيب عن الزهري بالزيادة المذكورة، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6105]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ، فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "سَلُونِي، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ،
(1)
هكذا في النسخة، والذي في "صحيح البخاريّ":"أين مدخلي"، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(2)
"مسند أبي يعلى" 6/ 286 - 287.
إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ"، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا، وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي، فَأَنْشَأَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يُلَاحَى فَيُدْعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ"، ثُمَّ أَنْشَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، عَائِذًا بِاللهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِنِّي صُوِّرَتْ لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَرَأَيْتُهُمَا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ) أبو يعقوب البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م ت س ق) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.
[تنبيه]: قوله: "الْمَعْنيّ" بفتح الميم، وسكون العين المهملة، ثم نون، وتشديد الياء: نسبة إلى معن بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بطن من الأزد، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقال النوويّ: هو بكسر النون، وتشديد الياء، قال السمعانيّ: منسوب إلى مَعْن بن زائدة. انتهى
(2)
.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى البصريّ الساميّ -بالمهملة- أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمَّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عَرُوبة مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختَلَط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
و"أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ" ذُكر قبله، وهذا الإسناد كله بصريون.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 237.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 115.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّاسَ) لم يُسمَّوا، (سَأَلُوا نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ) بالحاء المهملة والفاء؛ أي: ألحّوا، وأكثروا عليه، حتى جعلوه كالحافي، يقال: أحفاه في السؤال: إذا ألحّ عليه، قاله في "الفتح"
(1)
، وقال القرطبيّ: يقال: أحفى في المسألة، وألحّ بمعنى واحد
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "أحفوه" بالحاء المهملة، والفاء؛ أي: ألحوا عليه في السؤال، وأكثروا السؤال عنه، ويقال: أحفيته إذا حملته على أن يبحث عن الخبر، ويقال: أحفى، وألحف، وقال الداوديّ: يريد: سألوه عما يَكره الجواب فيه؛ لئلا يضيق على أمته، وهذا في مسائل الدين، لا في مسائل المال. انتهى
(3)
.
(فَخَرَجَ) صلى الله عليه وسلم (ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام، وقال في "العمدة" عند قوله:"ذات غداة": لفظة "ذات" زائدة، وقال الداوديّ: لفظة "ذات" بمعنى "في"؛ أي: في غداة، ورَدّ عليه ابن التين بأنه غير صحيح، بل تقديره: في ذات غداة، قال العينيّ: الصواب معه؛ لأنه لم يقل أحد: إن "ذات" بمعنى "في"، ويجوز أن يكون من باب إضافة المسمى إلى اسمه. انتهى
(4)
.
(فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: "سَلُونِي، لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا بَيَّنْتُهُ لَكُمْ")؛ معناه: أنه أوحي إليه بذلك، (فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمُّوا)؛ أي: سكتوا، وأصله من المرمَّة، وهي؛ الشَّفة، فكأنهم أطبقوا مرمَّاتهم، فلم يحركوها بلفظة، قاله القرطبيّ
(5)
.
وقال النوويّ: هو بفتح الراء، وتشديد الميم المضمومة؛ أي: سكتوا، وأصله من المرمّة، وهي الشفة؛ أي: ضمّوا شفاههم بعضها على بعض، فلم يتكلموا، ومنه رَمَّت الشاةُ الحشيشَ: ضمّته بشفتيها. انتهى
(6)
.
(وَرَهِبُوا) بكسر الهاء؛ أي: خافوا (أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ قَدْ حَضَرَ)؛
(1)
"الفتح" 12/ 269.
(2)
"المفهم" 6/ 158.
(3)
"عمدة القاري" 22/ 311.
(4)
"عمدة القاري" 7/ 79.
(5)
"المفهم" 6/ 159.
(6)
"شرح النوويّ" 15/ 115.
أي: من العذاب النازل عليهم عند غضبه صلى الله عليه وسلم. (قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (فَجعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَإِذَا) كلمة المفاجأة؛ أي: ففاجأني (كُلُّ رَجُلٍ لَافٌّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ)"اللافّ": اسم فاعل من لفّ الشيءَ يلُفّه، من باب نصر: إذا ضمّه إليه، ووصله به، قال الكرمانيّ:"لافّ" بالرفع، والنصب، قال العينيّ: أما الرفع فعلى أنه خبر المبتدأ، وهو قوله:"كلُّ رجل"، وأما النصب فعلى أنه حال من "رجل"، وقوله:(يَبْكِي) على هذا هو خبر قوله: "فإذا كلُّ رجل"، وعلى الرفع يكون جملة حالية. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي": هذه حالة العارفين بالله تعالى، الخائفين من سطوته وعقوبته، لا كما تفعله جُهَّال العوام، والمبتدعة الطَّغام من الزعيق والزفير، ومن النهيق الذي يشبه نهاق الحمير، فيقال لمن تعاطى ذلك، وزعم أن ذلك وَجْدٌ وخشوع: إنك لم تبلغ حالك أن تساوي حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حال أصحابه رضي الله عنهم في المعرفة بالله تعالى، والخوف منه، والتعظيم لجلاله، ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله تعالى، والبكاء خوفًا من الله، والوقار حياءً من الله، وكذلك وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 2]، فصدَّر الله تعالى الكلام في هذه الآية بـ "إنما" الحاصرة لِمَا بعدها، المحقِّقة له، فكأنه قال: المؤمنون على التحقيق هم الذين تكون أحوالهم هكذا عند سماع ذكر الله، وتلاوة كتابه، ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم، ولا على طريقتهم، وكذلك قال الله تعالى في الآية الأخرى:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)} [المائدة: 83]، فهذا وصف حالهم، وحكاية مقالهم، فمن كان مُستنًّا فليستنّ، ومن تعاطى أحوال المجانين والمجون، فهو من أخسِّهم حالًا، والجنون فنون.
[فإن قيل]: فقد صحَّ عن جماعة من السلف أنهم صَرَخُوا عند سماع
(1)
"عمدة القاري" 22/ 311.
القرآن، والمواعظ، فقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع قارئًا يقرأ:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} [الطور: 7، 8]، فصاح صيحة خرَّ مغشيًّا عليه، فحُمِل إلى أهله، فلم يزل مريضًا شهرًا.
قال الجامع عفا الله عنه: في ثبوت هذا عن عمر رضي الله عنه نظر لا يخفى، فأين سنده؟ حتى ننظر فيه، ومعلوم أن عمر رضي الله عنه، وكذا بقيّة الصحابة رضي الله عنهم أحوالهم لا تخالف الآيتين السابقتين، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال: وروي أن زرارة بن أوفى قرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8)} [المدثر: 8]، فصَعِق، ومات في محرابه، وقرأ صالح المرِّيّ على أبي جهين فمات، وسمع الشافعيّ قارئًا يقرأ:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)} [المرسلات: 35، 36]، فغُشِي عليه.
وسَمِع عليّ بن الفضل قارئًا يقرأ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6]، فسقط مغشيًّا عليه.
فالجواب: أين الدرُّ من الصدف، والمسك من الجيف؟ هيهات، قياس الملائكة بالحدَّادين، والمحقِّقين بالممخرقين.
فإنْ كنت -يا من لُبِّس عليه- تدَّعي أنك على نَعْتهم، فمُتْ كموتهم، فتنبَّه لبهرجتك؛ فإنَّ الناقد بصير، والمحاسب خبير، ثم يقال لمن صرخ في حال خطبة الجمعة: إن كنت قد ذهب عقلك حال صعقتك، فقد خَسِرت في صفقتك؛ إذ قد سُلِب عقلك، وذهب فهمك، ولحقت بغير المكلفين، وصرت كالصبيان، والمجانين، وحُرِمت سماع الموعظة، وشهود الخطبة، وقد قال مشايخ الصوفية: مهما كان الوارد مانعًا من القيام بفرض، ومانعًا من الخير فهو من الشيطان، ثم يلزم من ذهب عقله أن ينتقض وضوؤه، فإنْ صلى بعد تلك الغشية الجمعة، ولم يتوضأ، كان كمن لم يشهد الخطبة، ولا صلى، فأي صفقة أخسر ممن هذه صفقته؟ وأيّ مصيبة أعظم ممن هذه مصيبته؟ وإن كان وقت صراخه في عقله، فقد تكلم في حال الخطبة، وشَوّش على الحاضرين سماعها، وأظهر بدعة في مجتمع الناس، وعَرَّضهم؛ لأنه يجب عليهم تغييرها، فإنْ لم يفعلوا عَصَوا، فقد عصى الله من جهات متعددة، وحمَل الناس على المعصية، إلى ما ينضاف إلى ذلك من رياء كامنٍ في القلب، وفِسق ظاهر على
الجوارح، فنسأل الله تعالى الوقاية من الخذلان، وكفاية أحوال الجهَّال والمُجَّان. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو مفيد في بابه، والله تعالى أعلم.
(فَأَنْشَأَ رَجُلٌ) هو عبد الله بن حُذافة، (مِنَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يُلَاحَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يخاصَم، من الملاحاة، وهي المخاصمة والمنازعة، (فَيُدْعَى) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: يُنسب (لِغَيْرِ أَبِيهِ)؛ يعني: يقولون له: يا ابن فلان، وهو غير أبيه، (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَبُوكَ حُذَافَةُ") وهذا قاله بالوحي، كما هو الظاهر.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأنشأ رجل من المسجد، كان يُلاحَى، فَيُدْعَى لغير أبيه": أنشأ: أخذ في الكلام، وشرع فيه، ويُلاحَى: يُعيَّرُ، ويُذَم، بأن يُنْسَبَ إلى غير أبيه، ويُنفى عن أبيه، وسببُ هذا ما كانت أنكحة الجاهلية عليه؛ فإنَّها كانت على ضروب كما ذكرناه في "النكاح"، وكان منها: أن المرأة يطؤها جماعة؛ فإذا حملت، فولدت دُعي لها كل من أصابها، فتُلحق الولد بمن شاءت، فيَلحق به، فربما يكون الولد من خسيس القَدْر، فتلحقه بكبير القدر، فإذا نُفي عمن له مقدار، وألحق بمن لا مقدار له لحقه من ذلك نقص وعار. فكانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تحقيق ذلك؛ لِيُنْسَب لأبيه الحقيقيّ الذي وُلد من نطفته، وتزول عنه تلك المعرَّة، فسأل هذان الرجلان النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال لأحدهما:"أبوك حذافة"، وقال للآخر:"أبوك سالم"، فتحقَّق نسبهما، وزالت معرَّتهما. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ أَنْشَأَ) قال أهل اللغة: معناه ابتدأ، ومنه أنشأ الله الخلق؛ أي: ابتدأهم، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فَقَالَ: رَضِينَا بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، عَائِذًا بِاللهِ) قال ابن السِّيد: هو منصوب على المصدر الذي يجيء على مثال فاعل؛ كقولهم: عُوفي عافيةً، أو على الحال المؤكدة النائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوف، كأنه قال: أعوذ بالله عائذًا، ولم يُذْكَر الفعل؛ لأن الحال نائبة عنه، ورُوي بالرفع؛ أي: أنا عائذ
(3)
.
(1)
"المفهم" 6/ 160 - 161.
(2)
"المفهم" 6/ 161 - 162.
(3)
"الفتح" 2/ 538.
وقال في "العمدة": قوله: "عائذًا بالله" على وزن فاعل مصدر؛ لأن المصدر قد يجيء على هذا الوزن، كما في قولهم: عافاه الله عافيةً، فعلى هذا انتصابه على المصدرية، تقديره: أعوذ عائذًا بالله؛ أي: أعوذ عياذًا بالله، ويجوز أن يكون "عائذًا" على بابه، ويكون منصوبًا على الحال، وذو الحال محذوف، تقديره: أعوذ حال كوني عائذًا بالله، ورُوي "عائذٌ بالله" بالرفع، على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أنا عائذ بالله. انتهى
(1)
.
(مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ) -بضم السين المهملة، بعدها واو، ثم همزة- وللكشميهنيّ
(2)
"شَرّ" بفتح المعجمة وتشديد الراء، وإضافة السوء إلى الفتن بمعنى "من"، ويَحْتَمِل أن يكون من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: الفتن السوء، قال المجد رحمه الله: ساءَهُ سَوْءًا، وسَوَاءً، وسَوَاءَةً، وسَوَايَةً، وسَوَائِيَةً، ومَسَاءَة، ومَسَائِيَةً -مَقْلُوبًا وأَصْلُهُ: مَسَاوِئَةً- ومَسَايَةً، ومَسَاءً، ومَسَائِيَّةً: فَعَلَ به ما يَكْرَهُ، فاسْتَاءَ هو، والسُّوءُ بالضم: الاسْمُ منه، قال: ولا خَيْرَ في قَوْلِ السَّوْءِ بالفتح، والضم، إذا فَتَحْتَ فَمَعْنَاه: في قَوْلٍ قَبيحٍ، وإذا ضَمَمْتَ، فمعناه: في أَنْ تَقُولَ سُوءًا، وقُرِئ:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بالوَجْهَيْن؛ أي: الهَزِيمةِ، والشَّرِّ، والرَّدَى، والفَسَادِ، وكذا:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40]، أو المَضْمُومُ: الضَّرَرُ، والمَفْتُوحُ: الفَسَادُ، والنَّارُ، ومنه:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10] في قِرَاءَةٍ. انتهى
(3)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول عمر رضي الله عنه: "رضينا بالله ربًّا. . . إلخ" كلام يقتضي إفراد الحقّ بما يجب له تعالى من الربوبية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم من الرسالة اليقينية، والتسليم لأمرهما، وحُكمهما بالكلية، والاعتراف لدين الإسلام بأنه أفضل الأديان، وإنما صدَّر عمر رضي الله عنه كلامه بنون الجمع؛ لأنه متكلِّم عن نفسه، وعن كل من حضر هنالك من المسلمين. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: قوله: "عائذٌ بالله من الفتن" كذا صحَّت الرواية
(1)
"عمدة القاري" 7/ 78 - 79.
(2)
أي: عند البخاريّ، لا عند مسلم، فتنبّه.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 54.
(4)
"المفهم" 6/ 162.
"عائذٌ" بالرفع؛ أي: أنا عائذ؛ أي: مستجير، والفتن: جمع فتنة، وقد تقدَّم أن أصلها الاختبار، وأنها تنصرف على أمور متعددة، ويعني بها هنا: المحن، والمشقات، والعذاب، ولذلك قال:"من سوء الفتن"؛ أي: من سيئها، ومكروهها، ولما قال ذلك عمر رضي الله عنه، وضَمَّ إلى ذلك قوله:"إنا نتوب إلى الله"؛ كما جاء في الرواية الأخرى، سكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يُحدِّثهم بما أطلعه الله عليه من أمور الآخرة، فقال:"لم أر كاليوم قطّ في الخير والشر" هذا الكلام محمول على الحقيقة، لا التوسع، والمجاز: فإنَّه لا خير مثل خير الجنَّة، ولا شرَّ مثل شرِّ النار. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك؛ إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشفقةً على المسلمين؛ لئلا يؤذوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتكثير عليه، وفيه أن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مانعًا عن القضاء؛ لكماله، بخلاف سائر القضاة، وفيه فَهْمُ عمر رضي الله عنه، وفضل علمه؛ لأنه خَشِي أن تكون كثرة سؤالهم كالتعنت له، وفيه أنه لا يُسأل العالم إلا عند الحاجة. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ)؛ أي: مثل هذا اليوم (قَطُّ)؛ أي: في الزمان الماضي، قال القرطبيّ رحمه الله:"قطّ": هي الظرفية الزمانية، ورويناها مفتوحة القاف، مضمومة الطاء مشدَّدة، وهي إحدى لغاتها، وتقال بالتخفيف، وتقال بضمّ القاف على إتباع حركتها لحركة الطاء، وذلك مع التشديد، والتخفيف، فأمَّا "قَطْ" بمعنى: حَسْبُ، فبتخفيف الطاء، وسكونها، وقد تزاد عليها نون بعدها، فيقال: قَطْني، وقد تحذف النون، فيقال: قطي، وقد تحذف الياء، فيقال: قَطِ، بكسر الطاء، وقد تبدل من الطاء دال مهملة، فيقال: قد، ويقال على تلك الأوجه كلها، كله من "الصحاح". انتهى
(3)
.
(فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، إِنِّي صُوِّرَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: مُثّلت (لِيَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَرَأَيْتُهُمَا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ")؛ يعني: بينه وبين الحائط الذي أمامه صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "صوِّرت لي الجنة والنار فرأيتهما دون هذا
(1)
"المفهم" 6/ 162.
(2)
"عمدة القاري" 22/ 311.
(3)
"المفهم" 6/ 162.
الحائط"، وفي الرواية الأخرى: "لقد عُرضت عليّ الجنة والنار آنفًا في عُرْض هذا الحائط"، وفي البخاري في هذا الحديث: "لقد رأيت الآن -منذ صليت لكم الصلاة- الجنة والنار ممثلتين في قبلة هذا الجدار" ظاهر هذه الروايات -وإن اختلفت ألفاظها-: أنه صلى الله عليه وسلم رأى مثال الجنة والنار في الجدار الذي استقبله، مصوَّرتين فيه، وهذا لا إحالة فيه، كما تتمثل المرئيات في الأجسام الصقيلة.
يبقى أن يقال: فالحائط ليس بصقيل، ويجاب بأن اشتراط الصقالة في ذلك ليس بشرط عقليّ، بل عاديّ، وذلك محل خرق العادة، ووقتها، فيجوز أن يمثّلها الله تعالى فيما ليس بصقيل، هذا على مقتضى ظاهر هذا الحديث، وأما على مقتضى ظاهر أحاديث الكسوف، فيكون رآهما حقيقة، ومَدَّ يده ليأخذ قطفًا من الجنة، ورأى النار، وتأخر مخافة أن يصيبه لَفْحها، ورأى فيها فلانًا، وفلانة، وبمجموع الحديثين تَحَصَّل أن الله تعالى أطلع نبيَّه صلى الله عليه وسلم على الجنة والنار مرتين:
إحداهما: في صلاة الكسوف اطّلاعَ رؤية، كما فصلناه في الكسوف.
وثانيتهما: هذه الاطلاعة، وكانت في صلاة الظهر، كما قد جاء في الرواية التي سبقت، أنه صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس، فصلَّى لهم صلاة الظهر، فلما سلم قام على المنبر، فذكر الساعة. . . الحديث، وذكر نحو ما تقدَّم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6106]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْحَارِثِ- (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَا جَمِيعًا: حَدَّثنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، بِهَذِهِ الْقِصَّةِ).
(1)
"المفهم" 6/ 163 - 164.
رجال هذا الحديث: عشرة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارثِيُّ) هو: يحيى بن حبيب بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ) بن عثمان الْعَبْديّ، أبو بكر البصريّ الملقّب ببُنْدار، ثقةٌ [10](ت 252) وله بضع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
5 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد الله سَنْبَر بوزن جعفر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
6 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول التيميّ، أبو عُمَر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
7 -
(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب بالطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
8 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نَزَل في بني تيم، فنُسِب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ هِشَامٍ) الضمير لخالد بن الحارث، ومحمد بن أبي عديّ؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن هشام الدستوائيّ.
وقوله: (قَالَا جَمِيعًا) الضمير لهشام الدستوائيّ، وسليمان التيميّ؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6678)
- حدّثنا معاذ بن فَضَالة، حدّثنا هشام، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، قال:"سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوه بالمسألة، فَصَعِد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر، فقال: "لا تسألوني عن شيء، إلا بيَّنت لكم"، فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا، فإذا كلُّ رجل رأسه في ثوبه، يبكي، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يُدْعَى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله، من أبي؟ فقال: "أبوك حُذافة"، ثم أنشأ عمر، فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا، نعوذ بالله من سوء الفتن، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قطّ، إنه صُوِّرت لي الجنة والنار، حتى رأيتهما دون الحائط"، قال: فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . انتهى
(1)
.
ورواية سليمان التيميّ عن قتادة ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6429)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، حدّثنا عاصم بن النضر، حدّثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت أبي، حدّثنا قتادة، عن أنس بن مالك، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل، حتى أحفوه بالمسألة، فقال:"سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته لكم"، قال: فأَرَمَّ القومُ، وخَشُوا أن يكون بين يدي أمر عظيم، قال أنس: فجعلنا نلتفت يمينًا وشمالًا، فلا أرى كل رجل إلا قد دَسَّ رأسه في ثوبه يبكي، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"سلوني، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته لكم"، فقام رجل من ناحية المسجد، فقال: يا نبي الله من أبي؟ قال: "أبوك حذافة"، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا نبيّ الله رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولًا، نعوذ بالله من شر الفتن، فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيت من الخير والشرّ كاليوم قطّ؛ إنها صُوِّرت لي الجنة والنار، فأبصرتهما دون ذلك الحائط". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6107]
(2360) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَا، الْهَمْدَانِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى،
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2597.
(2)
"صحيح ابن حبان" 14/ 338.
قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا، فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ:"سَلُونِي عَمَّ شِئْتُمْ"، فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ"، فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ"، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَضَبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: قَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، أبو عامر الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدمة في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) وهو ابن سبع وثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
4 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، وُلد بالبصرة، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، أَمَّره عُمر، ثم عثمان، وهو أحد الحكمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأن فيه الراوي عن جدّه، عن أبيه، فأبو بردة جدّ لبريد، وأبو موسى والد أبي بردة، وصحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه أنه (قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ) بمنع الصرف، قال الخليل: إنما تُرك صرفه؛ لأن أصله فُعَلاء؛ كالشُّعَراء، جمع على غير الواحد، فنقلوا الهمزة الأولى إلى أول الكلمة، فقالوا: أشياء، فوزنه أفعاءُ، وقال الأخفش، والفراء: هو أفعِلاء؛ كالأنبياء، فحُذفت الهمزة التي بين الياء والألف؛ للتخفيف، فوزنه أفعاءُ، وقال الكسائيّ: هو أفعال؛ كأَفراخ، وإنما تركوا صرفها؛ لكثرة استعمالهم لها، ولأنها شبّهت بفَعْلاء، قاله في "العمدة"
(1)
.
ومن تلك الأشياء التي كرهها صلى الله عليه وسلم سؤال من سأل أين ناقتي؟ وسؤال من سأل عن البَحيرة والسائبة، وسؤال من سأل عن وقت الساعة، وسؤال من سأل عن الحجّ؛ أيجب كلّ عام؟ وسؤال من سأل أن يحوّل الصفا ذهبًا، ومنها ما تقدّم في حديث أنس رضي الله عنه:"سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة"، وغير ذلك
(2)
.
وقوله: (كَرِهَهَا) جملة في محلّ جرّ؛ لأنها صفة لـ "أشياء"، وإنما كره السؤال عنها؛ لأنه ربما كان سببًا لتحريم شيء على المسلمين، فتلحقهم به المشقة، أو ربما كان في الجواب ما يَكره السائل، ويسوؤه، أو ربما أحفوه صلى الله عليه وسلم، وألحقوا به المشقة والأذى، فيكون ذلك سببًا لهلاكهم، وهذا في الأشياء التي لا ضرورة، ولا حاجة إليها، أو لا يتعلق بها تكليف ونحوه، وفي غير ذلك لا تتصور الكراهة؛ لأن السؤال حينئذ إما واجب، أو مندوب؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، [والأنبياء: 7]
(3)
.
(فَلَمَّا أُكْثِرَ) بالبناء للمفعول؛ أي: فلما أكثر السؤال (عَلَيْهِ)؛ أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(غَضِبَ) جواب "لَمّا"، وسبب غضبه صلى الله عليه وسلم تعنتهم في السؤال، وتكلفهم فيما لا حاجة لهم فيه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن أعظم المسلمين جُرْمًا، مَن سأل عن شيء، فحُرِّم من أجل مسألته"، متّفقٌ عليه
(4)
.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 113.
(2)
"الفتح" 13/ 269.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 113.
(4)
"عمدة القاري" 2/ 113.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِلنَّاسِ)؛ أي: الحاضرين في ذلك المجلس، وقوله:("سَلُونِي) جملة من الفعل والفاعل، والمفعول مقول القول، وقال بعض العلماء: هذا القول منه صلى الله عليه وسلم محمول على أنه أوحي إليه به؛ إذ لا يَعلم كل ما يسأل عنه من المغيَّبات إلا بإعلام الله تعالى له، وقال القاضي عياض: ظاهر الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم: "سلوني" إنما كان غضبًا. انتهى
(1)
.
(عَمَّ شِئْتُمْ")"ما" استفهاميّة، ولذا حُذفت ألفها؛ لأن القاعدة أن ألفها تُحذف إذا جُرّت، وتبقى الفتحة قبلها دليلًا عليها، نحو "فيم"، و"إلام"، و"علام"، وعلة الحذف الفرق بين "ما" الاستفهاميّة، و"ما" الخبريّة، فلهذا حُذفت في نحو:{فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)} [النازعات: 43]، {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 35]، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وثبت في:{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14]، و {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4، النساء: 162]، و {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وكما لا تُحذف الألف في الخبر لا تثبت في الاستفهام، وأما قراءة عكرمة، وعيسى:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] فنادرة، وأما قول حسان رضي الله عنه[من الوافر]:
عَلَامَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ
…
كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
فضرورة، ويُرْوَى:"في دَمَانٍ"، وهو كالرماد وزنًا ومعنى، قاله في "العمدة"
(2)
.
وإلى قاعدة حذف الهمزة المذكورة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفَهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا
…
بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَ اقْتَضَى"
(فَقَالَ رَجُلٌ) تقدّم أنه عبد الله بن حُذافة السهميّ رضي الله عنه (مَنْ أَبِي؟) جملة من مبتدأ وخبر مقول "قال"، وإنما سأله عن ذلك؛ لأنه كان يُنسب إلى غير أبيه إذا لاحى أحدًا، فنسبه صلى الله عليه وسلم إلى أبيه، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَبُوكَ حُذَافَةُ") بضمّ الحاء المهملة، والذال المعجمة.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 113 - 114.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 114.
[فإن قيل]: كيف قضى صلى الله عليه وسلم في حال غضبه، حيث قال:"أبوك فلان"، وقد نهى أن يقضي القاضي، وهو غضبان؟.
[أجيب]: بأن يقال أوّلًا: أن هذا ليس من باب الحكم، وعلى تقديره، فيقال: هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم؛ لمحلّ العصمة، فاستوى غضبه ورضاه، ومجرد غضبه من الشيء دالّ على تحريمه، أو كراهته، بخلاف غيره صلى الله عليه وسلم، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(فَقَامَ) زاد في رواية البخاريّ: "إليه"؛ أيّ: إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، (آخَرُ)؛ أي: رجل آخر، وهو سعد بن سالم مولى شيبة بن ربيعة، سمّاه ابن عبد البرّ في "التمهيد" في ترجمة سهيل بن أبي صالح منه، وأغفله في "الاستيعاب"
(2)
، ولم يظفر به أحد من الشارحين، ولا من صَنّف في المبهَمات، ولا في أسماء الصحابة، وهو صحابيّ بلا مرية؛ لقوله:"فقال: من أبي يا رسول الله؟ "، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في "كتاب الاعتصام": وزاد في رواية الزهريّ: "فقام إليه رجل، فقال: أين مدخلي يا رسول الله؟ قال: النار"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الرجل في شيء من الطرق، كأنهم أبهموه عمدًا للستر عليه، وللطبرانيّ من حديث أبي فِراس الأسلمي نحوه، وزاد:"وسأله رجل: في الجنة أنا؟ قال: في الجنة"، قال: ولم أقف على اسم هذا الآخر، ونقل ابن عبد البرّ عن رواية مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:"لا يسألني أحد عن شيء إلا أخبرته، ولو سألني عن أبيه"
(4)
، فقام عبد الله بن حُذافة، وذكر فيه عتاب أمه له، وجوابه، وذكر فيه:"فقام رجل، فسأل عن الحجّ"، فذكره، وفيه:"فقام سعد مولى شيبة، فقال: من أنا يا رسول الله؟ قال: أنت سعد بن سالم مولى شيبة"، وفيه: "فقام رجل من بني أسد، فقال: أين أنا؟ قال: في
(1)
"الفتح" 1/ 329.
(2)
قال بعض من كتب في هامش "الفتح": بل الحافظ نفسه أغفله في "الإصابة".
(3)
"الفتح" 1/ 329.
(4)
قوله: "ولو سألني عن أبيه" هذا ليس في رواية مسلم، فليُتنبّه.
النار"، فذكر قصة عمر، قال: "فنزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية [المائدة: 101]، ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، وبهذه الزيادة يتضح أن هذه القصة سبب نزول {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فإن الْمَسَاءة في حقّ هذا جاءت صريحةً، بخلافها في حقّ عبد الله بن حُذافة، فإنها بطريق التجوّز؛ أي: لو قُدِّر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه، فبين أباه الحقيقيّ، لافتضحت أمه، كما صَرّحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال، كما تقدم
(1)
.
(فَقَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ"، فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (مَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)"ما" موصولة بالجارّ والمجرور، وهي في محل نصب على أنها مفعول "رأى"، وهو من الرؤية، بمعنى الإبصار، ولهذا اقتصر على مفعول واحد، وقوله:(مِنَ الْغَضَبِ) بيان لـ "ما"، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللهِ) عز وجل؛ أي: مما يوجب غضبك، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند البخاريّ أن عمر رضي الله عنه برك على ركبتيه، فقال:"رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا"، والجمع بينهما ظاهر بأنه قال جميع ذلك، فنَقَل كلّ من الصحابيين ما حَفِظَ، ودلَّ على اتحاد المجلس اشتراكهما في نقل قصة عبد الله بن حُذافة، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ)؛ يعني: شيخه الثاني (قَالَ: مَنْ أَبِي يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ") الظاهر أن الاختلاف بين الشيخين في قوله: "قال: من أبي؟ "، فإن ابن برّاد رواه بلفظ:"فقال" بالفاء، وأبو كريب بلفظ:"قال" بلا فاء، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 17/ 161 - 162، كتاب "الاعتصام" رقم (7291).
(2)
"الفتح" 1/ 329.
أخرجه (المصنّف) هنا [37/ 6107](2360)، و (البخاريّ) في "العلم"(92) و"الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة"(7291)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 288)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 146)، و (البيهقيّ) في "المدخل إلى السنن الكبرى"(1/ 220)، والله تعالى أعلم.
(38) - (بَابُ وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم شَرْعًا، دُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6108]
(2361) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ، وَهَذَا حَدِيثُ قُتَيْبَةَ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ "، فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ، يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى، فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا"، قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ، فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِه، فَإنِّي لَنْ أَكذِبَ عَلَى اللهِ عز وجل").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ) هو: قُتيبة بن سعيد بن جَمِيل بن طَرِيف، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيل بن حُسين بن طلحة البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247) ولهَ أكثر من ثمانين سنةً (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وَضّاح اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(سِمَاكُ) -سماك بكسر أوله، وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وقد تغير بأَخَرَةٍ، فكان ربّما تَلَقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2]، ويقال: إنه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاث ومائة، على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
6 -
(أَبُوهُ) طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ، أبو محمد المدنيّ، الصحابيّ المشهور، استُشْهِد يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثلاث وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 109.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية الراوي عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الستة أهل الشورى رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ) طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنه (قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ)؛ أي: من الأنصار، وقوله:(عَلَى رُؤُوسِ النَّخْلِ) متعلّق بصفة لـ "قوم"، و"النخل": شجَرُ التَّمرِ؛ كالنَّخيل، كأميرٍ، قاله المرتضى
(1)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: النَّخْلُ: اسم جمع، الواحدة: نَخْلَةٌ، وكل جمع بينه وبين واحده الهاء، قال ابن السِّكِّيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البُرّ، وهي النحل، وهي البقر، وأهل نجد، وتميم يذكّرون، فيقولون: نَخْلٌ كريم، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ، وأما النَّخِيلُ بالياء: فمؤنّثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ "، فَقَالُوا)؛ أي: القوم الحاضرون لديه
(1)
"تاج العروس" 1/ 7541.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 596 - 597.
حينما سأل، (يُلَقِّحُونَهُ) بتشديد القاف من التلقيح، أو بالتخفيف، من الإلقاح، وقد فسّره بقوله:(يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى)؛ معناه: شقّ طَلْع النخلة الأنثى؛ لِيُذَرَّ فيه شيء من طلع النخلة الذَّكَر، قاله في "الفتح".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يُلقّحونه"؛ بمعنى: يَأْبِرُون في الرواية الأخرى، ومعناه: إدخال شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى، فتَعْلَقُ
(1)
بإذن الله تعالى. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "يلقِّحونه" مضارع ألقحَ الفحلُ الناقةَ، والريحُ السحابَ، ورياحٌ لواقحُ، ولا يقال: مَلاقح، وهو من النوادر، وقد قيل: الأصل فيه: مُلْقِحة، ولكنها لا تُلْقِح إلا وهي في نفسها لاقح، ويقال: لَقِحَت الناقة -بالكسر- لَقَحًا ولَقَاحًا بالفتح، فهي لاقح، واللَّقَاحُ أيضًا -بالفتح- ما تُلْقَحُ به النخل. انتهى
(3)
.
وقال في "التاج: الإِلقَاحُ، والتَّلقيح: أَن يَدَعَ الكَافُورَ، وهو وِعاءُ طَلْع النَّخْل ليَلتَينِ، أَو ثلاثًا بعد انْفلاقه، ثمّ يَأْخذَ شِمْرَاخًا من الفُحَّال، قال الأَزهريّ: وأَجودُه ما عَتُقَ، وكانَ من عَامِ أَوّل، فيدُسُّونَ ذلك الشِّمْرَاخَ في جَوْفِ الطَّلْعَة، وذلك بقَدرٍ، قال: ولا يَفعل ذلك إِلّا رَجلٌ عالمٌ بِما يَفعَل منه؛ لأَنّه إِن كان جاهِلًا، فأَكْثَرَ منه أَحرَقَ الكَافُورَ، فأَفسدَه، وإِنْ أَقلَّ منه صارَ الكافُورُ كثيرَ الصِّيصاءِ؛ يعني بالصِّيصاءِ: ما لا نَوَى له، وإِن لم يَفعل ذلك بالنَّخلة لم يُنتَفع بطَلْعِها ذلك العامَ. انتهى
(4)
.
(فَيَلْقَحُ)؛ أي: تحمل تلك الأنثى، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا) نافية، (أَظُنُّ يُغْنى ذَلِكَ شَيْئًا")؛ أي: ما أظنّ أنه ينفع شيئًا، إنما قاله صلى الله عليه وسلم على سبيل الظنّ؛ لأنه لم يمارس الفِلاحة والزراعة، قال النوويّ رحمه الله: قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعاش، وظنّه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نَقْص في ذلك، وسببه تعلّق همّهم بالآخرة ومعارفها. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما أظنّ ذلك يغني شيئًا"؛ يعني به: الإبار،
(1)
من باب تَعِب؛ أي: تحمل.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 117.
(3)
"المفهم" 6/ 167 - 168.
(4)
"تاج العروس" 1/ 1734.
إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأنه لم يكن عنده علم باستمرار هذه العادة، فإنَّه لم يكن ممن عانى الزراعة، ولا الفلاحة، ولا باشر شيئًا من ذلك، فخفيت عليه تلك الحالة، وتمسَّكَ بالقاعدة الكلية المعلومة التي هي: أنه ليس في الوجود، ولا في الإمكان فاعل، ولا خالق، ولا مؤثِّر إلا الله تعالى، فإذا نُسِب شيء إلى غيره نسبة التأثير فتلك النسبة مجازية، عرفيَّة، لا حقيقيَّة، فصدق قوله:"ما أظنّ ذلك يغني شيئًا"؛ لأن الذي يغني في الأشياء عن الأشياء بالحقيقة هو الله تعالى، غير أن الله تعالى قد أجرى عادته بأن سَتَر تأثير قدرته في بعض الأشياء بأسباب معتادة، فجعلها مقارنة لها، ومغطاة بها؛ لِيُؤْمِن من سبقت له السعادة بالغيب، وليضلّ من سبقت له الشقاوة بالجهل، والرَّيب:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42]. انتهى
(1)
.
(قَالَ) طلحة بن عبيد الله (فَأُخْبِرُوا)؛ أي: أصحاب النخل (بِذَلِكَ)؛ أي: بما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما أظنّ يغني ذلك شيئًا"، (فَتَرَكُوهُ)؛ أي: تركوا التلقيح عملًا بظنّه صلى الله عليه وسلم، (فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ)؛ أي: بما حصل لهم من كون النخل أخرج شيصًا، ولم يُثمر ثمرًا طيّبًا. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ)؛ أي: التلقيح، (فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظنَنْتُ ظنًّا)؛ أي: إنما أشرت عليهم بتركه لأجل ظنّ مني أنه لا ينفع، (فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ)، وفي الأخرى:"إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم، فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر"، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا كله منه صلى الله عليه وسلم اعتذار لمن ضَعُف عقله مخافةَ أن يُزِلَّه الشيطان، فيُكَذِّب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكفر، وإلا فما جرى شيء يحتاج فيه إلى عذر، غايةُ ما جرى مصلحة دنيوية، خاصَّة بقوم مخصوصين، لم يعرفها من لم يباشرها، ولا كان من أهلها المباشرين لعملها، وأوضحُ ما في هذه الألفاظ المعتذَر بها في هذه القصة قوله:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"، وكأنه قال: وأنا أعلم بأمر دينكم. انتهى
(2)
.
(وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا)؛ أي: عن الأحكام الشرعيّة، أو عن الأمور الغيبية التي تأتيني من عند الله تعالى وحيًا، (فَخُذُوا بِهِ) فإنه حقّ
(1)
"المفهم" 6/ 168.
(2)
"المفهم" 6/ 168 - 169.
وصدق، لا يتخلّف، وهذا أمرٌ جزمٌ بوجوب الأخذ عنه صلى الله عليه وسلم في كل أحواله: من الغضب، والرضا، والمرض، والصحة
(1)
.
(فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عز وجل")؛ أي: لا يقع منه صلى الله عليه وسلم فيما يبلّغه عن الله كذب، ولا غلط؛ لا سهوًا، ولا عمدًا، وقد قلنا: إنّ صِدْقه في ذلك هو مدلول المعجزة، وأما الكذب العمد المحض فلم يقع قط منه في خبر من الأخبار، ولا جُرِّب عليه شيء من ذلك، منذ أنشأه الله تعالى، وإلى أن توفاه الله تعالى، وقد كان في صغره معروفًا بالصدق والأمانة، ومجانبة أهل الكذب، والخيانة، حتى إنه كان يسمى بالصادق الأمين، يشهد له بذلك كل من عرفه، وإن كان من أعدائه، وقد خالفه
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 6108](2361)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 166)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 12)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 70)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 64)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 373)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من عدم العناية بالأمور الدنيويّة، حيث لم يكن له علم بتلقيح النخل، فظنّ أنه لا ينفع، فتبيّن بخلاف ذلك، فأمر الناس أن يعملوا به؛ لخبرتهم به، وتجربتهم بكونه سببًا عاديًّا، أجرى الله تعالى به سُنَّته، كما أجرى ذلك في الحيوانات حيث تتناسل به، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان عصمة الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم عن الخطأ فيما يبلّغه
(1)
"المفهم" 6/ 169.
(2)
"المفهم" 6/ 169.
عن الله عز وجل، قال القرطبيّ رحمه الله
(1)
: هذا معلوم من حال النبيّ صلى الله عليه وسلم قطعًا بدليل المعجزة، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قال للناس: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، أبلغكم ما أرسلني به إليكم من الأحكام، والأخبار عن الدار الآخرة، وغيرها، وأنا صادق في كل ما أخبركم به عنه، ويشهد لي على ذلك ما أيَّدني به من المعجزات، ثم وقعت المعجزات مقرونة بتحدِّيه، علمنا على القطع والبتات استحالة الخطأ والغلط عليه فيما يبلغه عن الله عز وجل؛ إما لأن المعجزة تنزلت منزلة قول الله تعالى لنا: صَدَق، أو لأنها تدل على أن الله تعالى أراد تصديقه فيما قاله عنه، دلالة على قرائن الأحوال، وعلى الوجهين فيحصل العلم الضروري بصدقه، بحيث لا يجوز عليه شيء من الخطأ في كل ما يبلغه عن الله تعالى بقوله:"ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل"، وأما أمور الدنيا التي لا تعلق لها بالدِّين، فهو فيها واحد من البشر، كما قال:"إنما أنا بشر"، وكما قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم"؛ أي: وأنا أعلم بدينكم، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قاله صاحب "التكملة": إن قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا. . . إلخ" تمسّك بعض العلمانيين والإباحيين على أن أحكام السنّة النبويّة في المعاملات ليست من الدِّين، ولا يجب اتّباعها -والعياذ بالله- وهذا جهل وإلحاد صريحٌ، فإن ما قاله صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل لم يكن حكمًا منه، ولا قضاءً، ولا فتوى، وإنما كان ظنًّا في الأمور المباحة التي تتعلّق بالتجربة والمشاهدة، بدا له من غير رويّة، فأبداه، ولذلك لم ينه المؤبّرين عن التأبير، ولا أمر أحدًا بأن يمنعهم من ذلك، ولو كان يقصد نهيهم عنه شرعًا لخاطبهم بالنهي، أو أرسل إليهم بما يدلّ على النهي، فلما لم يفعل من ذلك شيئًا تبيّن أنه صلى الله عليه وسلم اعتبر التأبير أمرًا مباحًا، فائدته مشكوكةٌ في ظنّه، بل قد صرّح الراوي في حديث الباب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا عَلِم بانتهائهم عن هذه العمليّة أفصح عن مراده بقوله:"إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ".
(1)
راجع: "المفهم" 6/ 167.
وكيف تقاس على مثل هذا الظنّ الأحكام الصريحة الجازمة التي صدرت منه صلى الله عليه وسلم كفتوى، أو قضاء؟ فإنها ليست من ظنونه التي ظنها في الأمور المباحة، وإنما هي أحكام بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبليغها، وأُمرت الأمة باتباعها، قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7].
قال الشيخ وليّ الله الدهلويّ رضي الله عنه في كتابه "حجة الله البالغة": اعلم أن ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ودُوّن في كتب الحديث على قسمين:
أحدهما: ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية [الحشر: 7]، منه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، وهذا كلّه مستند إلى الوحي، ومنها شرائع، وضَبْط للعبادات والارتفاقات بوجوه الضبط المذكورة فيما سبق، وهذه بعضها مستندة إلى الوحي، وبعضها مستندة الاجتهاد، واجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ.
وثانيهما: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء فخذوا به، وأمرتكم بشيء من رأي، فإنما أنا بشر"، وقوله صلى الله عليه وسلم في قصّة تأبير النخل:"فإني إنما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكن إذا حدّثتكم عن الله شيئًا، فخذوا به، فإني لن أكذب على الله"، فمنه الطبّ، ومنه باب قوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالأدهم الأقرح"، ومستنده التجربة، ومنه ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة دون العبادة، وبحسب الاتّفاق دون القصد، ومنه ما ذكره كما كان يذكّر قومه؛ كحديث أم زرع، وحديث خرافة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ومنه ما فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة. . . إلخ" فيه نظر لا يخفى، فإن الحقّ أن ما فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل العادة، أو لم يقصده، فكله من سُنَّته التي أمرنا الله تعالى باتّباعها، وقد أشبعت البحث في هذا في "التحفة المرضيّة"
(2)
، في الأصول، فلتراجع ما هناك، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"حجة الله البالغة" 1/ 128، و"تكملة فتح الملهم" 4/ 594 - 595.
(2)
راجع: "التحفة المرضيّة" ص 46 - 48.
وخلاصة القول عندي في هذه المسألة أن ما صدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يتعلّق بتبليغ الرسالة عن الله تعالى، فهو وحي محض لا شائبة فيه، وأنه صلى الله عليه وسلم كان له اجتهاد فيما لم يُنزل عليه، وهذا الاجتهاد ملحق بما قبله؛ لأن اجتهاده، وإن لم يكن وحيًا إلا أنه لا يقرّ على الخطأ إن حصل، بل يأتيه الإرشاد من الله سبحانه وتعالى إلى هو الحقّ، فهو ملحق بالوحي.
وأما ما يصدر عنه على سبيل الظنّ والتخمين، كما هو الواقع في أحاديث الباب، فإنه بشر كسائر البشر يصيب ويخطئ، وهذا خلاصة ما لديّ في هذا المقام، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6109]
(2362) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الرُّومِيّ الْيَمَامِيُّ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ- حَدَّثَنَا أَبُو النَّجَاشِيِّ، حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، قَالَ: قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ، يَقُولُ
(1)
: يُلَقِّحُوَنَ النَّخْلَ، فَقَالَ:"مَا تَصْنَعُونَ؟ "، قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ، قَالَ:"لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا"، فَتَرَكُوهُ، فَنَفَضَتْ، أَو فَنَقَصَتْ، قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيءٍ مِنْ دِينِكُمْ، فَخُذُوا بِه، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي
(2)
فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ"، قَالَ عِكْرِمَةُ: أَو نَحْوَ هَذَا، قَالَ الْمَعْقِرِيُّ: فَنَفَضَتْ، وَلَمْ يَشُكَّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الرُّومِيّ الْيَمَامِيُّ) هو: عبد الله بن محمد اليماميّ، نزيل بغداد، المعروف بابن الرُّوميّ، ويقال: اسم أبيه عُمَر، صدوق [10](ت 236)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 63/ 356.
2 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) هو: عباس بن عبد العظيم بن
(1)
وقع في معظم النسخ: "يقولون"، وهو تصحيف.
(2)
وفي نسخة: "من رأيٍ".
إسماعيل العنبريّ، أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيُّ) أبو الحسن، نزيل مكة، ثقة
(1)
[11](ت 255)(م) من أفراد المصنّف، تقدم في "الصلاة" 11/ 886.
[تنبيه]: قوله: "الْمَعْقِرِيُّ" -بفتح الميم، وكسر القاف-: نسبة إلى ناحية من اليمن، قاله في "اللباب"
(2)
.
4 -
(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن موسى الْجُرَشيّ -بالجيم المضمومة، والشين المعجمة- أبو محمد اليماميّ، مولى بني أمية، ثقةٌ، له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
5 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجْليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ، يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطرابٌ، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
6 -
(أَبُو النَّجَاشِيِّ) -بنون، وجيم خفيفة، وبعد الألف معجمة- واسمه: عطاء بن صُهيب الأنصاريّ، ثقةٌ [4](خ م س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 34/ 1417.
7 -
(رَافِعُ بْنُ خَدِيجِ) بن رافع بن عبديّ الحارثيّ الأوسيّ الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، أول مشاهده أُحُدٌ، ثم الخندق، مات سنة ثلاث، أو أربع وسبعين، وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 489.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة التحمل والأداء منه ومنهم، وأنه مسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
(1)
هذا أَولى مما في "التقريب": مقبول؛ لأنه شيخ مسلم، وروى عنه جماعة، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فهو ثقةٌ، كما صرّح به الذهبيّ في "ميزان الاعتدال"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 234.
شرح الحديث:
عن رَافِعِ بْنِ خَدِيج رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَدِمَ) بكسر الدال، (نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ)؛ أي: مهاجرًا من مكة، وقوله:(وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ) جملة حاليّة، وضمير "هم" لأهل المدينة؛ أي: والحال أنهم يأبرون النخل -بكسر الباء، وضمّها- يقال منه: أَبَرَ يَأبِرُ، وَيأْبُرُ، كبَذَرَ يَبْذِر، ويَبْذُر، ويقال: أَبَّر يُؤَبِّر بالتشديد تأبيرًا، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَبَرْتُ النَّخْلَ أَبْرًا، من بَابَي ضرب، وقتل: لقَّحْتُه، وأبَّرْتُهُ تَأْبيرًا مبالغة وتكثير، والأَبُور وِزَانُ رسول: ما يُؤَبَّر به، والإِبَارُ وزانُ كِتاب: النَّخْلَةُ التي يُؤَبَّر بطَلْعِها، وقيل: الإِبَارُ أيضًا مصدر؛ كالقيام، والصيام، وتأبَّر النخل قَبِلَ أن يُؤَبَّر، قال أبو حاتم السِّجستانيّ في "كتاب النخلة": إذا انْشَقَّ الكافور، قيل: شَقَّق النخلُ، وهو حين يُؤَبَّرُ بالذَّكَر، فَيُؤْتَى بشمَاريخه، فَتُنْفَضُ، فيطِيُر غُبارهُا، وهو طَحِين شماريخِ الفُحَّال إلى شماريخِ الأنثى، وذلك هو التَّلقيحُ. انتهى
(2)
.
وقد فسّر "يأبرون" بقوله: (يَقُولُ) هكذا في النسخة الهنديّة، وهو الصحيح، والضمير لرافع، كما هو الظاهر، ويَحْتَمِل أن يكون لغيره، ووقع في معظم النسخ بلفظ:"يقولون"، والظاهر أنه غلط، فتنبّه. والمعنى: أن رافعًا يقول مفسّرًا لقوله: "يأبرون النخل": (يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ) من التلقيح، أو الإلقاح، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الناس ("مَا تَصْنَعُونَ؟ "، قَالُوا: كُنَّا نَصْنَعُهُ)؛ أي: كنّا نصنع هذا قبل أن تأتينا، فهو من العادات المستمرّة لدينا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا")؛ أي: ليكون اعتمادكم على فضل الله تعالى، لا على صنيعكم هذا، فإنه سبحانه وتعالى أجرى سُنَّته في سائر النباتات بإثمارها دون التلقيح، فلعلّ هذا أيضًا مثلها، (فَتَرَكُوهُ) اعتمادًا على توجيهه صلى الله عليه وسلم (فَنَفَضَتْ، أَو فَنَقَصَتْ) قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الحروف كلها، والأول بالفاء، والضاد المعجمة، والثاني بالقاف، والصاد المهملة، وأما قوله في آخر الحديث:"قال الْمَعْقِريّ: فنفضت" فبالفاء، والضاد المعجمة، ومعناه: أسقطت ثمرها، قال
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 117.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 1.
أهل اللغة: ويقال لذلك المتساقط: النَّفْض، بفتح النون، والفاء، بمعنى: المنفوض؛ كالْخَبْط بمعنى المخبوط، وأنفض القومُ: فَنِي زادهم. انتهى
(1)
.
(قَالَ) رافع: (فَذَكَرُوا)؛ أي: القوم الذين تركوا التلقيح، (ذَلِكَ)؛ أي: ما حصل لهم من نفض نخلهم، وعدم إخراجها ثمرًا طيّبًا بسبب عدم التلقيح، (لَهُ) صلى الله عليه وسلم متعلّق بـ "ذَكَروا"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)؛ أي: والبشر لا يعلم الغيب إلا بالوحي، وقال القرطبيّ:"فإنما أنا بشر"؛ أي: واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية، وهذه إشارة إلى قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية [الكهف: 110]، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي: تبليغ الأمور الدينية. انتهى
(2)
.
(إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ، فَخُذُوا بِهِ)؛ أي: لأنه وحي من الله عز وجل، وقال المناويّ رحمه الله؛ أي: إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم، فخذوا به؛ أي: افعلوه، فهو حقّ، وصواب دائمًا، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي؛ يعني: من أمور الدنيا، فإنما أنا بشر؛ يعني: أخطئ، وأصيب فيما لا يتعلق بالدِّين؛ لأن الإنسان محل السهو والنسيان، ومراده بالرأي: الرأي في أمور الدنيا على ما عليه جَمْع، لكن بعض المحقّقين قال: أراد به الظنّ؛ لأن ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم برأيه واجتهاده، وأُقِرّ عليه فهو حجةٌ مطلقًا. انتهى
(3)
.
(وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِى) بياءين بإضافة رأي إلى ياء المتكلّم، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"من رأيٍ" بالتنوين، (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ")؛ أي: فيعتريني ما يعتري البشر من السهو، والنسيان، والخطأ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا أمرتكم بشيء من رأيي"؛ يعني به: في مصالح الدنيا، كما دلّ عليه بساط هذه القصة، ونصُّه على ذلك، ولم يتناول هذا اللفظ ما يحكم فيه باجتهاده إذا تنزّلنا على ذلك؛ لأنَّ ذلك أمر ديني تجب عصمته فيه، كما إذا بلغه نصًّا؛ إذ كل ذلك تبليغ شرعه، وبيان حكم دِينه، وإن
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 117 - 118.
(2)
"المفهم" 6/ 170.
(3)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 2/ 567.
اختلفت مآخذ الأحكام، كما قد أوضحناه في الأصول. انتهى
(1)
.
وقال صاحب "التكملة": قوله: "إذا أمرتكم بشيء من رأيي" المراد من الرأي هنا هو الظنّ في الأمور المباحة، كما دلّ عليه الحديث السابق، والأحاديث يُفسّر بعضها بعضًا، وقد صرّح عكرمة في آخر الحديث أنه روى حديث رافع هذا بالمعنى، بخلاف الحديث السابق، فإن الظاهر فيه أنه روي باللفظ، وقد عبّر عكرمة الظنّ هنا بالرأي، فليس المراد اجتهاده صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعيّة؛ لأنه يجب اتّباعه فيه على الأمّة، كما دلّت عليه النصوص المتكاثرة المتظاهرة.
قال الشيخ وليّ الدهلويّ رحمه الله: واجتهاده صلى الله عليه وسلم بمنزلة الوحي؛ لأن الله تعالى عصمه من أن يتقرّر رأيه على الخطأ، وليس يجب أن يكون اجتهاده استنباطًا من المنصوص، كما يُظنّ، بل أكثره أن يكون علّمه الله تعالى مقاصد الشرع، وقانون التشريع، والتيسير والأحكام، فبيّن المقاصد المتلقّاة بالوحي بذلك القانون، ومنه حِكَم مرسلة، ومصالح مطلقة لم يوقّتها، ولم يُبيّن حدودها؛ كبيان الأخلاق الصالحة، وأضدادها، ومستندها غالبًا الاجتهاد، بمعنى: أن الله تعالى علّمه قوانين الاتفاقات، فاستنبط منها حكمةً، وجعل فيها كلّيّة، ومنه فضائل الأعمال، ومناقب العمال، فبعضها مستند إلى الوحي، وبعضها إلى الاجتهاد. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ عِكْرِمَةُ) بن عمّار (أَو نَحْوَ هَذَا)؛ أي: أو قال صلى الله عليه وسلم نحو هذا الكلام، فيه أن عكرمة لم يتحقّق من لفظ:"من رأيي"، فإذًا لا ينافي ما سبق من لفظ:"إنما ظننت ظنًّا". قال النوويّ: قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأيي"؛ أي: في أمر الدنيا، ومعايشها، لا على التشريع، فأما ما قاله صلى الله عليه وسلم باجتهاده، ورآه شرعًا يجب العمل به، وليس إِبَارُ النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى، لقوله في آخر الحديث قال عكرمة: أو نحو هذا، فلم يخبر بلفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم محققًا، قال العلماء: ولم يكن هذا القول
(1)
"المفهم" 6/ 169 - 170.
(2)
"حجة الله البالغة" 1/ 128.
خبرًا، وإنما كان ظنًّا، كما بيَّنه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش، وظنه كغيره، فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلّق هممه صلى الله عليه وسلم بالآخرة، ومعارفها، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ الْمَعْقِرِيُّ) بيّن به اختلاف شيوخه؛ يعني: أن أحمد بن جعفر شيخه الثالث قال في روايته: (فَنَفَضَتْ) بالفاء، والضاد المعجمة بالجزم، (وَلَمْ يَشُكَّ) كما شكّ الآخران، فقالا:"فنفضت، أو فنقصت"، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فنفضت، أو فنقصت": ظاهره أنه شك من بعض الرواة في أيّ اللفظين قال، ويَحْتَمِل أن تكون "أو" بمعنى: الواو؛ أي: نفضت ثمرها، ونقصت في حَمْلها، وقد دلَّ على هذا قوله في الرواية الأخرى:"فخرج شيصًا"، وهو الْبَلَح الذي لا ينعقد نواه، ولا يكون فيه حلاوة إذا أبسر، ويسقط أكثره، فيصير حَشَفًا. انتهى
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ويَحْتَمِل أن تكون "أو" بمعنى: الواو، هذا غير صحيح، يبطله قوله:"ولم يشك"، والحاصل: أن "أو" للشكّ بلا شكّ، لا بمعنى الواو، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث رافع بن خَديج رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، لم يُخرجه من أصحاب الأصول غيره.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 6109](2362)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(23)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 280)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6110]
(2363) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَعَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 116.
(2)
"المفهم" 6/ 170.
بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ:"لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ"، قَالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ:"مَا لِنَخْلِكُمْ؟ "، قَالُوا: قُلْتَ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ:"أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ نزل الرّقّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نزيل بغداد، يكنى أبا عبد الرحمن، ويُلَقَّب شاذان، ثقةٌ [9] مات في أول سنة ثمان ومائتين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأَخَرَة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دَلَّس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص هـ 35.
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.
6 -
(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين رضي الله عنها، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، ففيهما خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين، على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
7 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ -بضم الموحدة، ونونين- أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (220) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله بالنسبة للأول، ومن خماسيّاته بالنسبة للثاني، وفي الأول رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، وقوله:(وَعَنْ ثَابِتٍ)؛ أي: ابن أسلم الْبُنانيّ، عطف على قوله:"عن هشام بن عروة"، فحمّاد بن سلمة له إسنادان: هشام عن أبيه، عن عائشة، وثابت، عن أنس، والثاني أعلى من الأول. (عَنْ أَنَسِ) بن مالك رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ) من الأنصار (يُلَقِّحُونَ)؛ أي: يأبّرون النخل، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ") فيه ثلاث لغات، صَلَحَ صُلُوحًا، من باب قَعَد، وصلاحًا، وصَلُحَ بالضمّ ككَرُم، وصلَحَ يصلح بالفتح فيهما: خلاف فسد، والمعنى هنا: أنه يثمر ثمرًا طيّبًا دون تلقيح. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَخَرَجَ) الثمر (شِيصًا) بكسر الشين المعجمة، وإسكان الياء المثناة تحتُ، وبصاد مهملة، وهو البسر الرديء الذي إذا يَبِس صار حَشَفًا، وقيل: أردأ البسر، وقيل: تمر ردئ، وهو متقارب، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
(فَمَرَّ) صلى الله عليه وسلم (بِهِمْ)؛ أي: بهؤلاء القوم الذين تركوا التلقيح عملًا بإشارته صلى الله عليه وسلم بذلك، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا) استفهاميّة؛ أي: أيُّ شيء ثبت (لِنَخْلِكُمْ؟ ") حيث خرج ثمره شيصًا، ولم يخرج ثمرًا طيّبًا، (قَالُوا: قُلْتَ: كَذَا وَكَذَا) إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم السابق: "لو لم تفعلوا لصلح"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ")؛ أي: بالأمور التي وَكَلَها الشرع إلى التجربة، ولم يأت فيها بأمر، أو نهي جازم
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله ما حاصله: يعني: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني، وأنا أعلم بأمر أخراكم منكم، فإن الأنبياء والرسل إنما بُعثوا لإنقاذ الخلائق من الشقاوة الأخروية، وفوزهم بالسعادة الأبدية، وفيه أنشدوا [من البسيط]:
إنَّ الرَّسُولَ لِسَانُ الْحَقِّ لِلْبَشَرِ
…
بِالأَمْرِ وَالنَّهْي وَالإِعْلَامِ وَالْخَبَرِ
هُمْ أَذْكِيَاءُ وَلَكِنْ لَا يُصَرِّفُهُمْ
…
ذَاكَ الذَّكَاءُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ
أَلَا تَرَاهُمْ لِتَأْبِيرِ النَّخِيلِ وَمَا
…
قَدْ كَانَ فِيهِ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ ضَرَرِ
هُمْ سَالِمُونَ مِنَ الأَفْكَارِ إِنْ شَرَعُوا
…
حُكْمًا بِحِلٍّ وَتَحْرِيمٍ عَلَى الْبَشَرِ
قال بعضهم: فبيّن بهذا أن الأنبياء، وإن كانوا أحذق الناس في أمر
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 118.
(2)
"تكملة فتح الملهم" 4/ 596.
الوحي، والدعاء إلى الله تعالى، فهم أسرج الناس قلوبًا من جهة أحوال الدنيا، فجميع ما يشرعونه، إنما يكون بالوحي، وليس للأفكار عليهم سلطان. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة، وأنس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 6110](2363)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2496)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 152 و 6/ 123)، والله تعالى أعلم.
(39) - (بَابُ فَضْلِ النَّظَرِ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَتَمَنِّيهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6111]
(2364) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ، وَلَا يَرَانِي، ثُمَّ لأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِه، وَمَالِهِ مَعَهُمْ"، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: الْمَعْنَى فِيهِ عِنْدِي: لأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِه، وَهُوَ عِنْدِي مُقَدَّمٌ، وَمُؤَخَّرٌ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) الْقُشيريّ مولاهم، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ حافظٌ، عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 3/ 50 - 51.
2 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصّنعانيّ، أبو عُتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
3 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الدَّوْسيّ الصحابيّ الجليل، حافظ الصحابة، اختلف في اسمه، واسم أبيه، قيل: عبد الرحمن بن صخر، وقيل: ابن غنم، وقيل: عبد الله بن عائذ، وقيل: ابن عامر، وقيل: ابن عمرو، وقيل غير ذلك، واختُلِف في أيها أرجح، فذهب كثيرون إلى الأول، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر، مات سنة سبع، وقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقيان تقدّما قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ الصنعانيّ أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى الأحاديث المجموعة في صحيفة واحدة، وهي الصحيفة المشهورة بـ "صحيفة همّام بن منبّه"، وعدد أحاديثها (138) حديثًا كلها بهذا السند: عبد الرزاق، عن معمر، عن همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه. (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ)، وقد أسلفت الآن عددها. (مِنْهَا)؛ أي: من جملة تلك الأحاديث، والجار والمجرور خبر مقدّم، وقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، ("وَالَّذِي نفْسُ مُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (فِي يَدِهِ) فيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله، (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَحَدِكُمْ يَوْمٌ)؛ أي: زمن، ووقت، والعرب قد تُطلق اليوم، وتريد به الوقت والحين، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا} الآية [الأحقاف: 35]؛ أي: حين يرون، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المفهم" 6/ 177.
وقوله: (وَلَا يَرَانِي) جملة حاليّة؛ أي؛ والحال أنه لا يستطيع أن يراني، وذلك بسبب موته صلى الله عليه وسلم، (ثُمَّ لأَنْ يَرَانِي أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِه، وَمَالِهِ مَعَهُمْ")؛ أي: مع أهله وماله.
قال الجامع عفا الله عنه: لفظ "صحيفة همام": "والذي نفسي بيده ليأتين على أحدكم يومٌ لا يراني، ثم لأن يراني أحبّ إليه من مثل أهله، وماله معهم"، والظاهر أنه سقط من رواية مسلم لفظة:"مثل"، وعلى هذا فمعنى قوله:"معهم"؛ أي: مع أهله وماله؛ يعني: أنه يكون له أهل ومال مع أهله وماله الذين معه، فيفضّل رؤيته صلى الله عليه وسلم على هذا كلّه، فلا تقديم ولا تأخير، والله تعالى أعلم.
(قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ) إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه النيسابوريّ تلميذ الإمام مسلم بن الحجّاج، راوية "صحيحه"، المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
(الْمَعْنَى) المراد (فِيهِ)؛ أي: في هذا الكلام (عِنْدِي: لأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَهُوَ عِنْدِي مُقَدَّمٌ، وَمُؤَخَّرٌ)؛ يعني: أن قوله: "معهم" كان حقّه التقديم على "أحبّ إليه. . . إلخ"، هذا هو ما اقتضاه ظاهر كلام أبي إسحاق.
وقال النوويّ: هذا الذي قاله أبو إسحاق هو الذي قاله القاضي عياض، واقتصر عليه، قال: تقديره؛ لأن يراني معهم أحبّ إليه من أهله وماله، ثم لا يراني، وكذا جاء في "مسند سعيد بن منصور":"ليأتينّ على أحدكم يومٌ؛ لأن يراني أحبّ إليه من أن يكون له مثل أهله وماله، ثم لا يراني"؛ أي: رؤيته إياي أفضل عنده، وأحظى من أهله وماله، هذا كلام القاضي.
والظاهر أن قوله في تقديم: لأن يراني، وتأخير: من أهله لا يراني، كما قال، وأما لفظة "معهم" فعلى ظاهرها، وفي موضعها، وتقدير الكلام: يأتي على أحدكم يومٌ؛ لأن يراني فيه لحظةً، ثم لا يراني بعدها، أحبّ إليه من أهله وماله جميعًا.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ من أن التقديم والتأخير في قوله: "لأن يراني"، وقوله:"ثم لا يراني" غير واضح من كلام أبي
إسحاق، بل ظاهر من كلامه أن التأخير في قوله:"معهم"، فتنبّه.
وقد عرفت فيما أسلفته أنه لا داعي لدعوى التقديم والتأخير أصلًا، بل إنما يحتاج لتقدير لفظة:"مثل"، كما هو نصّ "الصحيفة"؛ أي: من مثل أهله وماله، فيصحّ على هذا معنى قوله:"معهم"؛ أي: يكون له مع أهله وماله مثلهم، فصحّ المعنى بلا تقديم، ولا تأخير، والله تعالى أعلم.
قال النوويّ: ومقصود الحديث حثّهم على ملازمة مجلسه الكريم، ومشاهدته حضرًا وسفرًا؛ للتأدب بآدابه، وتعلّم الشرائع، وحِفظها؛ ليبلّغوها، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فَرّطوا فيه من الزيادة من مشاهدته، وملازمته، ومنه قول عمر رضي الله عنه:"ألهاني عنه الصّفق بالأسواق"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والذي نفس محمد بيده! ليأتين. . . إلخ" كذا صحيح الرواية، ومعنى هذا الحديث: إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه إذا فُقِد تغيَّرت الحال على أصحابه من عدم مشاهدته، وفُقد عظيم فوائدها، ولِما طرأ عليهم من الاختلاف والمحن، والفتن، وعلى الجملة: فساعةَ موته صلى الله عليه وسلم اختَلَفت الآراء، ونجمت الأهواء، وكاد النظام ينحلّ لولا أن الله تبارك وتعالى تداركه بثاني اثنين، وأهل العَقْد والحلّ، وقد عبَّر الصحابة عند مبدأ ذلك التغيُّر لنا بقولهم:"ما سوّينا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا"، فكلما حصل واحدٌ منهم في كربة من تلك الكرب، ودَّ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما معه، من أهل، ومال، ونَشَب
(2)
، وذلك لتذكره ما فات من بركات مشاهدته، ولِمَا حَصَل بعده من فساد الأمر، وتغيُّر حالته، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "ليأتينّ على أحدكم زمان؛ لأن يراني أحبّ إليه من أن يكون له مثل أهله، وماله".
قال في "الفتح": قال عياض: وقد وقع للجميع: "ليأتين على أحدكم"،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 118 - 119.
(2)
"النَّشَبُ" -بفتحتين- قيل: العقار، وقيل: المال والعقار، قاله في "المصباح" 2/ 605.
(3)
"المفهم" 6/ 175.
لكن وقع لأبي زيد المروزيّ في عرضة بغداد: "أحدهم" بالهاء، والصواب بالكاف، كذا أخرجه مسلم. انتهى.
وقال ما حاصله: والحديث يدخل في علامات النبوة؛ لإخباره صلى الله عليه وسلم فيه عما يقع، فوقع كما قال، فإن كل أحد من الصحابة رضي الله عنهم بعد موته صلى الله عليه وسلم كان يودّ لو كان رآه، وفَقَد مثل أهله وماله، وإنما قلت ذلك: لأن كل أحد ممن بعدهم إلى زماننا هذا يتمنى مثل ذلك، فكيف بهم؟ مع عظيم منزلته عندهم، ومحبتهم فيه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 6111](2364)، وسيأتي له في "كتاب الجنّة" (2832) بلفظ:"من أشدّ أمتي لي حبًّا ناس، يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله، وماله"، و (البخاريّ) في "المناقب"(3589)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 35)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 449 و 504)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6765)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(6/ 536)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3843)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة) في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشاهدة ذاته الشريفة؛ إذ في ذلك خير كثير، من لذّة النظر في وجهه الشريف، واغتنام نزول الرحمة في مجلسه، والاقتباس من هديه، وتعلّم الكتاب والسُّنَّة، وتلقّي حديثه غضًّا طريًّا دون أن يكون هناك واسطة، أو أكثر، وغير ذلك من أصناف الخيرات.
2 -
(ومنها): بيان فضل تمنّي رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأن ذلك دليل على صدق محبته، وشدّتها، كما قال في النصّ الماضي:"من أشدّ أمتي لي حبًّا ناسٌ، يكونون بعدي، يودّ أحدهم لو رآني بأهله، وماله".
(1)
"الفتح" 8/ 267، كتاب "المناقب" رقم (3589).
3 -
(ومنها): بيان أن ما يعطاه الإنسان من الأهل والمال وغير ذلك من أصناف نعيم الدنيا دون رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم منزلةً؛ لأن هذه الأشياء نِعَمٌ فانية زائلة، وأما رؤيته صلى الله عليه وسلم ففيها الفوز الدائم، والنعيم المقيم؛ لأنها موصلة إلى جنات النعيم، نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يرزقنا حبه صلى الله عليه وسلم حبًّا صادقًا يجمعنا معه في الفردوس الأعلى، إنه بعباده رؤوف رحيم.
(40) - (بَابُ فَضَائِلِ عِيسَى عليه السلام
-)
قال الجامع عفا الله عنه: إنما قدّم المصنف رحمه الله أحاديث فضائل
عيسى عليه السلام على أحاديث إبراهيم عليه السلام، مع أنه متأخّر عنه؛ عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا أولى الناس بابن مريم"، فأولويّته صلى الله عليه وسلم به تقتضي أن يقدَّم على غيره حتى في الذِّكر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6112]
(2365) - (حَدَّثَني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ، الأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ، وَلَيْسَ بَيْني وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94 أو 104) وكان مولده سنة بضع وعشرين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه سبق القول فيه في السند الماضي.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَخْبَرَهُ)؛ أي: ابنَ شهاب، (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ)؛ أي: بعيسى ابن مريم عليه السلام؛ أي: أخصّ الناس به، وأقربهم إليه؛ لأنه بَشَّر بأنه يأتي من بعدي رسول اسمه أحمد، وقيل: لأنه لا نبيّ بينهما، فكأنهما كانا في زمن واحد
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أنا أولى الناس بابن مريم" في رواية عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة:"بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة"؛ أي: أَخَصّ الناس به، وأقربهم إليه؛ لأنه بَشَّر بأنه يأتي من بعده، قال الكرمانيّ
(2)
: التوفيق بين هذا الحديث، وبين قوله تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} الآية [آل عمران: 68] أن الحديث وارد في كونه صلى الله عليه وسلم متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: كذا قال، ومساق الحديث كمساق الآية، فلا دليل على هذه التفرقة، والحقّ أنه لا منافاة لِيُحتاج إلى الجمع، فكما أنه أولى الناس بإبراهيم، كذلك هو أَولى الناس بعيسى، ذاك من جهة قُوّة الاقتداء به، وهذا من جهة قوّة قرب العهد به. انتهى
(3)
.
(الأَنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ) بفتح العين المهملة، وتشديد اللام، وفي آخره تاء مثناة من فوقُ، وهم الإخوة لأب، من أمهات شَتّى، كما أن الإخوة من الأمّ فقط، أولاد أخياف، والإخوة من الأبوين أولاد أعيان، ومعناه أن أصولهم واحدة، وفروعهم مختلفة؛ يعني: أنهم متفقون فيما يتعلق بالاعتقاديات المسماة بأصول الديانات؛ كالتوحيد، وسائر مسائل علم الكلام، مختلفون فيما يتعلق بالعمليات، وهي الفقهيات، ويقال: سُميت أولادُ الرجل من نسوة شتّى: إخوة عَلّات؛ لأنهم أولاد ضرائر، والعلات: الضرائر، وقيل: لأن التي تزوجها على
(1)
"عمدة القاري" 16/ 36.
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 14/ 84.
(3)
"الفتح" 8/ 83، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3443).
الأُولى كانت قبلها، ثم عَلَّ من هذه، والْعَلَل: الشرب الثاني، يقال: عَلَلٌ بعد نَهَلٍ، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "المشارق": أصله البنون ليسوا لأم واحدة، والعَلَّة بالفتح: الضَّرَّة، يريد أنهم في أزمان متباينة، بعضهم عن بعض، وقد فَسَّر ذلك بقوله:"أمهاتهم شتى، ودينهم واحد"، وقد قال:"أنا أولى الناس بعيسى، ليس بيني وبينه نبيّ"، فأشار أن قرب زمنه كأنه جَمَعه وإياه حتى صار كالبطن الواحد؛ إذ لم يكن بينه وبينه نبيّ، وافتراق أزمان الآخَرين كالبطون الشتى، والدين واحد؛ كالأب الواحد. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله
(3)
: معناه: أنهم لأمهات مختلفة، ودينهم واحد، كذا في "التهذيب"، وفي "النهاية" لابن الأثير: أراد أن إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة، ومنه حديث عليّ رضي الله عنه: يتوارث بنو الأعيان من الإخوة، دون بني العلات؛ أي: يتوارث الإخوة للأم والأب، وهم الأعيان، دون الإخوة للأب، إذا اجتمعوا معهم، قال ابن بَرّيّ: يقال لبني الضرائر: بنو علات، ويقال لبني الأم الواحدة: بنو أم، ويصير هذا اللفظ يُستعمل للجماعة المتفقين، وأبناء علات يُستعمل في الجماعة المختلفين، قال عبد المسيح [من البسيط]:
وَالنَّاسُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا
…
أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَجْفُوٌّ وَمَحْقُورُ
وَهُمْ بَنُو أُمِّ مَنْ أَمْسَى لَهُ نَشَبٌ
…
فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ
وقال آخر [من البسيط]:
أَفِي الْوَلَائِمِ أَوْلَادًا لِوَاحِدَةٍ
…
وَفِي الْمَآتِمِ أَوْلَادًا لِعَلَّاتِ
وقال الفيّوميّ رحمه الله
(4)
: وهم بَنُو عَلّاتٍ: إذا كان أبوهم واحدًا، وأمهاتهم شتى، الواحدة عَلَّةٌ، مثلُ جنّات وجنّة، قيل: مأخوذ من العَلَل، وهو الشرب بعد الشرب؛ لأن الأب لمّا تزوج مرة بعد أخرى، صار كأنه شَرِبَ مرة بعد أخرى، قال الشاعر [من البسيط]:
(1)
"عمدة القاري" 16/ 36.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 83.
(3)
"لسان العرب" 11/ 470.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 426.
أَفِي الوَلائِمِ أَوْلادًا لِوَاحِدَةٍ
…
وَفِي العِبَادَةِ
(1)
أَوْلادًا لِعَلَّاتِ
وأولاد الأعيان أولاد الأبوين، وأولاد الأخياف عكس العلات، وقد جمعت ذلك، فقلت [من الكامل]:
وَمَتَى أَرَدْتَ تَمَيُّزَ الأَعْيَانِ
…
فَهُمُ الَّذِينَ يَضُمُّهُمْ أَبَوَانِ
أَخْيَافُ أُمٍّ لَيْسَ يَجْمَعُهُمْ أَبٌ
…
وَبِعَكْسِهِ العَلَّاتُ يَفْتَرِقَانِ
وقال في "الفتح": قوله: "والأنبياء أولاد علات" في رواية عبد الرحمن المذكورة: "والأنبياء إخوة لعلات"، والعلات، بفتح المهملة: الضرائر، وأصله أن من تزوج امرأة، ثم تزوج أخرى كأنه عَلَّ منها، والْعَلَلُ الشرب بعد الشرب، وأولاد العلات: الإخوة من الأب، وأمهاتهم شتى، وقد بيّنه في رواية عبد الرحمن فقال:"وأمهاتهم شتى، ودينهم واحد"، وهو من باب التفسير؛ كقوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)} [المعارج: 19 - 21].
ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التوحيد، وإن اختلفت فروع الشرائع، وقيل: المراد أن أزمنتهم مختلفة
(2)
.
(وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ") هذا أورده كالشاهد لقوله: "إنه أقرب الناس إليه"، ووقع في رواية عبد الرحمن بن آدم:"وأنا أَولى الناس بعيسى؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبيّ"، واستدل به على أنه لم يُبعث بعد عيسى أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه نظرٌ؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أُرسلوا إلى أصحاب القرية المذكورة قصتهم في سورة (يس) كانوا من أتباع عيسى، وأن جرجيس، وخالد بن سنان كانا نبيين، وكانا بعد عيسى.
والجواب: أن هذا الحديث يضعّف ما ورد من ذلك، فإنه صحيح بلا تردد، وفي غيره مقال، أو المراد أنه لم يُبعث بعد عيسى نبي بشريعة مستقلة، وإنما بُعث بعده من بُعث بتقرير شريعة عيسى.
قال الحافظ: وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في "المستدرك" من
(1)
تقدّم عن "اللسان" بلفظ: "وفي المآتم".
(2)
"الفتح" 8/ 83، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3443).
حديث ابن عباس، ولها طُرُقٌ جمعتها في ترجمته في كتابي في الصحابة. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 6112 و 6113 و 6114](2365)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3443)، و (أبو داود) في "سننه"(4/ 218)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 319 و 437 و 482)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6194 و 6406)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(134)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 175 و 289)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3619)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6113]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى، الأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ
(2)
، وَلَيْسَ بَيْني وَبَيْنَ عِيسَى نَبِيٌّ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ عُمَرُ بْنُ سَعْدِ) بن عبيد الْحَفَريّ -بفتح المهملة، والفاء-: نسبة إلى موضع بالكوفة، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "النكاح" 15/ 3498.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، وكان ربما دلس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
(1)
"الفتح" 8/ 83، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3443)، و"عمدة القاري" 16/ 36.
(2)
وفي نسخة: "أولاد علّات".
4 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
5 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (الأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلَّاتٍ)، وفي بعض النسخ:"أولاد علّات".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسألتاه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6114]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ"، قَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، فَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم في الباب الماضي.
وقوله: (أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)؛ أي: أخصّ، وأقرب، وأقعد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"فَلِأَولى عصبة"؛ أي: لأقرب، وأحقّ.
وقوله: (فِي الأُولَى)؛ أي: في الدنيا؛ لأنه لا نبيّ بينهما.
وقوله: (وَالآخِرَةِ)؛ أي: لأنه ليس بينهما أحد أيضًا، ولذا جاء في حديث الشفاعة قول عيسى عليه السلام:"ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث؛ لأنه ليس بينهما نبيّ.
وقوله: (قَالُوا: كَيْفَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا سؤال عن وجه الأولوية، فقال في الجواب:"الأنبياء إخوة من عَلَّات، أُمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد، وليس بيني وبينه نبيّ"، وفي لفظ آخر:"أولاد عَلَّات". وفي "الصحاح": بنو العلَّات: هم أولاد الرجل من نسوة شتى، سميت بذلك لأن الذي يتزوجها على أُولى كانت قبلها، ثم علَّ من هذه، والعَلَلُ: الشرب
الثاني. يقال: عَلَلٌ بعد نَهَلٍ، وعَلّه يعله: إذا سقاه السَّقية الثانية، وقال غيره: سُمُّوا بذلك لأنهم أولاد ضرائر، والعلَّات الضرائر. وشتَّى: مختلفون، ومنه قوله تعالى:{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14].
وقال القاضي أبو الفضل عياض: معناه: أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم، وبعضهم بعيد الوقت من بعض، فهم أولاد علَّات؛ إذ لم يجمعهم زمان واحد، كما لم يجمع أولاد العلَّات بطن واحد، وعيسى عليه السلام لما كان قريب الزمان منه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن بينهما نبي، كانا كأنهما في زمان واحد، فكانا بخلاف غيرهما.
قال القرطبيّ: هذا أشبه ما قيل في هذا الحديث، ويستفاد منه: إبطال قول من قال: إنه كان بعد عيسى عليه السلام أنبياء ورسل، فقد قال بعض الناس: إن الحواريين كانوا أنبياء، وأنهم أُرسلوا إلى الناس بعد عيسى، وهو قول أكثر النصارى. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ)؛ أي: هم متفقون في توحيدهم، وأصول أديانهم، وطاعتهم لله تعالى، واتباعهم لشرائعه، والقيام بالحق، كما قال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13]، ولم يُرِد فروع الشرائع؛ فإنَّهم مختلفون فيها كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} الآية [المائدة: 48].
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6115]
(2366) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ، إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ، وَأُمَّهُ"، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]).
(1)
"المفهم" 6/ 175 - 176.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ) بن المسيِّبِ بن حَزْن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، من كبار [3] مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"عبد الأعلى" هو: ابن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، و"معمر" هو: ابن راشد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ)، وفي رواية للبخاريّ:"عن الزهريّ قال: حدّثني سعيد بن الْمُسَيِّب"، قال في "الفتح": كذا قال أكثر أصحاب الزهريّ، وقال السديّ: عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أخرجه الطبريّ
(1)
. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ"، وفي رواية البخاريّ:"ما من بني آدم مولود إلا يسمّه الشيطان حين يولد".
قال الطيبيّ رحمه الله: "ما" بمعنى: "ليس" بطل عمله بتقديم الخبر على المبتدأ، و"إلا" لغوٌ؛ لأن الاستثناء مفرّغ، والمستثنى حال من الضمير المستتر في الظرف، والوجه أن يقال:"مولود" فاعلُ الظرف؛ لاعتماده على حرف النفي، والمستثنى منه أعمّ عامّ الوصف؛ يعني: ما وُجد من بني آدم مولودٌ متّصفٌ بشيء من الأوصاف إلا بهذا الوصف، كأنه صلى الله عليه وسلم يردّ من زعم أن بعض بني آدم مثل الأنبياء، والأولياء المخلصين لا يمسّه الشيطان، فهو من باب قَصْر
(1)
"الفتح" 8/ 52، كتاب "الأنبياء" رقم (3431).
القلب، وفي التصريح بالصُّراخ إشارة إلى أن المسّ عبارة عن إصابة ما يؤذيه، ويؤلمه، لا كما زعمت المعتزلة أن مسّ الشيطان تخييلٌ، واستهلاله صارخًا من مسّه تصوير لِطَمَعه فيه، كأنه يمسّه، ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أُغويه.
وأما قول ابن الروميّ:
لَمَّا تُؤْذِنُ الدُّنْيَا بِهِ مِنْ صُرُوفِهَا
…
يَكُونُ بُكَاءُ الطِّفْلِ سَاعَةَ يُولَدُ
إِذَا أَبْصَرَ الدُّنْيَا اسْتَهَلَّ كَأَنَّهُ
…
بِمَا هُوَ لَاقٍ مِنْ أَذَاهَا يُهَدَّدُ
وَإِلَّا فَمَا يُبْكِيهِ مِنْهَا وَإِنَّهُ
…
لأَوْسَعُ مِمَّا كَانَ فِيهِ وَأَرْغَدُ
فمن باب حسن التعليل، فلا يستقيم تنزيل الحديث عليه، على أنه لا ينافيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول ابن الروميّ هذا لا يخفى كونه خلاف الحديث، وما حَمَله عليه إلا جهله بالحديث، على أنه يمكن حَمْل ما قاله على لسان الحال، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما من مولود"، وكذا:"كلُّ مولود" ظاهرٌ قويّ في العموم والإحاطة، ولَمّا استَثنَى منه مريم وابنها التحق بالنصوص، فأفاد هذا أن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء، والأولياء، إلا مريم وابنها، وإن لم يكن كذا بطلت الخصوصية بهما، ولا يُفهم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال المنخوس، وإغواؤه؛ فإنَّ ذلك فاسد، فكم قد تعرض الشيطان للأنبياء، والأولياء بأنواع الإفساد، والإغواء، ومع ذلك يعصمهم الله تعالى مما يرومه الشيطان، كما قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الإسراء: 65] هذا، مع أن كل واحد من بني آدم قد وُكِّل به قرينُه من الشياطين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فمريم وابنها -وإن عُصما من نخسه- فلم يُعصما من ملازمته لهما، ومقارنته، وقد خصَّ الله تعالى نبينا صلى الله عليه وسلم بخاصيَّة كَمَّل عليه بها إنعامه بأن أعانه على شيطانه، حتى صحَّ إسلامه، فلا يكون عنده شرٌّ، ولا يأمره إلا بخير، وهذه خاصَّة لم يؤتها أحدٌ غيره، لا
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 2/ 522.
عيسى، ولا أمه، وفي غير كتاب مسلم:"فذهب الشيطان ليطعن في خاصرته، فطَعَن في الحجاب"
(1)
؛ أي: في الحجاب الذي حُجِب به عيسى صلى الله عليه وسلم، فإمَّا حجاب مهده، وإما حجاب بيته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
(إِلَّا نَخَسَهُ) بنون وخاء معجمة، ثم سين مهملة؛ أي: طعنه (الشَّيْطَانُ) يقال: نخَستُ الدابّة نخسًا، من باب نصر: طعنته بعود أو نحوه، فهاج، والفاعل: نخّاس مبالغةٌ، ومنه قيل لدلّال الدوابّ ونحوها: نخّاس
(3)
. (فَيَسْتَهِلُّ)؛ أي: يصيح، ويرفع صوته، وقوله:(صَارِخًا) حال مؤكّد، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، قال في "الخلاصة":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نَحْوِ "لَا تَعْثُ فِي الأَرْضٍ مُفْسِدَا"
وقال المناويّ رحمه الله: "فيستهل"؛ أي: يرفع المولود صوته صارخًا؛ أي: باكيًا، والصُّرَاخ: الصوت، والمراد هنا البكاء؛ أي: فسبب صُراخه أوّلَ ما يولد من ألم مسّ الشيطان بإصبعه حالتئذ، وهذا مطّرد في كل مولود، غير مريم بنت عمران الصديقة بنص القرآن، وابنها رُوح الله عيسى، فإنه ذهب ليطعن، فطعن في الحجاب الذي هو الْمَشِيمة، وهذا الطعن ابتداء التسلط، فحُفظ منه مريم، وابنها ببركة قول أمها:{أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]. انتهى
(4)
.
وقوله: (مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ) تعليل لاستهلاله صارخًا؛ أي: إنما يستهلّ صارخًا من أجل تألّمه بسبب طعنة الشيطان له، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به: أول وقت الولادة حين يستهل أوَّل استهلال، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"يوم يولد"؛ أي: حين يولد، والعرب قد تُطلق اليوم، وتريد به الوقت والحين، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا} الآية [الأحقاف: 35]؛ أي: حين يرون، كما تقدَّم في الحديث قبل هذا:"ليأتين على أحدكم يوم لا يراني"؛ أي: زمن ووقت، وهو كثير، وكأنّ النَّخس من الشيطان إشعارٌ منه
(1)
رواه البخاريّ (3286)، وأحمد في "مسنده" 2/ 523.
(2)
"المفهم" 6/ 178.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 596.
(4)
"فيض القدير" 5/ 475.
بالتمكن والتسليط، وحَفِظ الله تعالى مريم وابنها من نخسته تلك التي هي ابتداء التسليط ببركة إجابة دعوة أمها حين قالت:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، فاستجاب الله لها لِمَا حضرها في ذلك الوقت من صدق الالتجاء إلى الله تعالى، وصحة التوكل، وأمها هي امرأة عمران، واسمها حنَّه بنت فاقود، وكانت لمّا حملت نذرت، وأوجبت على نفسها أن تجعل ما تلده مُنَزَّهًا منقطعًا للعبادة، لا يشتغل بشيء مما في الوجود، على شريعتهم في الرهبانية، وملازمتهم الكنائس، وانقطاعهم فيها إلى الله تعالى بالكلية، ولذلك لمّا ولدتها أنثى قالت:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]؛ أي: فيما نذرته له من الرهبانية. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى (وَأمَّهُ") مريم عليهما السلام، وقد جاء في رواية للبخاريّ بيان المس المذكور، ولفظه:"كلُّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في الحجاب"؛ أي: في المشيمة التي فيها الولد
(2)
، قال القرطبيّ: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط، فحفظ الله مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها، حيث قالت:{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى عليه السلام
(3)
.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ المذكورة آنفًا بلفظ: "غير عيسى ابن مريم"، بذكر عيسى خاصّة، قيل: يَحْتَمِل أن يكون ذاك قبل الإعلام بما زاد، وفيه بُعْد؛ لأنه حديث واحد، وقد رواه خلاس عن أبي هريرة بلفظ:"كلُّ بني آدم قد طَعَن الشيطان فيه حين وُلد، غير عيسى وأمه، جعل الله دون الطعنة حجابًا، فأصاب الحجاب، ولم يُصِبْهما"، وقيل غير ذلك.
قال الحافظ: والذي يظهر أن بعض الرواة حَفِظ ما لم يحفظ الآخر،
(1)
"المفهم" 6/ 177.
(2)
قال في "الفتح" في موضع آخر: المراد بالحجاب: الجلدة التي فيها الجنين، أو الثوب الملفوف على الطفل. انتهى.
(3)
"الفتح" 8/ 52، كتاب "الأنبياء" رقم (3431).
والزيادة من الحافظ مقبولة، وأما قول بعضهم: يَحْتَمِل أن يكون من العطف التفسيريّ، والمقصود الابن؛ كقولك: أعجبني زيد، وكَرَمه، فهو تعسّف شديدٌ. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: مريم بالسريانية الخادم، وسُميت به والدة عيسى، فامتنع الصرف للتأنيث والعلمية، ويقال: إن مريم بلسان العرب: مَن تُكثر من زيارة الرجال من النساء؛ كالزير، وهو من يكثر زيارة النساء، واستَشهَد من زعم هذا بقول رؤبة:
قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ
حكاه أبو حبان في تفسير "سورة البقرة"، وفيه نظر، قاله في "الفتح"
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفيه بيان أن هذا موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، فإن في رواية أبي صالح عند البخاريّ إدراجًا. (اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ) مصداق هذا الحديث من كتاب الله عز وجل، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}؛ أي: عَوّذتها بالله عز وجل من شرّ الشيطان، وعَوَّذت ذرّيتها، وهو ولدها عيسى عليه السلام، فاستجاب الله لها ذلك كما بُيّن في هذا الحديث
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 6115 و 6116 و 6117](2366)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3286) و"الأنبياء"(3431) و"التفسير"(4548)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 288)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1042)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 274 - 275)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6235)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 38)، و"مسند الشاميين" (3/ 29 و 4/
(1)
"الفتح" 8/ 52، كتاب "الأنبياء" رقم (3431).
(2)
"الفتح" 8/ 52، كتاب "الأنبياء" رقم (3431).
(3)
"تفسير ابن كثير" 1/ 360.
167)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 376)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(6884 و 6885 و 6888 و 6892 و 6897 و 6899)، و (البغويّ) في "تفسيره"(1/ 295)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عيسى وأمه عليهما السلام حيث عصمهما الله تعالى من نخسة الشيطان، فقد ذهب ليطعن عليهما، فصُرف بطعن الحجاب، دون أن يمسّهما.
2 -
(ومنها): بيان أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم عليهما السلام حين قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، وقد أخبر الله تعالى بذلك، فقال:{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)} [آل عمران: 37]، فبسبب ذلك لم يتسلّط الشيطان عليها، فلم ينخس، وإنما مسّ الحجاب فقط.
[تنبيه]: قيل: يُشكل على ظاهر الحديث أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع، فلا يحل حملها على الإعاذة من المسّ الذي يكون حين الولادة.
والجواب: أن المسّ ليس إلا بعد الانفصال، وهو الوضع، ومعه الإعاذة، غايته أنه عَبَّر عنه بالمضارع؛ لقصد الاستمرار، بخلاف الوضع، والتسمية
(1)
.
[فائدة]: اسم أم مريم: حَنّة -بمهملة، ونون- بنت فاقود، واسم أختها والدة يحيى: إيشاع، قال ابن إسحاق في "المبتدأ": كانت حنة عند عمران، وأختها عند زكريا، وكانت حنة أُمسك عنها الولد، ثم حَمَلت بمريم، فمات عمران وهي حامل، وروى ابن أبي حاتم من طريق عبد الرحمن بن القاسم، سمعت مالك بن أنس يقول: بلغني أن عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا كان حملهما جميعًا، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم: إني أرى ما في بطني يسجد لِمَا في بطنك، قال مالك: أراه لفضل عيسى على يحيى، وقال الثعلبيّ: وُلد يحيى قبل عيسى بستة أشهر، ذكره في "الفتح"
(2)
.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 5/ 475.
(2)
"الفتح" 8/ 50 - 51، كتاب "الأنبياء" رقم (3430).
3 -
(ومنها): بيان عموم تسلّط الشيطان علي بني آدم برّهم وفاجرهم، إلا أن الله تعالى يحفظ عباده، كما وعد سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42]، وقال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].
وقد أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد، إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنّ"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، إلا أن الله أعانني عليه، فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير".
وأخرج عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من عندها ليلًا، قالت: فَغِرْت عليه، فجاء، فرأى ما أصنع، فقال:"ما لك يا عائشة؟ أَغِرْتِ؟ " فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقد جاءك شيطانك؟ " قالت: يا رسول الله، أوَ معي شيطان؟ قال:"نعم"، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: "نعم"، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: "نعم، ولكن ربي أعانني عليه، حتى أسلم".
وبالجملة فالأنبياء وعباد الله الصالحون محفوظون من كيده، وإن تعرّض لهم فلا سبيل له إلى إغوائهم بفضل الله سبحانه وتعالى، وإن أصابتهم غفلة، فأراد إغواءهم استيقظوا، واستدركوا، قال الله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، اللهم احفظنا من شرّ الشيطان، وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا، أو نجرّه إلى مسلم، برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": قد طعن صاحب "الكشاف " في معنى هذا الحديث، وتوقف في صحته، فقال: إن صح هذا الحديث فمعناه: أن كل مولود يَطمع الشيطان في إغوائه، إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في صفتهما؛ لقوله تعالى:{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 83]، قال: واستهلال الصبي صارخًا من مس الشيطان تخييل لِطَمعه فيه، كأنه يمسه، ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممن أُغويه، وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم، لامتلأت الدنيا صراخًا. انتهى.
قال الحافظ: وكلامه متعقَّب من وجوه، والذي يقتضيه لفظ الحديث لا إشكال في معناه، ولا مخالفة لِمَا ثبت من عصمة الأنبياء، بل ظاهر الخبر أن إبليس مُمَكَّن من مس كل مولود عند ولادته، لكن مَن كان مِن عباد الله المخلصين لم يضرّه ذلك المسّ أصلًا، واستُثني من المخلصين مريم وابنها، فإنه ذهب يمس على عادته، فحيل بينه وبين ذلك، فهذا وجه الاختصاص، ولا يلزم منه تسلطه على غيرهما من المخلصين، وأما قوله: لو ملك إبليس. . . إلخ، فلا يلزم من كونه جعل له ذلك عند ابتداء الوضع، أن يستمر ذلك في حقّ كل أحد، وقد أورد الفخر الرازيّ هذا الإشكال، وبالغ في تقريره، على عادته، وأجمل الجواب، فما زاد على تقريره أن الحديث خبر واحد وَرَدَ على خلاف الدليل؛ لأن الشيطان إنما يُغوي من يعرف الخير والشر، والمولود بخلاف ذلك، وأنه لو مُكّن من هذا القدر لفعل أكثر من ذلك، من إهلاك، وإفساد، وأنه لا اختصاص لمريم وعيسى بذلك، دون غيرهما، إلى آخر كلام "الكشاف".
ثم أجاب بأن هذه الوجوه محتملة، ومع الاحتمال لا يجوز دفع الخبر. انتهى.
قال الحافظ: وقد فتح الله تعالى بالجواب كما تقدم، والجواب عن إشكال الإغواء يُعْرَف مما تقدم أيضًا، وحاصله: أن ذلك جُعل علامة في الابتداء على من يتمكن من إغوائه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
[فائدة]: ذكر عبد الرزاق في "تفسيره"، قال: نا المنذر بن النعمان الأفطس، أنه سمع وهب بن مُنَبِّه يقول: لمّا وُلد عيسى عليه السلام أتت الشياطين إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نَكّست رؤوسها، فقال: هذا حادث حَدَث، مكانَكُم، وطار حتى جاء خافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، ثم جاء البحار، فلم يقدر على شيء، ثم طار أيضًا، فوجد عيسى قد وُلد عند مذود حمار، فإذا الملائكة قد حَفَّت حوله، فرجع إليهم، فقال: إن نبيًّا قد وُلد البارحة، وما حملت أنثى قطّ، ولا وضعت إلا وأنا بحضرتها، إلا هذه،
(1)
"الفتح" 9/ 718 - 719، كتاب "التفسير" رقم (4548).
فايأَسُوا من أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الخفة، والعَجَلة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الحكاية من الإسرائيليّات التي لا تصدّق، ولا تكذّب، بل تُحكى للاعتبار؛ لإباحة الشارع لنا حكايتها، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"بَلِّغُوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، رواه البخاريّ
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6116]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، جَمِيعًا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَا:"يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسَّةِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ"، وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ:"مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا قريبًا، و"أَبُو الْيَمَانِ" هو: الحكم بن نافع، و"شُعَيْبٌ" هو: ابن أبي حمزة.
والباقون ذُكروا قبل حديثين.
وقوله: (مِنْ مَسَّةِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ) هو بمعنى قوله في الرواية السابقة رحمه الله: "من نخسة الشيطان"؛ أي: طَعْنته.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6117]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ سُلَيْمًا مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا").
(1)
"تفسير الصنعاني" 1/ 119.
(2)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1275.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
3 -
(أَبُو يُونُسَ سُلَيْمٌ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) هو: سُليم بن جُبير الدَّوْسيّ المصريّ، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقيان ذُكرا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6118]
(2367) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبي شيبة الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وَضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ، تغير حفظه بأخرة، رَوَى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أَبُوهُ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صِيَاحُ الْمَوْلُود) بكسر الصاد المهملة، وتخفيف الياء: مصدر صاح بالشيء يصيح به صِيَاحًا، وصَيْحَةَ: إذا صَرَخ، وهو مبتدأ، خبره:"نزغة"، وقوله:(حِينَ يَقَعُ) ظرف متعلّق بـ "صِياح "؛ أي: حين يسقط من بطن أمه، وقوله:(نَزْغةٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المعروفة: "نَزْغة" -بالنون، والزاي الساكنة، والغين المعجمة- من النزغ: وهو الوسوسة، والإغراء بالفساد، وقيل في قوله تعالى:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} الآية [يوسف: 100]: معناه: أفسد، كأنه يريد هنا: مِن فَعْلة فعلها الشيطان، رام بها ضرر المولود، ووقع لبعض الرواة:"فَزْعة" -بالفاء، والعين المهملة-: من الفزع. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ") صفة لـ "نزغة"، وقال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "نزغة": نَخْسة، وطعنة، ومنه قولهم: نَزَغَه بكلمة سَوْء؛ أي: رماه بها. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 6118](2367)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6183)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(29)، و"الأوسط"(1893)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 178 - 179، و"شرح الأبّيّ" 6/ 157.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 120 - 121.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6119]
(2368) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلًا يَسْرِقُ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: سَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِالله، وَكَذَّبْتُ نَفْسِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب.
شيرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ) الأبناويّ الصنعانىّ أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: ما يأتي في هذه الصحيفة، فإن هذا الحديث مأخوذ من "صحيفة همّام" المشهورة، كما يدلّ عليه سياق المصنّف. (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) أبو هريرة رضي الله عنه (أَحَادِيثَ) كثيرة، وقد تقدّم أنها (138) حديثًا، وقوله:(مِنْهَا) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، ("رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) عليه السلام (رَجُلًا) قال المناويّ رحمه الله: لم يُسمّ الرجلُ، ولا المسروق منه، ولا المسروق
(1)
. (يَسْرِقُ) بكسر الراء، من باب ضرب، (فَقَالَ لَهُ عِيسَى) عليه السلام (سَرَقْتَ؟) بتقدير همزة الاستفهام، وفي رواية البخاريّ:"فقال له: أسرقت؟ "، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر قول عيسى عليه السلام لهذا الرجل: سرقتَ أنه خبر عمّا فَعَل الرجل من السرقة، وكأنه حقّق السرقة عليه؛ لأنه رآه قد أخذ مالًا لغيره من حرز في خُفية، ويَحْتَمِل أن يكون مستفهمًا له عن حقيقة ذلك، فحُذفت همزة الاستفهام، وحَذْفها قليل. انتهى
(2)
.
(قَالَ) الرجل منكرًا لسرقته: (كَلَّا) بفتح الكاف، وتشديد اللام: كلمة ردع
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 5.
(2)
"المفهم" 6/ 179.
وزجر؛ أي: انزجر، وارتدع من أن تقول لي:"سرقت"، وفي رواية النسائيّ:"قال: لا"، (وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ)، وفي رواية البخاريّ:"كلّا، والذي لا إله إلا الله"، ومراده توكيد إنكاره بالحلف بالله تعالى.
(فَقَالَ عِيسَى) عليه السلام عند ذلك (آمَنْتُ بِاللهِ)؛ أي: بأمره أن الحالف يُصدّق إذا أمكن ذلك، أو بأنه عظيم لا ينبغي حرمان من توسّل باسمه إلى أمره. (وَكَذَّبْتُ نَفْسِي")، وفي رواية البخاريّ:"وكذّبت عيني"، وفي رواية النسائيّ:"وكذّبت بصري"؛ أي: حكمت، وأظهرت خطأه.
وقال النوويّ رحمه الله: قال القاضي: ظاهر الكلام: صدّقت من حلف بالله تعالى، وكذّبت ما ظهر لي من ظاهر سرقته، فلعله أخذ ما له فيه حقّ، أو بإذن صاحبه، أو لم يقصد الغصب، والاستيلاء، أو ظَهَر له من مدّ يده أنه أخذ شيئًا، فلما حلف له أسقط ظنّه، ورجع عنه. انتهى
(1)
.
وقال الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام رحمه الله: هذا مشكلٌ من جهة أن العين لا تكذّب، وإنما يُكذّب القلب بظنّه، والذي يطابق: صدقتَ أيها الرجل، فإنه لم يمض لله في الواقعة خبرٌ، ولا ذِكر، فكيف يُصَدّق؟. قال:
[والجواب]: أن إضافة الكذب إلى العين إضافة الفعل إلى سببه؛ لأنها سبب لاعتقاد القلب، وأما قوله:"صدق الله"، فإشارة إلى إخبار الله عز وجل بأنه حَكَم في الظاهر بما ظهر، وفي الباطن بما يظنه، وأن الظاهر إذا تبيّن خلافه تُرك. انتهى. ذَكَره السيوطيّ في شرح النسائيّ
(2)
.
وفي رواية البخاريّ: "وكذّبتُ عَيْنَيَّ": قال في "الفتح": قوله: "وكذبت عينيّ" - بالتشديد على التثنية، ولبعضهم بالإفراد، وفي رواية المستملي:"كَذَبَتْ" بالتخفيف، وفتح الموحدة، و"عيني" بالإفراد في محل رفع، ووقع في رواية مسلم:"وكذّبتُ نفسي". قال ابن التين: قال عيسى عليه السلام ذلك على المبالغة في تصديق الحالف، وأما قوله:"وكذبت عيني"، فلم يُرِدْ حقيقة التكذيب، وإنما أراد: كذبت عيني في غير هذا، قاله ابن الجوزيّ، وفيه بُعْدٌ.
(1)
"شرح النووي" 15/ 121.
(2)
"زهر الربى في شرح المجتبى" 8/ 250.
وقيل: إنه أراد بالتصديق والتكذيب ظاهر الحكم، لا باطن الأمر، وإلا فالمشاهدة أعلى اليقين، فكيف يُكَذّب عينه، ويصدّق قول المدعي؟
ويَحْتَمِل أن يكون رآه مَدّ يده إلى الشيء، فظن أنه تناوله، فلما حلف له، رجع عن ظنه.
وقال القرطبي: ظاهر قول عيسى للرجل: سرقت، أنه خبر جازم عما فعل الرجل من السرقة؛ لكونه رآه أخذ مالا من حرز في خفية، وقول الرجل: كَلّا؛ أي: لا، نفي لذلك، ثم أكده باليمين، وقول عيسى:"آمنت بالله، وكذبت عيني"؛ أي: صدقت من حلف بالله، وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ المذكور سرقة، فإنه يَحْتَمِل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق، أو ما أَذِن له صاحبه في أخْذه، أو أخَذه ليقلبه وينظر فيه، ولم يقصد الغصب والاستيلاء، قال: ويَحْتَمِل أن يكون عيسى كان غير جازم بذلك، وإنما أراد استفهامه بقوله:"سرقت"، وتكون أداة الاستفهام محذوفة، وهو سائغ كثير. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: واحتمال الاستفهام بعيد مع جزمه صلى الله عليه وسلم بأن عيسى رأى رجلًا يسرق، واحتمال كونه يَحِلّ له الأخذ بعيد أيضًا بهذا الجزم بعينه، والأول مأخوذ من كلام القاضي عياض، وقد تعقبه ابن القيِّم في كتابه "إغاثة اللَّهفان"، فقال: هذا تأويل مُتَكَلّف، والحقّ أن الله كان في قلبه أجلّ من أن يحلف به أحد كاذبًا، فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فردّ التهمة إلى بصره، كما ظن آدم عليه السلام صِدْق إبليس لمّا حلف له، أنه له ناصح.
قال الحافظ: وليس بدون تأويل القاضي في التكلف، والتشبيه غير مطابق. والله أعلم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن القيّم: أظهر مما قاله القاضي وغيره، ودعوى الحافظ التسوية فيها نظر لا يخفى، وكذا كون التشبيه غير مطابق، فتأمل. والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 179 - 180.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا [40/ 6119](2368)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3444)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 38)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 229) و"الكبرى"(3/ 488)، و (ابن ماجه) في "الكفّارات"(2102)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 314 و 383)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 425)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 318)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 157)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه استُدِلّ به على درء الحدّ بالشبهة.
2 -
(ومنها): أنه استَدلّ به من قال بمنع القضاء بالعلم، قال في "الفتح": والراجح عند المالكية، والحنابلة مَنْعه مطلقًا، وعند الشافعية جوازه، إلا في الحدود، وهذه الصورة من ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: والراجح عندي القول بعدم جواز قضاء القاضي بعلمه، وأن ذلك خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه تهمةً له، ولأن فيه تسليطًا للظَّلَمة على حقوق الناس بدعوى أنهم يحكمون بعلمهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن النسائيّ رحمه الله احتجّ بهذا الحديث على بيان كيفية الاستحلاف، وهو أن يقول الحاكم للمستحلف: قل: "لا، والله الذي لا إله إلا هو"، والله تعالى أعلم.
(41) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم
-)
وإبراهيم بالسريانية معناه: أبٌ راحم، هو ابن آزر، واسمه تارح -بمثناة، وراء مفتوحة، وآخره حاء مهملة- ابن ناحور -بنون، ومهملة مضمومة- ابن شاروخ -بمعجمة، وراء مضمومة، وآخره خاء معجمة- ابن راغوء -بغين
معجمة- ابن فالخ -بفاء، ولام مفتوحة، بعدها معجمة- ابن عبير، ويقال: عابر -وهو بمهملة، وموحدة- ابن شالخ -بمعجمتين- ابن أرفخشذ بن سام بن نوح، لا يختلف جمهور أهل النسب، ولا أهل الكتاب في ذلك، إلا في النطق ببعض هذه الأسماء، نَعَم ساق ابن حبان في أول "تاريخه" خلاف ذلك، وهو شاذّ.
والخليل: فَعِيل بمعنى فاعل، وهو من الْخُلّة بالضم، وهي الصداقة، والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله، وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسُمِّي بذلك؛ لأنه يوالي، ويعادي في الله تعالى، وقيل: هو مشتقّ من الْخَلَّة، بفتح المعجمة، وهي الحاجة، سُمِّي بذلك؛ لانقطاعه إلى ربه، وقَصْره حاجته عليه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6120]
(2369) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الْمُخْتَارِ (ح) وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، أَخْبَرَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون السين المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعد أن أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان -بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي- الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 643 - 644، كتاب "الأنبياء" رقم (3353).
مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جاوزها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ) -بفاءين مضمومتين، ولامين الأُولى ساكنة- مولى عمرو بن حُريث الكوفيّ، ثقةٌ
(1)
، له أوهام [5](م د ت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذين الإسنادين:
أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقيهما، وهما (494 و 495)، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ) بتشديد الياء، ويجوز تسكينها، وهمز بعدها، ومعناها: الخليفة
(2)
، وقال في "النهاية": البريّة: الخَلْق، تقول: براه الله يبروه بَرْوًا؛ أي: خلقه، ويُجمع على البرايا، والبريّات، من الْبَرَي، وهو التراب، هذا إذا لم يهمز، ومن ذهب إلى أن أصله الهمز أخَذه مِنْ برأ الله الخلق يبرؤهم؛ أي: خَلَقهم، ثم تُرك فيها الهمز؛ تخفيفًا، ولم تُستعمل مهموزةً. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: البرية: الخلق، وتُهْمَز، ولا تُهْمَز، وقد قُرئ بهما، واختُلف في اشتقاقها، فقيل: هي مأخوذة من الْبَرَى، وهو: التراب، فعلى هذا لا يُهمز، وقيل: هي مأخوذة من برأ الله تعالى الخلق -بالهمز-؛ أي: خَلَقهم، وعلى هذا فيُهمز، وقد يكون من هذا، وتُسَهَّل همزتها، كما سهّلوا همزة خابية، وهي من خبأت مهموزًا، والبرية في الوجهين: فعيلة بمعنى: مفعولة. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ)؛ أي: الذي ناديته بـ "يا خير البريّة"، (إِبْرَاهِيمُ) الخليل (عليه السلام")؛ أي: لست أنا، قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا
(1)
هذا أَولى مما في "التقريب": صدوقٌ؛ لأنه وثقه الأئمة الكبار. انظر: "تت".
(2)
"تحفة الأحوذيّ" 9/ 200.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 123.
(4)
"المفهم" 6/ 180.
تواضعًا، واحترامًا لإبراهيم عليه السلام لِخُلّته، وأُبُوّته، وإلا فنبيّنا صلى الله عليه وسلم أفضل، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أنا سيد ولد آدم"، ولم يقصد به الافتخار، ولا التطاول على من تقدمه، بل قاله بيانًا لِمَا أُمِر ببيانه، وتبليغه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"ولا فَخْرَ"؛ لينفيَ ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة.
وقيل: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم قال: إبراهيم خير البرية، قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم.
[فإن قيل]: التأويل المذكور ضعيفٌ؛ لأن هذا خبرٌ، فلا يدخله خُلْفٌ، ولا نسخٌ.
[فالجواب]: أنه لا يمتنع أنه أراد أفضل البرية الموجودين في عصره، وأطلق العبارة الموهمة للعموم؛ لأنه أبلغ في التواضع.
وقد جزم صاحب "التحرير" بمعنى هذا، فقال: المراد أفضل بريّة عصره.
وأجاب القاضي عياض عن التأويل الثاني بأنه، وإن كان خبرًا، فهو مما يدخله النسخ من الأخبار؛ لأن الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء، فأخبر بفضيلة إبراهيم عليه السلام إلى أن عَلِم تفضيل نفسه، فأخبر به، ويتضمن هذا جواز التفاضل بين الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.
ويجاب عن حديث النهي عنه بالأجوبة السابقة في أول كتاب الفضائل، ذَكَره النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد عارض هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيِّد ولد آدم"، وما عُلم من غير ما موضع من الكتاب والسُّنَّة، وأقوال السلف، والأمَّة أنه صلى الله عليه وسلم أفضل ولد آدم، وقد انْفُصِل عن هذا بوجهين:
[أحدهما]: أن ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم على جهة التواضع، وتَرْك التطاول على الأنبياء، كما قال:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أكرم ولد آدم على ربي يوم القيامة، ولا فخر"
(2)
، وخصوصًا على إبراهيم؛ الذي هو أعظم آبائه، وأشرفهم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 121 - 122.
(2)
رواه الترمذيّ (3620) وإسناده ضعيف؛ أي: بهذا السياق، وأما حديث:"أنا سيد ولد آدم" فأخرجه مسلم، فتنبّه.
[وثانيهما]: أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم بمنزلته عند الله تعالى، ثم إنه أُعلم بأنه أكرم، وأفضل، فأَخبر به كما أُمر، ألا ترى أنه كان في أول أمره يسأل أن يبلغ درجة إبراهيم من الصلاة عليه، والرحمة، والبركة، والخلة، ثم بعد ذلك أخبرنا بأن الله تعالى قد أوصله إلى ذلك لمّا قال:"إن الله تعالى قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا"، ثم بعد ذلك زاده الله من فضله، فشرَّفه، وكرَّمه، وفضّله على جميع خَلْقه.
وقد أُورد على كل واحد من هذين الوجهين استبعاد، قالوا: رُدَّ على الأول، أن قيل: كيف يصح من الصادق المعصوم أن يُخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه؛ لأجل التواضع والأدب؟ والوارد على الثاني: أن ذلك خبر عن أمر وجودي، والأخبار الوجودية لا يدخلها النسخ.
والجواب عنهما: أن يقال: إن ذلك ليس إخبارًا عن الشيء بخلاف ما هو عليه، فإنه تَوَاضَعَ بمنع إطلاق ذلك اللفظ عليه، وتأدَّب مع أبيه بإضافة ذلك اللفظ إليه، ولم يتعرض للمعنى، فكأنه قال: لا تُطلقوا هذا اللفظ عليّ، وأطلقوه على أبي إبراهيم أدبًا معه، واحترامًا له، ولو صرَّح بهذا لكان صحيحًا غير مستبعَد، لا عقلًا، ولا نقلًا، وهذا كما قال:"لا تفضّلوني على موسى"؛ أي: لا تقولوا: محمد أفضل من موسى؛ مخافةَ أن يُخيَّل نقص في المفضول، كما قدَّمناه، ويأتي.
فقد أظهر هذا البحث: أن ذلك راجع إلى منع إطلاق لفظ وإباحته، فذلك خبر عن الحكم الشرعيّ، لا عن المعنى الوجوديّ، وإذا ثبت ذلك جاز رَفْعه، ووَضْعه، وصحَّ الحكم به، ونَسْخه من غير تعرُّض للمعنى، والله أعلم.
سلَّمنا أنه خبر عن أمر وجوديّ، لكن لا نسلّم أن كل أمر وجوديّ لا يتبدل، بل منها ما يتبدل، ولا يلزم من تبدله تناقض، ولا محال، ولا نَسْخ؛ كالإخبار عن الأمور الوضعية.
وبيان ذلك: أن معنى كون الإنسان مكرَّمًا مفضلًا؛ إنما ذلك بحسب ما يُكرَّم به، ويُفضل على غيره، ففي وقت يُكرَّم بما يُساوي فيه غيره، وفي وقت يزاد على ذلك الغير، وفي وقت يُكرَّم بشيء لم يُكرَّم به أحد، فيقال في المنزلة الأولى: مُكرَّم، مُقرَّب، وفي الثانية: مُفضَّل بقيد، وفي الثالثة: مُفضَّل مطلقًا،
ولا يلزم من ذلك تناقض، ولا نَسْخ، ولا مُحال، وهذا واضح، وحسنٌ جدًّا، فاغتبِط به، وشدَّ عليه يدًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 6120 و 6121 و 6122](2369)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4672)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3349)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 520)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 329)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 178 و 184)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 39 و 40)، و (تمّام) في "فوائده"(1/ 55 و 262)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائد:
1 -
(منها): بيان فضيلة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث كان خير البريّة.
2 -
(ومنها): بيان تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث نَسَب الخيريّة لأبيه إبراهيم عليه السلام مع أنه سيّد ولد آدم كلّهم.
3 -
(ومنها): أن هذا الحديث حجة لمن قال بتفضيل خواصّ البشر؛ كالأنبياء على الملائكة وغيرهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أقرّ الرجل على قوله: "يا خير البريّة"، والبريّة معناها: الخَلْق، فيشمل الجميع، وهذه المسألة قد استوفيت بحثها في "شرح النسائيّ"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
4 -
(ومنها): ما قاله البيهقيّ رحمه الله في "شُعَبه": قول الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [البقرة: 253] يدلّ على تفضيل بعضهم على بعض، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تُفضِّلوا بين أنبياء الله"، وقوله:"لا تُخَيِّروا بين أنبياء الله"، إنما هو في محاولة أهل الكتاب على معنى الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدَّى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإقلال الواجب من حقوقهم، أما إذا كانت
(1)
"المفهم" 6/ 181 - 182.
المخايرة من مسلم يريد الوقوف على الأفضل منهم، فليس هذا بنهي عنه، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى"، فإنما أراد -والله أعلم- مَن سواه من الناس، دون نفسه، أو ذَهَب في ذلك مذهب التواضع لربه، والهضم لنفسه، وكذلك في قوله -حين قيل: يا خير البرية-: "ذاك إبراهيم عليه السلام"، وكان لا يحب المبالغة في الثناء عليه في وجهه؛ تواضعًا لربه عز وجل، وكان يقول:"لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله، ورسوله".
قال: وأما اتخاذ الله إبراهيم خليلًا فإنه إنما اتخذه خليلًا على من كان في عصره، من أعداء الله عز وجل، لا على غيره من النبيين، وهو أنه هداه إلى معرفته، ووفّقه لتوحيده، حين كان الكفر طَبَّق الأرض، ولم يكن في الدنيا نسمة تعرف الله، وتعرف به غيره، فاتخذه خليلًا، بأن جعله أهلًا لهدايته أوّلًا، ثم بأن أمره، ونهاه، فظهرت منه الطاعة ثانيًا، ثم بأن ابتلاه، فوجد منه الصبر ثالثًا، فكان يومئذ خليله، وأهل الأرض كلهم أعداؤه؛ لأنه كان المطيع، والناس غيره عصاة.
وقد اتخذ محمدٌ صلى الله عليه وسلم حبيبًا بدلالة الكتاب، وهو قوله عز وجل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]، فإذا كان اتّباعه يفيد للمتبع محبة الله عز وجل، فالمتبع بها يكون أَولى، ودرجة المحبة فوق درجة الْخُلّة، وقد تكلم أهل العلم في الفرق بين الحبيب والخليل بكلام كثير، وهو في كتب أهل التذكير مذكور.
ثم أخرج البيهقيّ بسنده عن جعفر بن محمد في قوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] قال: أظهر اسم الخلة لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الملك ظاهر في المعنى، وأبقى اسم المحبة لمحمد صلى الله عليه وسلم لتمام حاله؛ إذ لا يحب الحبيب إظهار حال حبيبه، بل يحب إخفاءه، وسَتْره؛ لئلا يَطَّلع عليه أحد سواه، ولا يدخل أحد بينهما، فقال لنبيّه وصفيّه محمد صلى الله عليه وسلم لمّا أظهر له حال المحبة:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]؛ أي:
ليس الطريق إلى محبة الله إلا اتباع حبيبه، ولا يتوصل إلى الحبيب بشيء أحسن من متابعة حبيبه ذلك رضاه.
قال: قال أبو عبد الرحمن السلمي: الحبيب يوجب اتباعه اسم المحبة لذلك، لم يوقع عليه هذا الاسم، فإن حاله أجلّ من أن يعبّر عنه بالمحبة؛ لأن متّبعيه استحقوا هذا الاسم بمتابعته، ألا ترى الله عز وجل يقول:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]، والخليل لا يوجب اتباعه، لذلك أطلق له اسم الخلة، قال: والحبيب يقسم به؛ لقوله: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]، والخليل يقسم لقوله:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، والحبيب يُبدأ بالعطاء من غير سؤال، لقوله:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)} [الشرح: 1]، والخليل يَسأل؛ لقوله:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} الآية [إبراهيم: 40]، والحبيب مجاب إلى مراده؛ لقوله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} الآية [البقرة: 144]، والخليل ربما لا يجاب، ألا تراه قال:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، والحبيب شافع على ربه، ألا تراه حين يقول له:"ارفع رأسك، وَسَلْ تُعطه، واشفع تشفع"، والخليل مشفوع فيه، ألا تراه في القيامة، إذا التجأ إليه الخلق، كيف يقول: لست لها، والحبيب أزيل عنه الرَّوْعة من المشهد الأعلى بالكرم من المعراج لما يجيء من مقام الشفاعة، فلم يرعه شيء لِمَا تقدم من مشاهدة، فيفرغ للشفاعة لأهل الجمع عامة، فيقول:"أنا لها"، ثم لأمته خاصة، فقال:"أمتي، أمتي"، والخليل لم يزل عنه لذلك فرجع من وقت تنفّس جهنم وزفيرها إلى قوله:"نفسي، نفسي". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6121]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُخْتَارَ بْنَ فُلْفُلٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ. بِمِثْلِهِ).
(1)
"شُعَب الإيمان" للبيهقيّ 2/ 183 - 185 بزيادة شيء يسير.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ -بسكون الواو- أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن حديث عبد الله بن إدريس عن مختار مثل حديث عليّ بن مُسهر عنه.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيه، وهو (496) من رباعيّات الكتاب.
[تنبيه]: رواية عبد الله بن إدريس عن مختار بن فُلْفُل هذه ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4672)
- حدّثنا زِيَاد بن أيوب، ثنا عبد الله بن إدريس، عن مختار بن فُلْفُل، يذكر عن أنس، قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خير البريّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذاك إبراهيم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6122]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُخْتَارِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بن عبيد الْعَنَزيّ -بفتح النون، والزاي- أبو موسى البصريّ، المعروف بالزَّمِن، مشهور بكنيته، وباسمه، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 252)، وكان هو وبُنْدار فَرَسَي رِهَان، وماتا في سنة واحدة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
"سنن أبي داود" 4/ 218.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مَهْديّ بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، حافظٌ، عارف بالرجال والحديث، قال ابن المدينيّ: ما رأيت أعلم منه [9](ت 198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن حديث سفيان الثوريّ عن المختار مثل حديث علي بن مُسهر.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن المختار بن فُلْفُل هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1293)
- حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن المختار بن فلفل، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا خير البريّة، قال:"ذاك إبراهيم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6123]
(2370) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) هو: الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عبد الله بن خالد بن حِزَام -بمهملة، وزاي- المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ، له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عسقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه قوله: "يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 184.
الْحِزَامِيَّ"، وهو من قول المصنّف حيث لم ينسبه شيخه قتيبة، وأراد أن يعرّفه لمن يُحدّثهم، فزاد كلمة "يعني" فصلًا بين كلام شيخه، وبين ما زاده هو للتعريف، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" حيث قال:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَو وَصْفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَو بـ "أَنَّ" أَو بـ "هُو"
…
أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلهُ
أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ
…
وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ
وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه قد سبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ) بالبناء للفاعل، (إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام)، وقوله:(وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً) جملة في محلّ النصب على الحال من الفاعل، (بِالْقَدُومِ") قال النوويّ رحمه الله: رُواةُ مسلم متفقون على تخفيف "الْقَدُوم"، ووقع في روايات البخاريّ الخلاف في تشديده، وتخفيفه، قالوا: وآلة النجار يقال لها: قَدُوم بالتخفيف، لا غير، وأما "الْقَدُّوم" مكان بالشام، ففيه التخفيف، فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ومن رواه بالتخفيف يَحْتَمِل القرية، والآلة، والأكثرون على التخفيف، وعلى إرادة الآلة، وهذا الذي وقع هنا، وهو ابن ثمانين سنةً هو الصحيح، ووقع في "الموطأ":"وهو ابن مائة وعشرين سنةً" موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، وهو متأوَّلٌ، أو مردود. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بالقدوم" اختَلَف الرواة في تخفيف دال القدوم، وتشديدها، واختلفوا أيضًا في معناها، فالذي عليه أكثر الرواة التخفيف، ويعني به: آلة النَّجَّار، وهو قول أكثر أهل اللغة في آلة النجارة، ورواه بعضهم مشدَّدًا، وفسَّره بعض اللغويين بأنه موضع معروف بالشام، ومنهم من قال: بالسَّرَاة، وحُكي عن أبي جعفر اللُّغوي: قدُّوم: المكان مشدَّد،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 122.
معرفة، لا يدخله الألف واللام. قال: ومن رواه في حديث إبراهيم صلى الله عليه وسلم مخففًا، فإنما يعني بها: الآلة التي يُنْجَر بها، وفي "الصحاح": القدوم الذي يُنحت به مخففًا، قال ابن السِّكيت: لا تقل: قدُّوم بالتشديد، والجمع: قُدُم، قال الأعشى [من المتقارب]:
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنُو
…
دِ حَوْلَينِ يَضرِبُ فِيهَا القُدُمْ
وجمع القُدُم: قدائم، مثل: قُلُص وقلائص، والقدوم أيضًا: اسم موضع مخفَّف.
قال القرطبيّ: ويحصل من أقوالهم أن القدوم إذا أريد به الآلة فهو مخفف، وإذا أريد به الموضع ففيه التشديد، والتخفيف، ويَحْتَمِل أن يراد بالقدوم في الحديث الآلة، والموضع. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "بالقدوم" رَوَيناه بالتشديد عن الأصيليّ، والقابسيّ، ووقع في رواية غيرهما بالتخفيف، قال النوويّ: لم يَختلف الرواة عند مسلم في التخفيف، وأنكر يعقوب بن شيبة التشديد أصلًا.
واختُلِف في المراد به، فقيل: هو اسم مكان، وقيل: اسم آلة النجار، فعلى الثاني هو بالتخفيف، لا غير، وعلى الأول ففيه اللغتان، هذا قول الأكثر، وعكسه الداوديّ، وقد أنكر ابن السِّكِّيت التشديد في الآلة.
ثم اختُلِف، فقيل: هي قرية بالشام، وقيل: ثنية بالسَّرَاة، والراجح أن المراد في الحديث الآلة، فقد رَوَى أبو يعلى من طريق عليّ بن رَبَاح:"قال: أُمر إبراهيم بالختان، فاختتن بقدوم، فاشتدّ عليه، فأوحى الله إليه، أن عجلت قبل أن نأمرك بآلته، فقال: يا رب كَرِهت أن أؤخر أمرك".
قال: اتفقت الروايات على أنه كان ابن ثمانين سنةً عند اختتانه، ووقع في "الموطأ" موقوفًا على أبي هريرة، وعند ابن حبان مرفوعًا:"أن إبراهيم اختتن، وهو ابن مائة وعشرين سنةً"، والظاهر أنه سقط من المتن شيء، فإن هذا القدر هو مقدار عمره، ووقع في آخر "كتاب العقيقة" لأبي الشيخ، من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، موصولًا،
(1)
"المفهم" 6/ 182 - 183.
مرفوعًا مثله، وزاد:"وعاش بعد ذلك ثمانين سنة"، فعلى هذا يكون عاش مائتي سنة، والله أعلم، وجَمعَ بعضهم بأن الأول حُسِب من مبدأ نبوّته، والثاني من مبدأ مولده. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في "كتاب الاستئذان" بعد ذكر رواية "الموطّأ" بلفظ: "إن إبراهيم أوّلُ من اختتن، وهو ابن عشرين ومائة، واختتن بالقدوم، وعاش بعد ذلك ثمانين سنةً" ما نصّه: ورويناه في "فوائد ابن السماك" من طريق أبي أويس، عن أبي الزناد، بهذا السند مرفوعًا، وأبو أويس فيه لين، وأكثر الروايات على ما وقع في حديث الباب أنه عليه السلام اختتن، وهو ابن ثمانين سنةً، وقد حاول الكمال بن طلحة في جزء له في الختان الجمع بين الروايتين، فقال: نُقِل في الحديث الصحيح أنه اختتن لثمانين، وفي رواية أخرى صحيحة أنه اختتن لمائة وعشرين، والجمع بينهما أن إبراهيم عاش مائتي سنة، منها ثمانين سنةً غير مختون، ومنها مائة وعشرين، وهو مختون، فمعنى الحديث الأول: اختتن ثمانين مضت من عمره، والثاني: لمائة وعشرين بقيت من عمره.
وتعقبه الكمال ابن العديم في جزء سماه "الملحة في الردّ على ابن طلحة" بأن في كلامه وَهَمًا من أوجه:
أحدها: تصحيحه لرواية مائة وعشرين، وليست بصحيحة، ثم أوردها من رواية الوليد عن الأوزاعيّ، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، مرفوعةً، وتعقبه بتدليس الوليد، ثم أورده من "فوائد ابن المقرئ" من رواية جعفر بن عون، عن يحيى بن سعيد، به موقوفًا، ومن رواية عليّ بن مُسهر، وعكرمة بن إبراهيم، كلاهما عن يحيى بن سعيد، كذلك.
ثانيها: قوله في كل منهما: لثمانين، لمائة وعشرين، ولم يَرِد في طريق من الطرق باللام، وإنما ورد بلفظ: اختتن، وهو ابن ثمانين، وفي الأخرى: وهو ابن مائة وعشرين، وورد الأول أيضًا بلفظ:"على رأس ثمانين"، ونحو ذلك.
ثالثها: أنه صرح في أكثر الروايات أنه عاش بعد ذلك ثمانين سنةً، فلا
(1)
"الفتح" 7/ 146 - 147، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3356).
يوافق الجمع المذكور أن المائة وعشرين هي التي بقيت من عمره.
رابعها: أن العرب لا تزال تقول: خَلَوْن إلى النصف، فإذا تجاوزت النصف قالوا: بَقِين، والذي جمع به ابن طلحة يقع بالعكس، ويلزم أن يقول فيما إذا مضى من الشهر عشرة أيام: لعشرين بقين، وهذا لا يُعرف في استعمالهم.
ثم ذكر الاختلاف في سنّ إبراهيم عليه السلام، وجزم بأنه لا يثبت منها شيء، منها: قول هشام ابن الكلبيّ، عن أبيه، قال: دعا إبراهيم الناس إلى الحج، ثم رجع إلى الشام، فمات به، وهو ابن مائتي سنة.
وذكر أبو حُذيفة البخاريّ، أحد الضعفاء في "المبتدأ" بسند له ضعيف، إن إبراهيم عاش مائة وخمسًا وسبعين سنةً.
وأخرج ابن أبي الدنيا من مرسل عُبيد بن عُمير في وفاة إبراهيم، وقصته مع ملَك الموت، ودخوله عليه في صورة شيخ، فأضافه، فجعل يضع اللقمة في فيه، فتتناثر، ولا تثبت في فيه، فقال له: كم أتى عليك؟ قال: مائة وإحدى وستون سنةً، فقال إبراهيم في نفسه، وهو يومئذ ابن ستين ومائة: ما بقي أن أصير هكذا إلا سنةٌ واحدةٌ، فكَرِه الحياة، فقبض ملك الموت حينئذ روحه برضاه.
قال الحافظ: فهذه ثلاثة أقوال مختلفة، يتعسر الجمع بينها، لكن أرجحها الرواية الثالثة، وخطر لي بعدُ أنه يجوز الجمع بأن يكون المراد بقوله: وهو ابن ثمانين، أنه من وقت فارق قومه، وهاجر من العراق إلى الشام، وأن الرواية الأخرى: وهو ابن مائة وعشرين؛ أي: من مولده، أو أن بعض الرواة رأى مائة وعشرين، فظنها إلا عشرين، أو بالعكس، والله أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره الحافظ من وجه الجمع لا يخفى ما فيه من التكلّف، والتعسّف، فالحقّ أن ما في الصحيح أصحّ، وهو أنه عليه السلام اختتن وهو ابن ثمانين سنة، وما عداه من الروايات مرجوحة، فلا يُلتفت إليها، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 14/ 266، كتاب "الاستئذان" رقم (6298).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الأولى): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 6123](2370)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3356) و"الاستئذان"(6298) وفي "الأدب المفرد"(1/ 426 و 428)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322 و 417 و 435)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6204 و 6205)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5981)، و (ابن أبي عاصم) في "الأوائل"(20)، و (الطبرانيّ) في "الأوائل"(11)، وفي "مسند الشاميين"(1/ 88 و 4/ 289)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 600)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 325) و"شُعَب الإيمان"(6/ 395)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الختان، وأنه لا ينبغي تَرْكه، ولو كَبُر سنّه، وقد استوفيت البحث في اختلاف العلماء في حُكمه، وترجيح الراجح بدليله في أوائل "كتاب الطهارة" في شرح حديث الفطرة، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
2 -
(ومنها): أن إبراهيم عليه السلام هو أول من اختتن، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول من اختتن إبراهيم. . ." الحديث، رواه الطبرانيّ، وابن أبي عاصم في "أوائلهما".
وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: إن إبراهيم عليه السلام أوَّل من اختتن، وأن ذلك لم يزل سُنَّة عامة معمولًا بها في ذريته، وأهل الأديان المنتمين إلى دينه، وهو حُكم التوراة على بني إسرائيل كلهم، ولم تزل أنبياء بني إسرائيل يختتنون، حتى عيسى عليه السلام، غير أن طوائف من النصارى تأوَّلوا ما جاء في التوراة من ذلك، بأن المقصود زوال غُلْفَة القلب، لا جلدة الذَّكَر، فتركوا المشروع من الختان بضرب من الهذيان، وليس هذا بأوَّل جهالاتهم، فكم لهم منها وكم! ويكفيك من ذلك أنّهم زادوا على أنبيائهم في الفهم، وغلَّطوهم فيما عملوا عليه، وقضوا به من الحُكم، وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب "الإعلام".
انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال المهلَّب رحمه الله: ليس اختتان إبراهيم عليه السلام بعد ثمانين مما يوجب علينا مثل فعله؛ إذ عامة من يموت من الناس لا يبلغ الثمانين، وإنما اختتن وقت أوحى الله إليه بذلك، وأَمَره به، قال: والنظر يقتضي أنه لا ينبغي الاختتان إلا قرب وقت الحاجة إليه؛ لاستعمال العضو في الجماع، كما وقع لابن عباس حيث قال:"كانوا لا يختنون الرجل حتى يُدرك"، ثم قال: والاختتان في الصغر؛ لتسهيل الأمر على الصغير؛ لِضَعف عضوه، وقلة فهمه.
قال الحافظ: يُستدلّ بقصة إبراهيم عليه السلام لمشروعية الختان، حتى لو أُخِّر لمانع حتى بلغ السن المذكور لم يسقط طلبه، وإلى ذلك أشار البخاريّ بالترجمة -أي: حيث قال: "باب الختان بعد الكِبَر"- وليس المراد أن الختان يُشرع تأخيره إلى الكبر، حتى يحتاج إلى الاعتذار عنه، وأما التعليل الذي ذكره من طريق النظر ففيه نظر، فإن حكمة الختان لم تنحصر في تكميل ما يتعلق بالجماع، بل ولمَا يُخشى من انحباس بقية البول في الغُرْلة، ولا سيما للمستجمر، فلا يؤمَن أن يسيل، فينجس الثوب، أو البدن، فكانت المبادرة لِقَطْعها عند بلوغ السن الذي يؤمر به الصبي بالصلاة أليق الأوقات، وقد بيّنت الاختلاف في الوقت الذي يُشرع فيه فيما مضى. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6124]
(151)
(3)
- (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ؛ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ، لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ").
(1)
"المفهم" 6/ 183.
(2)
"الفتح" 14/ 267 - 268، كتاب "الاستئذان" رقم (6298).
(3)
هذا الرقم تقدّم، فهو مكرّر، فتنبّه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في "كتاب الإيمان" برقم [73/ 389](151)، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، فإن شئت، فارجع إليه، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: ("نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ) قال النوويّ رحمه الله: اختَلَف العلماءُ في معنى: "نحن أحقّ بالشك من إبراهيم" على أقوال كثيرة، أحسنها، وأصحها ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزنيّ صاحب الشافعيّ، وجماعات من العلماء، ومعناه: أن الشك مستحيل في حقّ إبراهيم عليه السلام، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرِّقًا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحقّ به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشكّ، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك، وإنما خَصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام؛ لكون الآية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشكّ، وإنما رجَّح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعًا، وأدبًا، أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم.
وقال صاحب "التحرير": قال جماعة من العلماء: لمّا نزل قول الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} قالت طائفة: شكَّ إبراهيم، ولم يشكّ نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نحن أحق بالشك منه"، فذكر نحو ما قدمته، ثم قال: ويقع لي فيه معنيان:
أحدهما: أنه خرج مخرج العادة في الخطاب، فإن من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم فيه: ما كنت قائلًا لفلان، أو فاعلًا معه من مكروه، فقله لي، وافعله معي، ومقصوده: لا تقل ذلك فيه.
والثاني: أن معناه أن هذا الذي تظنونه شكًّا أنا أَولى به، فإنه ليس بشكّ، وإنما هو طلب لمزيد اليقين، وقيل غير هذا من الأقوال، فنقتصر على هذه لكونها أصحها، وأوضحها، والله أعلم، وقد تقدّم البحث بأطول مما هنا في الباب المذكور، فلتراجعه تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) المراد بالركن الشديد هو الله سبحانه وتعالى، فإنه أشد الأركان، وأقواها، وأمنعها، ومعنى الحديث -والله أعلم-: أن لوطًا صلى الله عليه وسلم لَمّا خاف على أضيافه، ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين،
ضاق ذرعه، واشتَدّ حزنه عليهم، فغلب ذلك عليه، فقال في ذلك الحال: لو
أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي، أو آوي إلى عشيرة تَمْنع لَمَنعتكم، وقَصْد
لوط صلى الله عليه وسلم إظهار العذر عند أضيافه، وأنه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريق ما
لفعله، وأنه بذل وُسعه في إكرامهم، والمدافعة عنهم، ولم يكن ذلك إعراضًا
منه صلى الله عليه وسلم عن الاعتماد على الله تعالى، وإنما كان لِما ذكرناه من تطيب قلوب
الأضياف، وقد تقدّم البحث باتمّ مما هنا في الباب المذكور، فراجعه تستفد
علماَ، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ
…
إلخ) هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم
ثناء على يوسف عليه السلام، وبيان لصبره، وتأنيه، والمراد بالداعي رسول الملِك
الذي أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} [يوسف: 50]، فلم يخرج يوسف عليه السلام مبادرًا إلى الراحة، ومفارقة السجن الطويل، بل
تثبّت، وتوقّر، وراسل الملك في كشف أمره الذي سُجن بسببه، ولتظهر براءته
عند الملِك وغيره، ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نُسب إليه، ولا خَجَل من
يوسف، ولا غيره، فبيّن نبينا صلى الله عليه وسلم فضيلة يوسف عليه السلام في هذا، وقوّة نفسه في
الخير، وكمال صبره، وحُسن نَظَره، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قاله تواضعًا،
وإيثارًا للإبلاع في بيان كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6125]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ -إِنْ شَاءَ اللهُ - عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ،
حَدَّثنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّب، وَأَبا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الحديث أيضًا في "كتاب الإيمان"
برقم [73/ 390](151)، وقد استوفيت البحث فيه هناك، فلتراجعه، تستفد
علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ) بن عبيد الضُّبَعيّ -بضم المعجمة،
وفتح الموحّدة -أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُوَيْرِيَةُ) -تصغير جارية- ابن أسماء بن عُبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر [7](ت 179)، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
4 -
(أَبُو عُبَيْدٍ) سعد بن عُبيد الزهريّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر المدنيّ، ثقةٌ [3] (ت 98) وقيل: له إدراك (ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: قوله: "إِنْ شَاءَ اللهُ" قال النوويّ رحمه الله: هذا مما قد ينكره على مسلم مَن لا علم عنده، ولا خِبْرة لديه؛ لكون مسلم: قال: وحدّثني به إن شاء الله تعالى، فيقول: كيف يحتجّ بشيء يشك فيه؟ وهذا خَيال باطلٌ من قائله، فإن مسلمًا لم يحتج بهذا الإسناد، وإنما ذكره متابعةً، واستشهادًا، وقد قدّمنا أنهم يَحْتملون في المتابعات والشواهد ما لا يحتملون في الأصول، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6126]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَغْفِرُ اللهُ لِلُوطٍ، إِنَّهُ أَوَى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 183.
[10]
(ت 234) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، أصله من خُرَاسان، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(وَرْقَاءُ) بن عمر الْيَشْكُريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوق، في حديثه عن منصور لِينٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "يَغْفِرُ اللهُ لِلُوطٍ، إِنَّهُ أَوَى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ")؛ أي: إلى الله سبحانه وتعالى، يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]، ويقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه؛ لأنهم من سَدُوم، وهي من الشام، وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى أهل سدوم، فقال: لو أن لي مَنَعَةً، وأقارب، وعَشيرةً، لكنت أستنصر بهم عليكم؛ ليدفعوا عن ضيفاني، ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث كما أخرجه أحمد، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"قال لوط: لو أن لي بكم قوّةً، أو آوي إلى ركن شديد، قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه عَنَى عشيرته، فما بعث الله نبيًّا إلا في ذروة من قومه"، زاد ابن مردويه، من هذا الوجه:"ألم تر إلى قول قوم شعيب: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]؟ ".
وقيل: معنى قوله: "لقد كان يأوي إلى ركن شديد"؛ أي: إلى عشيرته، لكنه لم يأو إليهم، وأوى إلى الله. انتهى، قال الحافظ: والأول أظهر؛ لِمَا بيّناه.
وقال النوويّ: يجوز أنه لَمّا اندَهَش بحال الأضياف قال ذلك، أو أنه التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف اعتذارًا، وسُمِّي العشيرة
ركنًا؛ لأن الركن يُستند إليه، ويُمتنع به، فشبَّههم بالرُّكن من الجبل؛ لشدّتهم، ومَنَعَتهم
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: {إِنْ كَانَ} كلمة "إن" هذه مخففة من المثقلة؛ أي: إنه كان، وقوله:{إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ؛ أي: إلى الله سبحانه وتعالى، ويشير بذلك إلى قوله تعالى:{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]؛ أي: إلى عشيرته، لكنه لم يأو إليهم، ولكنه آوى إلى الله. انتهى
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 6126](151)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3375)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(5/ 354)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 283)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6127]
(2371) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عليه السلام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وَقَوْلُهُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ، وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ، فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ، لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ، فَأَرْسَلَ
(1)
"الفتح" 7/ 684 - 685 رقم (3375).
(2)
"عمدة القاري" 15/ 270.
إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلَا أَضُرُّكِ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَى، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ، فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ، قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام انْصَرَفَ، فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا، كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمُّكُمْ، يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمِ) بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضعف، وله أوهام إذا حدّث من حفظه [6](ت 170)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
2 -
(أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ) -بفتح المهملة بعدها معجمة ثم مثناة ثم تحتانية وبعد الألف نون- ابن أبي تَمِيمة كيسان، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، كبير القَدْر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من جرير، إلا الصحابيّ، فمدنيّ، والباقيان مصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه سبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) هكذا رواية جرير بن حازم عن أيوب مرفوعة، ووقع في رواية حمّاد بن زيد عن أيوب عند البخاريّ غير مرفوع، قال في "الفتح": أورده البخاريّ من وجهين عن أيوب، وساقه على لفظ حماد بن زيد، عن أيوب، ولم يقع التصريح برفعه في روايته، وقد رواه في "النكاح" عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، فصرّح برفعه، لكن لم يَسُق لفظه، ولم يقع رَفْعه هنا في رواية النسفيّ، ولا كريمة، وهو المعتمَد في رواية حماد بن زيد، وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، غير مرفوع، والحديث في الأصل مرفوع، كما في رواية جرير بن حازم، وكما في رواية هشام بن حسّان، عن ابن سيرين، عند النسائيّ، والبزار، وابن حبان، وكذا تقدم في "البيوع" من رواية الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، ولكن ابن سيرين كان غالبًا لا يصرّح برفع كثير من حديثه. انتهى
(1)
.
("لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من الزمن، (إِلَّا ثَلَاثَ كذَبَاتٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم الكلام على هذه الكذبات في "كتاب الإيمان"، وذكرنا هناك أنها أربع، زيد فيها قوله للكوكب:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 77]، ولم يذكرها في هذا الحديث، مع أنه قد جاء بلفظ الحصر، فينبغي ألا يقال عليها كذبة في حق إبراهيم؛ إذ قد نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الحصر؛ وإنَّما لم تُعَدّ عليه كذبة، وهي أدخل في الكذب من هذه الثلاث؛ لأنَّه -والله أعلم- حين قال ذلك في حال الطفولية، وليست حال تكليف، ويقوي هذا المعنى قول من حكى عنه ذلك، كما تقدَّم في "الإيمان". انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ثلاث كذبات"، قال أبو البقاء: الجيِّد أن يقال: بفتح الذال في الجمع؛ لأنه جمع كَذْبة بسكون الذال، وهو اسم، لا صفة؛ لأنك تقول: كَذَبَ كَذْبَةً، كما تقول: رَكَعَ رَكْعَةً، ولو كان صفة لسُكّن في الجمع.
(1)
"الفتح" 7/ 647، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
(2)
"المفهم" 6/ 184.
وقد أُورد على هذا الحصر ما رواه مسلم من حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة، في حديث الشفاعة الطويل، فقال في قصة إبراهيم:"وذَكَرَ كذباته"، ثم ساقه من طريق أخرى، من هذا الوجه، وقال في آخره: وزاد في قصة إبراهيم، وذكر قوله في الكوكب:{هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76]، وقوله لآلهتهم:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]. انتهى.
قال القرطبيّ: ذِكْر الكوكب يقتضي أنها أربع، وقد جاء في رواية ابن سيرين بصيغة الحصر، فيحتاج في ذِكر الكوكب إلى تأويل.
قال الحافظ: الذي يظهر أنها وَهَمٌ من بعض الرواة، فإنه ذَكَر قوله في الكوكب، بدل قوله في سارة، والذي اتَّفَقَت عليه الطرق ذِكر سارة، دون الكوكب، وكأنه لم يُعَدّ مع أنه أدخلُ مِن ذِكر سارة؛ لِمَا نُقِل أنه قاله في حال الطفولية، فلم يَعُدّها؛ لأن حال الطفولية ليست بحال تكليف، وهذه طريقة ابن إسحاق، وقيل: إنما قال ذلك بعد البلوغ، لكنه قاله على طريق الاستفهام الذي يُقصد به التوبيخ، وقيل: قاله على طريق الاحتجاج على قومه؛ تنبيهًا على أن الذي يتغير لا يصلح للربوبية، وهذا قول الأكثر أنه قال توبيخًا لقومه، أو تهكّمًا بهم، وهو المعتمد، ولهذا لم يُعَدّ ذلك في الكذبات.
وأما إطلاقه الكذب على الأمور الثلاثة، فلكونه قال قولًا يعتقده السامع كذبًا، لكنه إذا حُقِّق لم يكن كذبًا؛ لأنه من باب المعاريض المحتمِلة للأمرين فليس بكذب محض.
فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} يَحْتَمِل أن يكون أراد: إني سقيم؛ أي: سأسقم، واسم الفاعل يُستعمل بمعنى المستقبَل كثيرًا، ويَحْتَمِل أنه أراد: إني سقيم بما قُدّر عليّ من الموت، أو سقيم الحجة على الخروج معكم.
وحَكَى النوويّ عن بعضهم أنه كان تأخذه الحمى في ذلك الوقت، وهو بعيد؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن كذبًا، لا تصريحًا، ولا تعريضًا.
وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} قال القرطبيّ: هذا قاله تمهيدًا للاستدلال على أن الأصنام ليست بآلهة، وقطعًا لقومه في قولهم: إنها تضرّ، وتنفع، وهذا الاستدلال يُتَجَوَّز فيه في الشرط المتصل، ولهذا أردف قوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} بقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} ، قال ابن قتيبة: معناه: إن
كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا، فالحاصل أنه مشترط بقوله: إن كانوا ينطقون، أو أنه أَسند إليه ذلك؛ لكونه السبب، وعن الكسائي أنه كان يقف عند قوله:{بَلْ فَعَلَهُ} ؛ أي: فعله من فعله كائنًا من كان، ثم يبتدئ:{كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وهذا خبر مستقلّ، ثم يقول:{فَاسْأَلُوهُمْ} إلى آخره، ولا يخفى تكلفه.
وقوله: "هذه أختي" يُعتذر عنه بأن مراده أنها أخته في الإسلام، كما سيأتي واضحًا، قال ابن عَقِيل: دلالة العقل تَصْرِف ظاهر إطلاق الكذب على إبراهيم، وذلك أن العقل قَطَع بأن الرسول ينبغي أن يكون موثوقًا به؛ ليُعْلَم صِدق ما جاء به عن الله، ولا ثقة مع تجويز الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه؟ وإنما أُطلق عليه ذلك؛ لكونه بصورة الكذب عند السامع، وعلى تقديره فلم يصدُر ذلك من إبراهيم عليه السلام؛ يعني: إطلاق الكذب على ذلك، إلا في حال شدّة الخوف؛ لعلوّ مقامه، وإلا فالكذب المحض في مثل تلك المقامات يَجُوز، وقد يجب؛ لتَحَمُّل أخفّ الضررين دفعًا لأعظمهما، وأما تسميته إياها كذبات، فلا يريد أنها تذم، فإن الكذب، وإن كان قبيحًا مُخِلًّا، لكنه قد يَحْسُن في مواضع، وهذا منها، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
(ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني به: وجود الله المنزه عن صفات المخلوقات، والمقدَّس عن ذوات المُحْدَثات، وفيه دليل على جواز إطلاق لفظ الذات على الله تعالى المقدس، فلا يُلتفت لإنكار من أنكر إطلاقه من المتكلمين.
وقال أيضًا: قوله: "اثنتين في ذات الله"؛ أي: في الدفع عن وجود الله تعالى، وبيان حجته على أن المستحق للإلهية هو الله تعالى لا غيره، فاعتذر عمَّا دعوه إليه من الخروج معهم بأنه سقيم، فوَرَّى بهذا اللفظ، وهو يريد خلاف ما فهموا عنه -كما بيَّناه في الإيمان- حتى يخلو بالأصنام، فيكسرها، ففعل ذلك، وترك كبير الأصنام؛ لينسب إليه كَسْرها بذلك قولًا يقطعهم به، فإنَّهم لمّا رجعوا من عيدهم، فوجدوا الأصنام مكسَّرة:{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)} [الأنبياء: 59]، فقال بعضهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ
(1)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60]، وكان هذا الذكر هو قول إبراهيم لهم:{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 57]، فلما أحضروه:{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (62)} [الأنبياء: 62]، فأجابهم بقوله:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} ؛ أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع القطع عن حجَّته المتفطِّن لحجَّة خصمه: {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 63، 64]؛ أي: بعبادة من لا ينطق بلفظة، ولا يملك لنفسه لحظة، فكيف ينفع عابديه، ويدفع عنهم البأس من لا يردُّ عن رأسه الفأس:{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء: 65]؛ أي: عادوا إلى جهلهم، وعنادهم، فقالوا:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، فقال قاطعًا لِما به يهذون، ومفحمًا لهم فيما يتقولون:{أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67]. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": خَصّ الثنتين بذات الله؛ لأن قصة سارة، وإن كانت أيضًا في ذات الله، لكن تضمنت حظًّا لنفسه، ونفعًا له، بخلاف الثنتين الأخيرتين، فإنهما في ذات الله محضًا، وقد وقع في رواية هشام بن حسان:"إن إبراهيم لم يكذب قطّ إلا ثلاث كذبات، كل ذلك في ذات الله"، وفي حديث ابن عباس عند أحمد:"والله إن جادل بهنّ إلا عن دين الله".
(قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} تقدّم ما يتعلّق بهاتين الخصلتين آنفًا، (وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ) بتخفيف الراء، وتشديدها، وهي امرأة إبراهيم، والدة إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذه الواحدة هي من إبراهيم صلى الله عليه وسلم مدافعةٌ عن حكم الله تعالى الذي هو: تحريم سارة على الجبَّار، والثنتان المتقدِّمتان مدافعة عن وجود الله تعالى، فافترقا، فلذلك فرَّق في الإخبار بين النوعين. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: اختُلف في والد سارة رضي الله عنها، مع القول بأن اسمه هاران، فقيل: هو ملك حَرّان، وأن إبراهيم تزوجها لما هاجر من بلاد قومه إلى حَرّان،
(1)
"المفهم" 6/ 184 - 185.
(2)
"المفهم" 6/ 185.
وقيل: هي ابنة أخيه، وكان ذلك جائزًا في تلك الشريعة، حكاه ابن قتيبة، والنقّاش، واستُبْعِد، وقيل: بل هي بنت عمة، وتوافق الاسمان، وقد قيل في اسم أبيها: توبل، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(فَإِنَّهُ)؛ أي: إبراهيم عليه السلام (قَدِمَ) بكسر الدال، (أَرْضَ جَبَّارٍ)، واسم الجبار المذكور: عمرو بن امرئ القيس بن سبأ، وأنه كان على مصر، ذكره السهيليّ، وهو قول ابن هشام في "التيجان"، وقيل: اسمه صادوق، وحكاه ابن قتيبة، وكان على الأردنّ، وقيل: سنان بن علوان بن عبيد بن عريج بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح، حكاه الطبريّ، ويقال: إنه أخو الضحاك الذي مَلَك الأقاليم.
وقوله: (وَمَعَهُ سَارَةُ) جملة حاليّة من الفاعل، وكذا قوله:(وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ) تقدّم في "صحيح مسلم" في حديث الإسراء الطويل من رواية ثابت، عن أنس في ذكر يوسف:"أُعطيَ شطر الحُسْن"، زاد أبو يعلى من هذا الوجه:"أُعطي يوسف، وأمه شطر الحُسْن"؛ يعني: سارة، وفي رواية للبخاريّ:"هاجر إبراهيم بسارة، فدخل بها قرية، فيها ملك، أو جبار، فقيل: دخل إبراهيم بامرأة، هي من أحسن النساء"، وفي رواية البخاريّ:"فقيل له: إن ها هنا رجلًا، معه امرأة، من أحسن الناس".
(فَقَالَ) إبراهيم (لَهَا)؛ أي: لسارة، (إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ)"إن" شرطيّة، ولذا جُزم الفعل بها بعدها، (أَنَّكِ امْرَأَتِي)؛ أي: زوجتي، (يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ) ظاهر هذا أن هذا القول قاله إبراهيم عليه السلام قبل أن يلقى الجبّار، ويتكلّم معه، وفي رواية البخاريّ:"فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة، فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض. . . إلخ"، وهذا ظاهر في أنه سأله عنها أوّلًا، ثم أعلمها بذلك؛ لئلا تكذّبه عنده.
ووجْه الجمع بينهما -كما في "الفتح"- أن يقال: إن إبراهيم عليه السلام أحسّ بأن الملك سيطلبها منه، فأوصاها بما أوصاها، فلما وقع ما حَسِبه أعاد عليها الوصية.
(1)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
واختُلِف في السبب الذي حَمَل إبراهيم على هذه الوصية، مع أن ذلك الظالم يريد اغتصابها على نفسها أختًا كانت، أو زوجةً، فقيل: كان من دين ذلك الملك أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج، كذا قيل، ويحتاج إلى تَتِمَّة، وهو أن إبراهيم أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، وذلك أن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة، لكن إن عَلِم أن لها زوجًا في الحياة حملته الغيرة على قتله، وإعدامه، أو حَبْسه، وإضراره، بخلاف ما إذا عَلِم أن لها أخًا، فإن الغيرة حينئذ تكون من قِبَل الأخ خاصّة، لا من قِبَل الملك، فلا يبالي به.
وقيل: أراد: إن عَلِم أنك امرأتي ألزمني بالطلاق.
قال الحافظ: والتقرير الذي قررته أولًا جاء صريحًا عن وهب بن منبه، فيما أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" من طريقه.
وقيل: كان من دِين الملِك أن الأخ أحقّ بأن تكون أخته زوجته من غيره، فلذلك قال: هي أختي؛ اعتمادًا على ما يعتقده الجبار، فلا ينازعه فيها.
وتُعُقّب بأنه لو كان كذلك لقال: هي أختي، وأنا زوجها، فلم اقتصر على قوله: هي أختي، وأيضًا فالجواب إنما يفيد لو كان الجبار يريد أن يتزوجها، لا أن يغتصبها نفسها.
وذكر المنذريّ في "حاشية السنن" عن بعض أهل الكتاب أنه كان من رأي الجبار المذكور أن من كانت متزوجة لا يقربها، حتى يقتل زوجها، فلذلك قال إبراهيم:"هي أختي"؛ لأنه إن كان عادلًا خطبها منه، ثم يرجو مدافعته عنها، وإن كان ظالِمًا خلص من القتل.
قال الحافظ: وليس هذا ببعيد مما قررته أوّلًا، وهذا أُخذ من كلام ابن الجوزي في "مشكل الصحيحين"، فإنه نقله عن بعض علماء أهل الكتاب، أنه سأله عن ذلك، فأجاب به.
وقال القرطبيّ: "يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ" قيل: إن ذلك الجبَّار كانت سيرته أنه لا يغلبُ الأخ على أخته، ولا يظلمه فيها، وكان يغلب الزوج على زوجته، وعلى هذا يدلّ مساق هذا الحديث، وإلا فما الذي فرَّق بينهما في حق جبَّار ظالم؟ انتهى
(1)
.
(1)
"المفهم" 6/ 185.
(فَإنْ سَأَلَكِ، فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسلَامِ)؛ أي: لا في النسب، فلا يكون كذبًا في الحقيقة، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا صحيح، ليس فيه من الكذب شيء، وهذا كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، لكن لما كان الأسبق للفهم من لفظ الإخوة إنما هي أخوَّة النسب، كان من باب المعاريض؛ لأنَّ ظاهر اللفظ يوهم شيئًا، ومراد المتكلم غيره، وأُطلق عليه كذب توسُّعًا، وأطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها كذبًا؛ لأنَّ الله تعالى قد أعلمه أن إبراهيم يُطلق ذلك على نفسه يوم القيامة كما تقدم في "كتاب الإيمان"، وأيضًا: فليُنبَّه بذلك على أن الأنبياء عليهم السلام منزَّهون عن الكذب الحقيقيّ؛ لأنَّهم إذا كانوا يَفْرَقُون من مثل هذه المعاريض التي يجادلون بها عن الله تعالى، وعن دينه، وهي من باب الواجب، كان أحرى، وأَولى أن لا يصدر عنهم شيء من الكذب الممنوع. انتهى
(1)
.
(فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ) هذا يُشكل عليه كون لوط كان معه، كما قال تعالى:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، ويمكن أن يجاب بأن مراده بالأرض: الأرض التي وقع له فيها ما وقع، ولم يكن معه لوط إذ ذاك.
(فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ)؛ أي: أرض الجبّار، (رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ)، وفي "كتاب التيجان" أن قائل ذلك رجل كان إبراهيم يشتري منه الْقَمْح، فَنَمّ عليه عند الملك، وذكر أن من جملة ما قاله للملك: إني رأيتها تطحن، وهذا هو السبب في إعطاء الملك لها هاجر في آخر الأمر، وقال: إن هذه لا تصلح أن تخدُم نفسها
(2)
، فـ (آتَاهُ)؛ أي: الجبّار، (فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ، لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ)؛ أي: لأنها من أحسن الناس، وأجملهم، (فَأَرْسَلَ) الجبّار (إِلَيْهَا)؛ أي: إلى سارة، (فَأُتيَ بِهَا) بالبناء للمفعول، (فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام إِلَى الصَّلَاةِ)؛ أي: ليتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى، ويستعين بها على دفع ما وقع له من تسلّط الجبّار على زوجته، كما قال الله عز وجل:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} الآية [البقرة: 45]،
(1)
"المفهم" 6/ 186.
(2)
"الفتح" 7/ 649.
وأخرج أبو داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى"
(1)
.
(فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا)"أن" مصدريّة،
والمصدر المؤوّل مجرور بحرف جرّ محذوف قياسًا، كما قال في "الخلاصة":
وَعَدِّ لَازِمًا بِحَرْفِ جَرِّ
…
وَإِنْ حُذِفْ فَالنَّصْبُ لِلْمُنْجَرِّ
نَقْلًا وَفي "أَنَّ"، و"أَنْ" يَطَّرِدُ
…
مَعْ أَمْنِ لَبْسٍ كَـ "عَجِبْتُ أَنْ يَدُوا"
والمعنى: لم يملك نفسه عن بسط يدها إليها.
(فَقُبِضَتْ) بالبناء للمفعول، (يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً)، وفي رواية للبخاريّ:"فلما دخلت عليه، ذهب يتناولها بيده، فَأُخِذ"، كذا في أكثر الروايات، وفي بعضها:"ذهب يناولها يده"، وفي رواية أبي الزناد، عن الأعرج، من الزيادة:"فقام إليها، فقامت توضأ، وتصلي، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك، وبرسولك، وأحصنت فرجي، إلا على زوجي، فلا تسلط عليّ الكافر، فغُطّ حتى رَكَض برجله".
وقوله في هذه الرواية: "فغُطّ" هو بضم المعجمة في أوله، وقوله:"حتى رَكَض برجله"؛ يعني: أنه اختَنَقَ، حتى صار كأنه مصروع، قيل: الغَطّ صوت النائم من شدّة النفخ، وحَكَى ابن التين أنه ضُبط في بعض الأصول: فَغَطّ بفتح الغين، والصواب ضمّها.
ويمكن الجمع بأنه عوقب تارةً بقبض يده، وتارةً بصراعه.
وقوله: "فدَعَت" من الدعاء، وقولها:"اللهم إن كنت تعلم. . . إلخ" مع كونها قاطعةً بأنه سبحانه وتعالى يعلم ذلك محمول على أنها ذكرته على سبيل الفرض هضمًا لنفسها، أفاده في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن "إن" هنا ليست للشكّ، بل للتحقيق، والتأكيد، فهي بمعنى:"إذ" على مذهب الكوفيين، كما بيّنه ابن هشام في "المغني"
(3)
، وحملوا عليه قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، ويقول
(1)
حديث حسن، أخرجه أبو داود في "سننه" 2/ 35.
(2)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء رقم (3357 و 3358).
(3)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 62.
الرجل لابنه: إن كنت ولدي فلا تفعل كذا، ولا يتشكّك في كونه ولده، وإنما هو تهييج، وتأكيد للأمر.
والحاصل: أن هذا مما قالته على جهة التأكيد، واليقين؛ توسّلًا بعملها الصالح على إنجاح دعائها، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) الجبّار (لَهَا)؛ أي: لسارة، (ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، وَلَا أَضُرُّكِ)؛ أي: لا أفعل بك سوءًا.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن هذا الجبَّار كان عنده معرفة بالله تعالى، وبأن لله من عباده من إذا دعاه أجابه، ومع ذلك فلم يكن مسلمًا؛ لأنَّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد قال لسارة:"ما أعلم على الأرض مسلمًا غيري وغيرك"
(1)
.
(فَفَعَلَتْ)، وفي رواية البخاريّ:"قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: اللهم إن يمت يقولوا: هي التي قتلته، قال: فأُرسل". (فَعَادَ)؛ أي: إلى بَسْط يده إليها، وفي رواية البخاريّ:"ثم تناولها الثانية"، في رواية:"ثم قام إليها، فقامت تَوضَّأ، وتصلي"، (فَقُبِضَتْ) يده (أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَى)، وفي رواية البخاريّ:"فأُخذ مثلها، أو أشدّ"، (فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي، فَلَكِ اللهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية فيه بنصب "اللهَ"، لا يجوز غيره، وهو قسم، ومقسَم به، ومقسَم عليه، وفيه حذف يتبيَّن بالتقدير، وتقدير ذلك: أُقسم بالله على ألا أضرك، فحُذف الخافض، فتعدَّى الفعل، فنُصب، ثم حُذف فِعل القَسَم، وبقي المقسَم به -وهو الله تعالى- منصوبًا، وكذلك المقسم عليه، وهو "ألا أضرك"؛ يعني: مفتوح همزة "ألا"، ويجوز في "أضرك" رفع الراء على أن تكون "أن" مخففة من الثقيلة، ويجوز فيها النصب على أن تكون "أن" الناصبة للفعل المضارع. انتهى
(2)
.
(فَفَعَلَتْ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا) لم يُعرف اسمه، وفي رواية البخاريّ:"فدعا بعض حجبته" بفتح الحاء المهملة، والجيم، والموحّدة: جمع حاجب، (فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ)، وفي رواية
(1)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
(2)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
للبخاريّ: "إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان"، في رواية:"ما أرسلتم إليّ إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم"، وهذا يناسب ما وقع له من الصرع، والمراد بالشيطان: المتمرد من الجن، وكانوا قبل الإسلام يعظّمون أمر الجن جدًّا، وَيرَوْن كل ما وقع من الخوارق مِنْ فِعلهم، وتصرّفهم، قاله في "الفتح".
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول الجبَّار للذي جاءه بسارة: "إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان" كلام يناقض قوله لها: "ادعي الله لي"، فيكون ذمُّه لها عنادًا، بعد أن ظهر له كرامتها على الله، أو إخفاء لحالها؛ لئلا يُتَحَدَّث بما ظهر عليها من الكرامة، فتَعْظُم في نفوس الناس، وتُتَّبع، فلبَّس على السامع بقوله:"إنما أتيتني بشيطان"
(1)
.
(فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ)، وفي رواية البخاريّ:"فَأَخْدَمها هاجر"؛ أي: وَهَبها لها لتخدمها؛ لأنه أعظمها أن تخدُم نفسها.
وقال في "الفتح": وفي رواية مسلم: "فأَخْرِجها من أرضي، وأعطها آجر"، ذكرها بهمزة بدل الهاء، وهي كذلك في رواية الأعرج، والجيم مفتوحة، على كل حال، وهي اسم سُريانيّ، ويقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وإنها من حَفْن -بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء- قرية بمصر، قال اليعقوبيّ: كانت مدينةً. انتهى، وهي الآن كَفْر مِن عمل أنصنا بالبرّ الشرقيّ من الصعيد في مقابلة الأشمونين، وفيها آثار عظيمة باقية. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه النسخة التي ذكرها في "الفتح" بأنها في "صحيح مسلم" بلفظ: "آجر" بالهمز لم أرها فيما بين يديّ من النسخ، بل كلها متّفقة على لفظ:"هاجر" بالهاء كما هو عند البخاريّ، ولعل الحافظ وقع في نسخته هكذا، فإنه إمام حافظ دقيق النقل والعزو، والله تعالى أعلم. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَقْبَلَتْ) سارة، حال كونها (تَمْشِي، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام انْصَرَفَ)؛ أي: من صلاته، والظاهر أنه وافق وقت خروجه من الصلاة، أو خرج منها؛ لشدّة ما أصابه من الغمّ والهمّ بشأنها، (فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟) -بفتح
(1)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
(2)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
الميم، والياء، وإسكان الهاء، بينهما -؛ أي: ما شأنُك؟ وما خبرك؟
(1)
، وفي رواية المستملي:"مهيا"، وفي رواية ابن السكن:"مهين" بنون، وهي بدل الميم، وكأن المستملي لمّا سمعها بنون ظنها نون تنوين، ويقال: إن الخليل أول من قال هذه الكلمة، ومعناها: ما الخبر؟.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "مهيم" قال الخليل: هي كلمة لأهل اليمن خاصّة، معناها: ما هذا؟ وفي "الصحاح": هي كلمة يُستفهم بها، معناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ ونحوه قال الطبريّ
(2)
.
(قَالَتْ: خَيْرًا) منصوب بفعل مضمر؛ أي: فعل الله خيرًا، ثمّ فسّرت الخيريّة بقولها:(كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ)؛ أي: منع الله يده من أن يتناول جسدها، (وَأَخْدَمَ خَادِمًا")؛ أي: أعطانا الفاجر هاجر خادمًا، والخادم يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدُمُهُ، من بابي ضرب، ونصر خِدْمَةً، فهو خادم، غلامًا كان، أو جاريةً، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليل، والجمع: خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَةٌ خَادِمَةٌ غَدًا، ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى ستصير كذلك، كما يقال: حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل: للمبالغة، والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يَخْدُمني، أو جعلته كذلك. انتهى
(3)
.
وفي رواية البخاريّ: "ردّ الله كيد الكافر، أو الفاجر في نحره"، قال في "الفتح": هذا مَثَلٌ تقوله العرب لمن أراد أمرًا باطلًا، فلم يَصِل إليه، ووقع في رواية الأعرج:"أشَعَرت أن الله كَبَتَ الكافرَ، وأخدم وليدةً"؛ أي: جارية للخدمة، و"كَبَت" بفتح الكاف، والموحّدة، ثم مثناة؛ أي: ردّه خاسئًا، ويقال: أصله كَبَدَ؛ أي: بلغ الهمّ كَبِده، ثم أُبدلت الدال مثناةً، ويَحْتَمِل أن يكون "وأخدم" معطوفًا على "كبت"، ويَحْتَمِل أن يكون فاعل "أَخْدَم" هو الكافر، فيكون استئنافًا. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 125.
(2)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 165، بزيادة من "القاموس المحيط" ص 354.
(4)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
وقال القرطبيّ رحمه الله: "كفّ الله يد الفاجر، وأخدم خادمًا"؛ أي: عصمها الله منه بما أظهر من كرامتها، وأعطاها الله خادمًا، وهي: هاجر، ويقال: آجر -بالهمزة يُبدلونها من الهاء- وفيه: جواز قبول هدية المشرك، وقد تقدم القول فيها. انتهى
(1)
.
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَتِلْكَ أُمُّكُمْ، يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) قال القرطبيّ رحمه الله: فتلك: إشارة إلى هاجر، والمخاطَب العرب، قال الخطابيّ: سُمُّوا بذلك؛ لانتجاعهم المطر، وماء السماء للرعي، وقال غيره: سُمُّوا بذلك؛ لخلوص نَسَبهم، وصفائه، وشبَّهه بماء السماء، قال القاضي أبو الفضل: والأظهر عندي أن المراد به الأنصار، نَسَبَهم إلى جَدِّهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وكان يُعرف بماء السماء، وهو مشهور، والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، والله أعلم
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فتلك أمكم" كأنه خاطب بذلك العرب؛ لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر؛ لأجل رعي دوابهم، ففيه تمسُّك لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل، وقيل: أراد بماء السماء زمزم؛ لأن الله أنبعها لهاجر، فعاش ولدها بها، فصاروا كأنهم أولادها، قال ابن حبان في "صحيحه": كلُّ من كان من ولد إسماعيل يقال له: ماء السماء؛ لأن إسماعيل وَلَدُ هاجر، وقد رُبّي بماء زمزم، وهي من ماء السماء.
وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لخلوص نَسَبهم، وصفائه، فأشبه ماء السماء، وعلى هذا فلا متمسَّك فيه.
وقيل: المراد بماء السماء: عامرٌ ولد عمرو بن عامر بن مزيقيا بن حارثة بن الغطريف، وهو جدّ الأوس والخزرج، قالوا: إنما سُمِّي بذلك؛ لأنه كان إذا قَحَط الناس أقام لهم ماله مقام المطر، وهذا أيضًا على القول بأن العرب كلها من وَلَدِ إسماعيل. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
(2)
"المفهم" 6/ 186 - 187.
(3)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 6127](2371)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2217) و"الهبة"(2635) و"الأنبياء"(3357 و 3358) و"النكاح"(5084) و"الإكراه"(6950)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2212)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3166)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5737)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 366)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية أن يقال: أخي في غير النسب، ويراد به الأخوّة في الإسلام
(1)
.
2 -
(ومنها): إباحة المعاريض، والرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، قال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذا ما يدلّ على جواز المعاريض، والحيل في التخلص من الظَّلمة، بل نقول: إنه إذا لم يُخلِّص من الظالم إلا الكذب الصَّراح جاز أن يكذبَه، بل قد يجب في بعض الصور بالاتفاق بين الفِرَق؛ ككذبة تُنجي نبيًّا، أو وليًّا ممن يُريد قتله، أو أمنًا من المسلمين من عدوهم. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن العمل بالأسباب المعتادة التي يُرْجَى بها دفع مضرَّة، أو جلب منفعة لا يقدح في التوكل، خلافًا لِمَا ذهب إليه جُهَّال المتوكِّلة، وقد تقدَّم كثير من نحو هذا
(3)
.
4 -
(ومنها): قبول صلة الملِك الظالم، وقبول هدية المشرك.
5 -
(ومنها): إجابة الدعاء بإخلاص النية.
(1)
"عمدة القاري" 15/ 250.
(2)
"المفهم" 6/ 186.
(3)
"المفهم" 6/ 186.
6 -
(ومنها): كفاية الرب سبحانه وتعالى لمن أخلص في الدعاء بعمله الصالح، وسيأتي نظيره في قصة أصحاب الغار.
7 -
(ومنها): أن فيه ابتلاءَ الصالحين لرفع درجاتهم، ويقال: إن الله تعالى كشف لإبراهيم عليه السلام حتى رأى حال الملك مع سارة معاينةً، وأنه لَمْ يصل منها إلى شيء، ذكر ذلك في "التيجان"، ولفظه: فأمر بإدخال إبراهيم وسارة عليه، ثم نحى إبراهيم إلى خارج القصر، وقام إلى سارة، فجعل الله القصر لإبراهيم كالقارورة الصافية، فصار يراهما، ويسمع كلامهما.
8 -
(ومنها): بيان أن من نابه أمر مهمّ من الكرب، ينبغي له أن يَفْزَع إلى الصلاة، وقد تقدم حديث حذيفة رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلّى"، وهو حديث حسن، رواه أبو داود.
9 -
(ومنها): بيان أن الوضوء كان مشروعًا للأمم قبلنا، وليس مختصًّا بهذه الأمة، ولا بالأنبياء؛ لثبوت ذلك عن سارة، وإنما الذي اختصتّ به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل، وذهب بعضهم إلى نبوّة سارّة، والجمهور على أنَّها ليست بنبيّة
(1)
.
10 -
(ومنها): ما كتبه النوويّ رحمه الله عند قوله: "لَمْ يكذب إبراهيم
…
إلخ": قال المازريّ: أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى، فالأنبياء معصومون منه، سواء كثيرة وقليله، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ، ويُعَدّ من الصفات؛ كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا، ففي إمكان وقوعه منهم، وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف.
وقال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يُتصور وقوعه منهم، سواء جوّزنا الصغائر منهم، وعِصمتهم منه، أم لا، وسواء قَلَّ الكذب، أم كثُر؛ لأنَّ منصب النبوة يرتفع عنه، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثنتين في ذات الله تعالى، وواحدة في شأن سارة"،
(1)
"الفتح" 7/ 647 - 649، كتاب "الأنبياء" رقم (3357 و 3358)، و"عمدة القاري" 15/ 250.
فمعناه: أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فَهْم المخاطَب والسامع، وأما في نفس الأمر فليست كذبًا مذمومًا؛ لوجهين:
أحدهما: أنه وَرَّى بها، فقال في سارة: أختي في الإسلام، وهو صحيح في باطن الأمر.
والوجه الثاني: أنه لو كان كذبًا لا تورية فيه، لكان جائزًا في دفع الظالمين، وقد اتَّفَقَ الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنسانًا مختفيًا ليقتله، أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصبًا، وسأل عن ذلك وجب على من عَلِم ذلك إخفاؤه، وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز، بل واجب؛ لكونه في دفع الظالم، فنبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنَّ هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم.
قال المازريّ: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات، وأخرجها عن كونها كذبًا، قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النوويّ: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يَمتنع؛ لورود الحديث به، وأما تأويلها فصحيح، لا مانع منه.
قال العلماء: والواحدة التي في شأن سارة هي أيضًا في ذات الله تعالى؛ لأنَّها سببُ دَفْعِ كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة، وقد جاء ذلك مفسَّرًا في غير مسلم، فقال:"ما فيها كذبة إلَّا يُماحِل بها عن الإسلام"؛ أي: يجادل، ويدافع، قالوا: وإنما خَصَّ الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى؛ لكون الثالثة تضمَّنت نفعًا له، وحظًّا مع كونها في ذات الله تعالى، وذكروا في قوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} ؛ أي: سأسقم؛ لأنَّ الإنسان عُرْضة للأسقام، وأراد بذلك الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم، وشهود باطلهم، وكفرهم، وقيل: سقيم بما قُدِّر عليّ من الموت، وقيل: كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت.
وأما قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ، فقال ابن قتيبة، وطائفة: جعل النطق شرطًا لِفعل كبيرهم؛ أي: فَعَله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقال الكسائيّ: يوقف عند قوله: {بَلْ فَعَلَهُ} ؛ أي: فعله فاعله، فأضمر، ثم يبتدئ، فيقول:
{كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، فاسألوهم عن ذلك الفاعل، وذهب الأكثرون إلى أنَّها على ظاهرها، وجوابها ما سبق، والله تعالى أعلم
(1)
.
(42) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6128]
(339)
(2)
- (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى سَوْأَةِ بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا، إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ، قَالَ: فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِه، قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَى بِأَثَرِه، يَقُولُ: ثَوْبي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى سَوْأَةِ مُوسَى، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأسٍ، فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدُ، حَتَّى نُظِرَ إِلَيْه، قَالَ: فَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللهِ إِنَّهُ بِالْحَجَرِ نَدَبٌ
(3)
سِتَّةٌ، أَو سَبْعَةٌ، ضَرْبُ مُوسَى عليه السلام بِالْحَجَرِ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى للمصنف في "كتاب الحيض" سندًا ومتنًا برقم [17/ 776](339)، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فلا حاجة إلى إعادة ذلك إلَّا بعض المواضع المستشكلة، فإن أردت الاستفادة فراجع ذلك الباب، تجد بُغيتك، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام، فـ"إسرائيل" لقبه، وأولاده كانوا اثني عشر، تقدّم بيانهم في الباب المذكور.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 124 - 125.
(2)
هذا مكرّر، فتنبّه.
(3)
وفي نسخة: "إن بالحجر ندبًا".
وقوله: (عُرَاةً) بالضمّ جمع عار، وهو منصوب على الحال، والظاهر أن التعريّ ليس حرامًا في شريعتهم، ولذا أقرّهم موسى عليه السلام عليه، هذا هو الصحيح.
وأما ما قاله القرطبيّ: إنما كانت بنو إسرائيل تفعل ذلك معاندة للشرع، ومخالفة لموسى صلى الله عليه وسلم، وهو من جملة عتوِّهم، وقلّة مبالاتهم باتباع شرع موسى، ألا ترى أن موسى صلى الله عليه وسلم كان يستتر عند الغسل، فلو كانوا أهل توفيق، وعقل اتبعوه، ثم لَمْ يَكْفهم مخالفتهم له حتى آذوه بما نسبوا إليه من آفة الأُدْرة، فأظهر الله تعالى براءته مما قالوا بطريق خارق للعادة، زيادة في أدلة صدق موسى صلى الله عليه وسلم، ومبالغة في قيام الحجة عليهم. انتهى
(1)
.
ففيه نظر لا يخفي، بل الصواب أن هذا كان جائزًا في شرعهم، ولذا لَمْ يظهر من موسى عليه السلام إنكار، ولا يمكن أن يسكت على المنكر، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: (إِلَى سَوْأَةِ بَعْضٍ) السوءة بالفتح: العورة.
وقوله: (وَكَانَ مُوسَى عليه السلام يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ) بيّن في الرواية التالية سبب ذلك، حيث قال:"وكان موسى رجلًا حييًّا، لا يُرى متجرّدًا".
وقوله: (فَقَالُوا)؛ أي: بنو إسرائيل.
وقوله: (إِلَّا أَنَّهُ آدَرُ) بالمدّ، وفتح الدال؛ أي: منتفخ الخصيتين.
وقوله: (فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) قيل: إنه الحجر الذي كان يحمله معه في الأسفار، فيضربه، فتفجّر منه الماء.
وقوله: (فَجَمَحَ مُوسَى)؛ أي: أسرع في مشيه خلف الحجر؛ ليأخذ ثوبه، والْجَمُوح من الخيل: هو الذي يركب رأسه في إسراعه، ولا يَثْنيه شيء، وهو عيب فيها؛ وإنَّما أُطلق على إسراع موسى خلف الحجر جماحًا؛ لأنَّه اشتدَّ خلفه اشتدادًا لا يُثنيه شيء عن أخْذ ثوبه، وهو مع ذلك ينادي:"ثوبي حجر! ثوبي حجر! "، كلُّ ذلك استعظام لكشف عورته، فسبقه الحجر إلى أن وصل إلى جَمْع بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى عليه السلام، فكذَّبهم الله في قولهم، وقامت
(1)
"المفهم" 6/ 189.
حجته عليهم
(1)
.
وقوله: (بِأَثَرِهِ) بكسر الهمزة، وسكون المثلّثة، وبفتحتين أيضًا لغتان؛ أي: بَعْده.
وقوله: (يَقُولُ) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: حال كونه قائلًا.
وقوله: (ثَوْبي) مفعول لفعل محذوف؛ أي: أعطني، أو رُدّ عليّ ثَوْبِي.
وقوله: (حَجَرُ) منادى حُذف منه حرف النداء، كما قال الحريريّ رحمه الله:
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول موسى صلى الله عليه وسلم: "ثوبي حجر! ثوبي حجر! " منصوب بفعل مضمَر، وحجرُ منادى مفرد محذوفُ حرفِ النداء، وتقدير الكلام: أعطني ثوبي يا حجر! أو اترك ثوبي يا حجر! فحُذف الفعل لدلالة الحال عليه، وحُذف حرف النداء هنا استعجالًا للمنادي، وقد جاء في كلام العرب حَذف حرف النداء مع النكرة، كما قالوا: أَطْرِقْ كَرَا، وافتدِ مخنوقُ، وهو قليل، وإنما نادى موسى صلى الله عليه وسلم الحجر نداء من يعقل؛ لأنَّه صدر عن الحجر فِعل من يعقل.
وفي وَضْع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر، ودخوله في الماء عريانًا: دليلٌ على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور. ومَنَعه ابن أبي ليلى، واحتج بحديث لَمْ يصح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تدخلوا الماء إلَّا بمئزر، فإنَّ للماء عامرًا"، قال القاضي عياض: وهو ضعيف عند أهل العلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَاللهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ)؛ أي: من عيب؛ أي: ليس به ما كنّا نظنّه فيه من أنه آدر.
وقوله: (فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدُ)؛ أي: توقّف عن السير بعد أن وصل إلى ملأ بني إسرائيل.
وقوله: (حَتَّى نُظِرَ إِلَيْهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى بريئًا مما اتهموه به.
(1)
"المفهم" 6/ 190.
(2)
"المفهم" 6/ 190.
وقوله: (فَأَخَذَ ثَوْبَهُ) زاد عند البخاريّ: "فلبسه".
وقوله: (فَطَفِقَ) بكسر الفاء، وفتحها؛ أي: شرع.
وقوله: (بِالْحَجَرِ) الباء زائدة، والحجر منصوب بقوله:"ضَرْبًا"؛ لأنه نائب مناب يضرب، وقيل: هو منصوب بالمفعل المقدّر، والجملة خبر طفق.
وقوله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هو من تَتِمّة كلام همّام بن منبّه، وليس معلّقًا.
وقوله: (وَاللهِ إِنَّهُ) الضمير للشأن.
وقوله: (بِالْحَجَرِ) خبر مقدّم لقوله: (نَدَبٌ)، وفي بعض النسخ:"إن بالحجر ندبًا".
وقوله: (سِتَّةٌ) بدل من "ندبٌ"، (أَو سَبْعَةٌ)"أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (ضَرْبُ مُوسَى عليه السلام) خبر لمحذوف؛ أي: هو ضرب موسى عليه السلام.
وقوله: (بِالْحَجَرِ) الباء زائدة، وهو منصوب بـ"ضرب"، وإن أردت استيفاء الشرح، وبيان المسائل، فارجع إلى أوائل الكتاب بالرقم المذكور، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6129]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ مُوسَى عليه السلام رَجُلًا حَيِيًّا، قَالَ: فَكَانَ لَا يُرَى مُتَجَرِّدًا، قَالَ: فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّهُ آدَرُ، قَالَ: فَاغْتَسَلَ عِنْدَ مُوَيْهٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَانْطَلَقَ الْحَجَرُ يَسْعَي، وَاتَّبَعَهُ بِعَصَاهُ يَضْرِبُهُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى وَقَفَ عَلَي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَنَزَلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ) -بتقديم الزاي، مصغّرًا- أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تَقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ)
(1)
ابن مِهْران، أبو المنازل -بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي- البصريّ، ثقةٌ حافظٌ يرسل، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغيّر لَمّا قَدِم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقيلي -بالضمّ- البصريّ، ثقةٌ فيه نَصْبٌ [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.
و"أبو هريرة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ) الْعُقيليّ أنه (قَالَ: أنبَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَ مُوسَى عليه السلام) هكذا رواية المصنّف من رواية عبد الله بن شقيق موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه، وقد رواه البخاريّ في "صحيحه" من رواية الحسن البصريّ، وابن سيرين، وخِلاس ثلاثتهم عن أبي هريرة مرفوعًا، ولفظه:"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان موسى رجلًا حييًّا" الحديث. (رَجُلًا حَيِيًّا) بفتح الحاء المهملة، وكسر التحتانيّة: على وزن فعيل بمعنى فاعل؛ أي: كثير الحياء، زاد في رواية البخاريّ:"سَتِيرًا"، وهو بفتح السين المهملة
(2)
على وزن فَعِيل، بمعنى فاعل؛ أي: من شأنه، وإرادته حبّ الستر والصون. (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه مما رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأننا قدّمنا أن الحديث مرفوع عند
(1)
"الحذّاء" -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الذال المعجمة-، قيل له ذلك: لأنه كان يجلس عند الحذّائين، وقيل: لأنه كان يقول: احذُ على هذا النحو.
(2)
وأما ضَبْط بعضهم له بكسر السين، وتشديد الياء، وهو المشهور على الألسنة، فلا أصل له، ولم يُثبته أحد من اللغويين؛ كصاحب "اللسان"، و"القاموس"، و"المصباح"، و"النهاية"، كما أوضحته في "شرح النسائيّ"، فتنبّه.
البخاريّ، فتنبّه. (فَكَانَ) موسى عليه السلام (لَا يُرَى) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يراه أحد ممن لا تجوز رؤية عورته، حال كونه (مُتَجَرِّدًا) من الثياب. (قَالَ) أبو هريرة مما رواه عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا، كما أسلفته آنفًا، (فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ)؛ أي: أولاد يعقوب عليه السلام، (إِنَّهُ)؛ أي: موسى، (آدَرُ)؛ أي: إنما لا يغتسل معنا؛ لأنه معيب فيه داء الأُدْرة، و"الآدر" بالمد: بوزن آدم: منتفخ الخصيتين، و"الأدرة" بضم الهمزة، وسكون الدال، على المشهور، وحَكَى الطحاويّ عن بعض مشايخه فتح الهمزة، والدال، وقال ابن الأثير: الأدرة بالضم: نفخة في الخصية، يقال: رجل آدر: بَيّن الأَدَر، بفتح الهمزة والدال
(1)
.
(قَالَ) أبو هريرة (فَاغْتَسَلَ) موسى عليه السلام (عِنْدَ مُوَيهٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا، ومعظم غيرها:"مُويه" بضم الميم، وفتح الواو، وإسكان الياء، وهو تصغير "ماء"، وأصله: مَوَهٌ، والتصغير يردّ الأشياء إلى أصولها، وقال القاضي عياض: وقع في بعض الروايات "مُويه"، كما ذكرناه، وفي معظمها:"مَشْرَبة" بفتح الميم، وإسكان الشين، وهي حُفْرة في أصل النخلة، يُجمَع الماء فيها لِسَقْيها، قال القاضي: وأظن الأول تصحيفًا، كما سبق، والله أعلم
(2)
.
(فَوَضَعَ) موسى (ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ) تقدّم الكلام عليه في الحديث الماضي. (فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (الْحَجَرُ) حال كونه (يَسْعَى)؛ أي: يسرع في المشي، ويجري حتى لا يلحقه موسى عليه السلام، (وَاتَّبَعَهُ) موسى (بِعَصَاهُ) متعلّق بقوله:"يضربه"، قال الفيّوميّ رحمه الله:"العَصَا" مقصورٌ مؤنثةٌ، والتثنية: عَصَوَان، والجمع: أَعْصٍ، وعِصِيٌّ، على فُعُول مثل أَسَدٍ وأُسُود، والقياس: أَعْصَاءُ، مثل سَبَب وأَسْبَاب، لكنه لَمْ يُنقل، قاله ابن السكيت. انتهى
(3)
.
وقوله: (يَضْرِبُهُ) جملة حاليّة مقدّرة؛ أي: حال كونه قاصدًا ضربه بتلك العصا.
(1)
"عمدة القاري" 15/ 301.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 127.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 414.
(ثَوْبِي حَجَرُ)؛ أي: دع لي ثوبي يا حجر، تقدّم البحث فيه قبله، وقوله:(ثَوْبِي حَجَرُ) كرّره للتأكيد، (حَتَّى وَقَفَ) ذلك الحجر (عَلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ أي: على جماعة منهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: الملأُ مهموزٌ: أشراف القوم، سُمُّوا بذلك؛ لِمَلاءتهم بما يُلْتَمَس عندهم من المعروف، وجَوْدة الرأي، أو لأنهم يَملئُونَ العيون أُبَّهَةً، والصدور هَيْبَةً، والجمع: أَمْلاءٌ، مثل سَبَبٍ وأسباب. انتهى
(1)
.
(وَنَزَلَتْ) تصديقًا لهذا الحديث، والفاعل قوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. . .} إلخ، فهو محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، وإنما أنّث الفعل بتأويله بالآية. ({يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)} [الأحزاب: 69]).
قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله مفسّرًا للآية: يقول تعالى ذِكره لأصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تؤذوا رسول الله بقول يكرهه منكم، ولا بفعل لا يحبه منكم، ولا تكونوا أمثال الذين آذوا موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فَرَموه بعيب كذبًا وباطلًا، فبرّأه الله مما قالوا فيه من الكذب، والزور بما أظهر من البرهان على كذبهم، وكان عند الله وجيهًا، يقول: وكان موسى عند الله مُشَفَّعًا فيما يسأل، ذا وجه، ومنزلة عنده بطاعته إياه. انتهى
(2)
.
قال ابن جرير: ثم اختَلَف أهل التأويل في الأذى الذي أوذي به موسى الذي ذكره الله في هذا الموضع، فقال بعضهم: رموه بأنه آدر، ثم أخرج حديث الباب بأسانيده، ثم قال: وقال آخرون: بل كان أذاهم إياه ادعاءهم عليه قتل هارون أخيه، ثم ذكر بسنده عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم في قول الله:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} الآية قال: صَعِد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته، وكان أشدّ حبًّا لنا منك، وألْين لنا منك، فآذوه بذلك، فأمر الله الملائكة، فحملته، حتى مروا به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بموته، حتى عرف بنو إسرائيل أنه قد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 580.
(2)
"تفسير الطبريّ" 22/ 50.
مات، فبرّأه الله من ذلك، فانطلقوا به، فدفنوه، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله، إلَّا الرَّخَم، فجعله الله أصم أبكم.
قال: وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن بني إسرائيل آذوا نبي الله ببعض ما كان يكره أن يؤذي به، فبرّأه الله مما آذوه به، وجائز أن يكون ذلك كان قيلهم: إنه أبرص، وجائز أن يكون كان ادّعاءهم عليه قَتْل أخيه هارون، وجائزِ أن يكون كل ذلك؛ لأنه قد ذُكِر كل ذلك أنهم قد آذوه به، ولا قول في ذلك أَولى بالحقّ مما قال الله: إنهم آذوا موسى، فبرأه الله مما قالوا. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن جرير رحمه الله تحقيقٌ نفيس جدًّا، وحاصله: أن كل ما تقدّم من الطعن في موسى عليه السلام صالح لأنَّ يراد في هذا المقام، إلَّا أن ما في "الصحيحين" من قصّة قولهم: إنه آدر أصحّ، وإن كان كلّه محتملًا، والله تعالى أعلم.
وقال في "العمدة": هذا خطاب لأهل المدينة
(2)
، وقوله:{لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} ؛ أي: احذروا أن تكون مؤذين للنبيّ صلى الله عليه وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى صلى الله عليه وسلم، فأظهر الله براءته مما قالوه فيه، من أنه آدر، وقيل: كان إيذاؤهم إياه ادِّعاؤهم عليه قَتْل أخيه هارون صلى الله عليه وسلم، وقوله:{وَكَانَ} ؛ أي: موسى {عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} ؛ أي: ذا جاه، ومنزلة، وقيل:{وَجِيهًا} لَمْ يسأل شيئًا إلَّا أعطاه، وقُرئ شاذًّا:"وكان عبد الله" بالباء الموحّدة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6129](339)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"
(1)
"تفسير ابن جرير" 22/ 50 - 53.
(2)
هكذا النسخة، والأَولى "للمؤمنين"، فتنبّه.
(3)
"عمدة القاري" 15/ 301 - 302.
(3404)
و"التفسير"(4799)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(5/ 360)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 514)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 171)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه معجزتين ظاهرتين لموسى صلى الله عليه وسلم إحداهما: مشي الحجر بثوبه إلى ملأ بني إسرائيل، والثانية: حصول النَّدَب في الحجر.
2 -
(ومنها): ومنها وجود التمييز في الجماد؛ كالحجر ونحوه، ومثله تسليم الحجر بمكة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحنين الجذع إليه، ونظائره، وسبق قريبًا بيان هذه المسألة مبسوطة.
3 -
(ومنها): جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، وإن كان سَتْر العورة أفضل، وبهذا قال الشافعيّ، ومالك، وجماهير العلماء، وخالفهم ابن أبي ليلى، وقال: إن للماء ساكنًا، واحتجّ في ذلك بحديث ضعيف.
4 -
(ومنها): بيان ما ابتلى الله تعالى به الأنبياء، والصالحين من أذى السفهاء، والجهال، وصَبْرهم عليهم.
5 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض وغيره: إن الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- منزَّهون عن النقائص في الْخَلْق والْخُلُق، سالمون من العاهات، والمعايب، قالوا: ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم، بل نزّههم الله تعالى من كل عيب، وكل شيء يبغض العيون، أو يُنَفّر القلوب، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: في هذا الحديث ما يدلُّ على أنَّ الله تعالى كمَّل أنبياءه خلقًا وخُلُقًا، ونزّههم في أوّل خَلْقهم من المعايب، والنقائص المنفِّرة عن الاقتداء بهم المُبعدة عنهم، ولذلك لَمْ يُسمع أنه كان في الأنبياء والرسل مَن خَلَقه الله تعالى أعمي، ولا أعور، ولا أقطع، ولا أبرص، ولا أجذم، ولا غير ذلك من العيوب، والآفات التي تكون نقصًا، ووصمًا يوجب لمن اتَّصف بها شينًا وذمًّا، ومن تصفَّح أخبارهم، وعَلِم أحوالهم عَلِم ذلك على القطع،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 127.
وقد ذكر القاضي عياض رضي الله عنه في "الشفاء" من هذا جملة وافرة، ولا يُعْتَرض عليها بعمى يعقوب، وبابتلاء أيوب؛ فإنَّ ذلك كان طارئًا عليهم محبَّةً لهم، وليَقْتَدِي بهم مَن ابتُلي ببلاء في حالهم وصبرهم، وفي أن ذلك لَمْ يقطعهم عن عبادة ربهم، ثم إن الله تعالى أظهر كرامتهم، ومعجزاتهم بأن أعاد يعقوب بصيرًا عند وصول قميص يوسف له، وأزال عن أيوب جذامه وبلاءه عند اغتساله من العين التي أنبع الله تعالى له عند رَكْضِه الأرض برجله، فكان ذلك زيادة في معجزاتهم، وتمكينًا في كمالهم، ومنزلتهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6130]
(2372) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِع: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَفَقَأَ عَيْنَهُ، فَرَجَعَ إِلَى رَبِّه، فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْه، فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ، بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ، قَالَ: أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ، قَالَ: فَالآنَ، فَسَأَل اللهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ، لأَرَيتُكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيق، تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضل عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، أبو عبد الرَّحمن اليمانيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"المفهم" 6/ 189 - 190.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ) كذا هو عند مسلم بهذا السند موقوفًا، وكذا أورده البخاريّ في "الجنائز" عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزّاق، موقوفأ، وكذا في "أحاديث الأنبياء"، ثم قال: وعن معمر، عن همام بن منبّه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر: أورده موقوفًا من طريق طاوس، عنه، ثم عقّبه برواية همام عنه مرفوعًا، وهذا هو المشهور عن عبد الرزاق، وقد رفع محمد بن يحيى عنه رواية طاووس أيضًا، أخرجه الإسماعيليّ. انتهى
(2)
.
فثبت بهذا أن الحديث صح عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا، ومرفوعًا، إلَّا الن الموقوف في مِثل هذا له حُكم المرفوع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه. والله تعالى أعلم.
(أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ) ببناء الفعل للمفعول، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: لَمْ يصرَّح باسم ملك الموت في القرآن، ولا في الأحاديث الصحاح. انتهى
(3)
.
وقال السيوطيّ رحمه الله: لَمْ يَرِد تسميتُهُ في حديث مرفوع، وورد عن وهب بن منبّه أن اسمه عزرائيل، رواه أبو الشيخ في "العظمة". انتهى
(4)
.
(إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَلَمَّا جَاءَهُ)؛ أي: جاء ملك الموت موسى (صَكَّهُ)؛ أي: ضربه على عينه. وفي رواية همّام، عن أبي هريرة، التالية: "جاء ملك الموت إلى موسى، فقال له: أجب ربّك، قال: فلطم موسى عين ملك
(1)
"الفتح" 3/ 568.
(2)
"الفتح" 7/ 103، كتاب "أحاديث الأنبياء".
(3)
"البداية والنهاية" 1/ 42.
(4)
"زهر الربى في شرح المجتبى" 4/ 118.
الموت، ففقأها". وفي رواية عمّار بن أبي عمّار، عن أبي هريرة، عند أحمد، والطبريّ: "كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا، فأتى موسى، فلطمه، ففقأ عينه".
(فَفَقَأَ عَيْنَهُ) بالهمز؛ أي: شقّها، (فَرَجَعَ) ملك الموت (إِلَى رَبِّهِ) عز وجل (فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ) زاد في رواية همام: "وقد فقأ عيني، فردّ الله عليه عينه". وفي رواية عمّار: "فقال: يا ربّ، عبدك موسى، فقأ عيني، ولولا كرامته عليك، لشققت عليه"، وسيأتي الجواب عن استشكال من استشكل بأنه كيف جاز لموسى أن يفقأ عين ملك الموت؟ في المسألة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
(قَالَ) أبو هريرة راويًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما أسلفته في أول الحديث، (فَرَدَّ اللهُ) عز وجل. (إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ) الله تعالى للملَك (ارْجِعْ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى موسى عليه السلام، (فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ)، وفي رواية:"فقل له: الحياةَ تريد؟ فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك"(عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ)"المتن": بفتح الميم، وسكون المثناة: هو الظهر. وقيل: مكتنف الصّلْب بين العَصَب واللحم، وفي رواية:"على جلد ثور". و"الثور": بفتح المثلثة، وسكون الواو: الذَّكَر من البقر، والأنثى ثورة، والجمع ثِيرَان، وأثوارٌ، وثِيَرَةٌ، مثالُ عِنَبَة. قاله في "المصباح"
(1)
. (فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ، بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ) الجارّ والمجرور بدل من الجار والمجرور الأول. (قَالَ) موسى (أَيْ رَبِّ)"أَيْ" بفتح الهمزة، وسكون الياء: حرف نداء، (ثُمَّ مَهْ؟)"ثمّ" بضم المثلثة، وتشديد الميم: حرف عطف، و"مه": هي "ما" الاستفهامية، لَمّا وُقف عليها زادوا عليها هاء السكت، كما قال في "الخلاصة":
و"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا
…
بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى"
أي: ثُمّ ماذا يكون، أحياة، أم موت؟.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مه": هي "ما" الاستفهامية لَمّا وُقِف عليها زادوا عليها هاء السكت، وهي لغة العرب إذا وقفوا على أسماء الاستفهام،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 87.
نحو: "عمه"، و"لِمَه"، و"فيمه"، فإذا وصلوا حذفوها. انتهى
(1)
.
(قَالَ) الله تعالى (ثُمَّ الْمَوْتُ)؛ أي: لابُدّ منه، (قَالَ) موسى عليه السلام (فَالآنَ)؛ أي: أريده الآن، و"الآن" ظرف زمان، للوقت الحاضر الذي أنت فيه، ولزم دخول الألف واللام، وليس ذلك للتعريف؛ لأنَّ التعريف تمييز للمشتركات، وليس لهذا ما يَشرَكه في معناه. قال ابن السرّاج: ليس هو آنَ وآنَ حتى يدخل عليه الألف واللام للتعريف، بل وُضع مع الألف واللام للوقت الحاضر، مثلُ "الثُّرَيّا"، و"الذي"، ونحو ذلك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "فالآن" ظرف زمان، غير متمكن، وهو اسم لزمان الحال الذي يكون المتكلم عليها، وهو الزمان الفاصل بين الماضي والمستقبل، وهذا يدلّ على أنَّ موسى عليه السلام لمّا خيّره الله بين الحياة والموت، اختار الموت شوقًا للقاء الله عز وجل، واستعجالًا لِمَا له عند الله، من الثواب والخير، واستراحة من الدنيا المكدِّرة، وهذا كما خُيّر نبيّنا صلى الله عليه وسلم عند موته، فقال:"اللَّهم الرفيقَ الأعلى". انتهى
(2)
.
(فَسَأَل) موسى (اللهَ) عز وجل (أَنْ يُدْنِيَهُ)؛ أي: يقرّبه (مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ) هي بيت المقدس، (رَمْيَةً بِحَجَرٍ) منصوب على أنه ظرف مكان؛ أي: مقدار رَمْية بحجر.
قال القرطبيّ رحمه الله: والأرض المقدّسة هي البيت المقدّس، وإنما سأل موسى عليه السلام ذلك تبرّكًا بالكون في تلك البقعة، وليُدْفَن مع من فيها من الأنبياء، والأولياء؛ ولأنها أرض المحشر، على ما قيل. انتهى
(3)
.
وقال بعض العلماء: وإنما سأل الإدناء، ولم يسأل نفس بيت المقدس؛ لأنه خاف أن يكون قبره مشهورًا عندهم، فيَفتتن به الناس. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "رميةً بحجر"؛ أي: قَدْر رمية حجر؛ أي: أدنني من مكان إلى الأرض المقدّسة هذا القَدْرَ، أو أدنني إليها حتى يكون بيني وبينها هذا القَدْر. قال الحافظ: وهذا الثاني أظهر، وعليه شَرَح ابن بطّال وغيره،
(1)
"المفهم" 6/ 222.
(2)
"المفهم" 6/ 222.
(3)
"المفهم" 6/ 222.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 127.
وأما الأول، وإن رجحه بعضهم، فليس بجيّد؛ إذ لو كان كذلك لطلب الدنوّ أكثر من ذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون سرّ ذلك أن الله لمّا منع بني إسرائيل من دخول بيت المقدس، وتَرَكهم في التيه أربعين سنة، إلى أن أفناهم الموت، فلم يدخل الأرض المقدّسة مع يوشع إلَّا أولادهم، ولم يدخلها معه أحد، ممن امتنع أوّلًا أن يدخلها، ومات هارون، ثم موسى عليه السلام قبل فتح الأرض المقدّسة على الصحيح، فكان موسى لمّا لَمْ يتهيّأ له دخولها لغلبة الجبارين عليها، ولا يمكن نَبْشه بعد ذلك ليُنقَل إليها، طلب القرب منها؛ لأنَّ ما قارب الشيء يعطى حكمه.
وقيل: إنما طلب موسى الدنوّ؛ لأنَّ النبيّ يُدفن حيث يموت، ولا يُنقل، وفيه نظر؛ لأنَّ موسى قد نَقَلَ يوسف عليه السلام معه، لمّا خرج من مصر. وهذا كله على الاحتمال الثاني. والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ) -بفتح المثلّثة: اسم إشارة يُشار به إلى المكان البعيد؛ أي: هنالك، (لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ)؛ أي: قبر موسى عليه السلام، (إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ)، وفي رواية للبخاريّ:"من جانب الطريق"، (تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ")، وفي رواية للبخاريّ:"عند الكثيب الأحمر". و"الكثِيب" بفتح الكاف، وبالمثلّثة، آخره موحّدة، بوزن عَظيم: الرمل المجتمع. وقيل: "الكثيب" قطعة من الرمل مستطيلة، محدودبة، سمّي بذلك؛ لأنه انصبّ في مكان، فاجتمع فيه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "ثم" -مفتوحة الثاء-: اسم يشار به إلى موضع، فأمَّا "ثُمَّ" -بضم الثاء-: فحَرْف عَطْف، ويعني بالطريق: طريق بيت المقدس، وقد تقدم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَّ في طريقه إلى بيت المقدس -ليلة أسري به- بقبر موسى، وهو قائم يصلي فيه، وهذا يدلّ على أنَّ قبر موسى أخفاه الله تعالى عن الخلق، ولم يجعله مشهورًا عندهم، ولعل ذلك لئلا يُعْبَد، والله أعلم.
قال: وقد وقع في الرواية الأخرى: "إلى جانب الطور" مكانَ "الطريق"،
(1)
"الفتح" 7/ 568.
والطور: الجبل بالسريانية، وقال أيضًا في الرواية الأخرى:"فما توارت يدك" مكان: "غطَّت يدك"، وهو بمعناه. والتاء فيه زائدة؛ لأنَّ معناه: وارت، والله أعلم
(1)
.
وقال في "الفتح": وزعم ابن حبّان أن قبر موسى عليه السلام بِمَدْيَن، بين المدينة وبيت المقدس. وتعقّبه الضياء بأن أرض مَدْيَن ليست قريبة من المدينة، ولا من بيت المقدس.
وزاد في رواية عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد:"فشمّه شمة، فقبض روحه، وكان يأتي الناس خُفْيَة"؛ يعني: بعد ذلك. ويقال: إنه أتاه بتُفّاحة من الجنّة، فشمّها، فمات. وذكر السُّدّيّ في "تفسيره" أن موسى لمّا دنت وفاته مشى هو ويوشع بن نون، فجاءت ريح سوداء، فظنّ يوشع أنَّها الساعة، فالتزم موسى، فانسلّ موسى من تحت القميص، فأقبل يوشع بالقميص. وعن وهب بن منبّه: أن الملائكة تولَّوا دفنه، والصلاة عليه، وأنه عاش مائة وعشرين سنة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6130 و 6131](2372)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1339) و"الأنبياء"(3407)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 43)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 118 - 119)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20530)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 269 و 533)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6223 و 6224)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 188)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(599 و 600)، و (الطبريّ) في "التاريخ"(1/ 434)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 632)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 492 و 493)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1451)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 222.
(2)
"الْفَتْحِ" 7/ 568.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الملَك يتمثّل بصورة الإنسان، وقد جاء ذلك في عدّة أحاديث.
2 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ بقوله: "فله بكل شعرة سنة" على أنَّ الذي بقي من الدنيا كثير جدًّا؛ لأنَّ عدد الشعر الذي تغطيه اليد قدر المدة التي بين موسى، وبعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم مرتين، أو أكثر.
3 -
(ومنها): أن قبر موسى عليه السلام غير معروف، قال بعضهم: وليس في قبور الأنبياء ما هو محقَّقٌ سوى قبر نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بالحديث على جواز الزيادة في العمر، وهو استدلال واضح، وهو أصحّ القولين في المسألة، كما سيأتي تحقيقه في المسألة الخامسة -إن شاء الله تعالى-.
5 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استنبط من الحديث استحباب الدفن بالأرض المقدسة، فقال في "صحيحه":"باب من أحبّ الدفن في الأرض المقدّسة، أو نحوها".
قال الزين ابن المنيّر رحمه الله: المراد بقوله: "أو نحوها" بقيّة ما تُشدّ إليه الرحال، من الحرمين. وكذلك ما يمكن من مدافن الأنبياء، وقبور الشهداء، والأولياء؛ تيمّنًا بالجوار، وتعرّضًا للرحمة النازلة عليهم؛ اقتداء بموسى عليه السلام انتهى.
قال: وهذا بناء على أنَّ المطلوب القُرب من الأنبياء الذين دُفنوا ببيت المقدس، وهو الذي رجحه عياض. وقال المهلّب: إنما طلب ذلك؛ لِيَقْرب عليه المشي إلى المحشر، وتسقط عنه المشقّة الحاصلة لمن بَعُد عنه، والله تعالى أعلم
(1)
.
(المسألة الرابعة): قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وقالوا: إن كان موسى عرفه -يعني: ملك الموت- فقد استخفّ به، وإن لَمْ يعرفه، فكيف لَمْ يقتصّ له من فقء عينه؟.
(1)
"الفتح" 3/ 206.
والجواب: أن الله لَمْ يبعث ملك الموت لموسى، وهو يريد قبض روحه حينئذ، وإنما بعثه إليه اختبارًا، وإنما لطم موسى ملك الموت؛ لأنه رآه آدميًّا، دخل داره بغير إذنه، ولم يعلم أنه ملك الموت، وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذنه. وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم، وإلى لوط في صورة آدميين، فلم يعرفاهم ابتداء، ولو عرفهم إبراهيم، لَمَا قدّم لهم المأكول، ولو عرفهم لوط لَمَا خاف عليهم من قومه.
وعلى تقدير أن يكون عرفه، فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر؟ ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى، فلم يقتصّ له؟.
ولخّص الخطّابيّ كلام ابن خزيمة، وزاد فيه أن موسى دفعه عن نفسه؛ لِمَا رُكّبَ فيه من الحدّة، وأن الله ردّ عين الملك؛ ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله؛ فلهذا استسلم حينئذ.
وقال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه": إن الله جل وعلا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معلمًا لخلقه، فأنزله موضع الإبانة عن مراده، فبلّغ صلى الله عليه وسلم رسالته، وبَيَّن عن آياته بألفاظ مجملة، ومفسرة، عَقَلها عنه أصحابه، أو بعضهم، وهذا الخبر من الأخبار التي يُدْرِك معناه من لَمْ يُحْرَم التوفيق لإصابة الحقّ، وذاك أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام رسالةَ ابتلاء واختبار، وأمره أن يقول له:"أَجِبْ ربك" أمر اختبار وابتلاء، لا أمرًا يريد الله جل وعلا إمضاءه، كما أمر خليله -صلى الله على نبينا وعليه- بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء، دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه، فلما عَزَم على ذبح ابنه، وتَلَّه للجبين، فداه بالذبح العظيم، وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رُسُله في صُوَر لا يعرفونها، كدخول الملائكة على رسوله إبراهيم عليه السلام، ولم يعرفهم، حتى أوجس منهم خيفة، وكمجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسؤاله إياه عن الإيمان، والإسلام، فلم يعرفه المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى وَلَّى، فكان مجيء ملك الموت إلى موسى على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها، وكان موسى غَيُورًا، فرأى في داره رجلًا لَمْ يعرفه، فشال يده، فلطمه، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يَتصور بها، لا الصورة التي خلقه الله
عليها، ولمّا كان المصرَّح عن نبينا صلى الله عليه وسلم في خبر ابن عباس حيث قال: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين
…
"، فذكر الخبر، وقال في آخره: "هذا وقتك، ووقت الأنبياء قبلك"، كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا من الأمم، ولمّا كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جُناح على فاعله، ولا حرج على مرتكبه؛ للأخبار الجمّة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كُتُبنا، كان جائزًا اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحًا له، ولا حرج عليه في فعله، فلما رجع ملك الموت إلى ربه، وأخبره بما كان من موسى فيه، أمره ثانيًا بأمر آخر أمر اختبار وابتلاء، كما ذكرنا قبلُ؛ إذ قال الله له: "قل له: إن شئت، فضع يدك على متن ثور، فلك بكل ما غطت يدك، بكل شعرة سنة"، فلما عَلِم موسى كليم الله -صلى الله على نبينا وعليه- أنه ملك الموت، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله، طابت نفسه بالموت، ولم يستمهل، وقال: فالآن، فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه، وعِلمه به، ضِدَّ قول من زعم أن أصحاب الحديث حمالةُ الحطب، ورُعاة الليل، يجمعون ما لا ينتفعون به، ويروون ما لا يؤجرون عليه، ويقولون بما يبطله الإسلام؛ جهلًا منه لمعاني الأخبار، وترك التفقه في الآثار، معتمدًا منه على رأيه المنكوس، وقياسه المعكوس. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: لا يمتنع أن يأذن لموسى في هذه اللطمة امتحانًا للملطوم.
وقال غيره: إنما لَطَمه؛ لأنه جاء لِقَبْض روحه من قبل أن يُخبره؛ لِمَا ثبت أنه لَمْ يُقبض نبيّ حتى يُخيّر؛ فلهذا لمّا أخبره في المرّة الثانية أذعن.
قيل: وهذا أَولى الأقوال بالصواب. وفيه نَظَر؛ لأنه يعود أصل السؤال، فيقال: لِمَ أَقدمَ ملك الموت على قبض نبيّ الله، وأخلّ بالشرط؟ فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحانًا.
(1)
"صحيح ابن حبان" 14/ 115.
وزعم بعضهم أن معنى "فَقَأَ عينه"؛ أي: أبطل حجته. وهو مردود بقوله في نفس الحديث: "فردّ الله عينه"، وبقوله:"لطمه لطمة"، وغير ذلك من قرائن السياق.
وقال ابن قتيبة: إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل، وتمثيل، وليست عينًا حقيقة، ومعنى "ردّ الله عينه"؛ أي: أعاده إلى خِلقته الحقيقية. وقيل: على ظاهره، وردّ الله إلى ملك الموت عينه البشرية؛ ليرجع إلى موسى على كمال الصورة، فيكون ذلك أقوى في اعتباره. وهذا هو المعتمَد.
وجوّز ابن عقيل أن يكون موسى أُذن له أن يفعل ذلك بملك الموت، وأُمر ملك الموت بالصبر على ذلك، كما أُمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أرجح التأويلات عندي ما قاله الإمامان: ابن خزيمة، وابن حبّان، ونُقل عن غيرهما من المتقدمين، رحمهم الله تعالى:
وحاصله: أن موسى عليه السلام لَمْ يعلم أنه ملك الموت، بل ظنه آدميًّا قَصَد نفسه، فدافعه عنها، فأدّت المدافعة إلى فقء عينه، لا أنه قصدها بالفقء، وهذا الجواب اختاره المازريّ، والقاضي عياض، رحمهم الله تعالى كما ذكره النوويّ في "شرحه"، قالوا: وليس في الحديث تصريح بأنه فقأ عينه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قولهم: "ليس في الحديث
…
إلخ" فيه نظر، فقد صُرّح في "الصحيحين" بقوله: "ففقأ عينه". فتبصّر.
قال: فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانيًا بأنه ملك الموت، فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة، عَلِم بها أنه ملك الموت، فاستسلم، بخلاف المرّة الأولى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا الحديث أن ملك الموت تمثّل لموسى في صورة لها عين، وأنه دعاه لقبض روحه، وأن موسى عرف أنه ملك الموت، وأنه لطمه بيده على عينه ففقأها، ولمّا ظهر هذا من هذا الحديث شنَّعته الملحدة، وقالوا: إن هذا كله محال، ولا يصح.
وقد اختَلَفت أقوال علمائنا في تأويل هذا الحديث، فقال بعضهم: كانت عينًا متخيَّلة، لا حقيقة، ومنهم من قال: هي عين معنوية، وإنما فقأها بالحجَّة،
وهذان القولان لا يُلتفت إليهما؛ لظهور فسادهما، وخصوصًا الأول؛ فإنَّه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة، لا حقيقة له، وهو قول باطل بالنصوص المنقولة، والأدلة المعقولة، ومنهم من قال: كان ذلك ابتلاءً وامتحانًا لملك الموت؛ فإنَّ الله تعالى يمتحن خلقه بما شاء، وهذا ليس بجواب، فإنَّه إنما وقع الإشكال في صدور سبب هذا الامتحان من موسى، وكيف يجوز وقوع مثل هذا؟ وأشبه ما قيل فيه: ما قاله الشيخ الإمام أبو بكر بن خزيمة، وهو أن موسى صلى الله عليه وسلم لَمْ يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلًا دخل في منزلة بغير إذنه يريد نفسه، فدافع عن نفسه، فلطم عينه، ففقأها، وتجب المدافعة في مثل هذا بكل ممكن، وهذا وجه حَسَن، غير أن هذا اعترض عليه بما في الحديث، وهو أن ملك الموت لمّا رجع إلى الله تعالى قال:"يا رب! أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت"، فلو لَمْ يعرفه موسى -وإنما دفعه عن نفسه- لَمَا صدق هذا القول من ملك الموت.
قال القرطبيّ: وقد أظهر لي ذو الطَّوْل والإفضال وجهًا حسنًا يحسم مادّة الإشكال؛ وهو أن موسى عَرَف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه، لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نَصّ عليه نبينا صلى الله عليه وسلم من:"أن الله تعالى لا يقبض روح نبي حتى يخيره" -متّفقٌ عليه- فلمَّا جاءه على غير الوجه الذي عَلِم به، بادر بشهامته، وقوة نفسه إلى أَدَب ملك الموت، فلطمه، فانفقأت عينه امتحانًا لملك الموت؛ إذ لَمْ يصرّح له بالتخيير، ومما يدلُّ على صحة هذا: أنه لما رجع إليه ملك الموت، فخيَّره بين الحياة والموت؛ اختار الموت واستسلم، وهذا الوجه -إن شاء الله- أحسن ما قيل فيه، وأسلم، وقد تقدَّم القول في تمثّل الملائكة في الصور المختلفة عقلًا، وثبوت وقوع ذلك نقلًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد علمت فيما أسلفته أن الأرجح عندي هو ما ذهب إليه ابن خزيمة، كما استحسنه القرطبيّ نفسه، وأما ما ذكره
(1)
"المفهم" 6/ 220 - 222.
القرطبيّ من الاعتراض عليه بأن موسى لو لَمْ يعرف ملك الموت لَمَا صَدَق قول الملك: "يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت".
فالجواب عنه: أن الملك قال ذلك ظنًّا منه أن موسى عليه السلام عرفه، ثم لَمْ يستجب له، لا أنه عرفه حقيقة، ثم صكّه، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): أنه استُدِلّ بهذا الحديث على جواز الزيادة في العمر، وهذا الاستدلال واضح، وهو الصواب من القولين في المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: وأما نقص العمر وزيادته، فمن الناس من يقول: إنه لا يجوز بحال، ويَحمِل ما ورد على زيادة البركة، والصواب أن يحصل نقص وزيادة عما كُتب في صحف الملائكة، وأمّا عِلم الله تعالى القديم فلا يتغيّر، وأما اللوح المحفوظ، فهل يُغيّر ما فيه؟ على قولين، وعلى هذا يتفق ما ورد في هذا الباب من النصوص. انتهى كلامه رحمه الله تعالى، وهو كلام نفيس جدًّا.
وقد حقق المسألة العلامة الشوكانيّ رحمه الله، وكتب فيه رسالة مفيدة جدًّا، ورجح القول بأن العمر يزيد، وينقص حقيقةً، أحببت إيرادها هنا تتميمًا للفائدة ونشرًا للفائدة: قال رحمه الله تعالى:
[اعلم]: أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآياتِ الشريفة، وهي قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 11]، وقوله:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} [الأعراف: 34]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 145]، فقد قيل: إنها معارضة لقوله عز وجل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]، وقوله عز وجل:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} الآية [الأنعام: 2].
فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد، ولا ينقص؛ استدلالًا بالآيات المتقدّمة، والأحاديث الصحيحة، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يَبعث الله ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له:
اكتب عمله، ورزقه، وأَجَله، وشقيّ، أو سعيد". وهو في "الصحيحين" وغيرهما، وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة.
وأجابوا عن قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] بأن المعنى: يمحو ما يشاء، من الشرائع، والفرائض بنَسْخه، ويُبْدله، ويثْبِت ما يشاء، فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب.
ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية لغير مخصّص، وأيضًا: يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، كما في الأحاديث الصحيحة، ومن جملة ذلك الشرائع، والفرائض، فهي مثل العمر، إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات.
وقيل: المراد: محو ما في ديوان الحفظة مما ليس بحسنة، ولا سيئة؛ لأنهم مأمورون بكَتْب كل ما ينطق به الإنسان. ويجاب عنه بمثل الجواب الأول.
وقيل: يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء، فلا يغفره. ويجاب عنه بمثل الجواب السابق.
وقيل: يمحو ما يشاء من القرون؛ كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)} [يس: 31]، وكقوله:{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)} [المؤمنون: 31]، فيمحو قرنًا، ويثبت قرنًا. ويجاب عنه بمثل ما تقدّم.
وقيل: هو الذي يعمل بطاعة الله ما يعمل، ثم يعمل بمعصيته، فيموت على ضلالة، فهذا الذي يمحو الله، والذي يكتبه الرجل يعمل بمعصية الله، ثم يتوب، فيمحو الله من ديوان السيئات، ويُثْبته في ديوان الحسنات.
وقيل: يمحو ما يشاء؛ يعني: الدنيا، ويثبت الآخرة. وقيل غير ذلك.
وكل هذه الأقوال دعاوي مجرّدة، ولا شكّ أن آية المحو والإثبات عامّة لكلّ ما يشاؤه سبحانه، فلا يجوز تخصيصها إلَّا لمخصص، وإلا كان من التقوّل على الله بما لَمْ يقل، وقد توعّد الله سبحانه على ذلك، وقَرَنه بالشرك، فقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
وأجابوا على قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]. بأن المراد بالمعمّر: طويل العمر، والمراد بالناقص: قصير العمر.
وفي هذا نظر؛ لأنَّ الضمير في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يعود إلى قوله: {مِن مُّعَمَّرٍ} . والمعنى على هذا: وما يعمَّر من معمَّر، ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلَّا في كتاب. هذا ظاهر معنى النظم القرآنيّ، وأما التأويل المذكور، فإنما يتمّ على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية، وذلك لا وجود له في النظم.
وقيل: إن معنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} ما يستقبله من عمر، ومعنى {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}: ما قد مضى. وهذا أيضًا خلاف الظاهر، وأن هذا ليس نقصًا من نفس العمر، والنقص يقابل الزيادة، وههنا جعله مقابلًا للبقيّة من العمر، وليس ذلك بصحيح. وقيل: المعنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُّعَمَّرٍ} من بلغ من الهرم، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} من عمر آخر غير الذي بلغ من الهرم. ويجاب عنه بما تقدّم. وقيل: المعمر من بلغ عمره ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وقيل غير ذلك، من التأويلات التي يردّها اللفظ، ويدفعها.
وأجابوا عن قوله تعالى: {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} بأن المراد بالأجل الأول الهرم، والثاني الوفاة. وقيل: الأول: ما قد نقص من عمر كل أحد. والثاني: ما بقي من عمر كل أحد. وقيل: الأول: أجَلُ الموت، والثاني أجل الحياة في الآخرة. وقيل: المراد بالأول: ما بين خلق الإنسان إلى موته، والثاني: ما بين موته إلى بعثه. وقيل غير ذلك، مما فيه مخالفة للنظم القرآنيّ.
وذهب جَمْع من أهل العلم إلى أن العمر يزيد، وينقص، واستدلّوا بالآيات المتقدّمة، فإن المحو والإثبات عامّان، يتناولان العمر، والرزق، أو السعادة، والشقاوة، وغير ذلك. وقد ثبت عن جماعة من السلف، من الصحابة ومَن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللَّهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة. ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه، ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم، وهكذا تدلّ على هذا المعنى الآية الثانية، فإن معناها أنه
لا يطول عمر إنسان، ولا ينقص إلَّا وهو في كتابٍ أي: اللوح المحفوظ، وهكذا يدلّ قوله عز وجل:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أن للإنسان أجلين، يقضي الله عز وجل له بما يشاء منهما، من زيادة، أو نقص، ويدلّ على هذا أيضًا ما في "الصحيحين"، وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر. وفي لفظ في "الصحيحين":"من أحبّ أن يُبسط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره، فلْيَصِل رحمه". وفي لفظ: "من أحبّ أن يمدّ الله في عمره وأجله، ويبسط له في رزقه، فليتق الله، وليصل رحمه". وفي لفظ: "صلة الرحم، وحسن الخلق يعمّران الديار، ويزيدان من الأعمار".
ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر بالدعاء؛ لقوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]، وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32]، والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة، وفيها: إن الدعاء يدفع البلاء، ويردّ القضاء، وفيها: أن الدعاء هو العبادة، وفيها: الاستعاذة من سوء القضاء، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أنه قال:"اللَّهم إني أعوذ بك من سوء القضاء"، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قال:"وَقِنِي شرّ ما قضيت".
فإذا كان الدعاء لا يفيد شيئًا، وأنه ليس للإنسان إلَّا ما قد سبق في القضاء الأزليّ، لكان أمْره بالدعاء لغوًا، لا فائدة فيه، وكذلك وَعْده بالإجابة للعباد الداعين، وهكذا تكون استعاذة النبيّ صلى الله عليه وسلم لغوًا لا فائدة فيها، وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء، وأنه عبادة لغوًا، لا فائدة فيها، وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم:"وقني شرّ ما قضيت" لغوًا، لا فائدة فيه، وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وأن الله عز وجل ما أنزل من داء، إلَّا وله دواء لغوًا لا فائدة فيه، مع ثبوت الأمر بالتداوي في "الصحيح" عنه صلى الله عليه وسلم.
[فإن قلت]: فعلى مَا يُحمل ما تقدّم من الآياتِ القاضية بأن الأجل لا يتقدم، ولا يتأخّر، ومن ذلك قوله عز وجل:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]؟.
[قلت]: قد أجاب عن ذلك بعض السلف، وتبعه الخلف، بأن هذه الآية مختصّة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدّم، ولا يتأخّر عند حضوره.
ويؤيد هذا أنَّها مقيدة بذلك، فإنه قال:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} ، ومثل هذا التقييد المذكور في هذه الآية قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)} [المنافقون: 11]، وقوله عز وجل:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لَمْ يتقدّم، ولم يتأخّر، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخّره الله بالدعاء، أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير. ويجوز أن يقدَّم لمن عمل شرًّا، أو قطع ما أمر الله به أن يوصل، وانتهك محارم الله عز وجل.
[فإن قلت]: فعلى مَا يُحمل قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22]، وقوله:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} الآية [التوبة: 51]، وكذلك معنى ما ورد في هذا المعنى؟.
[قلت]: هذه أوّلًا معارَضة بمثلها، مثل قوله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح القدسيّ:"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنّ إلا نفسه".
وثانيًا: بإمكان الجمع بحَمْل مثل قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ، وقوله عز وجل:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} على عدم التسبب من العبد بأسباب الخير من الدعاء، وسائر أفعال الخير، وحَمْل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبب بأسباب الشرّ المقضية لأمان المكروه
(1)
، ووقوعه على العبد.
وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة لِسَبْق القضاء، وأنه فُرغ من تقدير الأجل، والرزق، والسعادة، والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة
(1)
هكذا النسخة، وفيها ركاكة، فليُحرّر.
الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير، وكذلك الدعاء.
فتُحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبّب العبد بأسباب الخير والشرّ، وتُحمل الأحاديث الأخرى على أنه قد وقع من العبد التسبب بأسباب الخير، من الدعاء، والعمل الصالح، وصلة الرحم، أو التسبب بأسباب الشرّ.
[فإن قلت]: قد تقرر بالأدلّة من الكتاب بأن علمه عز وجل أزليّ، وأنه قد سبق في كل شيء، ولا يصحّ أن يقدّر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلأ، وذلك لا يجوز إجماعًا.
[قلت]: عِلْمه عز وجل سابق أزليّ، وقد عَلِم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحقّ من هذه الحيثية، ولكنه غلا قوم، فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسُّنَّة من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يردّ القضاء، وما ورد في الاستعاذة منه صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يده، ونحو ذلك، مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفًا لسبق العلم، ورتّبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلًا، والأمر أوسع من هذا، والذي جاءنا بسبق العلم، وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء، والأمر بالدواء، وعرَّفَنا بأن صلة الرحم، تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد أيضًا، وأن أعمال الشرّ تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه، كما يصل إلى الخير، ويندفع عنه الشرّ بكسب الخير، والتلبّس بأسبابه، فإعمال بعض ما ورد في الكتاب والسُّنَّة، وإهمال البعض الآخر، ليس كما ينبغي، فإن الكلّ ثابت عن الله عز وجل، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلّ شريعة واضحة، وطريق مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه لشيء من الأدلّة.
وبيانه أن الله تعالى كما علم أن العبد يكون له في العمر كذا، ومن الرزق كذا، وهو من أهل السعادة، أو الشقاوة، قد علم أنه إذا وصل رَحِمَه زاد له في الأجل كذا، وبسط له من الرزق كذا، وصار في أهل السعادة بعد أن كان في أهل الشقاوة، أو صار في أهل الشقاوة بعد أن كان في أهل السعادة، وهكذا قد علم ما ينقصه للعبد، كما علم أنه إذا دعاه، واستغاث به، والتجأ إليه صرف عنه الشرّ، ودفع عنه المكروه، وليس في ذلك خُلْف، ولا مخالفة لِسَبْق العلم، بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قدّر الشبع والرّيّ
بالأكل والشرب، وقدّر الولد بالوطء، وقدّر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط المسبَّبات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق، أو يُنافيه بوجه من الوجوه؟
ولو قال قائل: أنا لا آكل، ولا أشرب، بل أنتظر القضاء، فإن قدّر الله ذلك كان، وإن لَمْ يقدّره لَمْ يكن، أو قال: أنا لا أجامع زوجتي، أو أَمَتِي ليحصل منهما الذرية، بل إن قدّر الله ذلك كان، وإن لَمْ يقدّره لَمْ يكن، لكان هذا مخالفًا لِمَا عليه رسل الله، وما جاءت به كتبه، وما كان عليه صلحاء الأمة، وعلماؤها، بل يكون مخالفًا لِمَا عليه هذا النوع الإنسانيّ، من أبينا آدم إلى الآن، بل يكون مخالفًا لما عليه جميع الحيوانات في البرّ والبحر، فكيف يُنكر وصول العبد بدعائه، أو بعمله الصالح؛ فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها، وعَلِمها قبل أن تكون، فعِلْمه على كل تقدير أزليّ في المسببات على حصول أسبابها. ولم يعدّ العادّ من أَمثال هذه الآياتِ القرآنية، وما ورد موردها من الأحاديث النبوية.
وهل ينكر هؤلاء الغُلاة مثل هذا، أو يجعلونه مخالفًا لسبق العلم، مباينًا لأزليته؟. فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، وما في السُّنَّة المطهرة من أولها إلى آخرها، بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعًا؛ لأنَّها كلها مسببات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلَّقة بشروطها، ومن بلغ إلى هذا في الغباوة، وعدم تعقّل الحجة لَمْ يستحقّ المناظرة، ولا ينبغي معه الكلام فيما يتعلّق بالدين، بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه، وأمر دنياه حتى يغشى عن غفلته، ويستيقظ من نومته، ويرجع عن ضلالته وجهالته.
ثم يقال لهم: هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين الإسلام، وما يلحق بها من كتاب السُّنَّة المطهرة، قد علم كل من له علم أنَّها كثيرة جدًّا، بحيث لا يحيط بأكثرها إلَّا مؤلف بسيط، ومصنّف حافل، وفيها تارة استجلاب الخير، وفي أخرى استدفاع الشرّ، وتارة متعلّقة بأمور الدنيا، وتارة بأمور الآخرة، ومن ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته ما يدعون به في صلاتهم، وعقب صلواتهم، وفي صباحهم، ومسائهم، وفي ليلهم، ونهارهم، وعند نزول
الشدائد، وعند حصول نِعَم الله إليهم، هل كان هذا منه صلى الله عليه وسلم لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير، جالبة لِمَا فيه مصلحة، دافعة لما فيه مفسدة؟
[فإن قالوا]: نعم، قلنا: فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم، فإن هذا الاعتراف يدفع عنا، وعنكم مَعَرَّة الاختلاف، ويريحنا من التطويل في الكلام على ما أوردتموه.
[وإن قالوا]: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير، جالبة لما فيه مصلحة، دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوائهم
(1)
، وليس للمحاجة لهم فائدة، ولا في المناظرة معهم نَفْع.
يا عجباه كلّ العجب، أَمَا بلغهم ما كان عليه أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعمل من أول نبوّته إلى أن قبضه الله إليه من الدعاء لربه، والإلحاح عليه، ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه، وحتى يسقط رداؤه، كما وقع منه في يوم بدر، فهل يقول عاقل، فضلًا عن عالم: إن هذا الدعاء منه
(2)
فَعَله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، ولا انتفاع به، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، وبقضائه وقَدَره، وبأزليته، وسبق علمه بما يكون في بريّته، فلو كان الدعاء منه، ومن أمته لا يفيد شيئًا، ولا ينفع نفعًا لَمْ يفعله، ولا أرشد الناس إليه، ولا أمَرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي ينزّه كل عاقل، فضلًا عن خير البشر، وسيد ولد آدم عنه، لِمَ لَمْ يقل لهم: إذا كان القضاء واقعًا لا محالة، فإنه لا يدفعه شيء من الدعاء، والالتجاء، والإلحاح، والاستغاثة؟ فكيف لَمْ يتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربّه؟، فإنه قد صحّ عنه أنه استعاذ بالله عز وجل من سوء القضاء، كما عرّفناك، وقال:"وقني شرّ ما قضيت"، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا؟ أو على أيّ محمل يحملونه؟
ثم ليت شِعْري علام يحملون أمره عز وجل لعباده بدعائه، بقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ثم عقّب ذلك بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]؛ أي: عن دعائي، كما صرّح
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف "من دابّهم"، والله أعلم.
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب إسقاط "منه"، فليُحرّر.
بذلك أكثر أئمة التفسير. فكيف أَمَر عباده أولًا، ثم يجعل تركه استكبارًا منهم، ثم يُرغّبهم في الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي، مجيب لدعوته بقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: 186]، ثم يقول معنونًا لِكَلمه الكريم بحرف يدلّ على الاستفهام الإنكاريّ، والتقريع والتوبيخ:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الآية [النمل: 62]، ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [النساء: 32]؟
[فإن قالوا]: إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به، وأرشدنا إليه، وجعل تركه استكبارًا، وتوعّد عليه بدخول النار مع الذّلّ، ورغّب عباده إلى دعائه، وعرّفهم أنه قريب، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف ما تنزّل به من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله، ويطلبوا ما عنده من الخيرات، كل ذلك لا فائدة فيه للعبد، وأنه لا ينال إلَّا ما قد جرى به القضاء، وسَبَق به العلم، فقد نسبوا إلى الربّ عز وجل ما لا يجوز عليه، ولا يحلّ نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلَّا بما فيه فائدة يُعتدّ بها، ولا يرغّبه بما لا يحصل به الخير، ولا يرهّبه إلَّا عما يكون به عليه الضير، ولا يَعِده إلَّا ما هو حقّ يترتب عليه فائدة، فهو صادق الوعد، ولا يُخلف الميعاد، ولا يأمرهم بسؤاله فَضْله، إلَّا وهناك فائدة تحصل بالدعاء، ويكون لسببه الفضل عليهم، ورَفْع ما هم فيه من الضرّ، وكشف ما حلّ بهم من السوء، هذا معلوم لا يشك فيه إلَّا من لَمْ يعقل حُجَج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شرّ، ولا نفع ولا ضرّ، ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية، فهو حقيق بأن لا يُخاطب، وقَمِين بأن لا يناظَر، فإن هذا المسكين المتخبّط في جهله، المتقلب في ضلالته قد وقع فيما هو أعظم خطرًا من هذا، وأكثر ضررًا منه.
وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه، وأنزل بها كتبه، يقال فيه مثل هذا، فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه عز وجل كائنًا، سواء بعث الله إلى عباده رسله، وأنزل إليهم كتبه، أو لَمْ يفعل، كان ذلك عبثًا يتعالى الربّ عز وجل عنه، ويُنزّه عن أن يُنسب إليه.
[فإن قالوا]: إن الله عز وجل قد سبق علمه بكلّ ذلك، ولكنه قيّده بقيود،
وشَرَطه بشروط، وعلّقه بأسباب، فعلم مثلًا أن الكافر يُسلم، ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام، أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يَعمل منهم من يعمل بما يَعِدهم الله به بعد بَعْثه رسله، وإنزال كتبه عليهم.
[قلنا لهم]: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء، وفي أعمال الخير، وفي صلة الرحم، ولا نطلب منكم إلَّا هذا، ولا نريد غيره، وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض، واللجاج الكبير الكثير؟ فإنا نقول: إن الله عز وجل قد علم في سابق علمه أن فلانًا يطول عمره إذا وَصَل رحمه، وأن فلانًا يحصل له من الخير كذا، أو يقع عنه من الشرّ كذا، إذا دعا ربّه، وأن هذه المسبَّبات مترتبة على حصول أسبابها، وهذه المشروطات مقيّدة بحصول شروطها، وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذِكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلّة، واستريحوا من التعب، فإنه لَمْ يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، مثل عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي وائل، وعبد الله بن عمر الذين كانوا يدعون الله عز وجل بأن يجعلهم في أهل السعادة، إن كانوا قد كُتبوا من أهل الشقاوة كما قدَّمنا، وهم أعلم بالله عز وجل، وما يجب له، ويجوز عليه. وقال كعب الأحبار حين طُعن عمر، وحَضَرَته الوفاة: والله لو دعا عمر أن يؤخّر أجله، لأخّره، فقيل له: إن الله عز وجل يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما قبل ذلك، فيجوز أن يزداد، وأن ينقص.
ومن شكّ في شيء من هذا، فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين، كـ"حلية أبي نعيم"، و"صفوة الصفوة" لابن الجوزيّ، و"رسالة القشيريّ"، فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره، ويثلج
(1)
به قلبه.
بل كل إنسان إذا حقّق حال نفسه، ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد، وإجابته له، وتفريجه عنه يجد ما يغنيه عن البحث عن حال غيره، إذا
(1)
يقال: ثلجت النفسُ ثُلُوجًا، وثَلَجًا، من بابي قعد، وتَعِبَ: اطمأنّت. انتهى. "المصباح" 1/ 83.
كان من المعتبرين المفكّرين، وهذا نبيّ الله عيسى ابن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله، ويشفي المرضى بدعائه، وهذا معلوم حسبما أخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتي، وشفاء المرضى بدعائه، ما يعرفه من اطلع عليه.
وبالجملة فهؤلاء الغُلاة الذين قالوا: إنه لا يقع من الله إلَّا ما قد سبق به العلم، وإن ذلك لا يتحوّل، ولا يتبدل، ولا يؤثّر فيه دعاء، ولا عمل صالح، فقد خالفوا ما قدمنا من آيات كتاب الله العزيز، ومن الأحاديث النبويّة الصحيحة، من غير ملجئ إلى ذلك، فقد أمكن الجمع على ما قدمناه، وهو متعيّن، وتقديم الجمع على الترجيح متَّفقٌ عليه، وهو الحقّ.
وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات، إلَّا عند وقوعها تعالى عن ذلك، وهذا قول باطل، يخالف كتاب الله عز وجل، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين، وقد تبرّأ من مقالة مَعْبَد هذه، وأصحابه من أدركهم من الصحابة، منهم ابن عمر، كما ثبت ذلك في "الصحيح"
(1)
.
وقد غَلِط من نسب مقالتهم إلى المعتزلة، فإنه لَمْ يقل بها أحد منهم قط، وكتبهم مصرّحة بهذا، ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال، فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنن، والجمع بينهما ما يكفي المنصف، ويُريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسائل، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله سبحانه بين المفرّط والغالي، وفي هذا القَدْر كفاية لمن له هداية، والله وليّ التوفيق. تمّت. انتهت الرسالة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حققه الإمام الشوكانيّ رحمه الله تعالى، من أن الصواب قول من قال: إن العمر يزيد، وينقص، وتقدم عن شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى قوله: إنه الصواب، هو الحقّ عندي؛ لموافقته لظواهر الكتاب والسُّنن الصحيحة، كما سبق تقريره في كلام الشوكانيّ رحمه الله تعالى.
[خاتمة]: مما يدلّ على زيادة العمر ونقصه، ويؤيّد القول الراجح الذي
(1)
أي: "صحيح مسلم"، وقد تقدّم في كتاب "الإيمان".
ذكرناه: ما أخرجه الإمام الترمذيُّ رحمه الله في "جامعه"، وصححه -وهو كما قال- فقال:
(3076)
- حَدَّثَنَا عبد بن حميد، حَدَّثَنَا أبو نعيم، حَدَّثَنَا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم، مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة، هو خالقها من ذريته، إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبِيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلًا منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم، من ذريتك، يقال له: داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟
قال: ستين سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم، جاءه ملك الموت، فقال: أَوَ لَمْ يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أَوَ لَمْ تعطها ابنك داود؟ قال: فجحد آدم، فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخَطِئ آدم، فخطئت ذريته".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وقد رُوي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال أيضًا:
(3368)
- حَدَّثَنَا محمد بن بشار، حَدَّثَنَا صفوان بن عيسى، حَدَّثَنَا الحارث بن عبد الرَّحمن بن أبي ذُباب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم، ونفخ فيه الروح عطس، فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة، إلى ملأ منهم، جُلُوس، فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: إن هذه تحيتك، وتحية بَنِيك بينهم، فقال الله له، ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها، فإذا فيها آدم وذريته، فقال: أي رب ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان، مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم، رجل أضوؤهم، أو من أضوئهم، قال: يا رب من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قد كتبت له عمر أربعين سنة، قال: يا
رب زده في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له، قال: أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة، قال: أنت وذاك، قال: ثم أُسكن الجَنَّة ما شاء الله، ثم أُهبط منها، فكان آدم يعدّ لنفسه، قال: فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عجلت، قد كُتب لي ألفُ سنة، قال: بلي، ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة، فجحد، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، قال: فمن يومئذ أُمِر بالكتاب والشهود".
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من رواية زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى. والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6131]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ مُوسَى عليه السلام عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْت، فَفَقَأَهَا، قَالَ: فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ، لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ، وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي، قَالَ: فَرَدَّ اللهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي، فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ، فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ، فَإِنَّكَ تَعِيشُ بهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فَالآنَ مِنْ قَرِيب، رَبِّ أَمِتْنِي
(1)
مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ، لأَرَيْتكُمْ قَبْرَهُ، إِلَى جَانِبِ الطَّرِيق، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".
قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وإسناده تقدّم قبل حديث، وقد تقدّم أيضًا شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(1)
وفي نسخة: "رب أدنني".
وقوله: (فالآن من قريب رب أمتني
…
إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "أمتني" بالميم، والتاء، والنون، من الموت، وفي بعضها:"أدنني" بالدال، ونونين، وكلاهما صحيح. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ
…
إلخ) هو إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ مسلم، وراوية كتابه، وقد تقدّم قبل بابين، وغرضه
(2)
بيان علوّ إسناده على روايته بإسناد مسلم المذكور، حيث إنه وصل إلى عبد الرزّاق في هذا بواسطة واحدة، وهو محمد بن يحيى، وقد وصل إليه في روايته عن مسلم بواسطتين: مسلم، وشيخه محمد بن رافع.
و (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) هو: محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذُؤيب الذُّهْليّ النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ جليلٌ [11](ت 258) على الصحيح، وله ست وثمانون سنةً (خ 4)، ولم يرو عنه مسلم في "صحيحه"، وإنما روى عنه تلميذه أبو إسحاق؛ لعلوّ سنده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6132]
(2373) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَةً لَهُ، أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ، أَو لَمْ يَرْضَهُ -شَكَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ- قَالَ: لَا، وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَر، قَالَ: فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأنصَار، فَلَطَمَ وَجْهَهُ، قَالَ: تَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَر، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، قَالَ: فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِم، إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا، وَقَالَ: فُلَانٌ لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ "،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 130.
(2)
وقول الشيخ الهرري: غرضه بيان متابعة محمد بن يحيى لمحمد بن رافع، فيه نَظَر لا يخفي، بل غرضه ما ذكرته من بيان علوّ إسناد، فتأمله بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.
قَالَ: قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَر، وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِه، ثُمَّ قَالَ:"لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ الله، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّور، فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْض، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ، قَالَ: ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَي، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، أَو فِي أَوَّلِ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى عليه السلام آخِذٌ بِالْعَرْش، فَلَا أَدْرِي، أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّور، أَو بُعِثَ قَبْلِي؟، وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أفضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عمر سكن بغداد، وَوَليَ قضاء خُرَاسان، ثقةٌ [9] (ت 205) وقيل: بعد ذلك (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ) الماجِشون -بكسر الجيم، بعدها شين معجمة مضمومة- المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدَير، ثقةٌ فقيهٌ مصنفٌ [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيُّ) هو: عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب المدنيّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبد العزيز، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، والكلام فيه مشهور.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ)؛ أي: رجل منسوب إلى قبيلة يهود، قال الفيّوميّ عليه السلام: يقال: هم يهود، غير منصرف؛ للعَلَميّة، ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التّنوين؛ لأنه نُقِل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنِّسبة إليه: يَهُودِيٌّ، وقيل: اليهوديُّ نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أورد الصغانيّ يَهُودَا،
في باب المهملة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم هذا اليهوديّ في هذه القصّة، وزعم ابن بشكوال أنه فِنْحاص -بكسر الفاء، وسكون النون، ومهملتين- وعزاه لابن إسحاق، والذي ذكره ابن إسحاق لفِنحاص مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه في لطمه إياه قصة أخرى، في نزول قوله تعالى:{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} الآية [آل عمران: 181]، وأما كون اللاطم في هذه القصة هو الصدّيق فهو مصرَّح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في "جامعه" وابن أبي الدنيا في "كتاب البعث" من طريقه، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، وابن جُدْعان، عن سعيد بن المسيِّب، قال:"كان بين رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء -فقال عمرو بن دينار: هو أبو بكر الصديق- فقال اليهوديّ: والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه المسلم. . ." الحديث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وأما كون اللاطم
…
إلخ" ففيه نظر؛ لأنه في هذه القصّة صرّح بأنه رجل من الأنصار، وأبو بكر رضي الله عنه مهاجريّ، وليس أنصاريًّا، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
(يَعْرِضُ) بكسر الراء، من باب ضرب؛ أي: يُظهره للناس ليشتروه، وقال في "العمدة"؛ أي: يُبرز متاعه للناس؛ ليرغبوا في شرائه، فأُعطي له به ثمنًا بَخْسًا"
(3)
. (سِلْعَةً لَهُ) بكسر السين، وإسكان اللام: الْبِضاعة، وجَمْعها: سِلَعٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَرٍ، وأما السَّلْعَة بالفتح، فهي الشَّجّة، ولا تناسب هنا، وجَمْعها سَلَعاتٌ، مثلُ سَجْدة وسَجَدَات
(4)
. (أُعْطِيَ) بالبناء للمفعول، (بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ)؛ أي: ثمنًا استقلّه، وقوله:(أَو لَمْ يَرْضَهُ)"أو" للشك، كما بيّن الشاكّ هنا بقوله:(شَكَّ عَبْدُ الْعَزِيزِ) بن عبد الله الراوي عن عبد الله بن الفضل. (قَالَ) ذلك اليهوديّ (لَا)؛ أي: لست أبيعه بما أعطيتني؛ لكونه قليلًا، ثم حلف على
(1)
"المصباح المنير" 2/ 642.
(2)
"الفتح" 8/ 9، كتاب "الأنبياء" رقم (3408).
(3)
"عمدة القاري" 16/ 4.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 285.
ذلك بقوله: (وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَرِ)، وفي الرواية التالية:"وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْعَالَمِينَ"؛ أي: على جميعهم، حتى على محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا غضب المسلم؛ لأنه يعتقد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى وغيره. (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) فيه أنه ردّ على من قال: إنه أبو بكر الصديّق، فتنبّه. (فَلَطَمَ وَجْهَهُ) يقال: لَطَمت المرأة وجهها لطْمًا، من باب ضرب: ضَرَبته بباطن كفّها
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فلطم اليهودي"؛ أي: عند سماعه قول اليهوديّ: "والذي اصطفى موسى على العالمين"، وإنما صنع ذلك لِمَا فهمه من عموم لفظ:"العالمين"، فدخل فيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقرر عند المسلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل، وقد جاء ذلك مبيَّنًا في حديث أبي سعيد أن الضارب قال لليهوديّ حين قال ذلك: أي خبيثُ على محمد؟ فدلّ على أنه لطم اليهوديّ عقوبةً له على كذبه عنده، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد:"فلطم وجه اليهوديّ"، ووقع عند أحمد من هذا الوجه:"فلطم على اليهوديّ"، وفي رواية عبد الله بن الفضل:"فسمعه رجل من الأنصار، فلطم وجهه، وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ "، وكذا وقع في حديث أبي سعيد أن الذي ضربه رجل من الأنصار، وهذا يعكّر على قول عمرو بن دينار أنه أبو بكر الصديق، إلَّا إن كان المراد بالأنصار المعنى الأعم، فإن أبا بكر الصديق رضي الله عنه من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعًا، بل هو رأس مَن نَصَره، ومقدَّمهم، وسابقهم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أنهما واقعتان، واقعة كان الضارب فيها رجلٌ من الأنصار، وواقعة كان الضارب فيها أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه، وأما قوله: إن أبا بكر من الأنصار، فلا يخفى بُعده، فإن هذا اللفظ عندهم إذا أطلق يُطلق على الأنصار بخلاف المهاجرين، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) ذلك المسلم اللاطم لليهوديّ (تَقُولُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَر، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا)؛ أي: بيننا، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: هو نازل بين ظَهْرَانَيْهِمْ -بفتح النون- قال ابن فارس: ولا تُكسَر، وقال
(1)
"المصباح المنير" 2/ 553.
جماعة: الألف، والنون زائدتان للتأكيد، وبين ظَهْرَيْهِمْ، وبين أَظْهُرِهِمْ، كلها بمعنى: بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام، أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار بهم، والاستناد إليهم، وكأن المعنى أن ظَهْرًا منهم قُدَّامه، وظَهْرًا وراءه، فكأنه مكنوف من جانبيه، هذا أصله، ثم كَثُر، حتى استُعْمِل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "أظهرنا" مُقْحَم، وقد يُوَجَّه عدم إقحامه، وهو أنه جَمْع ظَهْر، ومعناه أنه بينهم على سبيل الاستظهار، كأن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا وراءه، فهو مكنوف من جانبيه؛ إذا قيل:"بين ظهرانيهم"، ومن جوانبه، إذا قيل:"بين أظهرهم". انتهى
(2)
.
(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه (فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِم) كنيته صلى الله عليه وسلم، (إِنَّ لِي ذِمَّةً) بكسر الذال المعجمة؛ أي: عهدًا، فقوله:(وَعَهْدًا) عَطْف تفسير؛ يعني: أن لي مع المسلمين عهدًا أن لا يؤذونني، فَلِمَ أُخْفَر ذمتي، ويُنقض عهدي باللطم؟
وقال الأبيّ رحمه الله: قوله: "إن لي ذمّةً وعهدًا" قاله تمهيدًا، وتوطئةً لشكواه. انتهى
(3)
.
(وَقَالَ: فُلَانٌ)؛ يعني: الرجل المسلم (لَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) للمسلم اللاطم ("لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ ") قال الأبيّ رحمه الله: هذا إن كان سؤالًا عن وقوع اللطم، فهو الأصل؛ أعني: سؤال المدَّعَى عليه أَوّلًا، هل يُقِرّ، أو يُنكِر؟ وإن كان عن سبب اللطم، فهو الأظهر للقرائن الدالّة على أنه لَطَمه، أو لإقرار الصحابيّ بذلك، وإلا فلا يُقبل قول اليهوديّ. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فلا يُقبل
…
إلخ" فيه نظر؛ لأنه خلاف ما أفاده ظاهر الحديث، فليُتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) اللاطم: (قَالَ)؛ يعني: اليهوديّ، وقوله:(يَا رَسُولَ اللهِ) جملة معترضة بين القول ومقوله، وهو قوله:(وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْبَشَرِ)
(1)
"المصباح المنير" 2/ 387.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 4.
(3)
"شرح الأبّيّ" 6/ 165.
(4)
"شرح الأبّيّ" 6/ 165 - 166.
وقوله: (وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا) جملة في محل نصب على الحال، وفي رواية إبراهيم بن سعد:"فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلم، فسأله عن ذلك، فأخبره"، وفي حديث أبي سعيد:"فقال: ادعوه لي، فجاء، فقال: أضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف"، فذكر القصة.
(قَالَ) أبو هريرة (فَغَضِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى عُرِفَ) بالبناء للمفعول، (الْغَضَبُ)؛ أي: أَثَره، من الاحمرار ونحوه، (فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم، قال الأبيّ رحمه الله: الرجل إنما قام بتغيير منكر في اعتقاده، لاسيّما أَنْ فَهِم عن اليهوديّ أنه عرّض بغير موسى، وحينئذ فغضبه صلى الله عليه وسلم يَحْتَمِل؛ لأنَّ المسألة علميّة، وقد تتوقّف على أمور لا يعلمها إلَّا العلماء، وما كان كذلك فالتغيير فيه مصروف إلى الإمام، فلما افتات عليه غَضِب، ويَحْتَمِل؛ لأنه فضّل النبيّ صلى الله عليه وسلم تفضيلًا يؤدّي إلى اهتضام موسى عليه السلام، ويَحْتَمِل؛ لأنه عَدَلَ عن وجه التغيير؛ لأنَّ التغيير إنما يكون أَوّلًا بالقول.
[فإن قلت]: لا يتعيّن في اليهوديّ أن يكون أتى منكرًا؛ لاحتمال أن يكون مستنَده في التفضيل أن عندهم في التوراة ما هو بمعنى ما هو في القرآن من قوله تعالى: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} الآية [الأعراف: 144].
[والجواب]: أنه وإن سُلّم ذلك فهو عامّ، والعمل بالعامّ قبل البحث عن المخصّص منكَر. انتهى كلام الأبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "والعمل بالعامّ
…
إلخ" هذا خلاف المرجّح في الأصول؛ إذ الصحيح أنه يُعمل بالعام قبل البحث عن المخصّص، وإليه أشرت في "التحفة المرضيّة"، حيث قلت:
وَالْحَقُّ أَن الْعَامَ مَحْمُولٌ عَلَى
…
عُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ حَصَلَا
وَإِنْ أَتَى مُخَصِّصٌ صَحَّ عُمِلْ
…
بهِ وَإِنْ فِي رُتْبَةٍ كَانَ سَفِلْ
فراجعها مع شرحها "المِنحة الرضيّة"
(2)
تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"شرح الأبيّ" 6/ 166.
(2)
راجع: "المنحة الرضيّة" 3/ 282 - 283.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)
(1)
، وفي الرواية التالية:"لا تخيّروني على موسى"، وفي حديث أبي سعيد:"لا تخيّروا بين الأنبياء".
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مُتَأَوَّلٌ؛ لأنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقين فيَحْتَمِل أن هذا الكلام قبل أن يَعلم أنه أفضلُ، فلما علمِ قال:"أنا سيد ولد آدم"، ويَحْتَمِل أن يكون قاله تواضعًا، ويَحْتَمِل أن يكون نهَى عن تخييرٍ يؤدي إلى الخصومة والفتنة، ويَحْتَمل أن النهي عن تخيير يؤدي إلى الإزراء ببعضهم، ويَحْتَمِل: لا تخيّروني في نفس النبوة، فإنها لا تتفاوت، وإنما الفضائل بأمور أخرى معها. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله نقلًا عن التوربشتيّ رحمه الله: قوله: "لا تخيّروني على موسى"؛ أي: لا تفضّلوني عليه، وهذا قولٌ قاله على سبيل التواضع أوّلًا، ثم لِرَدْع أمته عن التخيير بين أنبياء الله من تلقاء أنفسهم ثانيًا، فإن ذلك يفضي بهم إلى العصبيّة، فينتهز الشيطان عند ذلك فُرصة، فيدعوهم إلى الإفراط والتفريط، فيُطرون الفاضل فوق حقّه، ويَبخسون المفضول حقّه، فيقعون في مَهواة الغيّ، ولهذا قال:"لا تخيّروا بين الأنبياء"؛ أي: لا تُقدِموا على ذلك بأهوائكم وآرائكم، بل بما آتاكم من الله من البيان، وعلى هذا النحو قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ولا أقول إن أحدًا خير من يونس بن متّى"؛ أي: لا أقول من تلقاء نفسي، ولا أفضّل أحدًا عليه من حيث النبوّة والرسالة، فإن شأنهما لا يختلف باختلاف الأشخاص، بل أقول: كلُّ من أُكرم بالنبوّة، فإنهم سواء فيما جاءوا به عن الله تعالى، وإن اختلفت مراتبهم، وكذلك من أُكرم بالرسالة، وإليه
(1)
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لا تفضّلوا بين أنبياء الله" بالصاد المهملة ظاهر؛ أي: لا تفرّقوا بينهم، وبالضاد المعجمة؛ معناه: لا توقعوا الفضل بين أنبياء الله؛ أي: لا تفضّلوا بعض الأنبياء على بعض، نحو قوله تعالى:{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94]؛ أي: وقع التقطّع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين، تريد: أوقع الجمع بينهما. انتهى. "الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3610.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بالصاد المهملة" يحتاج إلى ثبوت الرواية به، فإن الروايات في الكتب عندنا بالضاد المعجمة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"تهذيب الأسماء واللغات" 2/ 420.
وقعت الإشارة بقوله سبحانه وتعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
وإنما خَصّ يونس عليه السلام بالذِّكر من بين الرسل؛ لِمَا قصّ الله عليه في كتابه من أمْر يونس، وتولّيه عن قومه، وضجره عند تثبّطهم في الإجابة، وقلّة الاحتمال، والاحتفال بهم حين أرادوا التنصّل، فقال عز وجل:{وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]، وقال:{وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142]، فلم يأمَن صلى الله عليه وسلم أن يُخامر بواطن الضعفاء من أمته ما يعود إلى نقيصة في حقّه، فنبّههم أن ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله، وأنه مع ما كان من شأنه كسائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين. انتهى ما ذكره الطيبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ
(1)
.
وقال في "العمدة": معناه: لا تفضلوا بعضًا بحيث يلزم منه نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والنزاع، أو لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم مطلقًا؛ إذ الإمام أفضل من المؤذِّن مطلقًا، وإن كانت فضيلة التأذين غير موجودة فيه، أو لا تفضلوا من تلقاء أنفسكم وأهوائكم.
[فإن قلت]: نَهَى صلى الله عليه وسلم عن التفضيل، وقد فَضّل هو بنفسه موسى عليه السلام.
[قلت]: لَمْ يُفَضِّل؛ إذ معناه: وأنا لا أدري أن هذا البعث فضيلة له، أم لا؟ أو جاز له ما لَمْ يجز لغيره.
[فإن قلت]: السياق يقتضي تفضيل موسى على النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[قلت]: لئن سلّمنا لا يقتضي إلَّا تفضيله بهذا الوجه، وهذا لا ينافي كونه أفضل مطلقًا من موسى عليه السلام. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تفضلوا بين الأنبياء"؛ أي: لا تقولوا فلان أفضل من فلان، وفي الرواية الأخرى:"لا تخيّروا بين الأنبياء"؛ أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان، يقال: خيَّر فلان بين فلان وفلان، وفضَّل -مشدَّدًا-: إذا قال ذلك.
واختَلَف العلماء في تأويل هذا الحديث على أقوال، فمنهم من قال: إن
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3609.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 4.
هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، ويتضمَّن هذا الكلام أن الحديث معارض لقوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ولِمَا في معنى ذلك من الأحاديث، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وهذا لا يصح حتى تتحقق المعارضة حيث لا يمكن الجمع بوجه، وحتى يُعرف التاريخ، وكل ذلك غير صحيح على ما يأتي، فليس هذا القول بصحيح.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم على جهة التواضع، والأدب مع الأنبياء، وهذا فيه بُعدٌ؛ لأنَّ السبب الذي خرج عليه هذا النهي يقتضي خلاف ذلك، فإنَّه إنما قال ذلك ردعًا وزجرًا للذي فضَّل، ألا ترى أنه قد غَضِب عليه حتى احمّر وجهه، ونهى عن ذلك، فدلَّ على أنَّ التفضيل يحرم، ولو كان من باب الأدب والتواضع لَمَا صدر منه ذلك.
ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك؛ لأنَّ ذلك ذريعة إلى الجدال في ذلك، فيؤدي إلى أن يُذكر منهم ما لا ينبغي أن يُذكر، ويقلّ احترامهم عند المماراة، وهذا كما نهي عنه من الجدال في القرآن والمماراة.
ومنهم من قال: مقتضى هذا النهي: إنما هو المنع من تفضيل معيَّن من الأنبياء على معيَّن، أو على ما يقصد به معيَّن، وإن كان اللفظ عامًا؛ لأنَّ ذلك قد يُفهم منه نقص في المفضول كما بيَّنَّاه، فيما تقدَّم.
قال القرطبيّ: ويدلّ على ذلك أنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث في مسلم: "لا تفضلوني على موسى عليه السلام، وبدليل قوله: "ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متّى".
[فإنْ قيل]: فالحديث يدلّ على خلاف هذا، فإنَّ اليهوديّ فضّل موسى على البشر، والمسلم قال: والذي اصطفى محمدًا على البشر، وعند ذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوا بين الأنبياء"، و"لا تخيروا بين الأنبياء"؛ فاقتضى ذلك المنع من التفضيل مطلقًا معيّنًا، وغير معيّن.
[فالجواب]: أن مراد اليهوديّ كان إذ ذاك أن يصرّح بأن موسى أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم، لكنَّه لَمْ يَقْدِر على ذلك خوفًا على نفسه، إلا ترى أن المسلم فهم ذلك عنه، فأجابه بما يقتضي أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من موسى عليه السلام، غير أنه قابل لفظ اليهوديّ بمثله، وقد بيَّن ذلك غاية البيان قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوني على
موسى"، فنهاهم عن ذلك، ثم إنا قد وجدنا نبيَّنا صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أكرم ولد آدم على ربي"، و"أنا سيد ولد آدم"، ولم يذهب أحدٌ من العلماء إلى أن هذا منسوخ، ولا مرجوح.
قال القرطبيّ: وهذا الوجه، وإن كان حسنًا، فأَولى منه أن يُحْمَل الحديث على ظاهره من منع إطلاق لفظ التفضيل بين الأنبياء، فلا يجوز في المعيَّن منهم، ولا في غيره، فلا يقال: فلان النبي أفضل من الأنبياء كلهم، ولا من فلان، ولا خير، كما هو ظاهر هذا النهي، لِمَا ذُكر من توهّم النقص في المفضول، وإن كان غير معيَّن؛ ولأن النبوة خصلة واحدة لا تفاضل فيها؛ وإنَّما تفاضلوا بأمور غيرها كما بيَّناه قبل هذا الباب.
ثم إن هذا النهي يقتضي منع إطلاق ذلك اللفظ، لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإنَّ الله تعالى قد أخبرنا بأن الرسل متفاضلون، كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، وكما قد علمنا أن نبيّنا قد خُصَّ بخصائص من الكرامات والفضائل بما لَمْ يُخصّ به أحدٌ منهم، ومع ذلك فلا نقول: نبيّنا خير من الأنبياء، ولا من فلان النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نهى عنه، وتأدبًا بأدبه، وعملًا باعتقاد ما تضمّنه القرآن من التفضيل، ورفعًا لِمَا يُتوهّم من المعارضة بين السُّنَّة والتنزيل. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح قول من قال: إن النهي إنما هو عن التفضيل الذي يلزم منه نقص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والنزاع، وهذا هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
(فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الذي تفسّره جملة بعده، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَـ"إِنَّهُ زَيْدٌ قَرَى"
(يُنْفَخُ) بالبناء للمفعول، (فِي الصُّورِ) قيل: إنه جمع صورة، والصحيح ما قد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الصُّور قرن يُنفخ فيه"، وسيأتي له مزيد بيان، واختُلِف في عدد النفخات، فقيل: ثلاثة: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة
(1)
"المفهم" 6/ 228 - 231.
البعث، وقيل: هما نفختان: نفخة الفزع هي نفخة الصعق؛ لأنَّ الأمرين لا زمان لها، والله تعالى أعلم، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(فَيَصْعَقُ) بفتح أوله وثالثه، يقال: صَعِق صَعَقًا، من باب تَعِبَ: إذا مات، وصَعِقَ أيضًا: إذا غُشِيَ عليه لصوت سَمِعه، ذكره الفيّوميّ
(2)
، وقال في "الفتح": والمراد بالصعق: غَشْيٌ يَلحَق من سمع صوتًا، أو رأى شيئًا يُفْزَع منه. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل الصعق، والصعقة: الصوت الشديد المنكر، كصوت الرعد، وصوت الحمار، وقد يكون معه موت؛ لشدَّته، وهو المراد بقوله:{فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية [الزمر: 68]، وقد تكون معه غشية، وهو المراد بقوله تعالى:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143]، فإنْ كان معه نار فهو: الصاعقة، والعرب كلها تقدم العين على القاف، إلَّا بني تميم؛ فإنَّهم يقدمون القاف على العين، فيقولون: الصاقعة، حكاها القاضي عياض. انتهى
(4)
.
(مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ) قد اختُلِف في المستثني، من هو؟ فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وقيل: الشهداء، قال القرطبيّ رحمه الله: والصحيح أنه لَمْ يَرِد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل، والله تعالى أعلم. انتهى
(5)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أخْرَى)؛ أي: نفخة أخرى، (فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُحيي من صَعْقته، وفي الرواية التالية:"فأكون أول من يُفيق"، قال في "الفتح": لَمْ تختلف الروايات في "الصحيحين" في إطلاق الأولية، ووقع في رواية إبراهيم بن سعد عند أحمد، والنسائيّ:"فأكون في أول من يفيق"، أخرجه أحمد، عن أبي كامل، والنسائي من طريق يونس بن محمد، كلاهما عن إبراهيم، فعُرف أن إطلاق الأولية في غيرها محمول عليها،
(1)
"المفهم" 6/ 231.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 340.
(3)
"الفتح" 8/ 10.
(4)
"المفهم" 6/ 231.
(5)
"المفهم" 6/ 231.
وسببه التردد في موسى عليه السلام، كما سيأتي، وعلى هذا يُحْمَل سائر ما ورد في هذا الباب، كحديث أنس عند مسلم، رفعه:"أنا أول من تنشق عنه الأرض"، وحديث عبد الله بن سلام عند الطبرانيّ. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَوْ فِي أَوَّلِ مَنْ بُعِثَ) قال القرطبيّ: هذا شكّ من الراوي تزيله الرواية الأخرى التي قال فيها: "فأكون أول من يُفيق"، وكذلك الحديث المتقدم الذي قال فيه:"أنا أول من ينشق عنه القبر، ويُبعث"؛ يعني به: يُحيا بعد موته، وهو الذي عبَّر عنه في الرواية الأخرى بـ"أفيق"، وإن كان المعروف أن الإفاقة إنما هي من الغشية، والبعث من الموت؛ لكنهما لِتقارُب معناهما أطلق أحدهما مكان الآخر، ويَحْتَمِل أن يراد بالبعث الإفاقة على ما يأتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى-. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": هذه الرواية ظاهرة في أن الإفاقة بعد النفخة الثانية، وأصرح من ذلك رواية الشعبيّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه في "تفسير الزمر" بلفظ:"إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة"، وأما ما وقع في حديث أبي سعيد:"فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض"، كذا وقع بهذا اللفظ في "كتاب الإشخاص" من البخاريّ، ووقع في غيرها:"فأكون أول من يُفيق".
وقد استُشْكِل، وجزم المزيّ فيما نقله عنه ابن القيم في "كتاب الروح" أن هذا اللفظ وَهَمٌ من راويه، وأن الصواب ما وقع في رواية غيره:"فأكون أول من يفيق"، وأن كونه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر، ليس فيه قصة موسى عليه السلام. انتهى.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق، أحيائهم وأمواتهم، وهو: الفزع، كما وقع في "سورة النمل":{فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الآية [النمل: 87]، ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه، وللأحياء موتًا، ثم ينفخ الثانية للبعث، فيفيقون أجمعين، فمن كان مقبورًا انشقت عنه الأرض، فخرج من قبره، ومن ليس بمقبور لا
(1)
"الفتح" 8/ 12.
(2)
"المفهم" 6/ 231 - 232.
يحتاج إلى ذلك، وقد ثبت أن موسى عليه السلام ممن قُبر في الحياة الدنيا، ففي "صحيح مسلم" أنس رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: مَرَرتُ على موسى ليلة أُسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره"، أخرجه عقب حديث أبي هريرة، وأبي سعيد المذكورين، ولعله أشار بذلك إلى ما قررته. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: قد استُشكِل كون جميع الخلق يَصعقون، مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل: المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأما الموتى فهم في الاستثناء في قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]؛ أي: إلَّا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يُصعق، وإلى هذا جنح القرطبيّ، ولا يعارضه ما ورد في هذا الحديث أن موسى عليه السلام ممن استثنى الله؛ لأنَّ الأنبياء أحياء عند الله، وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء، ولا شك أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء، وورد التصريح بأن الشهداء ممن استثنى الله، أخرجه إسحاق بن راهويه، وأبو يعلى، من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عياض: يَحْتَمِل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث، حين تنشق السماء والأرض، وتعقّبه القرطبيّ بأنه صرّح صلى الله عليه وسلم بأنه حين يخرج من قبره يَلْقَى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى، ويردّه قوله صريحًا كما تقدم:"إن الناس يصعقون، فأصعق معهم. . ." إلى آخر ما تقدم قال: ويؤيده أنه عَبَّر بقوله: "أفاق"؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي، وبُعث من الموت، وكذا عبّر عن صعقة الطور بالإفاقة؛ لأنَّها لَمْ تكن موتًا بلا شكّ، وإذا تقرر ذلك كله ظهر صحة الحمل على أنَّها غشية تحصل للناس في الموقف، هذا حاصل كلامه، وتعقُّبه. انتهى
(2)
.
(فَإِذَا مُوسَى عليه السلام آخِذٌ بِالْعَرْشِ)، وفي الرواية التالية:"فإذا موسى باطش بجانب العرش"؛ أي: آخذ بشيء من العرش بقوّة، والبطش: الأخذ بقوّة، وفي
(1)
"الفتح" 8/ 10 - 11.
(2)
"الفتح" 8/ 11 - 12.
حديث أبي سعيد: "آخذ بقائمة من قوائم العرش"، وكذا في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإذا موسى آخذ بالعرش" هذا من موسى تعلُّق فَزَع لهول المطلع، وكأنه متحرِّم بذلك المحلّ الشريف، ومتمسِّك بالفضل المنيف
(1)
.
(فَلَا أَدْرِي، أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّور، أَو بُعِثَ قَبْلِي؟)، وفي الرواية التالية:"فلا أدري، أكان ممن صَعِقَ فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله"؛ أي: فلم يكن ممن صَعِق؛ أي: فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله، فلم يُصعق فهي فضيلة أيضًا.
ووقع في حديث أبي سعيد: "فلا أدري كان فيمن صُعق"؛ أي: فأفاق قبلي، أم حوسب بصعقته الأولى؛ أي: التي صَعِقها لمّا سأل الرؤية، وبيّن ذلك ابن الفضل في روايته، بلفظ:"أحوسب بصعقته يوم الطور".
قال النوويّ: الصعق، والصعقة: الهلاك، والموت، ويقال منه: صَعِق الإنسانُ، وصُعِق، بفتح الصاد، وضمّها، وأنكر بعضهم الضم، وصَعَقتهم الصاعقة، بفتح الصاد والعين، وأصعقتهم، وبنو تميم يقولون: الصاقعة بتقديم القاف. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا أدري أحوسب بصعقة الطور، أو بعث قبلي؟ " هذا مشكل بالمعلوم من الأحاديث الدَّالة على أنَّ موسى صلى الله عليه وسلم، قد توفي وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد رآه في قبره، وبأن المعلوم المتواتر أنه تُوُفّي بعد أن ظهر دينه، وكثرت أمَّته، ودُفن بالأرض، ووجه الإشكال أن نفخة الصَّعق إنما يموت بها من كان حيًّا في هذه الدار، فأمَّا من مات فيستحيل أن يموت مرّة أخرى؛ لأنَّ الحاصل لا يستحصل، ولا يُبتغَى؛ وإنما ينفخ في الموتى نفخة البعث، وموسى قد مات، فلا يصحُّ أن يموت مرَّة أخرى، ولا يصحُّ أن يكون مستثنى ممن صُعق؛ لأنَّ المُسْتَثْنِين أحياء لَمْ يموتوا، ولا يموتون، فلا يصحُّ استثناؤهم من الموتى، وقد رام بعضهم الانفصال عن هذا الإشكال، فقال: يَحْتَمِل أن
(1)
"المفهم" 6/ 233.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 130.
يكون موسى ممن لَمْ يمت من الأنبياء، وهذا قول باطل قطعًا بما ذكرناه، قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن المراد بهذه الصعقة: صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرضون، قال: فتستقل الأحاديث والآيات.
قال القرطبيّ: وهذه غفلة عن مساق الحديث؛ فإنَّه يدلّ على بطلان ما ذكر دلالة واضحة، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنه حين يخرج من القبر، فيلقى موسى، وهو متعلق بالعرش، وهذا كان عند نفخة البعث، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم عندما يرى موسى يقع له تردد في موسى على ظاهر هذا الحديث، هل مات عند نفخة الصعق المتقدِّمة على نفخة البعث؟ فيكون قد بُعث قبله، أو لَمْ يمت عند نفخة الصعق لأجل الصعقة التي صعقها على الطور، جُعلت له تلك عوضًا من هذه الصعقة؟ وعلى هذا فكان حيًّا حالة نفخة الصعق، ولم يُصعق، ولم يمت، وحينئذ يبقى الإشكال؛ إذ لَمْ يحصل عنه انفصال.
قال القرطبيّ: والذي يُزيحه -إن شاء الله تعالى- أن يقال: إن الموت ليس بعدم؛ وإنَّما هو انتقال من حالٍ إلى حال، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدَّم، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قَتْلهم، وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين مستبشرين، فهذه صفات الأحياء في الدُّنيا، وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحقّ وأَولي، مع أنه قد صحَّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء"، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس، وفي السماء، وخصوصًا بموسى صلى الله عليه وسلم، وقد أخبرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بما يقتضي أن الله تعالى يَرُدّ عليه روحه حتى يردّ السلام على كل من يسلِّم عليه، إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى، وهو كثير بحيث يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أنهم غُيِّبوا عنا، بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة، فإنَّهم موجودون أحياء، ولا يراهم أحدٌ من نوعنا إلَّا من خصَّه الله بكرامة من أوليائه، وإذا تقرر أنهم أحياء، فهم فيما بين السماء والأرض، فإذا نُفخ في الصور نفخة الصعق صُعق كل من في السماوات والأرض، إلَّا من شاء الله، فأمَّا صَعْق غير الأنبياء فموت، وأما صعق الأنبياء، فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي، ومن غُشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "فأكون أول
من يفيق"، وهي رواية صحيحة، وحسنة، فهذا الذي ظهر لي، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد تحصَّل من هذا الحديث أن نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم مُحَقَّقٌ أنه أول من يُفيق، وأول من يخرج من قبره قبل الناس كلهم؛ الأنبياءِ وغيرهم، إلَّا موسى صلى الله عليه وسلم، فإنَّه حصل له فيه تردد، هل بُعث قبله، أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق؟ وعلى أي الحالين كان، فهي فضيلة عظيمة لموسى صلى الله عليه وسلم ليست لغيره. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": والجمع بينه وبين قوله: "أو كان ممن استثنى الله" أن في رواية ابن الفضل، وحديث أبي سعيد بيانَ السبب في استثنائه، وهو أنه حوسب بصعقته يوم الطور، فلم يُكَلَّف بصعقة أخرى، والمراد بقوله:"ممن استثنى الله" قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} .
وأغرب الداودي الشارح، فقال: معنى قوله: "استثنى الله"؛ أي: جعله ثانيًا، كذا قال، وهو غلط شنيع.
وقد وقع في مرسل الحسن في "كتاب البعث" لابن أبي الدنيا في هذا الحديث: "فلا أدري، أكان ممن استثنى الله أن لا تصيبه النفخة، أو بُعِث قبلي؟ ".
وزعم ابن القيم في "كتاب الروح" أن هذه الرواية، وهو قوله:"أكان ممن استثنى الله" وهَمٌ من بعض الرواة، والمحفوظ:"أو جوزي بصعقة الطور"، قال: لأنَّ الذين استثنى الله قد ماتوا من صعقة النفخة، لا من الصعقة الأخرى، فظنّ بعض الرواة أن هذه صعقة النفخة، وأن موسى داخل فيمن استثنى الله، قال: وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإفاقة حينئذ هي: إفاقة البعث، فلا يحسن التردد فيها، وأما الصعقة العامة، فإنها تقع إذا جمعهم الله تعالى لفصل القضاء، فيصعق الخلق حينئذ جميعًا، إلَّا من شاء الله، ووقع التردد في موسى عليه السلام. قال: ويدل على ذلك قوله: "فأكون أول من
(1)
"المفهم" 6/ 232 - 234.
يفيق"، وهذا دالّ على أنه ممن صَعِق، وتردد في موسى، هل صعق، فأفاق قبله، أم لَمْ يصعق؟ قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى للزم أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم جزم بأنه مات، وتردد في موسى، هل مات أم لا؟ والواقع أن موسى قد كان مات، لِمَا تقدم من الأدلة، فدل على أنَّها صعقة فَزَع، لا صعقة موت، والله أعلم.
ووقع في رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عند ابن مردويه:"أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأنفض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش، فأجد موسى قائمًا عندها، فلا أدري أَنَفَض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟ ".
ويَحْتَمِل قوله في هذه الرواية: "أنفض التراب قبلي" تجويز المعية في الخروج من القبر، أو هي كناية عن الخروج من القبر، وعلى كل تقدير، ففيه فضيلة لموسى عليه السلام، كما تقدم. انتهى
(1)
.
[تكميل]: زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع:
الأولى: نفخة إماتة، يموت فيها من بقي حيًّا في الأرض.
والثانية: نفخة إحياء، يقوم بها كل ميت، وينشرون من القبور، ويجمعون للحساب.
والثالثة: نفخة فزع، وصَعْق، يفيقون منها؛ كالمغشي عليه، لا يموت منها أحد.
والرابعة: نفخة إفاقة من ذلك الغشي.
قال الحافظ: وهذا الذي ذكره من كون الثنتين أربعًا ليس بواضح، بل هما نفختان فقط، ووقع التغاير في كل واحدة منهما باعتبار من يستمعها، فالأُولى يموت بها كل من كان حيًّا، ويغشى على من لَمْ يمت، ممن استثنى الله، والثانية يعيش بها من مات، ويفيق بها من غُشي عليه، والله تعالى أعلم
(2)
.
(وَلَا أَقُولُ: إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام")، وفي حديث ابن
(1)
"الفتح" 8/ 12 - 13.
(2)
"الفتح" 8/ 13.
مسعود رضي الله عنه: "لا يقولنّ أحدكم: إني خير من يونس بن متّى"، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"لا ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متّي، ونسبه إلى أبيه"، ووقع في حديث عبد الله بن جعفر عند الطبرانيّ بلفظ:"لا ينبغي لنبيّ أن يقول. . ." إلخ، قال في "الفتح": وهذا يؤيد أن قوله في الطريق الأُولى: "إني" المراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للطبراني في حديث ابن عباس:"ما ينبغي لأحد أن يقول: أنا عند الله خير من يونس"، وفي رواية للطحاويّ:"سبَّح الله في الظلمات"، فأشار إلى جهة الخيرية المذكورة.
قال ابن مالك رحمه الله: استَعمل في هذا الحديث "أحدًا" في الإثبات لمعنى العموم؛ لأنه في سياق النفي، كأنه قيل: لا أحد أفضل من يونس، والشيء قد يُعطى حكم ما هو في معناه، وإن اختَلَف في اللفظ، فمن ذلك قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} الآية [الأحقاف: 33]، فأجرى في دخول الباء على الخبر مجرى {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} الآية [يس: 81]؛ لأنه بمعناه.
قال: ومن إيقاع "أحد" في الإيجاب المؤوّل بالنفي قول الفرزدق:
وَلَوْ سُئِلَتْ عَنِّي نَوَارِ وَأَهْلُهَا
…
إِذَا أَحَدٌ لَمْ تَنْطِقِ الشَّفَتَانِ
فإن "أحد" وإن وقع مثبتًا، لكنه في الحقيقة منفيّ؛ لأنه مؤخّر معنى، كأنه قال: إذا لَمْ ينطق أحد. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: يونس بن مَتّى -بفتح الميم، وتشديد المثناة، مقصورًا- ومتّى اسم أبيه، ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، وهو مردود بما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"ونسبه إلى أبيه"، فهذا أصح، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نَسَبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس. انتهى
(2)
.
قال العلماء: إنما قال ذلك تواضعًا، إن كان قاله بعد أن أُعلم أنه أفضل الخلق، وإن كان قاله قبل عِلمه بذلك، فلا إشكال، وقيل: خَصّ يونس
(1)
"شواهد التوضيح" ص 216، و"الكاشف عن حقائق السُّنن" 11/ 3610.
(2)
"الفتح" 6/ 451.
بالذِّكر؛ لِمَا يُخْشَى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذِكر فَضْله، لسدّ هذه الذريعة. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متّى"، وفي رواية:"إن الله تعالى قال: لا ينبغي لعبد لي يقول: أنا خير من يونس بن متّى"، وفي رواية:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لعبد يقول: أنا خير من يونس بن متّى"، قال العلماء: هذه الأحاديث تَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلمّا عَلِم ذلك قال:"أنا سيد ولد آدم"، ولم يقل هنا: إن يونس أفضل منه، أو من غيره من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-.
والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجرًا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئًا من حطِّ مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُطّه من النبوة مثقال ذرّة، وخَصَّ يونس بالذِّكر؛ لِمَا ذكرناه، مِن ذِكره في القرآن بما ذُكِر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس"، فالضمير في "أنا" قيل: يعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعود إلى القائل؛ أي: لا يقول ذلك بعض الجاهلين، من المجتهدين في عبادة، أو عِلم، أو غير ذلك من الفضائل، فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لَمْ يبلغ درجة النبوة، ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله، وهي قوله تعالى:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: روى قصةَ يونس عليه السلام هذه السّدّيُّ رحمه الله في "تفسيره" بأسانيده عن ابن مسعود وغيره: أن الله بعث يونس إلى أهل نِينَوَي، وهي: من أرض الموصل، فكذّبوه، فوعدهم بنزول العذاب في وقت معيَّن، وخرج عنهم مغاضبًا لهم، فلمّا رأوا آثار ذلك خَضَعوا، وتضرعوا، وآمنوا، فرحمهم الله، فكشف عنهم العذاب، وذهب يونس، فركب سفينةً، فلججت به، فاقترعوا فيمن يطرحونه منهم، فوقعت القرعة عليه ثلاثًا، فالتقمه الحوت.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 132 - 133.
ورَوَى ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود، بإسناد صحيح إليه، نحو ذلك، وفيه:"وأصبح يونس، فأشرف على القرية، فلم ير العذاب وقع عليهم، وكان في شريعتهم مَن كَذَب قُتل، فانطلق مغاضبًا حتى ركب سفينة -وقال فيه-: فقال لهم يونس: إن معهم عبدًا آبقًا من ربه، وإنها لا تسير حتى تلقوه، فقالوا: لا نُلقيك يا نبي الله أبدًا، قال: فاقترعوا، فخرج عليه ثلاث مرات، فألقوه، فالتقمه الحوت، فبلغ به قرار الأرض، فسمع تسبيح الحصي، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} الآية [الأنبياء: 87] ".
ورَوَى البزار، وابن جرير، من طريق عبد الله بن نافع، عن أبي هريرة، رفعه:"لمّا أراد الله حَبْس يونس في بطن الحوت، أمر الله الحوت أن لا يكسر له عظمًا، ولا يَخْدِش له لحمًا، فلما انتهى به إلى قعر البحر سبَّح الله، فقالت الملائكة: يا ربنا إنا نسمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة، قال: ذاك عبدي يونس، فشفعوا له، فأمر الحوت، فقذفه في الساحل -قال ابن مسعود-: كهيئة الفرخ، ليس عليه ريش".
وروى ابن أبي حاتم من طريق السديّ، عن أبي مالك، قال:"لبث في بطن الحوت أربعين يومًا"، ومن طريق جعفر الصادق، قال:"سبعة أيام"، ومن طريق قتادة، قال:"ثلاثًا"، ومن طريق الشعبيّ، قال:"التقمه ضُحًى، ولَفَظَه عشية". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6132 و 6133 و 6134 و 6135](2373)، و (البخاريّ) في "الخصومات"(2411) و"الأنبياء"(3408 و 3414) و"التفسير"(4813) و"الرقاق"(6517 و 6518)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4671)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3245)، و (النسائيّ) في "الكبرى" (4/ 418 و 6/
(1)
"الفتح" 6/ 452.
448)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4274)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2366)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 450 - 451)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6238 و 7311)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 171)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 315)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 149 - 150)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4671)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض، قال العلماء: نهيه صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء إنما هو إذا كان ممن يقوله بالرأي والهوي، لا من يقوله بدليل، أو من يقوله بحيث يؤدي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد: لا تفضلوا بجميع أنواع الفضائل، بحيث لا يترك للمفضول فضيلة، فالإمام مثلًا؛ إذا قلنا: إنه أفضل من المؤذن، لا يستلزم نقص فضيلة المؤذن بالنسبة إلى الأذان، وقيل: النهي عن التفضيل إنما هو في حق النبوة نفسها؛ كقوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} الآية [البقرة: 285]، ولم ينه عن تفضيل بعض الذوات على بعض؛ لقوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [البقرة: 253]، وقال الحليميّ: الأخبار الواردة في النهي عن التخيير إنما هي في مجادلة أهل الكتاب، وتفضيل بعض الأنبياء على بعض بالمخايرة؛ لأنَّ المخايرة إذا وقعت بين أهل دينين لا يؤمَن أن يخرج أحدهما إلى الازدراء بالآخر، فيفضي إلى الكفر، فأما إذا كان التخيير مستندًا إلى مقابلة الفضائل؛ لتحصيل المرجحان، فلا يدخل في النهي، قاله في "الفتح".
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال التوضع، وكمال الاحترام لإخوانه الأنبياء -صلوات الله، وسلامه عليهم- فكان يحترمهم ويُجلّهم، ويدافع عنهم، مع أنه سيّدهم، وإمامهم، وحامل لواء الحمد، فآدم ومَن دونه كلهم تحت لوائه صلى الله عليه وسلم، وهو المراد في قوله عز وجل:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
3 -
(ومنها): أن فيه بيان فضيلة موسى عليه السلام، حيث اختصّ بهذه
الفضيلة، وقد يختصّ المفضول بما ليس في الأفضل، ولا يكون بسببها مساويًا له، ولا أفضل منه.
4 -
(ومنها): استعداء الذمي على المسلم، ورَفْعه إلى الحاكم، وسماع الحاكم دعواه.
5 -
(ومنها): تَعَلُّم من لَمْ يعرف الحكم ما خفي عليه منه، والاكتفاء بذلك في حقّ المسلم.
6 -
(ومنها): ما قاله الأبّيّ رحمه الله: فيه القول بالعموم، وأن العامّ في الأشخاص عامّ في الأزمنة، والأمكنة، والأحوال؛ لأنَّ الصحابيّ العربيّ فَهِم ذلك، وأقرّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): أن الذميّ إذا أقدم على القول بما لا علم له به، جاز للمسلم المعروف بالعلم تعزيره على ذلك، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في بيان الاختلاف في إسناد هذا الحديث:
قال في "الفتح" عند قوله: "أخبرني أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، وسعيد بن المسيِّب" ما حاصله: كذا قال شعيب، عن الزهريّ، وتابعه محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، وقال إبراهيم بن سعد: عن الزهريّ، عن أبي سلمة، والأعرج، قال: والحديث محفوظ للزهري على الوجهين، وقد جمع البخاريّ بين الروايتين في "التوحيد" إشارةً إلى ثبوت ذلك عنه على الوجهين، وله أصل من حديث الأعرج، من رواية عبد الله بن الفضل عنه -يعني: رواية مسلم هذه- ومن طريق أبي الزناد عنه، ومن طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، من طريق محمد بن عمرو عنه، ورواه مع أبي هريرة أبو سعيد. انتهى
(2)
.
وفي "العلل" للدارقطنيّ رحمه الله ما نصّه:
(1417)
- وسئل -يعني: الدارقطنيّ- عن حديث سعيد، وأبي سلمة، والأعرج، عن أبي هريرة:"استبّ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود. . ." الحديث، فقال: يرويه الزهريّ، واختُلِف عنه، فرواه شعيب بن أبي حمزة،
(1)
"شرح الأبيّ" 6/ 165.
(2)
"الفتح" 6/ 443.
وعُقيل، ومحمد بن أبي عتيق، عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سعيد، عن أبي هريرة، وخالفهم إبراهيم بن سعد، فرواه عن الزهريّ، عن أبي سلمة، وعبد الرَّحمن الأعرج، عن أبي هريرة، وقد روى هذا الحديث عبدُ الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة الهاشميّ، وأبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، والقولان صحيحان، والله أعلم. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه صحيح محفوظ بالطرق المذكورة كلّها، ولذا اتّفق عليه الشيخان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6133]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ سَوَاءً).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ السَّمِين، صدوقٌ، رُبّما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
و"عبد العزيز" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون عن عبد العزيز الماجشون هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنْظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6134]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ: رَجُلٌ مِنَ الْيَهُود، وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَى
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 8/ 67 - 68.
الْعَالَمِينَ، وَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عليه السلام عَلَى الْعَالَمِينَ، قَالَ: فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِه، وَأَمْرِ الْمُسْلِم، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْش، فَلَا أَدْرِي، أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ، فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ) بن أبي النضر البغداديّ، وقد يُنسب لجده، اسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، وأبو النضر هو هاشم بن القاسم مشهور، وأبو بكر ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (فَلَا أَدْرِي، أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ، فَأَفَاقَ قَبْلِي) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا مِن أشكل الأحاديث؛ لأنَّ موسى عليه السلام قد مات، فكيف تُدركه الصعقة؟، وإنما تَصْعَق الأحياء، وقوله:(أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللهُ) يدلّ على أنه كان حيًّا، ولم يأت أن موسى رجع إلى الحياة، ولا أنه حي، كما جاء في عيسى عليه السلام، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره، إلى جانب الطريق"، قال القاضي: يَحْتَمِل أن هذه الصعقة صعقة فَزَع بعد البعث، حين تنشق السماوات والأرض، فتنتظم حينئذ الآياتِ والأحاديث، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"فأفاق"؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي، وأما الموت، فيقال: بُعِث منه، وصعقة الطور لَمْ تكن موتًا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا أدري أفاق قبلي؟ " فيَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم
أنه أول من تنشقّ عنه الأرض، إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وأن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أول شخص تنشقّ عنه الأرض على الإطلاق، قال: ويجوز أن يكون معناه أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشقّ عنهم الأرض، فيكون موسى من تلك الزمرة، وهي -والله أعلم- زمرة الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6135]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُود، بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصّغَانيّ -بفتح الصاد المهملة، ثم الغين المعجمة- نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"أبو اليمان" هو: الحكم بن نافع الحمصيّ، و"شُعيب" هو: ابن أبي حمزة الحمصيّ.
[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3227)
- حَدَّثَنَا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، وسعيد بن المسيِّب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: استَبَّ رجل من المسلمين، ورجل من اليهود، فقال المسلم: والذي اصطفى
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 355 - 357، و"شرح النوويّ" 15/ 131 - 132.
محمدًا صلى الله عليه وسلم على العالمين، في قَسَم يُقْسِم به، فقال اليهوديّ: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم عند ذلك يده، فَلَطَم اليهوديّ، فذهب اليهوديّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم، فقال:"لا تخيّروني على موسى، فإن الناس يَصْعَقون، فأكون أولَ من يُفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري، أكان فيمن صَعِق، فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟ ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6136]
(2374) - (وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءَ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَلَا أَدْرِي أَكَانَ مِمَّنْ صَعِقَ، فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوِ اكْتَفَى بِصَعْقَةِ الطُّورِ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمَر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، إلَّا أنه قد يخطئ في حديث الثوريّ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَمْرُو بْنُ يَحْيَى) بن عُمارة بن أبي حسن المازنيّ المدنيّ، ثقةٌ [6] مات بعد الثلاثين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
5 -
(أَبُوهُ) يحيى بن عُمارة بن أبي حسن الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 464.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ أبو سعيد الصحابيّ ابن الصحابيّ، استصغر بأُحُد، ثم شَهِد ما بعدها، وروى الكثير
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1251.
من الحديث، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ) فاعل "ساق" ضمير عمرو بن يحيى؛ يعني: أنه ساق الحديث عن أبيه، عن أبي سعيد رضي الله عنه بمعنى حديث الزهريّ، بسنده السابق.
[تنبيه]: رواية عمرو بن يحيى عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4362)
- حَدَّثَنَا محمد بن يوسف، حَدَّثَنَا سفيان، عن عمرو بن يحيى المازنيّ، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قد لُطِم وجهُهُ وقال: يا محمد إن رجلًا من أصحابك من الأنصار لَطَم في وجهي، قال:"ادعوه"، فدعوه، قال:"لَمْ لطمت وجهه؟ " قال: يا رسول الله، إني مررت باليهود، فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، فقلت: وعلى محمد؟ وأخذتني غَضْبَةٌ، فلطمته، قال:"لا تخيّروني من بين الأنبياء، فإن الناس يَصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جُزِي بصعقة الطور؟ ". انتهى
(1)
.
وهذا الحديث أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6136 و 6137](2374)، و (البخاري) في "صحيحه"(3/ 1245 و 4/ 1700 و 6/ 2534)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 33)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6137]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأنبِيَاءِ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنِي أَبِي).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤَاسيّ -بضم الراء، وهمزة، ثم
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1700.
مهملة- أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير -بنون، مصغرًا- الهمدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"سفيان" هو: الثوريّ، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ولله الحمد والمنّة.
وقوله: (لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأنبِيَاءِ) قال البيهقيّ رحمه الله: وقول الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [البقرة: 253] يدلّ على تفضيل بعضهم على بعض، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوا بين أنبياء الله"، وقوله:"لا تخيروا بين أنبياء الله" إنما هو في محاولة أهل الكتاب على معنى الإزراء ببعضهم، فإنه ربما أدى ذلك إلى فساد الاعتقاد فيهم، والإقلال
(1)
الواجب من حقوقهم، أما إذا كانت المخايرة من مسلم، يريد الوقوف على الأفضل منهم، فليس هذا يُنهَى عنه، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "معتصر المختصر من الآثار": قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروني على موسى. . ." الحديث، وقوله:"لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى"، رواه عليّ بن أبي طالب، وزاد فيه:"قد سبّح الله في الظلمات" يَحْتَمِل أنه قاله قبل عِلمه بتفضيل الله تعالى إياه على جميع خلقه، وكذا جوابه لمن قال له: يا خير البرية، فقال:"ذاك أبي إبراهيم"، يَحْتَمِل أن يكون قبل أن يتخذه الله خليلًا، فلمّا جعله خليلًا عاد بالخلة من الله بمنزلة إبراهيم في الخلة، وهي المحبة التي لا محبة فوقها، وزاد عليه بذِكره فيما لا يُذكر فيه إبراهيم في
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب: الإخلال من واجب حقوقهم، فليحرّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"شعَب الإيمان" 2/ 183.
التأذين، والإقامة، وإعطائه في الآخرة المقام المحمود الذي لَمْ يعطه غيره، كما رُوِي عن كعب أنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يُحشر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تَلّ، فيكسوني ربي حلة خضراء، ثم يُؤْذَن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود، وهو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"، وعن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، وإن صاحبكم خليل الله، ثم قرأ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} الآية [الإسراء: 79] "، فالمقام المحمود ما اختصه الله تعالى به في الآخرة حتى يغبطه به الأولون والآخرون، ففي هذا كله دليل على أنَّ ما قاله في إبراهيم، وموسى، ويونس، إنما كان ذلك قبل إعطائه إياه، والذي يروى عن أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تخيروا بين أنبياء الله سبحانه" محمول على التفضيل بآرائنا، من غير توقيف، فأما ما بيّنه لنا، فقد أطلقه لنا. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: الظاهر أن المصنّف رحمه الله أراد هذه الرواية المختصرة، وقد أخرجها البخاريّ أيضًا في "صحيحه" بهذا اللفظ، عن أبي نعيم، عن سفيان، فقال:
(6518)
- حَدَّثَنَا أبو نعيم، حَدَّثَنَا سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تخيّروا بين الأنبياء". انتهى
(2)
، ومثله لابن حبّان
(3)
.
وقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله رواية وكيع عن سفيان في "مسنده" بأتمّ مما هنا، فقال:
(11304)
- حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخيروا بين الأنبياء، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فأُفيق، فأجد موسى متعلقًا بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أجزي بصعقة الطور، أو أفاق قبلي؟ ". انتهى
(4)
.
وأما رواية عبد الله بن نمير عن سفيان، فلم أجد من ساقها، فليُنْظَر، والله تعالى أعلم.
(1)
"معتصر المختصر من مشكل الآثار" 1/ 6.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2534.
(3)
"صحيح ابن حبّان" 14/ 131.
(4)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 33.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6138]
(2375) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أتيْتُ -وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ- مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَر، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) -بفتح الهاء، وتشديد الدال المهملة- ويقال له: هُدْبة -بضم أوله، وسكون الدال، بعدها موحّدة- ابن خالد بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) ابن أسلم البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طَرْخان البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقيه، وهو (470) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة، وقد جاوز عمره مائة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَيْتُ -وَفِي رِوَايَةِ هَدَّابٍ- مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى) عليه السلام (لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ)"الكثيب" بفتح، فكسر: هو ما ارتفع من الرَّمْل؛ كالتَّلِّ الصغير، قيل: هذا ليس صريحًا في الإعلام بقبره الشريف، ومن ثَمّ اختلفوا فيه.
وقال القرطبيّ: الكثيب: هو الكوم من الرمل، ويُجْمَع كُثُبًا، وهذا
الكثيب هو بطريق بيت المقدس، كما سيأتي. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله:
[فإن قيل]: كيف رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره، وصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس، ووجدهم على مراتبهم في السماوات، وسلّموا عليه، ورحّبوا به؟.
[فالجواب]: أنه يَحْتَمِل أن تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعود النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفي طريقه إلى بيت المقدس، ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء.
ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء -صلوات الله، وسلامه عليهم- وصلى بهم على تلك الحال لأوّل ما رآهم، ثم سألوه، ورحّبوا به، أو يكون اجتماعه بهم، وصلاته، ورؤيته موسى بعد انصرافه، ورجوعه عن سدرة المنتهي، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
(وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ) قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: هذه الصلاة ونحوها مما يتمتّع بها الميت، ويتنعّم بها كما يتنعّم أهل الجنّة بالتسبيح، فإنهم يُلهمون التسبيح، كما يُلهم الناس في الدنيا النفَسَ، فهذا ليس من عمل التكليف الذي يُطلب له ثواب منفصلٌ، بل نفس هذا العمل هو من النعيم الذي تتنعّم به الأنفس، وتتلذّذ به، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفع به، وولد صالح يدعو له" يريد به العمل الذي يكون له ثواب، لَمْ يُرِدْ به نفس العمل الذي يُتنعم به، فإن أهل الجَنَّة يتنعمون بالنظر إلى الله، ويتنعّمون بذِكره، وتسبيحه، ويتنعمون بقراءة القرآن، و"يقال لقارئ القرآن: اقرأ، وارْقَ، ورَتِّل كما كنت تُرتّل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها"، ويتنعمون بمخاطبتهم لربهم، ومناجاته، وإن كانت هذه الأمور في الدنيا أعمالًا يترتب عليها الثواب، فهي في الآخرة أعمالٌ يتنعم بها صاحبها أعظم من أكله، وشربه، ونكاحه، وهذه كلها أعمال
(1)
"المفهم" 6/ 192.
(2)
راجع: "شرح النوويّ على مسلم" 2/ 238.
أيضًا، والأكل والشرب والنِّكَاح في الدنيا مما يؤمر به، ويثاب عليه مع النية الصالحة، وهو في الآخرة نفس الثواب الذي يتنعم به، والله أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقال الشيخ بدر الدين الصاحب رحمه الله في مؤلَّف له في حياة الأنبياء عليهم السلام: هذا صريح في إثبات الحياة لموسى عليه السلام في قبره، فإنه وصفه بالصلاة، وإنه قائم، ومثل ذلك لا يوصف به الروح، وإنما يوصف به الجسد، وفي تخصيصه بالقبر دليل على هذا، فإنه لو كان من أوصاف الروح لَمْ يُحْتَج لتخصيصه.
وقال الشيخ تقي الدين السبكيّ رحمه الله: في هذا الحديث أن الصلاة تستدعي جسدًا حيًّا، ولا يلزم من كونها حياة حقيقة أن تكون لابدّ معها كما كانت في الدنيا، من الاحتياج إلى الطعام، والشراب، وغير ذلك من صفات الأجسام التي نشاهدها، بل يكون لها حكم آخر. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
[فإن قيل]: كيف يَحُجُّون، ويُلبّون، وهم أموات، وهم في الدار الآخرة، وليست دار عمل؟.
فاعلم أن للمشايخ، وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة:
أحدها: أنهم كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يبعد أن يحجّوا، ويصلّوا، كما ورد في الحديث الآخر، وأن يتقرّبوا إلى الله تعالى بما استطاعوا؛ لأنهم، وإن كانوا قد تُوفّوا، فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدّتها، وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء، انقطع العمل.
الوجه الثاني: أن عمل الآخرة ذِكْر، ودعاء، قال الله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)} [يونس: 10].
الوجه الثالث: أن تكون هذه رؤية منام، في غير ليلة الإسراء، أو في
(1)
"مجموع الفتاوى" 4/ 33.
(2)
راجع: "زهر الربى في شرح المجتبى" للسيوطيّ رحمه الله 3/ 215 - 216.
بعض ليلة الإسراء، كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما:"بينا أنا نائم، رأيتني أطوف بالكعبة"، وذكر الحديث في قصة عيسىى عليه السلام.
الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم أُري أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومثّلوا له في حال حياتهم، كيف كانوا؟، وكيف حجّهم، وتلبيتهم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"كأني أنظر إلى موسى" و"كأني أنظر إلى عيسى"، و"كأني أنظر إلى يونس" عليهم السلام.
الوجه الخامس: أن يكون أَخبر عما أُوحي إليه صلى الله عليه وسلم، من أمرهم، وما كان منهم، وإن لَمْ يَرَهُم رؤية عين. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن القول الأول هو الأرجح؛ لظواهر النصوص، ولا داعي إلى هذه التأويلات البعيدة عن ظواهر الأحاديث، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
ثم رأيت القرطبيّ رحمه الله قد أجاد، وأفاد في هذا الموضوع، حيث قال: وهذا الحديث يدلّ بظاهره على أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى رؤية حقيقية في اليقظة، وأن موسى كان في قبره حيًّا، يصلي فيه الصلاة التي كان يصلّيها في الحياة، وهذا كله ممكن لا إحالة في شيء منه، وقد صحَّ أن الشهداء أحياء يُرزقون، ووجد منهم من لَمْ يتغيّر في قبره من السنين كما ذكرناه، وإذا كان هذا في الشهداء كان في الأنبياء أَحرى وأَولى.
[فإنْ قيل]: كيف يصلَّون بعد الموت، وليس تلك الحال حال تكليف؟.
[فالجواب]: أن ذلك ليس بحكم التكليف، وإنَّما ذلك بحكم الإكرام لهم والتشريف، وذلك أنهم كانوا في الدنيا حبِّبت لهم عبادة الله تعالى، والصلاة بحيث كانوا يلازمون ذلك، ثم توفوا وهم على ذلك، فشرَّفهم الله تعالى بعد موتهم بأن أبقى عليهم ما كانوا يحبون، وما عُرفوا به، فتكون عبادتهم إلهاميَّة كعبادة الملائكة، لا تكليفية، وقد وقع مثل هذا لثابت البنانيّ رحمه الله، فإنَّه حُبِّبت الصلاة إليه حتى كان يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا يصلّي لك في قبره، فأعطني ذلك، فرآه مُلْحِدُه، بعدما سوَّى عليه لَحْده قائمًا يصلي في قبره، وقد دلَّ على صحة ذلك كله قول نبينا صلى الله عليه وسلم:"يموت المرء على ما عاش عليه، ويُحشر على ما مات عليه"، وقد جاء في الصحيح: "أن أهل الجنَّة يُلهمون
التسبيح كما تُلهمون النَّفَس". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيس، وبحث أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6138 و 6139](2375)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3/ 215 - 216) و"الكبرى"(1/ 419)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 577)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 307 و 308)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 120 و 148 و 248)، وفي "الزهد"(1/ 74)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 362)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1/ 242 و 243)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 71)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(2/ 420)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 253)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3760)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان علَم من أعلام النبوّة لنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهو أنه أُسري به بجسده، وروحه إلى البيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماوات العلي، حتى ناجى ربه، فأوحى إليه ما أوحي، ولقد رأى من آيات ربّه الكبرى، ومع ذلك ما زاغ بصره، وما طغي، وفرض الله عز وجل عليه وعلى أمته خمسين صلاة، ثم منّ عليه، فخفّف عددها، وأكمل مددها، فصارت خمس صلوات لها أجر خمسين صلاة، وهذا هو الفضل العظيم، من ربّ رؤوف رحيم سبحانه وتعالى.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة موسى عليه السلام، حيث منّ الله عز وجل عليه بأن يصلي في قبره.
3 -
(ومنها): بيان أن الأنبياء أحياء في قبورهم، يصلّون، ويحجّون، والله تعالى على كل شيء قدير.
(1)
"المفهم" 6/ 192 - 193.
4 -
(ومنها): بيان أن الله تعالى يُكرم بعض عباده في قبورهم بما شاءوا من أنواع العبادة؛ كالصلاة، كما ثبت في موسى عليه السلام نصًّا، وكذا في عيسى عليه السلام أيضًا، وكما سبق في قصّة ثابت البناء، فقد أخرج ابن الجعد في "مسنده"، فقال:
(1379)
- حَدَّثَنَا الوليد بن شجاع، نا ضمرة، نا ابن شوذب، قال: سمعت ثابتًا البنانيّ يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا أن يصلّي في قبره، فأعطني ذلك
(1)
.
(1380)
- حَدَّثَنَا علي بن مسلم، نا سيار، نا جعفر
(2)
، قال: سمعت ثابتًا البنانيّ يقول: اللهم إن كنت أَذِنت لأحد أن يصلي في قبره، فَأْذن لي أن أصلي في قبري
(3)
(4)
.
وهذا لا يُستغرب، ولا يُستبعد، فإن البرزخ من عالم الآخرة، وقد ثبت في النصوص قوله عز وجل:{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]، وقد أخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يومًا يحدّث، وعنده رجل من أهل البادية: "أن
(1)
قال الجامع: هذا إسناد صحيح.
(2)
قال الجامع: هذا حديث حسن، وفيه سيار بن حاتم، متكلَّم فيه، وقال في "التقريب": صدوقٌ، له أوهام، لكن يشهد له الحديث السابق، فلذا حسّنته، فتنبّه.
(3)
"مسند ابن الجعد" 1/ 209.
(4)
أخرج أبو نعيم رحمه الله في "حلية الأولياء" 2/ 319 بسنده عن محمد بن سنان القزّاز، عن شيبان بن جسر، عن أبيه قال: أنا والله الذي لا إله إلَّا هو أدخلت ثابتًا البنانيّ لَحْده، ومعي حميد الطويل، أو رجل غيره -شك محمد- قال: فلما سوينا عليه اللبن، سقطت لبنة، فإذا أنا به يصلي في قبره، فقلت للذي معي: ألا ترى؟ قال: اسكت، فلمّا سوينا عليه، وفرغنا، أتينا ابنته، فقلنا لها: ما كان عمل أبيك ثابت؟ فقالت: وما رأيتم؟ فأخبرناها، فقالت: كان يقوم الليل خمسين سنة، فإذا كان السَّحَر قال في دعائه: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من خلقك الصلاة في قبره، فأعطنيها، فما كان الله ليردّ ذلك الدعاء. انتهى.
قال الجامع: لَمْ أعرف رجال إسناده، والله أعلم.
رجلًا من أهل الجَنَّة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلي، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر، فبادر الطرفَ نباته، واستواؤه، واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يُشبعك شيء"، فقال الأعرابيّ: والله لا تجده إلَّا قرشيًّا، أو أنصاريًّا، فإنهم أصحاب زرع، وأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
فإذا كان الله عز وجل وعد للمؤمنين أن لهم في الآخرة ما تشتهيه أنفسهم، وهم يدّعون؛ أي: يطلبون، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هذا الرجل طلب أن يزرع في الجنّة، وأُعطي ذلك، فما بالك بالصلاة، والعلم، والذِّكر ونحو ذلك من أنواع العبادات، مما يموت المرء ملازمًا لها، ومحبّا للاستمرار على العمل بها، إلا يُعطى إن طلب ذلك؟ نعم -إن شاء الله- وفوق ذلك، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه حديث أنس رضي الله عنه هذا بحثًا نفيسًا يتعلّق بالحديث، أحببت إيراده هنا تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد، قال:
قال أبو حاتم: الله جل وعلا قادر على ما يشاء، ربما يُعِدّ الشيء لوقت معلوم، ثم يقضي كون بعض ذلك الشيء قبل مجيء ذلك الوقت، كوعده إحياء الموتى يوم القيامة، وجعله محدودًا، ثم قضى كون مثله في بعض الأحوال، مثل مَن ذَكره الله، وجعله الله جل وعلا في كتابه، حيث يقول:{أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَو بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} إلى آخر الآية [البقرة: 259]، وكإحياء الله جل وعلا لعيسى ابن مريم -صلوات الله عليه- بعض الأموات، فلما صحّ وجود كون هذه الحالة في البشر إذا أراده الله جل وعلا قبل يوم القيامة، لَمْ يُنكَر أن الله جل وعلا أحيا موسى في قبره، حتى مَرّ عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وذاك أن قبر موسى بمدينة بين المدينة وبين بيت المقدس، فرآه صلى الله عليه وسلم يدعو في قبره؛ إذ الصلاة دعاء.
قال الجامع عفا الله عنه: حَمْله الصلاة على الدعاء غير ظاهر، بل هي
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 826.
الصلاة ذات الأركان على ظاهر الحديث؛ إذ لا داعي إلى التأويل، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: فلما دخل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، وأُسري به أُسري بموسى حتى رآه في السماء السادسة، وجرى بينه وبينه من الكلام ما تقدَّم ذِكرنا له، وكذلك رؤيته سائر الأنبياء الذين في خبر مالك بن صعصعة.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم في خبر مالك بن صعصعة: "بينما أنا في الحطيم؛ إذ أتاني آتٍ، فشقّ ما بين هذه إلى هذه"، فكان ذلك له فضيلةً، فُضِّل بها على غيره، وأنه من معجزات النبوة؛ إذ البشر إذا شُقّ عن موضع القلب منهم، ثم استُخرج قلوبهم ماتوا.
وقوله: "ثم حُشِي" يريد أن الله جل وعلا حشا قلبه صلى الله عليه وسلم اليقين، والمعرفة الذي كان استقراره في طست الذهب، فنُقل إلى قلبه، ثم أُتي بدابة، يقال لها: البراق، فحُمل عليه من الحطيم، أو الحِجْر، وهما
(1)
جميعًا في المسجد الحرام، فانطلق به جبريل، حتى أتى به على قبر موسى، على حسب ما وصفناه، ثم دخل مسجد بيت المقدس، فخَرَق جبريل الصخرة بإصبعه، وشدّ بها البراق، ثم صعد به إلى السماء. ذِكْرُ شدّ البراق بالصخرة في خبر بريدة، ورؤيته موسى صلى الله عليه وسلم يصلي في قبره ليسا جميعًا في خبر مالك بن صعصعة. فلما صعد به إلى السماء الدنيا، استفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرسل إليه؟ يريد به: وقد أرسل إليه ليسرى به إلى السماء؟ لا أنهم لَمْ يعلموا برسالته إلى ذلك الوقت؛ لأنَّ الإسراء كان بعد نزول الوحي بسبع سنين، فلما فُتح له، فرأى آدم على حسب ما وصفنا قبل، وكذلك رؤيته في السماء الثانية: يحيى بن زكريا، وعيسى ابن مريم، وفي السماء الثالثة: يوسف بن يعقوب، وفي السماء الرابعة: إدريس، ثم في السماء الخامسة: هارون، ثم في السماء السادسة: موسى، ثم في السماء السابعة: إبراهيم؛ إذ جائز أن الله جل وعلا أحياهم؛ لِأنْ يراهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، فيكون ذلك آية معجزة يُستدلّ بها على نبوّته،
(1)
هذا يقتضي أنهما شيئان، والظاهر أنهما شيء واحد، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
على حسب ما أصّلنا قبلُ، ثم رُفع له سدرة المنتهي، فرآها على الحالة التي وَصَفَ، ثم فُرض عليه خمسون صلاةً، وهذا أمرُ ابتلاءٍ، أراد الله جل وعلا ابتلاء صفيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث فرض عليه خمسين صلاةً؛ إذ كان في علم الله السابق أنه لا يَفرض على أمته إلَّا خمس صلوات فقط، فأمَره بخمسين صلاةً أمْر ابتلاء، وهذا كما نقول: إن الله جل وعلا قد يأمر بالأمر، يريد أن يأتي المأمور به إلى أمره، من غير أن يريد وجود كونه، كما أمر الله جل وعلا خليله إبراهيم بذبح ابنه، أمْره بهذا الأمر أراد به الانتهاء إلى أمْره دون وجود كونه، فلما أسلما وتلّه للجبين، فداه بالذبح العظيم؛ إذ لو أراد الله جل وعلا كون ما أَمر لوُجِد ابنه مذبوحًا، فكذلك فرض الصلاة خمسين أراد به الانتهاء إلى أَمْره دون وجود كونه، فلما رجع إلى موسى، وأخبره أنه أُمر بخمسين صلاةً كل يوم، أَلهم الله موسى أن يسأل محمدًا - صلى الله عليهما وسلم - بسؤال ربه التخفيف لأمته، فجعل جل وعلا قول موسى عليه السلام له سببًا لبيان الوجود لصحة ما قلنا: إن الفرض من الله على عباده أراد إتيانه خمسًا، لا خمسين، فرجع إلى الله جل وعلا، فسأله، فوضع عنه عشرًا، وهذا أيضًا أمْر ابتلاء أريد به الانتهاء إليه، دون وجود كونه، ثم جعل سؤال موسى عليه السلام إياه سببًا لنفاذ قضاء الله جل وعلا في سابق علمه، أن الصلاة تُفرض على هذه الأمة خمسًا لا خمسين، حتى رجع في التخفيف إلى خمس صلوات، ثم ألهم الله جل وعلا صفيّه صلى الله عليه وسلم حينئذ، حتى قال لموسى: قد سألت ربي، حتى استحييت، لكني أرضى وأسلّم، فلما جاوز ناداه منادٍ: أمضيتُ فريضتي، أراد به الخمس صلوات، وخففت عن عبادي، يريد عن عبادي مِن أمْر الابتلاء الذي أمرتهم به من خمسين صلاةً التي ذكرناها، وجملة هذه الأشياء في الإسراء رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسمه عيانًا، دون أن يكون ذلك رؤية، أو تصويرًا صُوِّرَ له؛ إذ لو كان ليلة الإسراء، وما رأى فيها نومًا دون اليقظة لاستحال ذلك؛ لأنَّ البشر قد يرون في المنام السماوات، والملائكة، والأنبياء، والجنة، والنار، وما أشبه هذه الأشياء، فلو كان رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم بما وُصف في ليلة الإسراء في النوم دون اليقظة، لكانت هذه حالة يستوي فيها معه البشر؛ إذ هم يرون في مناماتهم مثلها، واستحال فضله، ولم تكن تلك حالة معجزة يُفضَّل بها على
غيره، ضدَّ قول من أبطل هذه الأخبار، وأنكر قدرة الله جل وعلا، وإمضاء حكمه لِما يحب كما يحب جل ربنا وتعالى عن مثل هذا، وأشباهه. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6139]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى -يَعْنِي: ابْنَ يُونُسَ- (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، وَهُوَ يُصَلِّي فِي قَبْرِهِ"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عِيسَى:"مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمِ) -بمعجمتين- وزن جعفر المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(ت 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنةً (خ م د س ق) تقدمة في "الإيمان" 35/ 246.
4 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرَّيِّ وقاضيها، ثقةٌ صحيحُ الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكِلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرَّحمن، ثقةٌ ثبت، من صغار [8] (ت 187) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: الثوريّ.
(1)
"صحيح ابن حبان" 1/ 243 - 246.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس عن سليمان التيميّ ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى" بسند المصنّف، فقال:
(1634)
- أخبرنا عليّ بن خَشْرَم، قال: حَدَّثَنَا عيسى، عن سليمان التيميّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررتُ ليلة أُسري بي على موسى عليه السلام، وهو يصلي في قبره". انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ، عن سليمان التيميّ ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(4085)
- حَدَّثَنَا أبو بكر بن أبي شيبة، حَدَّثَنَا عبدة بن سليمان، عن سفيان، عن سليمان التيميّ، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررتُ على موسى، وهو يصلي في قبره". انتهى
(2)
.
وأما رواية جرير بن عبد الحميد، عن سليمان التيميّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظَرْ، والله تعالى أعلم.
(43) - (بَابٌ فِي ذِكْرِ يُونُسَ عليه السلام، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6140]
(2376) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ "قَالَ -يَعْنِي اللهَ تبارك وتعالى: لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي -وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: لِعَبْدِي
(3)
- أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَى عليه السلام"، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ).
(1)
"سُنَّن النسائي -المجتبى-" 3/ 216.
(2)
"مسند أبي يعلى" 7/ 127.
(3)
وفي نسخة: "لعبد أن يقول".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ) بن عثمان الْعَبْديّ، أبو بكر البصريُ، المعروف ببُندار، ثقةٌ [10](ت 252) وله بضع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) الْهُذليّ البصريّ المعروف بغُندر، ثقةٌ صحيح الكتاب [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجاج بن الورد الْعَتَكيّ مولاهم، أبو بسطام الواسطيّ، ثم البصريّ، ثقةٌ حافظ متقنٌ، كان الثوريّ يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فَتَّش بالعراق عن الرجال، وذَبّ عن السُّنَّة، وكان عابدًا [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، وَلي قضاء المدينة، وكان ثقةً، فاضلًا، عابدًا [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
5 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3]
(1)
(ت 105) على الصحيح، وقيل: إن روايته عن عمر مرسلة (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه، ومنهم، وأن ابن المثنّى وابن بشار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه قد سبق القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ) الضمير للشأن، وقد تقدّم البحث عنه قريبًا؛ أي: أن الأمر والشأن. (قَالَ) وقوله: (يَعْنِي) من كلام أبي
(1)
هذا أولى مما في "التقريب" من أنه من الثانية؛ لأنه مختلَف في روايته عن عمر رضي الله عنه، فكيف يكون من الثانية؟ فتأمل.
هريرة، وهو الظاهر، أو من كلام غيره من الرواة، وقوله:(اللهَ تبارك وتعالى) بنصب "اللهَ" على أنه مفعول به لـ"يعني"، وأشار به إلى أن فاعل "قال" ضمير الله تبارك وتعالي، على قول من يقول: إن الفاعل لا يُحذف، وهم الجمهور، كما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَبَعْدَ فِعْلٍ فَاعِلٌ فإِنْ ظَهَرْ
…
فَهْوَ وَإِلَّا فَضَمِيرٌ اسْتَتَرْ
وأجاز الكسائيّ حذف الفاعل، وعليه فالمقدّر هنا لفظ الجلالة لا ضميره، فتنبّه.
قوله: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي) مقول "قال"، قال الخطابي رحمه الله: معناه: ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس عليه السلام، ويَحْتَمِل أن يراد: ليس لأحد أن يفضلني عليه، قال هذا منه على مذهب التواضع، والهضم من النفس، وليس مخالفًا لقوله:"أنا سيد ولد آدم"؛ لأنه لَمْ يقل ذلك مفتخرًا، ولا متطاولًا به على الخلق، وإنما قال ذلك ذاكرًا للنعمة، ومعترفًا بالمنّة، وأراد بالسيادة ما يُكرم به في القيامة، وقيل: قال ذلك قبل الوحي بأنه سيد الكل، وخيرهم، وأفضلهم، وقيل: قاله زجرًا عن توهم حطّ مرتبته؛ لِمَا في القرآن من قوله تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48]، وهذا هو السبب في تخصيص يونس عليه السلام بالذكر من بين سائر الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى"؛ أي: لا يصلح، ولا يجوز، و"لعبدٍ" منوَّن مُنكر؛ أي: لعبد من عباد الله، وفي الرواية الأخرى:"لعبدي" بإضافته إلى ياء المتكلم، وهو الله تعالى في هذه الرواية، فَيَحْتَمِل أن يراد به النكرة، فتكون إضافته غير محضة، كما قال الشاعر [من الرجز]:
وَسَائِلِي بِمُزْعِجِي عَنْ وَطَنِي
…
مَا ضَاقَ بِي جَنَابُهُ وَلَا نَبَا
فأدخل "رُبَّ" على "سائلي" مع أنه مضاف إلى ياء المتكلم، فدلّ على أنه لَمْ يُرِد به سائلًا واحدًا، فكأنه قال: وربّ سائلٍ، وكذلك الوطن في قوله: عن وطني؛ لأنَّ الجملة التي بعده صفة له؛ أي: عن وطن لَمْ ينب بي جنابه؛ أي:
(1)
"عمدة القاري" 15/ 293.
غير ناب، ويصح أن تكون إضافة "عبدي" محضة، ومعرِّفة، ويعني به: عبدي المكرَّم عندي، كما قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42]؛ أي: عبادي المكرمون عندي، والمشرَّفون لديّ، وقد شهد لهذا المعنى ما قد روي في كتاب أبي داود في هذا الحديث:"لا ينبغي لنبيّ أن يقول: أنا خير من يونس"، كما قد روي أيضًا ما يشهد بتنكير "عبد" في كتاب مسلم:"لا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس"، وعلى هذا فَيُقَيَّد مطلق الرواية الأولى بمقيّد هذه الرواية، فيكون معناه: لا ينبغي لعبدٍ نبيٍّ أن يقول: أنا خير من يونس، وهذا هو الأَولى؛ لأنَّ من ليس بنبي لا يمكنه بوجه أن يقول: أنا أفضل من النبيّ؛ لأنه من المعلوم الضروريُّ عند المتشرِّعين أن درجة النبيّ لا يبلغها وليٌّ، ولا غيره؛ وإنما يمكن ذلك في الأنبياء؛ لأنهم -صلوات الله وسلامه عليهم- قد تساووا في النبوة، وتفاضلوا فيما بينهم بما خُصَّ به بعضهم دون بعض؛ فإنَّ منهم من اتخذه الله خليلًا، ومنهم من اتخذه حبيبًا، ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلَّم الله، على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال الله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية [البقرة: 253].
[فإن قيل]: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم، فكيف يُنهَى عن التفضيل؟، وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه، على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟.
[فالجواب]: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ، لا المنع من اعتقاد معناه أدبًا مع يونس عليه السلام، وتحذيرًا من أن يُفْهَم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ، وإنما خَصَّ يونس عليه السلام بالذكر في هذا الحديث؛ لأنَّه لما دعا قومه للدخول في دينه، فأبطؤوا عليه ضجر، واستعجل بالدعاء عليهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، وفرَّ منهم، فرأى قومُهُ دخانًا، ومقدمات العذاب الذي وعدهم به، فآمنوا به، وصدَّقوه، وتابوا إلى الله تعالى، فردُّوا المظالم، حتى ردُّوا حجارة مغصوبة كانوا بَنَوْها، ثم إنهم فرّقوا بين الأمهات، وأولادهم، ودعوا الله تعالى، وضجُّوا بالبكاء والعويل، وخرجوا طالبين يونس، فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك، حتى كشف الله عنهم العذاب، ومَنَعهم إلى حين، وهم أهل نِينُوى من بلاد الموصل، على شاطئ دجلة، ثم إن
يونس عليه السلام رَكِب في سفينة، فسكنت، ولم تَجْر، فقال أهلها: فيكم آبق، فقال: أنا هو، فأبوا أن يكون هو الآبق، فقارعهم، فخرجت القرعة عليه، فرُمي في البحر، فالتقمه حوت كبير، فأقام في بطنه ما شاء الله تعالى.
وقد اختُلِف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين، وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى، ويسبّحه إلى أن عفا الله عنه، فلَفَظه الحوت في ساحل، لا نبات فيه، وهو كالفرخ، فأنبت الله تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين، فسترته بورقها.
وحَكَى أهل التفسير: أن الله تعالى قَيَّض له أَرْوَى تُرضعه إلى أن قَوِي، فيبست الشجرة، فاغتم لها، وتألم، فقيل له: أتغتم، وتحزن لهلاك شجرة، ولم تغتم على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ وقد دلَّ على صحَّة ما ذكر قوله تعالى:{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} الآياتِ إلى آخرها [الصافَّات: 139، 140]، وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن للنبوة أثقالًا، كاد يونس يتفسخ تحتها تفسُّخَ الرُّبَع"
(1)
، أو كما قال.
قال القرطبيّ رحمه الله: ولمّا جرى هذا ليونس عليه السلام، وأطلق الله تعالى عليه أنه {مُلِيِمٌ}؛ أي: آتٍ بما يلام عليه، قال الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس"؛ لأنَّ ذلك يوهم نقصًا في نبوّته، وقدحًا في درجته، وقد بيَّنَّا أن "لعبد" هنا بمعنى: لنبيّ، وقد قيل: إنه محمول على غير الأنبياء، ويكون معناه: لا يَظُنّ أحد ممن ليس بنبيّ -وإن بلغ من العلم والفضل والمنازل الرفيعة، والمقامات الشريفة الغاية القصوى- أنه يبلغ
(1)
رواه أبو نعيم في "الحلية" بسنده عن عبد الله بن الأجلح، عن محمد بن إسحاق، حدّثني ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، قال: سمعت ابن منبّه يقول: إن للنبوة أثقالًا، ومؤونة لا يحملها إلَّا القويّ، وإن يونس بن متى كان عبدًا صالِحًا، فلما حُمِلت عليه النبوة، تفسخ تحتها تفسخ الرُّبَع عند الحمل، فرفضها من يده، فخرج هاربًا، فقال الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، وقال:{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)} . انتهى. "حلية الأولياء" 4/ 50، وهو من الإسرائيليّات التي يحكيها وهب بن منبّه، فليُتنبّه.
وقوله: "تفسّخ"؛ أي: لَمْ يُطق مشاقّ الرسالة، والرُّبَع: ولد الناقة.
مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ أقلّ مراتب النبوة لا يلحقها من ليس من الأنبياء، وهذا المعنى صحيح، والذي صدّرنا به الكلام أحسن منه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: لِعَبْدِي) أشار به إلى الاختلاف الواقع بين شيوخه الثلاثة، فأبو بكر، وابن بشار قالا:"لا ينبغي لعبد لي" باللام، وقال ابن المثنّى:"لعبدي" بالإضافة، ولا يختلف به المعنى، ووقع في بعض النسخ:"لعبدٍ" بالتنوين. (أَنْ يَقُولَ: أَنَا) تقدّم أن الضمير للمتكلّم، وهو الظاهر، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم، (خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام") -بفتح الميم، وتشديد التاء المثناة من فوقُ وبالألف، وهو اسم أبيه، كما سيأتي صريحًا، وفي "جامع الأصول": وقيل: هو اسم أمه، ويقال: لَمْ يشتهر نبي بأمه غير يونس، والمسيح عليه السلام. وقال الفربريّ: وكان مَتَّى رجلًا صالحًا، من أهل بيت النبوة، فلم يكن له ولدٌ ذَكَر، فقام إلى العين التي اغتَسَل منها أيوب، فاغتسل هو وزوجته منها، وصلّيا، ودعوا الله أن يرزقهما رجلًا مباركًا يبعثه الله في بني إسرائيل، فاستجاب الله دعاءهما، ورزقهما يونس، وتُوُفي مَتّي، ويونس في بطن أمه، وله أربعة أشهر، وقد قيل: إنه من بني إسرائيل، وإنه من سبط بنيامين، وقال الكرمانيّ: وهو ذو النون، أرسله الله إلى أهل الموصل، وذهب قوم إلى أن نبوّته بعد خروجه من بطن الحوت، وقال العلماء بأخبار القدماء: كان يونس من أهل القرية، من قرى الموصل، يقال لها: نِينُوَي، وكان قومه يعبدون الأصنام، وعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله يونس بن متّى إلى قومه، وهو ابن ثلاثين سنةً، فأقام فيهم يدعوهم إلى الله ثلاثًا وثلاثين سنةً، فلم يؤمن به إلَّا رجلان، أحدهما روبيل، وكان عالِمًا حكيمًا، والآخر تنوخا، وكان زاهدًا عابدًا، ذكره في "العمدة"
(2)
.
وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ) أشار به إلى أبا بكر بن أبي شيبة قال في روايته: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عن شُعْبَةَ"، فرواه
(1)
"المفهم" 6/ 223 - 226.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 293.
بـ"عن" بدل قول الآخرين: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ"، فصرّحا بتحديث شعبة، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 6140](2376)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3416) و"التفسير"(4604 و 4631 و 4805)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4669)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2531)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 540)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 405 و 539)، و (البزّار) في "مسنده"(105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6238)، و (ابن منده) في "الإيمان"(720)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(4/ 316)، و"مشكل الآثار"(1/ 446 - 447)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6141]
(2377) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم -يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ-، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْني مَتَّى"، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الْعَالِيَةِ) رُفيع -بالتصغير- ابن مِهْران الرياحيّ -بكسر الراء، والتحتانية- ثقةٌ كثير الإرسال [2] (ت 90 أو 93) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 425.
3 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر والحبر؛ لسعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منّا أحدٌ، مات سنة ثمان
وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه ابن المثنّي، وابن بشّار سبق القول فيهما في الحديث الماضي، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما الحبر البحر، أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالطائف.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة السدوسيّ البصريّ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ) رُفيع بن مهران الرِّياحيّ (يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ) من كلام قتادة، حيث لَمْ يصرّح أبو العالية باسمه، فأوضحه بـ"يعني" (عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ:"مَا) نافية، (يَنْبَغِي لِعَبْدٍ) من عباد الله تعالى (أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى") لفظ "أنا" واقع موقع "هو"، ويكون راجعًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون المراد به نفس القائل، فحينئذ "كَذَب" بمعنى كَفَر، كَنَى به عن الكفر؛ لأنَّ هذا الكذب مساوٍ للكفر، كذا في "المرقاة"، وقال النوويّ رحمه الله: الضمير في "أنا" قيل: يعود إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: يعود إلى القائل؛ أي: لا يقول ذلك بعض الجاهلين، من المجتهدين في عبادة، أو علم، أو غير ذلك، من الفضائل، فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لَمْ يبلغ درجة النبوة، ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله، وهي قوله:"لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متّى". انتهى
(1)
.
وقوله: (وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ)؛ أي: حيث قال: يونس بن مَتَّى -بفتح الميم، وتشديد المثناة، مقصورًا- وفيه ردّ لِمَا وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 132 - 133، و"تحفة الأحوذيّ" 9/ 85.
أمه
(1)
، قاله في "الفتح".
وقال في موضع آخر: وأما قوله: "ونسبه إلى أبيه"، ففيه إشارة إلى الرد على من زعم أن "مَتَّى" اسم أمه، وهو مَحْكِيّ عن وهب بن مُنَبِّه في "المبتدأ"، وذكره الطبريّ، وتبعه ابن الأثير في "الكامل"، والذي في "الصحيح" أصحّ، وقيل: سبب قوله: "ونسبه إلى أبيه" أنه كان في الأصل يونس بن فلان، فنسي الراوي اسم الأب، وكنى عنه بفلان، وقيل: إن ذلك هو السبب في نسبته إلى أمه، فقال الذي نسي اسم أبيه: يونس بن متّي، وهي أمه، ثم اعتذر، فقال: ونسبه؛ أي: شيخه إلى أبيه؛ أي: سمّاه، فنسيه، ولا يخفى بُعد هذا التأويل، وتكلّفه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 6141](2377)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3395 و 3413) و"التفسير"(4630) و"التوحيد"(7539)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4669)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2650)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 541)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 242 و 254 و 291 و 295 و 301 و 320 و 342 و 348)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 131)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6241)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 446)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12753)، والله تعالى أعلم.
(44) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ يُوسُفَ عليه السلام
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6142]
(2378) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ الله، أَخْبَرَنِي
(1)
"الفتح" 6/ 451.
(2)
"الفتح" 6/ 452.
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ:"أَتْقَاهُمْ"، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ:"فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ"، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأُلَكَ، قَالَ:"فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام، إِذَا فَقِهُوا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ، مأمونٌ، سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، قدَّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3]، وروايته عن عائشة وأم سلمة مرسلة، مات في حدود العشرين ومائة، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
5 -
(أَبُوهُ) كيسان، أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، مولى أم شريك، ويقال: هو الذي يقال له: صاحب العباء، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد الأخذ والأداء منه ومنهم، كما أسلفناه غير مرّة، وهو مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقون بصريون، سوى زهير، فبغداديّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قِيلَ) لَمْ يُعرف القائل
(1)
. (يَا رَسُولَ الله، مَنْ أَكرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَتْقَاهُمْ") خبر لمبتدأ محذوف دلّ عليه السؤال؛ أي: أكرمهم أتقاهم؛ أي: أشدهم تقوي، وهو موافق لقوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. (قَالُوا)؛ أي: الصحابة السائلون، (لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ ابْنُ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ نَبِيِّ اللهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ")، وفي رواية للبخاريّ:"فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله".
ووقع في نسخة شرح النوويّ عليه السلام بحذف "ابن نبيّ الله" الثالث، ولذا قال في "شرحه": هكذا وقع في مسلم: "نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله"، وفي روايات للبخاريّ كذلك، وفي بعضها:"نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله"، وهذه الرواية هي الأصل، وأما الأُولى فمختصرة منها، فإنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فنسبه في الأُولى إلى جدّه، ويقال: يوسف بضم السين، وكسرها، وفتحها، مع الهمز، وتَرْكه، فهي ستة أوجه.
قال العلماء: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق، مع شرف النبوة، مع شرف النسب، وكونه نبيًّا ابن ثلاثة أنبياء، متناسلين، أحدهم خليل الله صلى الله عليه وسلم، وانضم إليه شَرَف علم الرؤيا، وتمكّنه فيه، ورياسة الدنيا، وملكها بالسيرة الجميلة، وحياطته للرعية، وعموم نفعه إياهم، وشفقته عليهم، وإنقاذه إياهم من تلك السنين، والله أعلم.
قال العلماء: لَمّا سئل صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم، وأعمّه، فقال: أتقاهم لله، وقد ذكرنا أن أصل الكرم كثرة الخير، ومن كان متقيًا كان كثير الخير، وكثير الفائدة في الدنيا، وصاحب الدرجات العلا في الآخرة، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: يوسف الذي جمع خيرات الآخرة والدنيا، وشَرَفهما، فلما قالوا: ليس عن هذا نسأل، فَهِم عنهم أن
(1)
"تنبيه العلم" ص 403.
مرادهم قبائل العرب، قال:"خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فَقِهُوا"، ومعناه: أن أصحاب المروءات، ومكارم الأخلاق في الجاهلية، إذا أسلموا، وفقهوا، فهم خيار الناس. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": أي: فيوسف نبي الله أشرفهم؛ لأنَّ معنى الكرم هنا الشرف، وذلك أن من اتقى ربه عز وجل شَرُف؛ لأنَّ التقوى تحمله على أسباب العزّ؛ لأنَّها تُبعده عن الطمع في كثير من المباح، فضلًا عن غيره من المآثم، وما ذاك إلَّا مَن أَسَره هواه، قال: وادَّعَى القرطبيّ أنه يخرج من هذا الحديث أن إخوة يوسف ليسوا أنبياء؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوه في هذه المنقبة، وفيه نظرٌ؛ لأنه ذَكَره لكونه أفضلهم، لاسيما على القول برسالته.
وقوله: "ابن نبي الله" هو يعقوب، ابن نبى الله هو إسحاق، ابن خليل الله هو إبراهيم -عليهم الصلاة والسلام- انتهى
(2)
.
(قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟)؛ أي: أصولهم التي يُنسبون إليها، ويتفاخرون بها، وإنما جُعلت معادن؛ لِمَا فيها من الاستعدادات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله على مراتب المعدنيات، ومنها غير قابلة له، وشبّههم بالمعادن؛ لأنهم أوعية للعلوم، كما أن المعادن أوعية للجواهر النفيسة
(3)
.
وقال في "الفتح": وقوله: "أفعن معادن العرب"؛ أي: أصولهم التي ينسبون إليها، ويتفاخرون بها، وإنما جُعلت معادن؛ لما فيها من الاستعداد المتفاوت، أو شبّههم بالمعادن؛ لكونهم أوعية الشرف، كما أن المعادن أوعية للجواهر. انتهى
(4)
.
(خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام، إِذَا فَقِهُوا") بضم القاف على المشهور، وحُكي كسرها؛ أي: صاروا فقهاء، عالمين بالأحكام الشرعية
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 134 - 135.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 245 ببعض تصرّف.
(3)
"عمدة القاري" 15/ 245.
(4)
"الفتح" 7/ 683، كتاب "الأنبياء" رقم (3374).
الفقهية، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يريد بقوله: "خياركم جمع خير"، ويَحْتَمِل أن يريد أفعل التفضيل، تقول في الواحد: خير، وأخير، ثم القسمة رباعية، فإن الأفضل: مَنْ جَمَع بين الشرف في الجاهلية والشرف في الإسلام، وكان شَرَفهم في الجاهلية بالخصال المحمودة، من جهة ملائمة الطبع، ومنافرته، خصوصًا بالانتساب إلى الآباء المتّصفين بذلك، ثم الشرف في الإسلام بالخصال المحمودة شرعًا، ثم أرفعهم مرتبة: من أضاف إلى ذلك التفقه في الدين، ومقابل ذلك من كان مشرَّفًا في الجاهلية، واستمر مشرَّفًا في الإسلام، فهذا أدنى المراتب، والقسم الثالث: مَن شَرُف في الإسلام، وفَقُه، ولم يكن شريفًا في الجاهلية، ودونه من كان كذلك، لكن لَمْ يتفقه، والقسم الرابع: من كان شريفًا في الجاهلية، ثم صار مشرّفًا في الإسلام، فهذا دون الذي قبله، فإن تفقّه فهو أعلى رتبة من الشريف الجاهل. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "إذا فقهوا" بكسر القاف، معناه: إذا فَهِموا، وعَلِموا، وهو من باب عَلِم يَعْلَم، وأما فَقُه بضم القاف يَفْقُهُ كذلك، فمعناه: صار فقيهًا عالِمًا، والفقه في العرف خاصّ بعلم الشريعة، ويختص بعلم الفروع
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 6142](2378)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3353 و 3374 و 3383) و"المناقب"(3490 و 3493 و 3496 و 3588) و"التفسير"(4689) وفي "الأدب المفرد"(1/ 58)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 367)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20641)، و (الحميديّ) في "مسنده"
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 134 - 135.
(2)
"الفتح" 7/ 683، كتاب "الأنبياء" رقم (3374).
(3)
"عمدة القاري" 15/ 245.
(1045)
، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 257 و 260 و 391 و 438 و 485 و 498 و 525 و 539) وفي "فضائل الصحابة"(1518 و 1519)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 84)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(648)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 315)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 383)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(606)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3844 و 3845)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: قد تضمَّن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه، وخصوصه، ومجمله، ومبيّنه إنما هو الدّين، من التقوي، والنبوة، والإعراق فيها، والإسلام مع الفقه، فإذا تمّ ذلك، أو ما حصل منه مع شرف الأب المعهود عند الناس، فقد كان شرف الشريف، وكرم الكريم. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أنه إنما قيّد بقوله: "إذا فقهوا" والحال أن كل من أسلم، وكان شريفًا في الجاهلية، فهو خير من الذي لَمْ يكن له الشرف فيها؛ لأنَّ المعنى ليس على ذلك، فإن الوضيع العالم خير من الشريف الجاهل، والعلم يرفع كل من لَمْ يُرْفَع
(2)
.
وقد أخرج مسلم عن عامر بن واثلة، أن نافع بن عبد الحارث، لَقِي عمر رضي الله عنه بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزي، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل، وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، وَيضَعُ به آخرين". انتهى
(3)
.
ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من البسيط]:
الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ
…
وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 362.
(2)
"عمدة القاري" 15/ 245.
(3)
تقدّم في هذا الشرح في كتاب "صلاة المسافرين وقصرها" برقم [48/ 1897](817).
3 -
(ومنها): أنه يدلّ على شرف الفقه في الدين.
4 -
(ومنها): أن العالم يجوز له أن يجيب بحسب ما يظهر له، ولا يلزمه أن يستفصل السائل عن تعيين الاحتمالات، إلَّا إن خاف على السائل غلطًا، أو سوء فهم، فيستفصله
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قول السائل: "من أكرم الناس؟ "؛ معناه: مَن أَولى بهذا الاسم، ولذلك أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بجواب كُلِّيّ، فقال:"أتقاهم"، وهذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الآية [الحجرات: 13]، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك، نَزَل عن ذلك إلى ما يقابله، وهو الخصوص بشخص معين، فقال: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ لأنَّه نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ ابن نبيّ، فإنَّ هذا لَمْ يجتمع لغيره من ولد آدم، فهو أحقّ الناس المعنيِّين بهذا الاسم، فلما قالوا: ليس عن هذا نسألك تبيّن له أنهم سألوه عمن هو أحقّ بهذا الاسم من العرب، فأجابهم بقوله:"فعن معادن العرب تسألوني؟ "؛ أي: عن أكرم أصولها، وقبائلها؟ وقد تقدَّم أن المعدن هو مأخوذ من عَدَن؛ أي: أقام، والعَدْن: الإقامة، ولمّا كانت أصول قبائل العرب ثابتةً سُمِّيت معادن، ثم قال:"خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"، فمعنى هذا: أن من اجتمع له خصال شرف زمن الجاهلية، من شرف الآباء، ومكارم الأخلاق، وصنائع المعروف، مع شرف دين الإسلام، والتفقه فيه، فهو الأحق بهذا الاسم، وقد تقدَّم أن الكرم: كثرة الخير، والنفع، ولمّا كان تقوى الله تعالى هو الذي حصل به خير الدنيا والآخرة مطلقًا، كان المتّصف به أحقّ؛ فإنَّه أكرم الناس، لكن هذه قضية عامة، فلما نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم فيمن تعيَّن في الوجود بهذه الصفة، ظهر له أن الأنبياء أحقّ بهذا المعنى؛ إذ لا يبلغ أحد درجتهم، وإن أحقَّهم بذلك من كان مُعْرِقًا في النبوة، وليس ذلك إلَّا يوسف عليه السلام، كما ذَكَرَ، ويخرج منه الردّ على من قال: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء؛ إذ لو كانوا كذلك لشاركوا يوسف في ذلك المعنى.
(1)
"المفهم" 6/ 227.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم أن بعضهم تعقّب هذا الاستنباط، لكن الذي يظهر لي هو الذي قاله القرطبيّ رحمه الله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
قال: ثم إنه لمّا نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم بين الأعم والأخصّ، ظهر أن الأحقّ بذلك المعنى نوع من الأنواع المتوسطة بين الجنس الأعم، والنوع الأخص، وظهر له أنهم أشراف العرب، ورؤساؤهم؛ إذا تفقهوا في الدين، وعَلِمُوا، وعَمِلُوا، فحازوا كل الرُّتَب الفاخرة؛ إذ اجتمعَ لهم شرف الدنيا والآخرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(45) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ زَكَرِيَّاءَ عليه السلام
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6143]
(2379) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو رَافِعِ) نُفَيعٌ الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شَرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.
والباقون تقدّموا قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكَرِيَّاءُ) فيه أربع لغات: المدّ، والقصر، وحذف الألف، مع تخفيف الياء، وفيه تشديدها أيضًا،
وحذفها، وقال الجوهريّ: لا يُصرف مع المدّ، والقصر، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: وزَكَرِيَّاءُ، ويُقْصَرُ، وكعربِيٍّ، ويُخَفَّفُ: عَلَمٌ، فإن مَدَدْتَ، أو قَصَرْتَ، لَمْ تَصْرِفْ، وإن شَدَّدْتَ صَرَفْتَ، وتَثْنِيَةُ الممْدُودِ زَكَرِيَّاوان، والجمع: زَكَرِيَّاؤونَ، وفي النَّصْبِ والخَفْضِ: زَكَرِيَّاوِينَ، والنِّسْبَةُ: زَكَرِيَّاوِيُّ، فإذا أضَفْتَ إليكَ قلتَ: زَكَرِيَّائِي بلا واوٍ، وفي التَّثْنِيَةِ: زَكَرِيَّاوايَ، وفي الجَمْعِ: زَكَرِيَّاويَّ، وتَثْنِيَةُ المَقْصُور: زَكَرِيَّان، ورأيتُ زَكَرِيَّيْن، وهُمْ زَكَرِيُّونَ، وتَثْنِيَةُ زَكَرِي مُخَفَّفَةً: زَكَرِيَان، والجمع: زَكَرونَ. انتهى
(2)
.
وقال في "التاج": و"زَكَرِيّاءُ" فيه أَربعُ لُغَات: مَمْدودٌ، مَهْمُوزٌ، وبه قَرَأَ ابنُ كَثِير، ونافِعٌ، وأَبو عَمْرو، وابنُ عَامِر، وَيعْقُوبُ، ويُقْصَرُ، وبه قَرَأَ حَمْزَةُ، والكِسَائِيّ، وحَفْص، وزَكَرِيُّ؛ كعرَبِيّ، بحذْفِ الأَلف، غَيْر مُنَوَّن أَيضًا، ويُخَفَّفُ، وهي اللُّغَةُ الرَّابِعَة، قال الأَزْهَرِيّ: وهذا مَرْفُوض عند سِيبَوَيْه، قُلْت
(3)
: ولذا اقتصرَ الزَّجَّاجُ، وابنُ دُرَيْد، والجَوْهَرِيّ على الثَّلاثَةِ الُأَول، وشذَّ بعضُ المفسِّرين، فزادَ لُغَةً خَامِسَةً، وقال: زَكَر؛ كجَبَل: عَلَمٌ على رَجلٍ. انتهى
(4)
.
وقال في "تهذيب الأسماء": قال أهل التواريخ: كان زكريا من ذرية سليمان بن داود عليهم السلام وقُتل زكريا بعد قتل يحيى ابنه -صلوات الله، وسلامه عليهما-
(5)
.
وقال في "التكملة"
(6)
: وليس هو زكريا الذي له صحيفة مستقلّة في أسفار العهد القديم لأهل الكتاب؛ لأنه كان قبل المسيح عليه السلام بخمسة قرون، وزكريا عليه السلام الذي ذُكر في القرآن كان قبل المسيح عليه السلام، وابن يحيى، وزوجته
(1)
"الفتح" 8/ 49، كتاب "الأنبياء" رقم (3430).
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 513.
(3)
القائل صاحب التاج.
(4)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 2891.
(5)
"تهذيب الأسماء" 1/ 195.
(6)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 37 - 38.
اليشع، أخت لحنّة امرأة عمران، وأم مريم، فكانت زوجة زكريا عليه السلام خالة لمريم عليه السلام، وكان زكريا من سلالة داود عليه السلام، وزوجته من ذريّة هارون عليه السلام.
وقال ابن إسحاق: كان زكريا وابنه آخر من بُعث من بني إسرائيل قبل عيسى، وقال أيضًا: أراد بنو إسرائيل قتل زكريا، ففرّ منهم، فمرّ بشجرة، فانفلقت له، فدخل فيها، فالتأمت عليه، فأخذ الشيطان بهُدبة ثوبه، فرأوها، فوضعوا المنشار على الشجرة، فنشروها حتى قطعوه من وسطه في جوفها.
وأما يحيى فقُتِل بسبب امرأة أراد مَلِكهم أن يتزوجها، فقال له يحيى: إنها لا تحلّ لك؛ لكونها كانت بنت امرأته، فتوصلت إلى الملك حتى قَتَل يحيى، قال ابن إسحاق: كان ذلك قبل أن يُرْفَع عيسى، ورَوَى أصلَ هذه القصة الحاكم في "المستدرك" من حديث عبد الله بن الزبير، وروى أيضًا من حديث ابن عباس أن دم يحيى كان يفور، حتى قَتَل عليه بختنصر من بني إسرائيل سبعين ألفًا، فسَكَن، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(نَجَّارًا") -بفتح النون، وتشديد الجيم- صيغة مبالغة مِن نَجَر الخشبةَ نجرًا، من باب نصر: إذا نَحَتَها، والحرفة: النِّجارة بالكسر؛ كالتجارة، والزراعة، والحياكة، ونحوها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على شرف النجارة، وعلى أنَّ التحرُّف بالصناعات لا يغض من مناصب أهل الفضائل، بل نقول: إن الْحِرَف والصناعات غير الركيكة زيادة في فضيلة أهل الفضل، يحصل لهم بذلك التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخالي عن الامتنان الذي هو خير المكاسب، كما قد نصَّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث قال:"إن خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"، رواه البخاريّ.
وقد نُقل عن كثير من الأنبياء أنهم كانوا يحاولون الأعمال، فأوّلهم آدم صلى الله عليه وسلم علَّمه الله صناعة الحراثة، ونوح صلى الله عليه وسلم علّمه الله صناعة النجارة، وداود صلى الله عليه وسلم علَّمه الله صناعة الحدادة، وقيل: إن موسى صلى الله عليه وسلم كان كاتبًا، كان يكتب التوراة
(1)
"الفتح" 8/ 51، كتاب "الأنبياء" رقم (3430).
بيده، وكلهم قد رَعَى الغنم، كما قال صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 6143](2379)، و (ابن ماجه) في "التجارات"(2150)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 296 و 405)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 113)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5142)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 429)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 590)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 311)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(19/ 49)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل زكريّا عليه السلام، فإنه كان صانعًا يأكل من كَسْبه، وأن عمل اليد أفضل المكاسب، فقد أخرج البخاريّ عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبيّ الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده".
وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن داود عليه السلام كان لا يأكل إلَّا من عمل يده". انتهى.
2 -
(ومنها): جواز الصنائع، وأن النجارة لا تُسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلةٌ.
3 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": وقد استُدِلّ به على مشروعية الإجارة من جهة أن عمل اليد أعمّ من أن يكون للغير أو للنفس، والذي يظهر أن الذي كان يعمله داود بيده هو نسج الدروع، وألان الله له الحديد، فكان ينسج الدروع، ويبيعها، ولا يأكل إلَّا من ثَمَن ذلك، مع كونه كان من كبار الملوك،
(1)
"المفهم" 6/ 227 - 228.
قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): ما قال المناويّ رحمه الله: وجه خيرية عمل اليد ما فيه من إيصال النفع إلى الكاسب وغيره، والسلامة عن البطالة المؤدية إلى الفضول، وكسر النفس به، والتعفف عن ذلّ السؤال، وفيه تحريض على الكسب الحلال، وهو متضمن لفوائد كثيرة:
منها: إيصال النفع لآخذ الأجرة، إن كان العمل لغيره، وإيصال النفع إلى الناس بتهيئة أسبابهم من نحو زرع، وغرس، وخياطة، وغير ذلك.
ومنها: أن يشتغل الكاسب به، فيسلم عن البطالة واللهو.
ومنها: كسر النفس به، فيقلّ طغيانها، ومَرَحها.
ومنها: التعفف عن ذلّ السؤال، والاحتياج إلى الغير.
وشرط المكتسِب أن لا يعتقد الرزق من الكسب، بل من الرزاق ذي القوة. انتهى كلام المناويّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(46) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ الْخَضِرِ عليه السلام
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6144]
(2380) - (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى عليه السلام صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ عليه السلام، فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ الله، سَمِعْتُ أُبَيِّ بْنَ كَعْبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَامَ مُوسَى عليه السلام خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ،
(1)
"الفتح" 6/ 455.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 5/ 426.
قَالَ: فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْه، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْه، أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْن، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: أَيْ رَبِّ كَيْفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ، فَهُوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ، وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، فَحَمَلَ مُوسَى عليه السلام حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، وَانْطَلَقَ هُوَ، وَفَتَاهُ يَمْشِيَان، حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَقَدَ مُوسَى عليه السلام، وَفَتَاهُ فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَل، حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمِكْتَل، فَسَقَطَ فِي الْبَحْر، قَالَ: وَأَمْسَكَ اللهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاء، حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاق، فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتِهِمَا، وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى أَنْ يُخْبِرَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ مُوسَى عليه السلام، قَالَ لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]، قَالَ: وَلَمْ يَنْصَبْ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ به، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)} [الكهف: 63]-قَالَ مُوسَى-: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} ، قَالَ: يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا، حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَأَى رَجُلًا، مُسَجًّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنى إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله، عَلَّمَكَهُ اللهُ، لَا أَعْلَمُهُ، وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ الله، عَلَّمَنِيه، لَا تَعْلَمُهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام:{هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)} [الكهف: 66 - 69]، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)} [الكهف: 70]، قَالَ: نَعَمْ، فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْر، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَة، فَنَزَعَهُ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَولٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا؛ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ
أَمْرِي عُسْرًا (73)} [الكهف: 72، 73]، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَة، فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِل، إِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَان، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأسِه، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِه، فَقَتَلَهُ، فَقَالَ مُوسَى:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف: 74، 75]، قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الأُولَي، {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 76، 77]، يَقُولُ: مَائِلٌ، قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ هَكَذَا، فَأَقَامَهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ، فَلَمْ يُضَيِّفُونَا، وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لَتَخِذْتَ
(1)
عَلَيْهِ أَجْرًا، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)} " [الكهف: 78]. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ صَبَرَ، حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا"، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"، قَالَ:"وَجَاءَ عُصْفُورٌ حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَة، ثُمَّ نَقَرَ فِي الْبَحْر، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ الله، إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ"، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو: إسحاق بن إبراهيم بن مَخْلَد، أبو محمد بن راهويه المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ مجتهدٌ قرين أحمد بن حنبل [10](ت 238) وله اثنتان وسبعون سنةً (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قدامة السرخسيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) تقدّم قريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "لاتّخذت".
6 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) المكيّ، أبو محمد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
7 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3] قُتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
8 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل بابين.
9 -
(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النّجّار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، سيد القراء، ويكنى أبا الطُّفيل أيضًا، من فُضلاء الصحابة، اختُلِف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتّحاد كيفيّة أخذه وأدائه عنهم، ثم فصّل، فقال:"وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ" إشارة إلى اختلافهم على شيخهم، فابن أبي عمر أخذ عنه سماعًا من لفظه، فلذا قال:"حَدَّثَنَا"، وأيضًا صرّح باسمه ونسبه إلى أبيه، بخلاف الآخرين فلم يصرّحوا بذلك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ، وأن صحابيّه من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فكان سيّد القرّاء، قرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم "سورة البيّنة"، فقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ:"إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، قال: وسمَّاني؟ قال: نعم، فبكى"، وفي رواية للبخاريّ: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُبَيّ: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن. قال أُبَيّ: آلله سماني لك؟ قال: الله سمّاك لي. فجعل أبي يبكي، قال قتادة: فأُنبئت أنه قرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1].
وأخرج ابن ماجه، وصححه ابن حبّان عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم عليّ بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن
ثابت، إلَّا وإن لكل أمة أمينًا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (إِنَّ نَوْفًا) -بفتح النون، وسكون الواو، وفي آخره فاء- ابن فَضَالة -بفتح الفاء، والضاد المعجمة- أبو يزيد، ويقال: أبو رشيد القاصّ البِكَاليّ، كان عالِمًا فاضلًا إمامًا لأهل دمشق، وقال ابن التين: كان حاجبًا لعلي رضي الله عنه وكان قاصًّا، وهو ابن امرأة كعب الأحبار على المشهور، وقيل: ابن أخيه
(2)
.
(الْبِكَالِيَّ) -بكسر الباء الموحّدة، وتخفيف الكاف-: نسبة إلى بني بِكال، بطن من حِمْيَر، وقال الرشاطيّ: البكالي في حِمْير يُنسب إلى بِكال بن دغمي بن عوف بن عبديّ بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر.
قال الهمدانيّ، وقيّد دغميًا بِالْغَين المعجمة، قال: وسائر ما في العرب بِالْعَين المهملة، وضبط بكالًا بفتح الباء، وأصحاب الحديث يقولون بالفتح والكسر.
وقال صاحب "المطالع": ونوف البكالي أكثر المحدثين يفتحون الباء، ويشددون الكاف، وآخره لام، وكذا قيّدناه عن أبي بحر، وابن أبي جعفر، عن العذريّ، وكذا قاله أبو ذرّ، وقيّد عن المهلَّب بكسر الباء، وكذلك عن الصدفيّ، وأبي الحسين بن سراج، بتخفيف الكاف، وهو الصواب، نسبة إلى بكال من حِمْيَر.
وقال أبو بكر بن العربيّ في "شرح الترمذيّ له: إنه منسوب إلى بكيل بطن من همدان، ورُدّ عليه بأن المنسوب إلى بكيل إنما هو أبو الوَدّاك جبر بن نوف وغيره، وأما هذا نوف بن فَضالة فهو منسوب إلى بكال، بطن من حمير
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: لَمْ يُختلَف في أن نوفًا هو بفتح النون، وإسكان
(1)
"سُنن ابن ماجه" 1/ 55.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 189.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 189.
الواو، وفتح الفاء المنوَّنة، وأما البكالي: فروايتي فيه، بكسر الباء، وفتح الكاف، وتخفيفها على كل من قرأتُه عليه في البخاريّ ومسلم، وهي المعروفة، وقد ضبطها الخشنيّ، وأبو بحر بفتح الباء، والكاف، وتشديد الكاف، والأول الصواب، وبِكال: بطن من حِمْيَر، وقيل: من هَمْدان، وإليهم يُنسب نوف هذا، وهو نوف بن فَضَالة، على ما قاله ابن دريد، وغيره، يكنى بأبي زيد، وكان عالِمًا فاضلًا، وإمامًا لأهل دمشق، وقيل: هو ابن المرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخته. انتهى
(1)
.
(يَزْعُمُ) من باب نصر، والجملة من الفعل والفاعل في محل الرفع؛ لأنَّها خبر "إنّ". (أَنَّ مُوسَى عليه السلام) بفتح "أنّ"؛ لأنه مفعول يزعم.
[فإن قلت]: يزعم من أفعال القلوب يقتضي مفعولين.
[قلت]: إنما يكون من أفعال القلوب إذا كان بمعنى الظنّ، وقد يكون بمعنى القول، من غير حجة، فلا يقتضي إلَّا مفعولًا واحدًا، نحو قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7]، فههنا يزعم يَحْتَمِل المعنيين، فإن كان بمعنى القول، فمفعوله "أن موسى"، وهو ظاهر، وإن كان بمعنى الظن، فـ"أنّ" مع اسمها وخبرها سَدَّت مسدّ المفعولين، و"موسى" لا ينصرف؛ للعَلَمية والعجمة.
(صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) بنصب "صاحبَ" صفةً لـ"موسى"، (لَيْسَ هُوَ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ عليه السلام)، وفي رواية للبخاريّ:"قلت لابن عبّاس: إن نوفًا البِكاليّ يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر"، قال في "العمدة": قوله: "ليس موسى بني إسرائيل"، وفي رواية:"ليس بموسى"، والباء زائدة للتأكيد، وهي جملة في محل الرفع؛ لأنَّها خبر "إنّ".
[فإن قلت]: موسى عَلَمٌ، والعلم لا يضاف، فكيف يضاف موسى إلى بني إسرائيل؟.
[قلت]: قد نُكِّر، ثم أضيف، ومعنى التنكير أن يُؤَوَّل بواحد من الأمة المسماة به.
(1)
"المفهم" 6/ 193.
وقوله: "إنما هو موسى آخر" رُوي بتنوين "موسى"، وبغير تنوين، أما وجه التنوين، فلأنه منصرف؛ لكونه نكرةً، قال ابن مالك: قد يُنَكَّر العَلَم تحقيقًا، أو تقديرًا، فيجري مجرى نكرة، وجعل هذا مثال التحقيقي، وأما وجه ترك التنوين فظاهر، وأما لفظة "آخر"، فإنه غير منصرف؛ للوصفية الأصلية، ووزن الفعل، فلا ينوّن على كل حال
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إنما هو مُوسَى آخر" كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو عَلَم على شخص معين، قالوا: إنه موسى بن مِيشا -بكسر الميم، وبالشين المعجمة- وجزم بعضهم أنه منوّن مصروف؛ لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالًا للعَلَم إذا نُكِّر تخفيفًا. قال: وفيه بحث. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "يزعم أن موسى
…
إلخ"؛ أي: يزعم نوف أن موسى صاحب الخضر عليهم السلام الذي قَصّ الله تعالى علينا في "سورة الكهف" ليس موسى بن عمران الذي أُرسل إلى فرعون، وإنما هو موسى بن مِيشا -بكسر الميم، وسكون الياء آخر الحروف، وبالشين المعجمة- وميشا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام وهو أول موسى، وهو أيضًا نبيّ مرسلٌ، وزعم أهل التوراة أنه هو صاحب الخضر، والذي ثبت في "الصحيح" أنه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام انتهى
(3)
.
[تنبيه]: السائل في هذه القصّة هو سعيد بن جبير، والمجيب ابن عباس رضي الله عنهما، وقد اتّفق قبل هذا أن ابن عباس رضي الله عنهما تمارى هو والحر بن قيس -كما سيأتي في آخر الباب- في صاحب موسى الذي سأل موسى السبيل إلى لقيّه، فقال ابن عباس: هو خضر، فمرّ بهما أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، فسأله ابن عباس، فأخبره، فيَحْتَمِل أن يكون سعيد بن جبير سأل ابن عباس بعد الوقعة الأُولى المتقدمة لابن عباس والحرّ، فأخبره ابن عباس لمّا سأله عن قول نوف: إن موسى ليس موسى بني إسرائيل.
وجاء أيضًا أن السائل غير سعيد بن جبير، فرُوي عن سعيد أنه قال:
(1)
"عمدة القاري" 2/ 190.
(2)
"الفتح" 1/ 381.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 193.
جلست عند ابن عباس، وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عبد الله، إن نوفًا ابن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى النبيّ الذي طلب الخضر، إنما هو موسى بن ميشا، فقال ابن عباس: كذب نوف، وحدثني أُبَيّ، وذكر الحديث. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ)؛ أي: ابن عبّاس، (كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ) جملة من الفعل والفاعل مقول "قال"، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله "كذب عدوّ الله" قولٌ أصدره غضبٌ على من يتكلم بما لم يصح، فهو إغلاظ، وردع، وقد صار غير نوفٍ إلى ما قاله نوف، لكن الصحيح ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما على ما حكاه في الحديث. انتهى
(2)
.
وقال ابن التين: لم يُرِد ابن عباس إخراج نوف عن ولاية الله، ولكن قلوب العلماء تنفر إذا سمعت غير الحقّ، فيطلقون أمثال هذا الكلام؛ لقصد الزجر، والتحذير منه، وحقيقته غير مرادة.
قال الحافظ: ويجوز أن يكون ابن عباس اتَّهَم نوفًا في صحة إسلامه، فلهذا لم يقل في حقّ الحرّ بن قيس هذه المقالة، مع تواردهما عليها.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن التين هو الأقرب، ولا يلزم عدم قوله ذلك في حقّ الحرّ بن قيس أن نظنّ بابن عبّاس هذا، فإن نوفًا رجل معروف صالح عالم، كما سبق في ترجمته، غير أنه أخطأ في هذه المسألة، فغضب عليه ابن عبّاس رضي الله عنهما، وقال ما تقدّم، فتأمل بالإمعان.
وقد أجاد العينيّ رحمه الله في "العمدة" حيث قال: قوله: "كذب عدو الله" هكذا وقع من ابن عباس رضي الله عنهما على طريق الإغلاظ على القائل بخلاف قوله، وألفاظ الغضب تجيء على غير الحقيقة في الغالب، وابن عباس قاله على وجه الزجر عن مثل هذا القول؛ لا أنه يعتقد أنه عدو لله، ولدينه حقيقةً، إنما قاله مبالغة في إنكاره، وكان ذلك في حال غضب ابن عباس رضي الله عنهما؛ لشدة الإنكار، وحال الغضب تُطلق الألفاظ، ولا يراد بها حقائقها. انتهى
(3)
.
قال الحافظ رحمه الله: وأما تكذيبه فيستفاد منه أن للعالم إذا كان عنده علم
(1)
"عمدة القاري" 2/ 193.
(2)
"المفهم" 6/ 193.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 193.
بشيء، فسمع غيره يَذكر فيه شيئًا بغير علم أن يكذبه، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم:"كَذَب أبو السنابل"؛ أي: أخبر بما هو باطل في نفس الأمر. انتهى
(1)
.
(سَمِعْتُ أُبَيَّ بْنَ كعْبٍ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": في استدلاله بذلك دليل على قوّة خبر الواحد المتقن عنده، حيث يُطلق مثل هذا الكلام في حقّ من خالفه، وفي الإسناد رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهما عمرو، وسعيد، وصحابيّ، عن صحابي وهما ابن عباس وأُبيّ
(2)
.
(يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَامَ مُوسَى عليه السلام) هو ابن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وُلد وعُمرُ عمران سبعون سنةً، وعُمِّر عمران مائة وسبعًا وثلاثين سنةً، وعمِّر موسى عليه السلام مائة وعشرين سنةً، وقال الفربريّ: مات موسى وعمره مائة وستون سنة، وكانت وفاته في التيه، في سابع آذار لمضي ألف سنة وستمائة وعشرين سنة من الطوفان، في أيام منوجهر الملك، وكان عمره لمّا خرج ببني إسرائيل من مصر ثمانين سنة، وأقام بالتيه أربعين سنة، ولمّا مات الريان بن الوليد الذي وَلَّى يوسف على خزائن مصر، وأسلم على يديه مُلِّك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام، فأبى، وكان جبارًا، وقبض الله يوسف عليه السلام، وطال مُلكه، ثم هلك، ومُلِّك بعده أخوه الوليد بن مصعب بن ريان بن أراشة بن شروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وكان أعتى من قابوس، وامتدت أيام ملكه حتى كان فرعون موسى عليه السلام الذي بعثه الله إليه، ولم يكن في الفراعنة أعتى منه، ولا أطول عمرًا في المُلك منه، عاش أربعمائة سنة.
و"موسى" معرَّب موشى بالشين المعجمة، سمّته به آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، لمّا وجدوه في التابوت، وهو اسم اقتضاه حاله؛ لأنه وُجد بين الماء والشجر، فمو: بلغة القبط الماء، وشى: الشجر، فعُرِّب، فقيل: موسى، وقال الصغانيّ: هو عبرانيّ عُرِّب، وقال أبو عمرو بن العلاء: موسى اسم رجل وزنه مُفْعَل، فعلى هذا يكون مصروفًا في النكرة، وقال الكسائيّ: وزنه فُعْلَى، وهو
(1)
"الفتح" 1/ 381.
(2)
"الفتح" 1/ 381.
لا ينصرف بحال، ذكره في "العمدة"
(1)
.
حال كونه (خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ) لم يُعرف السائل
(2)
. (أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ) موسى عليه السلام (أنَا أَعْلَمُ) قيل: إنه مخالف لقوله في الرواية الأخرى في جواب "هل تعلم أحدًا أعلم منك؟، قال: لا"، قال الحافظ: وعندي لا مخالفة بينهما؛ لأن قوله هنا: "أنا أعلم"؛ أي: فيما أعلم، فيطابق قوله:"لا" في جواب من قال له: "هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ " في إسناد ذلك إلى عِلمه، لا إلى ما في نفس الأمر.
وعند النسائيّ من طريق عبد الله بن عبيد، عن سعيد بن جبير، بهذا السند:"قام موسى خطيبًا، فَعَرَض في نفسه أن أحدًا لم يؤت من العلم ما أوتي، وعَلِم الله بما حدّث به نفسه، فقال: يا موسى إن من عبادي من آتيته من العلم ما لم أوتك".
وعند عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير:"فقال: ما أجد أحدًا أعلم بالله، وأمْره مني"، وهو عند مسلم من وجه آخر عن أبي إسحاق، بلفظ:"ما أعلم في الأرض رجلًا خيرًا، أو أعلم مني".
قال ابن المنير: ظَنّ ابن بطال أن تَرْك موسى الجواب عن هذه المسألة كان أَولى، قال: وعندي أنه ليس كذلك، بل رَدّ العلم إلى الله تعالى متعيّن، أجاب أو لم يجب، فلو قال موسى عليه السلام: أنا والله أعلم، لم تحصل المعاتبة، وإنما عوتب على اقتصاره على ذلك؛ أي: لأن الجزم يوهم أنه كذلك في نفس الأمر، وإنما مراده الإخبار بما في علمه، كما قدّمناه، والعتب من الله تعالى محمول على ما يليق به، لا على معناه العرفي في الآدميين، كنظائره. انتهى.
وقال في "العمدة": قال ابن بطال: كان ينبغي أن يقول: الله أعلم، إذا قيل له: أيُّ الناس أعلم؛ لأنه لم يُحط علمًا بكل عالم في الدنيا، وقد قالت الملائكة:{سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} الآية [البقرة: 32]، وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الروح وغيره، فقال: لا أدري حتى أسأل الله تعالى.
وقال بعض الفضلاء ردًّا على ابن بطال في حصر الصواب في ترك
(1)
"عمدة القاري" 2/ 59.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 403.
الجواب بقوله: الله أعلم: بل الجواب أنّ ردَّ العلم إلى الله سبحانه وتعالى متعيّن، أجاب أم لا، فإن أجاب قال: أنا والله أعلم، وإن لم يجب قال: الله أعلم، وبهذا تأدّب المُفتون عقب أجوبتهم، والله أعلم.
ولعل موسى عليه السلام لو قال: أنا والله أعلم؛ أي: هذا لكان جوابًا، وإنما وقعت المؤاخذة على الاقتصار على قوله: أنا أعلم.
وقال المازريّ في الجواب: أما على رواية مَن روى: "هل تعلم؟ " فلا عتب عليه، إذا أخبر عما يعلم، وأما على رواية:"أيُّ الناس أعلم؟ " وقد أخبر الله تعالى أن الخضر أعلم منه، فمراد موسى عليه السلام: أنا أعلم؛ أي: فيما ظهر لي، واقتضاه شاهد الحال، ودلالة النبوة؛ لأن موسى في النبوة بالمكان الأرفع، والعلم من أعلى المراتب، فقد يعتقد أن يكون أعلم لهذه الأمور، وقيل: المراد أنه أعلم بما تقتضيه وظائف النبوة، وأمور الشريعة، والخضر أعلم منه على الخصوص بأمور أخر غير عينية، وكان موسى أعلم على العموم، والخضر أعلم منه على الخصوص. انتهى
(1)
.
(قَالَ: فَعَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ) من بابي ضرب، وقتل، يقال: عَتَب عليه عَتْبًا، ومَعْتَبًا أيضًا: لَامَه في تسخّط، فهو عاتب، وعتّابٌ مبالغة، وعاتبه معاتبةً وعِتابًا، قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبةُ الإدلال، ومُذاكرة الْمَوْجِدَةِ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
(إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ)"إذ" تعليليّة؛ أي: لأنه لم يردّ العلم إلى الله تعالى حين أجاب بقوله: "أنا أعلم"، وهذا من باب التنبيه لموسى عليه السلام، والتعليم لمن بعده لئلا يقتدي به غيره في ذلك؛ إذ فيه تزكية للنفس، وقد قال الله عز وجل:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].
وقال القرطبيّ رحمه الله: مساق هذه الرواية هو أكمل ما سيق هذا الحديث عليه، فلنبحث فيه، وظاهر هذا اللفظ: أن الذي عتب الله تعالى على موسى عليه السلام إنما هو أن قال: أنا أعلم، فأضاف الأعلمية إليه، ولم يقل: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، فيفوَّض ذلك إلى الله، فيكون هذا من نوع ما عتبة
(1)
"عمدة القاري" 2/ 193.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 391.
النبيّ صلى الله عليه وسلم على لوط عليه السلام حيث قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]، وسيأتي تكميل هذا المعنى في "كتاب التفسير" - إن شاء الله تعالى.
فكان الأَولى بموسى صلى الله عليه وسلم أن يقول: الله أعلم بمن هو أعلم الناس، لكن لمّا لم يعلم في زمانه رسولًا آتاه الله كتابًا فيه عِلْم كل شيء، وتفصيل الأحكام سواه، قال ذلك حسب ما كان في علمه، لكنه تعالى لم يرض منه بذلك لكمال معرفته بالله تعالى، ولعلوِّ منصبه، وفي بعض طرق البخاريّ: أن السائل قال لموسى: هل في الأرض أعلم منك؟ قال: لا، فعتب الله عليه إذ لم يردَّ العلم إليه.
قال القرطبيّ: وهذان اللفظان هما اللذان يتوجَّه العتب على موسى فيهما، وقد رُوي بألفاظ أخر يبعد توجُّه العتب عليها، فقد روي أنه قال: لا أعلم في الأرض خيرًا، ولا أعلم مني. وفي أخرى: قيل له: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال: لا، فهذان اللفظان قد نَفَى فيهما العلم فيما سئل عنه عن نفسه، وهو حقّ صحيح، وتبرؤ صريح، فكيف يتوجه على من قال مثل ذلك عتب، أو يُنسب إلى تقصير؛ فالصحيح من حيث المعنى أن الذي صدر من موسى صلى الله عليه وسلم معنى اللفظين السابقين؛ فإنَّه جزم فيهما بأنه أعلم أهل الأرض، وهذا محل العتب على مثله، فإنَّه كان الأَولى به أن يفوِّض علم ذلك إلى الله تعالى، وهذا يدلّ على صحة ما قلناه فيما تقدَّم من أن الذنوب المنسوبة إلى الأنبياء المعدَّدة عليهم، إنما هي من باب ترك الأَولى، وعوتبوا عليها بحسب مقاديرهم، فإن حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين. انتهى
(1)
.
(فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ) إلى موسى عليه السلام، (أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي) هو: خضر، واسمه: بليا بن مَلْكان، على ما قاله بعض المفسرين، وسُمِّي الخضر، لِمَا أخرجه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما سُمِّي الخضر؛ لأنه جلس على فَرْوة
(2)
بيضاء، فاهتزت تحته خضراء"، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(1)
"المفهم" 6/ 194 - 195.
(2)
"الفروة" -بفتح، فسكون- الأرض التي ليس بها نبات.
(بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ)؛ أي: ملتقى البحرين، والبحر: خلاف البرّ، قيل: سُمّي بذلك؛ لعمقه، واتساعه، والجمع: أبحر، وبحار، وبحور، واختلفوا في البحرين، فقيل: هو ملتقى بحري فارس والروم، مما يلي المشرق، وقيل: طنجة، وقيل: أفريقية
(1)
، وذكر السهيليّ أنها بحر الأردن، وبحر القلزم، وقيل: بحر المغرب، وبحر الزقاق، قاله في "العمدة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: "بمجمع البحرين"؛ أي: ملتقاهما، قال قتادة: هما بحرا فارس والروم، وقال السُّدِّي: هما الكرّ والرّسّ بأرمينية، وقال أبيّ: هما بأفريقية، وقال ابن عبد البرّ: بطنجة، وحُكي عن ابن عباس رضي الله عنهما إن بحري العلم: الخضر وموسى، وكأنَّ هذا لا يصح عنه، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال العلامة العينيّ بعد ذِكره ما تقدّم: بحر فارس ينبعث من بحر الهند شمالًا بين مكران، وهي على فم بحر فارس، من شرقيه، وبين عمان، وهي على فم بحر فارس، من غربيه، وبحر الروم هو: بحر أَفريقية والشام، يمتدّ من عند البحر الأخضر إلى المشرق، ويتصل بطرسوس، وبحر طنجة بينها وبين سبتة وغيرهما من برّ العدوة، من الأندلس، وبحر أَفريقية هو: بحر طرابلس المغرب، يمتدّ منها شرقًا حتى يتجاوز حدود أَفريقية، وهو الذي يتصل بإسكندرية، والكل يسمى بحر الروم، وإنما يضاف إلى البلاد عند الاتصال إليها، وبحر القلزم يأخذ من القلزم، وهي: بلدة للسودان على طرفه الشمال جنوبًا بميله إلى المشرق، حتى يصير عند القصير، وهي فرصة قوص، والأُرْدُنّ بضم الهمزة، وسكون الراء، وضم الدال المهملتين، وتشديد النون في آخرها: بلدة من بلاد الغور من الشام، ولا أعرف بحرًا يُنسب إليها، وإنما نُسب إليها نهر كبير يسمى نهر الأردن وهو: نهر الغور، ويسمى الشريعة أيضًا، وآخره ينتهي إلى البحيرة المنتنة: وهي بحيرة زغر، وبحر الزقاق بين طنجة وبر الأندلس، هناك يسمى بحر الزقاق، وهو يضيق هناك، وبحر المغرب هو: البحر الأخضر الذي لا يُعرف منه إلا ما يلي المغرب من أقاصي الحبشة إلى خلف بلاد الرومية، وهي بحيث لا يُدْرَك آخرها؛ لأن المراكب لا تجري فيها، وله
(1)
بفتح الهمزة.
(2)
"المفهم" 6/ 195.
خليج إلى الأندلس وطنجة. انتهى
(1)
.
(هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هو أعلم منك"؛ أي: بأحكام وقائع مفصَّلة، وحكم نوازل معيَّنة، لا مطلقًا، بدليل قول الخضر لموسى:"إنَّك على علم علَّمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم علَّمنيه الله لا تعلمه أنت"، وعلى هذا فيَصْدُق على كل واحد منهما أنه أعلم من الآخر بالنسبة إلى ما يعلمه كل واحد منهما، ولا يعلمه الآخر.
فلما سمع موسى هذا تشوَّفت نفسه الفاضلة، وهمَّته العالية لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنه منك أعلم، فعزم، فسأل سؤال الدَّليل كيف السبيل؟ فأُمر بالإرتحال على كل حال، وقيل له: احمل معك حوتًا مالِحًا في مِكتل، وهو الزنبيل، فحيث يحيا، وتَفْقِده فثمَّ السبيل، فانطلق مع فتاه لِمَا واتاه، مجتهدًا طالبًا قائلًا:{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]، والْحُقُب: بضم الحاء، والقاف: الدهر، والجمع حِقَابٌ، مثلُ قُفّ وقِفَافٍ، وبضم الحاء وسكون القاف، ثمانون سنة، ويقال: أكثر من ذلك، والجمع حِقَاب، والحقبة بكسر الحاء، واحدة الْحِقَب، وهي: السنون. انتهى من "الصحاح"
(2)
.
قال: وفيه من الفقه رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم، والصَّاحب، واغتنام لقاء الفضلاء، والعلماء، وإن بَعُدَت أقطارهم، وذلك كان دأب السَّلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فرسخت في العلوم لهم أقدام، وصحَّ لهم من الذِّكر والأجر أفضل الأقسام.
ثم إن موسى صلى الله عليه وسلم أزعجه القلق، فانطلق مغمورًا بما عنده من الشوق والحرق، يمشي مع فتاه على الشطّ، ولا يبالي بمن حطَّ، لا يجد نصبًا، ولا يُخطئ سببًا، إلى أن أويا إلى الصخرة، فناما في ظِلِّها، قال بعض المفسرين: وكانت على مجمع البحرين، وعندها ماء الحياة، حكى معناه الترمذيّ عن سفيان بن عيينة، فانتضح منه على الحوت، فحيي، واضطرب، فخرج من
(1)
"عمدة القاري" 2/ 59.
(2)
"الصحاح" ص 249.
المكتل يضطرب، حتى سقط في البحر، فأمسك الله جرية الماء عن موضع دخوله، حتى كان مثل الطاق، وهو النَّقْب الذي يدخل منه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "هو أعلم منك" هذا ظاهر في أن الخضر نبيّ، بل نبيّ مرسل؛ إذ لو لم يكن كذلك للزم تفضيل العالي على الأعلى، وهو باطل من القول، ولهذا أورد الزمخشري سؤالًا، وهو: دلت حاجة موسى إلى التعلّم من غيره أنه موسى بن ميشا كما قيل؛ إذ النبيّ يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وأجاب عنه بأنه لا نقص بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ مثله.
قال الحافظ: وفي الجواب نظر؛ لأنه يستلزم نفي ما أوجب، والحقّ أن المراد بهذا الإطلاق تقييد الأعلمية بأمر مخصوص؛ لقوله بعد ذلك:"إني على علم من علم الله علّمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علم علّمكه الله، لا أعلمه"، والمراد بكون النبيّ أعلم أهل زمانه؛ أي: ممن أُرسل إليه، ولم يكن موسى مرسلًا إلى الخضر، وإذًا فلا نقص به إذا كان الخضر أعلم منه، إن قلنا: إنه نبيّ مرسل، أو أعلم منه في أمر مخصوص، إن قلنا: إنه نبيّ، أو وليّ
(2)
، وينحلّ بهذا التقرير إشكالات كثيرة.
ومن أوضح ما يُستدلّ به على نبوة الخضر قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وينبغي اعتقاد كونه نبيًّا؛ لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الوليّ أفضل من النبيّ، حاشا، وكَلّا.
وتعقب ابن الْمُنَيِّر على ابن بطال إيراده في هذا الموضع كثيرًا من أقوال السلف في التحذير من الدعوى في العلم، والحثّ على قول العالم: لا أدري، بأن سياق مثل ذلك في هذا الموضع غير لائق، وهو كما قال رحمه الله، قال: وليس قول موسى عليه السلام: أنا أعلم؛ كقول آحاد الناس مثل ذلك، ولا نتيجةُ قوله كنتيجة قولهم، فإن نتيجة قولهم: العُجب، والكِبْر، ونتيجة قوله: المزيد من العلم، والحث على التواضع، والحرص على طلب العلم، واستدلاله به أيضًا
(1)
"المفهم" 6/ 196.
(2)
هذا باطلٌ؛ يُبطله قوله في الآية: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، وقوله:{فَأَرَادَ رَبُّكَ} الآية، وغير ذلك، فتنبّه.
على أنه لا يجوز الاعتراض بالعقل على الشرع خطأ؛ لأن موسى إنما اعترض بظاهر الشرع، لا بالعقل المجرد، ففيه حجة على صحة الاعتراض بالشرع على ما لا يسوغ فيه، ولو كان مستقيمًا في باطن الأمر. انتهى
(1)
.
(قَالَ مُوسَى) عليه السلام (أَيْ) حرف نداء، (رَبِّ كَيْفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ) بكسر الميم أمْر مِن حَمَل، من باب ضرب. (حُوتًا)؛ أي: سمكةً، قيل: حَمَل سمكة مملوحة، وقيل: ما كانت إلا شقّ سمكة، (فِي مِكْتَلٍ) بكسر الميم، وفتح المثنّاة من فوقُ: هو الزنبيل، ويقال: الْقُفّة، ويقال: فوق القُفّة، والزنبيلِ، وفي "العباب": الْمِكَتَل يُشبه الزنبيل، يسع خمسة عشر صاعًا
(2)
.
وفي رواية أخرى: "فجعل الله له آية"؛ أي: علامة لمكان الخضر، ولقائه، وذلك أنه لما قال موسى عليه السلام: أين أطلبه؟ قال الله تعالى له: على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتًا في مكتل، فحيث فقدته، فهو هناك.
(فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ) المحمول (فَهُوَ)؛ أي: العبد الأعلم منك، (ثَمَّ) بفتح المثلّثة، وتشديد الميم؛ أي: هنالك. (فَانْطَلَقَ) موسى عليه السلام، (وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ، وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ) هو الذي قام في بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، ونقل ابن العربيّ أنه كان ابن أخت موسى، وزعم ابن العربيّ أن ظاهر القرآن يقتضي أن الفتى ليس هو يوشع، وكأنه أخذه من لفظ الفتى، وأنه خاصّ بالرقيق، وليس بجيّد؛ لأن الفتى مأخوذ من الفَتَاءِ، وهو: الشباب، وأُطلق ذلك على من يخدُم، سواء كان شابًّا، أو شيخًا، كذا في "الفتح". (فَحَمَلَ مُوسَى عليه السلام حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، وَانْطَلَقَ هُوَ، وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ) زاد في رواية: "على ساحل البحر"، (حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ، فَرَقَدَ مُوسَى عليه السلام، وَفَتَاهُ فَاضْطَرَبَ)؛ أي: حَيِيَ، وتحرك (الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ) قيل: إن يوشع حمل الخبز والحوت في المكتل، فنزلا ليلة على شاطئ عين، تسمى عين الحياة، فلما أصاب السمكة رُوح الماء وبَرده عاشت، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت،
(1)
"الفتح" 1/ 382، كتاب "العلم" رقم (122).
(2)
"عمدة القاري" 2/ 189.
فعاش، ووقع في الماء (حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمِكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَأَمْسَكَ اللهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ) بكسر الجيم: حالة الجريان، قاله ابن الأثير
(1)
، وقال الفيّومي: جرى الماء: سال، خلاف وَقَفَ، وسَكَنَ، والمصدر: الْجَرْيُ بفتح الجيم، قال السَّرَقُسْطيّ: فإن أدخلتَ الهاء كسرت الجيم، وقلتَ: جرى الماء جِرْيَةً. انتهى
(2)
.
(حَتَّى كَانَ مِثْلَ الطَّاقِ) قال المجد: الطاق: ما عُطف من الأبنية، جَمْعه: طاقات، وطِيقان. انتهى
(3)
.
(فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا)؛ أي: مسلكًا، قاله مجاهد، وقال قتادة: جمد الماء، فصار كالسِّرب.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: السرب: المسلك، قاله مجاهد، وقال قتادة: جمد الماء فصار كالسرب، وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغًا، وأن موسى مشى عليه متّبعًا للحوت، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر، وفيها وجد الخضر، وظاهر الروايات، والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضَفَّة البحر. انتهى
(4)
.
(وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا) لَمَّا تذكرا، فرجعا، تعجبا من قدرة الله تعالى على إحياء الحوت، ومن إمساك جري الماء، حتى صار بحيث يُسْلَك فيه.
وقال القرطبيّ المفسّر رحمه الله: قوله: "عجبًا" يَحْتَمِل أن يكون من قول يوشع لموسى؛ أي: اتخذ الحوت سبيله عجبًا للناس، ويَحْتَمِل أن يكون قوله:"واتخذ سبيله في البحر" تمام الخبر، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه:"عجبًا" لهذا الأمر، وموضع العجب أن يكون حوت قد مات، فأكل شقه الأيسر، ثم حَيِى بعد ذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "واتخذ سبيله" إخبارًا من الله تعالى، وذلك على وجهين: إما أن يُخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبًا؛ أي: تعجّب منه، وإما أن يُخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبًا للناس.
(1)
"النهاية" ص 150.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 97.
(3)
"القاموس المحيط" ص 819.
(4)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 12.
ومن غريب ما روي في البخاريّ عن ابن عباس من قصص هذه الآية: أن الحوت إنما حيي لأنه مسّه ماء عين هناك تدعى عين الحياة، ما مسّت قط شيئًا إلا حيى.
وفي التفسير: إن العلامة كانت أن يحيا الحوت، فقيل: لمّا نزل موسى بعدما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة، أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيى.
وقال الترمذي في حديثه: قال سفيان: يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة، ولا يصيب ماؤها شيئًا إلا عاش، قال: وكان الحوت قد أُكل منه، فلما قَطَر عليه الماء عاش.
وذكر صاحب كتاب "العروس" أن موسى عليه السلام توضأ من عين الحياة، فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيى، والله أعلم
(1)
.
(فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا) بالجر على الإضافة، (وَلَيْلَتَهُمَا) الأَولى أنه بالنصب عطفًا على "بقيّةَ"؛ إذ المراد سير جميعه، بخلاف اليوم فإن السير في بقيّته؛ إذ ناما أوله، وسارا آخره، فهو البقيّة، وأما الليل، فسارا جميعه؛ بدليل قوله:"فلما أصبح"، فليُتنبّه، قال في "الفتح": قوله: "فانطلقا بقية ليلتهما" بالجرّ على الإضافة، و"يومهما" بالنصب على إرادة سير جميعه، ونبه بعض الحذّاق على أنه مقلوب، وأن الصواب "بقية يومهما، وليلتَهُما" لقوله بعده: "فلما أصبح"؛ لأنه لا يصبح إلا عن ليل. انتهى.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "فلما أصبح"؛ أي: من الليلة التي تلي اليوم الذي سارا جميعه، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد هذا الاحتمال، والأولى ما قاله بعض الحذّاق، من أنه مقلوب، بدليل الرواية الأخرى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فانطلقا بقية يومهما وليلتهما"؛ يعني: بعد أن قاما من نومهما، ونسيا حوتهما؛ أي: غفلا عنه، ولم يطلباه لاستعجالهما،
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 14 - 15.
(2)
"الفتح" 1/ 382 - 383.
وقيل: نسي يوشع الحوت، وموسى أن يأمره فيه بشيء، وقيل: نسي يوشع، فنُسب النسيان إليهما للصحبة؛ كقوله تعالى:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22]؛ وعلى هذا القول يدل قوله في الحديث: "ونسي صاحب موسى أن يخبره"، ويظهر منه أن يوشع أبصر ما كان من الحوت، ونسي أن يخبر موسى في ذلك الوقت. انتهى
(1)
.
(وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَى) يوشع بن نون، ونسبة النسيان إليهما في قوله تعالى:{نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] من باب قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22]، وإنما يخرج من الْمَلِح، وقيل: نَسِي موسى عليه السلام أن يتقدم إلى يوشع في أمر الحوت، ونَسِي يوشع أن يخبره بذهابه. (أَنْ يُخْبِرَهُ)؛ أي: بانسلاله من المكتل إلى البحر، (فَلَمَّا أَصْبَحَ)؛ أي: دخل الصباح، (مُوسَى عليه السلام، قَالَ لِفَتَاهُ) يوشع (آتِنَا)؛ أي: أعطنا (غَدَاءَنَا) بالفتح، والمدّ: طعام الغداة؛ أي: أول النهار.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أنهما كانا تزوَّدا، وقيل: كان زادهما الحوت، وكان مملَّحًا، قال: والظاهر من الحديث أنه إنما حمل الحوت معه؛ ليكون فَقْده دليلًا على موضع الخضر، كما تقدَّم من قوله تعالى لموسى:"احمل معك حوتًا في مكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثمَّ"، وعلى هذا فيكون تزوَّدا شيئًا آخر غير الحوت. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ المفسّر: فيه اتخاذ الزاد في الأسفار، وهو ردّ على الصوفية الجهلة الأغمار، الذين يقتحمون المهامه، والقفار، زعمًا منهم أن ذلك هو التوكل على الله الواحد القهار، هذا موسى نبيّ الله، وكليمه من أهل الأرض قد اتخذ الزاد، مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.
وفي "صحيح البخاريّ": إن ناسًا من أهل اليمن كانوا يحجّون، ولا يتزوّدون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قَدِمُوا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا} . انتهى
(3)
.
(1)
"المفهم" 6/ 197.
(2)
"المفهم" 6/ 197.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 13.
(لَقَدْ لَقِينَا) بكسر القاف، من باب تَعِب؛ أي: استقبلنا، وصادفنا (مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)؛ أي: تعبًا ومشقّةً، قيل: عَنَى به هنا: الجوع، وفيه دليل على جواز الإخبار بما يجده الإنسان من الآلام، والأمراض، وأن ذلك لا يقدح في الرّضا، ولا في التسليم للقضاء، لكن إذا لم يصدر ذلك عن ضجر، ولا تسخُّط
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يَنْصَبْ) بفتح الصاد، من باب تعِب وزنًا ومعنًى؛ أي: لم يتعب موسى (حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: أمَره الله تعالى بالوصول إليه، وعدم مجاوزته؛ لأن الخضر هناك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: لم يجد موسى أَلَم النَّصب، إلا بعد أن جاوز موضع فَقْد الحوت، وكان الله تعالى جَعَل وجدان النَّصَب سبب طلب الغداء، وجعل طلب الغداء سبب تذكّر ما كان من الحوت، ومن هنا قيل: إن النَّصب هنا هو الجوع. انتهى
(2)
.
(قَالَ) يوشع (أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخْبِرني، وفيه حَذْف، تقديره: أرأيت ما دهاني؟ (إِذْ أَوَيْنَا)؛ أي: وقت إيوائنا (إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي) الفاء فيه تفسيرية، يُفَسِّر بها ما دهاه من نسيان الحوت، حين أويا إلى الصخرة. (نَسِيتُ الْحُوتَ)؛ أي: نسيت تفقّد أمره، وما يكون منه، مما جُعل أمارة على الظفر بالطَّلِبَةِ، من لقاء الخضر عليه السلام.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا قول يوشع جوابًا لموسى، وإخبارًا له عما جرى، ومعنى {أَوَيْنَا}: انضممنا، وهي هنا بقصر الهمزة؛ لأنه لازم، وقد تقدَّم ذِكر الخلاف في المتعدّي في قَصْرِه ومدّه، ونسبة الفتى النسيان إلى نفسه نسبة عاديةٌ، لا حقيقية. انتهى
(3)
.
(وَمَا أَنْسَانِيهُ) بضم الهاء في رواية حفص، وبكسرها في رواية غيره، (إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) قال القرطبيّ رحمه الله:"أن" مع الفعل بتأويل المصدر، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في "أنسانيه"، وهو بدل الظاهر من المضمَر،
(1)
"المفهم" 6/ 197.
(2)
"المفهم" 6/ 198.
(3)
"المفهم" 6/ 198.
وهذا إنما ذَكره يوشع في معرض الاعتذار، وذلك أن في البخاريّ: أن موسى عليه السلام قال لفتاه: "لا أُكلِّفك إلا أن تُخبرني بحيث يفارقك الحوت"، فاعتذر بذلك القول؛ ويعني بذلك: أن الشيطان سبب للنسيان، والغفلة بما يورده على القلب من الخوض في غير المعنى المطلوب، ومن المعلوم أن النسيان لا صُنع فيه للإنسان، وأنه مغلوب عليه، ولذلك لم يؤاخذ الله تعالى به؛ وإنَّما محل المؤاخذة الإهمال والتفريط، والانصراف عن الأمور المهمة إلى ما ليس بمهم، حتى ينسى المهم، وهذا هو فعل الشيطان المذموم أن يَشغَل ذكر الإنسان بما ليس بمهم، ويزيّنه له حتى ينصرف عن المهم، فيذم على ذلك، ويُعاقب، فيحصل مقصود الشيطان من الإنسان. انتهى
(1)
.
(وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)؛ أي: اتخذ الحوت طريقه في البحر عجبًا تعجب منه يُوشع، ويتعجب به غيره ممن شاهده، أو سمع قضيته. (قَالَ مُوسَى) عليه السلام (ذَلِكَ)؛ أي: فِقدان الحوت، (مَا كُنَّا نَبْغِي)؛ أي: هو الذي كنا نطلبه؛ لأنه علامة وجدان المقصود.
وقال في "العمدة": قوله: "ما كنا نبغي" كلمة "ما" موصولة، والعائد محذوف؛ أي: نبغيه، ويجوز حذف الياء من "نبغي"؛ للتخفيف، وهكذا قُرئ أيضًا في السبعة، وإثباتها أحسن، وهي قراءة أبي عمرو. انتهى
(2)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله: حَذَف نافع، وأبو عمرو، والكسائيّ ياء "نبغي" وقفًا، وأثبتوها وصلًا، وابن كثير أثبتها في الحالين، والباقون حذفوها في الحالين؛ اتّباعًا للرسم، وكان من حقّها الثبوت، وإنما حُذفت تشبيهًا بالفواصل، أو لأن الحذف يؤنس بالحذف، فإن "ما" موصولة، حُذف عائدها. انتهى
(3)
.
(فَارْتَدَّا)؛ أي: رجعا (عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا)؛ أي: يتّبعان آثار أقدامهما اتّباعًا؛ لئلا يخطئا طريقهما، (حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ،
(1)
"المفهم" 6/ 198.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 192 بتصرّف يسير.
(3)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 7/ 524.
فَرَأَى رَجُلًا، مُسَجًّى)؛ أي: مغطًّى (عَلَيْهِ بِثَوْبٍ)، وفي رواية:"مُستلقيًا على القفا، أو قال: على حلاوة القفا"؛ أي: مباشرًا بظهره وقفاه الأرض، مستقبلًا بوجهه السماء، كهيئة الميت، وقال القرطبيّ: وقوله: "حلاوة القفا"؛ يعني بها -والله أعلم-: أن هذه الضجعة مما تُستحلَى؛ لأنَّها ضِجعة استراحة، فكأنه قال: أو حلاوة ضجعة القفا، ويقال: بضم الحاء، وفتحها، وحلاء بالضم والمد، وبه، وبالقصر، وكأن هذه الضجعة من الخضر كانت بعد تعب عبادة، وآثر هذه الضجعة لِمَا فيها من تردُّد البصر في المخلوقات، ورؤية عجائب السماوات، فكأن الخضر في هذه الضجعة متفرغ عن الخليقة، مملوء بما لاح له من الحقّ والحقيقة، ولذلك لما سلَّم عليه موسى صلى الله عليه وسلم كشف الثوب عن وجهه، وقال: وعليك السلام، من أنت؟. انتهى
(1)
.
(فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى) عليه السلام (فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ؟)؛ معناه: من أين تعرف السلام بهذه الأرض التي أنت فيها؟! وقال في "الفتح": قوله: "أنَّى"؛ أي: كيف بأرضك السلام؟ ويؤيده ما في "التفسير": "هل بأرضي من سلام؟ "، أو من أين، كما في قوله تعالى:{أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37]، والمعنى: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يُعرف فيها؟ وكأنها كانت بلاد كفر، أو كانت تحيتهم بغير السلام، وفيه دليل على أن الأنبياء، ومَنْ دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله تعالى؛ إذ لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أنّى بأرضك السلام؟ " هذا يَحْتَمِل وجهين:
[أحدهما]: أن ذلك الموضع كان قفرًا لم يكن به أحدٌ يصحبه، ولا أنيس، فيكلمه، ويَحْتَمِل أن يكون أهل ذلك الموضع لا يعرفون السلام الذي سلّم به موسى عليه، إما لأنهم ليسوا على دين موسى، وإما لأنه ليس من كلامهم.
و"أنى" تأتي بمعنى حيث، وكيف، وأين، ومتى، حكاه القاضي، وفي هذا من الفقه: تسليم القائم على المضطجع، وهذا القول من الخضر كان بعد
(1)
"المفهم" 6/ 199.
(2)
"الفتح" 1/ 383.
أن ردَّ عليه السلام، لا قبله، كما قد ذكرناه، ومساق هذه الرواية يدل: على أن اجتماع موسى صلى الله عليه وسلم بالخضر كان في البرّ عند الصخرة، وهو ظاهر قوله:"حتى إذا أتى الصخرة، فرأى رجلًا مسجَّى"، وفي بعض طرق البخاريّ:"حتى أتى الصخرة، فإذا رجل مسجَّى"، فعَطَفه بالفاء المعقبة، وإذا المفاجئة، غير أنه قد ذَكَر البخاريّ ما يقتضي أنه رآه في كبد البحر، وذلك أنه قال فيها:"فوجد خضرًا على طنفسة خضراء، على كبد البحر، مسجَّى بثوبه، وجعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه"، و"كبد البحر": وسطه، وهذا يدلّ على أنه اجتمع به في البحر، ويَحْتَمِل أن موسى مشى على الماء، وتلاقيًا عليه، وهذا لا يُستبعد على موسى والخضر، فإنَّ الذي خُرِق لهما من العادة أكثرُ من هذا وأعظمُ، وعلى هذا فهذه الزيادة تُضم إلى الرواية المتقدِّمة، ويُجمع بينهما بأن يقال: إن وصول موسى للصخرة، واجتماعه مع الخضر كان في زمان متقارب، أو وقت واحد لطيِّ الأرض، وتسخير البحر، والقدرة صالحة، وهذه الحالة خارقة للعادة؛ ولمّا كان كذلك عبَّر عنها بصيغ التعقيب، والاتصال، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(قَالَ: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ) حرف جواب في الإيجاب، فكأنه قال: أنا موسى بني إسرائيل، فهو نصٌّ في الرد على نوفٍ، وعلى من قال بقوله، وهم أكثر اليهود
(2)
.
(قَالَ) الخضر لموسى عليه السلام بعد أن طلب منه التعلم، ففي الرواية التالية:"قال: مجيء ما جاء بك؟ قال: جئت لتعلّمني مما عُلّمت رشدًا". (إِنَّكَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، عَلَّمَكَهُ اللهُ، لَا أَعْلَمُهُ) أنا، (وَأَنَا عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، عَلَّمَنِيهِ، لَا تَعْلَمُهُ) أنت، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا أن الخضر كان لا يعلم التوراة، ولا ما علّمه موسى من الأحكام، وقد جاء هذا الكلام في بعض روايات البخاريّ بغير هذا اللفظ، وبزيادة فيه، فقال:"أما يكفيك أن التوراة بين يديك، وأن الوحي يأتيك يا موسى؟ إن لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه".
(1)
"المفهم" 6/ 199 - 200.
(2)
"المفهم" 6/ 200.
قال القرطبيّ: ولا بُعد فيما ظهر من رواية مسلم؛ لأنَّ الخضر إن كان نبيًّا، فقد اكتفى بما تعبَّده الله به من الأحكام، وإن كان غير نبيّ، فليس متعبّدًا بشريعة بني إسرائيل؛ إذ يمكن أن لا يكون منهم، والله أعلم، وسيأتي القول في نبوّته.
وأما مساق رواية البخاريّ، فهو مساق حسن لا يَرِد عليه من هذا الاستبعاد شيء؛ لأنَّ مقتضاه أن لكل واحد منهما عِلمًا خاصًّا به، لا يعلمه الآخر، ويجوز أن يشتركا في علم التوراة، أو غيرها مما شاء الله أن يشركهما فيه من العلوم، ويظهر لي أن الذي خُصَّ به موسى صلى الله عليه وسلم العلم بالأحكام، والمصالح الكلية التي تنتظم بها مصالح الدنيا؛ لأنَّه أُرسل إلى عامة بني إسرائيل. انتهى
(1)
.
(قَالَ لَهُ مُوسَى) عليه السلام ({هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "تعلّمن"، وهذا من موسى عليه السلام سؤال ملاطفة؛ أي: هل يمكن كوني معك، حتى أتعلم منك؟ فأجابه بما يقتضي أن ذلك ممكن لولا المانع الذي من جهتك، وهو عدم صبرك.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: هذا سؤال الملاطِف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، والمعنى: هل يتفق لك، ويخفّ عليك؟ وهذا كما في الحديث:"هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ "، وعلى بعض التأويلات يجيء كذلك قوله تعالى:{هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 112].
قال: وفيه دليل على أن المتعلم تَبَع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يُظَنّ أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه، فقد يَشِذّ عن الفاضل ما يعلمه المفضول، والفضل لمن فضّله الله، فالخضر إن كان وليًّا فموسى أفضل منه؛ لأنه نبيّ، والنبيّ أفضل من الوليّ، وإن كان نبيًّا فموسى فَضَلَه بالرسالة، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفنا أن الحقّ أنه نبيّ، وسيأتي تمام تحقيقه قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
(1)
"المفهم" 6/ 201 - 202.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 17.
فـ (قَالَ) جازمًا في قضيته، لِمَا علمه من حالته:({إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا})؛ أي: إنك يا موسى لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي؛ لأن الظواهر التي هي عِلمك لا تُعطيه، وكيف تصبر على ما تراه خطأ، ولم تُخْبَر بوجه الحكمة فيه، ولا طريق الصواب، وهو معنى قوله:({وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا})؛ أي: والأنبياء لا يُقِرُّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير؛ أي: لا يسعك السكوت جريًا على عادتك وحُكمك، قاله القرطبيّ المفسّر رحمه الله
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ: معناه: إنك لا تصبر عن الإنكار والسؤال، وأنت في ذلك كالمعذور؛ لأنَّك تشاهد أمورًا ظاهرة، ولا تَعرف بواطنها، وأسرارها، وانتصاب {خُبْرًا} على التمييز المحوّل عن الفاعل، وقيل: على المصدر الملاقي في المعنى؛ لأنَّ قوله: {مَا لَمْ تُحِطْ} ؛ معناه: لم تُخْبَره، فكأنه قال: لم تخبره خبرًا، وإليه أشار مجاهد، والخبير بالأمور: هو العالم بخفاياها، وبما يُختبر منها
(2)
.
(قَالَ) موسى عليه السلام {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} هذا تفويض إلى الله تعالى في الصبر، وجزمٌ بنفي المعصية؛ وإنما كان منه ذلك؛ لأن الصبرَ أمر مستقبَل، ولا يدري كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزومٌ عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه يُنافي العزمَ عليه، والله تعالى أعلم.
ويُمكن أن يفرَّق بينهما بأن الصبرَ ليس مُكتسَبًا لنا، بخلاف فعل المعصية، وتَرْكها، فإن ذلك كله مكتسَب لنا، قاله القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال القرطبيّ المفسّر: قوله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا} ؛ أي: سأصبر بمشيئه الله {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ؛ أي: قد ألزمت نفسي طاعتك، وقد اختُلِف في الاستثناء، هل هو يشمل قوله:{وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} أم لا؟ فقيل: يشمله؛ كقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، وقيل: استثنى في الصبر، فَصَبَر، وما استَثْنَى في قوله:{وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} ،
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 17.
(2)
"المفهم" 6/ 202.
(3)
"المفهم"6/ 202.
فاعترض، وسأل، قال علماؤنا: إنما كان ذلك منه؛ لأن الصبر أمر مستقبل، ولا يدرى كيف يكون حاله فيه، ونفي المعصية معزوم عليه حاصل في الحال، فالاستثناء فيه ينافي العزم عليه.
ويمكن أن يفرق بينهما بأن الصبر ليس مكتسبًا لنا، بخلاف فعل المعصية وتركها، فإن ذلك كله مكتسب لنا، والله أعلم.
(قَالَ لَهُ)؛ أي: لموسى، (الْخَضِرُ:{فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} ؛ أي: حتى أكون أنا الذي أُفسّره لك، هذا من الْخَضِر تأديبٌ، وإرشادٌ لِمَا يقتضي دوامَ الصُّحبة، ووعدٌ بأنه يُعرِّفه بأسرار ما يراه من العجائب، فلو صبرَ، ودَأبَ لرأى العجبَ، لكنَّه أكثر من الاعتراض، فتعيَّن الفِراق والإعراض.
(قَالَ) موسى عليه السلام (نَعَمْ)؛ يعني: لا أسألك عن شيء حتى تحدّثني به أنت. (فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَى) لم يذكر معهما فتى موسى، فيَحْتَمِل أنه لم يكن معهما بل تخلّف عنهما، ويَحْتَمِل أنه معهما ولكن اكتُفي بذكر المتبوع عن التابع.
(يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ)؛ أي: على شاطئ البحر، والجمع: سواحل، (فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمَاهُمْ)؛ أي: كلّم الخضر وموسى أصحاب تلك السفينة، وفي رواية:"فكلموهم" بالجمع، قال في "الفتح": ضم يوشع معهما في الكلام لأهل السفينة؛ لأن المقام يقتضي كلام التابع. (أَنْ يَحْمِلُوهُمَا) عليها، والظاهر أن يوشع لم يركب معهما؛ لأنه لم يقع له ذِكر بعد ذلك. (فَعَرَفُوا الْخَضِرَ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ)؛ أي: بغير شيء ناله أصحابُ السفينة منهما؛ أي: بغير جُعل، والنَّولُ، والنَّالُ، والنَّيْلُ: العطاء، وفيه ما يدلُّ على قَبُول الرجل الصالح ما يُكرمُه به من يعتقدُ فيه صلاحًا، ما لم يتسبَّب هو بإظهار صلاحه لذلك، فيكون قد أَكَلَ بدينه، وذلك مُحرَّم، وربا
(1)
.
(فَعَمَدَ)؛ أي: قصد، يقال: عمدت للشيء عَمْدًا، من باب ضرب، وعَمَدت إليه: قصدتُ، وتعمّدته: قصدت إليه أيضًا
(2)
. (الْخَضِرُ) عليه السلام (إِلَى
(1)
"المفهم" 6/ 203.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 428.
لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَنَزَعَهُ)؛ أي: أخرجه من مكانه، قال الأُبيّ: الظاهر أنه ليس بمرئي من أهلها؛ إذ لم يثبت أنّ أحدًا من أهلها أنكر عليه، وقَصْده أن يَعيبها دون أن يقع بأهلها ضرر، وهذا من خرق العادة
(1)
. (فَقَالَ لَهُ مُوسَى: قَوْمٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هؤلاء قوم (حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ)؛ أي: بغير أجرة، وأصل النول: العطاء، وقد يُستعمل في الأجرة، (عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ، فَخَرَقْتَهَا؛ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) قرأه حمزة، والكسائي بالمثناة تحتُ مفتوحةٍ، و {أَهْلَهَا} بالرفع على أنه فاعل يَغرَق، والباقون بالمثناة فوق مضمومة، و {أَهْلِهَا} بالنصب، فعلى الأول تكون اللام للمآل، كما قال تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الآية [القصص: 8]، وعليها فلم يَنسُبْ له أنه أراد الإغراق، وعلى القراءة الثانية تكون اللام لام كي، ويكون نَسبَ إليه أنه قَصَد بفعله ذلك إغراقهم، وحملَه على ذلك فرطُ الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم، ولأنهم قد أحسنوا، فلا يُقابَلون بالإساءة، ولم يقل: لتُغرقني؛ لأن الذي غلب عليه في الحال فَرطُ الشفقة عليهم، ومراعاة حقهم
(2)
.
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)؛ أي: ضعيف الحجة، يُقال: رجل إمرٌ؛ أي: ضعيف الرأي، ذاهبُه، يحتاج إلى أن يُؤمر، قال معناه أبو عبيد، وقال مجاهد: منكرًا، وقال مقاتل: عجبًا، وقال الأخفش: يُقال: أَمِرَ أَمْرُهُ، يأمر أمْرًا؛ أي: اشتدّ، والاسم: الإمْرُ، قال الراجز:
قَد لَقِيَ الأَقرَانُ مِنِّي نُكرًا
…
داهِيَةَ دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرَا
وفيه من الفقه: العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بفساد بعضه
(3)
. (قَالَ) الخضر ({أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)})؛ أي: من عهدك، فتكون "ما" مع الفعل بتأويل المصدر؛ أي: سهوي، وغفلتي، وصدقَ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كانت الأُولى من موسى نسيانًا"
(4)
.
({قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}) قال أبو عبد الله القرطبيّ: قوله:
(1)
"شرح الأبيّ" 6/ 176 - 177.
(2)
"المفهم" 6/ 204.
(3)
"المفهم" 6/ 204.
(4)
"المفهم" 6/ 204.
{لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} في معناه قولان: أحدهما: يُروى عن ابن عباس، قال: هذا من معاريض الكلام.
والآخر أنه نسي فاعتذر، ففيه ما يدلّ على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق، ولا غيره، وقد تقدم، ولو نسي في الثانية لاعتذر. انتهى
(1)
.
({وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا})؛ أي: لا تُفَنِّدني فيما تركته، قاله الضحَّاك، وقال مقاتل: لا تكلِّفني ما لا أقدر عليه، من التحفُّظ عن السهو.
(ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ، فَبَينَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ، إِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدم أن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، ويُقابله الجارية في النساء، قال الكلبي: اسم هذا الغلام: شمعون، وقال الضحَّاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه سلاس، واسم أمه رُحمى، وقال ابن عباس: كان شابًّا يقطع الطريق.
قال القرطبيّ رحمه الله: ويظهر من كلام ابن عباس هذا أنه كان بالغًا، وأنه بلغ سن التكليف، وليس هذا معروفًا في إطلاق اسم الغلام في اللغة، ومساق الحديث يدلّ على أنه لم يبلغ سن التكليف، فلعل هذا القول لم يصحّ عن ابن عباس، بل الصحيح عنه أنه كان لم يبلغ، كما يأتي
(2)
.
وقال القرطبيّ المفسّر: اختَلَف العلماء في الغلام، هل كان بالغًا أم لا؟ فقال الكلبيّ: كان بالغًا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه الخضر، فصرعه، ونزع رأسه عن جسده، قال الكلبيّ: واسم الغلام شمعون، وقال الضحاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه سلاس، واسم أمه رُحْمَى، وحَكَى السهيلي أن اسم أبيه كازبر، واسم أمه سهوى.
وقال الجمهور: لم يكن بالغًا، ولذلك قال موسى:{زَكِيَّةً} لم تُذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فإن الغلام في الرجال يقال على من لم يَبْلُغ، وتقابله الجارية في النساء.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 20.
(2)
"المفهم" 6/ 205.
وكان الخضر قَتَله لمّا عَلِم من سرّه، وأنه طُبع كافرًا كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرًا، وقتلُ الصغير غير مستحيل؛ إذا أَذِن الله في ذلك، فإن الله تعالى الفعّال لِمَا يريد، القادر على ما يشاء، وفي "كتاب العرائس": إن موسى لمّا قال للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} -الآية- غضب الخضر، واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عَظْم كتفه مكتوب: كافر، لا يؤمن بالله أبدًا.
وقد احتج أهل القول الأول بأن العرب تبقي على الشاب اسم الغلام،
ومنه قول ليلى الأخيلية [من الطويل]:
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِها
…
غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
وقال صفوان لحسان [من الطويل]:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي
…
غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يُفسد في الأرض، ويُقسم لأبويه أنه ما فعل، فيُقْسمان على قَسَمه، ويحميانه ممن يطلبه، قالوا: وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} يقتضي أنه لو كان عن قَتْل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدل على كِبَر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله؛ لأنه كان بالغًا عاصيًا.
قال ابن عباس: كان شابًّا يقطع الطريق.
وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سنّ التكليف؛ لقراءة أُبَيّ وابن عباس: "وأما الغلام فكان كافرًا، وكان أبواه مؤمنين"، والكفر والإيمان من صفات المكلَّفين، ولا يُطلق على غير مكلَّف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبَوَا الغلام كانا مؤمنين بالنصّ، فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعيّن أن يصار إليه.
والغلام من الاغتلام وهو: شدّة الشَّبَق. انتهى
(1)
.
(فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِه، فَقَتَلَهُ)، وفي "صحيح البخاريّ": قال يعلى: قال سعيد: "وجد غلمانًا يلعبون فأخذ غلامًا كافرًا، فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لم تعمل بالحنث". (فَقَالَ مُوسَى) عندما شاهد هذه الفعلة من الخضر، وهي قَتْله الغلام، وفي الرواية التالية:
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22.
"فذُعِرَ عندها موسى عليه السلام ذَعْرَةً منكرةً"؛ أي: فَزِعَ فَزَعًا شديدًا عند هذه الفعلة التي هي قَتْله الغلام، وعند ذلك لم يتمالك موسى أن بادر بالإنكار، تاركًا للاعتذار، فقال:(أقتلت نفسا زاكية) هذه قراءة العامة، وقرأه الكوفيون، وابن عامر (زكيّة) بغير ألف، وتشديد الياء، قال ثعلب: الزكية: أبلغ، قال أبو عبيد: الزكية في الدين، والزاكية في البدن، قال الكسائي: هما بمعنى واحد؛ كقاسية، وقسيَّة، وقرأ ابن عباس: مُسْلمة، قال أبو عمرو: التي ما حلَّ ذنبها، وقال ابن جبير: يريد على الظاهر
(1)
.
({بِغَيْرِ نَفْسٍ})؛ يعني: أنها لم تقتل نفسًا، فتستحقّ القتل بها ({لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا}) أشدَّ المنكر، وأفحشه، قاله قتادة، وفيه لغتان: ضم الكاف، وسكونها، وقرئ بهما، وهذه بادرة من موسى عليه السلام تَرَك بها كل ما كان التزم له من الصبر، وتَرْك المخالفة؛ لكن حَمَله على ذلك استقباح ظاهر الحال، وتحريم ذلك في شَرْعه، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"وهذه أشدُّ من الأُولى"
(2)
.
وقال القرطبيّ المفسّر: اختلف الناس أيهما أبلغ (إمْرًا)، أو قوله:{نُكْرًا} فقالت فرقة: هذا قتل بَيِّن، وهناك مترقب، فـ {نُكْرًا} أبلغ.
وقالت فرقة: هذا قتل واحد، وذاك قتل جماعة فـ (إِمْرًا) أبلغ.
قال ابن عطية: وعندي أنهما لمعنيين، وقوله:(إِمْرًا) أفظع، وأهول من حيث هو متوقَّع عظيم، {نُكْرًا} بَيِّن في الفساد؛ لأن مكروهه قد وقع، وهذا بيّن
(3)
.
({قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ}) قيل: إنما ذكر (لك) في هذه المرة، ولم يذكرها في الأُولى مقابلة له على شدّة في هذه الكرَّة؛ فإنَّ مقابلته بـ (لك) مع كاف خطاب المفرد يُشعر بذلك، والله أعلم.
({إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)} قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (وَهَذِهِ)؛ أي: هذه الصيغة، وهي قوله:"ألم أقل لك" بزيادة "لك"، (أَشَدُّ مِنَ الأُولَى)؛ أي: من الصيغة الماضية، فإنها:"ألم أقل" بدون "لك". (قَالَ) موسى عليه السلام ({إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ
(1)
"المفهم" 6/ 205.
(2)
"المفهم" 6/ 206.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22.
بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي}) هذا قول أبْرَزه من موسى عليه السلام استحياؤه من كثرة المخالفة، وتهديده لنفسه عند معاودتها للاعتراض بالمفارقة.
وقال المفسّر
(1)
: هذا شرط، وهو لازم، والمسلمون عند شروطهم، وأحقّ الشروط أن يُوفَى به ما التزمه الأنبياء، والتُزِم للأنبياء
(2)
.
وقوله تعالى: {فَلَا تُصَاحِبْنِي} كذا قرأ الجمهور؛ أي: تتابعني، وقرأ الاعرج:"تَصْحَبَنّي" بفتح التاء، والباء، وتشديد النون، وقرئ:"تَصْحَبْني"؛ أي: تتبعني، وقرأ يعقوب:"تصحبني" بضم التاء وكسر الحاء، ورواها سهل عن أبي عمرو، قال الكسائي: معناه: فلا تتركني أصحبك
(3)
.
({قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا})؛ أي: قد صرت عندي معذورًا، وقد تقدَّم الفرق بين لدنِّي وعندي، وأن في لدنِّي لغات، وقرئت:(مِنْ لَدْنِي) بضم الدال، وتخفيف النون، وسكون الدال، وإشمامها الضم، وتخفيف النون لأبي بكر عن عاصم، وبضم الدال، وتشديد النون، والأُولى لنافع، والثالثة للباقين، قاله القرطبيّ
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت لغات "لدن" بقولي:
"لَدُنْ" لَهَا مِنَ اللُّغَاتِ مَا يَلِي
…
لَدُنْ بِفَتْحٍ ثُمَّ ضَمٍّ يَنْجَلِي
لَدْنٌ كَفَلْسٍ لَدِنٌ كَكَتِفِ
…
لُدْنٌ كَقُفْلٍ وَكَجَيْرِ فَاعْرِفِ
وَلَدْ كَلَمْ وَلُدُ كَمُذْ ثُمَّ لَدَى
…
مِثْلُ قَفَا كَذَا لُدُنْ قَدْ وَرَدَا
بِضَمَّتَيْنِ وَكَذَا لُدُ احْذِفَا
…
نُونًا فَتِلْكَ عَشَرَةٌ خُذْ مُنْصِفَا
أَوْرَدَهَا الْمَجْدُ لَدَى كِتَابِهِ
…
أَعْنِي بِهِ "الْقَامُوسَ" فَلْتُعْنَ بِهِ
وقال القرطبيّ المفسّر: قوله: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} : هذا يدلّ على قيام الاعتذار بالمرة الواحدة مطلقًا، وقيام الحجة من المرة الثانية بالقطع، قاله ابن العربي، وقال ابن عطية: ويُشبه أن تكون هذه القصة أيضًا أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة، وأيام المتلوَّم ثلاثة، فتأمله
(5)
.
(1)
هو: أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر تلميذ أبي العبّاس القرطبيّ صاحب "المفهم".
(2)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22.
(4)
"المفهم" 6/ 207.
(5)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22.
قال: وقوله: ({قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا})؛ أي: بلغت مبلغًا تُعذر به في ترك مصاحبتي، وقرأ الجمهور:{مِنْ لَدُنِّي} بضم الدال، إلا أن نافعًا وعاصمًا خفَّفا النون، فهي "لدن" اتصلت بها ياء المتكلم التي في غلامي، وفرسي، وكُسر ما قبل الياءكما كُسر في هذه.
وقرأ أبو بكر عن عاصم: "لَدْنِي" بفتح اللام وسكون الدال وتخفيف النون.
وروي عن عاصم: "لُدْني" بضم اللام وسكون الدال، قال ابن مجاهد: وهي غلط، قال أبو علي: هذا التغليط يُشبه أن يكون من جهة الرواية، فأما على قياس العربية فهي صحيحة.
وقرأ الجمهور: "عُذْرًا"، وقرأ عيسى:"عُذُرا" بضم الذال. وحكى الداني أن أُبيًّا روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "عُذْرِي" بكسر الراء وياء بعدها
(1)
.
({فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ})، وفي رواية:"أهل قرية لئامًا"، قال قتادة: القرية أيلة، وقيل: أنطاكية، و"لئام" هنا: بخلاء، واللؤم في الأصل: هو البخل، مع دناءة الآباء. ({اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}) الاستطعام: سؤال الطعام، والمراد به هنا: أنهما سألا الضيافة، بدليل قوله تعالى:{فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]؛ فاستحقّ أهل القرية أن يُذمُّوا، وينسبوا إلى اللؤم، كما وصفهم بذلك نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما يجب لهما من الضيافة، وهذا هو الألْيَق بحال الأنبياء والفضلاء، وبعيد أن يُذَمّ من تَرَك المندوب هذا الذم، مع أنه يَحْتَمِل أن يقال: إن الضيافة لمّا كانت من المكارم المعروفة المعتادة عند أهل البوادي، ذُمَّ المتخلف عنها عادةً، كما قد قالوا:"شرُّ القُرى التي تبخل بالقِرى"، ويَحْتَمِل أن يكون سؤالهما الضيافة عند حاجتهما إلى ذلك، وقد بيَّنَّا: أن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يردُّ به جوعه، ففيه ما يدل على جواز المطالبة بالضيافة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن نزلتم بقوم، فَأَمَر لكم بما ينبغي للضيف، فاقبلوا، فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حقّ الضيف"، متّفق عليه.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 22 - 23.
وقد تقدَّم القول في الضيافة وأحكامها، ويعفو الله عن الحريري؛ فإنَّه استَخَفَّ في هذه الآية، ومَجَّن، فاستدل بها على الكُدْيَة، والإلحاح فيها؛ وأن ذلك ليس بعيب على فاعله، ولا منقصة عليه، فقال [من الطويل]:
فإنْ رُدِدتَّ فَمَا بَالردِّ مَنقَصَةٌ
…
عَلَيْكَ قَدْ رُدَّ مُوسَى قَبْلُ وَالْخَضِرُ
وهذا لعبٌ بالدِّين، وانسلال عن احترام النبيين، وهي: شنشنة أدبية، وهفوة سخافية، ويرحم الله السَّلف الصالح، فإنَّهم بالغوا في وصية كل ذي عقل راجح، فقالوا: مهما كنت لاعبًا بشيء، فإياك أن تلعب بدينك. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأنا أقول: سامح الله القرطبيّ في هذا الهجوم الذي هاجم به الحريريّ، واتّهمه بالسخافة والمجون، فأي ذنب اقترفه، فإنه ما زاد في بيته على ما أسلفه القرطبيّ نفسه في تقرير حال الخضر وموسى عليه السلام. ومعنى البيت الذي قاله هو معنى قوله عز وجل:{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} الآية [الكهف: 77]، وإياك ثم إياك أن تتّهم مسلمًا بالمجون، أو الزندقة إلا ببيّنة واضحة، فإن هذا مزلّة أقدام، وهفوة أقلام، عافانا الله من ذلك بمنّه وكرمه، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم آمين.
({فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ}) الجدار: الحائط، و {يَنْقَضَّ}: يسقط، قال القرطبيّ رحمه الله: وصفُهُ بالإرادة مجاز، مستعمل، وقد فسّره في الحديث بقوله:"يقول: مائل"، فكان فيه دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور، ومما يدلّ على استعمال ذلك المجاز وشهرته، قول الشاعر [من الوافر]:
يُرِيدُ الرُّمحُ صَدْرَ أبي بَراءٍ
…
وَيرْغَبُ عَنْ دِماء بَنِي عَقِيلِ
وقال آخر [من الخفيف]:
إنَّ دَهْرًا يَلُفُّ شَمْلِي بِسَلْمَى
…
لَزَمانٌ يَهُمُّ بِالإِحسانِ
وقال آخر [من الكامل]:
فِي مَهْمَهٍ فُلِقَت به هاماتُنَا
…
فَلْقَ الفُؤُوسِ إِذَا أَرَدْنَ نُصُولَا
(1)
"المفهم" 6/ 208.
والنصول هنا: الثبوت في الأرض، من قولهم: نصل السَّهم: إذا ثبت في الرَّميَّة، فشبَّه وقع السيوف على رؤوسهم بوقع الفؤوس في الأرض الشديدة؛ فإنَّ الفاس يقع فيها، ويثبت، ولا يكاد يخرج، والمجاز موجود في القرآن، والسُّنَّة، كما هو موجودٌ في كلام العرب، وقد استوفينا مباحث هذه المسألة في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: مسألة وقوع المجاز في القرآن والسُّنَّة، وفي كلام العرب عمومًا قد استوفيت البحث فيها في "التحفة المرضيّة"
(2)
، و"شرحها"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(يَقُولُ) الراوي مفسّرًا قوله تعالى: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} معناه: (مَائِلٌ)؛ أي: انحرف عن الاستقامة، وكاد يسقط. (قَالَ الْخَضِرُ) عليه السلام (بِيَدِهِ هَكَذَا، فَأَقَامَهُ)؛ يعني به: أنه أشار إليه بيده، فقام، قال القرطبيّ: فيه دليل على كرامات الأولياء، وكذلك كل ما وُصف من أحوال الخضر في هذا الحديث، وكلها أمور خارقة للعادة، هذا إذا تنزّلنا على أنه وليّ، لا نبيّ، وقد اختلف فيه أئمة أهل السُّنَّة، والظاهر من مساق قصته، واستقراء أحواله، مع قوله:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ؛ أنه نبيّ يوحى إليه بالتكاليف، والأحكام، كما أوحي إلى الأنبياء، غير أنه ليس برسول. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بكون الخضر وليًّا ضعيف جدًّا؛ لمخالفته ظواهر الكتاب والسُّنَّة، وسيأتي تحقيقه - إن شاء الله تعالى.
(قَالَ لَهُ مُوسَى)؛ أي: قال للخضر لَمّا أقام ذلك الجدار بدون أجر يتقوون به في سفرهما، (قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ، فَلَمْ يُضَيِّفُونَا، وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لَتَخِذْتَ
(3)
عَلَيْهِ أَجْرًا) قال القرطبيّ: هذه قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، وقراءة غيرهم:(لَاتَّخَذْتَ)، وهما لغتان بمعنى واحد من الأخذ، وهذه صدرت من موسى سؤالًا على جهة العرض، لا الاعتراض.
(1)
"المفهم" 6/ 208 - 209.
(2)
راجع: "التحفة المرضيّة" ص 38 - 39.
(3)
وفي نسخة: "لاتّخذت".
وقال السمين رحمه الله: قوله: (لَاتَّخَذْتَ) قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:"لتَخِذت" بفتح التاء، وكسر الخاء، من تَخِذَ يَتْخَذُ؛ كتَعِبَ يَتْعَبُ، والباقون:"لاتّخذت" بهمز الوصل، وتشديد التاء، وفتح الخاء، من الاتّخاذ، واختُلف هل هما من الأخذ، والتاء بدل من الهمزة، ثم تُحذف التاء الأولى، فيقال: تَخِذَ، كتَقِيَ، من اتَّقَى، نحو:
تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
أم هما من تَخِذ، والتاء أصليّة، ووزنهما فِعِلَ، وافْتَعَلَ؟ قولان، قال: والفعل هنا على القراءتين متعدّ لواحد؛ لأنه بمعنى الكسب. انتهى
(1)
.
فعند ذلك ({قَالَ}) له الخضر ({هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}) أي: هذا وقت ذلك، بحكم ما شرطتَ على نفسكَ، قال المحلّي رحمه الله: فيه إضافة "بين" إلى غير متعدّد، سوّغها تكريره بالعطف. انتهى
(2)
.
ثم وعدَه بأن يُخبرَه بحكم تلك الأحكام، فقال:({سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}) قال المفسّر: تأويل الشيء مآله؛ أي: قال له: إني أخبرك لِمَ فعلتُ ما فعلت؟، وقيل في تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر: إنها حجة على موسى، لا عجبًا له، وذلك أنه لمّا أنكر أمْر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا، وأنت في التابوت مطروحًا في اليم! فلما أنكر أمر الغلام، قيل له: أين إنكارك هذا من وكزك القبطيّ، وقضائك عليه! فلما أنكر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنات شعيب دون أجر!. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا النداء لموسى يحتاج إلى سند يصحّ به، فأين هو؟ والله تعالى أعلم.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، لَوَدِدْتُ) بفتح الواو، وكسر الدال، يقال: وَدِدْتُهُ، أَوَدُّهُ، من باب تَعِبَ وُدًّا بفتح الواو، وضمّها: أحببته، والاسم: المَوَدَّةُ، وَوَدِدْتُ لو كان كذا أَوَدُّ أيضًا وُدًّا، ووَدَادَةً، بالفتح: تمنَّيته،
(1)
"الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون" 7/ 535.
(2)
"تفسير المحليّ" 3/ 39 بنسخة "حاشية الجمل".
وفي لغة: وَدَدْتُ أَوَدُّ، بفتحتين، حكاها الكسائيُّ، وهو غَلَطٌ عند البصريين، وقال الزجاج: لم يقل الكسائيُّ إلا ما سَمِع، ولكنه سمعه ممن لا يوثَق بفصاحته، ذَكَره الفيّوميّ
(1)
.
(أنَّهُ)؛ أي: موسى، (كَانَ صَبَرَ) الظاهر أن "كان" زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ تُزَادُ "كَانَ" فِي حَشْوٍ كَمَا
…
"كَانَ أَصَحَّ عِلْمَ مَنْ تَقَدَّمَا"
(حَتَّى يُقَصَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: حتى يقصّ الله تعالى في كتابه، وفيما يوحيه إليّ، (عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا")؛ أي: فنسمع العجائب والغرائب.
(قَالَ) أُبيّ بن كعب رضي الله عنه (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا"، قَالَ: "وَجَاءَ عُصْفُورٌ) بضمّ أوّله، قيل: هو الصُّرَد، بضم المهملة، وفتح الراء، وفي "الرحلة" للخطيب أنه الْخُطاف. (حَتَّى وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ)؛ أي: طَرَفها، (ثُمَّ نَقَرَ)؛ أي: أصاب بمنقاره (فِي الْبَحْرِ)؛ أي: منه، فـ "في" بمعنى "من". (فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ، إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ") لفظُ النقص ليس على ظاهره؛ لأن علم الله تعالى لا يدخله النقص، فقيل: معناه: لم يأخذ، وهذا توجيه حسنٌ، ويكون التشبيه واقعًا على الأخذ، لا على المأخوذ منه، وأحسن منه أن المراد: بالعلم المعلوم، بدليل دخول حرف التبعيض؛ لأن العلم القائم بذات الله تعالى صفة قديمةٌ لا تتبعض، والمعلوم هو الذي يتبعض. وقال الإسماعيليّ: المراد: أن نقص العصفور لا ينقص البحر بهذا المعنى، وهو كما قيل [من الطويل]:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ
…
بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
أي: ليس فيهم عيب، وحاصله: أن نفي النقص أُطلق على سبيل المبالغة، وقيل:"إلا" بمعنى: "ولا"؛ أي: ولا كنقرة هذا العصفور.
وقال القرطبيّ: من أطلق اللفظ هنا تجوَّز؛ لِقَصْده التمسّك والتعظيم؛ إذ لا نقص في علم الله، ولا نهاية لمعلوماته.
وقد وقع في رواية ابن جريج بلفظٍ أحسنَ سياقًا من هذا، وأبعد إشكالًا،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 653.
فقال: "ما علمي وعلمك في جنب علم الله، إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من البحر"، وهو تفسير للّفظ الذي وقع هنا، ذكر هذا كله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ) ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ لأن سعيدًا روى الحديث عنه، لا عن أبيّ رضي الله عنه، وقال بعض الشرّاح
(2)
: هو أبيّ، وهو غير صحيح، فتنبّه.
وهذه القراءة شاذّة، ولعله زادها من باب تفسير المراد، والله تعالى أعلم.
(يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ، يَاْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ)؛ أي: بزيادة هذا اللفظ، (غَصْبًا) قال القرطبيّ المفسّر رحمه الله: قرأ ابن عباس وابن جبير: "صحيحة"، وقرأ أيضًا ابن عباس، وعثمان بن عفان:"صالحة".
[تنبيه]: "وراء" أصلها بمعنى خَلْف، فقال بعض المفسرين: إنه كان خَلْفه، وكان رجوعهم عليه. والأكثر على أن معنى "وراء" هنا أمام، يعضده قراءة ابن عباس وابن جبير:"وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غصبًا"، قال ابن عطية:"وراءهم" هو عندي على بابه، وذلك أن هذه الألفاظ إنما تجيء مُرَاعًى بها الزمان، وذلك أن الحدث المقدَّم الموجود هو الأمام، والذي يأتي بعده هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطّرد، فهذه الآية معناها: إن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمان غصبُ هذا الملك، ومن قرأ:"أمامهم" أراد: في المكان؛ أي: كأنهم يسيرون إلى بلد، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة أمامك"، متّفقٌ عليه، يريد: في المكان، وإلا فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمان، وتأمل هذه المقالة، فإنها مريحة من شَغَب هذه الألفاظ، ووقع لقتادة في كتاب الطبريّ:"وكان وراءهم ملك" قال قتادة: أمامهم، ألا تراه يقول:"من ورائهم جهنم"، وهي بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم، وهذه هي
(1)
"الفتح" 1/ 383 - 384.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع:"شرحه" 23/ 339.
العجمة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضجّ منها، قاله الزجاج.
قلت: وما اختاره هذا الإمام قد سبقه إليه في ذلك ابن عرفة، قال الهرويّ: قال ابن عرفة: يقول القائل: كيف قال: "من ورائه" وهي أمامه؟ فزعم أبو عبيد، وأبو علي قُطْرب أن هذا من الأضداد، وأن "وراء" في معنى "قدّام"، وهذا غير محصَّل؛ لأن "أمام" ضدّ "وراء"، وإنما يصلح هذا في الأماكن، والأوقات؛ كقولك للرجل إذا وعد وعدًا في رجب لرمضان، ثم قال: ومن ورائك شعبان لجاز، وإن كان أمامه؛ لأنه يخلفه إلى وقت وعده، وأشار إلى هذا القول أيضًا القشيريّ، وقال: إنما يقال هذا في الأوقات، ولا يقال للرجل أمامك: إنه وراءك، قال الفراء: وجوّزه غيره، والقوم ما كانوا عالمين بخبر الملِك، فأخبر الله تعالى الخضر حتى عاب السفينة، وذكره الزجاج.
وقال الماوردي: اختلف أهل العربية في استعمال "وراء" موضع "أمام" على ثلاثة أقوال:
أحدها: يجوز استعمالها بكل حال، وفي كل مكان، وهو من الأضداد. قال الله تعالى:{مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10]؛ أي: من أمامهم، وقال الشاعر [من الطويل]:
أَتَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي
…
وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا
يعني: أمامي.
والثاني: أن "وراء" تُستعمل في موضع "أمام" في المواقيت والأزمان؛ لأن الإنسان قد يجوزها، فتصير وراءه، ولا يجوز في غيرها.
الثالث: أنه يجوز في الأجسام التي لا وجه لها؛ كحجرين متقابلين، كل واحد منهما وراء الآخر، ولا يجوز في غيرهما، وهذا قول علي بن عيسى
(1)
.
[تنبيه آخر]: اختُلِف في اسم هذا الملِك، فقيل: هدد بن بدد، وقيل: الجلندي، وقاله السهيلي.
وذكر البخاري اسم الملِك الآخذ لكل سفينة غصبًا فقال: هو هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه: جيسور، قال القرطبيّ: وهكذا قيّدناه في
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 36.
"الجامع" من رواية يزيد المروزيّ، وفي غير هذه الرواية: حيسور، بالحاء، وعندي في حاشية الكتاب رواية ثالثة: وهي حيسون.
وكان يأخذ كل سفينة جيدة غصبًا فلذلك عابها الخضر وخَرَقها، ففي هذا من الفقه العمل بالمصالح إذا تحقق وجهها، وجواز إصلاح كل المال بإفساد بعضه، وقد تقدم.
وفي "صحيح مسلم" وجه الحكمة بخرق السفينة، وذلك قوله:"فإذا جاء الذي يسخّرها وجدها منخرقة، فتجاوزها، فأصلحوها بخشبة"، الحديث.
وتحصّل من هذا الحضّ على الصبر في الشدائد، فكم في ضمن ذلك المكروه من الفوائد، وهذا معنى قوله:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية [البقرة: 216]
(1)
.
(وَكَانَ يَقْرَأُ)؛ أي: ابن عبّاس أيضًا، وليس أُبيًّا، كما زُعِم، وقد صرّح ابن عبد البرّ أنه ابن عبّاس، فقال في "التمهيد": قال إسحاق: وأخبرنا سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ:"وأما الغلام فكان كافرًا". انتهى
(2)
.
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا) بزيادة لفظ "كافرًا" وهي قراءة شاذّة أيضًا، تكون من باب تفسير المراد.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وصححه ابن حبّان عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبَيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الغلام الذي قتله صاحب موسى عليه السلام طُبع يوم طُبع كافرًا"، ولفظ ابن حبّان:"إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طبع كافرًا"، وفي لفظ لأحمد:"وأما الغلام، فإنه كان طُبع يوم طبع كافرًا، وكان قد أُلقي عليه محبةٌ من أبويه، ولو أطاعاه لأرهقهما طغيانًا وكفرًا"، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأما الغلام فكان كافرًا" هذا حديث مرفوع من رواية أُبَيٍّ، كما قال في الرواية الأخرى:"طُبع يوم طُبع كافرًا"، وقد روي أن أُبيًّا كان يقرأ:"وأما الغلام فكان كافرًا، وكان أبواه مؤمنين"، وهذا محمول
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 36.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 18/ 86.
على أن أُبيًّا فسَّر، لا أنه قرأ كذلك؛ لأنَّه لم يُثْبِتْها في المصحف، وهو من جُملة كَتَبتِه، والجمهور على أن هذا الغلام لم يكن بلغ من التكليف، وقد ذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سن التكليف، وقد حكي ذلك عن ابن عباس كما تقدَّم، والصحيح عنه أنه كان صغيرًا لم يبلغ كما تقدَّم من كتابه إلى نجدة الحروريّ، كما ذكرناه في "الجهاد"، وهذا هو المعروف من اسم الغلام، كما قد تقدَّم، وإنما صار ابن جبير إلى ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: كان كافرًا، والكفر والإيمان من صفات المكلَّفين، ولا يطلق على غير مكلَّف إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبَوَا الغلام كانا مؤمنين بالنصّ، فلا يَصْدُق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعيَّن أن يصار إليه، وقد يُطلق الغلام على الكبير إذا كان قريبًا من زمان الغلومية توسُّعًا، وهو موجود في كلام العرب، كما قالت ليلى الأخيلية [من الطويل]:
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا
…
غُلامٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا
وقال صفوان لحسَّان [من الطويل]:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّنِي
…
غُلامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
قال القرطبيّ: وما صار إليه الجمهور أَولى تمسُّكًا بحقيقة لفظ الغلام، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"وأما الغلام فطُبع يوم طُبع كافرًا"؛ أي: خُلق قلبه على صفة قلب الكافر من القسوة، والجهل، ومحبَّة الفساد، وضرر العباد، ولقوله:"ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا"؛ أي: لو بلغ، ولَمَّا عَلِم الله تعالى ذلك منه، أعلمَ الخضر بذلك، وأمَره بقتله، فيكون قَتْله من باب دفع الضرر، كقتل الحيَّات، والسِّباع العادية، لا من باب القتل المترتب على التكليف، وهذا لا إشكال على أصول أهل السُّنَّة فيه؛ فإن الله تعالى الفعَّالُ لِمَا يريد، القادر على ما يشاء، لا يتوجه عليه وجوبٌ، ولا حقّ، ولا يثبت عليه لَوْمٌ ولا حُكْم، وأما على أصول أهل البدع القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، وما يتولَّد على ذلك من الأصول الفاسدة من التجويز، والتعديل، والإيجاب على الله تعالى، فلا يُلتفت إليها، ولا يُعرّج عليها؛ لظهور فسادها، كما بيَّنَّاه في الأصول. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 211 - 212.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 6144 و 6145 و 6146 و 6147 و 6148، (2380)، و (البخاريّ) في "العلم"(74 و 78 و 122) و"الإجارة"(2267) و"الأنبياء"(3400 و 3401) و"بدء الخلق"(3278) و"التفسير"(4725 و 4726 و 4727) و"الأيمان والنذور"(6672)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4705 و 4706)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3149)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 389)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 242)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 116 و 117 و 118 و 119 و 120)، و (الحميديّ) في "مسنده"(371)، و (الطبريّ) في "التفسير"(15/ 282)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(102 و 6220)، و (الحاكم) في "المستدرك (2/ 626)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 431)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الرحلة للعلم.
2 -
(ومنها): جواز التزود للسفر.
3 -
(ومنها): بيان فضيلة طلب العلم، والأدب مع العالِم، وحرمة المشايخ، وتَرْك الاعتراض عليهم، وتأويل ما لم يُفهم ظاهره من أقوالهم، وأفعالهم، والوفاء بعهودهم، والاعتذار عند المخالفة.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "العمدة"
(1)
، وأطلق عدم الإنكار على المشايخ، وهذا غير مقبول، بل ذلك مقيَّد في المحتمَلات، وما يَقبل التأويل، وأما منهيّات الشرع الظاهرة، فلا يسع الطالب أن يسكت عليها، بل يُنكرها، لكن بلطف، واستفسار، لا بعنف، واستهتار؛ حفظًا لمنصب العلماء، فتفطّن، واستيقظ، فإن هذا مما زلّت به أقدام كثير ممن يُنسب إلى العبادة
(1)
"عمدة القاري" 2/ 195.
والزهد، بل مما نقرؤه في كتب المتصوّفين المتأخّرين أنهم يقولون: إن من شَرْط الطريقة أن يكون المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وأن لا يُنْكِر على شيخه شيئًا يراه منه، ولو كان من المنكَرات الشرعيّة، فإنه إنْ فَعَل ذلك انقطع عنه المدد من شيخه.
وهذا انسلاخ عن الشريعة، وخروج عن حدود الله تعالى، فإن إنكار المنكر شعبة من شُعَب الإيمان، فقد أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا، فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): إثبات كرامات الأولياء، وصحة الولاية.
5 -
(ومنها): جواز سؤال الطعام عند الحاجة.
6 -
(ومنها): جواز الإجارة.
7 -
(ومنها): جواز ركوب السفينة، ونحوها بغير أجرة برضى صاحبها.
8 -
(ومنها): فيه الحكم بالظاهر، حتى يتبيّن خلافه.
9 -
(ومنها): أن الكذب هو الإخبار على خلاف الواقع عمدًا أو سهوًا، خلافًا للمعتزلة.
10 -
(ومنها): أنه إذا تعارضت مفسدتان يجوز دَفْع أعْظَمِهما بارتكاب أخفّهما، كما في خَرْق الخضر السفينة؛ لِدَفْع غَصْبها، وذهاب جملتها.
11 -
(ومنها): بيان أصل عظيم، وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول، ولا يفهمه أكثر الناس، وقد لا يفهمونه كلهم؛ كالقَدَر، وموضع الدلالة: قتل الغلام، وخرق السفينة، فإنّ صورتيهما صورة المنكر، وكان صحيحًا في نفس الأمر، له حكمة بيّنة، لكنها لا تظهر للخلق، فإذا علّمهم الله تعالى بها عَلِموها، ولهذا قال الخضر عليه السلام:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]
(1)
.
12 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: وفيه أصلٌ مهمّ، وهو ما تعبّد الله
(1)
"عمدة القاري" 2/ 196.
تعالى به خلقه من شريعته يجب أن يكون حجةً على العقول، ولا تكون العقول حجةً عليه، ألا ترى أن إنكار موسى عليه السلام كان صوابًا في الظاهر، وكان غير ملوم فيه، فلما بَيَّن الخضر وجه ذلك صار الصواب الذي ظهر لموسى في إنكاره خطأً، والخطأ الذي ظهر له من فعل الخضر صوابًا، وهذا حجةٌ قاطعةٌ في أنه يجب التسليم لله تعالى في دينه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم في سُنَّته، واتّهام العقول، إذا قَصَرت عن إدراك وجه الحكمة فيه. انتهى
(1)
.
13 -
(ومنها): أن قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} يدلّ على أنه فَعَله بالوحي، فلا يجوز لأحد أن يقتل نفسًا لِمَا يتوقع وقوعه منها؛ لأن الحدود لا تجب إلا بعد الوقوع، وكذا لا يُقطع على أحد قبل بلوغه؛ لأنه إخبار عن الغيب، وكذا الإخبار عن أخذ الملِك السفينة، وعن استخراج الغلامين الكنز، لأن هذا كله لا يُدرَك إلا بالوحي.
14 -
(ومنها): أن الحديث جليلٌ واضح، وحجة ظاهرة لنبوة الخضر عليه السلام، فقوله:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وقوله:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82] الآية أدلّ دليل، على ذلك، فتأمله بالإنصاف.
15 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه جواز إفساد بعض المال لإصلاح باقيه، وخصاء الأنعام، وقطع بعض آذانها؛ لِتُمَيَّز
(2)
.
16 -
(ومنها): بيان أن الله تعالى يفعل في مُلكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، مما ينفع، أو يضرّ، فلا مدخل للعقل في أفعاله، ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر، فلا يتوجه على حُكمه لِمَ، ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث، وإن العقل لا يحسِّن، ولا يقبّح، وأن ذلك راجع إلى الشرع، فما حسَّنه بالثناء عليه فهو حَسَن، وما قبَّحه بالذمّ فهو قبيح، قاله في "الفتح" نقلًا عن القرطبيّ
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "كما لا يتوجه في وجوده أين" عجيب من
(1)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 196.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 196.
(3)
"الفتح" 1/ 384.
الحافظ كيف أقرّ القرطبيّ في قوله هذا، وقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قال للجارية:"أين الله؟ قالت: في السماء"؟ وقد أجاد سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على "الفتح"، حيث قال ردًّا على هذا الإنكار: الصواب عند أهل السُّنَّة وصْف الله سبحانه وتعالى بأنه في جهة العلوّ، وأنه فوق العرش، كما دلّت على ذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويجوز عند أهل السُّنَّة السؤال عنه بأين، كما في "صحيح مسلم" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للجارية:"أين الله؟ قالت: في السماء. . ." الحديث. انتهى كلام الشيخ ابن باز، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: "وإن العقل لا يحسِّن، ولا يقبّح" فيه نظر أيضًا؛ لأن الصحيح من مذهب أهل السُّنَّة أن العقل يحسّن، ويقبّح، وقد حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة" في الأصول تحقيقًا مستفيضًا، فراجعها
(1)
، وقال الشيخ ابن باز رحمه الله على كلام الحافظ المذكور: هذا قول بعض أهل السُّنَّة، وذهب بعض المحقّقين منهم إلى أن العقل يُحسّن ويُقبّح؛ لِمَا فَطَر الله عليه العباد من معرفة الحَسَن والقبيح، وقد جاءت الشرائع الإلهيّة تأمر بالحسن، وتنهى عن القبيح، ولكن لا يترتّب الثواب والعقاب على ذلك إلا بعد بلوغ الشرع، كما حقّق ذلك العلامة ابن القيّم رحمه الله في "مفتاح دار السعادة"، وهذا هو الصواب، والله أعلم. انتهى كلام الشيخ ابن باز رحمه الله، وهو تحقيقٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
17 -
(ومنها): بيان أن الله تعالى فيما يقضيه حِكَمًا وأسرارًا في مصالحَ خفية، اعتبرها، كلُّ ذلك بمشيئته، وإرادته، من غير وجوب عليه، ولا حُكْم عقل يتوجه إليه، بل بحَسَب ما سبق في علمه، ونافذ حُكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عُرِفَ، وإلا فالعقل عنده واقف، فليحذر المرء من الاعتراض والإنكار، فإن مآل ذلك إلى الخيبة وعذاب النار - أعاذنا الله منها برحمته.
قال القرطبيّ رحمه الله: ولننبه هنا على مغلطتين:
(1)
راجع: "التحفة المرضية" ص 137 - 142.
[المغلطة الأولى]: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكًا بهذه القصة، وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قَصَر نظره على هذه القصة، ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة، وسماع كلام الله تعالى
(1)
، وإعطائه التوراة، فيها عِلْم كل شيء، وأن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته، ومخاطَبون بحُكم نبوته، حتى عيسى عليه السلام، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ألا ترى أن الله تعالى قال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} الآية [المائدة: 44]، والإنجيل، وإن كان هدى فليس فيه من الأحكام إلا قليل، ولم يجئ عيسى عليه السلام ناسخًا لأحكام التوراة، بل معلّمًا لها، ومبيّنًا أحكامها، كما قال تعالى حكاية عنه:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)} الآية [آل عمران: 48]، وعلى هذا فهو أَمَامَهُمْ، وإِمامهم، وأعلمهم، وأفضلهم، ويكفي من ذلك قوله تعالى:{قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)} [الأعر اف: 144].
وأن موسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل، وأن أول من ينشق عنه القبر نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فيجد موسى صلى الله عليه وسلم متعلقًا بالعرش، وأنه ليس في محشر يوم القيامة أكثر من أمَّته بعد أمَّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من فضائله.
وأما الخضر وإن كان نبيًّا فليس برسولٍ باتفاق، والرسول أفضل من نبيٍّ ليس برسول، ولو تنزّلنا على أنه رسول، فرسالة موسى أعظم، وأمّته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل، وموسى أفضلهم، وإن قلنا: إن الخضر ليس بنبيّ، بل وليّ، فالنبي أفضل من الوليّ، وهو أمر مقطوع به عقلًا ونقلًا، والصائر إلى خلافه كافرٌ؛ لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة.
(1)
زاد في عبارة القرطبي هنا قوله: المنزّه عن الحروف والأصوات، وهذا حذفته عمدًا؛ لأنه مخالف لمذهب السلف أن كلام الله تعالى بحرف وصوت؛ للأدلة الصحيحة على ذلك، وقد أشبعت الكلام على هذا في أوائل "المنحة الرضيّة شرح التحفة المرضيّة"، فراجعها تستفد.
قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحانًا لموسى لِيَعْتَبر، كما قد ابتُلي غيره من الأنبياء بأنواع من المحن والبلاء.
[المغلطة الثانية]: ذهب قوم من زنادقة الباطنيّة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة، فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة، والأغبياء، وأما الأولياء والخواصّ فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويُحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم؛ لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوّها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويَعْلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتَّفَق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم، عما كان عند موسى، وقد جاء فيما ينقلون:"استفت قلبك، وإن أفتوك، وأفتوك"
(1)
.
قال القرطبيّ: وهذا القول زندقةٌ، وكفر يُقتل قائله، ولا يستتاب؛ لأنه
إنكار لِمَا عُلِم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ كلمته بأن
أحكامه لا تُعْلم إلا بواسطة رسله، السفراء بينه وبين خلقه المبيِّنين لشرائعه
وأحكامه، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ
النَّاسِ} الآية [الحج: 75]، وقال:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} الآية
[الأنعام: 124]، وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} الآية [ألبقرة:
213]، وأمَر بطاعتهم في كل ما جاؤوا به، وأخبر أن الهدى في طاعتهم،
والاقتداء بهم، في غير موضع من كتابه، وعلى ألسنة رسله؛ كقوله تعالى:
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]، وكقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]، وقال صلى الله عليه وسلم:
(1)
حديث صحيح.
"تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله، وسُنَّة نبيه"
(1)
، ومثل هذا لا يُحصَى كثرة.
وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعيّ، واليقين الضروريّ، وإجماع السَّلف، والخلف: على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يُعرف شيء منها إلا من جهة الرسل الكرام، فمن قال: إن هناك طريقًا آخر يُعرف بها أمره ونهيه غير الرسل، بحيث يُستغنى بها عن الرسل، فهو كافر، يُقتل، ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده، ولا رسول، وبيان ذلك أن من قال: إنه يأخذ عن قلبه، وإن ما وقع فيه هو حُكم الله، وإنه يعمل بمقتضاه، وإنه لا يحتاج في ذلك إلى كتاب، ولا سُنَّة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإنَّ هذا نحو مما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نَفَث في رُوعي".
ولقد سمعنا عن بعض الممخرقين المتظاهرين بالدِّين، أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى؛ وإنَّما آخذ عن الحيّ الذي لا يموت، وإنما أروي عن قلبي عن ربي، ومثل هذا كثير، فنسأل الله الهداية، والعصمة، وسلوك طريق سلف هذه الأمَّة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقال غيره: مَن استدلّ بقصة الخضر على أن الوليّ يجوز أن يطّلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة، ويجوز له فِعله، فقد ضلّ، وليس ما تمسّك به صحيحًا، فإن الذي فَعَله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإنّ نقْض لوح من ألواح السفينة لِدَفْع الظالم عن غَصْبها، ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعًا وعقلًا، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحَسَب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحًا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم، ولفظه: "فإذا جاء
(1)
رواه مالك في "الموطأ"(2/ 899) بلاغًا، والحاكم في "المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه بسند حسن.
(2)
"المفهم" 6/ 216 - 219.
الذي يُسَخِّرها، فوجدها منخرقة تجاوزها، فأصلحها"، فيستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتمِلات، وأما قَتْله الغلام، فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان
(1)
، والله أعلم.
18 -
(ومنها): ما أورده في "العمدة" على طريقة السؤال والجواب، فقال:(منها): ما قيل في قوله: "فإني نسيت الحوت": كيف نسي ذلك، ومثله لا يُنسى؛ لكونه أمارة على المطلوب، ولأن ثمة معجزتين: حياة السمكة المملوحة المأكول منها على المشهور، وانتصاب الماء مثل الطاق، ونفوذها في مثل السرب منه؟.
أجيب: بأنه قد شغله الشيطان بوسواسه، والتعوّد بمشاهدة أمثاله عند موسى عليه السلام من العجائب، والاستئناسُ بأخواته موجب لقلة الاهتمام به.
(ومنها): ما قيل في قوله: "على أن تعلّمني مما علمت رشدًا": أمَا دلّت حاجته إلى التعلم من آخَر في عَهْده، أنه كما قيل: موسى بن ميشا، لا موسى بن عمران؛ لأن النبي يجب أن يكون أعلم أهل زمانه، وإمامهم المرجوع إليه في أبواب الدين؟.
أجيب: لا غضاضة بالنبيّ في أخذ العلم من نبيّ مثله، وإنما يَغُض منه أن يأخذ ممن دونه، وقال الكرمانيّ: هذا الجواب لا يتم على تقدير ولايته، قال العينيّ: هذا الجواب للزمخشريّ وهو قائل بنبوته، كما ذهب إليه الجمهور، بل هو رسول، وينبغي اعتقاد ذلك؛ لئلا يَتوسل به أهل الزيغ والفساد من المبتدعة الملاحدة في دعواهم أن الوليّ أفضل من النبيّ، نعوذ بالله تعالى من هذه البدعة.
(ومنها): ما قيل في قوله: "فحملوهما": هم ثلاثة، فقال: كلّموهم بلفظة الجمع، فلم قال:"فحملوهما" بالتثنية؟.
أجيب: بأن يوشع كان تابعًا، فاكتُفِي بذكر الأصل عن الفرع.
(ومنها): ما قيل: إن نسبة النقرة إلى البحر نسبة المتناهي إلى المتناهي،
(1)
"الفتح" 1/ 384 - 386، كتاب "العلم" رقم (122).
ونسبة عِلمهما إلى علم الله نسبة المتناهي إلى غير المتناهي، وللنقرة إلى البحر في الجملة نسبة ما، بخلاف عِلْمهما فإنه لا نسبة له إلى علم الله.
أجيب: بأن المقصود منه التشبيه في القلة والحقارة، لا المماثَلة من كل الوجوه.
(ومنها): ما قيل: متى كانت قصة الخضر مع موسى عليه السلام؟.
أجيب: حيث كان موسى في التيه، فلما فارقه الخضر رفع إلى قومه، وهم في التيه، وقيل: كانت قبل خروجه من مصر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تعيين وقت قصّتهما يحتاج إلى حجة صحيحة، فأين هي؟ والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في شأن الخضر عليه السلام:
(اعلم): أنه قد اختُلِف في اسمه، واسم أبيه، ونسبه، ونبوته، وتعميره، فقال وهب بن منبه: هو بَلْيَا -بفتح الموحّدة، وسكون اللام، بعدها تحتانية- ووُجد بخط الدمياطي في أول الاسم بنقطتين، وقيل كالأول بزيادة ألف بعد الباء، وقيل: اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وقيل: عامر، وقيل: خضرون، والأول أثبت: ابن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفشخند بن سام بن نوح، فعلى هذا فمولده قبل إبراهيم الخليل؛ لأنه يكون ابن عم جدّ إبراهيم، وقد حَكَى الثعلبيّ قولين في أنه كان قبل الخليل، أو بعده، قال وهب: وكنيته أبو العباس.
وروى الدارقطنيّ في "الأفراد" من طريق مقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: هو ابن آدم لِصُلبه، وهو ضعيف، منقطع.
وذكر أبو حاتم السجستاني في المعمَّرين أنه ابن قابيل بن آدم، رواه عن أبي عبيدة وغيره.
وقيل: اسمه إرميا بن طيفاء، حكاه ابن إسحاق عن وهب، وإرميا بكسر أوله، وقيل: بضمه، وأشبعها بعضهم واوًا.
واختُلِف في اسم أبيه، فقيل: ملكان، وقيل: كلمان، وقيل: عاميل،
(1)
"عمدة القاري" 2/ 196.
وقيل: قابل، والأول أشهر، وعن إسماعيل بن أبي أويس: هو المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد، وحكى السهيليّ عن قوم أنه كان مَلَكًا من الملائكة، وليس من بني آدم، وعن ابن لهيعة: كان ابن فرعون نفسه، وقيل: ابن بنت فرعون، وقيل: اسمه خضرون بن عاييل بن معمر بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، وقيل: كان أبوه فارسيًّا، رواه الطبريّ من طريق عبد الله بن شوذب.
وحكى ابن ظفر في "تفسيره" أنه كان من ذرية بعض من آمن بإبراهيم، وقيل: إنه الذي أماته الله مائة عام، ثم بعثه، فلا يموت حتى يُنفخ في الصُّور.
وروى الدارقطني في الحديث المذكور قال: مُدّ للخضر في أجَلِه حتى يُكَذِّب الدجال.
وقال عبد الرزاق في "مصنفه" عن مَعْمَر في قصة الذي يقتله الدجال، ثم يحييه: بلغني أنه الخضر، وكذا قال إبراهيم بن سفيان الراوي عن مسلم في "صحيحه"، وروى ابن إسحاق في "المبتدأ" عن أصحابه أن آدم أخبر بنيه عند الموت بأمر الطوفان، ودعا بمن يحفظ جسده بالتعمير حتى يدفنه، فجمع نوح بَنِيه لمّا وقع الطوفان، وأعلمهم بذلك، فحفظوه حتى كان الذي تولى دَفْنه الخضر.
وروى خيثمة بن سليمان من طريق جعفر الصادق عن أبيه، أن ذا القرنين كان له صديق من الملائكة، فطلب منه أن يدلّه على شيء يطول به عمره، فدله على عين الحياة، وهي داخل الظلمة، فصار إليها، والخضر على مقدمته، فظفر بها الخضر، ولم يظفر بها ذو القرنين.
ورُوي عن مكحول، عن كعب الأحبار، قال: أربعة من الأنبياء أحياء، أمان لأهل الأرض، اثنان في الأرض: الخضر وإلياس، واثنان في السماء: إدريس وعيسى.
وحَكَى ابن عطية البغويّ
(1)
عن أكثر أهل العلم أنه نبيّ، ثم اختلفوا هل هو رسول، أم لا؟.
(1)
هكذا النسخة بلا عاطف، ولعله والبغويّ بالواو فليُحرّر.
وقالت طائفة، منهم القشيريّ: هو وليّ، وقال الطبري في "تاريخه": كان الخضر في أيام أفريدون، في قول عامة علماء الكتاب الأول، وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر.
وأخرج النقاش أخبارًا كثيرة تدلّ على بقائه، لا تقوم بشيء منها حجةٌ، قاله ابن عطية، قال: ولو كان باقيًا لكان له في ابتداء الإسلام ظهور، ولم يَثْبت شيء من ذلك.
وقال الثعلبيّ في "تفسيره": هو معمَّر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار، قال: وقد قيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان، حين يُرفع القرآن.
وقال القرطبيّ: هو نبيّ عند الجمهور، والآية تشهد بذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء.
وقال ابن الصلاح: هو حيّ عند جمهور العلماء، والعامة معهم في ذلك، وإنما شَذَّ بإنكاره بعض المحدثين، وتبعه النوويّ، وزاد أن ذلك متفق عليه بين الصوفية، وأهل الصلاح، وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به أكثر من أن تُحْصَر. انتهى.
والذي جزم بأنه غير موجود الآن: البخاريّ، وإبراهيم الحربيّ، وأبو جعفر بن المنادى، وأبو يعلى ابن الفراء، وأبو طاهر العباديّ، وأبو بكر بن العربيّ، وطائفة، وعمدتهم الحديث المشهور عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في آخر حياته: "لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة، ممن هو عليها اليوم أحد"، قال ابن عمر: أراد بذلك انخرام قَرْنه.
وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، أو هو مخصوص من الحديث، كما خُصّ منه إبليس بالاتفاق.
ومِن حُجَج من أنكر ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية [الأنبياء: 34]، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما:"ما بعث الله نبيًّا، إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بُعث محمد، وهو حي ليؤمننّ به، ولينصرنّه"، أخرجه البخاريّ، ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا قاتل معه، وقد قال صلى الله عليه وسلم يوم بدر:"اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد في الأرض"، فلو كان الخضر موجودًا لم يصح هذا النفي، وقال صلى الله عليه وسلم: "رَحِم الله موسى لَوَدِدْنا لو كان صَبَر
حتى يقصّ علينا من خبرهما"، فلو كان الخضر موجودًا لَمَا حَسُنَ هذا التمني، وَلأحضره بين يديه، وأراه العجائب، وكان أدعى لإيمان الكفرة، لا سيما أهل الكتاب.
وجاء في اجتماعه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف، أخرجه ابن عدي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع، وهو في المسجد كلامًا، فقال:"يا أنس اذهب إلى هذا القائل، فقل له يستغفر لي"، فذهب إليه، فقال: قل له: إن الله فضّلك على الأنبياء بما فضّل به رمضان على الشهور، قال: فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر، إسناده ضعيف.
وروى ابن عساكر من حديث أنس نحوه، بإسناد أوهى منه.
وروى الدارقطني في "الأفراد" من طريق عطاء، عن ابن عباس مرفوعًا:"يجتمع الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه، ويفترقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله، ما شاء الله. . ." الحديث، في إسناده محمد بن أحمد بن زيد - بمعجمة، ثم موحدة ساكنة، وهو ضعيف.
وروى ابن عساكر من طريق هشام بن خالد، عن الحسن بن يحيى، عن ابن أبي رواد، نحوه، وزاد:"ويشربان من ماء زمزم شربة، تكفيهما إلى قابل"، وهذا مُعْضَل، ورواه أحمد في "الزهد" بإسناد حسن عن ابن أبي روّاد، وزاد:"أنهما يصومان رمضان ببيت المقدس".
وروى الطبريّ من طريق عبد الله بن شوذب نحوه، ورُوي عن عليّ أنه "دخل الطواف، فسمع رجلًا يقول: يا من لا يَشْغَله سَمْع عن سَمْع. . ." الحديث، فإذا هو الخضر، أخرجه ابن عساكر من وجهين، في كل منهما ضَعْف، وهو في "المجالسة" من الوجه الثاني.
وجاء في اجتماعه ببعض الصحابة، فمَن بعدَهم أخبار، أكثرها واهي الإسناد، منها ما أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقيّ من حديث أنس:"لَمّا قُبِض النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل رجل، فتخطّاهم، فذكر الحديث في التعزية، فقال أبو بكر، وعليّ: هذا الخضر، في إسناده عباد بن عبد الصمد، وهو واهٍ، وروى سيف في "الردة" نحوه بإسناد آخر مجهول، وروى ابن أبي حاتم من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ نحوه.
وروى ابن وهب من طريق بن المنكدر، أن عمر صلى على جنازة، فسمع قائلًا يقول: لا تَسْبقنا، فذكر القصة، وفيها: أنه دعا للميت، فقال عمر: خذوا الرجل، فتوارى عنهم، فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر: هذا والله الخضر، في إسناده مجهول، مع انقطاعه.
وروى أحمد في "الزهد" من طريق مسعر، عن معن بن عبد الرحمن، عن عون بن عبد الله، قال: بينا رجل بمصر في فتنة ابن الزبير مهمومًا؛ إذ لقيه رجل، فسأله، فأخبره باهتمامه بما فيه الناس من الفتن، فقال: قل: اللهم سلّمني، وسلّم مني، قال: فقالها: فسَلِم، قال مسعر: يرون أنه الخضر.
وروى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" وأبو عروبة من طريق رياح -بالتحتانية- ابن عبيدة، قال: رأيت رجلًا يماشي عمر بن عبد العزيز، معتمدًا على يديه، فلما انصرف، قلت له: من الرجل؟ قال: رأيته؟ قلت: نعم، قال: أحسبك رجلًا صالحًا، ذاك أخي الخضر، بَشَّرني أني سَأُوَلَّى، وأعدل. لا بأس برجاله.
قال الحافظ رحمه الله: ولم يقع لي إلى الآن خبر، ولا أثر بسند جيد غيره، وهذا لا يعارض الحديث الأول في مائة سنة، فإن ذلك كان قبل المائة.
وروى ابن عساكر من طريق كرز بن وبرة، قال: أتاني أخ لي من أهل الشام، فقال: اقْبَلْ مني هذه الهدية، إن إبراهيم التيميّ حدّثني، قال: كنت جالسًا بفناء الكعبة، أذكر الله، فجاءني رجل، فسلَّم عليّ، فلم أر أحسن وجهًا منه، ولا أطيب ريحًا، فقلت: من أنت؟ فقال: أنا أخوك الخضر، قال: فعلّمه شيئًا إذا فعله رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام. وفي إسناده مجهول، وضعيف.
وروى ابن عساكر في ترجمة أبي زرعة الرازي بسند صحيح، أنه رأى، وهو شابّ رجلًا نهاه عن غشيان أبواب الأمراء، ثم رآه بعد أن صار شيخًا كبيرًا على حالته الأُولى، فنهاه عن ذلك أيضًا، قال: فالتفتّ لأكلمه، فلم أره، فوقع في نفسي أنه الخضر.
وروى عمر الجمحي في "فرائده"، والفاكهي في "كتاب مكة" بسند فيه مجهول، عن جعفر بن محمد أنه رأى شيخًا كبيرًا يحدّث أباه، ثم ذهب، فقال له أبوه: رُدّه عليّ، قال: فتطلّبته، فلم أقدر عليه، فقال لي أبي: ذاك الخضر.
وروى البيهقيّ من طريق الحجاج بن فرافصة: أن رجلين كانا يتبايعان عند ابن عمر، فقام عليهم رجل، فنهاهما عن الحلف بالله، ووعظهم بموعظة، فقال ابن عمر لأحدهما: اكتبها منه، فاستعاده حتى حفظها، ثم تطلّبه، فلم يره، قال: وكانوا يَرَوْن أنه الخضر، ذكر هذا في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الحقّ أن الخضر عليه السلام نبيّ، ومن أقوى الأدلّة وأظهرها في ذلك قوله عز وجل حكايةً عنه:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وقوله:{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الآية [الكهف: 82]، وقوله في الحديث الصحيح:"يا موسى إني على عِلم من عِلم الله علَّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على عِلم من عِلمه علّمكه لا أعلمه".
قال الشيخ الشنقيطيّ رحمه الله في "تفسيره": ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدنيّ اللذين امتنّ الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]؛ أي: وإنما فعلته عن أمْر الله جل وعلا، وأمْر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي؛ إذ لا طريق تُعرف بها أوامر الله، ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا، ولا سيما قَتْل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر، وتعييب سفن الناس بخرقها؛ لأن العدوان على أنفس الناس، وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء: 45]، و"إنما" صيغة حصر
(2)
. انتهى كلامه، وهو بحث نفيسٌ جدًّا.
فخلاصة القول أن الخضر عليه السلام نبيّ بلا شكّ، والله تعالى أعلم.
وأما ما ورد في حياة الخضر عليه السلام إلى اليوم، فإنه لا يثبت منه شيء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحكايات عن الصالحين أكثرها واهية، وما صحّ منها لا يُلتفت إليه؛ لأنه مظنون، عن غير معصوم.
قال الشيخ الشنقيطيّ أيضًا -بعدما أورد كثيرًا مما قيل في ذلك- ما نصّه: فتحصّل أن الأحاديث المرفوعة التي تدلّ على وجود الخضر حيًّا باقيًا لم
(1)
"الفتح" 7/ 713 - 717، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3401).
(2)
"أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" 3/ 397.
يثبت منها شيء، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته، كما قدمنا إيضاحه.
وممن بيّن ضَعف الأحايث الدالة على حياة الخضر، وبقائه: ابن كثير في "تاريخه"، و"تفسيره"، وبيّن كثيرًا من أوْجه ضَعْفها ابن حجر في "الإصابة"، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" بعد أن ساق الأحاديث، والحكايات الواردة في حياة الخضر: وهذه الروايات والحكايات، هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدًّا، لا تقوم بمثلها حجة في الدين، والحكايات لا يخلو أكثرها من ضَعف في الإسناد، وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم، من صحابيّ أو غيره؛ لأنه يجوز عليه الخطأ، والله أعلم، إلى أن قال رحمه الله: وقد تصدى الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله في كتابه "عجالة المنتظر في شرح حالة الخضر" للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات، فبيّن أنها موضوعات، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم، فبيّن ضَعْف أسانيدها ببيان أحوالها، وجهالة رجالها، وقد أجاد في ذلك، وأحسن الانتقاد. انتهى منه
(1)
.
وخلاصة القول: أن القول الصواب هو أن الخضر ليس حيًّا الآن، وأن القول بحياته لا دليل عليه يَثْبت، بل هو من حديث الخرافات التي ينبغي الحذر منها، والابتعاد عنها، فإن اعتقاد مثل هذا قد دعا كثيرًا ممن يُنسب إلى العبادة إلى أن يدّعوا طريقة مبتدَعة في الذِّكر ونحوه بدعوى أن الخضر لقّنهم إياها، فبذلك دخل في المسلمين كثير من البدع والخرافات، فأضلّ به مشايخ الضلال كثيرًا من الجهّال، فإنا لله وإنا إليه راجعون، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، "اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبِسًا علينا، فنضلَّ، واجعلنا للمتقين إمامًا"، آمين.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6145]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ:
(1)
"أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" 3/ 387.
قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى الَّذِي ذَهَبَ يَلْتَمِسُ الْعِلْمَ، لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: أَسَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ، حَدَّثَنَا أُبيُّ بْنُ كَعْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ بَيْنَمَا مُوسَى عليه السلام فِي قَوْمِه، يُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ، وَأَيَّامُ اللهِ: نَعْمَاؤُهُ، وَبَلَاؤُهُ؛ إِذْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا، أَو أَعْلَمَ مِنِّي، قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ، إِنِّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ مِنْهُ، أَو عِنْدَ مَنْ هُوَ، إِنَّ فِي الأَرْضِ رَجُلًا هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، فَدُلَّنِي عَلَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا، فَإنَّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَعُمِّيَ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ، وَتَرَكَ فَتَاهُ، فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلَ لَا يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، صَارَ مِثْلَ الْكُوَّةِ، قَالَ: فَقَالَ فَتَاهُ: أَلَا أَلْحَقُ نَبِيَّ اللهِ، فَأُخْبِرَهُ، قَالَ: فَنُسِّيَ، فَلَمَّا تَجَاوَزَا، قَالَ لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] قَالَ: وَلَمْ يُصِبْهُمْ نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا، قَالَ: فَتَذَكَّرَ، {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)} [الكهف: 63، 64]، فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ، قَالَ: هَا هُنَا وُصِفَ لِي، قَالَ: فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ، فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ مُسَجًّى ثَوْبًا، مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا، أَوْ قَالَ: عَلَى حَلَاوَةِ الْقَفَا، قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَكَشَفَ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ، قَالَ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أنَا مُوسَى، قَالَ: وَمَنْ مُوسَى؟ قَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: مَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟ شَيْءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَنْ أفعَلَهُ، إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ، قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا في السَّفِينَةِ خَرَقَهَا، قَالَ: انْتَحَى عَلَيْهَا، قَالَ لَهُ مُوسَى عليه السلام: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ: ألَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا، حَتَّى
إِذَا لَقِيَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرَّأْيِ، فَقَتَلَهُ، فَذُعِرَ عِنْدَهَا مُوسَى عليه السلام ذَعْرَةً مُنْكَرَةً، قَالَ: أقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هَذَا الْمَكَانِ: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا، وَعَلَى مُوسَى، لَوْلَا أَنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ، قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا، فَلَا تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، وَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ" -قَالَ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَخِي كَذَا رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا"- "فَانْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا
(1)
، فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ، فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، فَأَقَامَهُ، قَالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ
(2)
عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، وَأَخَذَ بِثَوْبِه، قَالَ:{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر} [الكهف: 78، 79] إِلَى آخِرِ الآيَة، فَإِذَا جَاءَ الَّذِي يُسَخِّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً، فَتَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ، وَأمّا الْغُلَامُ فَطُبعَ يَوْمَ طُبعَ كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ} [الكهف: 81، 82] " إِلَى آخرِ الآيَةِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ) الصَّنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(رَقَبَةُ) -بقاف، وموحّدة مفتوحتين- ابن مَصْقَلة -بالصاد، والسين- العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ، وكان يمزح [6].
رَوَى عن أنس فيما قيل، ويزيد بن أبي مريم، وأبي إسحاق، وعطاء،
(1)
وفي نسخة: "لئام".
(2)
وفي نسخة: "لتخذت".
وقيس بن مسلم، ومجزأة بن زاهر، وعبد العزيز بن صهيب، وغيرهم. وروى عنه سليمان التيميّ، وهو من أقرانه، وجرير بن عبد الحميد، وأبو عوانة، وابن عيينة، وابن فضيل، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ من الثقات، مأمون، وقال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ، وقال العجليّ: ثقةٌ، وكان مُفَوَّهًا يُعَدّ من رجالات العرب، وكان صديقًا لسليمان التيميّ، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ إلا أنه كانت فيه دُعَابةُ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأرَّخ ابن الأثير وفاته سنة (129).
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث، هذا برقم (2380)، وحديث (2661):"إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرًا. . ."، وحديث (2743):"بينما ثلاثة نفر يتمشون، أخذهم المطر. . ." الحديث.
5 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد، ويقال غير ذلك، الْهَمْدانيّ، السَّبِيعيّ -بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة- ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، اختلط بأخرة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالبصريين إلى التيميّ، والباقون كوفيّون إلا ابن عبّاس، فبصريّ، وأُبيًّا فمدنيّ رضي الله عنهما، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله السَّبِيعيّ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) أنه (قَالَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، وتقدّم في الرواية السابقة أنه هو القائل. (إِنَّ نَوْفًا) -بفتح النون، وسكون الواو- البِكَاليّ -بكسر الموحّدة مخففًا، وبعد الألف لام، وقيل: بفتح أوله، وتشديد الكاف، والصواب الأول-، واسم أبيه فَضَالة -بفتح الفاء، وتخفيف المعجمة- وهو منسوب إلى بني بكال بن
دعمى بن سعد بن عوف بطن من حِمْير، ويقال: إنه ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه، وهو تابعيّ، صدوقٌ.
وفي التابعين: جَبْر -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- ابن نَوْف الْبَكِيليّ -بفتح الموحّدة، وكسر الكاف، مخففًا، بعدها تحتانية، بعدها لام- منسوب إلى بَكِيل بطن من هَمْدان، ويكنى أبا الوَدّاك -بتشديد الدال- وهو مشهور بكنيته، ومن زعم أنه وَلَد نَوْف الْبِكَاليّ فقد وَهِم
(1)
.
(يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى الَّذِي ذَهَبَ يَلْتَمِسُ)؛ أي: يطلب (الْعِلْمَ، لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) وإنما هو موسى بن مِيشا بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام. (قَالَ) ابن عبّاس (أَسَمِعْتَهُ يَا سَعِيدُ؟) قال سعيد: (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ) تقدّم أنه قال: كذب عدو الله، وقوله:"كَذَبَ"، وكذا قوله:"عدو الله" محمولان على إرادة المبالغة في الزجر والتنفير عن تصديق تلك المقالة، وقد كانت هذه المسألة دارت أوّلًا بين ابن عباس والْحُرّ
(2)
بن قيس الفزاريّ وسألا عن ذلك أُبّي بن كعب، ففي رواية للبخاريّ:"أنه تمارى هو والحرّ بن قيس الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عبّاس: هو خضر، فمرّ بهما أُبيّ بن كعب، فدعاه ابن عبّاس، فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا. . ." الحديث، وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحر غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكالي، فإن هذا في صاحب موسى، هل هو الخضر أو غيره؟ وذاك في موسى، هل هو موسى بن عمران الذي أُنزلت عليه التوراة، أو موسى بن مِيشا؟
(3)
، فتنبّه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كذب نوف" هو جارٍ على مذهب أصحابنا أن الكذب: هو الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عمدًا كان، أو سهوًا، خلافًا
(1)
"الفتح" 10/ 321 - 322، كتاب "التفسير" رقم (4726).
(2)
الحرّ: -بضم الحاء، وتشديد الراء المهملتين- وهو: صحابي مشهور ذكره ابن السكن وغيره، وله ذِكر عند البخاري أيضًا في قصة له مع عمر قال فيها: وكان الحر من النفر الذين يُدْنِيهم عمر؛ يعني: لِفَضْلهم.
(3)
راجع: "الفتح" 1/ 297.
للمعتزلة، وسبقت المسألة في "كتاب الإيمان". انتهى
(1)
.
(حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ) رضي الله عنه (قَالَ) أُبيّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، وقد تقدّم البحث في ذلك قريبًا. (بَيْنَمَا) تقدّم غير مرّة أن أصله "بين" زيدت فيه "ما"، وجوابه "إذ قال. . . إلخ". (مُوسَى عليه السلام فِي قَوْمِهِ، يُذَكِّرُهُمْ)؛ أي: يعظهم (بِأَيَّامِ اللهِ)، ثم فسّر الراوي أيام الله بقوله:(وَأَيَّامُ اللهِ نَعْمَاؤُهُ) بفتح النون؛ أي: منّته وعطيّته، كإرسال موسى إليهم، وإنزال التوراة عليه، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، وغير ذلك. (وَبَلَاؤُهُ)؛ أي: امتحانه لهم، كاستعباد القبط لهم، يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم وغير ذلك. (إِذْ قَالَ) موسى بعدما سئل: هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ كما بُيّن في الرواية الماضية. (مَا) نافية، (أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ رَجُلًا خَيْرًا، أَوْ) للشكّ من الراوي (أَعْلَمَ مِنِّي، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى موسى عليه السلام (إِنِّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ مِنْهُ)؛ أي: من موسى عليه السلام، (أَوْ) للشكّ من الراوي أيضًا؛ أي: أو قال الله: إني أعلم (عِنْدَ مَنْ هُوَ)؛ أي: الخير، أو العلم، ثم بيّن ذلك، فقال:(إِنَّ فِي الأَرْضِ رَجُلًا) هو: الخضر، (هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ) موسى (يَا رَبِّ، فَدُلَّنِي عَلَيْهِ) أمْر من دلّ، من باب قعد: إذا أرشد، وللنسائيّ:"فادللني على هذا الرجل حتى أتعلّم منه". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَقِيلَ لَهُ)؛ أي: قال الله تعالى لموسى عليه السلام (تَزَوَّدْ) هذا صريح في أن ذلك الحوت كان زادَ موسى وفتاه، خلاف ما رجّحه القرطبي فيما مضى من أنه ليس زادًا لهما. (حُوتًا) بالضمّ: العظيم من السَّمَك، وهو مذكّر، وفي التنزيل:{فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} [الصافات: 142]، والجمع حِيتان.
(2)
(مَالِحًا)؛ أي: مُقَدّدًا، وجعل الفيّوميّ مالحًا لغة رديئة، وعبارته: سَمَكٌ مِلْحٌ، ومَمْلُوحٌ، ومَلِيحٌ، وهو الْمُقَدَّدُ، ولا يقال: مَالِحٌ إلا في لغة رديئة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "في لغة رديئة" يردّ عليه هذا الحديث الصحيح، بل قد ورد في أشعار العرب، وأثبته بعض اللغويين، ودونك عبارة السيد محمد مرتضى الزبيديّ في "شرح القاموس"، قال بعد ذِكر قول المانعين
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 142.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 155.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 578.
منه: وقال أَبو الدُّقَيْش: يقال: ماءٌ مالحٌ، ومِلْح، قال أَبو منصور: هذا وإِنْ وُجِدَ في كلام العرب قليلًا لُغَةٌ لا تُنْكر، قال ابن بَرّيّ: قد جاءَ المالِح في أَشعارِ الفُصحاءِ؛ كقول الأَغلب العِجْليّ يَصف أُتُنًا وحِمارًا [من الرجز]:
تَخَالُهُ مِنْ كَرْبهِنَّ كَالحَا
…
وافْتَرَّ صَابًا ونَشُوقًا مالِحَا
وقال غَسّانُ السَّلِيطيّ [من الطويل]:
وَبِيضٍ غِذَاهنَّ الحَليبُ وَلَمْ يَكنْ
…
غِذَاهُنَّ نِينَانٌ مِنَ الْبَحْرِ مالِحُ
أَحَبُّ إِلينا مِنْ أُناسٍ بِقَرْيَةٍ
…
يَمُوجُون مَوْجَ البَحْرِ والبَحْرُ جَامِحُ
وقال عُمر بن أَبي رَبيعةَ [من الطويل]:
وَلَوْ تفَلَتْ في البَحْر والبَحرُ مالحٌ
…
لأَصبَحَ ماءُ البَحْرِ من ريقِهَا عَذْبَا
قال: وقال ابنُ الأَعرَابيّ: يقال شيْءٌ مالِحٌ، كما يقال: حامِضٌ، قال ابنَ بَرّيّ: وقال أَبو الجَرّاح: الحَمْضُ: المالِحُ من الشَّجَر، قال ابن بَرّيّ: ووَجْهُ جَوازِ هذا من جِهة العَربيَّة أَن يكون على النَّسَب، مثل قولهم: ماءٌ دافِقٌ؛ أي: ذو دَفْق، وكذلك ماءٌ مالح؛ أي: ذو مِلْح، وكما يقال: رَجلٌ تارِسٌ؛ أي: ذو تُرْسٍ، ودَارعٌ؛ أي: ذو دِرعٍ، قال: ولا يكون هذا جاريًا على الفِعْل، وقال ابن سيدَه: وسَمَكٌ مالِحٌ، ومَلِيحٌ، ومَمْلُوح، ومُمَلَّح، وكَرِهَ بعضُهم مَلِيحًا ومالِحًا، ولم يَرَ بَيْتَ عُذافرٍ حُجَة، وهو قوله [من الرجز]:
لو شاءَ رَبِّي لم أَكنْ كَرِيَّا
…
ولم أَسُقْ لشَعْفَرَ المَطِيَّا
بَصَريّة تزَوّجتْ بَصْرِيَّا
…
يُطْعِمها المالحَ والطَّرِيَّا
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأشعار أثبتت صحة قوله: "مالحًا" الواقع في هذا الحديث، وأن العرب كانت تستعمله، والذين نفوه إنما نفوا علمهم، ومَن حفِظ كابن سِيده، وابن الأعرابيّ، وابن برّيّ حجة على من لم يحفظ، فاحفظ هذا، وكن على بصيرة، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": ويستفاد من هذه الرواية أن الحوت كان ميتًا؛ لأنه لا يُمْلَح، وهو حيّ، ومنه تعلم الحكمة في تخصيص الحوت دون غيره من
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 1756.
الحيوانات؛ لأن غيره لا يؤكل ميتًا، ولا يَرِدُ الجراد؛ لأنه قد يُفقد وجوده، لا سيما بمصر. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّهُ)؛ أي: ذلك الرجل الأعلم منك، (حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ)؛ أي: في المكان الذي تفقد فيه الحوت المالح. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَانْطَلَقَ هُوَ)؛ أي: موسى، إنما أتى بضمير الفصل؛ ليعطف عليه قوله:"وَفَتَاهُ"، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَو فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(وَفَتَاهُ) يوشع بن نون، (حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ) التي عند ملتقى البحرين، (فَعُمِّيَ عَلَيْهِ) وقع في بعض الأصول:"فعَمِيَ"، بفتح العين المهملة، وكسر الميم، وفي بعضها:"فَعُمِّيَ" بضم العين، وتشديد الميم، وفي بعضها:"فُغُمّي" بالغين المعجمة، والمعنى متقارب، قال صاحب "التكملة": ولعلّ مراد الراوي هنا أن موسى عليه السلام عَمِي عليه الطريق، فانطلق، وتفرّق عن فتاه، وهذا مخالف لِمَا سبق من أن موسى عليه السلام كان قد نام في ظلّ الصخرة، ولعلّ تفرّقهما وقع بعد استيقاظهما لفترة يسيرة، وقول الراوي هنا:"وترك فتاه، فاضطرب الحوت في الماء" يدلّ بظاهره أن اضطراب الحوت وقع في حال تفرّقهما، ولكن الروايات الصحيحة تدلّ على أنه وقع في حالة نوم موسى عليه السلام، والظاهر أنه قد وقع في هذه الرواية تقديم وتأخير في بيان بعض الواقعات. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الاعتماد على ما دلّت عليه الروايات الأخرى أَولى من هذه الرواية، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَانْطَلَقَ) موسى عليه السلام (وَتَرَكَ فَتَاهُ) عند الصخرة، (فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ) هذا عَطْف على مقدّر؛ أي: فَحَيِي ذلك الحوت، فانسلّ من المكتل، فاضطرب في الماء، (فَجَعَلَ) الماء (لَا يَلْتَئِمُ)؛ أي: لا ينطبق (عَلَيْهِ)؛ أي: على الحوت، (صَارَ) طريق الحوت (مِثْلَ الْكُوَّةِ) بفتح الكاف، ويقال: بضمها، وهي: الطاق، كما في الرواية الأُولى. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ فَتَاهُ) يوشع (ألَا) أداة
(1)
"الفتح" 10/ 324، كتاب "التفسير" رقم (4726).
(2)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 51 - 52.
عرض، (أَلْحَقُ) بفتح الحاء المهملة، يقال: لحِقته، ولَحِقتُ به أَلْحق، من باب تَعِب لَحَاقًا بالفتح: أدركته، وألحقته بالألف مثله. (نَبِيَّ اللهِ) موسى عليه السلام، (فَأُخْبِرَهُ)؛ أي: بفقدان الحوت، و"أُخبر" منصوب بـ "أن" مضمرةً وجوبًا بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "فَا" جَوَابِ نَفْيٍ أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَنُسِّيَ) بضمّ النون، وتشديد السين المهملة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أنساه الشيطان، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح النون، وتخفيف السين المكسورة، مبنيًّا للفاعل؛ أي: نسي ذِكر فقدانه لموسى عليه السلام. (فَلَمَّا تَجَاوَزَا) ذلك المكان، وفي الرواية السابقة:"فانطلقا بقيّة يومهما، وليلتهما، ونسي صاحب موسى أن يخبره، فلما أصبح موسى عليه السلام قال لفتاه: آتنا غداءنا". (قَالَ) موسى عليه السلام (لِفَتَاهُ) يوشع بن نون عليه السلام (آتِنَا غَدَاءَنَا) هو ما يؤكل أول النهار، (لَقَدْ لَقِينَا) بكسر القاف، (مِنْ سَفَرِنَا هَذَا) إشارة إلى السفر الذي وقع بعد مجاوزة الموعد، وهو: مجمع البحرين. (نَصَبًا)؛ أي: تعبًا، وهو منصوب بـ "لقينا"، قال السمين رحمه الله: والعامة على فتح النون والصاد، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمّهما، وهما لغتان من لغات أربع في هذه اللفظة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَلَمْ يُصِبْهُمْ) هكذا بضمير الجمع، وهو يعود إلى موسى ويوشع، وقد سبق غير مرّة إن إطلاق ضمير الجمع على المثنّى لغة فصيحة، كما في قوله تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] مع أنه قال قبله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية [الأنبياء: 78].
(نَصَبٌ حَتَّى تَجَاوَزَا) المكان الذي أمرا به. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَتَذَكَّرَ) يوشع أمْر الحوت، فـ (قَالَ: أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني، قال السمين رحمه الله: قال أبو الحسن الأخفش
(2)
: إن العرب أخرجت "أرأيت" عن معناها بالكلّيّة، فقالوا: أرأيتك، وأريتك بحذف الهمزة إذا كانت بمعنى أخبرني، وإذا كانت بمعنى أبصرتَ لم تُحذف همزتها، وشذّت أيضًا، فألزمتها الخطاب على هذا المعنى، ولا تقول
(1)
"الدرّ المصون في علوم كتاب الله المكنون" 7/ 521.
(2)
"الدرّ المصون في علوم كتاب الله المكنون" 7/ 521.
فيها: أراني زيدًا عمرًا ما صنع، وتقول هذا على معنى أعلم، وشذّت أيضًا، فأخرجتها عن موضعها بالكلّيّة بدليل دخول الفاء، ألا ترى قوله:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي} ، فما دخلت الفاء إلا وقد أُخرجت إلى معنى أمّا، أو تنبّه، والمعنى: أمّا إذ أوينا إلى الصخرة، فإني نسيت الحوت، قال: وإذا كانت بمعنى "أخبرني" فلا بُدّ بعدها من الاسم المستخبَر عنه، وتلزم الجملة التي بعدها الاستفهام، وقد تخرج لمعنى أمّا، ويكون بعدها الشرط وظرف الزمان، فقال:"فإني نسيت"؛ معناه: أما إذ أوينا، فإني، أو تنبّه إذ أوينا، وليست الفاء إلا جوابًا لـ "أرأيت"؛ لأن "إذ" لا يصحّ أن يجازى بها إلا مقرونة بـ "ما" بلا خلاف. انتهى.
(إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ) التي بمجمع البحرين، (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ)؛ أي: ذِكر الحوت، وما جرى له من الحياة، واضطرابه في البحر، (وَمَا أَنْسَانِيهُ) قرأ حفص بضمّ الهاء، وكذا في قوله تعالى:{عَلَيْهُ اللَّهَ} في "سورة الفتح"، قيل: لأن الياء
(1)
هنا أصلها الفتح، والهاء بعد الفتحة مضمومة، فنَظَر هنا إلى الأصل، وأما في "سورة الفتح" فلأن الياء عارضة؛ إذ أصلها الألف، والهاء بعد الألف مضمومة، فنَظَر إلى الأصل أيضًا، والباقون بالكسر نظرًا إلى اللفظ، فإنها بعد ياء ساكنة، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية، فإنه ضمّ الهاء في {أَنْسَانِيهُ} في غير صلة، ووَصَلها بياء في قوله:{فِيهِ مُهَانًا} ، وقرأ كأكثر القرّاء فيما سوى ذلك
(2)
.
(إِلَّا الشَّيْطَانُ)، وقوله:(أَنْ أَذْكُرَهُ) في محل نصب على البدل من هاء "أنسانيه" بدل اشتمال؛ أي: أنساني ذِكره، (وَاتَّخَذَ) فاعله ضمير الحوت، أو ضمير موسى
(3)
. (سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)؛ أي: سبيلًا عجبًا، وهو كونه كالسراب، أو اتخاذًا عجبًا، وموضع العجب أن يكون حوتٌ قد مات يؤكل شقّه، ثم حيي بعد ذلك. (قَالَ) موسى (ذَلِكَ)؛ أي: فَقْدنا الحوت، (مَا كُنَّا
(1)
أي: ياء "نسي".
(2)
"الدرّ المصون في علوم كتاب الله المكنون" 7/ 522 - 523.
(3)
راجع: "الدرّ المصون" 7/ 523.
نَبْغِي)؛ أي: الذي كنّا نطلبه، فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه، وهو الخضر. (فَارْتَدَّا)؛ أي: فرجعا (عَلَى آثَارِهِمَا)؛ أي: آثار سيرهما في الطريق الذي جاءا فيه، (قَصَصًا)؛ أي: يقصّان قصصًا؛ أي: يتبعان آثارهما اتّباعًا. (فَأَرَاهُ)؛ أي: فلما وصلا إلى الصخرة أرى يوشع موسى (مَكَانَ الْحُوتِ) الذي انسلّ من المكتل، فدخل البحر. (قَالَ) موسى (هَا هُنَا وُصِفَ لِي) بالبناء للمفعول؛ أي: في هذا المكان وَصَف الله تعالى وجود الخضر. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَذَهَبَ) موسى (يَلْتَمِسُ)؛ أي: يطلب الخضر في البحر على طريق الحوت؛ لأنه بقي طاقًا غير ملتئم، (فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ) "إذا" هنا فجائيّة؛ أي: ففاجأه وجود الخضر، وفي رواية سفيان:"حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجلٌ"، وزعم الداودي أن هذه الرواية وَهَمٌ، وأنهما إنما وجداه في جزيرة البحر، قال الحافظ: قلت: ولا مغايرة بين الروايتين، فإن المراد أنهما لمّا انتهيا إلى الصخرة تتبّعاه إلى أن وجداه في الجزيرة، وروى ابن أبي حاتم من طريق الربيع بن أنس قال:"انجاب الماء عن مسلك الحوت، فصار كُوّةً، فدخلها موسى على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر"، وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي، عن ابن عباس قال:"فرجع موسى حتى أتى الصخرة، فوجد الحوت، فجعل موسى يُقَدِّم عصاه، يفرج بها عنه الماء، ويتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر، إلا يبس، حتى يصير صخرة، فجعل موسى يعجب من ذلك، حتى انتهى إلى جزيرة في البحر، فلقي الخضر"، ولابن أبي حاتم من طريق السُّدّيّ قال:"بلغنا عن ابن عباس أن موسى دعا ربه، ومعه ماء في سقاء يصب منه في البحر، فيصير حجرًا، فيأخذ فيه حتى انتهى إلى صخر، فصعدها، وهو يتشوّف، هل يرى الرجل، ثم رآه".
فوجده حال كونه (مُسَجًّى)؛ أي: مغَطّى، (ثَوْبًا)؛ أي: بثوب، وفي رواية عبد بن حميد قال:"رأى موسى الخضرَ على طنفسة خضراء، على وجه الماء"، والطنفسة: فَرْش صغير، وهي بكسر الطاء والفاء، بينهما نون ساكنة، وبضم الطاء والفاء، وبكسر الطاء، وبفتح الفاء لغات
(1)
.
(1)
"الفتح" 10/ 328.
وحال كونه (مُسْتَلْقِيًا عَلَى الْقَفَا) قال الفيّوميّ رحمه الله: القَفَا مقصورًا: مؤخر العنق، يُذَكَّر، ويؤنث، وجَمْعه على التذكير أَقْفِيَةٌ، وعلى التأنيث أَقْفَاءٌ، مثل أرجاء، قاله ابن السرّاج، وقد يُجمَع على قُفّيٍّ، والأصل مثل فُلُوس، وعن الأصمعيّ أنه سمع ثلاثَ أَقْفٍ، قال الزجاج: التذكير أغلب، وقال ابن السِّكِّيت: القَفَا مذكَّر، وقد يؤنث، وألفه واو، ولهذا يثنّى قَفَوَيْنِ. انتهى
(1)
.
والمعنى: مباشرًا بظهره وقفاه الأرض، مستقبلًا بوجهه السماء؛ كالميت.
(أَوْ قَالَ)"أو" شكّ من الراوي؛ أي: أو قال: مستلقيًا (عَلَى حَلَاوَةِ الْقَفَا) هي: وسط القفا، ومعناه: لم يَمِل إلى أحد جانبيه، وهي بضم الحاء، وفَتْحها، وكَسْرها، أفصحها الضمّ، وممن حكى الكسر صاحب "نهاية الغريب"، ويقال أيضًا: حلاواء بفتح الحاء والمدّ في آخره، وحُلاوى بضم الحاء والقصر، وحكى أبو عبيد حَلْواء بالمدّ أيضًا
(2)
.
(قَالَ) موسى (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَكَشَفَ) الخضر (الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ)، وفي رواية للبخاريّ:"فوجدا خضرًا على طنفسة خضراء على كبد البحر، مسجّى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلّم عليه موسى، فكشف عن وجهه". (قَالَ) الخضر (وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ) موسى (أَنَا مُوسَى، قَالَ) الخضر (وَمَنْ مُوسَى؟) هذا دليل على أن الأنبياء لا يعلمون من الغيب إلا ما أعْلَمَهم الله عز وجل.
قال في "الفتح": وأما ما أخرجه عبد بن حميد من طريق الربيع بن أنس، في هذه القصّة:"فقال موسى: السلام عليك يا خضر، فقال: وعليك السلام يا موسى، قال: وما يدريك أني موسى؟ قال: أدراني بك الذي أدراك بي"، وهذا إن ثبت فهو من الحجج على أن الخضر نبيّ، لكن يُبعد ثبوته قوله في الرواية التي في "الصحيح":"من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: ومن موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل" الحديث. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 512.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 143، و"التكملة" 5/ 52.
(3)
"الفتح" 10/ 328.
(قَالَ) موسى: أنا (مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: مَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ؟) قال القاضي عياض: ضبطناه "مجيءُ" مرفوعًا غير منوّن عن بعضهم، وعن بعضهم منوَّنًا، قال: وهو أظهر؛ أي: أمر عظيم جاء بك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مجيء ما جاء بك" قيَّدها ابن ماهان بالهمز والتنوين، وعلى هذا تكون "ما" نكرة صفة لمجيء، وهي التي تكون للتفخيم والتعظيم؛ كقولهم: لأمرٍ ما يسوَّدُ من يسوَّدُ، ولأمرٍ ما تدرَّعت الدروع، فيكون معناه: مجيءٌ عظيمٌ، وأمرٌ مهمٌ حملك على أن تركت ما كنت عليه من أمر بني إسرائيل، واقتحمت الأسفار، وقطعتَ المفاوز والقفار، وقد زاد فيه بعض الرواة:"أن الخضر قال له: وعليك السلام، أنَّى بأرضنا يا نبي بني إسرائيل، أما كان لك فيهم شغل؟! قال: بلى ولكني أُمرت أن أصحبك، مستفيدًا منك"، فأجاب بجواب المتعلم المسترشد بين يدي العالم المرشد، ملازمًا للأدب والحرمة، ومعظِّمًا لمن شرَّفه الله بالعلم، وأعلى رَسْمَه، فقال:"جئتُك لتعلّمني مما عُلّمت رُشْدًا".
(قَالَ) موسى (جِئْتُ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) قرأ أبو عمرو بفتحتين، والباقون كلهم بضم أوله، وسكون ثانية، والجمهور على أنهما بمعنى؛ كالْبَخَلِ، والْبُخْل، وقيل: بفتحتين: الدِّين، وبضم، ثم سكون: صلاح النَّظَر، وهو منصوب على أنه مفعول ثان "لتعلمني"، وأبعد من قال: إنه لقوله: "عُلِّمت"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قرأه الجماعة بضم الراء، وسكون الشين، وقرأه يعقوب، وأبو عمرو بالفتح فيهما، وهما لغتان، ويقال: رَشَدَ: بالفتح يرشُد رُشدًا بالضم، ورَشِد بالكسر يَرشَد رَشدًا بالفتح، ومعنى الرشد: الاستقامة في الأمور، وإصابة وجه السّداد، والصواب فيها، وضده الغي، وهو منصوب على المصدر، ويكون في موضع الحال، ويصح أن يكون مفعولًا من أجله.
وفيه من أدب الفقه التذلل، والتواضع للعالم، وبين يديه، واستئذانه في
(1)
"الفتح" 10/ 328.
سؤاله، والمبالغة في احترامه وإعظامه، ومن لم يفعل هكذا فليس على سنة الأنبياء، ولا على هديهم، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من لم يُجِلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه"
(1)
.
(قَالَ) الخضر (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) كذا أطلق بالصيغة الدالة على استمرار النفي لِمَا أطلعه الله عليه من أن موسى لا يصبر على ترك الإنكار، إذا رأى ما يخالف الشرع؛ لأن ذلك شأن عصمته، ولذلك لم يسأله موسى عن شيء من أمور الديانة، بل مشى معه ليشاهد منه ما اطّلع به على منزلته في العلم الذي اختص به. (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا؟) استفهام عن سؤال، تقديره: لِمَ قلت إني لا أصبر، وأنا سأصبر، قال: كيف تصبر؟ قال الخضر (شَيْءٌ)؛ أي: هذا الذي أفعله مما تراه أنت مخالفًا للشرع شيء (أُمِرْتُ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: أمرني الله تعالى (أَنْ أَفْعَلَهُ)؛ أي: فِعْله، (إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ) لمخالفته ما عندك من الشرع. (قَالَ) موسى (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) قيل: استثنى في الصبر، فصبر، ولم يستثن في العصيان، فعصاه، قال الحافظ: وفيه نظرٌ، وكأن المراد بالصبر أنه صبر على اتّباعه، والمشي معه، وغير ذلك، لا الإنكار عليه فيما يخالف ظاهر الشرع. (قَالَ) الخضر (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)، وفي رواية:"حتّى أبيّن لك شأنه".
(فَانْطَلَقَا)؛ أي: ذهبا على ساحل البحر، وفي رواية:"فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليست لهما سفينة، فمرّت بهما سفينة، فكلّموهم أن يحملوهما، فعُرف الخضر، فحملوهما بغير نَوْل"، وفي رواية ابن أبي حاتم قال:"فناداهم خضر، وبيّن لهم أن يعطي عن كل واحد ضُعف ما حَمَلوا به غيرهم، فقالوا لصاحبهم: إنا نرى رجالًا في مكان مخوف، نخشى أن يكونوا لصوصًا، فقال: لأحملنّهم، فإني أرى على وجوههم النور، فحملهم بغير أجرة"، وذكر النقاش في "تفسيره":"أن أصحاب السفينة كانوا سبعةً، بكل واحد زمانة، ليست في الآخر".
(1)
رواه أحمد بإسناد حسن، والطبرانيّ، والحاكم.
(حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)، وفي رواية:"فخرَقها، ووَتَّد فيها" بفتح الواو، وتشديد المثناة؛ أي: جعل فيها وَتَدًا، وفي رواية:"فلما ركبوا في السفينة، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم"، ويُجمع بين الروايتين أنه قلع اللوح وجعل مكانه وتدًا، وفي رواية:"فخرق السفينة، فلم يره أحد إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين ذلك".
(قَالَ: انْتَحَى عَلَيْهَا)؛ أي: اعتمد على السفينة، وقصد خرقها، واستَدَلّ به العلماء على النظر في المصالح عند تعارض الأمور، وأنه إذا تعارضت مفسدتان، دُفع أعظمهما بارتكاب أخفّهما، كما خَرَق السفينة لِدَفْع غَصْبها، وذهاب جملتها
(1)
.
(قَالَ لَهُ)؛ أي: للخضر، (مُوسَى عليه السلام: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)؛ أي: منكرًا، أو عَجَبًا، أو عظيمًا، وفي رواية عند ابن أبي حاتم:"أن موسى لما رأى ذلك امتلأ غضبًا، وشدّ ثيابه، وقال: أردت إهلاكهم، ستعلم أنك أول هالك، فقال له يوشع: ألا تذكر العهد؟ فأقبل عليه الخضر، فقال: ألم أقل لك؟ فأدرك موسى الحلم، فقال: لا تؤاخذني، وأن الخضر لمّا خلصوا قال لصاحب السفينة: إنما أردت الخير، فحمدوا رأيه، وأصلحها الله على يده".
[تنبيه]: قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم قيل: "حتى إذا ركبا في السفينة خرقها" بغير فاء، و"حتى إذا لقيا غلامًا فقتله" بالفاء؟.
قلت: جعل "خرقها" جزاء الشرط، وجعل "قتله" من جملة الشرط معطوفًا عليه، والجزاءُ:"قال: أقتلت".
فإن قلت: لِمَ خُولف بينهما؟.
قلت: لأن الخرق لم يتعقّب الركوب، وقد تعقّب القتل لقاء الغلام. انتهى
(2)
.
(قَالَ) الخضر (أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ) موسى (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) زاد في رواية: "كانت الأُولى: نسيانًا، والوسطى: شرطًا،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 143 - 144.
(2)
"الدرّ المصون" 7/ 529.
والثالثة: عمدًا"، وروى ابن مردويه من طريق عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا: "قال: الأُولى: نسيان، والثانية: عُذْر، والثالثة: فراقٌ"، وعند ابن أبي حاتم: "قال الخضر لموسى: إن عجلت عليّ في ثلاث، فذلك حين أفارقك"، وروى الفراء عن أُبيّ بن كعب قال: "لم ينس موسى، ولكنه من معاريض الكلام"، وإسناده ضعيف، والأول هو المعتمَد، ولو كان هذا ثابتًا لاعتذر موسى عن الثانية، وعن الثالثة بنحو ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا، فَانْطَلَقَا، حَتَّى إِذَا لَقِيَا غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ، قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَى أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرَّأْيِ) بالهمز، وتَرْكه، فمَن هَمَزه معناه: أول الرأي، وابتداؤه؛ أي: انطَلَق إليه، مسارعًا إلى قتله، من غير فكر، ومن لم يهمز فمعناه: ظهر له رأي في قَتْله، من البدء، وهو ظهور رأي لم يكن، قال القاضي عياض: ويُمدّ البدء، ويُقْصر
(2)
. (فَقَتَلَهُ)، وفي رواية:"فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا"، في رواية:"غلامًا وَضِيء الوجهِ، فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين"، وفي رواية:"فأخذ الخضر برأسه، فاقتلعه بيده، فقتله"، ويُجمع بينهما بأنه ذبحه، ثم اقتلع رأسه، وفي رواية أخرى عند الطبريّ:"فأخذ صخرة، فثلغ رأسه"، وهي بمثلثة، ثم معجمة، والأول أصحّ، ويمكن أن يكون ضَرَب رأسه بالصخرة، ثم ذبحه، وقَطَع رأسه، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فَذُعِرَ) بضمّ الذال، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أصابه الفزع، يقال: ذَعَرته ذَعْرًا، من باب نفع: أفزعته، والذُّعْر بالضمّ اسم منه
(4)
. (عِنْدَهَا)؛ أي: عند هذه الفعلة التي هي قَتْله الغلام. (مُوسَى عليه السلام ذَعْرَةً) بفتح الذال المرة من الذعر، (مُنْكَرَةً) صفة لـ "ذَعْرة"؛ أي: شديدةً، وعند ذلك لم يتمالك موسى أن بادر بالإنكار تاركًا للاعتذار، فقال:{أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74].
(قَالَ) موسى (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَاكِيَةً) قال السمين رحمه الله: قرأ "زاكية" بألف، وتخفيف الياء: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وبدون الألف، وتشديد الياء
(1)
"الفتح" 10/ 332.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 144.
(3)
"الفتح" 10/ 332.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 208.
الباقون، فمن قرأ "زاكية" فهو اسم فاعل على أصله، ومن قرأ "زكيّةً" فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة. انتهى
(1)
.
(بِغَيْرِ نَفْسٍ)؛ أي: بلا قتل نفس معصومة؛ يعني: أنك قتلته ظلمًا، وليس قصاصًا لقتله نفسًا معصومةً. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا") قرأ نافع وأبو بكر، وابن ذكوان بضمّتين، والباقون بضمّة، فسكون، وهما لغتان، أو أحدهم أصل، و"شيئًا" يجوز أن يراد به المصدر؛ أي: مجيئًا نُكرًا، وأن يراد به المفعول به؛ أي: جئت أمرًا منكرًا، وهل النُّكر أبلغ من الإمر، أو بالعكس؟ فقيل: الإمر أبلغ؛ لأن قَتْل أنفس بسبب الخرق أعظم من قَتْل نفس واحدة، وقيل: بل النكر أبلغ -وهذا هو الصحيح-؛ لأن معه القتل الحتم، بخلاف خرق السفينة، فإنه يمكن تداركه، ولذلك قال:"ألم أقل لك"، ولم يأت بـ "لك" مع "إمرًا"
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هَذَا الْمَكَانِ: "رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا، وَعَلَى مُوسَى) قال النوويّ رحمه الله: قال أصحابنا: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء، وشِبْهه من أمور الآخرة، وأما حظوظ الدنيا فالأدب فيها الإيثار، وتقديم غيره على نفسه، واختَلَف العلماء في الابتداء في عنوان الكتاب، فالصحيح الذي قاله كثيرون من السلف، وجاء به الصحيح أنه يبدأ بنفسه، فيقدِّمها على المكتوب إليه، فيقال: من فلان إلى فلان، ومنه حديث كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم"، وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوب إليه، فيقول: إلى فلان من فلان، قالوا: إلا أن يكتب الأمير إلى من دونه، أو السيد إلى عبده، أو الوالد إلى ولده، ونحو هذا. انتهى
(3)
.
(لَوْلَا أَنَّهُ عَجَّلَ) يَحْتمل أن يكون بفتح العين، وكسر الجيم مخفّفةً، أو بتشديدها مفتوحة، يقال: عَجِل، كفَرِحَ، وعجّل تعجيلًا بالتشديد، وتعجّل: إذا أسرع. (لَرَأَى الْعَجَبَ)؛ أي: ما يُتعجّب منه، (وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ) بفتح الذال المعجمة؛ أي: استحياء؛ لتكرار مخالفته، وقيل: ملامة، والأول هو المشهور.
(1)
"الدرّ المصون" 7/ 528.
(2)
"الدرّ المصون" 7/ 530.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 144.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو بالذال المعجمة المفتوحة، وهي بمعنى: المذمَّة -بفتح الذال، وكسرها- وهي: الرقة، والعار مِن تَرْك الحرمة، يُقال: أخذتني منه مذمّةٌ ومذِمَّة، وذمامة، بمعناه، وكأنه استحيا من تكرار مخالفته، ومما صدر عنه من تغليظ الإنكار
(1)
.
(قَالَ) موسى (إِنْ سَأَلْتُكَ) هذه مشارطة، والمسلمون عند شرطهم، (عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا)؛ أي: بعد هذه المرّة، (فَلَا تُصَاحِبْني)؛ أي: لا تتركني أصحبك، وقوله:(قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) تعليل لعدم مصاحبته، ومعناه: بلغت مبلغًا تُعذر به في ترك مصاحبتي، قال صلى الله عليه وسلم:(وَلَوْ صَبَرَ) موسى (لَرَأَى الْعَجَبَ)؛ أي: شيئًا كثيرًا مما يفعله الخضر من الغرائب. (قَالَ) أُبيّ بن كعب (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ) صلى الله عليه وسلم، فيقول:("رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَخِي كَذَا) كناية عن اسم الشخص الذي يذكره في الدعاء، وقوله:(رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْنَا) تأكيد للأول، ورواه أبو داود بلفظ:"وكان إذا دعا بدأ بنفسه، وقال: رحمة الله علينا، وعلى موسى"، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رحمة الله علينا، وعلى موسى" قال الراوي: وكان إذا ذَكَر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه، هذا إنما كان يفعله النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأدعية، وأشباهها، مما يعود عليه بالثواب والأجر الأخرويّ، حرصًا على تحصيل المنازل الرفيعة عند الله تعالى، كما قال في الوسيلة:"إنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو"، رواه مسلم.
وحاصله: أن القرب من الله تعالى، وثوابه ليس مما يُؤثَر الغير به، بل تنبغي المنافسة فيه، والمسابقة إليه، بخلاف أمور الدنيا، وحظوظها؛ فإنَّ الفضل في تَرْكها، وإيثار الغير بما يحوز منها. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وقد ترجم البخاريّ في "الدعوات": "من خَصَّ أخاه بالدعاء دون نفسه"، وذكر فيه عدة أحاديث، وكأنه أشار إلى أن هذه الزيادة، وهي:"كان إذا ذكر أحدًا من الأنبياء بدأ بنفسه"، لم تثبت عنده، وقد سئل أبو حاتم الرازي عن زيادة، وقعت في قصّة موسى والخضر من رواية أبي إسحاق
(1)
"المفهم" 6/ 206.
(2)
"المفهم" 6/ 206.
هذه عن سعيد بن جبير، وهي قوله في صفة أهل القرية:"أتيا أهل القرية لئامًا، فطافا في المجالس"، فأنكرها، وقال: هي مُدرَجة في الخبر، فقد يقال: وهذه الزيادة مدرجة فيه أيضًا، والمحفوظ رواية ابن عيينة المذكورة
(1)
، والله أعلم.
(فَانْطَلَقَا)؛ أي: موسى والخضر، (حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي: أنطاكية، وقيل غيرها، والأول أصحّ، وقال في "الفتح": قيل: هي الأُبُلّة، وقيل: أنطاكية، وقيل: أذربيجان، وقيل: بَرْقة، وقيل: ناصرة، وقيل: جزيرة الأندلس، قال الحافظ: وهذا الاختلاف قريب من الاختلاف في المراد بمجمع البحرين، وشدة المباينة في ذلك تقتضي أن لا يوثق بشيء من ذلك. انتهى
(2)
.
(لِئَامًا)، وفي نسخة:"لئامٍ" بالجرّ صفة لقرية، و"اللئام": جمع لئيم، وهو: الشحيح، يقال: لؤُم بضمّ الهمزة؛ ككرُم لُؤْمًا، فهو لئيم، يقال ذلك للشحيح، والدَّنِيء النفس، والمَهين، ونحوهم؛ لأن اللؤم: ضدّ الكرم
(3)
. (فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ)؛ أي: مجالس أهل تلك القرية، (فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)؛ أي: طلبا منهم أن يأتوهم بالطعام.
فقوله: "استطعما أهلها" جواب "إذا"، وفي تكرير "أهلها" وجهان:
أحدهما: أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المُضمَر، والحكمة في ذلك أنه لو قال: استطعماها لم يصحّ؛ لأنهما لم يستطعما القرية، أو استطعماهم فكذلك؛ لأن جملة "استطعما أهلها" صفة لقرية.
والثاني: أنه للتأسيس، وذلك أن الأهل المأتيين ليسوا جميع الأهل، وإنما هم البعض؛ إذ لا يمكن أن يأتيا جميع الأهل في العادة في وقت واحد، فلما ذَكَر الاستطعام ذَكَره بالنسبة إلى جميع الأهل، كأنهما تتبّعا الأهل واحدًا واحدًا، فلو قيل: استطعماهم لاحتمل أن يعود الضمير على ذلك البعض المأتيّ دون غيره، فكُرّر الأهل لذلك
(4)
.
(فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)؛ أي: امتنعوا عن ضيافتهما، (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا)
(1)
يعني قوله: "يرحم الله موسى لوددنا لو صبر".
(2)
"الفتح" 10/ 333.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 561.
(4)
"حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 38.
يقال: ارتفاعه مائة ذراع، وعرضه خمسون ذراعًا، وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع، (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ)؛ أي: يقرب أن يسقط لِمَيَلانه، (فَأَقَامَهُ) الخضر بيده، وفي رواية:"مسحه بيده"، وفي رواية:"أشار إليه بيده، فاستقام". (قَالَ) موسى (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ)، وفي نسخة:"لَتَخِذْتَ"، وتقدّم أنهما قراءتان سبعيّتان. (عَلَيْهِ أَجْرًا)، وفي رواية:"فقال موسى: قوم أتيناهم، فلم يطعمونا، ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرًا". (قَالَ) الخضر (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، وَأَخَذَ بِثَوْبِهِ)، وفي رواية:"قال: هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدّثني"، وذكر الثعلبيّ:"أن الخضر قال لموسى: أتلومني على خرق السفينة، وقَتْل الغلام، وإقامة الجدار، ونسيت نفسك حين أُلقيت في البحر، وحين قتلت القبطيّ، وحين سَقيت أغنام ابنتَي شعيب احتسابًا". (قَالَ) الخضر ({سَأُنَبِّئُكَ}) قبل فراقي لك ({بِتَأْوِيلِ})؛ أي: تفسير ({مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ}) قيل: كانوا عشرة، خمسة زَمْنى، وخمسة أصحّاء، وهم الذين يعملون في البحر، وقيل فيهم غير ذلك. ({يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ}) وقوله (إِلَى آخِرِ الآيَةِ) متعلّق بمقدّر؛ أي: اقرأ إلى آخرها، (فَإِذَا جَاءَ) الملِك (الَّذِي يُسَخِّرُهَا) من التسخير؛ أي: يستعملها غاصبًا من أهلها، (وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً) بسبب خَرْق الخضر لها، (فَتَجَاوَزَهَا، فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ)؛ أي: جعلوا مكان الخرق خشبة تمنع دخول الماء إليها. (وَأمَّا الْغُلَامُ) المقتول (فَطُبعَ يَوْمَ طُبعَ كَافِرًا)؛ أي: ختم الله عليه بأنه كافر لا يؤمن أبدًا.
قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا حجة بيّنة لأهل السُّنَّة لصحة أصل مذهبهم في الطبع، والرَّيْن، والأكنّة، والأغشية، والحجب، والسّدّ، وأشباه هذه الألفاظ الواردة في الشرع في أفعال الله تعالى بقلوب أهل الكفر والضلال، ومعنى ذلك عندهم: خلق الله تعالى فيها ضد الإيمان، وضد الهدى، وهذا على أصل أهل السُّنَّة أن العبد لا قدرة له إلا ما أراده الله تعالى، ويسّره له، وخلقه له؛ خلافًا للمعتزلة، والقدرية القائلين بأن للعبد فعلًا من قِبَل نفسه، وقدرةً على الهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والكفر، وأن معنى هذه الألفاظ نسبة الله تعالى لأصحابها، وحُكْمه عليهم بذلك.
وقالت طائفة منهم: معناها: خَلَقه علامة لذلك في قلوبهم، والحقّ الذي
لا شكّ فيه أن الله تعالى يفعل ما يشاء، من الخير والشر، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، وكما قال تعالى في الذرّ:"هؤلاء للجنة، ولا أبالي، وهؤلاء للنار، ولا أبالي"، فالذين قضى لهم بالنار طَبع على قلوبهم، وخَتم عليها، وغَشّاها، وأكنّها، وجعل من بين أيديها سَدًّا، ومن خلفها سَدًّا، وحجابًا مستورًا، وجعل في آذانهم وقرًا، وفي قلوبهم مرضًا؛ لتتمّ سابقته فيهم، وتمضي كلمته، لا رادّ لحكمه، ولا معقّب لِأَمْره وقضائه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد يَحتجّ بهذا الحديث من يقول: أطفال الكفار في النار، وقد سبق بيان هذه المسألة، وأن فيهم ثلاثةَ مذاهب: الصحيح أنهم في الجنة، والثاني: في النار، والثالث: يُتوقف عن الكلام فيهم، فلا يُحكم لهم بشيء، وتقدّمت دلائل الجميع، وللقائلين بالجنة أن يقولوا في جواب هذا الحديث: معناه: عَلِم الله لو بلغ لكان كافرًا. انتهى
(1)
.
(وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ)؛ أي: أحبّاه حبًّا شديدًا، (فَلَوْ أَنَّهُ أَدْرَكَ)؛ أي: بلغ مبلغ الرجال، وفيه أنه كان غير بالغ. (أَرْهَقَهُمَا)؛ أي: كلّفهما (طُغْيَانًا)؛ أي: مجاوزة للحدّ، فقوله:(وَكُفْرًا) بيان للطغيان.
وقال في "الفتح": قوله: "فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرًا": أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أرهقهما طغيانًا وكفرًا"؛ أي: حَمَلهما عليهما، وألحقهما بهما، والمراد بالطغيان هنا: الزيادة في الضلال، وهذا الحديث من دلائل مذهب أهل الحق في أن الله تعالى أعلمُ بما كان وبما يكون، وبما لا يكون لو كان كيف كان يكون، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقوله تعالى:{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} [الأنعام: 7]، وقوله تعالى:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)} [الأنعام: 9]، وغير ذلك من الآيات
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 145.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 145 - 146.
({فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا}) قال السمين رحمه الله: قرأ أبو عمرو، ونافع بفتح الباء، وتشديد الدال من بدّل هنا، وفي "التحريم":"أنْ يُبْدِلَه"، وفي "القلم":"أنْ يُبْدِلَنا"، والباقون بسكون الباء، وتخفيف الدال من أبدل في المواضع الثلاثة، فقيل: هما بمعنى واحد. انتهى
(1)
.
({رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً})؛ أي: صلاحًا وتُقًى، ({وَأَقْرَبَ رُحْمًا}) بضمّ الراء، وسكون الحاء المهملة، وضمّها؛ أي: رُحْمة، وهي البرّ بوالديه.
وقال النوويّ: قيل: المراد بالزكاة الإسلام، وقيل: الصلاح، وأما الرُّحم، فقيل: معناه الرحمة لوالديه، وبِرّهما، وقيل: المراد: يرحمانه، قيل: أبدلهما الله بنتًا صالحة، وقيل: ابنًا، حكاه القاضي. انتهى
(2)
.
وقال السمين الحلبيّ رحمه الله: قرأ ابن عامر: (رُحْمًا) بضمّتين، والباقون بضمّة، وسكون، وهما بمعنى الرحمة، قال رؤبة [من الرجز]:
يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ عَلَى إِدْرِيسَا
…
وَمُنْزِلَ اللَّعْنِ عَلَى إِبْلِيسَا
وقيل: الرُّحْمُ بمعنى الرحيم، وهو لائق هنا من أجل القرابة بالولادة، ويؤيّده قراءة ابن عبّاس:"رَحِمًا" بفتح الراء، وكسر الحاء، و"زكاة"، و"رُحمًا" منصوبان على التمييز. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وأقرب رحمًا" هما به أرحم منهما بالأول الذي قَتَل خَضِر.
وأخرج النسائيّ عن ابن عباس: "فأبدلهما ربهما خيرًا منه زكاةً، قال: أبدلهما جاريةً، فولدت نبيًّا من الأنبياء"، وللطبريّ نحوه، ولابن المنذر: قال: "أبدلهما مكان الغلام جارية ولدت نبيَّين"، ولابن أبي حاتم: قال: "ولدت جاريةً، فولدت نبيًّا، وهو الذي كان بعد موسى، فقالوا له: ابعث لنا ملِكًا نقاتل في سبيل الله"، واسم هذا النبي شمعون، واسم أمه حنة، وعند ابن مردويه من حديث أُبيّ بن كعب: أنها ولدت غلامًا لكن إسناده ضعيف، وأخرجه ابن المنذر بإسناد حسن، عن عكرمة، عن ابن عباس نحوه، وفي
(1)
"الدرّ المصون" 7/ 538.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 145 - 146.
(3)
"الدرّ المصون" 7/ 539.
تفسير ابن الكلبيّ: "ولدت جارية، ولدت عدة أنبياء، فهدى الله بهم أممًا"، وقيل: عدة من جاء مِنْ وَلَدها من الأنبياء سبعون نبيًّا، ذكره في "الفتح"
(1)
.
({وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ}) قال القرطبيّ المفسّر: هذان الغلامان صغيران، بقرينة وَصْفهما باليُتم، واسمهما أصرم، وصريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يتم بعد البلوغ" هذا هو الظاهر، وقد يَحْتَمِل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ، إن كانا يتيمين، على معنى الشفقة عليهما. واليتم في الناس من قِبَل فَقْد الأب، وفي غيرهم من الحيوان من قِبَل فَقْد الأم. انتهى
(2)
.
وقوله: ({فِي الْمَدِينَةِ}) يدلّ على أن القرية تسمى مدينةً، ومنه الحديث:"أُمرت بقرية تأكل القرى"، وفي حديث الهجرة:"لمن أنت؟ فقال: لرجل من أهل المدينة؛ يعني: مكة"
(3)
.
({وَكَانَ تَحْتَهُ}) وقوله: (إِلَى آخِرِ الآيَةِ)؛ أي: اقرأ الآية إلى آخرها.
قال القرطبيّ: اختَلَف الناس في الكنز، فقال عكرمة وقتادة: كان مالًا جسيمًا، وهو الظاهر من اسم الكنز؛ إذ هو في اللغة: المال المجموع، وعن ابن عباس: كان عِلْمًا في صحف مدفونة، وعنه قال: كان لوحًا من ذهب مكتوبًا فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عجبتُ لمن يؤمن بالقدر كيف يَحْزَن، عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يَتْعَب، عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يَفْرَح، عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفُل، عجبت لمن يؤمن بالدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ لها، لا إله إلا الله محمد رسول الله"
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعدُ ما نُقل عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، بل الصواب أنه كنز من المال المدفون، كما هو ظاهر النصّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، ومسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وفي هذه القصّة أنواع من القواعد،
(1)
"الفتح" 10/ 336.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 38.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 38.
(4)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 38.
والأصول، والفروع، والآداب، والنفائس المهمة، سبق التنبيه على معظمها، سوى ما هو ظاهر منها، ومما لم يسبق أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدُمه المفضول، ويقضي له حاجة، ولا يكون هذا من أخْذ العِوَض على تعليم العلم والآداب، بل من مروءات الأصحاب، وحسن العشرة، ودليله من هذه القصة حَمْل فتاه غداءهما، وحَمْل أصحاب السفينة موسى والخضر بغير أجرة؛ لمعرفتهم الخضر بالصلاح، والله أعلم.
ومنها: الحثّ على التواضع في عِلمه وغيره، وأنه لا يدّعِي أنه أَعْلمُ الناس، وأنه إذا سئل عن أعلم الناس يقول: الله أعلم، ومنها بيان أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو: وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول، ولا يفهمه أكثر الناس، وقد لا يفهمونه كلهم؛ كالقَدَر، وموضع الدلالة: قتل الغلام، وخرق السفينة، فإن صورتهما صورة المنكَر، وكان صحيحًا في نفس الأمر، له حِكَمٌ بينةٌ، لكنها لا تظهر للخلق، فإذا أعلمهم الله تعالى بها عَلِموها، ولهذا قال:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ؛ يعني: بل بأمر الله تعالى. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": في الحديث من الفوائد غير ما تقدّم: استحباب الحرص على الازدياد من العلم، والرحلة فيه، ولقاء المشايخ، وتجشم المشاقّ في ذلك، والاستعانة في ذلك بالأتباع، وإطلاق الفتى على التابع، واستخدام الحرّ، وطواعية الخادم لمخدومه، وعذر الناسي، وقبول الهبة من غير المسلم، واستُدِلّ به على أن الخضر نبيّ؛ لعدة معانٍ، قد تقدّم التنبيه عليها؛ كقوله:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} ، وكاتّباع موسى رسول الله له؛ ليتعلّم منه، وكإطلاق أنه أعلم منه، وكإقدامه على قتل النفس لِمَا شَرَحه بعدُ، وغير ذلك، وأما من استَدَلّ به على جواز دَفْع أغلظ الضررين بأخفّهما، والإغضاء على بعض المنكَرات؛ مخافة أن يتولد منه ما هو أشدّ، وإفساد بعض المال لإصلاح معظمه، كخصاء البهيمة للسِّمَن، وقَطْع أُذُنها؛ لتتميَّز، ومن هذا مصالحة ولي اليتيم السلطان على بعض مال اليتيم؛ خشيةَ ذهابه بجميعه، فصحيح، لكن فيما
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 146 - 147.
لا يعارض منصوص الشرع، فلا يَسُوغ الإقدام على قتل النفس، ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسًا كثيرة قبل أن يتعاطى شيئًا من ذلك، وإنما فَعَل الخضر ذلك؛ لإطلاع الله تعالى عليه.
وقال ابن بطال: قول الخضر: "وأما الغلام فكان كافرًا" هو باعتبار ما يئول إليه أمره أن لو عاش حتى يَبْلُغ، واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله، ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون جواز تكليف المميَّز قبل أن يبلغ كان في تلك الشريعة، فيرتفع الإشكال.
وفيه: جواز الإخبار بالتعب، ويُلحَق به الألم، من مرض، ونحوه، ومحل ذلك إذا كان على غير سَخَط من المقدور.
وفيه: أن المتوجه إلى ربه يُعان، فلا يُسرع إليه النَّصَب والجوع، بخلاف المتوجه إلى غيره، كما في قصة موسى عليه السلام في توجهه إلى ميقات ربه، وذلك في طاعة ربه، فلم يُنقل عنه أنه تَعِبَ، ولا طلب غداء، ولا رافق أحدًا، وأما في توجهه إلى مَدْين، فكان في حاجة نفسه، فأصابه الجوع، وفي توجهه إلى الخضر لحاجة نفسه أيضًا، فتعب، وجاع.
وفيه: جواز طلب القوت، وطلب الضيافة.
وفيه: قيام العذر بالمرّة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية، قال ابن عطية: يُشبه أن يكون هذا أصل مالك في ضرب الآجال في الأحكام إلى ثلاثة أيام، وفي التلوّم ونحو ذلك.
وفيه: حسن الأدب مع الله تعالى، وأن لا يضاف إليه ما يُستهجن لفظه، وإن كان الكل بتقديره وخَلْقه؛ لقول الخضر عن السفينة:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ؛ وعن الجدار: {فَأَرَادَ رَبُّكَ} ، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم:"والخير بيديك، والشرّ ليس إليك". انتهى، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6146]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى، كِلَاهُمَا
عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِإِسْنَادِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضبيّ مولاهم الْفِرْيابيّ، نزيل قَيْسارية، من ساحل الشام، ثقةٌ فاضلٌ يقال: أخطأ في شيء من حديث سفيان، وهو مقدَّم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق [9](212)(ع) تقدم في "القسامة" 2/ 4349.
3 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُوسَى) بن باذام الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ، كان يتشيع، قال أبو حاتم: كان أثبت في إسرائيل من أبي نعيم، واستُصغِر في سفيان الثوريّ [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
5 -
(إِسرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ، تُكُلِّم فيه بلا حجة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
و"أبو إسحاق" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ) الضمير لمحمد بن يوسف، وعبيد الله بن موسى. [تنبيه]: رواية محمد بن يوسف، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، مختصرةً، فقال:
(4706)
- حدّثنا محمود بن خالد، ثنا الفريابيّ، عن إسرائيل، ثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ثنا أُبَيّ بن كعب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} [الكهف: 80]: "وكان طُبع يوم طبع كافرًا". انتهى
(1)
.
وساقها أيضًا النسائيّ في "الكبرى" مختصرةً، فقال:
(11310)
- أنا محمد بن عليّ بن ميمون، نا الفريابيّ، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبَيّ بن كعب، قال:
(1)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 391.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذَكَر أحدًا، فدعا له بدأ بنفسه، فقال ذات يوم:"رحمة الله علينا، وعلى موسى، لو لَبِث مع صاحبه لأبصر العجب العاجب، ولكنه قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76] ". انتهى
(1)
.
وأما رواية عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" مطوّلةً، فقال:
(5844)
- أنبأ أحمد بن سليمان، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أنبأ إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: حدّثني أُبَيّ بن كعب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"رحمة الله علينا وعلى موسى، لولا أنه عجل، واستحيا، وأخذته ذَمَامةٌ من صاحبه، فقال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} لرأى من صاحبه عجبًا"، قال: وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا ذكر نبيًّا من الأنبياء بدأ بنفسه، فقال: "رحمة الله علينا وعلى أخي صالح، رحمة الله علينا وعلى أخي عاد
(2)
-ثم قال- إن موسى صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب قومه ذات يوم؛ إذ قال لهم: ما في الأرض أعلم مني، فأوحى الله إليه أن في الأرض من هو أعلم منك، وآية ذلك أن تزوّد حوتًا مالِحًا، فإذا فقدته فهو حيث فقدته، فانطلق هو وفتاه، حتى بلغ المكان الذي أُمروا به، فلما انتهوا إلى الصخرة انطلق موسى صلى الله عليه وسلم يطلب، ووضع فتاه الحوت على الصخرة، فاضطرب، فاتخذ سبيله في البحر سربًا، فقال فتاه: إذا جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدثته، فأنساه الشيطان، فانطلقا، فأصابهما ما يصيب المسافر من النَّصَب والكَلال، ولم يكن يصيبه ما يصيب المسافر من النصب والكَلال، حتى جاز ما أمر به، قال موسى لفتاه:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]، فقال له فتاه: يا نبيّ الله أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت
(1)
"سُنن أبي داود" 4/ 227.
(2)
المراد بأخي عاد هو: هود عليه السلام؛ أي: صاحب عاد، كما قال الله عز وجل:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} الآية، وأما قوله:"أخي صالح" فأخي مضاف إلى ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصالح بدل منه، فليُتنبّه.
أن أحدثك، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبًا، قال: ذلك ما كنا نبغي، فرجعا على آثارهما قصصًا، يقصان الأثر حتى انتهيا إلى الصخرة، فأطاف بها موسى، فإذا هو مُتَسَجٍّ ثوبًا، فسلّم، فرفع رأسه، فقال: من أنت؟ فقال: موسى، قال: من موسى؟ قال: موسى بني إسرائيل، قال: فما لك؟ قال: أُخبرت أن عندك علمًا، فأردت أن أصحبك، قال: إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال: ستجدني إن شاء الله صابرًا، ولا أعصي لك أمرًا، قال: كيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا؟ قال: قد أُمرت أن أفعله، ستجدني إن شاء الله صابرًا، قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا، فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة، فخرج من كان فيها، وتخلّف ليخرقها، فقال له موسى: أتخرقها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا أمرًا، قال: ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال: لا تؤاخذني بما نسيت، ولا ترهقني من أمري عسرًا، فانطلقا حتى إذا أتوا على غلمان يلعبون على ساحل البحر، فيهم غلام ليس في الغلمان أحسن منه، ولا أنظف منه، فقتله، فنفر موسى صلى الله عليه وسلم عند ذلك، وقال: قتلت نفسًا زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئًا نكرًا، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرًا، قال: فأخذته ذمامة من صاحبه، واستحيا، وقال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرًا، فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية لئام، وقد أصاب موسى جهد، فلم يضيفوهما، فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقض، فأقامه، فقال له موسى مما نزل به من الجهد: لو شئت لاتخذت عليه أجرًا، قال: هذا فراق بيني وبينك، فأخذ موسى بطرف ثوبه، فقال: حدّثني، فقال: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبًا، فإذا مَرَّ عليها فرآها منخرقة تركها، ورقعها أهلها بقطعة خشبة، فانتفعوا بها، وأما الغلام، فإنه كان طُبع يوم طبع كافرًا، وكان قد أُلقي عليه محبة من أبويه، ولو عصياه شيئًا لأرهقهما طغيانًا وكفرًا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاةً، وأقرب رحمًا، فوقع أبوه على أمه، فولدت خيرًا منه زكاة وأقرب رُحمًا، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالِحًا، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما، رحمة من ربك، وما فعلته
عن أمري، ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرًا". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6147]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْب، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: {لَتَّخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا في الباب، و"عمرو" هو: ابن دينار.
وقوله: (قَرَأَ: {لَتَّخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا})؛ أي: بفتح التاء، وكسر الخاء مِنْ أَخَذ ثلاثيًّا، وتقدّم أنها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، والباقون قرءوا:(لَاتَّخَذْتَ) بهمزة الوصل، وتشديد التاء، وفتح الخاء، من الاتخاذ خماسيًّا.
والحديث بهذا اللفظ المختصر من أفراد المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6148]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى عليه السلام، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ، فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ، فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: يَا أَبَا الطُّفَيْلِ، هَلُمَّ إِلَيْنَا، فَإِنِّي قَدْ تَمَاريتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ، فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ فَقَالَ أُبَيٌّ
(2)
: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى، بَلْ عَبْدُنَا الْخَضِرُ، قَالَ: فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى
(1)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 3/ 427 - 429.
(2)
وفي نسخة: "فقال: إنّي سمعت".
لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً، وَقِيلَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ
(1)
الْحُوتَ فَارْجِعْ، فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَسَارَ مُوسَى مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسِيرَ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ:{آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 62]، فَقَالَ فَتَى مُوسَى حِينَ سَأَلَهُ الْغَدَاءَ:{أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64]، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ"، إِلَّا أَنَّ يُونُسَ قَالَ: فَكَانَ يَتَّبعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ [3](ت 94)، وقيل: سنة ثمان، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّهُ)؛ أي: عبد الله بن عبّاس، (تَمَارَى)؛ أي: تجادل، من المماراة: وهي المجادلة والتنازع. (هُوَ) أتى بضمير الفصل؛ لأنه لا يُعطف على الضمير المرفوع المتّصل إلا إذا أُكّد بالمنفصل، كما في
(1)
وفي نسخة: "إذا فقدت".
قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، قال ابن مالك في "خلاصته":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُنْفَصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
(وَالْحُرُّ) بضمّ أوله، وتشديد الراء، (ابْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنِ الْفَزَارِيُّ) قال في "الإصابة": الْحُرّ بن قيس بن حِصْن بن حُذيفة بن بَدْر الفزَاريّ، ابن أخي عيينة بن حصن، ذكره ابن السكن في "الصحابة"، ورَوَى ابن شاهين من طريق ابن أبي ذئب، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن حاطب، عن أبي وجزة السلميّ، قال: لمّا قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أتاه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلًا، فيهم خارجة بن حصن، والحارث بن قيس ابن أخي عيينة بن حِصْن، وهو أصغرهم، فذكر الحديث، وروى البخاريّ من طريق الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال:"قَدِم عُيينة بن حِصن، فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين بعثهم عمر. . ." الحديث، وروى الشيخان بهذا الإسناد قالا:"تمارى ابن عباس والحرّ بن قيس في صاحب موسى، فمرّ بهما أُبَيّ بن كعب. . ."، فذكر الحديث، وقال مالك في "العتبية":"قَدِمَ عيينة بن حصن المدينة، فنزل على ابن أخ له أعمى، فبات يصلي، فلما أصبح غدا إلى المسجد، فقال: ما رأيت قومًا أوجه لِمَا وجّهوهم له من قريش، كان ابن أخي عندي أربعين سنةً، لا يطيعني". انتهى
(1)
.
[تنبيه]: "الْفَزَاريّ" -بفتح الفاء، والزاي-: نسبة إلى فَزَارة بن ذُبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي: قبيلة كبيرة من قيس عيلان، قاله في "اللباب"
(2)
.
(فِي صَاحِبِ مُوسَى عليه السلام) يتعلّق بـ "تمارى"، (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (هُوَ)؛
أي: صاحب موسى، (الْخَضِرُ) بفتح الخاء، وكسر الضاد المعجمتين، وبسكون
الضاد، مع فتح الخاء، وكسرها، قال في "التاج": وخَضِرٌ، وخِضْرٌ ككَبِدٍ،
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 58.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 429.
وكِبْدٍ، قال الجَوْهَرِيّ: وهو أَفْصُح، قلت
(1)
: لعَلَّه لكونِه مخُفَفًّا من الخَضِر؛ لكَثْرة الاسْتِعْمَال كما في "المِصْبَاح"، وزاد القَسْطَلانيّ في شرح البُخَارِيّ لُغَةً ثالِثة، وهو فَتْح الخَاء، مع سُكُونِ الضّاد.
واخْتُلِف في سَبَب لَقَبِه، فقيل: لأَنَّه جَلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فاهْتَزَّت تَحْتَه خَضْراءَ، كما وردَ في حَدِيثٍ مَرْفُوع صحيح، وقِيل: لأَنّه كان إِذا جَلَسَ في مَوْضعٍ، وتَحْتَه روضَةٌ تَهْتَزُّ. وفي البُخَارِيّ: وَجَدَهُ موسى على طِنْفِسَةٍ خَضْرَاءَ، على كَبِدِ البَحْر، وعن مُجاهِدٍ: كان إِذا صلَّى في مَوْضع اخْضَرَّ ما تَحْتَه، وقيل: ما حَوْلَه، وقيل سُمِّيَ خَضِرًا؛ لحُسْنِه، وإِشراق وَجْهِه؛ تَشْبِيهًا بالنَّبَات الأَخْضَرِ الغَضِّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وأصحّ الأقوال الأول؛ لأنه رواه البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سُمِّي الخضر؛ لأنه جلس على فَرْوة
(3)
بيضاء، فإذا هي تهتزّ من خلفه خضراء". انتهى
(4)
.
وقوله: (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ) قال الحافظ رحمه الله: لم يذكر ما قال الحرّ بن قيس، ولا وقفت على ذلك في شيء من طرق هذا الحديث، قال: وخضر: بفتح أوله، وكسر ثانية، أو بكسر أوله، وإسكان ثانيه، ثبتت بهما الرواية، وبإثبات الألف واللام فيه، وبحذفهما.
قال: وهذا التماري الذي وقع بين ابن عباس والحرّ غير التماري الذي وقع بين سعيد بن جبير ونوف البكاليّ، فإن هذا في صاحب موسى، هل هو الخضر أو غيره؟، وذاك في موسى، هل هو موسى بن عمران الذي أُنزلت عليه التوراة، أو موسى بن مِيشا، بكسر الميم، وسكون التحتانية، بعدها معجمة؟. انتهى
(5)
.
(فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيُّ) رضي الله عنه (فَدَعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ)؛ أي: ناداه،
(1)
القائل صاحب "التاج"، فتنبّه.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 2770.
(3)
الفروة: الأرض البيضاء، ليس بها نبات. اهـ. "ق".
(4)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1248.
(5)
"الفتح" 1/ 297.
وذكر ابن التين أن فيه حذفًا، والتقدير: فقام إليه، فسأله؛ لأن المعروف عن ابن عباس التأدب مع من يأخذ عنه، وأخباره في ذلك شهيرة. (فَقَالَ) ابن عبّاس (يَا أَبَا الطُّفَيْلِ) كنية أُبيّ بن كعب رضي الله عنه، ويُكنى أيضًا أبا المنذر، (هَلُمَّ إِلَيْنَا)؛ أي: أقبِلْ إلى مجلسنا، و"هلُمّ" قد سبق البحث فيها غير مرّة. (فَإِنِّي) الفاء: للتعليل؛ أي: لأني (قَدْ تَمَارَيْتُ) تجادلت، (أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا)؛ يعني: الحرّ بن قيس، (فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ) موسى (السَّبِيلَ) الطريق الموصل (إِلَى لُقِيِّهِ) بضمّ اللام، وكسر القاف، وتشديد التحتانيّة: مصدر بمعنى اللِّقَاء، يقال: لَقِيَهُ، كَرَضِيَهُ لِقاءً، ولِقاءَةً، ولِقايَةً، ولِقِيًّا، ولِقْيانًا، ولِقْيانَةً، بكسرِهِنَّ، ولُقْيانًا، ولُقِيّا، ولُقْيَةً، ولُقًى، بضمهنَّ، ولَقاءَةً مَفْتوحَةً: رآهُ، كَتَلَقَّاهُ، والْتَقَاهُ، والاسمُ: التِّلْقاءُ، بالكسر، ولا نَظِيرَ له غيرُ التِّبْيان، قاله المجد رحمه الله
(1)
.
(فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟)؛ أي: قصّته، والجملة حاليّة (فَقَالَ أُبَيٌّ)؛ أي: ابن كعب، ووقع في بعض النسخ:"فقال: إنّي"، وهي:"إنّ" واسمها. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَمَا) قد تقدّم غير مرّة أن أصله "بَيْنَ"، زيدت فيه "ما"، والفصيح في جوابه ترك "إذ"، و"إذا" وجوابه قوله:"إذ جاءه رجل". (مُوسَى فِي مَلإٍ) هي: الجماعة قاله عياض، وقال غيره: الملأ الأشراف، وفي "العباب": الملأ بالتحريك: الجماعة، والملأ أيضًا: الْخُلُق، يقال: ما أحسن مَلَأَ بني فلان؛ أي: عِشْرتهم، وأخلاقهم، والجمع: أملاء. (مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم: أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأن إسرائيل هو اسم يعقوب، وأولاده اثنا عشر نَفْسًا، وهم الذين يُسَمَّون الأسباط، وسُمُّوا بذلك؛ لأن كل واحد منهم والد قبيلة، والأسباط في كلام العرب: الشجر الْمُلْتَفّ الكثير الأغصان، والأسباط من بني إسرائيل كالشعوب من المعجم، والقبائل من العرب، وجميع بني إسرائيل من هؤلاء المذكورين
(2)
.
(إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ) لم يُعرف، (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: قال ذلك الرجل لموسى عليه السلام (هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَى: لَا)؛ أي: لا أعلمُ أعلمَ مني،
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 1716.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 3/ 37.
(فَأَوْحَى اللهُ إِلَى مُوسَى، بَلْ عَبْدُنَا الْخَضِرُ)؛ أي: هو أعلم، و"بل" بإسكان اللام، والتقدير: فأوحى الله إليه لا تُطلق النفي، بل قل: خضرٌ، وإنما قال:"عبدنا"، وإن كان السياق يقتضي أن يقول: عبد الله؛ لكونه أورده على طريق الحكاية عن الله سبحانه وتعالى، والإضافة فيه للتعظيم، قاله في "الفتح"
(1)
، وعزا رواية "بل" للكشميهنيّ، والأكثرون رووا "بلى".
وقال في "العمدة": و"بل" للإضراب، وهو من حروف العطف، فإن قلت: ما المعطوف عليه المضروب عنه؟ قلت: مقدَّر تقديره: أوحى الله إليه: لا تقل: لا، بل عبدنا خضر؛ أي: قل: الأعلم عبدك خضر، فإن قلت: فعلى هذا كان ينبغي أن يقول: بل عبد الله، أو عبدك، قلت: وَرَدَ على طريقة الحكاية عن قول الله تعالى. انتهى.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَسَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ)؛ أي: الطريق الموصل إليه، (فَجَعَلَ اللهُ لَهُ الْحُوتَ) السمكة، (آيَةً)؛ أي: علامة على محلّ الخضر، (وَقيلَ لَهُ) القائل هو الله تعالى، (إِذَا افْتَقَدْتَ)، وفي بعض النسخ:"إذا فقدتَ"(الْحُوتَ فَارْجِعْ) إلى محل فَقْده (فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ)؛ أي: ستلقى خضرًا في ذلك المحلّ. (فَسَارَ مُوسَى)؛ أي: مع فتاه، (مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَسِيرَ، ثُمَّ قَالَ لِفَتَاهُ)؛ أي: لصاحبه، وهو يوشع بن نون، وإنما قال: فتاه؛ لأنه كان يخدمه، ويتبعه، وقيل: كان يأخذ العلم عنه. ({آتِنَا غَدَاءَنَا}، فَقَالَ فَتَى مُوسَى حِينَ سَأَلَهُ الْغَدَاءَ: {أَرَأَيْتَ})؛ أي: أخبرني ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة؛ أي: لجأنا ({إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ})؛ أي: نسيت ذِكر شأنه، وقصة انسلاله من المكتل، واضطرابه في البحر حيًّا، ({وَمَا أَنْسَانِيهُ}) تقدم أن ضم الهاء رواية حفص، والباقون بالكسر. ({إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}، فَقَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: {ذَلِكَ})؛ أي: فقدان الحوت، ({مَا})؛ أي: الذي ({كُنَّا نَبْغِ})؛ أي: نطلبه بسفرنا هذا، ({فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا})؛ أي: رجعا من الطريق الذي سلكاه يقصّان الأثر؛ أي: يتّبعان أثر قدمهما حتى لا يخطآ المكان، (فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا)؛ أي: من شأن موسى والخضر، (مَا)؛ أي: الذي (قَصَّ اللهُ)؛ أي: ذكره الله عز وجل (في كِتَابِه")؛ أي: القرآن الكريم.
(1)
"الفتح" 1/ 298.
وقوله: (إِلَّا أَنَّ يُونُسَ)؛ يعني: ابن يزيد الأيليّ (قَالَ) في روايته (فَكَانَ يَتَّبعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ) أراد المصنّف رحمه الله بهذا: أن يونس يخالف غيره ممن رواه عن الزهريّ بزيادة قوله: "فَكَانَ يَتَّبعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ" بعد قوله: "فارجع فإنك ستلقاه".
قال الجامع عفا الله عنه: عندي في قول المصنّف هذا إشكالان: أحدهما: أنه لم يذكر في الإسناد مع يونس غيره حتى يفاضل بين روايتهما.
وثانيهما: أن هذه الزيادة ثبتت في رواية غير يونس أيضًا، فقد زادها الأوزاعيّ عن الزهريّ، كما في "صحيح البخاريّ" في "كتاب العلم" برقم (78)، ولفظه:"فكان موسى صلى الله عليه وسلم يتّبع أثر الحوت في البحر"، وكذلك زادها صالح بن كيسان، عند البخاريّ في "العلم" أيضًا برقم (74)، ولفظه:"وكان يتّبع أثر الحوت في البحر"، فليُتأمّل حقّ التأمّل، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
* * *
46 - (كِتَابُ فضَائِلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
-)
قال الجامع عفا الله عنه: الكتاب الذي قبل هذا هو "كتاب الفضائل"، والمراد به: فضائل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهذا "كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم"، وقد تقدّم معنى الفضائل مستوفًى في أول الكتاب الماضي، ولنذكر هنا ما يتعلّق بالصحابة رضي الله عنهم، وفيه مسائل:
(المسألة الأولى): في تعريف الصحابيّ:
قال الحافظ رحمه الله في "الإصابة": وأصحّ ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابيّ: من لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه: من طالت مجالسته له، أو قصرت، ومن روى عنه، أو لم يرو، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية، ولو لم يُجالسه، ومن لم يَرَه لعارض؛ كالعمى.
ويخرج بقيد "الإيمان" من لقيه كافرًا، ولو أسلم بعد ذلك؛ إذا لم يجتمع به مرّةً أخرى.
وقولنا: "به" يُخرج من لقيه مؤمنًا بغيره، كمن لقيه من مؤمني أهل الكتاب قبل البعثة، وهل يدخل من لقيه منهم، وآمن بأنه سيُبعث، أو لا يدخل؟ محلّ احتمال، ومن هؤلاء بَحِير الراهب، ونظراؤه.
ويدخل في قولنا: "مؤمنًا به" كلّ مكلّف من الجنّ والإنس.
وخرج بقولنا: "ومات على الإسلام" من لقيه مؤمنًا به، ثم ارتدّ، ومات على ردّته
(1)
-والعياذ بالله-.
ويدخل فيه من ارتدّ، وعاد إلى الإسلام قبل أن يموت، سواء اجتمع
(1)
وقد وُجد من ذلك عدد يسير؛ كعبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة رضي الله عنه قبله صلى الله عليه وسلم، تنصّر في الحبشة، ومات هناك؛ وكعبد الله بن خَطَل الذي قُتل وهو متعلّق بأستار الكعبة؛ وكربيعة بن أميّة بن خَلَف. "الإصابة" 1/ 159.
به صلى الله عليه وسلم مرّة أخرى، أم لا؟ وهذا هو الصحيح المعتمد. انتهى ملخّصًا
(1)
.
وقال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "ومَن صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه". انتهى.
قال في "الفتح": يعني: أن اسم صحبة النبيّ صلى الله عليه وسلم مُسْتَحَقٌّ لمن صحبه أقلّ ما يُطلق عليه اسم صحبة لغةً، وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة، ويُطلق أيضًا على من رآه رؤيةً، ولو على بُعْد، وهذا الذي ذكره البخاريّ هو الراجح، إلا أنه هل يُشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه، أو يُكتفى بمجرد حصول الرؤية؟ محلّ نظر، وعَمَلُ من صنّف في الصحابة يدلّ على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما وُلد قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في "الصحيح" أن أمه أسماء بنت عُميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور، وبين أبي إسحاق الإسفراينيّ ومن وافقه على ردّ المراسيل مطلقًا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء؛ لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين، ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا مما يُلغز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل، لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة.
ومنهم من بالغ، فكان لا يعدّ في الصحابة إلا من صحب الصحبة العُرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سَرْجِس رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة، أخرجه أحمد، هذا مع كون عاصم قد روى عن عبد الله بن سرجس هذا عدّة أحاديث، وهي عند مسلم وأصحاب "السُّنن"، وأكثرها من رواية عاصم عنه، ومن جملتها قوله:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم استغفر له"، فهذا رأي عاصم أن الصحابي من يكون صحب الصحبة العرفية، وكذا رُوي عن سعيد بن المسيِّب أنه كان لا يَعُدّ في الصحابة إلا من أقام مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سنةً فصاعدًا، أو غزا معه غزوةً فصاعدًا، والعمل على خلاف هذا
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 158 - 159.
القول؛ لأنهم اتفقوا على عَدّ جَمْعٍ جَمٍّ في الصحابة، لم يجتمعوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية، أو من اجتمع به، لكن فارقه عن قرب، كما جاء عن أنس أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب.
ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغًا، وهو مردود أيضًا؛ لأنه يخرج مثل الحسن بن عليّ، ونحوه، من أحداث الصحابة.
والذي جزم به البخاريّ هو قول أحمد، والجمهور من المحدثين.
وقول البخاريّ: "من المسلمين" قيد يُخرج به مَن صحبه، أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم، فإن كان قوله:"من المسلمين" حالًا خرج مَن هذه صفته، وهو المعتمَد.
ويَرِد على التعريف مَن صحبه، أو رآه مؤمنًا به، ثم ارتدّ بعد ذلك، ولم يَعُد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابيًّا اتفاقًا، فينبغي أن يزاد فيه:"ومات على ذلك".
وقد وقع في "مسند أحمد" حديث ربيعة بن أمية بن خَلَف الْجُمَحِيّ، وهو ممن أسلم في الفتح، وشَهِد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وحدّث عنه بعد موته، ثم لحقه الخذلان، فلَحِق في خلافة عمر بالروم، وتنصَّر بسبب شيء أغضبه، وإخراج حديث مثل هذا مُشْكِل، ولعل من أخرجه لم يَقِف على قصة ارتداده، والله أعلم.
فلو ارتدّ، ثم عاد إلى الإسلام، لكن لم يره ثانيًا بعد عَوْده، فالصحيح أنه معدود في الصحابة؛ لإطباق المحدثين على عَدِّ الأشعث بن قيس، ونحوه، ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد.
وهل يختصّ جميع ذلك ببني آدم، أو يعمّ غيرهم، من العقلاء؟ محل نظر، أما الجنّ فالراجح دخولهم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بُعِث إليهم قطعًا، وهم مكلَّفون، فيهم العصاة، والطائعون، فمن عُرِف اسمه منهم، لا ينبغي التردد في ذِكره في الصحابة، وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى، فلم يستند في ذلك إلى حجة.
وأما الملائكة، فيتوقف عدّهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافًا بين الأصوليين، حتى نَقَل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم.
وهذا كله فيمن رآه، وهو في قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته، وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابيّ، وإلا لَعُدّ مَن اتَّفَق أن يرى جسده المكرم، وهو في قبره المعظم، ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كُشف له عنه من الأولياء، فرآه كذلك على طريق الكرامة؛ إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمرّ الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية، وإنما هي أخروية، لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك، فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم، من الموتى، والله أعلم.
وكذلك المراد بهذه الرؤية: مَن اتفقت له ممن تقدم شرحه، وهو يقظان، أما من رآه في المنام، وإن كان قد رآه حقًّا، فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية، لا الأحكام الدنيوية، فلذلك لا يُعَدّ صحابيًّا، ولا يجب عليه أن يعمل بما أَمَره به في تلك الحالة، والله أعلم.
قال: وقد وجدت ما جزم به البخاريّ من تعريف الصحابيّ في كلام شيخه عليّ ابن المدينيّ، فقرأت في "المستخرج" لأبي القاسم ابن منده بسنده إلى أحمد ابن سيار الحافظ المروزيّ، قال: سمعت أحمد ابن عتيك يقول: قال عليّ ابن المدينيّ: مَن صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو رآه، ولو ساعة من نهار، فهو من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في الطريق الموصل إلى معرفة كون الشخص صحابيًّا:
(اعلم) أن الصحابي يُعرف بأشياء:
(أولها): أن يثبت بطريق التواتر أنه صحابيّ، كالخلفاء الأربعة، وبقيّة العشرة في خَلْق كثير سواهم، ممن تواترت صحبته، ثم بالاستفاضة والشهرة القاصرة عن التواتر، كعُكاشة بن محصن، وضمام بن ثعلبة، وغيرهما، ثم بأن
(1)
"الفتح" 8/ 313315، كتاب "فضائل الصحابة رضي الله عنهم" رقم (3649).
يُروى عن آحاد الصحابة أن فلانًا له صحبة مثلًا، وكذا عن آحاد التابعين، بناءً على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح، ثم بأن يقول هو: أنا صحابيّ، إذا كان ثابت العدالة والمعاصرة.
أما الشرط الأول: وهو: العدالة، فجزم به الآمديّ وغيره؛ لأن قوله قبل أن تثبت عدالته: أنا صحابيّ، أو ما يقوم مقام ذلك يلزم من قبول قوله إثبات عدالته؛ لأن الصحابة كلهم عدولٌ، فيصير بمنزلة قول القائل: أنا عَدْلٌ، وذلك لا يُقبل.
وأما الشرط الثاني: وهو: المعاصرة، فيُعتبر بمضيّ مائة سنة وعشر سنين من هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره لأصحابه:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد" متّفقٌ عليه، زاد مسلم من حديث جابر أن ذلك كان قبل موته بشهر، ولفظه: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: "تسألوني عن الساعة، وإنما عِلْمها عند الله، وأُقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة، وهي حيّة يومئذ".
ولهذه النكتة لم يُصدّق الأئمة أحدًا ادّعى الصحبة بعد الغاية المذكورة، وقد ادّعاها جماعة، فكُذّبوا، وكان آخرهم رَتَنَ الهنديّ.
ثم من لم يُعرف حاله إلا من جهة نفسه فمقتضى كلام الآمديّ السابق ومن تبعه ألا تثبت صحبته، ونقل أبو الحسن ابن القطّان فيه الخلاف، ورجّح عدم الثبوت، وأما ابن عبد البرّ فجزم بالقبول بناء على أن الظاهر سلامته من الجَرح، وقوّى ذلك بتصرّف أئمة الحديث في تخريجهم أحاديث هذا الضرب في مسانيدهم، ولا ريب في انحطاط رتبة من هذا سبيله عمن مضى.
ومن صور هذا الضرب أن يقول التابعيّ: أخبرني فلان أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول، سواء سمّاه أم لا، أما إذا قال: أخبرني رجل مثلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بكذا، فثبوت الصحبة بذلك بعيد؛ لاحتمال الإرسال، ويَحْتَمِل التفرقة بين أن يكون القائل من كبار التابعين، فيُرجّح القبول، أو صغارهم فيرجّح الرّدّ، ومع ذلك فلم يتوقّف من صنّف في الصحابة في إخراج من هذا سبيله في كُتُبهم، والله تعالى أعلم.
[ضابط]: يستفاد من معرفته صحبة جَمْع كثير يُكتفى فيهم بوصف يتضمّن أنهم صحابة، وهو مأخوذ من ثلاثة آثار:
أحدها: أنهم كانوا لا يؤمِّرون في المغازي إلا الصحابة، فمن تتبع الأخبار الواردة في الردّة والفتوح وجد من ذلك الكثير.
ثانيها: أن عبد الرحمن بن عوف قال: كان لا يولد لأحد مولود، إلا أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا له، وهذا أيضًا يوجد منه الكثير.
ثالثها: أنه لم يبق بالمدينة، ولا بمكة، ولا الطائف، ولا بينهما من الأعراب إلا من أسلم، وشَهِد حجة الوداع، فمن كان في ذلك الوقت موجودًا اندرج فيهم؛ لحصول رؤيتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن لم يرهم هو، والله أعلم
(1)
.
(المسألة الثالثة): في بيان حال الصحابة رضي الله عنهم من العدالة:
اتّفق أهل السُّنَّة على أن الصحابة رضي الله عنهم عدولٌ كلّهم مطلقًا، كبيرهم، وصغيرهم، لابَسَ الفتنة أم لا؛ وجوبًا لحسن الظنّ، ونظرًا إلى ما تمهّد لهم من المآثر، من امتثال أوامره صلى الله عليه وسلم بعده، وفَتْحهم الأقاليم، وتبليغهم عنه الكتاب والسُّنَّة، وهدايتهم الناس، ومواظبتهم على الصلاة والزكاة، وأنواع القربات، مع الشجاعة، والبراعة، والكرم، والإيثار، والأخلاق الحميدة التي لم يكن في أمة من الأمم المتقدمة.
وقد عقد الخطيب البغداديّ رحمه الله في "الكفاية" فصلًا نفيسًا في ذلك، فقال: عدالة الصحابة رضي الله عنهم ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18]، وقوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وقوله:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)} [الأنفال: 64]، وقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)}
(1)
"فتح المغيث" 3/ 108.
-إلى قوله-: {إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10]، في آيات كثيرة يطول ذِكْرها، وأحاديث شهيرة، يكثر تعدادها.
وجميع ذلك يقتضي القطع بتعديلهم، ولا يَحتاج أحد منهم مع تعديل الله له إلى تعديل أحد من الخلق.
على أنه لو لم يَرِد من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، ونصرة الإسلام، وبذل الْمُهَج والأموال، وقتل الآباء والأبناء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على تعديلهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع الخالفين بعدهم، والمعدّلين الذين يجيئون من بعدهم، هذا مذهب كافّة العلماء، ومن يُعتمد قوله.
ثم أسند عن أبي زرعة الرازيّ أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقّ، والقرآن حقّ، وما جاء به حقّ، وإنما أدى إلينا ذلك كله الصحابة، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا؛ لِيُبطلوا الكتاب والسُّنَّة، والجرح بهم أَولى، وهم زنادقة. انتهى كلام الخطيب رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
قال السخاويّ رحمه الله: فأما الآية الأُولى: فالذي رجّحه كثير من المفسرين عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وخصَّها آخرون بالصحابة، بل قال بعضهم: اتفقوا على أنها واردة فيهم، وحينئذ فالاستدلال منها ظاهر.
وأما الثانية: فهي خطاب مع الموجودين منهم حينئذ، ولكن لا يمتنع إلحاق غيرهم بهم ممن شاركهم في الوصف.
وكذا من الآيات: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} الآية [الفتح: 29]، ومن غيرها:"أصحابي كالنجوم"
(2)
، مع ما تحقق عنهم بالتواتر من الجدّ في الامتثال.
(1)
"الكفاية في علم الرواية" 1/ 46.
(2)
حديث موضوع، راجع:"الضعيفة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 1/ 78 - 85.
قال الحافظ رحمه الله: والأحاديث الواردة في تفضيل الصحابة كثيرة، من أدلّها على المقصود ما رواه الترمذيّ، وابن حبان في "صحيحه" من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضًا، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله، فيوشك أن يأخذه"
(1)
.
وذكر غيره من الأدلة حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "لا تَسُبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم، ولا نصيفه"، مُتّفق عليه، وهو وإن ورد على سبب، وذلك أنه كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبّه خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم. . . .، فذكره، بحيث خصه بعض أصحاب الحديث بمن طالت صحبته، وقاتل معه، وأنفق، وهاجر، لكن العبرة إنما هي بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما ذهب إليه الأكثرون، وصححه القاضي عياض هنا.
ومثل هذا يقال، وإن كان المقول له صحابيًّا للتنبيه على إرادة حفظ الصحبة عن ذلك.
ووجه الاستدلال به أن الوصف لهم بغير العدالة سبّ، لا سيما وقد نَهَى بعض من أدركه، وصحبه عن التعرض لمن تقدمه؛ لشهود المواقف الفاضلة، فيكون مَن بعدَهم بالنسبة لجميعهم من بابِ أَولى.
وحديث: "خير الناس قرنى. . ." المتواتر، مما هو أيضًا متفق عليه، من حديث ابن مسعود، وعمران بن حصين، حتى بالغ بعضهم، فتمسَّك به بعدالة التابعين أيضًا، وأنه لا يُسأل عنهم حتى يقوم الجَرح؛ لقوله فيه:"ثم الذين يلونهم"، وهو فيهم محمول على الغالب، والمراد بقَرْن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه الصحابة، وإن أُطلق القرن على مدة من الزمان في تحديدها أَقوال، أدناها عشرة أعوام، وأعلاها مائة وعشرون، وعليه ينطبق الواقع في كون آخر الصحابة موتًا أبو
(1)
رواه الترمذيّ، وابن حبّان، وفي سنده رجل مجهول، لكن المتن يشهد له ما بعده، فيتقوّى به.
الطفيل، إن اعتُبِر ذلك في زمن البعثة؛ إذ المدة منها القَدْر المذكور، أو دونه، أو فوقه بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، أما إن مشينا على أن القرن مائة، كما هو المشهور، بل وقع ما يدل له في حديث لعبيد الله بن بسر عند مسلم
(1)
، فيكون الاعتبار من موته صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدلة أيضًا ما جاء عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل"، أخرجه أحمد، والترمذيّ وحسّنه، وابن ماجه، وغيرهم.
وعن سعيد بن المسيِّب، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابي على الثقلين، سوى النبيين والمرسلين"، قال الحافظ: أخرجه البزار بسند رجاله موثقون.
وعن عبد الله بن هاشم الطوسيّ، حدّثنا وكيع، سمعت سفيان، يقول في قوله تعالى:{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} الآية [النمل: 59] قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. إلى غير ذلك مما يطول إيراده.
وممن حَكَى الإجماع على القول بعدالتهم إمام الحرمين، قال: ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، فلو ثبت توقُّف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولَمَا اسْتَرْسَلَت على سائر الأعصار
(2)
.
ونحوه قول أبي محمد بن حزم: الصحابةُ كلهم من أهل الجنة قطعًا؛ قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} الآية [النساء: 95]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]، فثبت أن الجميع من أهل الجنة، وأنه
(1)
لم يَرْو مسلم لعبد الله بن بُسر إلا حديثًا واحدًا، وليس فيه ما يدلّ على المذكور، وأما الحديث الدالّ على المذكور، فأخرجه البخاريّ في "التاريخ الصغير"(1/ 186)، ولفظه أنه صلى الله عليه وسلم قال له:"يعيش هذا الغلام قرنًا"، فعاش مائة سنة. انتهى. أفاده محقق "فتح المغيث" في 4/ 34.
(2)
"البرهان" 1/ 632.
لا يدخل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطَبون بالآية السابقة
(1)
.
[فإن قيل]: التقييد بالإنفاق والقتال يُخرج من لم يتصف بذلك، وكذلك التقييد بالإحسان في الآية السابقة، وهي قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} الآية [التوبة: 100] يخرج من لم يتصف بذلك.
[فالجواب]: أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب، وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل، أو القوة، ولكن قد أشار إلى الخلاف إلكيا الطبريّ، حيث قال: إن عليه كافة أصحابنا، وكذا قال القاضي، هو قول السلف، وجمهور الخلف.
وحَكَى الآمديّ، وابن الحاجب قولًا أنهم كغيرهم في لزوم البحث على عدالتهم مطلقًا، وهو قضية كلام أبي الحسين ابن القطان من الشافعية، فإنه قال: فوحشيّ قَتَل حمزة، وله صحبة، والوليد شرب الخمر.
قلنا: من ظهر منه خلاف العدالة لا تقع عليه اسم الصحبة، والوليد
(2)
ليس بصحابيّ، إنما أصحابه الذين كانوا على طريقته.
وهذا عجيب، فالكل أصحابه باتفاق، وقَتْل وحشيّ لحمزة كان قبل إسلامه، وأما الوليد وغيره ممن ذُكِر بما أشار إليه، فقد كَفَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِن لعن بعضهم بقوله:"لا تلعنه، فوالله ما عَلِمت إلا أنه يحب الله ورسوله"، كما كَفَّ عمرَ عن حاطب رضي الله عنهما قائلًا له:"إنه شَهِد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"، لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم، والحدود كفارات، بل قيل في الوليد بخصوصه: إن بعض أهل الكوفة تعصبوا عليه، فشهدوا عليه بغير الحقّ.
وبالجملة فَترْك الخوض في هذا ونحوه متعيِّن.
وقيل: لا يُحكم بعدالة من دخل من الصحابة في فتنة من الفتن الواقعة من حين مقتل عثمان رضي الله عنه؛ كالْجَمَل، وصِفِّين من الفريقين، إلا بعد البحث
(1)
"الإحكام" 5/ 90.
(2)
أي: ابن عقبة أخو عثمان رضي الله عنه لأمه.
عنها، وعن بعضهم ردّهم كافّةً مطلقًا، وقيل: يُقبَل الداخل فيها إذا انفرد؛ لأن الأصل العدالة، وشككنا في ضدّها، ولا تُقْبَل مع مخالفة لتحقق إبطال أحدهما من غير تعيين، وقيل: إن القول بالعدالة يخص بمن اشتهر منهم، ومن عداهم كسائر الناس، فيهم العدول وغيرهم.
قال المازريّ في "شرح البرهان": لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول، كل من رآه يومًا ما، أو زاره، أو اجتمع به لغرض، وانصرف عن قريب، وإنما نعني به الذين لازموه، وعزّروه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فأولئك كما قال الله تعالى:{هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102].
قال السخاويّ: ولم يوافَق المازري على ذلك، ولذا اعترضه غير واحد، وقال العلائيّ: إنه قول غريب، يُخرج كثيرًا من المشهورين بالصحبة، والرواية عن الحُكم بالعدالة، كوائل بن حجر، ومالك بن الحويرث، وعثمان بن أبي العاص، وغيرهم، ممن وَفَد عليه، ولم يُقِم عنده إلا قليلًا، وانصرف، وكذلك من لم يُعرف إلا برواية الحديث الواحد، أو لم تُعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل.
قال الحافظ: وقد كان تعظيم الصحابة، ولو كان اجتماعهم به قليلًا مقرّرًا عند الخلفاء الراشدين، وغيرهم، ثم ساق بسند رجاله ثقات، عن أبي سعيد الخدريّ أنه كان متكئًا، فذَكَرَ من عنده عليًّا ومعاوية رضي الله عنهما، فتناول رجلٌ معاوية، فاستوى جالسًا، ثم قال: كنا ننزل رفاقًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنا في رُفقة فيها أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات، وفيهم امرأة حبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال للمرأة الحامل: أيسرّك أن تلدي غلامًا؟ قالت: نعم، قال: إن أعطتني شاةً ولدت غلامًا، فأعطته، فسجع لها أسجاعًا، ثم عمد إلى الشاة فذبحها، وطبخها، وجلسنا نأكل منها، ومعنا أبو بكر، فلمّا علم بالقصّة قام، فتقيأ كل شيء أكله، قال: ثم رأيت ذلك البدويّ قد أُتِي به عمر بن الخطاب، وقد هجا الأنصارَ، فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدري ما نال فيها لكفيتموه، ولكن له صحبة، قال: فتوقف عمر عن معاتبته فضلًا عن معاقبته؛ لكونه عَلِم أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك أكبر شاهد على
أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء، كما ثبت في حديث أبي سعيد الماضي
(1)
.
وقال الإمام أحمد بعد ذِكر العَشرة، والمهاجرين، والأنصار: ثم أفضلُ الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم القرن الذي بُعِث فيهم كلُّ من صَحِبه سنةً، أو شهرًا، أو يومًا، أو ساعةً، أو رآه فهو من أصحابه، له من الصحبة على قدر ما صَحِبه، وكانت سابقته معه، وسمع منه، ونظر إليه نظرةً، فأدناهم صحبةً هو أفضل من القَرْن الذين لم يروه، ولو لَقُوا الله بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صحبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورأوه، وسمعوا منه، وآمنوا به، ولو ساعة أفضل بصحبته من التابعين، ولو عملوا كل أعمال الخير.
وبالجملة فما قاله المازريّ منتقَد، بل كل ما عدا المذهب الأول القائل بالتعميم باطلٌ، والأول هو الصحيح، بل الصواب المعتبَر، وعليه الجمهور، كما قال الآمديّ، وابن الحاجب؛ يعني: من السلف والخلف، زاد الآمديّ: وهو المختار، وحَكَى ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" إجماع أهل الحقّ من المسلمين، وهم أهل السُّنَّة والجماعة عليه، سواء من لم يُلابِس الفتن منهم، أو لابَسَها، إحسانًا للظنّ بهم، وحَمْلًا لهم في ذلك على الاجتهاد، فتلك أمور مبناها عليه، وكل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد، والمخطئ معذور، بل مأجور.
قال ابن الأنباريّ: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلّف بحثٍ عن أسباب العدالة، وطلب التزكية، إلا إن ثبت ارتكاب قادح، ولم يثبت ذلك -ولله الحمد- فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصحّ، وما صحّ فله تأويل صحيح.
وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: تلك دماء طهّر الله منها سيوفنا، فلا تخضب بها ألسنتنا.
(1)
أي حديث: "لا تسبّوا أصحابي. . .".
ولا عبرة بردّ بعض الحنفية روايات أبي هريرة رضي الله عنه، وتعليلهم بأنه ليس بفقيه، فقد عَمِلوا برأيه في الغسل ثلاثًا من ولوغ الكلب، وغيره، وولاه عمر رضي الله عنهما الولايات الجسيمة، وقال ابن عباس له، كما في "مسند الشافعيّ"، وقد سئل عن مسألة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فأفتى، ووافقه على فتياه.
وقد حَكَى ابن النجار في "ذيله" عن الشيخ أبي إسحاق أنه سمع القاضي أبا الطيب الطبريّ يقول: كنا في حلقة النظرِ بجامع المنصور، فجاء شابّ خُراسانيّ حنفيّ، فطالب بالدليل في مسألة المصرّاة، فأورد المدرّس عن أبي هريرة، فقال الشابّ: إنه غير مقبول الرواية، قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فهرب عنها، فتبعته دون غيره، فقيل له: تُبْ، فقال: تبت، فغابت الحية، ولم يُرَ لها بعدُ أثرٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في بيان المكثرين من الصحابة رضي الله عنهم روايةً، وإفتاءً:
(اعلم): أن المكثرين منهم. رواية كما قاله أحمد، فيما نقله ابن كثير وغيره الذين زاد حديثهم على ألف، ستةٌ: وهم أنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وأم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدريّ، وأبو هريرة، وهو أكثرهم، كما قاله سعيد بن أبي الحسن، وابن حنبل، وتبعهما ابن الصلاح.
وقد روى بَقِيّ بن مَخْلَد في "مسنده" لأبي هريرة خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين، ولابن عمر ألفين وستمائة وثلاثين، ولأنس ألفين ومائتين وستة وثمانين، ولعائشة ألفين ومائتين وعشرة، ولابن عباس ألفًا وستمائة وستين، ولجابر ألفًا وخمسمائة وأربعين، ولأبي سعيد ألفًا ومائة وسبعين، وقد نَظَمه البرهان الحلبيّ.
وقد أدرج ابن كثير في المُكْثِرين ابنَ مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، قال السخاويّ: ولم يبلغ حديث واحد منهما عند بقيّ ألفًا؛ إذ حديث أوّلهما عنده ثمان مائة وثمانية وأربعون، وثانيهما سبعمائة.
وقد نَظَمهم الجمال ابن ظُهيرة، فقال [من البسيط]:
سَبْعٌ مِنَ الصَّحْبِ فَوْقَ الأَلْفِ قَدْ نَقَلُوا
…
مِنَ الْحَدِيثِ عَنِ الْمُخْتَارِ خَيْرِ مُضَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ سَعْدٌ جَابِرٌ أَنَسٌ
…
صِدِّيقَةٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ كَذَا ابْنُ عُمَرْ
وسعد هو: أبو سعيد الخدريّ.
قال الجامعِ عفا الله عنه: وقد رتَّبتُهم حسب مرويّاتهم بقولي:
الْمُكْثِرُون فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ
[فإن قلت]: أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن همّام بن مُنَبِّه، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ما من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب
(1)
.
فقد قدّم أبو هريرة رضي الله عنه عبد الله بن عمرو على نفسه في كونه أكثر الصحابة حديثًا، فهذا يدلّ على أنه أكثر حديثًا من أبي هريرة رضي الله عنه، فكيف يُجاب؟.
[قلت]: يجاب بأن عبد الله كان مشتغلًا بالعبادة أكثر من اشتغاله بالتعليم، فقلّت الرواية عنه، أو أن أكثر مقامه بعد فتوح الأمصار كان بمصر، أو بالطائف، ولم تكن الرحلة إليهما ممن يَطلب العلم كالرحلة إلى المدينة، وكان أبو هريرة متصدّيًا فيها للفتوى والتحديث، حتى مات، أو لأن أبا هريرة رضي الله عنه اختصّ بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن لا ينسى ما يحدّثه به، فانتشرت روايته. إلى غير ذلك من الأجوبة.
وأما المكثرون منهم إفتاءً، فسبعة: عمر، وعليّ، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعائشة.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نَظَمتهم بقولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي الْفَتَاوَى سَبْعَةُ
…
عُمَرُ وَابْنُهُ كَذَا عَائِشَةُ
وَنَجْلُ مَسْعُودٍ وَبَحْرُ الأُمَّةِ
…
كَذَا عَلِيٌّ مَعَ نَجْلِ ثَابِتِ
قال ابن حزم: يمكن أن يُجمع من فتيا كل واحد من هؤلاء مجلد
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 54.
ضخم، وابن عباس أكثرهم فتوى، فيما قاله الإمام أحمد، بحيث كان كبار الصحابة يُحيلون عليه في الفتوى، وكيف لا؛ وقد دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم علّمه الكتاب"، وفي لفظ:"اللهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل"، وفي آخر:"اللهم علّمه الحكمة، وتأويل الكتاب"، وفي آخر:"اللهم بارك فيه، وانشر منه".
وقال ابن عمر: هو أعلم من بقي بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكرة: قَدِمَ علينا البصرة، وما في العرب مثله حَشَمًا، وعِلْمًا، وبيانًا، وجمالًا.
وقال ابن مسعود: لو أدرك أسناننا ما عاشره منا أحد.
وقالت عائشة: هو أعلم الناس بالحجّ.
ثم إن وَصْفه بالبحر ثابت في "صحيح البخاريّ" وغيره، وإنما وُصف بذلك لكثرة علمه، كما قال مجاهد، فيما أخرجه ابن سعد، وغيره، وعند ابن سعد أيضًا من طريق ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقول: قال البحر، وفعل البحر، يريد ابن عباس، بل سمّاه غير واحد: حبر الأمة، وبعضهم: حبر العرب، وترجمان القرآن، ربانيّ الأمة.
قال ابن حزم: ويلي هؤلاء السبعة في الفتوى عشرون، وهم أبو بكر، وعثمان، وأبو موسى، ومعاذ، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسلمان، وجابر، وأبو سعد، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وعمران بن حصين، وأبو بكرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية، وابن الزبير، وأم سلمة.
قال الجامع: وقد نظمتهم بقولي:
صِدِّيقُهُمْ عُثْمَانُ سَعْدٌ أَنَسُ
…
سَلْمَانُ جَابِرٌ مُعَاذٌ يَأْنَسُ
وَالأَشْعَرِيُّ وَالزُّبَيْرُ طَلْحَةُ
…
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِي عُبَادَةُ
وَنَجْلُ عَمْرٍو وَابْنُ عَوْفٍ وَكَذَا
…
نَجْلُ حُصَيْنٍ وَنُفَيْعٌ حَبَّذَا
سَعْدٌ مُعَاوِيةُ أُمُّ سَلَمَهْ
…
وَابْنُ الزُّبَيْرِ هُمْ حَلِيفُو الْمَكْرَمَهْ
فَهَؤُلَاءِ مَرْجِعُ الأَنَامِ
…
فِي عَصْرِهِمْ لِمُعْضِلِ الأَحْكَامِ
قال ابن حزم: ويمكن أن يُجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير،
قال: وفي الصحابة نحو من مائة وعشرين نفسًا مقلّون في الفتيا جدًّا، لا تروى عن الواحد منهم إلا المسألة، والمسألتان، والثلاث؛ كأُبيّ بن كعب، وأبي الدرداء، وأبي طلحة، والمقداد، وسرد الباقين مما في بعضه نظر.
قال: ويمكن أن يُجمع من فتيا جميعهم بعد البحث جزء صغير، ذكره
السخاويّ رحمه الله
(1)
.
(المسألة الخامسة): في بيان من يُطلق عليه العبادلة منهم دون سائر من اسمه عبد الله:
هم: ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وابن عمرو بن العاص، فهؤلاء الأربعة هم الذي اشتهروا بالعبادلة، فيما قاله الإمام أحمد، وليس منهم ابن مسعود، وإن جعله الثعلبيّ في "تفسيره" خامسًا لهم، وكذا هو في "شرح الكفاية" لابن الحاجب؛ لأنه كما قال البيهقيّ تقدَّم موته، والآخرون عاشوا، حتى احتيج إلى علمهم، فكانوا إذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، قال ابن الصلاح: ولا مَن شاكل ابن مسعود في التسمية بعبد الله، وهم نحو مائتين وعشرين نفسًا، أو نحو ثلاثمائة فيما قاله العراقيّ، قال السخاويّ: بل يزيدون على ذلك بكثير، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال عليّ ابن المديني رحمه الله: انتهى علم أصحاب رسول الله من الأحكام إلى ثلاثة، ممن أُخذ منهم العلم، فذكر ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس رضي الله عنهم.
وقال مسروق: انتهى العلم إلى ستة: زيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأُبيّ بن كعب، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى عليّ وابن مسعود.
وعن الشعبيّ: كان العلم يؤخذ عن ستة من الصحابة، وذَكَرهم، ثم قال: وكان عمر وابن مسعود وزيد يُشْبه علم بعضهم بعضًا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان عليّ، والأشعريّ، وأُبَيّ يُشبه علم بعضهم بعضًا، وكان يقتبس بعضهم من بعض، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح المغيث" 4/ 44 - 45.
(المسألة السادسة): فيما قيل في عدد الصحابة رضي الله عنهم:
(اعلم): أن المعتمَد أنهم لا يُحصرون إجمالًا فضلًا عن تفصيلهم؛ لتفرّقهم في البلدان، والنواحي، فقد ثبت قول كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تبوك بخصوصها:"والمسلمون كثير لا يجمعهم ديوان حافظ".
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: ولا شكّ أنه لا يمكن حصرهم بعد فُشُوّ الإسلام، وقد ثبت في "صحيح البخاريّ" أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال في قصّة تخلّفه عن غزوة تبوك: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتابٌ حافظ -يعني: الديوان- والحديث هذا في غزوةٍ خاصّة، وهم مجتمعون، فكيف بجميع من رآه مسلمًا؟ والله أعلم
(1)
.
وقال أبو زرعة الرازيّ رحمه الله ردًّا على من قال له: أليس يقال: حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف حديث؟ فقال: ومن قال ذا؟ قلقل الله أنيابه، هذا قول الزنادقة، ومن يحصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة ألف، وأربعة عشر ألفًا من الصحابة، ممن روى عنه، وسمع منه، فقيل له: هؤلاء أين كانوا؟ وأين سمعوا منه؟ قال: أهل المدينة، وأهل مكة، ومَن بينهما من الأعراب، ومن شهد معه حجة الوداع، كلٌّ رآه، وسمع منه بعرفة.
قال ابن فتحون في "ذيل الاستيعاب" بعد إيراده لهذا: أجاب به أبو زرعة سؤال من سأله عن الرواة خاصّة، فكيف بغيرهم؟ انتهى. وكذا لم يدخل في ذلك من مات في حياته في الغزوات وغيرها.
على أنه قد جاء عن أبي زرعة رواية أخرى، أوردها أبو موسى المدينيّ في "الذيل" قال: تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن رآه، وسمع منه زيادة على مائة ألف إنسان، من رجل، وامرأة، وكلّ قد روى عنه سماعًا، أو رؤيةً، فَعِلمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير. ولكنها لا تنافي الأُولى؛ لقوله فيها زيادة مع أنها أقرب لعدم التورط فيها بعهدة الحصر.
نَعَم روى الحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادةً على ثلاثين ألفًا"، وبهذه العدّة جزم ابن
(1)
"التقييد والإيضاح" ص 306.
إسحاق، وأورده الواقديّ بإسناد آخر موصول، وزاد أنه كانت معه عشرة آلاف فرس.
فيمكن أن يكون ذلك في ابتداء خروجهم، كما يُشعر به قوله:"خرجنا"، وتكاملت العدة بعد ذلك.
قال السخاويّ: ووقع لشيخنا -يعني: الحافظ ابن حجر- في "الفتح" هنا سهو حيث عيّن قول أبي زرعة في تبوك بأربعين ألفًا، وجمع بينه وبين قول معاذ: أكثر من ثلاثين ألفًا باحتمال جبر الكسر.
وجاء ضبط من كان بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم عام الفتح بمكة بأنهم خمسة عشر ألف عِنَان، قاله الحاكم، ومن طريقه أبو موسى في "الذيل" بل عنده عن ابن عمر أنه قال: وافي النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بعشرة آلاف من الناس، ووافى حُنينًا باثني عشر ألفًا، وقال:"لن يُغلب اثنا عشر ألفًا من قلة"، ويقال: إن القائل غيره، وهذا هو اللائق، والله تعالى أعلم.
ثم إنه جاء فيمن تُوُفي النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم خلاف ما تقدم، فعن الشافعيّ كما في مناقبه للآبريّ والسياجيّ من طريق ابن عبد الحكم عنه، قال: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون ستون ألفًا، ثلاثون ألفًا بالمدينة، وثلاثون -يعني: ألفًا- في قبائل العرب وغيرها.
وعن أحمد فيما رواه البيهقيّ من طريق إبراهيم بن عليّ الطبريّ عنه قال: قُبض النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد صلَّى خلفه ثلاثون ألف رجل، وكأنه عَنِيَ بالمدينة؛ ليلتئم مع ما قبله.
وثبت عن الثوريّ فيما أخرجه الخطيب بسنده الصحيح إليه أنه قال: مَن قَدَّم عليًّا على عثمان، فقد أزرى على اثني عشر ألفًا، مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راض.
ووجّهه النوويّ بأن ذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم باثني عشر عامًا بعد أن مات في خلافة أبي بكر في الردة والفتوح الكثير ممن لم تُضبط أسماؤهم، ثم مات في خلافة عمر في الفتوح، وفي الطاعون العام، وعَمَواس، وغير ذلك من لا يحصى كثرةً، وسبب خفاء أسمائهم أن أكثرهم أعراب، وأكثرهم حضروا
حجة الوداع
(1)
.
ونقل عياض في "المدارك" عن مالك رحمه الله أنه قال: مات بالمدينة من الصحابة نحو عشرة آلاف نفس.
وقال أبو بكر بن أبي داود فيما رواه عن الوليد بن مسلم: بالشام عشرةُ آلاف عَيْن رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال قتادة: نزل الكوفة من الصحابة ألف وخمسون، منهم أربعة وعشرون بدريون، قال: وأُخبرت أنه قدم حِمْص من الصحابة خمسمائة رجل، وعن بقية نزلها من بني سليم أربعمائة.
وقال الحاكم: الرواة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصحابة أربعة آلاف.
وتعقّبه الذهبيّ بأنهم لا يَصِلون إلى ألفين، بل هم ألف وخمسمائة، وأن كتابه "التجريد" لعلَّ جميعَ من فيه ثمانيةُ آلاف نفس، إن لم يزيدوا لم ينقصوا، مع أن الكثير فيهم من لا يُعرف. انتهى. وكذا مع كثرة التكرير، وإيراد من لبس هو منهم وَهْمًا، أو من ليس له إلا مجرد إدراك، ولم يثبت له لقاء. ووُجِد بخطه أيضًا أن جميع من في "أسد الغابة" سبعة آلاف، وخمسمائة، وأربعة وخمسون نفسًا.
وحصر ابن فتحون عدد من في "الاستيعاب" في ثلاثة آلاف وخمسمائة؛ يعني: ممن ذُكر فيه باسم، أو كنية، أو حصل الوهم فيه، وذكر أنه استدرك عليه على شَرْطه قريبًا ممن ذَكَر.
ومن الغريب ما أسنده أبو موسى في آخر "الذيل" عن ابن المدينيّ قال: الصحابة خمسمائة وثلاثة وستون رجلًا.
وبالجملة فقد قال الحافظ رحمه الله: إنه لم يحصل لنا جميعًا -أي: عن كل من صنف في الصحابة- الوقوفُ على العُشر من أساميهم بالنسبة إلى ما مضى عن أبي زرعة
(2)
.
وقال أبو موسى: فإذا أثبت هذا -يعني: قول أبي زرعة- فكلٌّ حَكَى على قَدْر تتبّعه، ومبلغ عِلمه، وأشار بذلك إلى وقت خاصّ وحالٍ، فإذًا لا
(1)
"الإصابة" 1/ 4.
(2)
"الإصابة" 1/ 3.
تضادّ بين كلامهم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وخلاصة القول في المسألة أنه لم يحصر أحدٌ عدد الصحابة رضي الله عنهم، وإنما تكلّم كلّ أحد بمبلغ علمه، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، فالأَولى أن نفوّض علمه إلى العليم الخبير.
(المسألة السابعة): في طبقات الصحابة رضي الله عنهم:
(اعلم): أنهم باعتبار سبقهم إلى الإسلام، أو الهجرة، أو شهود المشاهد الفاضلة طبقات، وقد اختُلفِ في مقدارها، فذكر الحاكم أبو عبد الله في "علوم الحديث" أنها اثنتا عشرة طبقة:
فالأولى: من تقدم إسلامه بمكة؛ كالخلفاء الأربعة، الثانية: أصحاب دار الندوة التي خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إليها بعد أن أظهر عمر بن الخطّاب إسلامه، فبايعوه حينئذ فيها
(2)
. الثالثة: المهاجِرة إلى الحبشة. الرابعة: مُبايِعة العقبة الأولى. الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار. السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يدخل المدينة، ويبني المسجد. السابعة: أهل بدر. الثامنة: المهاجِرة بين بدر والحديبية. التاسعة: أهل بيعة الرضوان. العاشرة: المهاجِرة بين الحديبية وفتح مكة. الحادية عشرة: مُسْلمة الفتح. الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وفي حجة الوداع، وغيرهما؛ يعني: مَن عَقَل منهم، ومن لم يعقل.
وجعل ابن سعد طبقاتهم خمسًا: فالأولى: البدريون. الثانية: من أسلم قديمًا ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة، وشهدوا أُحُدًا، فما بعدها. الثالثة: من شهد الخندق، فما بعدها. الرابعة: مسلمة الفتح، فما بعدها. الخامسة: الصبيان والأطفال، ممن لم يَغْز، سواءٌ حَفِظ عنه، وهم الأكثر، أم لا، والله تعالى أعلم.
(1)
"فتح المغيث" 4/ 50 - 54.
(2)
هكذا قال السخاويّ، والذي في غيره أن المراد: أصحاب دار الندوة: هم الصحابة الذين أسلموا قبل تشاور قريش في دار الندوة على عداوته صلى الله عليه وسلم، فإن صحّ ما قاله السخاويّ، فهو المعتمَد، فتنبّه.
(المسألة الثامنة): في تفاوت مراتبهم في الفضل:
(اعلم): أن أفضلهم مطلقًا بإجماع أهل السُّنَّة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، بل هو أفضل الناس بعد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لأدلة يطول ذِكرها، منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء، وقد رآه يمشي بين يديه:"يا أبا الدرداء تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر"
(1)
.
[تنبيه]: مقتضى ما تقدّم في تعريف الصحابي يُلغز، فيقال: لنا صحابيّ أفضل من أبي بكر، وهو عيسى المسيح النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإليه أشار التاج السبكيّ بقوله في قصيدته التي في أواخر "القواعد" [من البسيط]:
مَنْ بِاتِّفَاقِ جَمِيعِ الْخَلْقِ أَفْضَلُ مِنْ
…
خَيْرِ الصِّحَابِ أَبِي بَكْرٍ وَمِنْ عُمَرِ
وَمِنْ عَلِيٍّ وَمِنْ عُثْمَانَ وَهْوَ فَتًى
…
مِنْ أمِّةِ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ
ثم يلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإجماع أهل السُّنَّة أيضًا، وممن حَكَى إجماعهم على ذلك أبو العباس القرطبيّ، فقال: ولم يَختلف في ذلك أحد من أئمة السلف، ولا الخلف، قال: ولا مبالاة بأقوال أهل التشيع، ولا أهل البدع.
وأسند البيهقي في "الاعتقاد" له عن الشافعيّ أنه أيضًا قال: ما اختَلَف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر، وتقديمهما على جميع الصحابة.
وكذا جاء عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: من أدركت من الصحابة والتابعين لم يختلفوا في أبي بكر وعمر، وفَضْلهما، وقال مالك: أوَ في ذلك شكّ؟.
واختُلف بعده، فالأكثرون من أهل السُّنَّة على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه يلى، كما حكاه الخطابي وغيره عنهم، وأن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة.
وقيل: عليّ رضي الله عنه، وإلى هذا القول ذهب أهل الكوفة، وجَمْع، كما قاله الخطابيّ، وابن خزيمة، وطائفة.
(1)
حديث ضعيف، أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة" بإسنادين ضعيفين.
وروى الخطابي عن الثوريّ حكايته عن أهل السُّنَّة من أهل الكوفة، وأن أهل السُّنَّة من أهل البصرة على الأول، فقيل للثوريّ: فما تقول أنت؟ قال: أنا رجل كوفيّ، ثم قال الخطابيّ: لكن قد ثبت عن الثوريّ في آخر قوليه تقديم عثمان، زاد غيره: ونُقِل مثله عن صاحبه وكيع.
قال ابن كثير: وهذا المذهب ضعيف مردود، وإن نصره ابن خزيمة، والخطابيّ، وقد قال الدارقطنيّ: من قَدَّم عليًّا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، قال السخاويّ رحمه الله: وصدق رحمه الله، وأكرم مثواه، فإن عمر رضي الله عنه لَمّا جعل الأمر من بعده شورى بين ستة، انحصر في عثمان وعليّ، فاجتهد فيهما عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها، حتى سأل النساء في خدورها، والصبيان في المكاتب، فلم يرهم يعدِلون بعثمان أحدًا، فقدّمه على عليّ، وولاه الأمر قبله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدًا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.
وفي لفظ للترمذيّ، وقال: إنه صحيح غريب: "كنا نقول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ: أبو بكر، وعمر، وعثمان".
وفي آخر عند الطبرانيّ وغيره، مما هو أصرح، مع ما فيه من اطّلاعه صلى الله عليه وسلم:"كنا نقول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ: أفضل هذه الأمة بعد نبيّها أبو بكر، وعمر، وعثمان، فيَسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينكره".
قال الخطابيّ: وجه ذلك أنه أراد به الشيوخ، وذوي الأسنان منهم، الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر شاورهم فيه، وكان عليّ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث السنّ، ولم يُرِد ابن عمر الإزراء بعليّ، ولا تأخيره، ودَفْعه عن الفضيلة بعد عثمان، ففضله مشهور، لا ينكره ابن عمر، ولا غيره من الصحابة، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه. انتهى.
وإلى القول بتفضيل عثمان ذهب الشافعيّ، وأحمد، كما رواه البيهقيّ في "اعتقاده" عنهما، وحكاه الشافعيّ عن إجماع الصحابة والتابعين، وهو المشهور عن مالك، والثوريّ، وكافة أئمة الحديث، والفقه، وكثير من المتكلمين، كما قال القاضي عياض، وإليه ذهب أبو الحسن الأشعريّ، والقاضي أبو بكر
الباقلانيّ، ولكنهما اختلفا في التفضيل: أهو قطعيّ، أو ظنيّ؟ فالذي مال إليه الأشعري الأول، والذي مال إليه الباقلانيّ، واختاره إمام الحرمين في "الإرشاد" الثاني.
وقيل: بالتوقّف عن تفضيل أحدهما على الآخر، وروي عن مالك، ففي "المدونة" أنه سئل: أيُّ الناس أفضل بعد نبيّهم؟ فقال: أبو بكر، ثم عمر، ثم قال: أوَ في ذلك شك؟ قيل له: فعليّ وعثمان؟ قال: ما أدركت أحدًا ممن أقتدي به يفضّل أحدهما على صاحبه، ونرى الكفّ عن ذلك، وتبعه جماعة، منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم.
لكن قد حكى عياض أيضًا قولًا عن مالك بالرجوع عن الوقف إلى تفضيل عثمان، قال القرطبيّ: وهو الأصح -إن شاء الله- قال عياض: ويَحتمل أن يكون كفّه وكفّ من اقتدى به لِمَا كان شجر في ذلك من الاختلاف والتعصب، بل حكى المازريّ قولًا بالإمساك عن التفضيل مطلقًا، وعزاه الخطابي لقوم، وحكى هو قولًا آخر بتقديم أبي بكر من جهة الصحبة، وعليّ من جهة القرابة.
وقيل غير ذلك من الأقوال الساقطة، قال السخاويّ بعد ذكرها: وكلُّ هذا مردود بما تقدم من حكاية إجماع الصحابة، والتابعين على أفضلية أبي بكر، وعمر على سائر الصحابة، ثم عثمان، ثم عليّ، وهو المذكور في المجامع، والمشاهد، وعلى المنابر، ولبعضهم:
أَبُو بَكْرٍ عَلَى السُّنَّهْ
…
وَفَارُوقٌ فَتَى الْجَنَّهْ
وَعُثْمَانُ بِهِ الْمِنَّهْ
…
عَلِيٌّ حُبُّهُ جُنَّهْ
ولذا قال الحافظ عقب القول بتفضيل عمر؛ تمسكًا بالحديث في المنام الذي فيه في حقّ أبي بكر: "وفي نزعه ضعف" ما نصه: وهو تمسُّك واهٍ، وعقّب القول بتفضيل العباس أنه مرغوب عنه، ليس قائله من أهل السُّنَّة، بل ولا من أهل الإيمان.
وقال النوويّ عَقِب آخرها: وهذا الإطلاق غير مرضيّ، ولا مقبول.
وقد روى البيهقيّ في "الدلائل" وغيره من طريق ابن سيرين قال: ذَكَر رجال على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم عمر، فكأنهم فضّلوه على أبي بكر، فبلغ ذلك عمر،
فقال: والله وددت لو أتى عملي كله مثل عمله يومًا واحدًا من أيامه، وليلةً واحدة من لياليه، أما ليلته فذكر قصّة الغار، وأما يومه فذكر الردّة.
وثبت عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه كما في "صحيح البخاريّ" وغيره أنه قال: "خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم رجل آخر، فقال له ابنه محمد ابن الحنفية: ثم أنت يا أبة؟ فقال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"، ولأجل هذا قال أبو الأزهر: سمعت عبد الرزاق يقول: أُفَضِّل الشيخين بتفضيل عليّ إياهما على نفسه، ولو لم يفضّلهما ما فضّلتهما، كَفَى بي إزراءً أن أُحبّ عليًّا، ثم أخالف قوله.
ولا يَخدِش
(1)
في ذلك ما أخرجه الترمذيّ، وقال: إنه حسن صحيح، وصححه ابن حبان وغيره، من حديث أبي قلابة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيّ، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل".
وكذا ما أخرجه الترمذيّ أيضًا، والنسائيّ، وابن ماجه، وغيرهم، من حديث حُبْشيّ بن جُنادة رضي الله عنه مرفوعًا:"عليّ مني، وأنا من عليّ، لا يؤدي عني إلا أنا، أو عليّ".
لأن ما انفرد به الصديق رضي الله عنه أعلى، وأغلى، وأشمل، وأكمل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(2)
، والله تعالى أعلم.
ثم يلي الخلفاء الأربعةَ المذكورين في الفضل الستةُ الباقون من العشرة الذين بشّرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهم: طلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين، وقد نظمهم الحافظ مع الأربعة، فقال [من الطويل]:
لَقَدْ بَشَّرَ الْهَادِي مِنَ الصَّحْبِ زُمْرَةً
…
بِجَنَّاتِ عَدْنٍ كُلُّهُمْ فَضْلُهُ اشْتَهَرْ
سَعِيدٌ زُبَيْرٌ سَعْدٌ طَلْحَةٌ عَامِر
…
أَبُو بَكْرٍ عُثْمَانُ بْنُ عَوْفٍ علي عمر
(1)
من باب ضرب.
(2)
راجع: "فتح المغيث بشرح ألفيّة الحديث" 4/ 55 - 63.
وقال غيره [من الطويل]:
خِيَارُ عِبَادِ اللهِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ
…
هُمُ الْعَشْرُ طُرًّا بُشِّرُوا بِجِنَانِ
زُبَيْرٌ وَطَلْحَ وَابْنُ عَوْفٍ وَعَامِرٌ
…
وَسَعْدَانِ وَالصِّهْرَانِ وَالْخَتَنَانِ
(1)
وقال الإمام أبو منصور عبد القاهر التميميّ البغداديّ: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة.
ثم أهل بدر، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فالمهاجرون نيّف على ستين، والأنصار نيف وأربعون ومائتان، فقد قال صلى الله عليه وسلم لعمر في بعض من شهدها:"أليس من أهل بدر؟ لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو قد غفرت لكم، فدَمَعت عينا عمر".
قال العلماء: والترجي في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم للوقوع، ويتأيد بوقوعه بالجزم في بعض الروايات:"إن الله اطّلع على أهل بدر فقال. . ." وذكره، وفي حديث آخر:"لن يدخل النار أحد شهد بدرًا"
(2)
.
ثم أهل أُحُد، وكانوا فيما قاله عروة حين خروجهم ألفًا، فرجع عبد الله بن أُبَيّ بثلاثمائة، وبقي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعمائة، استُشهد منهم الكثير.
ثم أهل بيعة الرضوان التي نزل فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية [الفتح: 18].
وقد قال ابن عبد البرّ في أواخر خطبة "الاستيعاب": وليس في غزواته ما يَعْدِل بها؛ يعني: بدرًا في الفضل، ويَقْرُب منها إلا غزوة الحديبية، حيث كانت بيعة الرضوان، وكانوا ألفًا وأربعمائة على المعتمَد، وقال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنتم خير أهل الأرض".
قال ابن الصلاح: وفضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قد
(1)
قوله: "طلح" هو: طلحة بن عبيد الله، رُخّم للضرورة، "وسعدان" هما: سعد بن أبي وقّاص، وسعيد بن زيد، ففيه التغليب، و"الصهران" هما: عليّ وعثمان، والختنان هما: أبو بكر وعمر رضي الله عنهم.
(2)
أخرجه أحمد بإسناد على شرط مسلم، كما قال في "الفتح" 7/ 305.
ورد في القرآن إيماءً، لا نصًّا، نَعَم النصّ الصريح في تفضيل من أنفق من قبل الفتح وقاتل.
وقد اختُلِف في السابقين، فقيل كما قال الشعبيّ: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان عام الحديبية، رواه سُنيد، وعبد في "تفسيره" بسند صحيح عنه، وقال محمد بن كعب القرطبيّ، وعطاء بن يسار: أهل بدر، حكاه ابن عبد البرّ عن سنيد بسند ضعيف إليهما. وقيل: هم أهل القبلتين الذين صَلَّوا إليهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله أبو موسى الأشعريّ، ورواه سنيد وعبد أيضًا بسند صحيح عن سعيد بن المسيِّب، وابن سيرين، وقتادة، وهو عند عبد الرزاق في "تفسيره"، ومن طريقه عبدٌ، عن قتادة وحده، وكذا رُوي عن الحسن. وعن الحسن كما رواه سنيد بسند صحيح عنه أنهم الذين كان إسلامهم قبل فتح مكة.
وصحَّح بعض المتأخرين أنهم الذين آمنوا، وهاجروا قبل بيعة الرضوان، وصلح الحديبية، لقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية [الحديد: 10]، قال: والفتح هو صلح الحديبية على الأرجح، وفيها نزلت:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1]، ولذا لمّا سئل ابن تيمية عن المفاضلة بين العباس وبلال رضي الله عنهما، قال: بلال وأمثاله من السابقين الأولين أفضل من العباس، وأمثاله من التابعين لهم بإحسان؛ لأنه قيّد التابعين بشرط الإحسان.
والحاصل: أن من قاتل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو في زمانه بأمره، وأنفق شيئًا من ماله بسببه، لا يعدِله في الفضل أحد بعده كائنًا من كان.
ورَوَى ابن جرير وغيره عن محمد بن كعب القرظيّ قال: مَرّ عمر رضي الله عنه برجل يقرأ: {وَالسَّابِقُونَ. . .} الآية، فأخذ بيده، فقال: من أقرأك هذا؟ فقال: أُبيّ بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال له عمر: أأنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم، قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لقد كنتُ أرى أَنَّا رُفِعنا رِفعةً لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أُبي: تصديق هذه الآية في أول "سورة الجمعة": {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)} [الجمعة: 3]، وفي "سورة الحشر":{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10]،
وفي "الأنفال": {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} الآية [الأنفال: 75]
(1)
.
وقال النوويّ في "شرحه": قال الإمام أبو عبد الله المازريّ: اختَلَف الناس في تفضيل بعض الصحابة على بعض، فقالت طائفة: لا نفاضل، بل نُمسك عن ذلك، وقال الجمهور بالتفضيل، ثم اختلفوا، فقال أهل السُّنَّة: أفضلهم أبو بكر الصدّيق، وقال الخطابية: أفضلهم عمر بن الخطاب، وقالت الراوندية: أفضلهم العباس، وقالت الشيعة: عليّ، واتَّفَق أهل السُّنَّة على أن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، قال جمهورهم: ثم عثمان، ثم عليّ، وقال بعض أهل السُّنَّة، من أهل الكوفة: بتقديم عليّ على عثمان، والصحيح المشهور تقديم عثمان، قال أبو منصور البغداديّ: أصحابنا مجمعون على أن أفضلهم الخلفاء الأربعة، على الترتيب المذكور، ثم تمام العشرة، ثم أهل بدر، ثم أُحُد ثم بيعة الرضوان، وممن له مزيّة أهل العقبتين من الأنصار، وكذلك السابقون الأولون، وهم من صلى إلى القبلتين في قول ابن المسيِّب، وطائفةٍ، وفي قول الشعبيّ: أهل بيعة الرضوان، وفي قول عطاء، ومحمد بن كعب: أهل بدر، قال القاضي عياض: وذهبت طائفة، منهم: ابن عبد البرّ، إلى أن من تُوُفّي من الصحابة في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل ممن بقي بعده، وهذا الإطلاق غير مرضيّ، ولا مقبول.
واختَلَف العلماء في أن التفضيل المذكور قطعيّ، أم لا؟ وهل هو في الظاهر والباطن، أم في الظاهر خاصّةً؟ وممن قال بالقطع أبو الحسن الأشعريّ، قال: وهم في الفضل على ترتيبهم في الإمامة، وممن قال: بأنه اجتهاديّ ظنيّ أبو بكر الباقلّانيّ، وذكر ابن الباقلاني اختلاف العلماء في أن التفضيل، هل هو في الظاهر، أم في الظاهر والباطن جميعًا، وكذلك اختلفوا في عائشة وخديجة أيتهما أفضل؟ وفي عائشة وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين-.
وأما عثمان رضي الله عنه، فخلافته صحيحة بالإجماع، وقُتل مظلومًا، وقَتَلَتُه
(1)
"فتح المغيث بشرح ألفيّة الحديث" للسخاويّ 4/ 55 - 68.
فسقةٌ؛ لأن موجبات القتل مضبوطة، ولم يَجْرِ منه رضي الله عنه ما يقتضيه، ولم يشارك في قَتْله أحد من الصحابة، وإنما قَتَله هَمَجٌ، ورَعَاع من غوغاء القبائل، وسِفْلة الأطراف، والأرذال، تحزبوا، وقصدوه من مصر، فعجزت الصحابة الحاضرون عن دَفْعهم، فحصروه حتى قتلوه رضي الله عنه.
وأما عليّ رضي الله عنه، فخلافته صحيحة بالإجماع، وكان هو الخليفة في وقته، لا خلافة لغيره، وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء رضي الله عنه.
وأما الحروب التي جرت، فكانت لكل طائفة شبهة، اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأولون في حروبهم، وغيرها، ولم يُخْرِج شيء من ذلك أحدًا منهم عن العدالة؛ لأنهم مجتهدون، اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء، وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم.
(واعلم): أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختَلَف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغٍ، فوجب عليهم نُصرته، وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحلّ لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته، وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية، وتحيَّروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحقّ لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه لَمَا جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه، فكلهم معذورون رضي الله عنهم، ولهذا اتفق أهل الحقّ، ومن يُعتدّ به في الإجماع على قبول شهاداتهم، ورواياتهم، وكمال عدالتهم رضي الله عنهم أجمعين-. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيس، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 148 - 149.
(المسألة التاسعة): في اختلاف أهل العلم في أولهم إسلامًا:
(اعلم): أنه اختَلَف السلف من الصحابة والتابعين، فمَن بَعْدَهم في أيّ الصحابة أول إسلامًا؟ على أقوال: فقيل: أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، حُكي عن ابن عباس، والنخعيّ، وغيرهما؛ لقوله -كما في الترمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ عنه-: ألستُ أول من أسلم؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن عبسة حين سأله: من معك على هذا الأمر؟: "حُرّ، وعبدٌ"؛ يعني: أبا بكر، وبلالًا، ولقول الشعبيّ لمن سأله عن ذلك: أما سمعت قول حسان [من الطويل]:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ
…
فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرَ الْبَرِيِّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا
…
بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدَهُ
…
وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صًدَّقَ الرُّسُلَا
ويقول أبي مِحْجَن الثقفيّ [من الطويل]:
وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُلُّ مُهَاجِرٍ
…
سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرَ مُنْكَرِ
سَبَقْتَ إِلَى الإِسْلَامِ وَاللهُ شَاهِدٌ
…
وَكُنْتَ جَلِيسًا فِي الْعَرِيشِ الْمُشَهَّرِ
وقيل: بل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لقوله على المنبر: "اللهم لا أعرف عَبَدَك قبلي غير نبيك -ثلاث مرات- لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعًا"، وسنده حسن.
ولقوله مما أنشده القُضاعيّ [من الوافر]:
سَبَقْتُكُمُ إِلَى الإِسْلَامِ طُرًّا
…
صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلْمِي
ولِمَا رُوي في ذلك عن أنَس، وجابر، وخَبّاب، وخزيمة، وزيد بن أرقم، وسلمان، وابن عباس، ومعقل بن يسار، والمقداد بن الأسود، ويعلى بن مرّة، وأبي أيوب، وأبي ذرّ، وأبي رافع، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهم، في آخرين.
وقد ادّعى الحاكم الإجماع على هذا القول حيث قال في "علوم الحديث" له: لا أعلم فيه خلافًا بين أصحاب التواريخ، وإنما اختلفوا في بلوغ عليّ، وقد استُنكر منه هذا، كما قاله ابن الصلاح، وقال ابن كثير: إنه لا دليل على إطلاق الأولية فيه من وجه صحيح، هذا مع أن الحاكم قال بعد حكايته للإجماع: والصحيح عند الجماعة أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال البالغين؛ لحديث عمرو بن عبسة الماضي.
وقيل: أولهم زيد بن حارثة رضي الله عنهما، وقيل: خديجة رضي الله عنها.
وادعى بعضهم الاتفاق على ذلك، زاد الثعلبيّ: وأما الاختلاف إنما هو فيمن بعدها، وزاد ابن عبد البرّ حكاية الاتفاق على أن إسلام عليّ بعدها، قال ابن كثير: وكونها أول الناس إسلامًا هو ظاهر السياقات في أول البعثة، وقال النوويّ: إنه الصواب عند جماعة المحققين.
وجمع ابن عبد البرّ بين الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى أبي بكر وعليّ بأن الصحيح أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه، ثم رَوَى عن محمد بن كعب القُرظيّ أن عليًّا أخفى إسلامه من أبيه أبي طالب، وأظهر أبو بكر إسلامه، ولذلك اشتبه على الناس، ونحوه قول الحافظ في قول عمار: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد، وامرأتان، وأبو بكر: مراده: ممن أظهر إسلامه، وإلا فقد كان حينئذ جماعة ممن أسلم، لكنهم كانوا يُخْفُونه من أقاربهم.
وكذا قال ابن إسحاق: أول من آمن خديجة، ثم عليّ، قال: فكان أولَ ذَكَرٍ آمن، وهو ابن عشر سنين، ثم زَيْد، فكان أولَ ذَكَر أسلم بعد عليّ، ثم أبو بكر، فأظهر إسلامه، ودعا إلى الله تعالى، فأسلم بدعائه عثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة، فكأن هؤلاء النفر الثمانية أسبق الناس بالإسلام.
وقيل -فيما نقله أبو الحسن المسعوديّ عن بعضهم-: أولهم إسلامًا بلال؛ لحديث عمرو بن عبسة الماضي.
وقد جمع ابن الصلاح بين هذه الأقوال، فقال: والأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرارِ أبو بكر، ومن الصبيان عليّ، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زَيْد، ومن العبيد بلال، وهو أحسن ما قيل؛ لاجتماع الأقوال به، على أنه قد سُبق به ما عدا بلالًا، فذكر ابن قتيبة أن إسحاق بن راهويه ذكر الاختلاف في أول من أسلم، فقال: الخبر في كل ذلك صحيح، أما أول من أسلم من النساء فخديجة، وأما أول من أسلم من الرجال فأبو بكر، وأما أول من أسلم من الموالي فزيد، وأما أول من أسلم من الصبيان فعليّ.
وكذا جاء دونه وبدون زيد أيضًا عن أبي حنيفة، فروى الحاكم في ترجمة
أحمد بن عباس بن حمزة الواعظ من "تاريخ نيسابور" من طريق أبي مسهر، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز، قال: كان أبو حنيفة يقول: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان عليّ.
وكان البرهان التنوخي يقول: الأَولى أن يقال: ومن غير البالغين عليّ، وهو حسن، والله تعالى أعلم
(1)
.
(المسألة العاشرة): في آخر الصحابة رضي الله عنهم موتًا:
(اعلم): أن آخرهم موتًا على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثيّ رضي الله عنه، كما ثبت من قوله، حيث قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما على وجه الأرض رجل رآه غيري"، وبذلك جزم مصعب الزبيريّ، وأبو زكريا ابن منده، وخَلْق، بل أجمع عليه أهل الحديث، وممن جزم به مسلم بن الحجاج، وأنه مات عام مائة، وكذا قال ابن عبد البرّ، لكن قال خليفة: إنه مات بعد ستة مائة، وعن ابن الْبَرْقيّ: سنة اثنتين ومائة، وعن مبارك بن فَضاله: سنة سبع، وبه جزم غير واحد، وعن جرير بن حازم: سنة عشر، وصححه الذهبي في "الوفيات"، والحافظ في "التهذيب"، وكانت وفاته بمكة، كما قاله ابن المدينيّ، وابن حبان، وغيرهما، وقيل: بالكوفة، والأول أصح، وحينئذ فيكون الصحيح أنه آخر من مات بمكة أيضًا من الصحابة كما جزم به ابن حبان، وأبو زكريا ابن منده، بل هو آخر المائة التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر عمره، كما صح عنه بقوله:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد"، أخرجه البخاريّ، وبه تمسَّك هو وغيره للقول بموت الخضر، وقد تقدّم البحث فيه مستوفى، ولله الحمد.
[تنبيه]: قال السخاويّ رحمه الله: دعوى من ادَّعَى الصحبة، أو ادُّعِيت له بعد أبي الطفيل، وهم: جبير بن الحارث، والربيع بن محمود المارديني، ورَتَن، وسرباتك الهنديان، ومعمر، ونسطور، أو جعفر بن نسطور الروميّ، وبسر بن عبيد الله، الذين كان آخرهم رتن، فإنه فيما قيل: مات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة؛ باطلة، والكلام في شأنهم مبسوط في "لسان الميزان" لشيخنا -
(1)
راجع: "فتح المغيث" 4/ 69 - 73.
يعني: الحافظ ابن حجر-، وفي غيره من تصانيفه، بل قال: وقد سئل عن طرق المصافحة إلى المعمّر ما نصّه: لا يخلو طريق من طرق المعمر عن متوقَّف فيه، حتى المعمر نفسه، فإن من يدعي هذه الرتبة يتوقف على ثبوت العدالة، وإمكانُ ثبوت ذلك عنادٌ لا يفيد، مع ورود الشرع بنفيه، فإنه أخبر بانخرام قرنه بعد مائة سنة من يوم مقالته، فمن ادعى الصحبة بعد ذلك لزم أن يكون مخالفًا لظاهر الخبر، فلا يُقبل إلا بطريق ينقطع العذر بها، ويحتاج معها إلى تأويل الحديث المشار إليه. انتهى
(1)
.
وأما آخر الصحابة رضي الله عنهم موتًا بالنسبة إلى النواحي المختلفة، فمات قبل أبي الطفيل إما السائب بن يزيد ابن أخت النمر بالمدينة، أو سهل بن سعد الساعديّ، أو جابر بن عبد الله، كما قيل به في كل واحد من الثلاثة، فجزم به في الأول أبو بكر بن أبي داود، وفي الثاني ابن المدينيّ، والواقديّ، وإبراهيم بن المنذر الحزاميّ، وابن حبان، وابن قانع، وأبو زكريا ابن منده، وابن سعد، وادَّعَى نفي الخلاف فيه، فقال: ليس بيننا في ذلك اختلاف، بل أطلق أبو حازم أنه آخر الصحابة موتًا، وكأنه أخذه من قول سهل نفسه: لو متّ لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الظاهر كما قال العراقيّ أنه أراد أهل المدينة خاصّة.
وفي الثالث أبو نعيم، وقتادة، فيما رواه أحمد عنه، وصدّر به ابن الصلاحِ كلامه.
وآخر من مات بمكة أبو الطفيل، على الصحيح، وقيل: جابر، وقيل: ابن عمر.
وبالبصرة أنس بن مالك، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى، وقيل: عمرو بن حُريث، وقيل: أبو جُحيفة، وبالشام عبد الله بن بسر، أو أبو أمامة الباهليّ، وبدمشق واثلة بن الأسقع، وبحمص عبد الله بن بُسر، وبالجزيرة العُرس بن عَمِيرة الكِنديّ، وبفلسطين أبو أُبيّ، واسمه عبد الله، وبمصر عبد الله بن الحارث الزُّبيديّ، وباليمامة الهِرْماس بن زياد الباهليّ، وببَرْقة رُوَيفع بن ثابت
(1)
"فتح المغيث" 4/ 78 - 79.
الأنصاريّ، وقيل: مات بإفريقية، ومات بالبادية سلمة بن الأكوع، وقيل: بالمدينة، وبأصبهان النابغة الجعديّ، وبسمرقند قُثم بن العبّاس، أو الفضل أخوه، وبالطائف الحبر ابن عبّاس، وبسجستان العدّاء بن خالد العامريّ رضي الله عنهم.
وقد ذكر ذلك السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر"، فقال:
. . . . . . . . . . . . .
…
وَآخِرُ الصِّحَابِ بِاتِّفَاقِ
مَوْتًا أَبُو الطُّفَيْلِ وَهْوَ آخِرُ
…
بِمَكَّةٍ وَقِيلَ فِيهَا جَابِرُ
بِطَيْبَةَ السَّائِبُ أَوْ سَهْلٌ أَنَسْ
…
بِبَصْرَةٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى حُبِسْ
(1)
بِكُوفَةٍ وَقِيلَ عَمْرٌو أَوْ أَبُو
…
جُحَيْفَةٍ وَالشَّامُ فِيهَا صَوّبُوا
الْبَاهِلِي أَوِ ابْنَ بُسْرٍ وَلَدَى
…
مِصْرَ ابْنُ جَزْءٍ وَابْنُ الأَكْوَعِ بَدَا
وَالْحَبْرُ بِالطَّائِفِ وَالْجَعْدِيُّ
…
بِأَصْبَهَانَ وَقَضَى الْكِنْدِيُّ
الْعُرْسُ فِي جَزِيرَةٍ بِبَرْقَةِ
…
رُوَيْفِعُ الْهِرْمَاسُ بِالْيَمَامَةِ
وَقُبِضَ الْفَضْلُ بِسَمْرَقَنْدَا
…
وَفِي سِجِسْتَانَ الأَخِيرُ الْعَدَّا
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه
-)
قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": أبو بكر عبد الله بن أبي قُحافة التيميّ رضي الله عنه. قال في "الفتح": هكذا جزم بأن اسم أبي بكر عبد الله، وهو المشهور، ويقال: كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة، وكان يُسَمَّى أيضًا عَتِيقًا، واختُلِف هل هو اسم له أصليّ، أو قيل له ذلك؛ لأنه ليس في نَسَبه ما يعاب به، أو لِقِدَمه في الخير، وسَبْقه إلى الإسلام، أو قيل له ذلك؛ لِحُسنه، أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما وُلد استقبلت به البيت، فقالت: اللهم هذا عتيقك من الموت، أو لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بشّره بأن الله أعتقه من النار، وقد ورد في هذا الأخير حديثٌ عن عائشة رضي الله عنها عند الترمذيّ، وآخر عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما
(1)
بالبناء للمفعول؛ أي: مات.
عند البزار، وصححه ابن حبان، وزاد فيه:"وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان"، وعثمان اسم أبي قحافة لم يُختَلف في ذلك، كما لم يُختلف في كنية الصديق.
ولُقِّب الصديقَ؛ لِسَبْقه إلى تصديق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء.
ورَوَى الطبرانيّ من حديث عليّ رضي الله عنه: "أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق"، رجاله ثقات.
وأما نسبه: فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب، يَجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرّة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مرّة سواء.
وأم أبي بكر سَلْمَى، وتكنى أم الخير، بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت، وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه؛ لأنه انتظم إسلام أبويه، وجميع أولاده. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أبو بكر الصديق رضي الله عنه اسمه عبد الله بن عثمان بن عامر بن عَمْرو بن كعب بن سَعْد بن تيم بن مرَّة بن كعب بن لؤي، يَجتمع نسبه مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرَّة بن كعب، وسَمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصِّدِّيق، رواه عنه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وسَمَّاه بذلك لكثرة تصديقه، ويُسمَّى بعتيق، وفي تسميته بذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار، فلينظر إلى أبي بكر"؛ روته عائشة.
والثاني: أنه اسم سمَّته به أمُّه، قاله موسى بن طلحة.
والثالث: أنه سُمِّي بذلك؛ لجمال وجهه، قاله الليث بن سعد، وقال ابن قتيبة: لقّبه النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لجمال وجهه، وهو أول من أسلم من الرجال، وقد أسلم على يديه من العشرة المشهود لهم بالجنة خمسة: عثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
(1)
"الفتح" 8/ 321، كتاب "فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم" رقم (3652).
قال القرطبيّ رحمه الله: كانت وفاة أبي بكر رضي الله عنه على ما قاله ابن إسحاق: يوم الجمعة لسبع ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره: إنه مات عشية يوم الاثنين. وقيل: عشية يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة. هذا قول أكثرهم. قال ابن إسحاق: وتوفي على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثنتي عشرة ليلة من مُتَوَفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: وعشرة أيام. وقيل: وعشرين يومًا. ومكث في خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس ليال. وقيل: وثلاثة أشهر وسبع ليال
(1)
.
وقال في "الفتح": مات أبو بكر رضي الله عنه بمرض السِّلّ، على ما قاله الزبير بن بكار، وعن الواقديّ أنه اغتسل في يوم بارد، فحُمّ خمسة عشر يومًا، وقيل: بل سَمَّته اليهود في حريرة، أو غيرها، وذلك على الصحيح لثمان بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا، وقيل غير ذلك، ولم يختلفوا أنه استَكْمَل سنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال الإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزيّ: جملة ما حُفِظ له من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة واثنان وأربعون حديثًا، أُخرج له منها في "الصحيحين" ثمانية عشر حديثًا.
قال القرطبيّ: ومن المعلوم القطعيّ، واليقين الضروريّ أنه حَفِظ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يحفظ أحدٌ من الصحابة، وحصل له من العلم ما لم يحصل لأحد منهم؛ لأنَّه كان الخليل المباطن، والصَّفي الملازم، لم يفارقه سفرًا، ولا حضرًا، ولا ليلًا، ولا نهارًا، ولا شدَّة، ولا رخاءً؛ وإنَّما لم يتفرغ للحديث، ولا للرواية؛ لأنَّه اشتَغَل بالأهم، فالأهم؛ ولأن غيره قد قام عنه من الرواية بالمهمّ.
وإذا تقرر ذلك فاعلم: أن الفضائل جمع فضيلة؛ كرغائب جمع رغيبة، وكبائر جمع كبيرة، وهو كثير، وأصلها الخصلة الجميلة التي بها يحصل
(1)
"المفهم" 6/ 250.
(2)
"الفتح" 8/ 371، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3677).
للإنسان شرف، وعلوّ منزلة وقَدْر، ثم ذلك الشَّرف، وذلك الفضل إما عند الخلق، وإما عند الخالق، فأمَّا الأول: فلا يُلتفت إليه إن لم يُوصِل إلى الشرف المعتبَر عند الخالق، فإذًا: الشرف المعتبر، والفضل المطلوب على التحقيق، إنما هو الذي هو شَرَف عند الله تعالى.
وإذا تقرر هذا؛ فإذا قلنا: إن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم فاضل، فمعناه: أن له منزلةً شريفةً عند الله تعالى، وهذا لا يُتوصل إليه بالعقل قطعًا، فلا بدَّ أن يرجع ذلك إلى النقل، والنقل إنما يُتَلَقَّى من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أخبرنا الرَّسول صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك تلقيناه بالقبول؛ فإنْ كان قطعيًّا حصل لنا العلم بذلك، وإن لم يكن قطعيًّا كان ذلك كسبيل المجتهَدات على ما تقدَّم، وعلى ما ذكرناه في الأصول، وإذا لم يكن لنا طريق إلى معرفة ذلك إلا بالخبر، فلا يَقطع أحد بأن من صدرت منه أفعال دينية، وخصال محمودة، بأن ذلك قد بلَّغه عند الله منزلة الفضل والشرف، فإنَّ ذلك أمر غيب، والأعمال بالخواتيم، والخاتمة مجهولة، والوقوف على المجهول مجهول، لكنَّا إذا رأينا مَن أعانه الله على الخير، ويسَّر له أسباب الخير رجونا له حصول تلك المنزلة عند الله تعالى؛ تمسُّكًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله في الخير، ووفّقه لعمل صالح"
(1)
، وبما جاء في الشريعة من ذلك، ومن كان كذلك: فالظَّنُّ أنه لا يخيب، ولا يقطع على المغيب.
وإذا تقرر هذا فالمقطوع بفضله، وأفضليته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل السُّنَّة -وهو الذي يُقطع به من الكتاب والسُّنَّة- أبو بكر الصِّدِّيق، ثم عمر الفاروق رضي الله عنهما، ولم يَختلف في ذلك أحد من أئمة السَّلف، ولا الخلف، ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع، ولا أهل البدع، فإنهم بين مُكفَّر تُضرب رقبته، وبين مبتدع مُفسَّق لا تُقبل كلمته، وتُدحَض حُجَّته.
وقد اختَلَف أئمة أهل السُّنَّة في عليّ وعثمان رضي الله عنهما؛ فالجمهور منهم على
(1)
أخرجه الترمذيّ، وصححه، وصححه أيضًا ابن حبّان، ولفظه:"إذا أراد الله بعبد خيرًا يستعمله"، قيل:"كيف يستعمله يا رسول الله؟ " قال: "يوفقه لعمل صالح قبل الموت".
تقديم عثمان، وقد روي عن مالك أنه توقف في ذلك، وروي عنه أنه رجع إلى ما عليه الجمهور، وهو الأصح إن شاء الله، والمسألة اجتهادية لا قطعية، ومستنَدها الكلِّي أن هؤلاء الأربعة: هم الذين اختارهم الله تعالى لخلافة نبيِّه"، ولإقامة دينه، فمراتبهم عنده بحسب ترتيبهم في الخلافة، إلى ما ينضافُ إليه مما يشهد لكل واحدٍ منهم من شهادات النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك تأصيلًا وتفصيلًا، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، وهذا الباب بحر لا يُدرك قعره، ولا يُنزف غمره، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق للهداية. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6149]
(2381) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا، وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَبَّانُ بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، رُبّما وَهِمَ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ) عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ أبو بكر بن أبي قحافة الصدّيق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
(1)
"المفهم" 6/ 236 - 239.
والباقون كلهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفناه غير مرّة، وأنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ، قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رُؤُوسِنَا) وقوله: (وَنَحْنُ فِي الْغَارِ) جملة في محلّ نَصْب على الحال، والغار: ثُقْب في الجبل، والمراد هنا: غار ثور، وفي رواية للبخاريّ:"فرفعت رأسي، فإذا أنا بأقدام القوم".
[تنبيه]: قصّة الغار أنه لمّا رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شرّ شاغل، لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيَّتوه، ورصدوه على باب منزلة طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يُعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابًا ونهض، فلما أصبحوا خرج عليهم عليّ رضي الله عنه، وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا.
وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط، ويقال: ابن أُريقط، وكان كافرًا لكنهما وَثِقَا به، وكان دليلًا بالطرق، فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خَوْخَة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جُمَح، ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فُهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلًا فيأخذا منها حاجتهما، ثم نهضا، فدخلا الغار.
وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فُهيرة بالغنم، فيعفي آثارهما.
فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال: هنا انقطع الأثر، فنظروا، فإذا بالعنكبوت قد نَسَج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قَتْله، فلما رأوا نَسْج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبيّ صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم.
الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة.
وقد رُوي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما أن الله عز وجل أمر حمامة، فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردّهم ذلك عن الغار
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: كان من قصة الغار أن المشركين اجتمعوا لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّتوه في داره، فأمَر عليًّا رضي الله عنه، فرقد على فراشه، وقال له:"إنهم لن يضروك"، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على بابه، فأخذ الله أبصارهم عنه، ولم يَرَوْه، ووضع على رأس كل واحد منهم ترابًا، وانصرف عنهم خارجًا إلى غار ثور، فاختفى فيه، فأقاموا كذلك حتى أخبرهم مُخْبِرٌ أنه قد خرج عليهم، وإنه وضع على رؤوسهم التراب، فمدُّوا أيديهم إلى رؤوسهم، فوجدوا التراب، فدخلوا الدَّار، فوجدوا عليًّا على الفراش، فلم يتعرضوا له، ثم خرجوا في كل وجه يطلبون النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويقتصّون أثره بقائف كان معروفًا عندهم، إلى أن وصلوا إلى الغار، فوجدوه قد نسجت عليه العنكبوت من حينه، وفَرَخت فيه الحمام بقدرة الله تعالى، فلما رأوا ذلك قالوا: إن هذا الغار ما دخله أحدٌ، ثم إنهم صَعِدوا إلى أعلى الغار، فحينئذ رأى أبو بكر رضي الله عنه أقدامهم، فقال بلسان مقاله مفصحًا عن ضَعف حاله: لو نظر أحدهم إلى قدميه أبصرنا، فأجابه من تدلَّى، فدنا بما يُذهب عنه الخوف والضَّنى، بقوله:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]؛ أي: بالحفظ والسلامة، والصَّون والكرامة، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام في الغار ثلاثة حتى تجهَّز، ومنه هاجر إلى المدينة، وكلّ ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم ثقة بوعد الله تعالى، وتوكُّل عليه، ودليل على خصوصيَّة أبي بكر من الخلَّة، وملازمة الصُّحبة في أوقات
(1)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 145.
الشدة بما لم يُسْبَق إليه. انتهى
(1)
.
وروى البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الديل هاديًا خِرِّيتًا
(2)
، وهو على دِين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا، وارتحل معهما عامر بن فُهيرة، والدليل الدِّيليّ، فأخذ بهم طريق الساحل.
قال أبو بكر: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ) فيه مجيء "لو" الشرطية للاستقبال، خلافًا للأكثر، واستَدَلّ من جوّزه بمجيء الفعل المضارع بعدها، كقوله تعالى:{لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} الآية [الحجرات: 7]، وعلى هذا فيكون قاله حالة وقوفهم على الغار، وعلى القول الأكثر يكون قاله بعد مضيّهم؛ شكرًا لله تعالى على صيانتهما منهم.
وقوله أيضًا: (لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ)، وفي رواية للبخاريّ:"لو أن بعضهم طأطأ بصره"، ووقع في رواية بلفظ:"رفع قدميه"، ووقع مثله في حديث حُبْشيّ بن جُنادة، أخرجه ابن عساكر، وهي مشكلة، فإن ظاهرها أن باب الغار استتر بأقدامهم، وليس كذلك، إلا أن يُحمل على أن المراد أنه استتر بثيابهم.
ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال: وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع أبو بكر أصواتهم، فأقبل عليه الهمّ والخوف، فعند ذلك يقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه السكينة، وفي ذلك يقول الله عز وجل:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية [التوبة: 40]، وهذا يقوّي أنه قال ما في حديث الباب حينئذ، ولذلك أجابه بقوله:{لَا تَحْزَنْ} .
وفيه أن باب الغار كان منخفضًا، إلا أنه كان ضيقًا، فقد جاء في "السِّيَر"
(1)
"المفهم" 6/ 239 - 240.
(2)
بكسر الخاء، وتشديد الراء؛ أي: ماهرًا.
للواقديّ أن رجلًا كشف عن فرجه، وجلس يبول، فقال أبو بكر: قد رآنا يا رسول الله، قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا")، وفي رواية:"فقال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما"، وقوله:"اثنان" خبر مبتدأ محذوف، تقديره: نحن اثنان، والله تعالى ثالثنا علمًا، ونصرًا، وعونًا، فنحن منصورون محفوظون من كيدهم، فلا تخف، ولا تحزن.
وقال في "الفتح"
(2)
: قوله: "الله ثالثهما"؛ أي: معاونهما، وناصرهما، وإلا فهو مع كل اثنين بعلمه، كما قال تعالى:{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآية [المجادلة: 7].
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الله ثالثهما" معناه: بالنصر، والمعونة، والحفظ، والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)} [النحل: 128] والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: اشتَهَر أن حديث الباب تفرَّد به همّام، عن ثابت، وممن صرّح بذلك الترمذيّ، والبزار، وقد أخرجه ابن شاهين في: الأفراد من طريق جعفر بن سليمان، عن ثابت بمتابعة همام، وقد قدّمت له شاهدًا من حديث حُبْشي بن جُنادة، ووجدت له آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الحاكم في "الإكليل". انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6149](2381)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3653) و"هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم"(3922) و"التفسير"(4663)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3096)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 7)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 4)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 30)،
(1)
"الفتح" 8/ 325.
(2)
"الفتح" 8/ 715.
و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 173 - 174)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6278 و 6869)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(16729)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(66)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 96 و 193)، و (أبو بكر المروزيّ) في "مسند أبي بكر"(72)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(2/ 480)، و (البغويّ) في "تفسيره"(2/ 293)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه بيانَ عظيمِ توكّل النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى في هذا المقام.
2 -
(ومنها): أن فيه منقبةً ظاهرةً لأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: وفيه فضيلةٌ لأبي بكر رضي الله عنه، وهي من أجلّ مناقبه، والفضيلةُ من أوجه: منها هذا اللفظ، ومنها بَذْله نَفْسه، ومفارقته أهله، وماله، ورياسته في طاعة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم وملازمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعاداة الناس فيه، ومنها: جعله نفسه وقايةً عنه، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ المفسّر رحمه الله: هذه الآية تضمَّنت فضائل الصدّيق رضي الله عنه، روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هو الصدّيق، فحقّق الله تعالى قوله له بكلامه، ووَصْف الصحبة في كتابه.
قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذّاب مبتدع، ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر؛ لأنه ردّ نصَّ القرآن. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): بيان قوّة توكّل النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه، وشدّة وثوقه بوعده الذي بيّنه بقوله:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقوله:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51].
4 -
(ومنها): شدة حرص أبي بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد فزع في
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 150.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 146.
ذلك المحلّ، وأصابه الحزن والخوف، وما ذلك إلا لِأَجْله صلى الله عليه وسلم، فإنه إن أصابه شيء من الكفّار انقطعت الدعوة إلى الله، ولم يَقُمْ بعده غيره.
قال ابن العربيّ رحمه الله: قالت الإمامية قبَّحها الله: حُزن أبي بكر في الغار دليل على جهله، ونقصه، وضَعف قلبه، وخُرقه
(1)
.
وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم
ينقص إبراهيم عليه السلام حين قال عنه: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ} [هود: 70]، ولم ينقص موسى قوله:{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ} الآية [طه: 67، 68]، وفي لوط:{وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} الآية [العنكبوت: 33].
فهؤلاء العظماء -صلوات الله عليهم- قد وُجدت عندهم التقية نصًّا، ولم يكن ذلك طعنًا عليهم، ووصفًا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر.
ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.
جواب ثان: إن حزن الصديق إنما كان خوفًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصومًا، وإنما نزل عليه:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية [المائدة: 67] بالمدينة. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): بيان جواز الفرار بالدين خوفًا من العدو، والاستخفاء في الْغِيران وغيرها، ولا يُلقي الإنسان بيده إلى العدوّ؛ توكلًا على الله تعالى، واستسلامًا له، ولو شاء الله لعصمه صلى الله عليه وسلم مع كونه معهم، ولكنها سُنَّة الله في الأنبياء وغيرهم، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلًا.
قال القرطبيّ: وهذا أدلّ دليل على فساد من منع ذلك، وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصًا في توكله، ولم يؤمن بالقَدَر، وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية.
6 -
(ومنها): ما قال المهلّب: في قصّة الهجرة من الفقه ائتمان أهل
(1)
الخُرق بالضمّ: الْحُمق، وضعف الرأي.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 146 - 147.
الشرك على السرّ، والمال إذا عُلم منهم وفاء ومروءة، كما ائتَمَن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا
المشرك على سرّه في الخروج من مكة، وعلى الناقتين.
وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق.
وقال البخاري في "صحيحه": "باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام"، قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته: "أو إذا لم يوجد أهل الإسلام" من أجل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قَوِي الإسلام، واستُغني عنهم أجلاهم عمر.
وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها.
وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما
(1)
.
[فائدة]: أخرج الترمذيّ رحمه الله من حديث نُبَيط بن شَرِيط عن سالم بن عبيد -له صحبة- قال: أُغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . الحديث، وفيه: واجتمع المهاجرون يتشاورون، فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار نُدخلهم معنا في هذا الأمر، فقالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ؛ من "هما"؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة
(2)
.
[فائدة أخرى]: قال ابن العربيّ رحمه الله: قال لنا أبو الفضائل العدل: قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم: قال موسى صلى الله عليه وسلم: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62]، وقال في محمد صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} لا جرم لمّا كان الله مع موسى وحده ارتدّ أصحابه بعده، فرجع من عند ربه، ووجدهم يعبدون العجل، ولمّا قال محمد صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بقي أبو بكر مهتديًا موحِّدًا عالمًا جازمًا قائمًا بالأمر، ولم يتطرق إليه اختلال. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 146.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 147.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 8/ 147.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6150]
(2382) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَبَكَى، فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِه، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ، وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أخُوَّةُ الإِسْلَامِ، لَا تُبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ، إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ) بن بَرْمَك الْبَرْمكيّ، أبو محمد نشأ بالبصرة، ثم سكن بغداد، ثقةٌ [11](م د) تقدم في "قتل الحيات" 4/ 5840.
2 -
(مَعْنُ) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القَزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو النَّضْرِ) سالم بن أبي أمية، مولى عُمَر بن عُبيد الله التيميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يرسل [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 551.
5 -
(عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ) -بنون مصغرًا- أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ قليل الحديث [3](ت 105) وله خمس وسبعون سنةً، ويقال أكثر من ذلك (ع) تقدم في "الطلاق" 5/ 3692.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنَان الْخُدريّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، كما أسلفته آنفًا، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية التالية:"عن عبيد بن حُنين، وبُسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدريّ"، ووقع في رواية البخاريّ في "الصلاة":"عن محمد بن سنان، عن فُليح، عن أبي النضر، عن عُبيد بن حُنين، عن بُسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدريّ"، قال في "الفتح": هكذا في أكثر الروايات، وسقط في رواية الأصيليّ، عن أبي زيد ذِكر بسر بن سعيد، فصار:"عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد"، وهو صحيح في نفس الأمر، لكن محمد بن سنان، إنما حدّث به كالذي وقع في بقية الروايات، فقد نقل ابن السكن عن الْفِرَبْريّ، عن البخاريّ، أنه قال: هكذا حدّث به محمد بن سنان، وهو خطأ، وإنما هو:"عن عبيد بن حنين، وعن بسر بن سعيد"؛ يعني: بواو العطف، فعلى هذا يكون أبو النضر سمعه من شيخين، حدّثه كل منهما به عن أبي سعيد، وقد رواه مسلم كذلك، عن سعيد بن منصور، عن فليح، عن أبي النضر، عن عبيد وبسر جميعًا عن أبي سعيد، وتابعه يونس بن محمد، عن فليح، أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة عنه، ورواه أبو عامر الْعَقَديّ، عن فليح، عن أبي النضر، عن بسر وحده، أخرجه البخاريّ في "مناقب أبي بكر"، فكأنّ فليحًا كان يجمعهما مرّةً، ويقتصر مرّة على أحدهما، وقد رواه مالك عن أبي النضر، عن عبيد وحده، عن أبي سعيد، أخرجه البخاريّ أيضًا في "الهجرة"، وهذا مما يقوّي أن الحديث عند أبي النضر عن شيخين، ولم يبق إلا أن محمد بن سنان أخطأ في حذف الواو العاطفة، مع احتمال أن يكون الخطأ من فليح، حال تحديثه له به، ويؤيد هذا الاحتمال أن المعافَى بن سليمان الحرانيّ رواه عن فليح؛ كرواية محمد بن سنان، وقد نبَّه البخاريّ على أن حذف الواو خطأ، فلم يبق للاعتراض عليه سبيل، قال الدارقطنيّ: رواية من رواه عن أبي النضر، عن عبيد، عن بسر غير محفوظة. انتهى
(1)
.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ) زاد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
(1)
"الفتح" 2/ 215 - 216، كتاب "الصلاة" رقم (466).
"في مرضه الذي مات فيه"، وفي حديث جندب رضي الله عنه:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال"، وفي حديث أُبَيّ بن كعب:"إن أحدث عهدي بنبيّكم قبل وفاته بثلاث. . ." فذكر الحديث في خطبة أبي بكر، وهو طَرَف من هذا، وكأن أبا بكر رضي الله عنه فَهِم الرمز الذي أشار به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قرينة ذِكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَبْدٌ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذا عبدٌ، أو مبتدأ حُذف خبره؛ أي: هنا عبد، وجملة (خَيَّرَهُ اللهُ) صفة لـ "عبدٌ"، وهو من التخيير، يقال: خيّرته بين الشيئين: فوّضت إليه الاختيار، فاختار أحدهما، وتخيّره، قاله الفيّوميّ
(2)
. (بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ) بضمّ أوله، من الإيتاء؛ كالإعطاء وزنًا ومعنًى، (زَهْرَةَ الدُّنْيَا) بفتح الزاي، مثل تَمْرة: متاعها، وزينتها
(3)
، وقال النوويّ رحمه الله: المراد بزَهْرة الدنيا: نعيمها، وأعراضها، وحدودها، وشبّهها بزهرة الرَّوْض.
(وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ)؛ أي: عند الله تعالى، وهو نعيم الجنّة، وفي رواية مالك:"بين أن يؤتيه من زَهْرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده"، (فَاخْتَارَ) ذلك العبد الْمُخَيَّر (مَا عِنْدَهُ")"ما" اسم موصول مفعول "اختار"، ولفظ البخاريّ:"إن الله خيّر عبدًا بين الدنيا، وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله".
(فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَبَكَى) قال النوويّ رضي الله عنه: هكذا هو في جميع النسخ: "فبَكَى أبو بكر وبكى"؛ معناه: بكى كثيرًا، ثم بكى.
زاد في رواية البخاريّ: "فَعَجِبْنا لبكائه"، وفي رواية:"فقلت في نفسي"، وفي رواية:"فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد، وهو يقول: فديناك"، ويُجمع بأن أبا سعيد حَدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره بذلك، فنَقَلَ جميع ذلك
(4)
.
(فَقَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا، وَأُمَّهَاتِنَا) قال النوويّ: فيه دليل لجواز التفدية، وقد سبق بيانه مرّات، وكان أبو بكر رضي الله عنه عَلِم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو العبد المخيَّر، فبكى
(1)
"الفتح" 8/ 327، كتاب "المناقب" رقم (3654).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 185.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 258.
(4)
"الفتح" 8/ 327.
حُزْنًا على فراقه، وانقطاع الوحي وغيره من الخير دائمًا، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:"إن عبدًا"، وأبهمه لِيَنْظُر فَهْم أهل المعرفة، ونباهة أصحاب الحذق.
(قَالَ) أبو سعيد (فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمُخَيَّرَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ) في رواية مالك: "وكان أبو بكر هو أعلمنا به"؛ أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، زاد في رواية محمد بن سنان:"فقال: يا أبا بكر لا تبك".
(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ، وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ) قال العلماء: معناه: أكثرهم جُودًا، وسماحةً لنا بنفسه، وماله، وليس هو من الْمَنّ الذي هو الاعتداد بالصنيعة؛ لأنه أذى مبطل للثواب، ولأن المنّة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك، وفي غيره، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق، ما لو كان لغيره نظيرها، لامْتَنَّ بها، يؤيده قوله في رواية ابن عباس:"ليس أحد أمنّ عليّ"، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": وفي رواية محمد بن سِنان: "إن مِن أمنّ الناس عليّ" بزيادة "مِن"، وقال فيها:"أبا بكر" بالنصب للأكثر، ولبعضهم:"أبو بكر" بالرفع، وقد قيل: إن الرفع خطأٌ، والصواب النصب؛ لأنه اسم "إنّ"، ووُجِّه الرفع بتقدير ضمير الشأن؛ أي: إنه، والجار والمجرور بعده خبر مقدّم، و"أبو بكر" مبتدأ مؤخّر، أو على أن مجموع الكنية اسم، فلا يُعرب ما وقع فيها من الأداة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الوجه غريبٌ، فليُتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: أو "إنّ" بمعنى "نعم"، أو أن "مِنْ" زائدة على رأي الكسائيّ، وقال ابن بَرّيّ: يجوز الرفع إذا جُعلت "مِنْ" صفة لشيء محذوف، تقديره: إن رجلًا، أو إنسانًا، من أمنّ الناس، فيكون اسم "إنّ" محذوفًا، والجار والمجرور في موضع الصفة، وقوله:"أبو بكر" الخبر.
وقوله: "أمنّ" أفعل تفضيل من المنّ، بمعنى العطاء، والبذل، بمعنى أنه
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 150.
(2)
"المفهم" 6/ 241.
أبذل الناس لنفسه وماله، لا من المنّة التي تفسد الصنيعة، وأغرب الداوديّ فشَرَحه على أنه من المنّة، وقال: تقديره: لو كان يتوجه لأحد الامتنان على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لتوجه له، والأول أَولى.
قال: وقوله: "أمنّ الناس" في رواية الباب يوافق حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "ليس أحدٌ من الناس أمنّ عليّ في نفسه وماله من أبي بكر"، وأما الرواية التي فيها "مِنْ" فإن قلنا: زائدة فلا تخالُف، وإلا فتُحْمل على أن المراد أن لغيره مشاركةً ما في الأفضلية، إلا أنه مقدّم في ذلك بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر.
ويؤيده ما رواه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "ما لأحد عندنا يَدٌ إلا كافأناه عليها، ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"، فإن ذلك يدلّ على ثبوت يد لغيره، إلا أن لأبي بكر رجحانًا.
فالحاصل: أنه حيث أَطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك، وحيث لم يُطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك.
ووقع بيان ذلك في حديث آخر لابن عباس رضي الله عنهما رفعه، نحو حديث الترمذيّ، وزاد:"منه أعتق بلالًا، ومنه هاجر بنبيّه"، أخرجه الطبرانيّ.
وعنه في طريق أخرى: "ما أحد أعظم عندي يدًا من أبي بكر، واساني بنفسه، وماله، وأنكحني ابنته"، أخرجه الطبراني.
وفي حديث مالك بن دينار، عن أنس رضي الله عنه رفعه:"إن أعظم الناس علينا مَنًّا أبو بكر، زوّجني ابنته، وواساني بنفسه، وإن خير المسلمين مالًا أبو بكر، أعتق منه بلالًا، وحملنى إلى دار الهجرة"، أخرجه ابن عساكر.
وأخرج من رواية ابن حبان التيميّ عن أبيه، عن عليّ نحوه.
وجاء عن عائشة رضي الله عنها مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر، فروى ابن حبان من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"أنفق أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم".
وروى الزبير بن بكار، عن عروة، عن عائشة:"أنه لما مات ما ترك دينارًا ولا درهمًا".
(وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) قال في "العمدة": معنى
الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه متأهل لأن يتخذه خليلًا لولا المانع المذكور، وهو أنه امتلأ قلبه بما تخلله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته حتى كأنها مُزِجت أجزاءُ قلبه بذلك، فلم يتسع قلبه لخليل آخر، فعلى هذا لا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلق القلب به فهو حبيب، ولذلك أثبت لأبي بكر، وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحب الناس إليه، ونفى عنهما الخلة التي هي فوق المحبة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "متخذًا": اسم فاعل من اتَّخذ، وهو فعل يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما بحرف الجر، فيكون بمعنى: اختار، واصطفي، كما قال تعالى:{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} الآية [الأعراف: 148]، وقد سكت هنا عن أحد مفعوليها، وهو الذي دخل عليه حرف الجر، فكأنه قال: لو كنت متخذًا من النَّاس خليلًا لاتخذت منهم أبا بكر، ولِبَسْط الكلام في ذلك علم النحو، وحاصله: أن "اتَّخذ" استُعمِلت على ثلاثة أنحاء:
أحدها: تتعدى لمفعولين بنفسها.
وثانيها: تتعدى لأحدهما بحرف الجر.
وثالثها: تتعدى لمفعول واحد، وكل ذلك موجود في القرآن.
ومعنى هذا الحديث: أن أبا بكر رضي الله عنه كان قد تأهل لأن يتخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم خليلًا، لولا المانع الذي منع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أنه لما امتلأ قلبه بما تخلّله من معرفة الله تعالى، ومحبته، ومراقبته، حتى كأنه مُزجت أجزاء قلبه بذلك، لم يتسع قلبه لخليل آخر يكون كذلك فيه، وعلى هذا فلا يكون الخليل إلا واحدًا، ومن لم ينته إلى ذلك ممن تعلَّق القلب به فهو حبيب؛ ولذلك أثبت لأبي بكر وعائشة رضي الله عنهما أنهما أحبّ الناس إليه، ونفى عنهما الخلَّة، وعلى هذا فالخلَّة فوق المحبة. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض: قيل: أصل الْخُلّة: الافتقار والانقطاع، فخليل الله: المنقطع إليه، وقيل: لِقَصْره حاجته على الله تعالى، وقيل: الخلة الاختصاص،
(1)
"عمدة القاري" 4/ 245.
(2)
"المفهم" 6/ 241 - 242.
وقيل: الاصطفاء، وسُمِّي إبراهيم عليه السلام خليلًا؛ لأنه والى في الله تعالى، وعادى فيه، وقيل: سُمّي به؛ لأنه تخلّق بخلال حسنة، وأخلاق كريمة، وخُلّة الله تعالى له نَصْره، وجَعْله إمامًا لمن بعده.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وخُلّة الله. . . إلخ" هذا مذهب المأوّلة؛ لأنهم لا يثبتون صفة الخلّة لله تعالى، ويفسّرونها بلازمها، وهو النصر ونحوه، كما هو مذهبهم في صفة المحبّة، ونحوها، وهذا مخالف لمذهب السلف؛ فإنهم يثبتون صفة الخلّة، والمحبّة، ونحوهما على معناها الحقيقيّ على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، دون تشبيه، ولا تعطيل، ولا تحريف، فاسلك سبيلهم، فإنه الحقّ، والصراط المستقيم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وقال ابن فورك: الخلة صفاء المودّة بتخلل الأسرار، وقيل: أصلها المحبة، ومعناه الإسعاف والألطاف، وقيل: الخليل من لا يتسع قلبه لغير خليله.
ومعنى الحديث أن حب الله تعالى لم يُبق في قلبه موضعًا لغيره.
قال القاضي: وجاء في أحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ألا وأنا حبيب الله"، فاختلف المتكلمون هل المحبة أرفع من الخلة، أم الخلة أرفع، أم هما سواء؟ فقالت طائفة: هما بمعنًى، فلا يكون الحبيب إلا خليلًا، ولا يكون الخليل إلا حبيبًا، وقيل: الحبيب أرفع؛ لأنها صفة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وقيل: الخليل أرفع، وقد ثبتت خلة نبينا صلى الله عليه وسلم لله تعالى بهذا الحديث، ونفى أن يكون له خليل غيره، وأثبت محبته لخديجة، وعائشة، وأبيها، وأسامة، وأبيه، وفاطمة، وابنيها، وغيرهم، ومحبة الله تعالى لعبده تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه، وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها، وأما غايتها فكشف الحجب عن قلبه، حتى يراه ببصيرته، فيكون كما قال في الحديث الصحيح:"فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره. . ." إلى آخره. انتهى كلام القاضي
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ومحبة الله. . . إلخ" قد أسلفت لك آنفًا
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 383 - 385.
أن هذا تفسير باللام، ونفي لصفة المحبّة والخلّة، وهذا غير صحيح، فإن الصواب إثبات الصفتين لله تعالى على ظاهرهما، ثم تأتي اللوازم، فتنبّه لهذا، والله تعالى أعلم.
قال: وأما قول أبي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم، فلا يخالف هذا؛ لأن الصحابيّ يحسن في حقه الانقطاع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لو كنت متخذًا خليلًا" زاد في حديث أبي سعيد: "غير ربي"، وفي حديث ابن مسعود عند مسلم:"وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا"، وقد تواردت هذه الأحاديث على نفي الخلة من النبيّ صلى الله عليه وسلم لأحد من الناس.
وأما ما رُوي عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه قال: "إن أحدث عهدي بنبيّكم قبل موته بخمس، دخلت عليه، وهو يقول: إنه لم يكن نبيّ إلا وقد اتخذ من أمته خليلًا، وإن خليلي أبو بكر، ألا وإن الله اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم خليلًا"، أخرجه أبو الحسن الحربي في "فوائده"، وهذا يعارضه ما في رواية جندب عند مسلم، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس:"إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"، فإن ثبت حديث أُبَيّ أمكن أن يُجمع بينهما بأنه لمّا برئ من ذلك تواضعًا لربه، وإعظامًا له، أَذِن الله تعالى له فيه من ذلك اليوم، لِمَا رأى من تشوفه إليه، وإكرامًا لأبي بكر بذلك، فلا يتنافى الخبران، أشار إلى ذلك المحبّ الطبريّ.
وقد رُوي من حديث أبي أمامة نحو حديث أُبَيّ بن كعب دون التقييد بالخمس، أخرجه الواحديّ في "تفسيره"، والخبران واهيان، والله أعلم.
قال: واختُلف في المودّة والْخُلّة، والمحبة، والصداقة، هل هي مترادفة، أو مختلفة؟ قال أهل اللغة: الخلة أرفع رتبةً، وهو الذي يُشعر به حديث الباب، وكذا قوله عليه السلام:"لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي"، فإنه يُشعر بأنه لم يكن له خليل من بني آدم، وقد ثبتت محبته لجماعة من أصحابه؛ كأبي بكر،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 151.
وفاطمة، وعائشة، والحسنين، وغيرهم، ولا يعكر على هذا اتصاف إبراهيم عليه السلام بالخلة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بالمحبة، فتكون المحبة أرفع رتبة من الخلة؛ لأنه يجاب عن ذلك بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد ثبت له الأمران معًا، فيكون رجحانه من الجهتين، والله أعلم.
وقال الزمخشريّ: الخليل هو الذي يوافقك في خلالك، ويسايرك في طريقك، أو الذي يسدّ خَلَلَك، وتسد خلله، أو يداخلك خلال منزلك. انتهى
(1)
.
وكأنه جوّز أن يكون اشتقاقه مما ذُكِر، وقيل: أصل الخلة انقطاع الخليل إلى خليله، وقيل: الخليل من يتخلله سرك، وقيل: من لا يسع قلبه غيرك، وقيل: أصل الخلة الاستصفاء، وقيل: المختص بالمودة، وقيل: اشتقاق الخليل من الْخَلّة -بفتح الخاء- وهي الحاجة، فعلى هذا فهو المحتاج إلى من يخاله، وهذا كله بالنسبة إلى الإنسان، أما خلة الله للعبد فبمعنى نَصْره له، ومعاونته. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت لك أن تفسير الخلّة بمعنى النصر خلاف الصواب، وخلاف ما عليه السلف، فالحقّ أن الخلّة صفة ثابتة لله حقيقة على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فتنبّه، فإن هذا من مزالّ الأقدام، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ)"أُخُوّة" مبتدأ خبره محذوف؛ أي: حاصلة، والأَولى تقديره بما يأتي في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما؛ أي: أفضل.
وفي الرواية الآتية: "ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبكم خليلًا"، وفي رواية البخاريّ:"ولكن أخوة الإسلام، ومودته".
ووقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: "ولكن أخوّة الإسلام أفضل"، وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام، عن خالد الحذاء، بلفظ:"ولكن أخوة الإيمان والإسلام أفضل"، وأخرجه أبو يعلى من طريق يعلى بن حكيم، عن عكرمة، بلفظ:"ولكن خُلّة الإسلام أفضل".
(1)
"الفتح" 8/ 341 - 342، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3656).
قال الحافظ: وفيه إشكال، فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام؛ لأنها تستلزم ذلك وزيادةً، فقيل: المراد أن مودة الإسلام مع النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة؛ لأن رجحان أبي بكر عُرف من غير ذلك، وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نَصْر الدين، وإعلاء كلمة الحقّ، وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أعظمه، وأكثره، والله أعلم.
ووقع في بعض الروايات: "ولكن خُوّة الإسلام" بغير ألف، فقال ابن بطال
(1)
: لا أعرف معنى هذه الكلمة، ولم أجد خوّة بمعنى خَلّة في كلام العرب، وقد وجدت في بعض الروايات:"ولكن خُلّة الإسلام"، وهو الصواب.
وقال ابن التين: لعل الألف سقطت من الرواية، فإنها ثابتة في سائر الروايات، ووجّهه ابن مالك بأنه نُقلت حركة الهمزة إلى النون، فحُذفت الألف، وجَوّز مع حذفها ضمّ نون "لكن"، وسكونها، قال: ولا يجوز مع إثبات الهمزة إلا سكون النون فقط. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: نَقَل ابن التين عن بعضهم أن معنى قوله: "ولو كنت متخذًا خليلًا": لو كنت أَخُصّ أحدًا بشيء من أمر الدِّين، لَخَصَصْت أبا بكر، قال: وفيه دلالة على كذب الشيعة في دعواهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان خَصّ عليًّا بأشياء من القرآن، وأمور الدين، لم يخص بها غيره.
قال الحافظ: والاستدلال بذلك متوقف على صحة التأويل المذكور، وما أبعدَها. انتهى
(3)
.
(لَا تُبْقَيَنَّ) بضمّ أوله، وبنون التوكيد المشدّدة، مبنيًّا للمفعول، من الإبقاء، وهو نهي عن الإبقاء، والمشهور في الرواية كما يشير إليه في "الفتح":"لا يَبقين" بالبناء للفاعل، وعبارته: قوله: "لا يَبقينّ" بفتح أوله، وبِنون التأكيد،
(1)
"شرح البخاري" لابن بطال 2/ 115.
(2)
"الفتح" 8/ 329، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3654).
(3)
"الفتح" 8/ 329.
وفي إضافة النهي إلى الباب
(1)
تجوّز؛ لأن عدم بقائه لازم للنهي عن إبقائه، فكأنه قال: لا تُبقوه حتى لا يبقى، وقد رواه بعضهم بضم أوله، وهو واضح. انتهى.
(فِي الْمَسْجِدِ)؛ أي: النبويّ، (خَوْخَةٌ) بفتح الخاء، هي الباب الصغير بين البيتين، أو الدارين، ونحوه، وفيه فضيلة، وخِصِّيصة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه أن المساجد تُصان عن تطرّق الناس إليها، قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الفتح": "الْخَوْخة": طاقة في الجدار، تُفتح لأجل الضوء، ولا يُشترط علوّها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب، وهو المقصود هنا، ولهذا أُطلق عليها باب، وقيل: لا يُطلق عليها باب إلا إذا كانت تُغلق. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الْخَوْخة" -بفتح الخاء المعجمة-: باب صغير بين مسكنين، وكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قد فتحوا بين مساكنهم وبين المسجد خَوْخات اغتنامًا لملازمة المسجد، وللكون فيه مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ كان فيه غالبًا؛ إلا أنه لمّا كان ذلك يؤدي إلى اتخاذ المسجد طريقًا، أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بسدِّ كل خَوْخة كانت هنالك، واستثنى خوخة أبي بكر رضي الله عنه؛ إكرامًا له، وخصوصية به؛ لأنَّهما كانا لا يفترقان غالبًا، وقد استُدِلّ بهذا الحديث على صحَّة إمامته، واستخلافه للصلاة، وعلى خلافته بعده. انتهى
(4)
.
(إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ")؛ أي: فأبقوها، ولا تسدّوها، ولفظ البخاريّ:"لا يبقينّ في المسجد بابٌ إلا سُدّ، إلا باب أبي بكر"، قال في "الفتح": قوله: "إلا باب أبي بكر" هو استثناء مفرّغ، والمعنى: لا تُبقوا بابًا غير مسدود، إلا باب أبي بكر، فاتركوه بغير سدّ.
قال الخطابيّ، وابن بطال، وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر
(1)
أي: في رواية البخاريّ بلفظ: "باب"، وأما هنا فبلفظ:"خوخة"، فتنبّه.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 151 - 152.
(3)
"الفتح" 8/ 330.
(4)
"المفهم" 6/ 243 - 244.
لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه إشارة قويّة إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر.
وقد ادَّعَى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة، والأمر بالسدّ كناية عن طلبها، كأنه قال: لا يطلبنّ أحد الخلافة إلا أبا بكر، فإنه لا حرج عليه في طلبها، وإلى هذا جنح ابن حبان، فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا دليل على أنه الخليفة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حَسَمَ بقوله: "سُدُّوا عني كل خَوخة في المسجد" أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده، وقَوَّى بعضهم ذلك بأن منزل أبي بكر كان بالسُّنْح من عوالي المدينة، فلا يكون له خَوخة إلى المسجد.
قال الحافظ: وهذا ضعيف؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسُّنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى، وهي أسماء بنت عميس بالاتفاق، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ.
وقد تَعقَّب المحبّ الطبريّ كلام ابن حبان، فقال: وقد ذَكر عُمر بن شَبّة في "أخبار المدينة" أن دار أبي بكر التي أُذن له في إبقاء الْخَوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يُعطيه لبعض من وفد عليه، فباعها، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد، فامتنعت، وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها: نعطيك دارًا أوسع منها، ونجعل لك طريقًا مثلها، فسَلَّمت، ورضيت.
وقوله: "إلا باب أبي بكر" زاد الطبرانيّ من حديث معاوية في آخر هذا الحديث بمعناه: "فإني رأيت عليه نورًا"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 8/ 330 - 331.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6150 و 6151](2382)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(466) و"فضائل الصحابة"(3654) و"مناقب الأنصار"(3904)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3660)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(2)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 6)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 18)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6594 و 6861)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 227)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1227)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3821)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأنه كان متأهلًا لِأنْ يتخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم خليلًا لولا المانع المذكور.
2 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن للخليل صفةً خاصّةً تقتضي عدم المشاركة فيها.
3 -
(ومنها): أن المساجد تُصان عن تطرّق الناس إليها من خَوْخات ونحوها، إلا من أبوابها إلا مِن حاجة مهمة.
4 -
(ومنها): الإشارة بالعلم الخاصّ دون التصريح؛ لإثارة أفهام السامعين، وتفاوت العلماء في الفهم، وأن من كان أرفع في الفهم استَحَقّ أن يُطلق عليه أعلم.
5 -
(ومنها): أن فيه الترغيبَ في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا.
6 -
(ومنها): أن فيه شكرَ المحسن، والتنويه بفضله، والثناء عليه.
7 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: فيه أن المرشح للإمامة يُخَصّ بكرامة تدلّ عليه، كما وقع في حقّ الصديق رضي الله عنه في هذه القصة.
8 -
(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: إن أمْره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب غير الباب الشارع إلى المسجد إلا باب أبي بكر يدلّ على اختصاص شديد لأبي بكر، وإكرام له؛ لأنهما كانا لا يفترقان.
9 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أنه صلى الله عليه وسلم قد أفرد أبا بكر في ذلك بأمر لا يُشَارَك فيه، فأَولى ما يُصرف إليه التأويل فيه أمر الخلافة، وقد أكثر الدلالة عليها بأمْره إياه بالإمامة في الصلاة التي بُنِي لها المسجد، قال الخطابيّ رحمه الله: ولا أعلم أن إثبات القياس أقوى من إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه مستدلين في ذلك باستخلافه إياه في أعظم أمور الدين، وهو الصلاة، فقاسوا عليها سائر الأمور.
10 -
(ومنها): ما قال ابن بطال: فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قلّ فهماؤهم خشية أن يدخل عليهم مساءة أو خزي.
11 -
(ومنها): أنه لا يستحقّ أخذ العلم حقيقة إلا من فَهِم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال للحافظ: عالم بالنصّ، لا بالمعنى.
12 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة.
13 -
(ومنها): أن فيه ائتلافَ النفوس بقوله: "ولكن أخوة الإسلام أفضل".
14 -
(ومنها): بيان أن الخليل فوق الصديق والأخ.
15 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "عبدٌ خيّره الله. . . إلخ" هذا قول فيه إبهام، قَصَد به النبيّ صلى الله عليه وسلم اختبار أفهام أصحابه، وكيفية تعلق قلوبهم به، فظهر أن أبا بكر كان عنده من ذلك ما لم يكن عند أحد منهم، ولمّا فَهِم من ذلك ما لم يفهموا بادر بقوله:"فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، ولذلك قالوا:"فكان أبو بكر أعلمنا"، وهذا يدلّ من أبي بكر رضي الله عنه على أن قلبه ممتلئ من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومستغرق فيه، وشديد الاعتناء بأموره كلِّها من أقواله، وأحواله، بحيث لا يشاركه أحد منهم في ذلك، ولمّا عَلِم النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وصدر منه في ذلك الوقت ذلك الفهم عنه اختصَّه بالخصوصيَّة العظمى التي لم يظفر بمثلها بشري في الأُولى ولا في الأخرى، فقال:"إن أَمَنَّ الناس عليَّ في صحبته، وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا"؛ فقد تضمَّن هذا الكلام: أن لأبي بكر من الفضائل، والحقوق ما لا يشاركه فيها مخلوق، ووزن أمَنَّ: أفعل، من المنَّة بمعنى الامتنان؛ أي: أكثر منَّة، ومعناه: أن أبا بكر رضي الله عنه له من الحقوق ما لو كانت لغيره لامتنّ بها،
وذلك: أنه رضي الله عنه بادر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتَّصديق، والناس كلهم مكذبون، وبنفقة الأموال العظيمة، والناس يبخلون، وبالملازمة والمصاحبة، والناس ينفرون، وهو مع ذلك بانشراح صدره، ورسوخ علمه يعلم: أن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم الفضلَ والإحسانَ، والمنة والامتنان، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم بكرم خُلُقِه، وجميل معاشرته اعترف بالفضل لمن صَدَر عنه، وشَكَر الصنيعة لمن وُجدت منه، عملًا بشكر المنعِم، لِيَسُنّ، وليُعَلِّم، وهذا مثل ما جرى له يوم حنين مع الأنصار، حيث جمعهم، فذكَّرهم بما عليهم من المنن، ثم اعترف لهم بما لهم من الفضل الجميل الحسن، وقد تقدم في الزكاة، وقد ذكر الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإنَّ له عندنا يدًا يكافئه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد كما نفعني مال أبي بكر"
(1)
، وذكر الحديث، وقال: هو حسن غريب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث جيّد، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): جاء في سدّ الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب:
منها: حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب الشارعة في المسجد، وترك باب عليّ"، أخرجه أحمد، والنسائيّ، وإسناده قويّ، وفي رواية للطبرانيّ في "الأوسط" رجالها ثقات من الزيادة:"فقالوا: يا رسول الله سَدَدت أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها، ولكن الله سَدَّها".
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: "كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سُدُّوا هذه الأبواب إلا باب عليّ، فتكلم ناس في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني والله ما سددت شيئًا، ولا فتحته، ولكن أُمرت بشيء، فاتبعته"، أخرجه أحمد، والنسائيّ، والحاكم، ورجاله ثقات.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أَمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد، فسُدّت إلا باب عليّ"، وفي رواية: "وأمر بسدّ الأبواب، غير باب عليّ، فكان يدخل
(1)
رواه الترمذيّ (3661).
(2)
"المفهم" 6/ 240 - 241.
المسجد، وهو جُنُب، ليس له طريق غيره"، أخرجهما أحمد، والنسائيّ، ورجالهما ثقات.
وعن جابر بن سمرة قال: "أمرَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسدّ الأبواب كلها، غير باب عليّ، فربما مرّ فيه، وهو جنب"، أخرجه الطبرانيّ.
وعن ابن عمر قال: "كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس، ثم أبو بكر، ثم عمر، ولقد أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال؛ لَأنْ يكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حُمْر النَّعَم: زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته، ووَلَدت له، وسَدّ الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر"، أخرجه أحمد، وإسناده حسن.
وأخرج النسائيّ من طريق العلاء بن عرار -بمهملات- قال: فقلت لابن عمر: أخبرني عن عليّ وعثمان. . . فذكر الحديث، وفيه: وأما عليّ فلا تسأل عنه أحدًا، وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سدّ أبوابنا في المسجد، وأقرّ بابه"، ورجاله رجال الصحيح، إلا العلاء، وقد وثقه يحيى بن معين، وغيره.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه الأحاديث يُقَوّي بعضها بعضًا، وكل طريق منها صالح للاحتجاج، فضلًا عن مجموعها، وقد أورد ابن الجوزيّ هذا الحديث في "الموضوعات"، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص، وزيد بن أرقم، وابن عمر، مقتصرًا على بعض طرقه عنهم، وأعلّه ببعض من تُكُلِّم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح؛ لِمَا ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضًا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر، وزعم أنه من وضع الرافضة، قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر. انتهى، وأخطأ في ذلك خطأً شنيعًا، فإنه سلك في ذلك ردّ الأحاديث الصحيحة بتوهّمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في "مسنده"، فقال: وَرَدَ من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة عليّ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دلّ عليه حديث أبي سعيد الخدريّ -يعني: الذي أخرجه الترمذيّ- أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلّ لأحد أن يطرق هذا المسجد جُنُبًا غيري وغيرك"، والمعنى: أن باب عليّ كان إلى جهة المسجد، ولم يكن لبيته باب غيره، فلذلك لم يؤمَر بسدّه.
ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في "أحكام القرآن" من طريق المطّلب بن عبد الله بن حنطب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد، وهو جُنُب إلا لعليّ بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد.
ومُحَصَّل الجمع أن الأمر بسدّ الأبواب وقع مرتين، ففي الأُولى استُثْنِي عليّ؛ لِمَا ذَكَره، وفي الأخرى استُثْنِي أبو بكر، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يُحمل ما في قصة عليّ على الباب الحقيقيّ، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازيّ، والمراد به الخوخة، كما صُرِّح به في بعض طرقه، وكأنهم لمّا أُمروا بسدّ الأبواب سدّوها، وأحدثوا خَوْخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأُمروا بعد ذلك بسدّها، فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين، وبها جَمَع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاويّ في "مشكل الآثار"، وهو في أوائل الثلث الثالث منه، وأبو بكر الكلاباذيّ في "معاني الأخبار"، وصرّح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد، وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت عليّ لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6151]
(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، وَبُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمًا، بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنِّف، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن أبي المغيرة الْخُزاعيّ، أو الأسلميّ، أبو يحيى
(1)
"الفتح" 8/ 331 - 332، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3654).
المدنيّ، ويقال: فُليح لقبٌ، واسمه عبد الملك، صدوقٌ كثير الخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.
3 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية فُليح بن سُليمان عن سالم أبي النضر هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6594)
- أخبرنا أبو خليفة، حدّثنا عليّ ابن المدينيّ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا فُليح بن سليمان، حدّثنا سالم أبو النضر، عن بسر بن سعيد، وعبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطَب، فقال:"إن الله خَيَّر عبدًا بين أن يؤتيه من زَهْرة الدنيا ما شاء، وبين لقائه، فاختار لقاء ربه"، فبكى أبو بكر، وقال: بل نفديك بآبائنا، وأبنائنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اسْكُت يا أبا بكر -ثم قال-: إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من الناس لاتخذت أبا بكر، ولكن أُخُوّة الإسلام، ومودته، ألا لا يُبقينّ في المسجد خَوْخة، إلا سُدّت، إلا خوخة أبي بكر"، قال أبو سعيد: فقلت: العجب، يخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدًا خيّره الله بين الدنيا والآخرة، وهذا يبكي، وإذا المخيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الباكي أبو بكر، وإذا أبو بكر أعلَمُنا برسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ساق هذه الرواية البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، لكن وقع خطأ في السند، ولذلك عَدَلت عنه، ودونك نصّه:
(454)
- حدّثنا محمد بن سنان، قال: حدّثنا فليح، قال: حدّثنا أبو النضر، عن عبيد بن حنين، عن بسر بن سعيد، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: خطب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله"، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يُبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان
(1)
"صحيح ابن حبان" 14/ 558 - 559.
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبدَ، وكان أبو بكر أعلَمَنا، قال:"يا أبا بكر لا تبك، إن أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أمتي، لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخوّة الإسلام، ومودّته، لا يبقينّ في المسجد باب إلا سُدّ، إلا باب أبي بكر". انتهى
(1)
.
ومحلّ الخطأ قوله: "عن بسر بن سعيد"، والصواب:"وعن بسر بن سعيد" بالعطف، وقد تكلّم الحافظ في "الفتح" بما يكفي، ويشفي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6152]
(2383) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ رَجَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي الْهُذَيْلِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنَّهُ أَخِي، وَصَاحِبِي، وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ عز وجل صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ) المعروف ببندار، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ رَجَاءِ) بن ربيعة الزُّبيدي -بضم الزاي- أبو إسحاق الكوفيّ، ثقةٌ، تَكَلَّم فيه الأزديّ بلا حجة [5](م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 186.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي الْهُذَيْلِ) الْعَنَزيّ، أبو المغيرة الكوفيّ، ثقةٌ [2].
روى عن أبي بكر، وعمر، وعليّ، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وابن خباب بن الأرتّ، وأُبيّ بن كعب، وأبي الأحوص الْجُشَميّ، وجماعة، وفي سماعه من أبي بكر نظر.
وروى عنه إسماعيل بن رجاء، وواصل الأحدب، وأبو فروة مسلم بن
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 177.
سالم الجهنيّ، والأجلح بن عبد الله الكِنديّ، وأشعث بن أبي الشعثاء، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: تابعيّ ثقةٌ، وكان عثمانيًّا، وقال أبو زرعة: ابن أبي الهذيل عن أبي بكر مرسل، تُوُفّي في ولاية خالد القسريّ.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
6 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلَة -بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- الْجُشَميّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3] قُتل في ولاية الحجاج على العراق (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودِ) بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء، مناقبه جَمّة، وأمَّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وشيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: إسماعيل، عن ابن أبي الهذيل، عن أبي الأحوص، ورواية الأخيرين من رواية الأكابر عن الأصاغر، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه الصحابيّ الشهير، جمّ المناقب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلة الْجُشَميّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا) قال البيضاويّ: الخليل: الصاحب الوادّ الذي يُفتقر إليه، ويُعتمد في الأمور عليه، فإن أصل التركيب للحاجة، والمعنى: لو كنت متّخذًا من الخلق خليلًا أرجع إليه في الحاجات، وأعتمد عليه في المهمّات
لاتّخذت أبا بكر، ولكن الذي ألجأ إليه، وأعتمد عليه في جملة الأمور، ومجامع الأحوال هو الله تعالى
(1)
. (وَلَكِنَّهُ)؛ أي: أبا بكر (أَخِي، وَصَاحِبِي)؛ أي: ولكن هو أخي في الدين، وصاحبي في السرّاء والضرّاء، والحضر والسفر، وفي رواية خيثمة في "فضائل الصحابة" عن أحمد بن أبي الأسود، عن مسلم بن إبراهيم:"ولكن أخي، وصاحبي في الله تعالى"
(2)
.
وقوله: "ولكن. . . إلخ" استدراك عن مضمون الجملة الشرطيّة؛ أي: ليس بيني وبينه خلّة، ولكن الأخوّة والصحبة، نفى الخلّة المنبئة عن الحاجة، وأثبت الإخاء المقتضي للمساواة، أفاده الطيبيّ
(3)
.
(وَقَدِ اتَّخَذَ اللهُ عز وجل صَاحِبَكُمْ خَلِيلًا") قال القرطبيّ رحمه الله: في غير كتاب مسلم: "كما اتخذ إبراهيم خليلًا"، وهذا يدلّ على أن الله تعالى بلّغ درجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الخلة درجة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، غير أنَّه مكَّنه فيها ما لم يمكَّن فيها إبراهيم، بدليل قول إبراهيم:"إنما كنت خليلًا من وراء وراء"، كما تقدَّم في "الإيمان". انتهى
(4)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: في قوله: "اتخذ الله" مبالغة من وجهين: أحدهما: أنه أخرج الكلام على التجريد، حيث قال:"صاحبكم"، ولم يقل: اتخذني، وثانيهما:"اتخذ الله صاحبكم" بالنصب عَكْس ما لَمَحَ إليه حديث أبي سعيد من قوله: "غير ربي"، فدلّ الحديثان على حصول المخاللة من الطرفين. انتهى
(5)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3847.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 178.
(3)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3848.
(4)
"المفهم" 6/ 243.
(5)
"تحفة الأحوذيّ" 10/ 97.
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6152 و 6153 و 6154 و 6155 و 6156](2383)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(314)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 439 و 462 - 463) وفي "فضائل الصحابة"(1/ 183)، و (النسائيّ) في "الفضائل"(3)، و (الطبرانيّ) في (10106 و 10107)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6856)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5149)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6153]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي أَحَدًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد السَّبيعيّ، تقدّم في الباب الماضي.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وشرحه، ومسألتاه تقدّما في الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6154]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنِي سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ عَوْنِ) بن جعفر بن عمرو بن حُريث المخزوميّ، أبو عون الكوفيّ، صدوقٌ [9](ت 6 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
4 -
(أَبُو عُمَيْسٍ) -بالتصغير- هو: عُتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الْهُذَليّ المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
5 -
(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير التيميّ المكيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
والباقون ذُكروا في الباب، و"عبد الله" هو: ابن مسعود رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية عبد بن حميد التي بعد التحويل لا توجد في النسخة الهنديّة، وإنما كُتِبَت في هامشها، وبعض من حقّق مسلمًا يقول: كأنه خطأ، ولم يأت على دعواه بحجة إلا عدم ذِكر الحافظ المزّيّ لها في "تحفته"، ولا يخفى أن هذا لا يكفي في التخطئة، فكم من روايات أغفلها المزّيّ، واستدركها وليّ الدين العراقيّ، والحافظ، فتنبّه لذلك، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
والحديث من أفراد المصنف رحمه الله، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6155]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(مُغِيرَةُ) بن مِقْسَم -بكسر الميم- الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه كان يدلّس، ولا سيما عن إبراهيم [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
5 -
(وَاصِلُ بْنُ حَيَّانَ) الأحدب الأسديّ الكوفيّ، بَيّاع السّابَرِيّ -بمهملة، وموحدة- ثقةٌ ثبتٌ [6](ت 120)(ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ) هو أبو بكر الصدّيق، وأبو قُحافة كنية أبيه رضي الله عنهما.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وتخريجه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6156]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ -وَاللَّفْظُ لَهُمَا- قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خِلٍّ مِنْ خِلِّهِ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، إِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم -بمعجمتين- أبو معاوية الضرير الكوفي، عَمِي وهو صغير، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار التاسعة، مات سنة خمس وتسعين وله اثنتان وثمانون سنة، وقد رمي بالإرجاء (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكّيّ،
تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي أيضًا.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حصين الكنديّ، أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
8 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عارف بالقراءات، وَرِعٌ، لكنه يدلّس [5](ت 7 أو 148) وكان مولده أول سنة إحدى وستين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
9 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الخارفي
(1)
-بخاء معجمة، وراء، وفاء- الكوفيّ، ثقةٌ [3] (ت 100) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه.
وقوله: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلَّ خِلٍّ مِنْ خِلِّهِ) قال النوويّ رحمه الله: هما بكسر الخاء، فأما الأول فكَسْره متفق عليه، وهو الْخِلّ بمعنى الخليل، وأما قوله:"من خله" فبكسر الخاء عند جميع الرواة، في جميع النسخ، وكذا نقله القاضي عن جميعهم، قال: والصواب الأوجه فَتْحها، قال: والْخَلة، والْخِلّ، والْخِلال، والمخالَلَة، والْخِلالة، والخلولة: الإخاء، والصداقة؛ أي: برئت إليه من صداقته المقتضية المخاللة، قال النوويّ بعد نقل كلام القاضي المذكور: والكسر صحيح، كما جاءت به الروايات؛ أي: أبرأ إليه من مخاللتي إياه، وذكر ابن الأثير أنه رُوي بكسر الخاء، وفَتْحها، وأنهما بمعنى الخلة بالضم التي هي الصداقة. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ألا إني أبرأ إلى كل خِلّ من خلّه"؛ الرواية
(1)
نسبة إلى خارف بن عبد الله بن كثير بن مالك بن جُشم، بطن من هَمْدان، قاله في "اللباب" 1/ 410.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 153.
المعروفة: بكسر الخاء من خِلَّة، قال القاضي: والصواب -إن شاء الله- فَتْحها، والخلَّة، والْخِلُّ، والمخاللة، والمخالَّة، والخلالة، والخلولة: الإخاء والصَّداقة.
قال القرطبيّ: يعني: أن خَلَّة في الأصل: هي مصدر، ومصادر هذا الباب: هي التي ذكروها، وليس فيها ما يقال: بكسر الخاء، فتعيَّن الفتح فيها، ومعنى هذا الكلام قد جاء بلفظ آخر يفسِّره، فقال:"إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"، وهذا واضح. انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: وفي الحديث: "إني أبرأ إلى كل ذي خلة من خلّته"؛ الخلة بالضم: الصداقة، والمحبة التي تخللت القلب، فصارت خلاله؛ أي: في باطنه، والخليل: الصَّدِيق فَعِيل بمعنى مُفاعِل، وقد يكون بمعنى مفعول، قال: وإنما قال ذلك؛ لأن خلته كانت مقصورة على حب الله تعالى، فليس فيها لغيره مُتَّسَع، ولا شَرِكة من محابّ الدنيا والآخرة، وهذه حال شريفة لا ينالها أحد بكَسْب، ولا اجتهاد، فإن الطباع غالبة، وإنما يخصّ الله بها من يشاء من عباده، مثل سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومن جَعَل الخليل مشتقًّا من الخلة، وهي الحاجة والفقر، أراد: إنني أبرأ من الاعتماد والافتقار إلى أحد غير الله عز وجل، وفي رواية:"أبرأ إلى كل خل من خلته" بفتح الخاء وكسرها، وهما بمعنى الخلة والخليل، ومنه الحديث:"لو كنت متخذًا خليلًا، لاتخذت أبا بكر خليلًا"، والحديث الآخر:"المرء بخليله -أو قال-: على دين خليله، فلينظر امرؤ من يخالل"
(2)
، قال: والْخُلّة: الصديق، الذَّكر، والأنثى، والواحد، والجمع في ذلك سواء؛ لأنه في الأصل مصدر قولك: خَلِيلٌ بَيِّنُ الْخُلّة، والْخُلُولة. انتهى
(3)
.
وقال المجد رحمه الله: الخَلَّةُ: الحاجَةُ، والفَقْرُ، والخَصاصَةُ، وفي المَثَلِ:
(1)
"المفهم" 6/ 243.
(2)
رواه أحمد، والترمذيّ، وقال: حديث حسن غريب، وقال النوويّ: إسناده صحيح، وحسّنه الشيخ الألبانيّ.
(3)
"لسان العرب" 11/ 217.
الخَلَّهْ تَدْعو إلى السَّلَّهْ؛ أي: إلى السَّرِقَةِ. خَلَّ وأُخِلَّ بالضم: احْتاجَ. ورجُلٌ مُخَلٌّ، ومُخْتَلٌّ، وخَليلٌ، وأخَلُّ: مُعْدِمٌ فَقيرٌ. واخْتَلَّ إليه: احْتاجَ. وما أخَلَّكَ الله إليه: ما أحْوَجَكَ. والأَخَلُّ: الأَفْقَرُ. والخَلَّةُ: الخَصْلَةُ جَمْعها: خِلالٌ، وبالضم: الخَليلَةُ، والصَّداقَةُ المُخْتَصَّةُ، لا خَلَلَ فيها، تكونُ في عَفافٍ، وفي دَعارَةٍ، جَمْعها: خِلالٌ؛ ككِتابٍ، والاسمُ: الخُلولَةُ، والخِلالَةُ مُثَلَّثَةً، وقد خالَّهُ مُخالَّةً، وخِلالًا، ويُفْتَحُ. وإنه لَكَريمُ الخِلِّ، والخِلَّةِ، بكسرِهِما؛ أي: المُصادَقَةِ، والإخاءِ. والخُلَّةُ أيضًا: الصَّديقُ، للذَّكَر، والأنْثَى، والواحِد، والجَميعِ. والخُلُّ بالكسر والضم: الصَّديقُ المُخْتَصُّ، أو لا يُضَمُّ إلَّا مَعَ وُدٍّ، يقالُ: كانَ لي وُدًّا وخُلًّا، جَمْعه: أخْلالٌ؛ كالخلِيلِ جَمْعه: أخِلَّاءُ، وخُلَّانُ، أو الخَليلُ: الصادِقُ، أو مَن أصْفَى المَوَدَّةَ، وأصَحَّها، وهي: بِهاءٍ جَمْعُها: خَليلاتٌ، وخَلائِلُ. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام شرحه، وتخريجه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6157]
(2384) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: "عَائِشَةُ"، قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ قَالَ: "أَبُوهَا"، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "عُمَرُ"، فَعَدَّ رِجَالًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطحّان، المزنيّ مولاهم، أبو الْهَيثم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182) وكان مولده سنة عشر ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 1285.
3 -
(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مَلّ -بلام ثقيلة، والميم مثلثة- ابن عمرو النَّهْديّ -بفتح النون، وسكون الهاء- الكوفيّ، ثم البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ مخضرمٌ، من كبار [2] (ت 95) وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) بن وائل السَّهْميّ الصحابيّ المشهور، أسلم عام الحديبية، ووَلِيَ إِمْرة مصر مرتين، وهو الذي فَتَحها، مات بمصر سنة نيف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.
شرح الحديث:
(عَنْ خَالِدٍ) الحذّاء (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ النّهْديّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ) بالسينَين المهملتين، والمشهور أنها بفتح الأُولى، على لفظ جَمْع السلسلة، وضَبَطه كذلك أبو عبيد البكريّ، قيل: سُمّي المكان بذلك؛ لأنه كان به رَمْلٌ بعضه على بعض؛ كالسلسلة، وضَبَطها ابن الأثير بالضم، وقال: هو بمعنى السلسال؛ أي: السهل، وقيل: سميت ذات السلاسل؛ لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافةَ أن يفروا، وقيل: لأن بها ماء يقال له: السلسل، وذكر ابن سعد أنها وراء وادي القرى، وبينها وبين المدينة عشرة أيام، قال: وكانت في جمادى الآخرة سنة ثمان من الهجرة، وقيل: كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في "كتاب صحيح التاريخ"، ونقل ابن عساكر الاتفاق على أنها كانت بعد غزوة مؤتة، إلا ابن إسحاق، فقال: قبلها، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "ذات السلاسل" هو بفتح السين الأُولى، وكسر
(1)
"الفتح" 9/ 498، كتاب "المغازي" رقم (4358).
الثانية، وهو ماء لبني حُذام بناحية الشام، ومنهم من قال: هو بضم السين الأُولى، وكذا ذَكَره ابن الأثير في "نهاية الغريب"، وأظنه استنبطه من كلام الجوهريّ في "الصحاح"، ولا دلالة فيه، والمشهور والمعروف فَتْحها، وكانت هذه الغزوة في جمادى الأخرى سنة ثمان من الهجرة، وكانت مؤتة قبلها، في جمادى الأُولى من سنة ثمان أيضًا، قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: كانت ذات السلاسل بعد مؤتة، فيما ذكره أهل المغازي، إلا ابن إسحاق، فإنه قال: قبلها. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: وقد رَوَينا في "فوائد أبي بكر بن أبي الهيثم" من حديث رافع الطائيّ قال: بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم جيشًا، واستَعْمل عليهم عمرو بن العاص، وفيهم أبو بكر، قال: وهي الغزوة التي يفتخر بها أهل الشام.
ورَوَى أحمد، والبخاريّ في "الأدب"، وصححه أبو عوانة، وابن حبان، والحاكم، من طريق عليّ بن رَبَاح، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:"بعث إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمرني أن آخذ ثيابي، وسلاحي، فقال: يا عمرو، إني أريد أن أبعثك على جيش، فيُغنمك الله، ويُسَلِّمك، قلت: إني لم أُسْلِم رغبة في المال، قال: نِعْم المال الصالح للمرء الصالح".
وهذا فيه إشعار بأن بَعْثه عَقِب إسلامه، وكان إسلامه في أثناء سنة سبع من الهجرة. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: ذكر ابن سعد سبب هذه الغزوة، فقال: إن جَمْعًا من قُضاعة تجمعوا، وأرادوا أن يدنوا من أطراف المدينة، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، فعقد له لواء أبيض، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، ثم أمدّه بأبي عبيدة بن الجراح في مائتين، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن لا يختلفا، فأراد أبو عبيدة أن يؤم بهم، فمنعه عمرو، وقال: إنما قدمت عليّ مددًا، وأنا الأمير، فأطاع له أبو عبيدة، فصلى بهم عمرو، وسار عمرو حتى وطئ بلاد بَلِيّ، وعذرة، وكذا ذكر موسى بن عقبة نحو هذه القصة، وذَكَر ابن
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 153.
(2)
"الفتح" 9/ 501، كتاب "المغازي" رقم (4358).
إسحاق أن أم عمرو بن العاص كانت من بَلِيّ، فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عَمْرًا يستنفر الناس إلى الإسلام، ويستألفهم بذلك، وروى إسحاق بن راهويه، والحاكم من حديث بُريدة أن عمرو بن العاص أمَرَهم في تلك الغزوة أن لا يوقدوا نارًا، فأنكر ذلك عمر، فقال له أبو بكر: دعه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعثه علينا إلا لِعِلْمه بالحرب، فسكت عنه.
وروى ابن حبان من طريق قيس بن أبي حازم، عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في ذات السلاسل، فسأله أصحابه أن يوقدوا نارًا، فمَنَعهم فكلّموا أبا بكر، فكلّمه في ذلك، فقال: لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها، قال: فلقوا العدوّ، فهزمهم، فأرادوا أن يَتْبَعوهم فمنعهم، فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا، فيرى عدوهم قِلّتهم، وكَرِهت أن يتْبعوهم، فيكون لهم مدد، فحَمِد أمْره، فقال يا رسول الله: من أحب الناس إليك؟ الحديث، فاشتمل هذا السياق على فوائد زوائد، ويُجمع بينه وبين حديث بريدة بأن أبا بكر سأله، فلم يجبه، فسلَّم له أمْره، وألحّوا على أبي بكر حتى يسأله، فسأله فلم يجبه
(1)
، والله تعالى أعلم.
(فَأَتَيْتُهُ) في رواية الإسماعيليّ: "قَدِمت من جيش ذات السلاسل، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وعند البيهقيّ في هذه القصة:"قال عمرو: فحدثتُ نفسي أنه لم يبعثني على قوم فيهم أبو بكر وعمر، إلا لمنزلة لي عنده، فأتيته، حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله، من أحب الناس إليك. . ." الحديث.
(فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟)، وفي رواية:"أيُّ الناس أحبّ إليك يا رسول الله، فأُحبّه؟ "، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا السؤال أخرجه الحرص على معرفة الأحبّ إليه؛ ليقتدي به في ذلك، فيُحبّ ما يُحبّ، فإن المرء مع من أحبّ
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عَائِشَةُ")؛ أي: هي أحبّ الناس إليّ، قال عمرو:(قُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟) في رواية قيس بن أبي حازم، عن عمرو، عند ابن خزيمة، وابن
(1)
"الفتح" 9/ 499 - 500، كتاب "المغازي" رقم (4358).
(2)
"المفهم" 6/ 244.
حبان: "قلت: إني لست أعني النساء، إني أعني الرجال"، وفي حديث أنس عند ابن حبان أيضًا:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل له: ليس عن أهلك نسألك"، وعُرِف بحديث عَمْرو اسم السائل في حديث أنس
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَبُوهَا") أبو بكر رضي الله عنه أحبّ إلي، قال عمرو:(قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟)؛ أي: ثم بعد أبي بكر من هو أحبّ الناس إليك؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("عُمَرُ") بن الخطّاب أحبّ إليّ، قال القرطبيّ: هذا يدلّ على تفاوت ما بينهما في الرتبة والفضيلة، وهو يدلّ على صحّة ما ذهب إليه أهل السُّنَّة
(2)
.
(فَعَدَّ رِجَالًا) زاد في رواية للبخاريّ: "فسكتُّ مخافة أن يجعلني في آخرهم"، وفي رواية البيهقيّ:"قال: قلت في نفسي: لا أعود لمثلها، أسأل عن هذا".
ووقع في حديث عبد الله بن شقيق، قال:"قلت لعائشة: أي أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قالت: عمر، قلت: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، قلت: ثم من؟ فسكتت"، أخرجه الترمذيّ، وصححه، قال الحافظ: فيمكن أن يفسَّر بعض الرجال الذين أُبهموا في حديث الباب بأبي عبيدة.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائيّ بسند صحيح، عن النعمان بن بشير: قال: "استأذن أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمع صوت عائشة عاليًا، وهي تقول: والله لقد علمت أن عليًّا أحب إليك من أبي. . ." الحديث، فيكون عليّ ممن أبهمه عمرو بن العاص، وهو أيضًا، وإن كان في الظاهر يعارض حديث عمرو، لكن يرجّح حديث عمرو أنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا من تقريره، ويمكن الجمع باختلاف جهة المحبة، فيكون في حقّ أبي بكر على عمومه، بخلاف عليّ، ويصح حينئذ دخوله فيمن أبهمه عمرو.
قال الحافظ رحمه الله: ومعاذ الله أن نقول كما تقول الرافضة من إبهام عمرو
(1)
"الفتح" 8/ 348، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3662).
(2)
"المفهم" 6/ 244.
فيما روى؛ لِمَا كان بينه وبين عليّ رضي الله عنهما، فقد كان النعمان مع معاوية على عليّ، ولم يمنعه ذلك من التحديث بمنقبة عليّ، ولا ارتياب في أن عَمْرًا أفضل من النعمان رضي الله عنهما
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6157](2384)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3662) و"المغازي"(4358)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3885)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 203)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(16) و"الكبرى"(5/ 39)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 121)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4540 و 6885 و 6900 و 6998 و 7106)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 578)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 233)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3869)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز تأمير المفضول على الفاضل إذا امتاز المفضول بصفة تتعلق بتلك الولاية.
2 -
(ومنها): بيان مزية أبي بكر رضي الله عنه على الرجال، وبنته عائشة رضي الله عنها على
النساء.
3 -
(ومنها): بيان منقبة عمرو بن العاص رضي الله عنه؛ لتأميره على جيش فيهم أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما، وإن كان ذلك لا يقتضي أفضليته عليهم، لكن يقتضي أن له فضلًا في الجملة.
4 -
(ومنها): أن هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر، وعمر، وعائشة رضي الله عنهم.
(1)
"الفتح" 8/ 348، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3662).
5 -
(ومنها): أن فيه دلالةً بينةً لأهل السُّنَّة في تفضيل أبي بكر، ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم.
6 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله في الجواب: "عائشة"؛ يدلّ على جواز ذِكر مثل ذلك، وأنه لا يعاب على من ذَكَره؛ إذا كان المقول له من أهل الخير والدِّين، ويَقصد بذلك مقاصد الصَّالحين؛ وإنَّما بدأ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذِكر محبة عائشة رضي الله عنها أوّلًا؛ لأنَّها محبة جِبِلّية، ودينية، وغيرها دينية، لا جِبِلية، فسَبَق الأصل على الطَّارئ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6158]
(2385) - (وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي عُمَيْسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، سَمِعْتُ عَائِشَةَ، وَسُئِلَتْ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ، فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: عُمَرُ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، ثُمَّ انْتَهَتْ إِلَى هَذَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) -بضمّ الحاء المهملة- أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو العميس" هو: عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله أنه قال: (سَمِعْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها، وقوله:(وَسُئِلَتْ) جملة حاليّة بتقدير "قد" عند البصريين، ودونها عند الكوفيين، والسائل لعائشة لم يُعرف.
(1)
"المفهم" 6/ 244.
(مَنْ) استفهاميّة؛ أي: أيُّ شخص (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْلِفًا)؛ أي: جاعله خليفته (لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن من المعلوم عندهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحدًا، وكذلك قال عمر رضي الله عنه لَمّا طُعن، وقيل له: ألا تستخلف؟ فقال: إن أتركهم فقد تَرَكهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أستخلف فقد استخلف أبو بكر رضي الله عنه، وهذا بمحضر من الصحابة، وعليّ، والعباس رضي الله عنهم، ولم يُنكر أحدٌ منهم على عمر، ولا ذَكَر أحدٌ من الناس نصًّا باستخلاف أحد، فكان ذلك دليلًا على كَذِب من ادَّعى شيئًا من ذلك؛ إذ العادات تُحيل أن يكون عندهم نصٌّ على أحد في ذلك الأمر العظيم المهم، فيكتموه، مع تَصَلُّبِهم في الدَّين، وعدم تَقِيَّتهم، فإنَّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم، وكذلك اتَّفَق لهم عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّهم اجتمعوا لذلك، وتفاوضوا فيه مفاوضة من لا يتقي شيئًا، ولا يخاف أحدًا، حتى قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، ولم يذكر أحدٌ منهم نصًّا، ولا ادَّعى أحدٌ منهم أنه نُصَّ عليه، ولو كان عندهم من ذلك شيء لكانوا هم أحقّ بمعرفته، ونَقْله، ولَمَا اختلفوا في شيء من ذلك.
ومن العجب أن لا يكون عند أحدٍ من هؤلاء نصٌّ على ذلك، ولا يذكره مع قرب العهد، وتوفر الدِّين والجدّ، ودعاء الحاجة الشديدة إلى ذلك، ويأتي بعدهم بأزمان متطاولة، وأوقات مختلفة، وقلة علم، وعدم فهم من يدَّعي أن عنده من العلم بالنصِّ على واحد معيّن ما لم يكن عند أولئك الملأ الكرام، ولا سُمع منهم، هذا محض الكذب الذي لا يقبله سليم العقل؛ لكن غلبة التعصُّب والأهواء تورِّط صاحبها في الظلماء، وقد ذهبت الشيعة على اختلاف فِرَقها إلى أنه نَصَّ على خلافة عليّ رضي الله عنه، وذهبت الراوندية إلى أنه نصَّ على خلافة العباس رضي الله عنه، واختلق كل واحد منهما من الكذب، والزور، والبهتان ما لا يرضى به من في قلبه حبة خردل من الإيمان، وما ذكرناه من عدم النَّص على واحد بعينه هو مذهب جمهور أهل السُّنَّة من السَّلف والخلف، لا على أبي بكر، ولا غيره، غير أنهم استندوا في استحقاق أبي بكر رضي الله عنه للخلافة إلى أصول كليَّة، وقرائن خالية، ومجموع ظواهر جليَّة حَصَّلت لهم العلم بأنه أحقّ بالخلافة، وأَولى بالإمامة، يَعلم ذلك من استقرأ أخباره، وخصائصه، وسيقع
التنبيه على بعضها - إن شاء الله تعالى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق، (فَقِيلَ لَهَا: ثُمَّ مَنْ) الذي يستخلفه (بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ؟) الصدّيق (قَالَتْ: عُمَرُ) بن الخطّاب، (ثُمَّ قِيلَ لَهَا: مَنْ بَعْدَ عُمَرَ؟ قَالَتْ: أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضَبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ الفهريّ، أحد العشرة المبشرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشهد بدرًا، مشهور بكنيته، مات شهيدًا بطاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وله ثمان وخمسون سنةً (ع) تقدّمت ترجمته في "الصيد والذبائح" 4/ 4990، وله في هذا الكتاب ذِكر فقط.
(ثُمَّ انْتَهَتْ) عائشة رضي الله عنها (إِلَى هَذَا)؛ أي: لم تتجاوز في تعيين المستخلَفين من أبي عبيدة.
وقال النوويّ رحمه الله: يعني: وقفت على أبي عبيدة، وهذا دليل لأهل السُّنَّة في تقديم أبي بكر، ثم عمر للخلافة، مع إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وفيه دلالة لأهل السُّنَّة أن خلافة أبي بكر ليست بنصّ من النبيّ صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحًا، بل أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على عقد الخلافة له، وتقديمه؛ لفضيلته، ولو كان هناك نَصٌّ عليه، أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أوّلًا، ولَذَكَر حافظ النصّ ما معه، ولرجعوا إليه، لكن تنازعوا أوّلًا، ولم يكن هناك نَصّ، ثم اتفقوا على أبي بكر، واستقر الأمر.
وأما ما تدّعيه الشيعة من النصّ على عليّ، والوصية إليه فباطل، لا أصل له باتفاق المسلمين، والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن عليّ، وأول من كذّبهم عليّ رضي الله عنه بقوله:"ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة. . ." الحديث، ولو كان عنده نصّ لَذَكَره، ولم يُنقل أنه ذَكَره في يوم من الأيام، ولا أن أحدًا ذَكَره له، والله أعلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول عائشة رضي الله عنها في جواب السَّائل: "أبو بكر، ثم عمر، ثم أبو عبيدة"؛ هذا قالته عن نَظَرها، وظنّها، لا أن ذلك كان بنصًّ
(1)
"المفهم" 6/ 247 - 248.
عندها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولعلها استندت في عمر وأبي عبيدة لقول أبي بكر يوم السقيفة:"رضيت لكم أحد هذين الرَّجُلَين: عمر، وأبي عبيدة"، وفي حقّ أبي عبيدة شهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه أمين هذه الأمة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه حين جَعَل الأمر شورى:"لو أن أبا عبيدة حيٌّ لَمَا تَخالَجَني فيه شك، فلو سألني ربي عنه، قلت: سمعت نبيّك صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل أمة أمين، وأميننا -أيتها الأمة- أبو عبيدة بن الجراح".
ويُفهم من قول عمر وعائشة رضي الله عنهما جواز انعقاد الخلافة للفاضل مع وجود الأفضل، فإنَّ عثمان وعليًّا رضي الله عنهما أفضل من أبي عبيدة رضي الله عنه بالاتفاق، ومع ذلك فقد حكما بصحَّة إمامته عليهما -أن لو كان حيًّا-.
وقد اختَلَف العلماء في هذه المسألة، ومذهب الجمهور: أنها تنعقد له -أعني: للمفضول- وخالف في ذلك: عبّاد بن سليمان، والجاحظ، فقالا: لا ينعقد للمفضول على الفاضل، ولا يُعتدّ بخلافهما؛ لِمَا ذَكَرْنا في الأصول، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6158](2385)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 57) و"فضائل الصحابة"(1/ 30)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 433)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 63)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 180)، و (أحمد) في "فضائل الصحابة"(1/ 189 و 2/ 742)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(25/ 470)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6159]
(2386) - (حَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ
(1)
"المفهم" 6/ 248 - 249.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ، فَلَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ أَبِي: كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ، قَالَ:"فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبَّادُ بْنُ مُوسَى) الْخُتَّلِيّ -بضم الخاء المعجمة، وتشديد المثناة المفتوحة- أبو محمد، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](230) على الصحيح (خ م د س) تقدم في "اللباس والزينة" 14/ 5476.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وَلِيَ قضاء المدينة، وكان ثقةً فاضلًا عابدًا [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) بن عديّ بن نوفل النوفليّ المدنيّ، ثقةٌ عارف بالنسب [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1040.
5 -
(أَبُوهُ) جُبير بن مُطْعِم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ، صحابيّ مشهورٌ، عارف بالأنساب، مات سنة ثمان، أو تسع وخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 746.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبيهِ) جبير بن مطعم رضي الله عنه (أَنَّ امْرَأَةً) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمها. (سَأَلَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا) لم يُسمَّ الشيء الذي سألته. (فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ)؛ أي: في وقت آخر، والظاهر أنه لم يتيسّر له شيء يعطيها، فوعدها وقتًا آخر. (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ)؛
أي: أخبرني (إِنْ جِئْتُ، فَلَمْ أَجِدْكَ؟) قال محمد بن جبير (قَالَ أَبِي) جبير بن مطعم رضي الله عنه (كَأَّنَّهَا)؛ أي: المرأة، (تَعْنِي: الْمَوْتَ)؛ أي: بقولها: "فلم أجدك"، بسبب موتك. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَإِنْ لَمْ تَجِدِينِي) بالموت، أو بغيره (فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ") الصدّيق رضي الله عنه، ومرادها: إن جئت، فوجدتك قد متَّ، ماذا أعمل؟.
وفي رواية يزيد بن هارون، عن إبراهيم بن سعد عند البلاذريّ:"قالت: فإن رجعت، فلم أجدك، تُعَرِّض بالموت"، وكذا عند الإسماعيليّ من طريق ابن معمر، عن إبراهيم، وهو يُقَوِّي جَزْم القاضي عياض أنه كلام جيد.
واختُلِف في تعيين قائل: "كأنها" فجَزَم عياض بأنه جبير بن مطعم، راوي الحديث، وهو الظاهر، ويَحْتَمِل مَن دونه.
ورَوَى الطبراني من حديث عصمة بن مالك: "قال: قلنا: يا رسول الله إلى من ندفع صدقات أموالنا بعدك؟ قال: إلى أبي بكر الصديق"، وهذا لو ثبت كان أصرح في حديث الباب من الإشارة إلى أنه الخليفة بعده، لكن إسناده ضعيف.
ورَوَى الإسماعيليّ في "معجمه" من حديث سهل بن أبي خيثمة: "قال: بايع النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابيًّا، فسأله إن أتى عليه أجله من يقضيه؟ فقال: أبو بكر، ثم سأله من يقضيه بعده؟ قال: عمر. . ." الحديث، وأخرجه الطبراني في "الأوسط" من هذا الوجه مختصرًا
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جُبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6159 و 6160](2386)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3659) و"الأحكام"(7220) و"الاعتصام"(7360)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3676)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 404)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 82)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6656 و 6871)،
(1)
"الفتح" 8/ 343، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3659).
و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 547)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 153)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3868)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): أن فيه الإشارةَ إلى أن أبا بكر رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيّ رحمه الله: زعم من لا تحقيق عنده من المتأخرين أن هذا الحديث نصٌّ على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وليس كذلك؛ وإنَّما يتضمن الخبرُ عن أنَّه يكون هو الخليفة بعده؛ لكن بأيّ طريق تنعقد له: هل بالنصِّ عليه، أو بالاجتهاد؟ هذا هو المطلوب، ولم ينص عليه في الحديث، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ادعي لي أبا بكر أباكِ، وأخاكِ حتى أكتب كتابًا. . ." الحديث إلى قوله: "يأبى الله والمؤمنون: إلا أبا بكر"؛ ليس نصًّا في استخلافه؛ وإنما يدل على إرادة استخلافه، ولم يَنصّ عليه، ألا ترى أنه لم يكتب، ولم ينصّ.
والحاصل: أن هذه الأحاديث ليست نصوصًا في ذلك، لكنها ظواهر قويّةٌ؛ إذا انضاف إليها استقراء ما في الشريعة مِمَّا يدلّ على ذلك المعنى عُلم استحقاقه للخلافة، وانعقادها له ضرورة شرعيةً، والقادح في خلافته مقطوع بخطئه، وتفسيقه، وهل يُكَفَّر أم لا؟ مختلَف فيه، والأظهر: تكفيره لمن استقرأ ما في الشريعة، مما يدلّ على استحقاقه لها، وأنه أحق وأَولى بها، سيما وقد انعقد إجماع الصحابة على ذلك، ولم يَبق منهم مخالِف في شيء مِمَّا جرى هنالك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: استظهار القرطبيّ التكفير محلّ نظر، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: استَدلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بظاهر قولها: "فإن لم أجدك" أنها أرادت الموت، فأمَرها بإتيان أبي بكر رضي الله عنه، قال: وكأنه اقترن بسؤالها حالةٌ أفهمت ذلك، وإن لم تنطق بها، قال الحافظ: وإلى ذلك وقعت الإشارة بقوله: "كأنها تعني: الموت"، لكن قولها:"فإن لم أجدك" أعمّ في
(1)
"المفهم" 6/ 249 - 250.
النفي من حال الحياة، وحال الموت، ودلالته لها على أبي بكر مطابق لذلك العموم، وقول بعضهم: هذا يدلّ على أن أبا بكر هو الخليفة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيح، لكن بطريق الإشارة، لا التصريح، ولا يعارض جزمَ عمر رضي الله عنه بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستخلف؛ لأن مراده نفي النصّ على ذلك صريحًا، والله أعلم
(1)
.
4 -
(ومنها): أن مواعيد النبيّ صلى الله عليه وسلم كان على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها، وفيه ردٌّ على الشيعة في زَعْمهم أنه صلى الله عليه وسلم نَصَّ على استخلاف عليّ، والعباس رضي الله عنهما
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6160]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى)؛ يعني: أن يعقوب بن إبراهيم ساق الحديث عن أبيه بمثل سياق عبّاد بن موسى الْخُتّليّ عنه.
[تنبيه]: رواية يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1)
"الفتح" 17/ 264 - 265، كتاب "الاعتصام" رقم (7360).
(2)
"الفتح" 17/ 264 - 265، كتاب "الاعتصام" رقم (7360).
(6927)
- حدّثني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدّثنا أبي وعمي
(1)
، قالا: حدّثنا أبي، عن أبيه، أخبرني محمد بن جبير؛ أن أباه جبير بن مطعم أخبره، أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلّمته في شيء، فأمَرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "إن لم تجديني فَأْتي أبا بكر"، زاد الحميديّ عن إبراهيم بن سعد:"كأنها تعني: الموت". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6161]
(2387) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ: "ادْعِي لِي أَبَا بَكْرٍ، وَأَخَاكِ حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا، فَإِنَّي أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ، وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى، وَيَأْبَى اللهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السرخسيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدِّب وَلَد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد سنة ثلاثين أو بعد الأربعين، ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 114.
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فسرخسيّ، ويزيد، فواسطيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض:
(1)
هو: يعقوب بن إبراهيم الذي في سند مسلم.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2679.
صالح، عن الزهريّ، عن عروة، ورواية الأوَّلين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الرابعة، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ) الذي توفّي فيه.
[تنبيه]: هذا الحديث ساقه البخاريّ مطوّلًا، ولفظه من رواية القاسم، عن عائشة رضي الله عنها:"قالت عائشة: وارأساه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان، وأنا حيّ، فأستغفر لك، وأدعو لك"، فقالت عائشة: واثكلياه، والله إني لأظنك تحب موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّسًا ببعض أزواجك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وارأساه، لقد هممت -أو أردت- أن أُرسل إلى أبي بكر، وابنه، وأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله، ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله، ويأبى المؤمنون"
(1)
.
("ادْعِي لِي) بكسر العين المهملة، أمْر للأنثى مِن دعا يدعو، وأصله: ادعوي بضم العين بوزن: انصري، فنُقلت كسرة الواو إلى العين، وحُذفت الواو لالتقائها ساكنة مع ياء المخاطبة. (أَبَا بَكْرٍ) منصوب على المفعوليّة، يريد أباها، (وَأَخَاكِ) عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق شقيق عائشة رضي الله عنهما، تأخر إسلامه إلى قُبيل الفتح، وشَهِد اليمامة، والفتوح، ومات سنة ثلاث وخمسين في طريق مكة فَجْأةً، وقيل: بعد ذلك، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 9/ 572.
قال في "العمدة": قيل: ما فائدة ذكر أخيها؛ إذ لم يكن له دخل في الخلافة؟.
وأجيب: بأن المقام مقام استمالة قلب عائشة رضي الله عنها؛ يعني: كما أن الأمر مفوَّض إلى والدك كذلك الائتمار في ذلك بحضور أخيك، فأقاربُك هم أهل أمري، وأهل مشورتي، أو لمّا أراد تفويض الأمر إليه بحضورها أراد إحضار
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2145.
بعض محارمه، حتى لو احتاج إلى رسالة إلى أحد، أو قضاء حاجة لتصدّى لذلك. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما طَلَبه لأخيها مع أبي بكر رضي الله عنهما، فالمراد أنه يكتب الكتاب. انتهى
(2)
.
(حَتَّى أَكْتُبَ كِتَابًا)"حتى" تعليليّة، و"أكتب" منصوب بأن مضمرة بعدها؛ لكونه مستقبَلًا؛ كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كـ "جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا اوْ مُؤَوَّلًا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
و"كتابًا" منصوب على أنه مفعول به؛ لأن المراد: المكتوب، ويَحْتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا؛ لكون مصدرًا.
ووقع في رواية البخاريّ: "لقد هممت أن أوجّه إلى أبي بكر، وابنه، وأعهد"، ولبعض رواة البخاريّ:"وآتيه" بألف ممدودة، ومثناة فوقُ، ومثناة تحتُ، من الإتيان، قال القاضي عياض: وصوّبه بعضهم، وليس كما صَوّب، بل الصواب:"وابنه" بالباء الموحدة، والنون، وهو أخو عائشة، وتوضّحه رواية مسلم:"أخاك"، ولأن إتيان النبيّ صلى الله عليه وسلم كان متعذرًا، أو متعسِّرًا، وقد عَجَز عن حضور الجماعة، واستَخلف الصدّيق رضي الله عنه؛ ليصلي بالناس، واستأذن أزواجه أن يُمَرَّض في بيت عائشة رضي الله عنها، والله أعلم
(3)
.
(فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: لأني (أَخَافُ أَنْ يَتَمَنَّى مُتَمَنٍّ)؛ أي: في الخلافة بعد موته صلى الله عليه وسلم، (وَيَقُولَ قَائِلٌ: أَنَا أَوْلَى) مبتدأ وخبر؛ أي: أَولى بالخلافة من غيري، هكذا في بعض النُّسخ، ووقع في بعضها بلفظ:"أنا ولا"، قال النوويّ: هكذا هو في بعض النسخ المعتمدة: "أنا، ولا" بتخفيف "أنَا، ولا"؛ أي: يقول: أنا أحقّ، وليس كما يقول، بل يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وفي بعضها:"أنا أَولى"؛ أي: أنا أحقّ بالخلافة، قال القاضي عياض: هذه الرواية أجودها، ورواه بعضهم:"أنا وَلِي" بتخفيف النون، وكسر اللام؛
(1)
"عمدة القاري" 24/ 279.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 155.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 155 - 156.
أي: أنا أحقّ، والخلافة لي، وعن بعضهم:"أنا ولّاه"؛ أي: أنا الذي ولّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبعضهم:"أَنّى ولّاه": بتشديد النون؛ أي: كيف ولّاه؟.
(وَيَأْبَى اللهُ) يقال: أَبَى الرجلُ يَأْبَى إِبَاءً بالكسر والمدّ، وإِبَاءةً: امتَنَعَ، فهو آبٍ، وأبيٌّ، على فاعل، وفَعِيل، وتأَبَّى مثله، وبناؤه شاذّ؛ لأن باب فَعَلَ يَفْعَل بفتحتين يكون حلقيّ العين، أو اللام، ولم يأتِ من حلقيّ الفاء إلا: أبي يأبى، وعَضّ يَعَضّ في لغة، وأثّ الشَّعرُ يَأَثّ: إذا كَثُر، والتَفَّ، وربما جاء في غير ذلك، قالوا: ودَّ يودُّ في لغة، وأما لغة طيّئ في باب نسِيَ ينسَى؛ إذا قلبوا، وقالوا: نَسَى يَنْسى، فهو تخفيف، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
والمعنى هنا أن الله تعالى يمتنع من خلافة أحد، (وَ) كذا يأبى (الْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ") الصدّيق؛ أي: إلا خلافته رضي الله عنه.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6161](2387)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5666) و"الأحكام"(7217)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 253)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 50 و 144)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6598)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 52)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 23)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 153)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بشأن الخلافة، حتى همّ أن يكتب بذلك، إلا أن اعتماده على ربّه بأنه يتولّى دينه، ولا يضيّعه، بل يحفظه بخلافة أبي بكر رضي الله عنه، وشدّة وثوقه بأصحابه بأنهم لا يألون جهدًا في اختياره رضي الله عنه للخلافة حَمَله على أن لا يكتب ذلك، وقد حقّق الله سبحانه وتعالى ظنّه في ذلك، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 3.
2 -
(ومنها): مشروعيّة كتابة الوصايا في مرض الموت؛ ليكون ذلك الكتاب عمدة لمن أمَره بعد موته، فلا يقع نزاع بين ورثته.
3 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دلالةٌ ظاهرةٌ لِفَضْل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد وفاته، وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره، وفيه إشارة إلى أنه سيقع نزاع، ووقع كل ذلك. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" ليس نصًّا في استخلافه؛ وإنما يدل على إرادة استخلافه، ولم يَنصّ عليه، ألا ترى أنه لم يكتب، ولم ينص.
والحاصل: أن هذه الأحاديث ليست نصوصًا في ذلك، لكنها ظواهر قوية إذا انضاف إليها استقراء ما في الشريعة مِمَّا يدلّ على ذلك المعنى عُلم استحقاقه للخلافة، وانعقادها له ضرورة شرعية، والقادح في خلافته مقطوع بخطئه، وتفسيقه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6162]
(1028)
(3)
- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ: ابْنُ كَيْسَانَ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ "، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكَّيُّ) العدني الأصل، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 155.
(2)
"المفهم" 6/ 249 - 250.
(3)
هذا الرقم مكرّر.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ودمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يدلس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين بنونين مصغرًا الكوفيّ، صدوقٌ، يخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ الأَشْجَعِيُّ) سلمان الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قريبًا.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم سندًا ومتنًا في "كتاب الزكاة" برقم [28/ 2374](1028) وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟)"من" استفهاميّة، و"أصبح" بمعنى: صار، وخبره "صائمًا"، أو بمعنى دَخَلَ في الصباح، فتكون تامّةً، و"صائمًا" حال من ضميره.
وقوله: (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا) قال القاري رحمه الله: يوقف عليه بالألف، وأما وقفه بالنون المفتوحة فلحنٌ عاميّ، قال الطيبيّ رحمه الله: ذَكَر "أنا" هنا للتعيين في الإخبار، لا للاعتداد بنفسه، كما يُذكَر في مقام المفاخرة، وهذا هو الذي يُكرَه، وقد جاء قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، وقوله:{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86]، وقوله:{وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4)} [الكافرون: 4]، وقوله:{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} [الزخرف: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيّد ولد آدم"، وقال:"أنا أول من تنشقّ عنه الأرض"، وقال:"أنا أول شافع، وأول مشفّع"، وقال:"أنا محمد، وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحْشَر الناس على قدمي، وأنا العاقب"، إلى غير ذلك من الأحاديث، وكلّها في الصحاح، وقد تلفّظ بها السابق بالخيرات، صدّيق هذه الأمة رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كرّة بعد كرّة، ولم يُنكِر صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، فدلّت هذه النصوص كلّها على جواز قول القائل: أنا، فمن كره ذلك فلا حجة له.
[فإن قلت]: أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في دَيْن كان على أبي، فدققت الباب، فقال:"مَنْ ذا؟ " فقلت: أنا، فقال:"أنا أنا"، كأنه كرهها، فكيف يُجْمَع بينه وبين هذه النصوص؟.
[قلت]: يُجاب بأنه صلى الله عليه وسلم إنما سأله ليُخبر عن نفسه، فيعرف مَن الوارد عليه؟، فيرتفع الإبهام، فلما قال جابر رضي الله عنه: أنا، لم يأت بجواب يزيل الإبهام، ويفيد معرفة عَيْنه، بل بقي الإبهام على حاله، فأنكر عليه ذلك؛ للمعنى المذكور، لا لتلفّظه بتلك الكلمة، فلو قال جابرٌ: أنا جابرٌ، لم يُنْكِر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه ذلك، وقد تقدّم تمام البحث في ذلك في "كتاب الزكاة" بالرقم المذكور، ولله الحمد والمنّة.
وقوله: (مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ)؛ أي: ما اجتمعت هذه الخصال الأربعة المذكورة على الترتيب المذكور في يوم واحد، قال القاري: كذا قال ابن الملك، وكأن الترتيب أخذه من الفاء التعقيبية، وهو غير لازم؛ إذ يمكن حَمْل التعقيب على السؤال، كما ذكروا في "ثُمّ" أنه قد يكون للتراخي في السؤال، أو التقدير: إذا ذكرتم هذا فمن فعل هذا؟
وقوله: (إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ)؛ أي: بلا محاسبة، وإلا فمجرد الإيمان يكفي لمطلق الدخول، أو معناه: دخل الجنة من أيّ باب شاء، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6163]
(2388) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ، قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا، الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ"، فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ تَعَجُّبًا وَفَزَعًا، أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنِّي أُومِنُ بِه، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ، عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ، فَأَخَذَ مِنْهَا شَاةً، فَطَلَبَهُ الرَّاعِي، حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فالْتَفَتَ إِلَيْهِ الذِّئْبُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي؟ "، فَقَالَ النَّاسُ:
سُبْحَانَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وأنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، والسماع، إلا في موضع واحد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين، كلاهما من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رحمه الله أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ) رحمه الله (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا) قد ذكرنا غير مرة أن أصله "بين" زيدت فيه "ما"، ويضاف إلى جملة، وجوابه قوله:"التفتت إليه". (رَجُلٌ) لم يُوقَف على اسمه، وقد استظهر البخاريّ رحمه الله أن هذه القصّة وقعت في بني إسرائيل، حيث ذَكرها في ذِكر بني إسرائيل، وفي رواية البخاريّ من طريق الأعرج عن أبي سلمة: "صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال: بينما رجلٌ يسوق بقرةً؛ إذ ركبها، فضربها
…
". (يَسُوقُ بَقَرَةً لَهُ) البقر: اسم جنس، والبقرة تقع على الذَّكر والأنثى، وإنما دخلته الهاء على أنه واحد من جنس، والجمع بقرات، والباقر: جماعة البقر مع رعاتها
(1)
. (قَدْ حَمَلَ عَلَيْهَا)؛ أي: متاعه، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"إذ ركبها"، فيَحْتَمِل أنه ركبها، وأخذ معه متاعه عليها. (الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ الْبَقَرَةُ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ) بضمّ أوله، وفيه
(1)
"عمدة القاري" 12/ 159.
ثالثه مبنيًّا للمفعول؛ أي: لم يخلقني الله عز وجل (لِهَذَا)؛ أي: للحمل، والركوب، (وَلَكِنِّي إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ) يقال: حَرَث الأرض حَرْثًا، من باب نصر: إذا أثارها للزراعة
(1)
.
(فَقَالَ النَّاسُ) الحاضرون مجلسه صلى الله عليه وسلم (سُبْحَانَ اللهِ تَعَجُّبًا)؛ أي: قالوا هذا من أجل تعجّبهم مما سمعوا من الأمر المستغرَب، قال الأبيّ رحمه الله: هو استغرابٌ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"لكن أومن به أنا، وأبو بكر وعمر"؛ أي: إيمانًا لا استغراب فيه، فإن من استحضر أن نسبة الكائنات إلى قدرته تعالى على نسبة سواء لا يستغرب شيئًا، ولا يدلّ على أن الحاضرين لا يؤمنون به، نعم يؤمنون به مع استغراب، ثم الظاهر أن إيمانه صلى الله عليه وسلم بالخارق الذي هو كلام البقرة، وبصدق مدلوله، وهو أنها لم تُخلق للحمل، فيكون إقرارًا منه بذلك، وحينئذ فلا يجوز الحمل عليها، والحكم أنه يجوز أن يُحْمَل عليها ما لا يضرّ بها، ويُجاب بأن إيمانه إنما هو بالخارق فقط. انتهى
(2)
.
(وَفَزَعًا)؛ أي: خوفًا، ولعله من أن يكون من علامات الساعة، أو نحو ذلك. (أَبَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟) الهمزة للاستفهام التعجّبيّ، و"بقرة" مبتدأ سوّغ الابتداء به، مع كونه نكرةً تقدُّمُ الاستفهام، و"تكلّم" بفتح أوله، أصله: تتكلّم بتاءين مضارع تكلّمت، فحُذفت إحداهما للتخفيف، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
والجملة خبر المبتدأ، ويَحْتَمِل أن يكون "تُكلّم" بضمّ أوله مضارع كَلّم؛ أي: تكلّم صاحبها.
ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "بقرة تكلّم" بلا همزة، وعليه فيكون المسوّغ إما تقدير الهمزة المذكورة، أو كونه خارقًا للعادة، كما ذُكر في محلّه.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء جزاء شرط محذوف؛ أي: فإذا كان الناس يستغربونه، ويتعجّبون منه، فإني لا أستغربه، وأومن به
(3)
.
(1)
راجع: "المصباح المنيري" 1/ 127.
(2)
"شرح الأبيّ" 6/ 197.
(3)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3866.
(وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ") رضي الله عنهما قال التوربشتيّ رحمه الله: إنما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك تخصيصهما بالتصديق الذي بلغ عين اليقين، وكوشف صاحبه بالحقيقة التي ليس وراءها للتعجّب مجال. انتهى
(1)
.
ووقع عند ابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه في آخره في القصتين:"فقال الناس: آمنا بما آمن به رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقوله: (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ)؛ أي: بالإسناد السابق، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"بَيْنَا رَاعٍ فِي غَنَمِهِ) "راعٍ: مرفوع بالابتداء، موصوف بقوله:"في غنمه"، وخبره جملة قوله:"عدا عليه الذئب". (عَدَا)؛ أي: ظلمه، وتجاوز الحدّ عليه، يقال: عَدَا عليه يَعْدُو عَدْوًا، وعُدُوًّا، مثل فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وعُدْوَانًا، وعَدَاءً بالفتح، والمدّ: ظَلَم، وتجاوز الحدّ، وهو عَادٍ، والجمع عَادُونَ، مثل قاض وقاضون، وسَبْعٌ عَادٍ، وسِبَاعٌ عَادِيَةٌ، واعْتَدَى، وتَعَدَّى مثله، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
. (عَلَيْهِ)؛ أي: على الراع، فالضمير له، ولو كان لغنمه لأنّثه؛ لأنه اسم جنس مؤنّثٌ، ولذا قال بعده:"فأخذ منها"، و"استنقذتها" بالتأنيث.
قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَنَمُ: اسمُ جنس يُطلق على الضأن، والمعز، وقد تُجمع على أَغْنَامٍ، على معنى قُطْعانات من الغنم، ولا واحد لِلْغَنَمِ من لفظها، قاله ابن الأنباريّ، وقال الأزهريّ أيضًا: الغَنَمُ: الشاء، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح على فلان غَنَمَانِ؛ أي: قَطِيعان من الغَنَمِ، كلّ قطيع منفرد بِمَرْعًى، ورَاعٍ، وقال الجوهريّ: الغَنَمُ: اسم مؤنثٌ موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور والإناث، وعليهما، ويُصَغَّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنَيْمَةٌ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، وصُغِّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى
(3)
.
(الذِّئْبُ) مرفوع على الفاعليّة، قال المجد رحمه الله: الذِّئب بالكسر، ويُترك همزه: كلبُ البرّ، جَمْعه: أَذْؤُبٌ، وذِئابٌ، وذُؤبانٌ بالضمّ، وهي بِهاء. انتهى
(4)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3867.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 397.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 455.
(4)
"القاموس المحيط" ص 463.
وقال في "الفتح": قوله: "بينما راع في غنمه عدا عليه الذئب": لم أقف على اسم هذا الراعي، وقد أورد البخاريّ الحديث في ذكر بني إسرائيل، وهو مُشعر بأنه عنده ممن كان قبل الإسلام.
وقد وقع كلام الذئب لبعض الصحابة في نحو هذه القصّة، فروى أبو نعيم في "الدلائل" من طريق ربيعة بن أوس، عن أنيس بن عمرو، عن أهبان بن أوس:"قال: كنت في غنم لي، فشَدَّ الذئب على شاة منها، فصِحْت عليه، فأقعى الذئب على ذنبه يخاطبني، وقال: من لها يوم تشتغل عنها؟ تمنعني رزقًا رزقنيه الله تعالى، فصفقت بيدي، وقلت: والله ما رأيت شيئًا أعجب من هذا، فقال: أعجب من هذا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات، يدعو إلى الله، قال: فأتى أُهبان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، وأسلم".
فيَحْتَمِل أن يكون أهبان لَمّا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك كان أبو بكر وعمر حاضرين، ثم أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وأبو بكر وعمر غائبين، فلذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإني أُومِنُ بذلك، وأبو بكر، وعمر".
قال: وزاد في "المزارعة": قال أبو سلمة: "وما هما يومئذ في القوم"؛ أي: عند حكاية النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لِمَا اطَّلع عليه من غلبة صدق إيمانهما، وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما. انتهى
(1)
.
(فَأَخَذَ مِنْهَا)؛ أي: تلك الغنم، وأنّثها؛ لِمَا سبق أنه اسم جنس مؤنّثٌ. (شَاةً)؛ أي: واحدةً، (فَطَلَبَهُ)؛ أي: الذئب، (الرَّاعِي، حَتَّى اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ)؛ أي: استخلصها من ذلك الذئب، يقال: أنقذته من الشرّ: إذا خلّصته منه، فَنَقِذَ نَقَذًا، من باب تَعِبَ: تخلّص، والنَّقَذُ بفتحتين: ما أنقذته، قاله الفيّوميّ
(2)
. (فَالْتَفَتَ) بالبناء للفاعل، (إِلَيْهِ الذِّئْبُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ لَهَا)"من" استفهاميّة استفهامًا إنكاريًّا؛ أي: لا أحد يقوم برعايتها، وحِفْظها (يَوْمَ السَّبُعِ) قال في "الفتح": قال عياض: يجوز ضم الموحّدة، وسكونها، إلا أن الرواية بالضم، وقال الحربيّ: هو بالضم، والسكون، وجزم بأن المراد به الحيوان المعروف،
(1)
"الفتح" 8/ 348 - 349.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 620.
وقال ابن العربيّ: هو بالإسكان، والضمُّ تصحيفٌ، كذا قال، وقال ابن الجوزيّ: هو بالسكون، والمحدِّثون يروونه بالضمّ، وعلى هذا؛ أي: الضمّ، فالمعنى: إذا أخذها السبع، لم تَقْدِر على خلاصها منه، فلا يرعاها حينئذ غيري؛ أي: إنك تَهْرُب منه، وأكون أنا قريبًا منه، أرعى ما يفضل لي منها.
وقال الداوديّ: معناه: من لها يوم يطرقها السبع؛ أي: الأسد، فتفرّ أنت منه، فيأخذ منها حاجته، وأتخلّف أنا، لا راعي لها حينئذ غيري.
وقيل: إنما يكون ذلك عند الاشتغال بالفتن، فتصير الغنم هَمَلًا، فتنهبها السباع، فيصير الذئب كالراعي لها؛ لانفراده بها.
وأما بالسكون، فاختُلِف في المراد به، فقيل: هو اسم الموضع الذي يقع فيه الحشر يوم القيامة، وهذا نقله الأزهريّ في "تهذيب اللغة" عن ابن الأعرابيّ، ويؤيده أنه وقع في بعض طرقه، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة:"يوم القيامة".
وقد تُعُقّب هذا بأن الذئب حينئذ لا يكون راعيًا للغنم، ولا تعلُّق له بها.
وقيل: هو اسم يوم عيد، كان لهم في الجاهلية، يشتغلون فيه باللهو واللعب، فيغفل الراعي عن غنمه، فيتمكن الذئب من الغنم، وإنما قال:"ليس لها راع غيري" مبالغة في تمكّنه منها، وهذا نقله الإسماعيليّ عن أبي عبيدة.
وقيل: هو من سَبَعْتُ الرجلَ: إذا ذَعَرته؛ أي: مَن لها يوم الفزع؟ أو مِن أسبعته: إذا أهملته؛ أي: مَن لها يوم الإهمال؟
قال الأصمعيّ: السَّبْع: الْهَمَل، وأسبع الرجل أغنامه: إذا تركها تصنع ما تشاء، ورَجَّح هذا القول النوويّ.
وقيل: يوم الأكل، يقال: سَبَعَ الذئبُ الشاةَ: إذا أكلها.
وحَكَى صاحب "المطالع" أنه رُوي بسكون التحتانية آخرِ الحروف، وفسَّره بيوم الضَّيَاع، يقال: أسبعت، وأضيعت بمعنًى، وهذا نقله ابن دحية عن إسماعيل القاضي، عن عليّ ابن المدينيّ، عن معمر بن المثنى.
وقيل: المراد بيوم السبع: يوم الشدّة، كما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن مسألة، فقال: أجرأ من سَبُع، يريد أنها من المسائل الشداد التي يَشتدّ
فيها الخطب على المفتي، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَوْمَ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ غَيْرِي؟ ") بدل من "يوم السبع"، والمعنى: مَن لها يوم يَطْرُقها السَّبُع، فيَطْرُدكم عنها، وتبقى لا راعي لها غيري؛ لفراركم من السبع عنها، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول الذئب: "من لها يوم السَّبُع" الرواية الصحيحة التي قرأناها، وقيّدناها على مشايخنا بضم الباء، لا غير، ومعناه مفسَّر بباقي الحديث؛ إذ قال فيه:"يوم ليس لها راعٍ غيري"، فإنه أبدل "يوم ليس لها راعٍ غيري"، من "يوم السَّبُع"، وكأنه قال: من يستنقذ هذه الشاة يوم ينفرد السَّبُع بها، ولا يكون معها راع، ولا من يمنعها؟! وكأنه -والله أعلم- يشير إلى نحو مما تقدَّم في "الحج" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا، قال:"يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلا العوافي -يريد السِّباع والطير-، ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة، فينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرَّا على وجوههما"، فحاصل هذا أن أهل المدينة ينجلون عنها، فلا يبقى فيها إلا السِّباع، ويهلك من حولها من الرُّعاة، فتبقى الغنم متوحشة منفردة، فتأكلُ الذئابُ ما شاءت، وتترك ما شاءت، وهذا لم يُسمع أنه وقع، ولا بدَّ من وقوعه.
قال: وقد قيّده بعض اللغويين بسكون الباء، وليست برواية صحيحة، ولكن اختُلف في معنى ذلك على أقوال، يطول ذِكرها، ولا معنى لأكثرها، وأشبه ما قيل في ذلك، ما حكاه الحربيّ: أن سكون الباء لغة فيه، قال: وقرأ الحسن: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} ، بسكونها. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ في قصّة الذئب بلفظ: "فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني، فمَن لها يوم السبع؟ "، قال ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح": يجوز في "هذا" ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون منادى، محذوفًا منه حرف النداء، وهو مما منعه
(1)
"الفتح" 8/ 349 - 350، كتاب "فضائل الصحابة".
(2)
"المفهم" 6/ 246 - 247.
البصريّون، وأجازه الكوفيّون، وإجازته أصحّ؛ لثبوتها في الكلام الفصيح؛ كقول ذي الرمّة [من الطويل]:
إِذَا هَمَلَتْ عَيْنِي لَهَا قَالَ صَاحِبِي
…
بِمِثْلِكَ هَذَا لَوْعَةٌ وَغَرَامُ
ومثله قول الآخر [من الخفيف]:
ذَا ارْعِوَاءً فَلَيْسَ بَعْدَ اشْتِعَالِ الر
…
أَسِ شَيْبَا إِلَى الصِّبَا مِنْ سَبِيلِ
وكقول بعض الطائيين [من البسيط]:
إِنَّ الأُولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ
…
هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولَا
ومثله قول الآخر [من الخفيف]:
نَوِّلِي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا
…
وَصِلِينِي كَمَا زَعَمْتِ تَلَانَا
أراد: صليني الآن يا تا؛ أي: هذه.
والثاني: أن يكون "هذا" في موضع نصب على الظرفيّة، مشارًا به إلى اليوم، والأصل: هذا اليوم استنقذتها منّي.
والثالث: أن يكون "هذا" في موضع نصب على المصدريّة، والأصل: هذا الاستنقاذ استنقذها منّي. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله
(1)
.
(فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنِّي أُومِنُ بِذَلِكَ أنَا) إنما أتى به لأجل العطف على الضمير المتصل على رأي البصريين، وقد أجازه الكوفيّون، ويُحمل عليه تَرْكه في قوله قبله:"فإني أؤمن به وأبو بكر، وعمر".
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أنا وأبو بكر وعمر" فإن قلت: ما فائدة ذكر "أنا"، وعَطْف ما بعده عليه؟، وهلّا عَطَفَ على المستتر في "أُؤمِنُ"، مستغنيًا عنه بالجارّ والمجرور؟.
قلت: لو لم يذكر "أنا" لاحتمل أن يكون "وأبو بكر" عطفًا على محلّ "إنّ" واسمها، والخبر محذوفٌ، فلا يدخل في معنى التأكيد، وتكون هذه الجملة واردة على التبعيّة، ولا كذلك في هذه الصورة. انتهى
(2)
.
(1)
"شواهد التوضيح" ص 211 - 212.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3866 - 3867.
(وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ") زاد في رواية: "وما هما ثَمّ"؛ أي: ليس أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حاضرين في مجلسه صلى الله عليه وسلم حين قال: "فإني أُؤمن بذلك أنا، وأبو بكر، وعمر"، وإنما قاله تنبيهًا على شدّة وثوقه بكمال إيمانهما، وعدم استغراب شيء من ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6163 و 6164 و 6165 و 6166]، (2388)، و (البخاريّ) في "الحرث والمزارعة"(2324) و"الأنبياء"(3471) و"فضائل الصحابة"(3663)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3677 و 3695)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 38)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2354)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1054)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 245 - 246 و 382) وفي "فضائل الصحابة"(183 و 643)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 176)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6485)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 410 و 411)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3889)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بما وقع فيما مضى من الأمم.
2 -
(ومنها): بيان فضل الشيخين رضي الله عنهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نَزّلهما بمنزلة نفسه، وهي من أعظم الخصائص.
3 -
(ومنها): ما قال ابن المهلّب: فيه بيان أن كلام البهائم من الخصائص التي خُصّت بها بنو إسرائيل، وهذه الواقعة كانت فيهم، وهو الذي فَهِمه البخاري؛ إذ خرّجه في "باب ذكر بني إسرائيل".
وتعقّبه العينيّ، فقال: لا يلزم من ذكر البخاريّ هذا في بني إسرائيل
اختصاصهم بذلك
(1)
.
4 -
(ومنها): جواز التعجب من خوارق العادات، وتفاوتُ الناس في المعارف
(2)
.
5 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الدواب لا تُستعمل إلا فيما جرت العادة باستعمالها فيه، ويَحْتَمِل أن يكون قولها:"إنما خُلِقْتُ للحرث" للإشارة إلى مُعْظَم ما خُلِقَت له، ولم تُرِد الحصر في ذلك؛ لأنه غير مراد اتفاقًا؛ لأن من أجلّ ما خُلِقَتْ له أنها تُذبح، وتؤكل بالاتفاق
(3)
.
6 -
(ومنها): ما قال ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث حجة على من منع أكل الخيل مستدلًّا بقوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8]؛ فإنه لو كان ذلك دالًّا على منع أكْلها لدلّ هذا الخبر على مَنْع أكل البقر؛ لقوله في هذا الحديث: "إنما خُلقت للحرث"، وقد اتفقوا على جواز أكلها، فدل على أن المراد بالعموم المستفاد من جهة الامتنان في قوله:{لِتَرْكَبُوهَا} ، والمستفاد من صيغة "إنما" في قوله:"إنما خُلقت للحرث" عموم مخصوص. انتهى
(4)
.
7 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن البقر لا يُحْمَل عليها، ولا تُرْكَب؛ وإنَّما هي للحرث، وللأكل، والنسل، والرَّسْلِ. وفيه ما يدلّ على وقوع خرق العوائد، على جهة الكرامة، أو على جهة التنبيه لمن أراد الله به الاستقامة، وفيه ما يدلّ على علم النبيّ صلى الله عليه وسلم بصحَّة إيمان أبي بكر وعمر، ويقينهما، وأنه كان ينزلهما منزلة نفسه، ويقطع على يقينهما، وهذه خصوصية عظيمة، ودرجة رفيعة. انتهى
(5)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6164]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي،
(1)
"عمدة القاري" 12/ 160.
(2)
"الفتح" 8/ 350.
(3)
"الفتح" 8/ 130، كتاب "الأنبياء" رقم (3471).
(4)
"شرح البخاريّ" لابن بطّال 6/ 459، و"الفتح" 6/ 118، كتاب "المزارعة" رقم (2324).
(5)
"المفهم" 6/ 245 - 246.
عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قِصَّةَ الشَّاةِ وَالذِّئْبِ، وَلَمْ يَذْكُرْ قِصَّةَ الْبَقَرَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11]، (ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10]، (ت 199) وله أربع وستون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] مات في شعبان (175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) هو: عُقيل -بالضم- ابن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأيليّ -بفتح الهمزة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام- أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6]، (ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
و"ابن شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية عُقيل بن خالد، عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3487)
- حدّثنا عبد الله بن يوسف، حدّثنا الليث، حدّثنا عُقيل، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، قالا: سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما راعٍ في غنمه، عدا الذئب، فأخذ منها شاةً، فطلبها، حتى استنقذها، فالتفت إليه الذئب، فقال له: من لها يوم السبع؟ ليس لها راعٍ غيري"، فقال الناس: سبحان الله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"فإني أؤمن به، وأبو بكر، وعمر"، وما ثَمَّ أبو بكر، وعمر. انتهى
(1)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1349.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6165]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَفِي حَدِيثِهِمَا ذِكْرُ الْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ مَعًا، وَقَالَا فِي حَدِيثِهِمَا:"فَإِنِّي أُومِنُ بِهِ أَنَا، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ"، وَمَا هُمَا ثَمَّ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ)
(1)
عُمَر بن سَعْد بن عبيد الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" الثاني هو الثوريّ.
وقوله: (وَمَا هُمَا ثَمَّ) بالثاء المثلّثة، وتشديد الميم: اسم إشارة للمكان البعيد؛ أي: ليسا حاضرين في ذلك المكان، وفي هذا منقبة عظيمة للشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ إذ استغرب السامعون ما خالف العادة، لا يريدون به الإنكار، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الشيخين لكمال إيمانهما، واطمئنان قلوبهما، وسُمُوّ إدراكهما يؤمنان بما يقول دون تردّد، أو استغراب بما عَرَفا من قدرة الله تعالى، وبما أيقنا من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4].
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3284)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، حدّثنا أبو الزناد، عن
(1)
"الْحَفَريّ" -بفتحتين- نسبة إلى حَفَر: موضع بالكوفة.
الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم أقبل على الناس، فقال:"بينا رجل يسوق بقرةً إذ ركبها، فضربها، فقالت: إنا لم نُخلق لهذا، إنما خُلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله، بقرةٌ تتَكَلَّم، فقال: فإني أُؤمِن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثَمَّ، وبينما رجل في غنمه إذ عدا الذئب، فذهب منها بشاة، فطلب، حتى كأنه استنقذها منه، فقال له الذئب: هذا استنقذتها مني، فمن لها يوم السبع، يوم لا راعيَ لها غيري؟ فقال الناس: سبحان الله، ذئب يتكلم، قال: فإني أؤمن بهذا أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثَمَّ". انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ، عن أبي الزناد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6485)
- أخبرنا الحسين بن محمد بن أبي معشر، حدّثنا أحمد بن سليمان بن أبي شيبة، حدثنا أبو داود الْحَفَريّ، حدّثنا سفيان الثوريّ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرةً، فأراد أن يركبها، فالتَفَتَت إليه، فقالت: إنا لم نُخلق لهذا، إنما خُلقنا ليُحْرَث علينا، فقال من حوله: سبحان الله، فقال صلى الله عليه وسلم: آمنت به أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثَمَّ، قال: وبينما رجل في غنم له، فأخذ الذئب الشاة، فتبعه الراعي؛ فلفظها، ثم قال: كيف لك بيوم السباع، حيث لا يكون لها راعٍ غيري؟ فقال من حوله: سبحان الله، فقال صلى الله عليه وسلم: آمنت به أنا، وأبو بكر، وعمر، وما هما ثَمَّ". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6166]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1280.
(2)
"صحيح ابن حبان" 14/ 404.
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مِسْعَرُ) بن كِدَام -بكسر أوله، وتخفيف ثانيه- ابن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) الضمير لشعبة، ومِسْعر.
[تنبيه]: رواية شعبة عن سعد بن إبراهيم ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2199)
- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا غندرٌ، حدّثنا شعبة، عن سعد، سمعت أبا سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بينما رجل راكب على بقرة، التفتت إليه، فقالت: لم أُخلق لهذا، خُلقت للحراثة، قال: آمنت به أنا، وأبو بكر، وعمر، وأخذ الذئب شاةً، فتبعها الراعي، فقال الذئب: من لها يوم السبع؟ يوم لا راعي لها غيري، قال: آمنت به أنا، وأبو بكر، وعمر"، قال أبو سلمة: وما هما يومئذ في القوم. انتهى
(1)
.
وأما رواية مسعر، عن سعد، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
(2) - (بَابُ فَضَائِلِ عُمَرَ رضي الله عنه
-)
هو: عمر بن الخطاب بن نُفَيل - بِنون، وفاء -مصغرًا- ابن عبد العزى بن رِيَاح -بكسر الراء، بعدها تحتانية، وآخره مهملة- ابن عبد الله بن قُرْط بن رَزَاح -بفتح الراء، بعدها زاي، وآخره مهملة- ابن عديّ بن كعب بن لُؤيّ بن غالب، يَجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في كعب، وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد، بخلاف أبي بكر، فبين النبيّ صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حَنتمة بنت هاشم بن المغيرة، ابنة عمّ أبي جهل والحارثِ ابني هشام بن المغيرة، ووقع عند ابن منده أنها بنت هشام أخت أبي جهل، وهو تصحيف، نَبَّه عليه ابن عبد البر وغيره.
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 818.
وكنيته: أبو حفص، ولَقَبه: الفاروق القرشيّ العدويّ.
أما كنيته فجاء في "السيرة" لابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كناه بها، وكانت حفصة أكبر أولاده.
وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق، فقيل: أول من لقّبه به النبيّ صلى الله عليه وسلم، رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في "تاريخه"، من طريق ابن عباس، عن عمر، ورواه ابن سعد من حديث عائشة، وقيل: أهل الكتاب، أخرجه ابن سعد عن الزهريّ، وقيل: جبريل، رواه البغوي. انتهى
(1)
.
وقال في "الإصابة": جاء عنه أنه وُلد بعد الفجار الأعظم بأربع سنين، وذلك قبل المبعث النبويّ بثلاثين سنة، وقيل: دون ذلك.
ذَكَر خليفة بسند له أنه وُلد بعد الفيل بثلاث عشرة سنةً، وكان إليه السِّفَارة في الجاهلية، وكان عند المبعث شديدًا على المسلمين، ثم أسلم، فكان إسلامه فتحًا على المسلمين، وفَرَجًا لهم من الضِّيق، قال عبد الله بن مسعود: وما عَبَدْنا الله جهرةً حتى أسلم عمر. أخرجه.
وأخرج ابن أبي الدنيا بسند صحيح، عن أبي رجاء العُطَارديّ قال: كان عمر طويلًا جسيمًا أصلع أشعر، شديد الحمرة، كثير السَّبَلة، في أطرافها صهوبة، وفي عارضيه خفة.
وروى يعقوب بن سفيان في "تاريخه" بسند جيد إلى زِرّ بن حُبيش قال: رأيت عمر أعسر، أصلع، آدم، قد فَرَع الناس، كأنه على دابة، قال: فذكرت هذه القصة لبعض ولد عمر، فقال: سمعنا أشياخنا يذكرون أن عمر كان أبيض، فلما كان عام الرمادة، وهي سَنَة المجاعة، ترك أكل اللحم، والسمن، وأدمن أكل الزيت حتى تغيّر لونه، وكان قد احمرّ، فشحب لونه.
وأخرج يونس بن بكير في زيادات المغازي عن أبي عمر الجزار، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم أعز الإسلام بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب"، فأصبح عمر، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو يعلى من طريق أبي عامر العَقَديّ، عن خارجة، عن نافع،
(1)
"الفتح" 8/ 375 - 376، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3679).
عن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعِزّ الإسلام بأحب الرجلين
إليك".
وأخرج أحمد من رواية صفوان بن عمرو، عن شريح بن عبيد، قال: قال عمر: خرجت أتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته سبقني إلى المسجد، فقمت خلفه، فاستفتح "سورة الحاقّة"، فجعلت أتعجب من تأليف القرآن، فقلت: هذا والله شاعر، كما قالت قريش، قال: فقرأ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)} ، فقلت: كاهن، قال:{وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42)} [الحاقة: 40 - 42]، حتى ختم السورة، قال: فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
وأخرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" بسند فيه إسحاق بن أبي فروة، عن ابن عباس، أنه سأل عمر عن إسلامه، فذكر قصته بطولها، وفيها: أنه خرج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة، وأصحابه الذين كانوا اختَفَوا في دار الأرقم، فعلمت قريش أنه امتنع، فلم تصبهم كآبة مثلها، قال: فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ الفاروق. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(1)
.
[تنبيه]: ساق البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" قصّة مقتل عمر رضي الله عنه، فقد أخرج بسنده عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حُنيف، قال: كيف فعلتما، أتخافان أن تكونا قد حَمّلتما الأرضَ ما لا تطيق؟ قالا: حَمّلناها أمرًا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر: لئن سلّمني الله لأدَعَن أرامل أهل العراق لا يَحْتَجْن إلى رجل بعدي أبدًا، قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مرّ بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم يَرَ فيهم خللًا تقدم، فكبَّر، وربما قرأ "سورة يوسف"، أو "النحل"، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبَّر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار الْعِلْج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه،
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 588 - 590.
حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طَرَح عليه بُرْنُسًا، فلما ظن العِلْج أنه مأخوذ نَحَرَ نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف، فقدَّمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون، غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة، ثم جاء، فقال: غلام المغيرة، قال: الصَّنَعُ؟ قال: نعم، قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل مِيتتي بيد رجل يَدَّعي الإسلام، قد كنتَ أنت وأبوك تُحبان أن تَكْثُر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئتَ فعلتُ؛ أي: إن شئت قتلنا، قال: كذبت، بعدما تكلموا بلسانكم، وصَلَّوا قبلتكم، وحجوا حجكم، فاحتُمِل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأُتي بنبيذ، فشربه، فخرج من جوفه، ثم أُتي بلبن، فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميتٌ، فدخلنا عليه، وجاء الناس، فجعلوا يُثنون عليه، وجاء رجل شابّ، فقال: أبْشِر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقِدَم في الإسلام، ما قد علمتَ، ثم وَلِيت، فعدلت، ثم شهادةٌ، قال: وَدِدت أن ذلك كفاف، لا عليّ، ولا لي، فلما أدبر، إذا إزاره يَمَسّ الأرضَ، قال: رُدُّوا عليّ الغلامَ، قال: ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر، انظر ما عليّ من الدَّين، فحسبوه، فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، أو نحوه، قال: إن وَفَى له مالُ آل عمر، فأدِّه من أموالهم، وإلا فَسَلْ في بني عديّ بن كعب، فإن لم تَفِ أموالهم، فَسَلْ في قريش، ولا تَعْدُهُم إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال، انطلِق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلامَ، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدْفَن مع صاحبيه، فسَلَّم، واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلامَ، ويستأذن أن يُدْفَن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنّ به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعوني،
فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحبّ يا أمير المؤمنين أَذِنَتْ، قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهمّ إليّ من ذلك، فإذا أنا قضيت، فاحملوني، ثم سَلِّم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أَذِنَت لي، فأدخلوني، وإن ردّتني رُدّوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة، والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجَتْ عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فَوَلَجَتْ داخلًا لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استَخْلِف، قال: ما أجد أحدًا أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر، أو الرهط الذين تُوُفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ، فسمى عليًّا، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعدًا، وعبد الرحمن، وقال: يَشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء؛ كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعدًا، فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أُمِّر، فإني لم أعزله عن عجز، ولا خيانة، وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأوَّلين، أن يَعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حُرْمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أن يُقْبَل من محسنهم، وأن يُعْفَى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا، فإنهم رِدْء الإسلام، وجُبَاة المال، وغيظ العدوّ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فَضْلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنهم أصل العرب، ومادّة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، ويردّ على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله تعالى، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من ورائهم، ولا يكلَّفوا إلا طاقتهم، فلما قُبِض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسَلَّم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأُدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فُرِغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى عليّ، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرّأ من هذا الأمر فنجعله إليه، واللهُ عليه والإسلامُ لينظرن أفضلهم في نفسه، فأَسْكَت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إليّ والله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقَدَم في
الإسلام، ما قد علمت، فالله عليك لئن أمَّرتك لتعدلنّ، ولئن أمّرت عثمان لتسمعنّ، ولتطيعنّ، ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايَعه، فبايَع له عليّ، وولج أهل الدار فبايعوه. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6167]
(2389) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وُضِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ، وَيُثْنُونَ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ، وَأَنَا فِيهِمْ، قَالَ: فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا بِرَجُلٍ قَدْ أَخَدَ بِمَنْكِبِي مِنْ وَرَائِي، فَالْتَفتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ، فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ، وَايْمُ اللهِ، إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، وَذَاكَ أَنِّي كُنْتُ أُكَثِّرُ أَسْمَعُ
(2)
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ"، فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو، أَو لأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَهُمَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سَهْل الكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
(1)
"صحيح البخاري" 3/ 154 - 156.
(2)
وفي نسخة: "كنت كثيرًا أسمع".
4 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) هو: عبد الله بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن المروزيّ، مولى بني حنظلة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ جُمِعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
5 -
(عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ) النوفليّ المكيّ، ثقةٌ [6].
رَوَى عن ابن أبي مليكة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وابنه عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، وعطاء بن أبي رباح، وطاووس، وغيرهم.
وروى عنه الثوريّ، ووهب بن خالد، وابن المبارك، وعيسى بن يونس، ويحيى القطان، وأبو أحمد الزُّبيريّ، وبشر بن السَّريّ، ورَوح بن عبادة، وغيرهم.
قال أحمد: مكيّ قرشيّ من أمثل من يكتبون عنه، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثقه العجليّ، وابن الْبَرْقيّ، ومحمد بن مسعود بن العجميّ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة، تقدّم في الباب الماضي.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.
8 -
(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، استُشهد في رمضان سنة أربعين، وله ثلاث وستون سنةً على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفناه غير مرّة، وأن شيخه أبا كُريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما، وفيه أن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، ذو مناقب جمّة، فإنه ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته، ومن السابقين الأولين، ورجّح جمعٌ أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومات، وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض باجماع أهل السُّنَّة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: كون هذا الحديث من مسند عليّ رضي الله عنه هو الصواب، ولذا أورده الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفة الأشراف"
(1)
في ترجمة عبد الله بن عباس عن عليّ رضي الله عنهم، وأما جَعْل بعض الشرّاح
(2)
له من مسند ابن عبّاس رضي الله عنهما، فلا وجه له، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله بن عبيد الله (ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ)، واسمه زهير بن عبد الله بن جُدْعان، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: وُضِعَ) بالبناء للمفعول، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (عَلَى سَرِيرِهِ) قال النوويّ: السرير هنا النعش، والمعنى أنه وُضع على نعشه لأجل غَسْله، (فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ) بالنون، والفاء؛ أي: أحاطوا به من جميع جوانبه، والأكناف: النواحي
(3)
، وقوله (يَدْعُونَ) جملة حاليّة؛ أي: يدعون له بالمغفرة، (ويُثْنُونَ) بضمّ أوله، مضارع أثنى بخير: إذا وَصَفه به؛ يعني: أنهم يصفونه بأعماله الصالحة التي كان يعملها قبل أن يصاب، (وَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ)؛ أي: صلاة الجنازة، (قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ) بالبناء للمفعول؛ أي: قبل أن تُرفع جنازته إلى القبر، قال ابن عبّاس:(وَأَنَا فِيهِمْ)، والجملة حاليّة أيضًا. (قَالَ) ابن عبّاس (فَلَمْ يَرُعْنِي) بفتح الياء، وضم الراء، ومعناه: لم يفجأني، ولم يُفزعني إلا ذلك، والمراد أنه رآه بغتةً. (إِلَّا بِرَجُلٍ) قال النوويّ: هكذا هو في النُّسخ "برجل" بالباء؛ أي: لم يفجأني الأمر، أو الحال إلا برجل. انتهى
(4)
، ولفظ البخاريّ:"فلم يرعني إلا رجلٌ"، وهي واضحة.
(قَدْ أَخَذَ بِمَنْكِبِي) بفتح الميم، وكسر الكاف: مجتمع رأس الْعَضُد والكتف، وهو مفرد مضاف لياء المتكلّم. (مِنْ وَرَائِي)؛ أي: من خلفي، قال ابن عبّاس:(فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى الرجل، (فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففجأني وجود عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، (فَتَرَحَّمَ عَلَى عُمَرَ)، وفي رواية للبخاريّ:"فقال: يرحمك الله"، (وَقَالَ) عليّ رضي الله عنه (مَا خَلَّفْتَ) بفتح
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 7/ 411.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع شرحه: 23/ 387.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 197.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 158.
التاء، واللام مشدّدة؛ أي: ما تركتَ بعدك رجلًا أغبطه في عمله أكثر منك، وأحبّ أن ألقى الله بمثل عمله منك. (أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ) بنصب "أحبّ"، ورَفْعه، قاله الكرمانيّ، وغيره، قال العينيّ: أما النصب فعلى أنه صفة لـ"أحدًا"، وأما الرفع فعلى أنه يكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أحبّ
(1)
. (أَنْ أَلْقَى اللهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ) قال في "الفتح": وفي هذا الكلام أن عليًّا رضي الله عنه كان لا يعتقد أن لأحد عملًا في ذلك الوقت أفضل من عمل عمر رضي الله عنه، وقد أخرج ابن أبي شيبة، ومسدد، من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليّ نحو هذا الكلام، وسنده صحيح، وهو شاهد جيّد لحديث ابن عبّاس؛ لكون مخرجه عن آل عليّ رضي الله عنهم. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَايْمُ اللهِ) قسَمٌ، وأصله: أيمن الله، قال الفيّوميّ رحمه الله:"أيْمنُ": اسمٌ استُعْمِل في القَسَم، والتُزِم رَفْعه، كما التُزم رَفْع: لعَمْرُو الله، وهمزته عند البصريين وَصْل، واشتقاقه عندهم من الْيُمْن، وهو البركة، وعند الكوفيين قطعٌ؛ لأنه جَمْع يمين عندهم، وقد يُختصر منه، فيقال: وأيْمُ الله بحذف الهمزة والنون، ثم اختُصِر ثانيًا، فقيل: مُ الله، بضم الميم، وكسرها. انتهى
(3)
.
وقال المجد رحمه الله: اليَمينُ: القَسَمُ مؤنَّثٌ؛ لأَنَّهُمْ كانوا يَتَماسحونَ بأيْمانِهمْ، فيتحالفونَ، جَمْعها: أيْمُنٌ، وأيمانٌ، وأيْمُنُ اللهِ، وأيْمُ اللهِ، ويُكسر أوَّلُهُما، وأيْمَنُ اللهِ، بفتح الميمِ والهمزةِ، وتُكسر، وإيْمِ اللهِ، بكسر الهمزةِ والميمِ، وقيلَ: ألِفُهُ ألِفُ الوصلِ، وهَيْمُ اللهِ، بفتح الهاءِ، وضم الميمِ، وأَم اللهِ، مُثَلَّثةَ الميمِ، وإم اللهِ، بكسر الهمزة وضمّ الميم وفتحها، ومُنِ اللهِ، بضمّ الميم وكَسْر النونِ، ومُنُ اللهِ، مُثَلَّثَةَ الميمِ والنونِ، ومْ اللهِ، مُثَلَّثَةً، ولَيْمُ اللهِ، ولَيْمَنُ اللهِ: اسمٌ وُضِعَ للقَسَمِ، والتقدير
(4)
: أيْمُنُ اللهِ قَسَمِي. انتهى
(5)
.
(1)
"عمدة القاري" 16/ 197.
(2)
"الفتح" 8/ 384.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 682
(4)
قال في "التاج": وهو مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، والتقدير: لَيْمَنُ الله قَسَمي، ولَيْمَن الله ما أقسم به، راجع:"تاج العروس" 1/ 8203.
(5)
"القاموس المحيط" 1/ 1602.
وقال الأبيّ رحمه الله: قوله: "وايم الله إن كنت لأظنّ" فيه صِدْق ظنّه في دَفْنه معهما كما ذَكَر، قال: ولا يقال: فيه الحلف على الظنّ؛ لأن حَلِفه إنما هو على وقوع الظنّ منه، لا على المظنون صِدْقه الذي جعله ابن الموّاز اليمين الغموس. انتهى
(1)
.
(إِنْ كُنْتُ)"إِنْ" بكسر الهمزة مخفّفة من الثقيلة، ولذا لزمت اللام بعدها، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا
وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا
…
تُلْفِيهِ غَالِبًا بِـ "إِنْ" ذِي مُوصَلَا
(لأَظُنُّ) اللام هي الفارقة بين "إِن" المخفّفة من الثقيلة، وبين "إِن" النافية. (أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ)؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه، وقال في "الفتح": قوله: "مع صاحبيك" يَحْتَمِل أن يريد ما وقع، وهو دَفْنه عندهما، ويَحْتَمِل أن يريد بالمعية ما يَؤُول إليه الأمر بعد الموت، من دخول الجنة، ونحو ذلك، والمراد بصاحبيه: النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. انتهى
(2)
.
ثم بيّن وجه ظنّه لذلك بقوله: (وَذَاكَ) الظنّ؛ أي: سببه (أَنِّي) بفتح الهمزة بتقدير حرف العلّة؛ أي: لأني كنت. . . إلخ، أو بكسرها، فتقع الجملة تعليلًا. (كُنْتُ أُكَثِّرُ) بضم الهمزة، وفتح الكاف، وكسرة الثاء المشدّدة، من التكثير، هكذا وقع في النُّسخ مضبوطًا بالقلم، وفي بعض النسخ:"كنت كثيرًا"، وفي رواية للبخاريّ:"لأني كثيرًا ما كنت أسمع. . ."، واللام للتعليل، و"ما" إبهاميّة مؤكّدة، و"كثيرًا" ظرف زمان، وعامله "كان" قُدّم عليه، وهو كقوله تعالى:{قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، ووقع للأكثر:"كثيرًا مما كنت أسمع" بزيادة "مِنْ"، وَوُجِّهَتْ بأن التقدير: أني أجد كثيرًا مما كنت أسمع، قاله في "الفتح"
(3)
. (أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، حال كونه (يَقُولُ) أحيانًا ("جِئْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) أتى بلفظ "أنا" لِمَا سبق من العطف على ضمير الرفع المتّصل
(1)
"شرح الأبيّ" 6/ 200.
(2)
"الفتح" 8/ 384 - 385.
(3)
"الفتح" 8/ 384 - 385.
يكون بعد الفصل، ووقع في بعض روايات للبخاريّ بلفظ:"كنت وأبو بكر، وعمر" بدون "أنا"، قال ابن التين رحمه الله: الأحسن عند النحاة أن لا يُعطَف على الضمير المرفوع إلا بعد تأكيده، حتى قال بعضهم: إنه قبيح، لكن يَرِدُ عليهم قوله تعالى:{مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} ، وأجيب بأنه قد وقع الحائل، وهو قوله:"لا"، وتُعُقِّب بأن العطف قد حصل قبل "لا"، قال: ويَرُدّ عليهم أيضًا هذا الحديث. انتهى.
قال الحافظ: والتعقيب مردود، فإنه وُجد فاصل في الجملة، وأما هذا الحديث فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد جاء في رواية أخرى بلفظ:"ذهبت أنا، وأبو بكر، وعمر"، فعطف مع التأكيد، مع اتحاد المخرج، فدلّ على أنه مِن تصرّف الرواة. انتهى
(1)
.
(وَ) يقول أحيانًا (دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَ) يقول أحيانًا (خَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرِ وَعُمَرُ")، وقوله:(فَإِنْ كُنْتُ لأَرْجُو) معطوف على قوله: "إن كنت لأظنّ. . . إلخ" عَطْف تأكيد، (أَو لأَظُنُّ) "أو" للشكّ من الراوي -ولم يتبيّن لي من هو؟ - هل قال:"لأرجو"، أو قال:"لأظنّ"(أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَهُمَا)؛ أي: مع صاحبيك في القبر، أو في الجنّة، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6167 و 6168](2389)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3677 و 3685)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6137 و 8061)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(11/ 98)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 112) وفي "فضائل الصحابة"(1/ 257)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 71)، و (أبو حنيفة) في "مسنده"(1/ 27)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 157)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 102)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 573)، و (ابن عساكر) في
(1)
"الفتح" 8/ 384 - 371.
"تاريخ دمشق"(44/ 455 و 456 و 457 و 458)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل عمر رضي الله عنه، كما بيّنه عليّ رضي الله عنه في هذا الحديث.
2 -
(ومنها): بيان فضل عليّ رضي الله عنه حيث كان يُحبّ عمر رضي الله عنه، ويُجلّه، ويرى أنه لا أحد في ذلك الوقت أفضل عند الله تعالى منه، حيث قال:"ما خلّفت أحدًا أحبّ إليّ أن ألقى الله بمثل عمله".
3 -
(ومنها): أن فيه فضيلةَ أبي بكر وعمر، وشهادة عليّ لهما، وحُسْن ثنائه عليهما، وصِدْقُ ما كان يظنه بعمر قبل وفاته، رضي الله عنهم أجمعين.
قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الحديث ردٌّ من عليّ رضي الله عنه على الشيعة فيما يتقوَّلونه عليه من بُغضه للشيخين، ونِسْبته إياهما إلى الجور في الإمامة، وأنهما غصباه، وهذا كله كذبٌ، وافتراء؛ عليٌّ رضي الله عنه منه براء، بل المعلوم من حاله معهما تعظيمه ومحبَّته لهما، واعترافه بالفضل لهما عليه، وعلى غيره، وحديثه هذا ينصُّ على هذا المعنى، وقد تقدَّم ثناء عليٍّ على أبي بكر رضي الله عنهما، واعتذاره عن تخلّفه عن بيعته، وصحَّة مبايعته له، وانقياده له مختارًا طائعًا سرًّا وجهرًا، وكذلك فَعَل مع عمر رضي الله عنهم أجمعين، وكل ذلك يُكذِّب الشيعةَ، والروافضَ في دعواهم، لكن الهوى والتعصب أعماهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6168]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، فِي هَذَا الإسْنَادِ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، تقدّم قريبًا.
و"عُمر بن سعيد" ذُكر قبله.
(1)
"المفهم" 6/ 252.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3474)
- حدّثني الوليد بن صالح، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا عُمر بن سعيد بن أبي الحسين المكيّ، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم، فدَعَوُا الله لعمر بن الخطاب، وقد وُضع على سريره، إذا رجل من خلفي قد وضع مِرْفقه على مَنكبي، يقول: رحمك الله، إن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك؛ لأني كثيرًا مما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كنتُ وأبو بكر، وعمر، وفعلتُ وأبو بكر، وعمر، وانطلقت وأبو بكر، وعمر، فإن كنتُ لأرجو أن يجعلك الله معهما، فالتفتُّ، فإذا هو عليّ بن أبي طالب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6169]
(2390) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ ابْنِ كَيْسَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لَهُمْ- قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ، وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ"، قَالُوا: مَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الدَّينَ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بشير التُّرْكي، أبو نصر البغداديّ الكاتب، ثقة [10](235) وهو ابن ثمانين سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.
2 -
(أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ) أسعد بن سَهْل بن حُنيف -بضم المهملة- الأنصاريّ، معروف بكنيته، معدود في الصحابة، له رؤية، ولم يَسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"صحيح البخاري" 3/ 1345.
[2]
مات سنة مائة، وله اثنتان وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الحيض" 18/ 779.
والباقون كلّهم تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أن للمصنّف فيه إسنادين، فَصَل بينهما بالتحويل، وهو من سُداسيّاته بالنسبة للأول، ومن سُباعيّاته بالنسبة للثاني، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: صالح، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ على قول من يرى الصحبة لأبي أمامة، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ)
اسمه أسعد (بْنُ سَهْلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيد) سعد بن مالك بن سنانٍ رضي الله عنه.
قال في "الفتح": هذا الذي رواه أكثر أصحاب الزهريّ، واتفق عليه الشيخان، وقد أخرجه أحمد من طريق معمر، عن الزهريّ، عن أبي أُمامة بن سهل، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمه. انتهى
(1)
.
(الْخُدْرِيَّ) -بضمّ الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة-: نسبة إلى خدرة، واسمه الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، قبيلة من الأنصار، قاله في "اللباب"
(2)
. (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا) أصله "بين" أُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، وقال الجوهريّ:"بينا" فَعْلَى، مشبعة الفتحة، قال الشاعر:
فَبَيْنَا نَحْنُ نَرْقُبُهُ أَتَانَا
أي: بين أوقات رَقْبتنا إياه، والجُمَل يضاف إليها أسماء الزمان، نحو: أتيتك زمن الحجاجُ أمير، ثم حُذف المضاف الذي هو "أوقات"، ووَلِي الظرف الذي هو بين الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها، والأصمعي يستفصح طرح "إذ"، و "إذا" في جوابه، وآخرون يقولون: بينا أنا قائم إذ جاء، أو إذا
(1)
"الفتح" 7/ 408.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 426.
جاء فلان، والذي جاء في الحديث هو الفصيح، فلذلك اختاره الأصمعيّ رحمه الله.
وقوله (أَنَا) مبتدأ، و (نَائِمٌ) خبره، (رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ)؛ أي: يُظهرون لي، يقال: عَرَضَ الشيءَ: إذا أبداه، وأظهره، وفي "العباب": عَرَض له أمرُ كذا يَعْرِض بالكسر؛ أي: ظهر، وعرضت عليه أمرَ كذا، وعرضت له الشيء؛ أي: أظهرته له، وأبرزته إليه. انتهى
(1)
.
فقوله: "رأيت الناس" جواب "بينا"، من الرؤية، بمعنى الإبصار، فيقتضي مفعولًا واحدًا، وهو قوله:"الناسَ"، فعلى هذا يكون قوله:"يُعرضون عليّ" جملة حالية، ويجوز أن يكون من الرؤيا، بمعنى العلم، فيقتضي حينئذ مفعولين، وهما قوله:"الناس يعرضون عليّ"، ويجوز رفع الناسُ على أنه مبتدأ، وخبره قوله:"يعرضون عليّ"، والجملة مفعول قوله: رأيت، كما في قول الشاعر [من الوافر]:
رَأَيْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا
…
فَقُلْتُ لِصَيْدَحَ انْتَجِعِي بِلَالَا
ويروى: "سمعت الناس"
(2)
.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله ما ملخصه: المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون؛ لتأويله القميص بالدِّين، قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمديّة، بل بعضها، والمراد بالدِّين: العمل بمقتضاه؛ كالحرص على امتثال الأوامر، واجتناب المناهي، وكان لعمر رضي الله عنه في ذلك المقام العالي. انتهى
(3)
.
(وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ) جملة حاليّة، والقمص بضم القاف والميم: جَمْع قميص، نحو رَغِيف ورُغُف، ويُجمع أيضًا على قُمصان، وأقمصة؛ كرُغفان
(1)
"عمدة القاري" 1/ 173.
(2)
القائل هو: ذو الرمة الشاعر المشهور، وصيدح عَلَم الناقة، وينتجعون، من انتجعت فلانًا: إذا أتيته تطلب معروفه، وأراد ببلال: بلال بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ قاضي البصرة، كان جوادًا ممدوحًا رحمه الله. قاله في "عمدة القاري" 1/ 173.
(3)
"الْفَتْح" 14/ 428.
وأرغفة. (مِنْهَا)؛ أي: من تلك القمص، وهو خبر مقدّم لقوله:(مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ) بضم الثاء المثلثة، وكسر الدال، وتشديد الياء: جمع الثدي، وهو على وزن فَعْل؛ كفلس يُجمع على فُعُول كفلوس، وأصل الثُّدِيّ الذي هو الجمع: ثُدُويٌ، على وزن فُعُول، اجتَمَعت الواو والياء، وسَبَقت إحداهما بالسكون، فأُبدلت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فصارت ثُدِيّ، بضم الدال، ثم أُبدلت كسرة من ضمة الدال؛ لأجل الياء، فصار ثديًّا، وإلى هذه القاعدة أشار في "الخلاصة" بقوله:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسَمَا
وجاء أيضًا: ثِدِيّ، بكسر الثاء أيضًا إتباعًا لِمَا بعدها من الكسرة، وجاء جَمْعه أيضًا على أَثْدٍ، وأصله: أَثْدِيٌ، على وزن أَفْعُل، كيَدٍ تُجْمَع على أَيْدٍ، استُثقلت الضمة على الياء، فحُذفت، فالتقى ساكنان، فحُذفت الياء فصار: أثد. وقال الجوهريّ: الثدي يذكّر ويؤنث، وهي للمرأة والرجل جميعًا، وقيل: يختص بالمرأة، والحديث يردّ عليه. انتهى
(1)
.
و"ما" موصولة في محل الرفع على الابتداء، و"الثُّدِيّ" منصوب؛ لأنه مفعول "يبلغ"، وكذلك إعراب قوله:"ومنها دون ذلك".
ومعنى الحديث: أن القميص قصيرٌ جدًّا، بحيث لا يصل من الحلق إلى نحو السرّة، بل فوقها. قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَمِنْهَا)؛ أي: تلك القمُص، (مَا يَبْلُغُ دُونَ ذَلِكَ)؛ أي: أقصرُ، فيكون فوق الثدي، لم ينزل إليه، ولم يَصِلْ به؛ لقلّته، قاله في "العمدة".
وقال في "الفتح": يَحْتَمل أن يريد دونه من جهة السفل، وهو الظاهر، فيكون أطول، وَيحتمل أن يريد دونه من جهة العلو، فيكون أقصر، ويؤيّد الأول ما في رواية الترمذيّ الحكيم من طريق أخرى عن ابن المبارك، عن يونس، عن الزهريّ، في هذا الحديث: "فمنهم من كان قميصه إلى سرّته،
(1)
"عمدة القاري" 1/ 173.
(2)
"الْفَتْحُ" 14/ 426.
ومنهم من كان قميصه إلى ركبته، ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه". انتهى
(1)
. (وَمَرَّ)، وفي رواية البخاريّ:"وعُرض عليّ" بالبناء للمفعول، (عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ) جملة حاليّة، وقوله:(يَجُرُّهُ") في محل رفع صفة لقميص، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال، من الأحوال المتداخلة، وقد عُلم أن الجملة الفعلية المضارعية إذا وقعت حالًا، وكانت مثبتة تكون بلا واو.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون عند النبيّ صلى الله عليه وسلم حينما حدّث برؤياه هذه، وفي رواية الترمذيّ الحكيم:"فقال له أبو بكر: على ما تأولت هذا يا رسول الله"، فتبيّن بهذه الرواية أن القائل هو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه. (مَاذَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) من التأويل، وهو تفسير ما يؤول إليه الشيء، والمراد هنا التعبير، وفي اصطلاح الأصوليين: التأويل تفسير الشيء بالوجه المرجوح، وقيل: هو حَمْل الظاهر على المحتمل المرجوح، بدليل يُصَيِّره راجحًا، وهذا أخص منه، وأما تفسير القرآن فهو المنقول عن النبيّ رضي الله عنه، أو عن الصحابة، وأما تأويله فهو ما يُستخرج بحسب القواعد العربية
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("الدِّينَ") بالنصب مفعولًا لفعل مقدّم دلّ عليه السؤال؛ أي: أوَّلته الدين، ويجوز رفعه، على أنه خبر لمحذوف؛ أي: هو الدين، وفي رواية الترمذيّ الحكيم:"قال: على الإيمان"، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال في "العمدة": شبَّه الدِّين بالقميص، ووَجْه التشبيه السَّتر، وذلك أن القميص يستر عورة الإنسان، ويحجبه من وقوع النظر عليها، فكذلك الدِّين يستره من النار، ويحجبه عن كل مكروه، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أوَّله الدينَ بهذا الاعتبار، وقال أهل العبارة: القميص في النوم معناه الدِّين، وجرّه يدلّ على بقاء آثاره الجميلة، وسُنَنه الحسنة في المسلمين بعد وفاته؛ ليُقتَدَى بها.
وقال ابن بطال رحمه الله: معلوم أن عمر رضي الله عنه في إيمانه أفضل مِنْ عمل مَنْ
(1)
"الْفَتْحُ" 14/ 426.
(2)
"عمدة القاري" 1/ 173.
(3)
"الْفَتْح" 14/ 426، في "كتاب التعبير".
بلغ قميصه ثديه، وتأويله عليه السلام ذلك بالدِّين يدل على أن الإيمان الواقع على العمل يسمى دِينًا؛ كالإيمان الواقع على القول، وقال القاضي: أخذ ذلك أهل التعبير من قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] يريد به: نفسك، وإصلاح عملك ودينك، على تاويل بعضهم؛ لأن العرب تعبِّر عن العفّة بنقاء الثوب، والمئزر، وجرّه عبارة عما فَضَل عنه، وانتفع الناس به، بخلاف جرّه في الدنيا للخيلاء، فإنه مذموم، ذكره في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": قيل: وجه تعبير القميص بالدِّين، أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة، ويحجبها عن كل مكروه، والأصل فيه قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} الآية [الأعراف: 26]، والعرب تَكْنِي عن الفضل، والعفاف بالقميص، كما قال شاعرهم [من الطويل]:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ
…
وَأَوْجُهُهُم بِيض الْمَسَافِرِ غُرَّانُ
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم، لعثمان رضي الله عنه:"إن الله سيُلبِسك قميصًا، فإن أرادوا أن تخلعه، فلا تخلعه"، أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، فعبّر عن الخلافة بالقميص، وهي استعارة حسنة معروفة. واتفق أهل التعبير على أن القميص يُعَبَّر بالدِّين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده.
وقال ابن العربي رحمه الله: إنما أوَّله النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدِّين؛ لأن الدين يستر عورة الجهل، كما يستر الثوب عورة البدن، قال: وأما غير عمر، فالذي كان يبلغ الثُّدِيّ هو الذي يستر قلبه عن الكفر، وإن كان يتعاطى المعاصي، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك، وفَرْجه بادٍ، هو الذي لم يستر رجليه عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجليه هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه، هو الذي يكون زائدًا على ذلك بالعمل الخالص. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وإنما فسّر القمُص في المنام بالدِّين؛ لأن
(1)
"عمدة القاري" 1/ 173.
(2)
"الْفَتْح" 14/ 427، "كتاب التعبير"، بزيادة من "المفهم" 6/ 253 - 254.
الدين، والإسلام، والتقوى كلُّ هذه توصف بأنها لباسٌ، قال تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وقال أبو الدرداء: الإيمان كالقميص يلبسه الإنسان تارةً، وينزعه أخرى، وفي الحديث:"لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ينزع منه سربال الإيمان"
(1)
. وقال النابغة [من البسيط]:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي
…
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلَامِ سِرْبَالَا
وقال أبو العتاهية [من الطويل]:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى
…
تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا
فهذه كلها كسوة الباطن، وهو الروح، وهو زينة لها، كما في حديث عمّار رضي الله عنه:"اللَّهمّ زيّنّا بزينة الإيمان"
(2)
، كما أن الرياش زينة للجسد، وكسوة له، قال تعالى:{يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، ومن هنا قال مجاهد، والشعبيّ، وقتادة، والضحّاك، والنخعيّ، والزهريّ، وغيرهم في قوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدّثَر: 4]: إن المعنى: طهّر نفسك من الذنوب. وقال سعيد بن جُبير: وقلبك فطهّر، وقريبٌ منه قول من قال: وعملك فأصلح، رُوي عن مجاهد، وأبي روق، والضحّاك. وعن الحسن، ومحمد بن كعب القرظيّ، قالا: خُلُقك حسّنه. فكنى بالثياب عن الأعمال، وهي من الدين، والتقوى، والإيمان، والإسلام، وتطهيره إصلاحه، وتخليصه من المفسدات له، وبذلك تحصل طهارة النفس، والقلب، والنيّة، وبه يحصل حُسْن الخُلُق؛ لأن الدين هو الطاعات التي تصير عادة، ودَيدَنًا، وخُلُقًا، قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وفسّره ابن عبّاس بالدين. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(3)
، وهو بحث نفيس.
[فإن قيل]: يلزم من الحديث أن يكون عمر رضي الله عنه أفضل من أبي
(1)
متّفقٌ عليه، دون قوله:"ينزع منه سربال الإيمان"، وراجع:"تعظيم قدر الصلاة" 1/ 492 - 496.
(2)
رواه أحمد في "مسنده" 4/ 264، والنسائيّ في "المجتبى" 62/ 1305.
(3)
"فتح الباري بشرح صحيح البخاري" لابن رجب رحمه الله 1/ 99 - 101.
بكر رضي الله عنه؛ لأن المراد بالأفضل: الأكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان دينه أكثر فثوابه أكثر، وهو خلاف الاجماع.
[قلت]: لا يلزم؛ إذ القسمة غير حاصرة؛ لجواز قسم رابع.
سلمنا انحصار القسمة، لكن ما خَصَّص القسم الثالث بعمر رضي الله عنه، ولم يحصره عليه.
سلمنا التخصيص به، لكنه معارَض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصدّيق رضي الله عنه بحسب تواتر القدر المشترك بينها، ومثله يسمى بالمتواتر من جهة المعنى، فدليلكم آحاد، ودليلنا متواتر.
سلّمنا التساوي بين الدليلين، لكن الإجماع منعقد على أفضليته، وهو دليل قطعيّ، وهذا دليل ظنيّ، والظن لا يعارض القطع، وهذا الجواب يستفاد من نفس تقرير الدليل.
وهذه قاعدة كلية عند أهل المناظرة في أمثال هذه الإيرادات، بأن يقال: ما أردته إما مجمَع عليه، أو لا، فإن كان، فالدليل مخصوص بالإجماع، وإلا فلا يتم الإيراد؛ إذ لا إلزام إلا بالمجمَع عليه.
لا يقال: كيف يقال: الإجماع منعقد على أفضلية الصديق رضي الله عنه، وقد أنكر ذلك طائفة الشيعة، والخوارج من العثمانية؛ لأنا نقول: لا اعتبار بمخالفة أهل الضلال، والأصل إجماع أهل السُّنَّة والجماعة، ذَكَره في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": [تنبيه]: قد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنهما.
[والجواب] عنه: تخصيص أبي بكر من عموم قوله: "عُرض عليّ الناس"، فلعلّ الذين عُرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر رضي الله عنه، وأن كون عمر رضي الله عنه عليه قميص يجرّه، لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميصٌ أطول منه، وأسبغ، فلعلّه كان كذلك، إلا أن المراد كان حينئذ بيان فضيلة عمر رضي الله عنه، فاقتصر عليها. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هؤلاء الناس المعروضون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
(1)
"عمدة القاري" 1/ 173.
(2)
"الْفَتْحُ" 7/ 408 - 409.
النوم هم من دون عمر في الفضيلة، فلم يدخل فيهم أبو بكر، ولو عُرِض أبو بكر رضي الله عنه عليه في هذه الرواية لكان قميصه أطول، فإن فَضْله أعظم، ومقامه أكبر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" في موضع آخر ما معناه: ظاهر الحديث فيه إشكالٌ، وملخصه: أن المراد بالأفضل من يكون أكثر ثوابًا، والأعمال علامات الثواب، فمن كان عمله أكثر، فدينه أقوى، ومن كان دينه أقوى، فثوابه أكثر، ومن كان ثوابه أكثر، فهو أفضل، فيكون عمر أفضل من أبي بكر رضي الله عنهما.
وملخص الجواب: أنه ليس في الحديث تصريح بالمطلوب، فيَحْتَمِل أن يكون أبو بكر لم يُعْرَض في أولئك الناس، إما لأنه كان قد عُرض قبل ذلك، وإما لأنه لا يُعْرَض أصلًا، وأنه لَمّا عُرض كان عليه قميص أطول من قميص عمر. ويَحْتَمِل أن يكون سِرُّ السكوت عن ذِكْره الاكتفاءَ بما عُلِم من أفضليته. وَيحتمل أن يكون وقع ذِكره، فذَهِل عنه الراوي، وعلى التنزل بأن الأصل عدم جميع هذه الاحتمالات، فهو مُعارَض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصدّيق، وقد تواترت تواترًا معنويًّا، فهي المعتمَدة.
وأقوى هذه الاحتمالات أن لا يكون أبو بكر عُرِض مع المذكورين، والمراد من الخبر: التنبيه على أن عمر ممن حصل له الفضل البالغ في الدين، وليس فيه ما يصرح بانحصار ذلك فيه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6169](2390)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(23) و"المناقب"(3691) و"التعبير"(7008 و 7009)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2285 و 2286)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5013) و"الكبرى" (5/
(1)
"المفهم" 6/ 252 - 253.
(2)
"الْفَتْحُ" في "كتاب تعبير الرؤيا" 14/ 427.
5 و 6/ 533)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20385)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 86 و 5/ 373 - 374) وفي "فضائل الصحابة"(1/ 277)، و (الدارمي) في "سننه"(2058)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6890)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1290)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 331)، و"مسند الشاميين"(3/ 13)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 413)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 583)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3294)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(44/ 133)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عمر رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): تعبير الرؤيا، وسؤال العالم بها عن تعبيرها، ولو كان هو الرائي.
3 -
(ومنها): جواز إشاعة العالم الثناء على الفاضل من أصحابه، إذا لم يُحِسّ به بإعجاب ونحوه، ويكون الغرض التنبيه على فضله؛ لِتُعْلم منزلته، ويعامل بمقتضاها، ويرغب الاقتداء به، والتخلق بأخلاقه.
4 -
(ومنها): بيان تفاضل أهل الإيمان فيه بالقلة، والكثرة، وبالقوّة، والضَّعف، ووجه الاستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم أُري الناس، وعليهم قُمُص مختلفة المقدار بالطول والقصر، وأوّل ذلك على تفاوتهم في الدين، والإيمان، والإسلام بمعنى، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وقال صلى الله عليه وسلم بعد أن أجاب جبريل عليه السلام في سؤاله عن الإيمان، والإسلام، والإحسان:"هذا جبريل جاءكم يعلّمكم دينكم"، فجعل كله دينًا.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وهذا الحديث نصّ في أن الدين يتفاضل، وقد استُدلّ عليه بقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وأشار البخاريّ إلى ذلك في موضع آخر. ويدلّ عليه أيضًا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للنساء:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنَّ"، متّفقٌ عليه. وفسّر نقصان دينها بتركها الصوم والصلاة أيام حيضها، فدلّ على في خول
الصوم والصلاة في اسم الدين. وقد صرّح بدخول الأعمال في الدين طوائف من العلماء، والمتكلّمين، من الحنابلة وغيرهم. فمن قال: الإسلام، والإيمان واحدٌ، فالدين عنده مرادفٌ لهما، وهو اختيار البخاريّ، ومحمد بن نصر المروزيّ، وغيرهما من أهل الحديث، ومن فرّق بينهما، فاختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: إن الدين أعمّ منهما، فإنه يشمل الإيمان، والإسلام، والإحسان، كما دلّ عليه حديث جبريل عليه السلام، وقد أشار البخاريّ إلى هذا فيما بعدُ، لكنه ممن لا يفرّق بين الإسلام والإيمان. ومن قال: الإيمان التصديق، والإسلام الأعمال، فأكثرهم جَعَل الدين هو الإسلام، وأدخل فيه الأعمال، وإنما أخرج الأعمال من مسمّى الدين بعض المرجئة. ومن قال: الإسلام الشهادتان، والإيمان العمل؛ كالزهريّ، وأحمد في رواية، وهي التي نصرها القاضي أبو يعلى؛ جَعَل الدين هو الإيمان بعينه، وأجاب عن قوله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} الآية [آل عمران: 19] أن بعض الدين الإسلام، وهذا بعيدٌ. وأما من قال: إن كلًّا من الإسلام والإيمان إذا أُطلقا مجرّدًا دخل الآخر فيه، وإنما يُفرَّق بينهما عند الجمع بينهما، وهو الأظهر، فالدين هو مسمّى كل واحد منهما عند إطلاقه، وأما عند اقترانه بالآخر فالدين أخصّ باسم الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام، والخضوع، والانقياد، وكذلك الدين يقال: دانه يدينه: إذا قهره، ودان له: إذا استسلم له، وخضع، وانقاد، ولهذا سمّى الله الإسلام دينًا، فقال:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} الآية [آل عمران: 85]، وقال:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت هذا البحث في "كتاب الإيمان"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": إن هذا من أمثلة ما يُحمَد في المنام، ويُذَمّ في اليقظة شرعًا، أعني جرّ القميص؛ لِمَا ثبت من الوعيد في تطويله، وعكس هذا ما يُذَمّ في المنام، ويُحمَد في اليقظة.
(1)
"فتح الباري بشرح البخاري" لابن رجب رحمه الله 1/ 98 - 99.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن كل ما يُرى في القميص، من حُسن، أو غيره، فإنه يعبَّر بدِين لابِسه. قال: والنكتة في القميص أنّ لابسه، إذا اختار نَزَعه، وإذا اختار أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان، واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب، ومن لا فلا، وقد يكون نَقْص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون بسبب نقص العمل. والله أعلم.
وقال غيره: القميص في الدنيا ستر عورة، فما زاد على ذلك كان مذمومًا، وفي الآخرة زينة محضة، فناسب أن يكون تعبيره بحسب هيئته، من زيادة، أو نقص، ومن حُسْن وضدّه، فمهما زاد من ذلك، كان من فضل لابسه، ويُنسب لكل ما يليق به من دين، أو علم، أو جمال، أو حلم، أو تقدم في فئة، وضِدُّهُ لضده. ذَكَره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6170](2391) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، عَنْ أَبِيه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا أُتِيتُ بِهِ، فِيهِ لَبَنٌ، فَشَرِبْتُ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لأَرَى الرِّيَّ يَجْرِي فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) الْمُكَنَّى بأبي عُمارة -بضم العين- القرشيّ العدويّ التابعيّ المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدويّ، أبو عبد الرحمن، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة سنةً، مات رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
(1)
"الْفَتْح" 14/ 428.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة من الصحابة رضي الله عنهم، وكان من أشدّ الناس اتباعًا للأثر.
شرح الحديث:
(عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ)، وفي رواية للبخاريّ:"أخبرني حمزة بن عبد الله"، (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا) تقدّم البحث فيها في الحديث الماضي. (أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ رَأَيْتُ قَدَحًا) بفتحتين واحد الأقداح التي هي للشرب فيها، والقدح بكسر القاف، وسكون الدال: السهم قبل أن يُراش، ويُرَكَّب نصله، وقِدْح الميسر أيضًا، والقِدْح بالكسر: ما يقدحِ به النار
(1)
. (أُتِيتُ بِهِ) بالبناء للمفعول، وقوله:(فِيهِ لَبَنٌ) جملة حاليّة، (فَشَرِبْتُ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي)"حتى"
(2)
إما ابتدائية، وإما جارّة، فعلى الأول "إنِّي" بكسر الهمزة، وعلى الثاني بفتحها، وياء المتكلم اسم "إن" وخبره قوله:(لأَرَى الرِّيَّ) بكسر الراء، وتشديد الياء، مصدرٌ، يقال: رَوِيت من الماء -بالكسر- أروي رِيًّا، بالكسر، وحَكَى الجوهريّ الفتح أيضًا، وقال: رِيًّا ورَيًّا، ورِوًى أيضًا مثلُ رَضِيَ رِضًى، وارتويت، وترويت كله بمعنًى، وقال غيره: يقال: رَوِي من الماء، والشراب، بكسر الواو، ويروى بفتحها، رِيًّا بالكسر، في الاسم، والمصدر، قال القاضي: وحَكَى الداوديّ الفتح في المصدر، وأما في الرواية فعكسه، تقول: رَوَيت الحديثَ أرويه روايةً بالفتح في الماضي، والكسر في المستقبل، والرّوَاء من الماء: ما يُروي، إذا مددتَ فتحتَ الراء، وإذا كسرت قصرت.
وأصل الريّ: الرِّوْيُ، اجتمعت الواو والياء وسَبقت إحداهما بالسكون، فأُبدلت الياء من الواو، وأُدغمت الياء في الياء، وقد تقدّم هذا في الحديث
(1)
"عمدة القاري" 2/ 86.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 86.
الماضي في لفظ "الثّدِيّ"، فلا تغفل، وبالله تعالى التوفيق.
ثم إن قوله: "أرَى" إن كان من الرؤية بمعنى العلم فيقتضي مفعولين، أحدهما هو قوله:"الرّيّ"، والثاني قوله:"يخرج في أظفاري"، وإن كان من الرؤية بمعنى الإبصار، فلا يقتضي إلا مفعولًا واحدًا وهو قوله:"الرّيّ"
(1)
.
وفيه تأكيد الكلام بصوغه جملة اسمية، وتأكيدها بإِنّ" واللام في الخبر، وهو قوله: "إني لأرى الريّ".
[فإن قلت]: لم تكن الصحابة رضي الله عنهم منكرين، ولا مترددين في أخباره صلى الله عليه وسلم، فما فائدة هذه التأكيدات؟.
[أجيب]: بأن قوله: "أرى الريّ يخرج في أظفاري" أورثهم حَيْرة في خروج اللبن من الأظفار، فأزال تلك الحيرة بهذه التأكيدات، كما في قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} الآية [يوسف: 53]؛ لأن ما أبرّئ؛ أي: ما أزّكي، أورث المخاطَب حيرة في أنه كيف لا ينزه نفسه عن السوء، مع كونها مطمئنة زكية، فأزال تلك الحيرة بقوله:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} في جميع الأشخاص إلا من عصمه الله، قاله العينيّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العينيّ في قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ} الآية مبنيّ على أن هذا الكلام ليوسف عليه السلام، والراجح أنه من كلام المرأة، لا من كلامه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(يَجْرِي فِي أَظْفَارِي) بفتح الهمزة: جمع ظُفْر، قال ابن دُريد: الظفر ظفر الإنسان، والجمع أظفار، ولا تقول: ظِفْر بالكسر، وإن كانت العامة قد أُولعت به، وتجمع أظفار على أظافير، قال: وقال قوم: بل الأظافير جمع أظفور، والظفر والأظفور سواء، وأظفار الإبل مناسمها، وأظفار السباع براثنها. انتهى
(3)
.
وقوله أيضًا: (فِي أَظْفَارِي)، وفي رواية ابن عساكر "من أظفاري"، وفي رواية البخاري في "التعبير":"من أطرافي"، والكل بمعنًى في الحقيقة.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 86.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 86.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 86.
[فإن قلت]: "يخرج من أظفاري" ظاهرٌ، فما معنى قوله:"يخرج في أظفاري"؟.
[أجيب]: بأنه يجوز أن تكون "في" ههنا بمعنى: "على"؛ أي: على أظفاري، كما في قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} الآية [طه: 71]؛ أي: عليها، ويكون بمعنى: يظهر عليها، والظفر إما منشأ الخروج، أو ظرفه، قاله العينيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "حتى أنظر إلى الرِّيِّ": في رواية عَبْدان: "حتى أني"، ويجوز فتح همزة أني، وكسرها، ورؤية الرِّيّ على سبيل الاستعارة، كأنه لمّا جعل الرّيّ جسمًا أضاف إليه ما هو من خواص الجسم، وهو كونه مرئيًّا، وأما قوله:"أنظر" فإنما أتي به بصيغة المضارع، والأصل أنه ماض استحضارًا لصورة الحال، وقوله:"أنظر" يؤيد أن قوله: "أرى" في الرواية التي في العلم من رؤية البصر، لا من العلم، والرّيّ بكسر الراء، ويجوز فتحها. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر: قوله: "حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج في أظافيري": في رواية الكشميهنيّ: "من أظافيري"، وفي رواية صالح بن كيسان:"من أطرافي"، وهذه الرؤيا يَحْتَمِل أن تكون بصريّة، وهو الظاهر، ويَحْتَمِل أن تكون عِلمية، ويؤيد الأول ما عند الحاكم، والطبرانيّ، من طريق أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جدّه، في هذا الحديث:"فشرِبت، حتى رأيته يجري في عُروقي بين الجلد واللحم"، على أنه مُحتمل أيضًا. انتهى
(3)
.
(ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي)؛ أي: ما فَضَل من اللبن الذي هو في القدح الذي شربت منه، (عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ")، وفي رواية:"ففَضِلت فضلةٌ، فأعطيتها عمر". (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلسه صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذه الرؤيا، (فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) كلمة "ما" استفهامية، و"أوّلته" جملة من الفعل
(1)
"عمدة القاري" 2/ 86.
(2)
"الفتح" 8/ 378 - 379، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3681).
(3)
"الفتح" 16/ 346، كتاب "التعبير" رقم (7006).
والفاعل والمفعول، وهو الضمير الذي يرجع إلى شُرب اللبن الذي يدل عليه قوله:"فشربت".
[فإن قلت]: ما الفاء في قوله: "فما أولته"؟.
[أجيب]: بأنها زائدة، كما في قوله تعالى:{هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ} ، قاله العينيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله أيضًا: (فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ)؛ أي: فما عبَّرته، والتأويل في اللغة تفسير ما يؤول إليه الشيء، وههنا المراد به تعبير الرؤيا.
وقال في "الفتح": قوله: "قالوا: فما أولته؟ " في رواية صالح: "فقال مَن حَوْلَهُ"، وفي رواية سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عند سعيد بن منصور:"ثم ناول فَضْله عمر، قال: ما أوّلته؟ " وظاهره أن السائل عمر، ووقع في رواية أبي بكر بن سالم: أنه صلى الله عليه وسلم "قال لهم: أوِّلوها، قالوا: يا نبي الله هذا علمٌ، أعطاكه الله، فملأك منه، ففضلت فضلة، فأعطيتها عمر، قال: أصبتم"، ويُجمع بأن هذا وقع أوّلًا، ثم احتَمَلَ عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا: ما أوَّلته؟
…
إلخ. انتهى
(2)
.
(قَالَ: "الْعِلْمَ") بالنصب، والرفع روايتان، أما وجه النصب فعلى المفعولية، والتقدير: أوَّلته العلمَ، وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: المؤول به العلمُ.
وتفسير اللبن بالعلم؛ لكونهما مشتركين في كثرة النفع بهما، وفي أنهما سببا الصلاح، فاللبن غذاء الناس، وسبب صلاحهم وقوة أبدانهم، والعلم سبب الصلاح في الدنيا والآخرة، وغذاء الأرواح
(3)
.
وقال المهلّب رضي الله عنه: اللبن يدلّ على الفطرة، والسُّنَّة، والقرآن، والعلم.
قال الحافظ رحمه الله: وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبي هريرة، رَفَعه:"اللبن في المنام فطرة"، وعند
(1)
"عمدة القاري" 2/ 86.
(2)
"الفتح" 16/ 346، كتاب "التعبير" رقم (7006).
(3)
"عمدة القاري" 2/ 87.
الطبرانيّ من حديث أبي بكرة، رفعه:"من رأى أنه شرب لبنًا فهو الفطرة"، وفي حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا أخذ قدح اللبن، قال له جبريل:"الحمد لله الذي هداك للفطرة".
وذكر الدينوريّ أن اللبن المذكور في هذا يختص بالإبل، وإنه لِشاربه مالٌ حلال، وعلم، وحكمة، قال: ولبن البقر خِصب السَّنَة، ومال حلال، وفطرة أيضًا، ولبن الشاة مالٌ، وسرور، وصحة جسم، وألبان الوحش شكّ في الدِّين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللَّبْوة مال، مع عداوة لذي أمر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تخصيص اللبن المذكور في هذا الحديث بلبن الإبل يحتاج إلى دليل، وكذا ما بَعده من تفصيل أنواع الألبان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال في "الفتح": ووقع في جزء الحسين بن عرفة من وجه آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما: "قال: فقالوا: هذا العلم الذي آتاكه الله، حتى إذا امتلأت فَضِلت منه فضلةٌ، فأخذها عمر، قال: أصبتم"، وإسناده ضعيف، فإن كان محفوظًا احتَمَلَ أن يكون بعضهم أوَّل، وبعضهم سأل، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببًا للصلاح، فاللبن للغذاء البدنيّ، والعلم للغذاء المعنويّ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6170 و 6171](2391)، و (البخاريّ) في "العلم"(82) و"فضائل الصحابة"(3681) و"التعبير"(7006 و 7032)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2284) و"المناقب"(3687)، و (النسائيّ) في
(1)
"الفتح" 16/ 345، كتاب "التعبير" رقم (7006).
(2)
"الفتح" 8/ 379، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3681).
"الكبرى"(4/ 386 و 387 و 5/ 40)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20384)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 83 و 108 و 130 و 147 و 154)، وفي "فضائل الصحابة"(320 و 515 و 570)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 128)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6878)، و (الفسويّ) في "المعرفة"(1/ 455 - 456)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1256)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 49)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 49)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3880)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(44/ 128 و 129 و 130)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عمر رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): مشروعيّة تعبير الرؤيا، ورعاية المناسبة بين التعبير وما له التعبير.
3 -
(ومنها): أن رؤيا اللبن في المنام تعبيره العلم، كما فسّره به النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، قال في "الفتح": والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس، بكتاب الله تعالى وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختَصَّ عمر رضي الله عنه بذلك؛ لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر رضي الله عنه كانت قصيرة، فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فَسَاسَ عُمَر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعًا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال، واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتَّفَق لعمر، من طواعية الخلق له، فنشأت مِن ثَمّ الفتن، إلى أن أفضى الأمر إلى قَتْله رضي الله عنه، واستُخلف عليّ رضي الله عنه، فما ازداد الأمر إلا اختلافًا، والفتن إلا انتشارًا. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن الرؤيا من شأنها أن لا تُحْمَل على ظاهرها، وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير، ومنها ما يُحْمَل على ظاهره.
(1)
"الفتح" 8/ 379، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3681).
5 -
(ومنها): ما قال ابن العربيّ رحمه الله: اللبن رزق يخلقه الله طيِّبًا بين أخباث، من دم وفرث؛ كالعلم نور يُظهره الله في ظلمة الجهل، فضُرب به المَثَل في المنام، قال بعض العارفين: الذي خَلَّصَ اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، ويحفظ العمل عن غفلة وزلل، وهو كما قال، لكن اطَّردت العادة بأن العلم بالتعلم، والذي ذَكَره قد يقع خارقًا للعادة، فيكون من باب الكرامة.
6 -
(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: تأوَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم اللبنَ بالعلم؛ اعتبارًا بما بُيِّن له أوّلَ الأمر حين أُتي بقدح خمر، وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: أخذت الفطرة
…
الحديث، قال: وفي الحديث مشروعية قصّ الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختبار أصحابه في تأويلها، وأن من الأدب أن يردّ الطالب عِلم ذلك إلى معلمه، قال: والذي يظهر أنه لم يُرِدْ منهم أن يعبروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففَهِموا مراده، فسألوه، فأفادهم، وكذلك ينبغي أن يُسْلَك هذا الأدبُ في جميع الحالات، قال: وفيه أن عِلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شَرِب، حتى رأى الرِّيّ يخرج من أطرافه، وأما إعطاؤه فَضْله عمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله، بحيث كان لا يأخذه في الله لومة لائم، قال: وفيه أن من الرؤيا ما يدل على الماضي، والحال، والمستقبل، قال: وهذه أُوِّلت على الماضي، فإن رؤياه هذه تمثيل بأمر قد وقع؛ لأن الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم من العلم كان قد حصل له، وكذلك الذي أعطيه عمر رضي الله عنه، فكانت فائدة هذه الرؤيا تعريف قَدْر النسبة بين ما أعطيه صلى الله عليه وسلم من العلم وما أعطيه عمر رضي الله عنه
(1)
.
7 -
(ومنها): ما قال المهلّب رضي الله عنه: رؤية اللبن في النوم تدلّ على السُّنَّة، والفطرة، والعلم، والقرآن؛ لأنه أول شيء يناله المولود من طعام الدنيا، وبه تقوم حياته، كما تقوم بالعلم حياة القلوب، فهو يناسب العلم من هذه الجهة، وقد يدلّ على الحياة؛ لأنها كانت في الصِّغَر، وقد يدلّ على الثواب؛ لأنه من
(1)
"الفتح" 8/ 379، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3681).
نعيم الجنة؛ إذ رُوي نهر من اللبن، وقد يدلّ على المال والحلال، قال: وإنما أوَّله النبيّ صلى الله عليه وسلم بالعلم في عمر رضي الله عنه؛ لصحة فطرته، ودِينه، والعلم زيادة في الفطرة.
[فإن قلت]: رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقّ، فهل كان هذا الشراب، وما يتعلق به واقعًا حقيقةً، أو هو على سبيل التخيل؟.
[قلت]: واقع حقيقةً، ولا محذور فيه؛ إذ هو ممكن، والله على كل شيء قدير، ذَكَره في "العمدة"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6171](. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ نَحْوَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) القفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"عُقيل" هو: ابن خالد الأيليّ، و"صالح" هو: ابن كيسان، وكلاهما يرويان هذا الحديث عن ابن شهاب الزهريّ، كما رواه يونس عنه بسنده في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية عُقيل عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ: رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(82)
- حدّثنا سعيد بن عُفير، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، أن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن، فشربت، حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب"، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: "العلم". انتهى
(2)
.
ورواية صالح بن كيسان ساقها أيضًا البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1)
"عمدة القاري" 2/ 87.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 43.
(6605)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، حدّثني حمزة بن عبد الله بن عمر، أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبن، فشربت منه، حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أطرافي، فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب"، فقال مَن حَوْلَهُ: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: "العلم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6172](2392) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ، عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا، أَو ذَنُوبَيْن، وَفِي نَزْعِهِ -وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ- ضَعْفٌ، ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّاب، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وقد تقدّم الإسناد نفسه في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر ابنَ شهاب (أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه حال كونه (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (يَقُولُ: "بَيْنَا) تقدّم البحث فيها قريبًا. (أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ، عَلَيْهَا دَلْوٌ، فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ) هو: أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه. (فَنَزَعَ بِهَا ذَنُوبًا) بفتح الذال المعجمة، وهو الدلو الممتلئ ماءً، وقال ابن فارس: هو الدلو العظيم.
وقال القرطبيّ: قوله: "فنزعت"؛ أي: استقيتُ، وأصل النزع: الجذب، والقليب: البئر غير المطويَّة، وهي التي عَبّر عنها في الرواية الأخرى بالحوض،
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2571.
والحوض: مُجْتَمَع الماء، والبكرة: الخشبة المستديرة التي تدور بالحبل. انتهى.
وقوله: (أَو ذَنُوبَيْنِ) للشكّ من الراوي، وقال القرطبيّ: الذَّنُوب: الدَّلو، والغَرْب أكبر منها، وقوله:"أو ذنوبًا أو ذنوبين" هو شكّ من بعض الرُّواة، وقد جاء بغير شك:"ذنوبين" في الرواية الأخرى، وهي أحسن. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: أما القليب: فهي البئر غير المطويّة، والدلو: يُذكّر ويؤنّث، والذنوب بفتح الذال: الدلو المملوءة، والغَرْب: بفتح الغين المعجمة، وإسكان الراء، وهي الدلو العظيمة، والنزع: الاستقاء، والضعف: بضم الضاد، وفتحها، لغتان مشهورتان، والضم أفصح، ومعنى استحالت: صارت، وتحوَّلت، من الصِّغَر إلى الكِبَر، وأما العبقريّ: فهو السيّد، وقيل: الذي ليس فوقه شيء. انتهى
(1)
.
(وَفِي نَزْعِه)؛ أي: في استقائهِ (-وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ- ضَعْفٌ) بفتح الضاد المعجمة، وضمّها لغتان، قال النوويّ رحمه الله: وليس في قوله: "وفي نزعه ضعف" حطّ من فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولا إثبات فضيلة لعمر عليه، وإنما هو إخبار عن مدّة ولايتهما، وكثرة انتفاع الناس في ولاية عمر؛ لِطُولها، ولاتّساع الإسلام، وبلاده، والأموال، وغيرها من الغنائم، والفتوحات، ومَصَّر الأمصارَ، ودَوَّن الدواوين، بخلاف أبي بكر رضي الله عنه، فإنه اشتغل بقتال أهل الردّة، فلم يتفرغ لفتح الأمصار، وجباية الأموال، ولقِصَر مدته، فإنها سنتان وثلاثة أشهر وعشرون يومًا.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والله يغفر له" فليس فيه تنقيص له، ولا إشارة إلى ذَنْب، وإنما هي كلمة كان المسلمون يُدَعِّمون بها كلامهم، ونِعْمَت الدِّعامة، وقد سبق في الحديث في "صحيح مسلم": أنها كلمة كان المسلمون يقولونها: افعل كذا، والله يغفر لك، قال العلماء: وفي كل هذا إعلام بخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وصحة ولايتهما، وبيان صفتها، وانتفاع المسلمين بها. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ اسْتَحَالَتْ)؛ أي: تحوّلت، وانقلبت تلك الذنوب من الصِّغَر إلى
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 159 - 160.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 161.
الكِبَر، فصارت (غَرْبًا) بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء: الدلو العظيم، يُسقى به البعير، فهي أكبر من الذنوب، (فَأَخَذَهَا)؛ أي: تلك الذنوب التي تحوّلت إلى المغرب عمر (بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:(فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ)"الْعَبْقَريّ" -بفتح العين المهملة، وسكون الباء الموحدة، وفتح القاف، وكسر الراء، وتشديد الياء-: هو الحاذق في عمله، وهذا عبقريّ قومه؛ أي: سيدهم، وقيل: أصل هذا من عبقر، وهي أرض يسكنها الجنّ، فصار مَثَلًا لكل منسوب إلى شيء غريب في جودة صنعته، وكمال رفعته، وقيل: عبقر قرية تُعمل فيها الثياب الحسنة، فيُنسب إليها كل شيء جيّد، وقال الخطابيّ: العبقريّ: كل شيء يبلغ النهاية في الخير والشرّ، ذكره في "العمدة"
(1)
.
وقال القرطبيّ: قال الأصمعيّ: سألت أبا عمرو بن العلاء عن العبقريّ، فقال: يقال: هذا عبقريُّ قومه؛ كقولهم: سيّد قومه، وكبيرهم، وقويُّهم. وقال أبو عبيد: وأصله: أنه نسبة إلى أرض تسكنها الجنّ، فصارت مَثَلًا لكل منسوب لشيء رفيع. ويقال: بل هي أرضهن يُعمل فيها الوشي، والبرود، يُنسب إليها الوشي العبقريّ، ومنه قوله تعالى:{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76]، وقال أبو عبيد: العبقري: الرجل الذي ليس فوقه شيء. انتهى
(2)
.
(يَنْزِعُ) بكسر الزاي، من باب ضرب، (نَزْعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، وفي حديث ابن عمر الآتي:"فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاس، يَفْرِي فَرْيَهُ". (حَتَّى ضَرَبَ النَّاسُ بِعَطَنٍ) -بفتح العين، والطاء المهملتين- أي: أرْووا إبلهم، ثم آووها إلى عَطَنها، وهو الموضع الذي تُساق إليه، بعد السقي؛ لتستريح، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: العَطَنُ للإبل: الْمُنَاخُ والْمَبْرَك، ولا يكون إلا حَوْلَ الماء، والجمع: أَعْطَانٌ، مثلُ سَبَب وأَسَبْاَب، والمَعْطِنُ: وزانُ مجلس مِثله، وعَطَنَتِ الإبل، من بابي ضرب، وقتل عُطُونًا، فهي عَاطِنَةٌ، وعَوَاطِنُ، وعَطَنُ الغنم، ومَعْطِنُهَا أيضًا: مَرْبَضُها حولَ الماء، قاله ابن السِّكِّيت، وابن قتيبة، وقال ابن فارس: قال بعض أهل اللغة: لا تكون أَعْطَانُ الإبل إلا حول الماء،
(1)
"عمدة القاري" 16/ 159.
(2)
"المفهم" 6/ 255.
فأما مباركها في الْبَرّيّة، أو عند الحيّ، فهي المَأْوَى، وقال الأزهريّ أيضًا: عَطَنُ الإبل: موضعها الذي تتنحى إليه، إذا شربت الشَّرْبة الأولى، فتبرك فيه، ثم يُملأ الحوض لها ثانيًا، فتعود من عَطَنِهَا إلى الحوض، فَتَعُلُّ؛ أي: تشرب الشربة الثانية، وهو العلل، لا تَعْطْنُ الإبل على الماء إلا في حَمَارّةِ
(1)
القيظ، فإذا بَرَد الزمانُ فلا عَطَن للإبل، والمراد بِالمَعَاطِنِ في كلام الفقهاء: المَبَارك. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى: "حتى ضرب الناس بعطن"؛ أي: أرووا إبلهم، وأصله أنهم يَسقون الإبل، ثم يُعطنونها؛ أي: يتركونها حول الحياض؛ لتستريح، ثم يعيدون شربها، يقال منه: عَطَنت الإبلُ، فهي عاطنة، وعواطن، وأعطنتها أنا. حكاه ابن الأنباريّ. وفي "الصحاح": عَطَنتُ الجلدَ، أَعْطِنه عَطْنًا، فهو معطون: إذا أخذت عَلْقَى -وهو نبت- أو فرثًا، وملحًا، فألقيت الجدل فيه، وغَممته؛ ليتفسّخ صوفه، ويسترخي، ثم تلقيه في الدباغ، وعَطِن الإهابُ -بالكسر- يَعْطَن عَطَنًا فهو عَطِنٌ: إذا أنْتَن، وسقط في العَطْن، وقد انعطن. والعَطَن والْمَعْطَن واحد الأعطان، والمعاطن، وهي مَبَارِك الإبل عند الماء؛ لتشرب عَلَلًا بعد نَهَلٍ، فإذا استوفت رُدّت إلى المراعي والأظماء، وعَطَنت الإبلُ -بالفتح- تَعْطُن، وتَعْطِن عُطُونًا: إذا رَوِيت، ثم بَرَكَت، فهي: إبل عَاطِنة، وعَوَطِن، وقد ضَرَبت الإبل بعَطَن: أي: بركت. قال ابن السِّكيت: وكذلك تقول: هذا عَطَنُ الغنم ومَعْطَنها: لمرابضها حول الماء
(3)
.
قال القرطبيّ: وقد جاء معنى هذه الرواية مفسَّرًا في الرواية الأخرى التي قال فيها: "فجاء عمر، فأخذه منِّي؛ يعني: الدلو، فلم أَرَ نَزْع رجل قط أقوى منه، حتى تَوَلَّى الناسُ، والحوض ملآنٌ يتفجر"، وفي هذه من الزيادة ما يدلّ على أن عمر رضي الله عنه يُتَوَفَّى ويبقى النصر، والفتح بعده متصلًا، وكذلك كان. انتهى
(4)
.
(1)
الحَمَارّة -بتخفيف الميم، وتشديد الراء- وتخفّف في الشِّعر: شدّة الحرّ. اهـ. "القاموس".
(2)
"المصباح المنير" 2/ 416 - 417.
(3)
"الصحاح" للجوهريّ ص 717.
(4)
"المفهم" 6/ 256 - 257.
وقال في "العمدة": "الْعَطَن": مبرك الإبل حول موردها؛ لتشرب عَلَلًا بعد نَهَلٍ، وتستريح منه، وقال القاضي: ظاهر لفظ "حتى ضرب الناس" أنه عائد إلى خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل: يعود إلى خلافتهما؛ لأن بتدبيرهما، وقيامهما بمصالح المسلمين تَمّ هذا الأمر؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه جَمَع شملهم، وابتدأ الفتوح، وتكامل في زمن عمر رضي الله عنه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6172 و 6173 و 6174 و 6175](2392)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3664) و"التعبير"(7021 و 7022) و"التوحيد"(7475)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 385 و 5/ 39)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 280)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 21 - 22)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 368 و 4509)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6898)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 369 و 3/ 23)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 153) و"الدلائل"(6/ 344 و 345)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3882 و 3883)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عمر رضي الله عنه، وإنما حصل له هذا الفضل؛ لطول أيامه، وما فتح الله له من البلاد، والأموال، والغنائم في عهده، وأنه مَصّر الأمصار، ودَوّن الدواوين.
2 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: هذا المنام مثالٌ لِمَا جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقرّر القواعد، ثم خَلَفه أبو بكر رضي الله عنه سنتين، فقاتل أهل الردّة، وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر رضي الله عنه، فاتسع الإسلام
(1)
"عمدة القاري" 16/ 159.
في زمنه، فقد شبّه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي به حياتهم، وصلاحهم، وسقيهما قيامهما بمصالحهم، وسقيه هو قيامه بمصالحهم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: وهذه الرُّؤيا هي مثال لِمَا فتح الله تعالى على يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدي الخليفتين بعده، من الإسلام، والبلاد، والفيء، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم هو مبدأ الأمر، وممكَّنٌ منه، وأبو بكر رضي الله عنه بعده، غير أن مقدار ما فتح الله على يديه من بلاد الكفر قليل؛ لأن مدَّة خلافته كانت سنتين وثلاثة أشهر اشتَغَل في معظمها بقتال أهل الرِّدَّة، ثم لمّا فرغ منها أَخَذ في قتال أهل الكفر، ففتح في تلك المدَّة بعض العراق، وبعض الشام، ثمَّ مات رضي الله عنه، ففتح الله على يدي عمر رضي الله عنه سائر البلاد، واتَّسعت خُطَّة الإسلام شرقًا، وغربًا، وشامًا، وعَظُمت الفتوحات، وكثرت الخيرات والبركات التي نحن فيها حتى اليوم، فعبَّر عن سنتي خلافة أبي بكر رضي الله عنه بالذَّنوبين، وعن قلَّة الفتوحات فيها بالضعف، وليس ذلك وهنًا في عزيمته، ولا نقصًا في فضله على ما هو المعروف من همَّته، والموصوف من حالته.
وقوله: "والله يغفر له" لا يظنّ جاهل بحال أبي بكر رضي الله عنه: أن هذا الاستغفار لأبي بكر كان لذنب صدر عنه، أو لتقصير حصل منه؛ إذ ليس في المنام ما يدلّ على شيء من ذلك؛ وإنما هذا دعامٌ للكلام، وسنادٌ، وصلة، وقد تقدَّم في الحديث أنها كانت كلمة يقولها المسلمون: افعل كذا، والله يغفر لك، وهذا نحو قولهم: تربت يمينك، وألَّت! وقاتله الله! ونحو ذلك، مما تستعمله العرب في أضعاف كلامها على ما تقدَّم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6173](. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 161.
(2)
"المفهم" 6/ 254 - 255.
حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية عُقيل عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6618)
- حدّثنا سعيد بن عُفير، حدّثني الليث، قال: حدّثني عُقيل، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد، أن أبا هريرة أخبره، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم، رأيتني على قليب، وعليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قُحافة، فنزع منها ذنوبًا، أو ذنوبين، وفي نزعه ضَعْف، والله يغفر له، ثم استحالت غَرْبًا، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عَبْقريًّا من الناس، ينزع نَزْع عمر بن الخطاب، حتى ضَرَبَ الناس بِعَطَنٍ. انتهى
(1)
.
ورواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب ساقها اللالكائيّ رحمه الله في "اعتقاد أهل السُّنَّة"، فقال:
(2480)
- أنا محمد بن الحسين الفارسيّ، قال: نا أحمد بن سعيد الثقفيّ، قال: نا محمد بن يحيى الذُّهْليّ، قال: نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدّثني سعيد، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم، رأيتني نزعت على قليب، فنزعت منها ما شاء الله، ثم نزع ابن أبي قحافة ذَنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، وليغفره الله، فأخذها ابن الخطاب، فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عَبْقَريًّا نزع نَزْعه، حتى ضرب الناس بِعَطَنٍ". انتهى
(2)
.
[تنبيه آخر]: هذه الرواية ساقها البخاريّ رحمه الله في "كتاب التوحيد"، من "صحيحه"، لكنه خالف في إسنادها، فلذا عَدَلت عنه إلى ما أوردته من رواية اللالكائيّ، ونصّه رحمه الله:
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2576.
(2)
"اعتقاد أهل السُّنَّة" 7/ 1307.
(7037)
- حدّثنا يَسَرَةُ بن صَفْوان بن جميل اللَّخْميّ، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم، رأيتني على قليب، فنزعت ما شاء الله، أن أنزع، ثم أخذها ابن أبي قُحافة، فنزع ذنوبًا أو ذنوبين، وفي نَزْعه ضعف، والله يغفر له، ثم أخذها عمر، فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًّا من الناس، يَفْري فَرِيَّه، حتى ضَرَب الناسُ حوله بعَطَنٍ". انتهى
(1)
.
فقد خالف رواية مسلم فأسقط صالحًا من السند، ولذلك عدلت عنه، وقد نبّه الحافظ رحمه الله على هذا فقال: وقوله في السند: "حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهريّ"، خالفه يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، فقال:"عن صالح بن كيسان، عن الزهريّ"، زاد بين إبراهيم والزهريّ صالِحًا، أخرجه مسلم، نَبّه على ذلك أبو مسعود، وقد تعقبه قبله الإسماعيليّ، فقال: إنما يُعرف عن إبراهيم، عن صالح، عن الزهريّ، ثم ساقه من رواية جماعة، عن إبراهيم بن سعد كذلك، وقال: يَبعُد تواطؤهم على الغلط، وقال الْبَرْقانيّ: في كل من رواه عن إبراهيم أدخل بينه وبين الزهري صالِحًا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6174](. . .) - (حَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ الأَعْرَجُ وَغَيْرُهُ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ يَنْزِعُ"، بِنَحْوِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"الحلوانيّ" هو: الحسن بن عليّ الخلال.
[تنبيه]: رواية الأعرج عن أبي هريرة هذه ساقها ابن عساكر رحمه الله في "تاريخ دمشق"، فقال:
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2718.
(2)
"الفتح" 13/ 452.
أنبأنا أبو عليّ الحداد، وحدّثني أبو مسعود عبد الرحيم بن عليّ، أنا أبو نعيم الحافظ، نا سليمان بن أحمد، نا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الْحَوْطيّ، نا أبو اليمان، أنا شعيب، نا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرى ابن أبي قحافة ينزع ذنوبًا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم نزع ابن الخطاب، فلم أر عبقريًّا من الناس، يَفْرِي فَرِيّه، حتى ضَرَب الناسُ بعَطَن". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6175](. . .) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُرِيتُ أَنِّي أَنْزِعُ عَلَى حَوْضِي، أَسْقِي النَّاسَ، فَجَاءَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ الدَّلْوَ مِنْ يَدِي لِيُرَوِّحَنِي، فَنَزَعَ دَلْوَيْن، وَفِي نَزْعِهِ ضُعْفٌ -وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ- فَجَاءَ ابْنُ الْخَطَّاب، فَأَخَذَ مِنْهُ، فَلَمْ أَرَ نَزْعَ رَجُلٍ قَطُّ أَقْوَى مِنْهُ، حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ، وَالْحَوْضُ مَلآنُ يَتَفَجَّرُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَهْبِ) بن مسلم المصريّ، لقبه بَحْشَل -بفتح الموحّدة، وسكون المهملة، بعدها شين معجمة- يكنى أبا عبيد الله، صدوق تغيّر بأخرة [11](ت 264)(م) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1277.
2 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقية حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
3 -
(أَبُو يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ) سُلَيم بن جُبير الدَّوْسيّ، المصريّ، ثقةٌ [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقيان ذُكرا في الباب. وقوله: (أُرِيتُ
…
إلخ) بالبناء للمفعول؛ أي: أراني الله تعالى نفسي في المنام.
(1)
"تاريخ مدينة دمشق" 44/ 246.
وقوله: (أَنِّي أَنْزِعُ) بكسر الزاي، من باب ضرب.
وقوله: (أَنْزِعُ عَلَى حَوْضِي)، وفي رواية البخاريّ:"رأيت أني على حوضٍ، أسقي الناس"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية المستملي، والكشميهنيّ:"على حوضي"، والأول أَولى، وكأنه كان يملأ من البئر، فيسكُب في الحوض، والناس يتناولون الماء لبهائمهم وأنفسهم، وإن كانت رواية المستملي محفوظةً احْتَمَل أن يريد حوضًا له في الدنيا، لا حوضه الذي في القيامة. انتهى
(1)
.
وفي الرواية الماضية: "رأيتني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله"، والجمع بينهما أن القليب هو البئر المقلوب ترابها قبل الطيّ، والحوض هو الذي يُجعل بجانب البئر لِشُرب الإبل، فلا منافاة، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقوله: (أَسْقِي النَّاسَ) بفتح الهمزة، من سقى ثلاثيًّا، وضمّها، من أسقى رباعيًّا.
وقوله: (لِيُرَوِّحَنِي) بضم أوله، وتشديد الواو، من الترويح، وفي رواية همّام":"ليُريحني"، من الإراحة؛ أي: ليزيل التعب عني من نَصَب الدنيا، ومعاناة الأمة، ومقاساة تدبيرهم
(3)
.
قال العلماء: فيه إشارة إلى نيابة أبي بكر رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم، وخلافته بعده، وراحته صلى الله عليه وسلم بوفاته من نَصَب الدنيا، ومشاقّها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مُستريحٌ، ومستراحٌ منه
…
" الحديث، و"الدنيا سجن المؤمن"، و"لا كَرْب على أبيك بعد اليوم"
(4)
.
وقوله: (فَنَزَعَ دَلْوَيْنِ) إشارة إلى مدّة خلافته رضي الله عنه، وهي نحو سنتين.
وقوله: (حَتَّى تَوَلَّى النَّاسُ)؛ أي: تركوا السقي منه؛ لارتواء دوابّهم.
وقوله: (وَالْحَوْضُ مَلآنُ)؛ أي: ممتلئ بالماء، يقال: هو مَلآنُ، وهي ملآى، وملآنةُ، والجمع مِلاءٌ بالكسر، أفاده في "القاموس".
(1)
"الفتح" 16/ 375 - 376.
(2)
"الفتح" 16/ 380، كتاب "التعبير" رقم (7022).
(3)
"إكمال المعلم" 7/ 397.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 161.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6176](2393) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ سَالِم، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيت كَأَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرةٍ عَلَى قَلِيبٍ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أَو ذَنُوبَيْن، فَنَزَعَ نَزْعًا ضَعِيفًا -وَاللهُ تبارك وتعالى يَغْفِرُ لَهُ- ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ، فَاسْتَقَى، فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا، فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ، يَفْرِي فَرْيَهُ، حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ، وَضَرَبُوا الْعَطَنَ
(1)
").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبدي، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الْعُمَريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، قدَّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ، عن عروة، عنها [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ سَالِمِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدنيّ، ثقةٌ [5]. رَوَى عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب فقط، وروى عنه عبيد الله بن عمر العمريّ، قال أبو حاتم: لا أعرف اسمه، وذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من المدنيين، وقال العجليّ: مدنيّ ثقةٌ.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وليس له عندهما إلا هذا الحديث فقط.
4 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب القرشيّ العَدَويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وكان ثبتًا
(1)
وفي نسخة: "وضربوا بعطن".
عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّه بأبيه في الهدي، والسَّمْت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالتحديث إلا في موضعين، وبالمدنيين من عبيد الله، والباقون كوفيّون، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن أبيه، وفيه أبو بكر لا يُعرف اسمه، وهو ممن انفرد الشيخان به، وليس له عندهما إلا هذا الحديث، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.
شرح الحديث:
عن (عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) الْعُمريّ المدنيّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ سَالِمِ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، قال في "الفتح": وهو من أقران الراوي عنه، وهما مدنيان، من صغار التابعين، وأما أبوه سالم فمعدود من كبارهم، وهو أحد الفقهاء السبعة، وليس لأبي بكر بن سالم في البخاريّ غير هذا الموضع، ووثّقه العجليّ، ولا يُعرف له راوٍ إلا عبيد الله بن عمر المذكور، وإنما أخرج له البخاريّ في المتابعات. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كذلك ليس له عند مسلم إلا هذا الحديث، وأخرجه بمتابعة موسى بن عقبة، كما في الرواية التالية، والله تعالى أعلم.
(عَنْ) أبيه (سَالِم بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ) أبيه (عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ) بالبناء للمفعول، كما تقدّم قبله. (كَأَنِّي أَنْزِعُ بِدَلْوِ بَكْرَةٍ) بفتح الموحدة، والكاف على المشهور، وحَكَى بعضهم تثليث أوله، ويجوز إسكانها على أن المراد نسبة الدلو إلى الأنثى من الإبل، وهي الشابة؛ أي: الدلو التي يُسقَى بها، وأما بالتحريك فالمراد: الخشبة المستديرة التي
(1)
"الفتح" 8/ 380، كتاب "الفضائل" رقم (3682).
يُعَلّق فيها الدلو، قاله في "العمدة"
(1)
.
(عَلَى قَلِيبٍ) بفتح القاف، وكسر اللام: هو البئر، وهو مذكّر، قال الأزهريّ: القليب عند العرب: البئر العاديّة القديمة، مطويّةً كانت، أو غير مطويّة، والجمع: قُلُبٌ، مثلُ بَرِيد وبُرُدٍ، قاله الفيّوميّ
(2)
.
(فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَنَزَعَ ذَنُوبًا، أَو ذَنُوبَيْنِ) قال في "الفتح": كذا هنا، ومِثْله لأكثر الرواة، ووقع في رواية همام:"ذنوبين"، ولم يشكّ، ومثله في رواية أبي يونس، والذَّنوب بفتح المعجمة: الدلو الممتلئ. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الذَّنُوب: وزانُ رَسُول: الدلو العظيمة، قالوا: ولا تُسمّى ذَنُوبًا حتى تكون مملوءةً ماءً، وتُذكّر، وتؤنّث، فيقال: هو الذَّنُوب، وهي الذَّنُوب، وقال الزجّاج: مذكّرٌ لا غير، وجمعه ذِنَابٌ، مثلُ كتاب. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الزجّاج يردّه هذا الحديث، حيث إنها في قوله:"فاستحالت" بالتاء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَنَزَعَ) أبو بكر رضي الله عنه (نَزْعًا ضَعِيفًا) قد ذكر الشافعيّ رحمه الله تفسير هذا الحديث في "الأُمّ"، فقال بعد أن ساقه: ومعنى قوله: "وفي نزعه ضعف": قِصَرُ مدته، وعجلة موته، وشُغْله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح، والازدياد الذي بلغة عمر رضي الله عنه في طول مدته. انتهى، وقد تقدّم ما قاله غير الشافعيّ من الأئمة، قريبًا، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.
(وَاللهُ تبارك وتعالى يَغْفِرُ لَهُ) قال النوويّ: هذا دعاء من المتكلم؛ أي: أنه لا مفهوم له، وقال غيره: فيه إشارة إلى قرب وفاة أبي بكر رضي الله عنه، وهو نظير قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 3]، فإنها إشارة إلى قُرب وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون فيه إشارة إلى أن قلة الفتوح في زمانه لا صُنْع له فيه؛ لأن سببه قِصَرُ مدته، فمعنى المغفرة له: رفع الملامة عنه. انتهى. وقد تقدّم البحث قريبًا، فلا تنس.
(1)
"عمدة القاري" 16/ 194، و"الفتح" 7/ 46.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 512.
(3)
"الفتح" 16/ 376، كتاب "التعبير" رقم (7019).
(ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه (فَاسْتَقَى، فَاسْتَحَالَتْ) الذَّنُوب، هذا يردّ ما تقدّم عن الزجّاج، كما أسلفته. (غَرْبًا) بفتح المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وزان فَلْس: الدلوَ العظيمةَ، يُستقى بها على السانية
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فاستحالت في يده غربًا"؛ أي: تحولت الدلو غربًا، وهي بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحَّدة، بلفظِ مقابل الشرق، قال أهل اللغة: الغرب: الدلو العظيمة المتَّخَذة من جلود البقر، فإذا فتحت الراء فهو الماء الذي يسيل بين البئر والحوض، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك البُونيّ أن الغرب كل شيء رفيع، وعن الداوديّ قال: المراد أن الدلو أحالت باطن كفيه حتى صار أحمر من كثرة الاستسقاء، قال ابن التين: وقد أنكر ذلك أهل العلم، ورَدُّوه على قائله. انتهى
(2)
.
(فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ) قال في "المشارق": العبقريّ: النافذ الماضي الذي لا شيء يفوقه، قال أبو عمر: وعبقريُّ القوم: سيدهم، وقَيِّمهم، وكبيرهم، وقال الفرّاء: -العبقريّ: السيد، والفاخر من الحيوان، والجوهر، والبساط المنقوش، وقيل: هو منسوب إلى عبقر موضع بالبادية، وقيل: قرية يُعمل فيها الثياب البالغة في الحُسن، والبُسُط، وقيل: نسبة إلى أرض تسكنها الجنُّ تَضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم، قاله أبو عبيدة، قال ابن الأثير: فصاروا كلما رأوا شيئًا غريبًا مما يصعب عمله، ويدُقّ، أو شيئًا عظيمًا في نفسه نَسَبوه إليها، فقالوا: عبقريّ، ثم اتُّسِع فيه حتى سُمّي به السيد الكبير. انتهى.
(يَفْرِي فَرْيَهُ) قال في "العمدة": قوله: "يَفرِي" بكسر الراء، و"فَرْيه" بفتح الفاء، وسكون الراء، وتخفيف الياء، ويُرْوَى "فَرِيَّه" بفتح الفاء، وكسر الراء، وتشديد الياء؛ أي: يَعْمل عملًا مُصلحًا، ويقطع قَطْعهُ مُجيدًا، يقال: فلان يَفري فريه: إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله، وقال الخليل: يقال في الشجاع: ما يَفري أحد فريه مخففة الياء، ومَن شدَّد أخطأ، يقال: معناه: ما كل أحد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 444.
(2)
"الفتح" 16/ 376، كتاب "التعبير" رقم (7019).
يفري على عمله. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يفري فريه": الرواية المشهورة بكسر الراء وتشديد الياء، ويُروَى بتسكين الراء، وتخفيف الياء، وأنكر الخليل التثقيل، وغلَّط قائله، ومعناه: يعمل عمله، ويقوى قوّته، وأصل الفري: القطع، يقال: فلان يفري الفري؛ أي: يعمل العمل البالغ، ومنه قوله تعالى:{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27]؛ أي: عظيمًا بالغًا في فنِّه، يقال: فَرَيتُ الأديمَ: إذا قطعته على جهة الإصلاح، وأفريته: إذا قطعته على جهة الإفساد. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما "يفري" فبفتحِ الياء، وإسكان الفاء، وكسر الراء، وأما "فريه"، فرُويَ بوجهين: أحدهما: "فرْيه" بإسكان الراء، وتخفيف الياء، والثانية: كسر الراء، وتشديد الياء، وهما لغتان صحيحتان، وأنكر الخليل التشديد، وقال: هو غلط، واتفقوا على أن معناه: لم أر سيِّدًا يَعمل عمله، ويقطع قَطْعه، وأصل الفري بالإسكان: القطع، يقال: فريتُ الشيءَ أَفْرِيه فَرْيًا: قطعته للإصلاح، فهو مَفْريّ، وفَرِيٌّ، وأفريته: إذا شققته على جهة الإفساد، وتقول العرب: تركته يَفري الفَرْيَ إذا عَمِل العمل، فأجاده، ومنه حديث حسان رضي الله عنه:"لأفرينّهم فَرْيَ الأَدِيم"؛ أي: أقطعهم بالهجاء، كما يُقْطَع الأديم. انتهى
(3)
.
(حَتَّى رَوِيَ النَّاسُ) بكسر الواو، وفتح الياء: فعل ماض، ومضارعه يَرْوَى -بفتح الواو- من الرِّيّ: وهو الامتلاء من الشراب، ومعناه: أنهم رَوُوا في أنفسهم، وقوله:(وَضَرَبُوا الْعَطَنَ")، وفي بعض النسخ:"وضربوا بعطن"؛ أي: رَوَوْا إبلهم، وأصله أنهم يسقون الإبل، ثم يُعطنونها؛ أي: يتركونها حول الحياض؛ لتستريح، ثم يعيدون شربها.
وقال في "الفتح": قوله: "حتى ضرب الناس بعطن" بفتح المهملتين، وآخره نون: هو ما يُعَدّ للشرب حول البئر، من مَبَارك الإبل، والمراد بقوله:"ضَرَبَ"؛ أي: ضَرَبت الإبلُ بعطن بركت، والعطن للإبل؛ كالوطن للناس،
(1)
"عمدة القاري" 16/ 159.
(2)
"المفهم" 6/ 255 - 256.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 162.
لكن غَلَب على مبركها حول الحوض، ووقع في رواية أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عند أبي بكر بن أبي شيبة:"حتى رَوِيَ الناسُ، وضربوا بعطن"، ووقع في رواية همام:"فلم يزل ينزِع حتى تولى الناسُ، والحوض يتفجر"، وفي رواية أبي يونس:"ملآن ينفجر".
قال القاضي عياض: ظاهر هذا الحديث أن المراد خلافة عمر، وقيل: هو لخلافتهما معًا؛ لأن أبا بكر جَمَع شَمْل المسلمين أوّلًا بدفع أهل الردّة، وابتدأت الفتوح في زمانه، ثم عَهِدَ إلى عمر، فكثرت في خلافته الفتوح، واتسع أمر الإسلام، واستقرت قواعده.
وقال غيره: معنى عِظَم الدلو في يد عمر: كون الفتوح كثرت في زمانه، ومعنى "استحالت": انقلبت من الصِّغَر إلى الكِبَر.
وقال النوويّ: قالوا: هذا المنام مثال لِمَا جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل قيام، وقَرَّر قواعد الدين، ثم خَلَفه أبو بكر، فقاتل أهل الردّة، وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر، فاتسع الإسلام في زمنه، فشَبَّهَ أمرَ المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم، وصلاحهم، وشَبَّهَ بالمستقى لهم منها، وسقيُهُ هو قيامه بمصالحهم.
وفي قوله: "ليريحني" إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن في الموت راحةً من كَدَر الدنيا، وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة، ومعاناة أحوالهم.
وأما قوله: "وفي نزعه ضعف" فليس فيه حطّ من فضيلته، وإنما هو إخبار عن حاله في قِصَر مدة ولايته، وأما ولاية عمر، فإنها لمّا طالت كَثُر انتفاع الناس بها، واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح، وتمصير الأمصار، وتدوين الدواوين.
وأما قوله: "والله يغفر له" فليس فيه نقص له، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذَنْب، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها، يدعمون بها الكلام. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 16/ 377 - 378، كتاب "التعبير" رقم (7019).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6176 و 6177](2393)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3633) و"فضائل الصحابة"(3676 و 3682) و"التعبير"(7019 و 7020)، و (الترمذيّ) في "الرؤيا"(2289)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 386)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 21)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 27 و 28 و 39 و 89 و 104 و 107)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 299 و 301)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 387 و 394)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(7/ 1308)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 154)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه الإعلامّ بخلافة الشيخين، وصحة ولايتهما، وكثرة الانتفاع بهما، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال ابن العربيّ رحمه الله: ليس المراد بالدلو التقدير الدالّ على قِصَر الحظّ، بل المراد التمكن من البئر.
2 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى من رأى أنه يَستخرج من بئر ماء أنه يلي ولاية جليلةً، وتكون مدته بحسب ما استخرج قلةً وكثرةً، قال في "الفتح": وقد تُعْبَر البئر بالمرأة، وما يخرج منها بالأولاد، وهذا الذي اعتمده أهل التعبير، ولم يعوِّجوا على الذي قبله، فهو الذي ينبغي أن يُعَوَّل عليه، لكنه بحَسَب حال الذي ينزع الماء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": إن قولَه: "بدلو بكرة" فيه إشارة إلى صِغَر الدلو قبل أن يصير غَرْبًا، وأخرج أبو ذرّ الهرويّ في "كتاب الرؤيا" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه نحو حديث الباب، لكن قال في آخره:"فَعَبِّرها يا أبا بكر، قال: أَلِي الأمرَ بعدك، ويليه بعدي عمر، قال: كذلك عَبَرها المَلَك"، وفي سنده أيوب بن جابر، وهو ضعيف، وهذه الزيادة منكَرة.
(1)
"الفتح" 16/ 377 - 378، كتاب " التعبير" رقم (7019).
وقد ورد هذا الحديث من وجه آخر بزيادة فيه، فأخرج أحمد، وأبو داود، واختاره الضياء، من طريق أشعث بن عبد الرحمن الجرّميّ، عن أبيه، عن سمرة بن جندب:"أن رجلًا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوًا دُلِّي من السماء، فجاء أبو بكر، فأخذ بعراقَيها، فشرب شربًا ضعيفًا، ثم جاء عمر، فأخذ بعِراقَيها، فشرب حتى تضلَّع، ثم جاء عثمان، فأخذ بعراقَيها، فشرب حتى تضلَّع، ثم جاء عليّ، فأخذ بعراقيها، فانتُشِطَت، وانتضح عليه منها شيء".
وهذا يبيَّن أن المراد بالنزع الضعيف، والنزع القوي: الفتوح والغنائم.
وقوله: "دُلِّيَ" بضم المهملة، وتشديد اللام؛ أي: أُرسل إلى أسفل.
وقوله: "بعِراقيها" بكسر المهملة، وفتح القاف، والعراقان: خشبتان تُجعلان على فم الدلو، متخالفتان لربط الدلو.
وقوله: "تضلع" بالضاد المعجمة؛ أي: ملأ أضلاعه، كناية عن الشبع.
وقوله: "انتُشِطَت"، بضم المثناة، وكسر المعجمة، بعدها طاء مهملة؛ أي: نُزِعت منه، فاضطربت، وسقط بعض ما فيها، أو كله.
قال ابن العربيّ: حديث سمرة يعارض حديث ابن عمر، أو هما خبران.
قال الحافظ: الثاني هو المعتمَد، فحديث ابن عمر مصرِّح بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الرائي، وحديث سمرة فيه أن رجلًا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه رأى.
وقد أخرج أحمد من حديث أبي الطفيل شاهدًا لحديث ابن عمر، وزاد فيه:"فوَرَدت عليّ غنم سُودٌ، وغنم عُفْرٌ -وقال فيه-: فأوَّلت السُّود العرب، والعُفْر العجم".
وفي قصة عمر: "فملأ الحوض، وأروى الواردة".
ومن المغايرة بينهما أيضًا أن في حديث ابن عمر: "نزع الماء من البئر"، وحديث سمرة فيه نزول الماء من السماء، فهما قصّتان تشد إحداهما الأخرى، وكأن قصة حديث سمرة سابقة، فنزل الماء من السماء، وهي خزانته، فأُسكِن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة، ثم أخرج منها بالدلو، كما دلّ عليه حديث ابن عمر.
وفي حديث سمرة إشارة إلى نزول النصر من السماء على الخلفاء، وفي
حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم، وكلاهما ظاهر من الفتوح التي فتحوها.
وفي حديث سمرة زيادةُ إشارةٍ إلى ما وقع لعليّ من الفتن، والاختلاف عليه، فإن الناس أجمعوا على خلافته، ثم لم يلبث أهل الجَمَل أن خرجوا عليه، وامتنع معاوية في أهل الشام، ثم حاربه بصفِّين، ثم غَلَب بعد قليل على مصر، وخرجت الحرورية على عليّ، فلم يحصل له في أيام خلافته راحة، فضُرِب المنام المذكور مثلًا لأحوالهم رضوان الله عليهم أجمعين. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6177](. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد الله بن قيس التميميّ الْيَرْبُوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ، ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأخرة [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عَيّاش الأسديّ، مولى آل الزبير المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي، لم يَصِحّ أن ابن معين لَيَّنه [5] (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (عَنْ رُؤْيَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس".
(1)
"الفتح" 16/ 378 - 379، كتاب "التعبير" رقم (7019).
وقال في "الفتح": قوله: "عن رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم" كأنه تقدّم للتابعيّ سؤال عن ذلك، فأخبره به الصحابيّ
(1)
.
وقوله: (فِي أَبَي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنهما) متعلّق بحال مقدّر عن "رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: حال كونها كائنة فيما يتعلّق بمدّة خلافتهما.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن حديث أحمد بن عبد الله بن يونس بنحو حديث ابن أبي شيبة، وابن نُمير، وفيه إطلاق ضمير الجماعة على الاثنين؛ إذ المراد شيخاه في السند الماضي، وهما: ابن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وقد تقدّم أن الأصحّ أن أقلّ الجمع اثنان، كما قال تعالى:{وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، بعد قوله:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الآية [الأنبياء: 178] وهذا الوجه أَولى مما سلكه بعض الشرّاح
(2)
من تغليط الرواية، زاعمًا أن المرجع هو أبو بكر بن سالم.
ومما يؤكّد كون مرجع الضمير شيخيه ما يأتي في حديث جابر التالي لهذا
الحديث، من قوله:"بمثل حديث ابن نُمير، وزُهير"، فقد نصّ هناك على شيخيه، وهذا مثله دون أيّ فرق، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية موسى بن عُقبة عن سالم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:
(6617)
- حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا زهير، حدثنا موسى، عن سالم، عن أبيه، عن رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم في أبي بكر وعمر، قال:"رأيت الناس اجتمعوا، فقام أبو بكر، فنزع ذَنوبًا، أو ذَنوبين، وفي نَزْعه ضُعْفٌ، والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب، فاستحالت غربًا، فما رأيت في الناس مَن يَفْرِي فَرِيَّه، حتى ضَرَبَ الناسُ بعطن". انتهى
(3)
.
قال في "الفتح": وقوله: "قال: رأيت" القائلُ هو النبيّ -صلى الله ع ليه وسلم-، وحاكي ذلك عنه هو ابن عمر رضي الله عنهما.
(1)
"الفتح" 16/ 378 - 379.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 22/ 402.
(3)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2576.
وقوله: "رأيت الناس اجتمعوا، فقام أبو بكر" فيه اختصار، يوضحه ما قبله، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ أوّلًا، فنزع من البئر، ثم جاء أبو بكر. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6178](2394) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، وَابْنِ الْمُنْكَدِر، سَمِعَا جَابِرًا، يُخْبِرُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِر، وَعَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا دَارًا، أَو قَصْرًا، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ"، فَبَكَى عُمَرُ، وَقَالَ: أَيْ رَسُولَ الله، أَوَ عَلَيْكَ يُغَارُ؟).
رجال هذين الإسنادين: ستة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الجُمحيّ المكيّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدير -بالتصغير- التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ -بفتحتين- الصحابيّ ابن الصحابيّ، غزا تسع عشرة غزوةً، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ ما نصّه: "حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدّثنا أبي، حدّثنا سفيان
…
إلخ" فزاد: "حدّثنا أبي"، وهو غلطٌ، والصواب ما في النُّسخ الأخرى: "حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، حدّثنا سفيان"، وهو ابن عيينة، وقد أورده الحافظ المزّي في "تحفته"
(2)
هكذا، ولم يُشر إلى النسخة الأخرى، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"الفتح" 16/ 379 - 380.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 2/ 257.
[تنبيه آخر]: من لطائف هذين الإسنادين:
أنهما من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كالأسانيد الثلاثة التالية، وهما (473 و 474) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر رضي الله عنه صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، ومن المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِر) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ فِيهَا دَارًا)
قال الفيّوميّ رحمه الله: الدار: معروفة، وهي مؤنّثةٌ، والجمع: أَدْوُرٌ، مثلُ أفلُس، وتُهمز الواو، ولا تُهمز، وتُقلب، فيقال: آدرٌ، وتُجمع أيضًا على دِيار، ودُورٍ، والأصل في إطلاق الدور على الموضع، وقد تُطلق على القبائل مجازًا. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الدارُ: المحلُّ، يَجمعُ البِناءَ والعَرْصَةَ، من دَارَ يَدُورُ؛ لكَثْرِة حَرَكاتِ النَّاسِ فيها، وقد تُذَكَّرُ، جَمْعه: أُدْؤُرٌ، وأدْوُرٌ، وآدُرٌ، ودِيارَةٌ، ودِيرانٌ، ودُورانٌ، ودُوراتٌ، ودِياراتٌ، وأدوارٌ، وأدوِرةٌ، قال: والدارَةِ بهاءٍ: كلُّ أرضٍ واسعةٍ بينَ جبالٍ، وما أحاطَ بالشيءِ؛ كالدائرَة، ومن الرملِ: ما اسْتَدارَ منه. انتهى باختصار
(2)
، وبزيادة يسيرة من "التاج"
(3)
.
وقوله: (أَو قَصْرًا)"أو" فيه للشكّ من الراوي، و"القصر" بفتح، فسكون: المنزل، أو كلّ بيت من حَجَر، سُمِّيَ بذلك؛ لأَنّه يُقْصَرُ فيه الحُرَم؛ أي: يُحْبَسْن، وجَمْعه قُصُورٌ، وفي التَّنْزِيل العَزِيز:{وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}
(4)
.
وفي رواية ابن حبّان: "أُدخلت الجنّة، فرأيت فيها قصرًا من ذهب، أو لؤلؤ، فقلت: لمن هذا القصر؟ ".
(فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) قال في "الفتح": والظاهر أن المخاطِب له بذلك جبريل، أو غيره من الملائكة. (فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ") -بفتح الغين المعجمة، وسكون التحتانية، بعدها راء-
(1)
"المصباح المنير" 1/ 202 - 203.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 503.
(3)
"تاج العروس" 1/ 2836.
(4)
"تاج العروس" 1/ 3399.
قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغيّر القلب، وهَيَجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزوجين
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "فأردت ان أدخله، فلم يمنعني إلا علمي بغيرتك"، ووقع في رواية عن جابر في هذه القصة:"دخلت الجنة، فرأيت فيها قصرًا يُسمع فيه ضوضاء، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لعمر"، والضوضاء -بمعجمتين مفتوحتين، بينهما واو، وبالمدّ، وهو صوت الناس.
وفي حديث أبي هريرة الآتي: "فذكرت غيرة عمر، فولّيت مدبرًا".
وقال في "العمدة": قوله: "فذكرت غيرته" بالفتح، مصدر قولك: غار الرجل على أهله من فلان، وهي الحميّة، والأَنَفَة، يقال: رجل غيورٌ، وامرأة غيورٌ، وجاء امرأة غيراء، وصيغة غيور للمبالغة. انتهى
(2)
.
(فَبَكَى عُمَرُ)، وفي حديث أبي هريرة: "فبكى عمر، ونحن جميعًا في
ذلك المجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن بطّال رحمه الله: وبكاء عمر رضي الله عنه
يَحْتَمِل أن يكون سرورًا، ويَحْتَمِل أن يكون تشوقًا، أو خشوعًا، ووقع في رواية أبي بكر بن عياش، عن حميد من الزيادة:"فقال عمر: وهل رفعني الله إلا بك؟، وهل هداني الله إلا بك؟ "، قال الحافظ: رَوَيناه في "فوائد عبد العزيز الحربيّ" من هذا الوجه، وهي زيادة غريبة. انتهى
(3)
.
(وَقَالَ: أَيْ)؛ أي: حرف نداء للقريب، وقيل: للبعيد، (رَسُولَ اللهِ) بالنصب على النداء، (أَوَ عَلَيْكَ يُغَارُ؟) بالبناء للمفعول، وفي حديث أبي هريرة:"ثم قال عمر: بأبي أنت يا رسول الله، أعليك أغار؟ "، قال في "الفتح": قوله: "أعليك أغار؟ " معدود من القلب، والأصل: أعليها أغار منك؟ انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": قوله رحمه الله؛ "أعليك أغار؟ " هذا من القلب؛ لأن الأصل: أعليها أغار منك؟ وقال الكرمانيّ: والأصل أن يقال: أمنك أغار
(1)
"الفتح" 11/ 667 - 668 رقم (5220).
(2)
"عمدة القاري" 15/ 152.
(3)
"الفتح" 8/ 377، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3679).
(4)
"الفتح" 8/ 377، كتاب "الفضائل" رقم (3679).
عليها؟ ثم أجاب بأن لفظ "عليك" ليس متعلقًا بقوله: "أغار"، بل معناه: أمستعليًا عليك أغار عليها؟ قال: ودعوى القياس المذكور ممنوعة؛ إذ لا مُحوِج إلى ارتكاب القلب مع وضوح المعنى بدونه، ويَحْتَمِل أن يكون أطلق "عَلَى"، وأراد "مِنْ"، كما قيل: إن حروف الجر تتناوب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6178 و 6179](2394)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5226) و"التعبير"(7024) و"فضائل الصحابة"(3679)، و (ابن أبي شيبة) في "المصنّف"(12/ 28)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1235 و 1236)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 309)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(23 و 24 و 25)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6886)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 390)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 467)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3878)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه فضيلةً ظاهرةً لعمر رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة.
3 -
(ومنها): بيان جواز ذِكر الرجل بما عُلِم من خُلُقه كغَيرة عمر رضي الله عنه، قال ابن بطال: فيه الحكم لكل رجل بما يُعْلَم من خُلُقه.
4 -
(ومنها): أن الجنّة مخلوقة وموجودة الآن.
5 -
(ومنها): إثبات البشرى بالرؤيا، ولا سيّما رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت
(1)
"عمدة القاري" 16/ 193، بزيادة من "الفتح" 12/ 416.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لم يبق من النبوة إلا المبشِّرات"، قالوا: وما المبشرات؟
قال: "الرؤيا الصالحة".
وأخرجا أيضًا عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6179](. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، وَابْنِ الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا (ح) وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِر، سَمِعْتُ جَابِرًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرٍ).
رجال هذه الأسانيد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"سفيان" هو: ابن عيينة، و"عمرو" هو: ابن دينار، و"ابن المنكدر" هو: محمد.
[تنبيه]: من لطائف هذه الأسانيد:
أنها كلها من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقيها، وهي (475 و 476 و 477)، وفي الإسنادين الأخيرين بيان سماع عمرو وابن المنكدر من جابر رضي الله عنه.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرٍ)؛ يعني: أن حديث إسحاق، وابن أبي شيبة، وعمرو الناقد، كلّهم عن ابن عيينة، مثل حديث ابن نمير، وزهير كلاهما عنه.
[تنبيه آخر]: رواية إسحاق بن إبراهيم عن سفيان بن عيينة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(2014)
- حدّثنا إسحاق، حدّثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، سمعه
(1)
مرَّ في هذا الشرح في كتاب "الرؤيا" برقم [1/ 5895](2264).
من جابر، وعمرِو بنِ دينار، سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة، فرأيت فيها دارًا، أو قصرًا، فسمعت فيه صوتًا، أو ضوضاء، فقلت: لمن هذا؟ قيل: هو لابن الخطاب"، قال سفيان: زاد ابن المنكدر: "فأردت أن أدخله، فذكرت غَيْرتك، فبكى عمر، قال: يا نبي الله، أوَ أغار عليك؟ ". انتهى
(1)
.
ورواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان ساقها هو في "مصنّفه"، فقال:
(31993)
- حدّثنا ابن عيينة، عن عمرو، سمع جابرًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة، فرأيت فيها دارًا، أو قصرًا، فسمعت صوتًا، فقلت: لمن هذا؟ قيل: لعمر، فأردت أن أدخلها، فذكرت غَيْرتك، فبكى عمر، وقال: يا رسول الله، أعليك أغار؟ ". انتهى
(2)
.
وأما رواية عمرو الناقد عن سفيان، فلم أجد من ساقها، فَلْيُنْظَرْ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6180](2395) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ؛ إِذْ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأةٌ تَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَرُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله، أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
وقد تقدّم الإسناد نفسه في هذا الباب قبل سبعة أحاديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالمصريين،
(1)
"مسند أبي يعلى" 4/ 13.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 355.
والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثريثن السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ)، وفي رواية البخاريّ: "قال: أخبرني سعيد بن الْمُسَيِّب، أن أبا هريرة قال: بينا نحن جلوس
…
". (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ) هي "بين الظرفيّة"، أُشبعت فتحتها فتولّدت منها الألف، قال في "اللسان": أصل "بينا": "بَيْنَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت ألفًا، ويقال:"بينا"، و"بينما"، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويُضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدإ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يَتِمّ به المعنى، والأفصح في جوابهما أن لا يكون فيه "إذ"، و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بينا زيدٌ جالسٌ دخل عليه عمرو، وإذ دخل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الْحُرَقَة بنت النعمان [من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
(1)
وقوله: (إِذْ رَأَيْتُنِي) بضمّ التاء، والضمير للمتكلّم، وفيه وقوع الفاعل والمفعول ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، وهو مختصّ بأفعال القلوب، قال الله عز وجل:{أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 7]، وأُلحقت في ذلك "رأى" الحُلميّة والبصريّة بكثرة، نحو {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36]، وقول الشاعر [من الكامل]:
وَلَقَدْ أَرَانِي لِلرِّمَاحِ دَرِيئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِيْنِي تَارَةً وَأَمَامِي
وأُلحقت أيضًا "عَدِمَ"، و"فَقَد"، و"وَجَدَ" بمعنى "لَقِيَ " بقلّة، دون باقي الأفعال، فلا يقال: ضربتني، ولا ظلمتني، اتّفاقًا؛ لئلا يكون الفاعل مفعولًا، بل يقال: ضربت نفسي، وظلمت نفسي؛ ليتغاير اللفظان، وإنما جاز ذلك في أفعال القلوب؛ لأن مفعولها في الحقيقة مضمون الجملة، لا المنصوب بها،
(1)
"لسان العرب" 12/ 66.
فلا ضرر في اتّحاده مع الفاعل
(1)
، فتنبّه لهذه القاعدة، فإنها مهمّة، والله تعالى أعلم.
(في الْجَنَّةِ) قال الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد إخراجه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا ما نصّه: في هذا الخبر: "بينما أنا نائم"، وفي خبر جابر:"أُدخلت الجنة"، وأُدخل الجنة صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به، فرأى قصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأل عن القصر، فأخبروه أنه لعمر، وبينما النبيّ صلى الله عليه وسلم نائم مرّةً أخرى؛ إذ رأى كأنه أُدخل الجنّة، وإذا امرأة إلى جانب قصر تتوضّأ، فسأل عن القصر، فقالت: لعمر بن الخطّاب، لفظ خبر أبي هريرة بخلاف لفظ خبر جابر، فدلّك ذلك على أنهما خبران في وقتين متباينين، من غير أن يكون هناك تضادّ، ولا تَهَاتُر. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله
(2)
، وهو جَمْع حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا امْرَأَةٌ)"إذا" هي الفجائيّة، وهي تختصّ بالجملة الاسميّة، كهذا الحديث، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال، لا الاستقبال، والتقدير هنا: ففجاءني وجود امرأة.
وفي رواية للبخاريّ: "رأيتُني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرُّمَيصاء امرأة أبي طلحة"، قال في "الفتح": هي أم سليم، والرُّميصاء بالتصغير صفة لها؛ لِرَمَصٍ كان بعينها، واسمها سهلة، وقيل: رُميلة، وقيل غير ذلك، وقيل: هو اسمها، ويقال فيه: بِالْغين المعجمة بدل الراء، وقيل: هو اسم أختها أم حرام، وقال أبو داود: هو اسم أخت أم سليم من الرضاعة، وجوَّز ابن التين أن يكون المراد: امرأة أخرى لأبي طلحة. انتهى
(3)
.
(تَوَضَّأُ) بفتح أوله، وأصله تتوضّأ، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا؛ كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
وقوله: "تَوَضأُ": جملة في محلّ جرّ صفة لـ "امرأة"؛ أي: وضوءًا
(1)
راجع: "حاشية الخضري على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 221 - 222.
(2)
راجع: "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبّان" 15/ 312.
(3)
"الفتح" 8/ 376 رقم (3680).
حقيقيًّا، وهذا هو الظاهر، وقال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، ولا يُنْكَر كونها تتوضأ حقيقةً؛ لأن الرؤيا وقعت في زمن التكليف، والجنة وإن كان لا تكليف فيها، فذاك في زمن الاستقرار، بل ظاهر قوله:"توضأ إلى جانب قصر" أنها تتوضأ خارجة منه، أو هو على غير الحقيقة، ورؤيا المنام لا تُحمل دائمًا على الحقيقة، بل تَحتمل التأويل، فيكون معنى كونها تتوضأ أنها تحافظ في الدنيا على العبادة، أو المراد بقوله:"توضأ"؛ أي: تستعمل الماء لأجل الوضاءة على مدلوله اللغويّ، وفيه بُعْد.
قال الجامع عفا الله عنه: كون الوضوء حقيقيًّا هو الحقّ، كما هو ظاهر الحديث، كما أسلفته، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وأغرب ابن قتيبة، وتبعه الخطابيّ، فزعم أن قوله:"تتوضأ" تصحيف، وتغيير من الناسخ، وإنما الصواب امرأة شوهاء، ولم يستند في هذه الدعوى إلا إلى استبعاد أن يقع في الجنة وضوء؛ لأنه لا عمل فيها، وعدم الاطلاع على المراد من الخبر لا يقتضي تغليط الحفاظ، ثم أخذ الخطابيّ في نقل كلام أهل اللغة في تفسير الشوهاء، فقيل: هي الحسناء، ونقله عن أبي عبيدة، وإنما تكون حسناء إذا وُصفت بها الفَرَس، قال الجوهريّ: فرس شوهاء صفة محمودة، والشوهاء: الواسعة الفم، وهو مستحسن في الخيل، والشوهاء من النساء: القبيحة، كما جزم به ابن الأعرابيّ وغيره.
وقد تعقب القرطبيّ كلام الخطابيّ، لكن نَسَبه إلى ابن قتيبة فقط، قال ابن قتيبة بدل تتوضأ: شوهاء، ثم نقل أن الشوهاء تُطلق على القبيحة والحسناء.
قال القرطبيّ: ووضوء هذه المرأة في الجنّة إنما هو لتزداد حُسْنًا ونورًا، لا لتزيل وَسَخًا، ولا قَذَرًا؛ إذ الجنة مُنَزَّهة عن ذلك، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"أمشاطهم الذهب، ومَجَامِرُهم الأَلُوّة"، متّفقٌ عليه
(1)
.
وقال في "الفتح"
(2)
: وقد ترجم عليه البخاري في "كتاب التعبير": "باب الوضوء في المنام"، فبَطَل ما تخيّله الخطابي. انتهى.
وقال الكرمانيّ: قوله: "تتوضّأ" من الوضاءة، وهي النظافة والحسن،
(1)
"المفهم" 6/ 257 - 258.
(2)
"الفتح" 7/ 57 - 58.
ويَحْتَمِل أن يكون من الوضء، ولا يَمنع من ذلك كون الجنّة ليست دار تكليف؛ لجواز أن يكون على غير التكليف. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر
(2)
: ويَحْتَمِل أن لا يراد وقوع الوضوء منها حقيقة؛ لكونه منامًا، فيكون مثالًا لحالة المرأة المذكور، وقد ثبت أنها أم سليم، وكانت في قيد الحياة حينئذ، فرآها النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنّة إلى جانب قَصْر عمر رضي الله عنه، فيكون تعبيره بأنها من أهل الجنّة؛ لقول الجمهور من أهل التعبير: إن من رأى أنه دخل الجنة أنه يدخلها، فكيف إذا كان الرائي لذلك أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم، وأما وضوؤها، فيُعبّر بنظافتها حسًّا ومعنى، وطهارتها جسمًا وروحًا، وأما كونها إلى جانب قصر عمر رضي الله عنه، ففيه إشارة إلى أنها تُدرك خلافته، وكان كذلك.
ولا يُعارض هذا ما ثبت من أن رؤيا الأنبياء حقّ، والاستدلال على ذلك بغَيرة عمر؛ لأنه لا يلزم من كون المنام على ظاهره أن لا يكون بعضه يفتقر إلى تعبير، فإن رؤيا الأنبياء حقّ -يعني: أنها ليست من أضغاث الأحلام- سواء كانت على حقيقتها، أو مثالًا. انتهى كلام الحافظ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا التأويل الذي ذكره الحافظ رحمه الله هو الأظهر عندي، يؤيّد ذلك أن ما يراه النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن كان حقًّا من نوع الوحي، إلا أن بعضه يقبل التأويل، كما في الحديث الذي أخرجه أحمد، والترمذيّ بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: تنفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم-سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أُحد، فقال: رأيت في سيفي ذي الفقار فَلًّا، فأوّلته فَلًّا يكون فيكم، ورأيت أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فأوّلته كبش الكَتِيبة، ورأيت أَني في دِرْعٍ حَصِينة فأوّلتها المدينة، ورأيت بَقَرًا تُذبَح فبقر والله خير، فبقر والله خير، فكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد وقع كل ما ذَكره في هذا الحديث على التأويل، فلا يُستبعد أن يكون رؤيته في قصّة وضوء المرأة من هذا القبيل. والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 8/ 376 رقم (3680).
(2)
هو في كتاب "التعبير" 12/ 519 - 520 الحديث رقم (7023 - 7024).
(إِلَى جَانِبِ قَصْر، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا؟) القصر (قَقَالُوا)؛ أي: الملائكة: هو (لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (فَذَكَرْتُ غَيْرَةَ عُمَرَ)؛ أي: شدّة غَيرته، وحِدّتها، قال الجرجاني:"المغيرة": كراهة شركة الغير في حقّه. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تعب غَيْرًا وغَيْرَةً، قال ابن السّكّيت: ولا يُقال: غِيرًا وغِيرَةً بالكسر، فالرجل غيورٌ، والمرأة غَيور أيضًا، وغَيْرَى. انتهى
(2)
.
ووقع في حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: "فذكرت غَيرتك" بكاف الخطاب، وفي رواية للبخاريّ في "النكاح":"فأردت أن أدخله، فلم يَمنعني إلا علمي بغيرتك". ووقع في رواية ابن عيينة عن ابن المنكدر وعمرو بن دينار جميعًا عن جابر بلفظ: "دخلت الجنة، فرأيت فيها قَصْرًا، يُسمَع فيه ضَوْضَاء، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لعمر".
و"الضوضاء" -بمعجمتين مفتوحتين، بينهما واو، وبالمد-: أصوات الناس.
(فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا") حال مؤكّدة، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، قال في "الخلاصة":
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نَحْوِ "لَا تَعْثُ فِي الأَرْضِ مُفْسِدَا"
(قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (فَبَكَى عُمَرُ) رضي الله عنه، وقوله:(وَنَحْنُ جَمِيعًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب على الحال، (ثُمَّ قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ)، وفي رواية البخاريّ:"بأبي أنت، وأمّي يا رسول الله"، وقوله:"بأبي أنت وأمي": الباء متعلقة بمحذوف، تقديره: أنت مَفْديٌّ بأبي، فيكون المحذوف اسمًا، وما بعده في محل الرفع على الخبرية، ويجوز أن يكون المحذوف فعلًا، تقديره: فَدَيْتك بأبي، ويكون ما بعده في محل النصب، قاله في "العمدة"
(3)
.
(أَعَلَيْكَ أَغَارُ؟)؛ يعني: أنه وإن كانت الغَيرة في الحقّ محمودة، إلا أنها
(1)
راجع: "التعربفات" للشريف الجرجاني ص 116.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 458.
(3)
"عمدة القاري" 3/ 304.
لا تليق بجنابك، فإنك أعلى من ذلك؛ إذ حصول هذه النعم بسبب، كما قال عمر رضي الله عنه في رواية سبقت:"وهل رفعني الله إلا بك؟ وهل هداني الله إلا بك؟ "، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6180 و 6181](2395)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3242) و"فضائل الصحابة"(3680) و"النكاح"(5225) و"التعبير"(7023)، و (النسائيّ) في "الفضائل"(27)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(107)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6888)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3291)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6181](. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"أبو يعقوب" هو: إبراهيم بن سعد الزهريّ، و"صالح" هو: ابن كيسان الغفاريّ المدنيّ.
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(8451)
- حدثنا يعقوب، ثنا أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: حدّثني ابن المسيِّب، أن أبا هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما أنا نائم، رأيتني في الجنة، فإذا امرأة توضأ إلى جنب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غَيْرتك، فوَلَّيتُ مُدْبرًا"، وعمر رحمه الله حين يقول ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عنده، مع القوم، فبكى عمر حين سمع ذلك من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعليك بأبي أنت أغار يا رسول الله؟. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6182](2396) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ- (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَن الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ حَسَنٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ سَعْدًا قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُكَلِّمْنَهُ، وَيَسْتَكْثِرْنَهُ، عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ، فَلَمَّا اسْتَأْذنَ عُمَرُ، قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ، فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ الله، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ"، قَالَ عُمَرُ: فَأَنتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي، وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَغْلَظُ، وَأفَظُّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا، إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ) بن الخطاب العَدَويّ، أبو عُمر المدنيّ، ثقةٌ [4] تُوُفّي بِحَرَّان في خلافة هشام (ع) تقدم في "السلام" 16/ 5770.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ، أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلَقَّب ظلَّ الشيطان؛ لِقِصَره، ثقةٌ [3] قتله الحجاج بعد الثمانين (خ م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 72/ 388.
3 -
(أَبُوهُ سَعْدُ) بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 339.
كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، مات بالعقيق سنة خمس وخمسين على المشهور، وهو آخر العشرة وفاة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه بالنسبة للإسناد الأول فهو من سُباعيّاته، فهو أعلى، وبالنسبة للثاني فهو من ثُمانيّاته، فهو أنزل، وفيه أربعة من التابعين في نَسَق واحد، روى بعضهم عن بعض، قرينان، وهما: صالح، وابن شهاب، وقريبان، وهما: عبد الحميد، ومحمد بن سعد، وكلهم مدنيّون
(1)
، قال النوويّ: وقد رأى عبدُ الحميد ابنَ عبّاس رضي الله عنهما. انتهى، وفيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه الصحابيّ الشهير، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم، وأول من رَمَى بسهم في سبيل الله، ومناقبه كثيرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ) بن الخطاب، كان واليًا لعمر بن عبد العزيز على الكوفة
(2)
. (أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ سَعْدًا) رضي الله عنه (قَالَ: اسْتَأْذَنَ عُمَرُ) بن الخطاب (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في الدخول في مجلسه، (وَعِنْدَهُ نِسَاءٌ مِنْ قُرَيْشٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، وهؤلاء النساء هنّ من أزواجه، ويَحْتَمِل أن يكون معهنّ من غيرهنّ؛ لكن قرينة قوله:"يستكثرنه" يؤيد الأول، والمراد: أنهنّ يطلبن منه أكثر مما يعطيهنّ، وزعم الداودي أن المراد: أنهن يكثرن الكلام عنده، وهو مردود بما وقع التصريح به في حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم أنهن يطلبن النفقة، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: قد تعقّب العينيّ كلام الحافظ هذا بما فيه نظرٌ
(3)
، فتنبّه.
(1)
"الفتح" 8/ 381.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 195.
(3)
راجع: "عمدة القاري" 16/ 195.
(يُكَلِّمْنَهُ، وَيَسْتَكْثِرْنَهُ)؛ أي: يطلبن منه أن يُعطيهنّ كثيرًا، (عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ) بنصب "عالية" على الحال، ويجوز رَفْعه على أنَّ يكون صفة لـ "نساء".
وقال النوويّ: قوله: "ويستكثرنه عالية أصواتهن" قال العلماء: معنى "يستكثرنه": يطلبن كثيرًا من كلامه، وجوابه بحوائجهن، وفتاويهنّ، وقوله:"عالية أصواتهنّ" قال القاضي: يَحْتَمِل أن هذا قبل النهي عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن عُلُوّ أصواتهنّ إنما كان باجتماعها، لا أن كلام كل واحدة بانفرادها أعلى من صوته صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال ابن التين يَحْتَمِل أن يكون رفع أصواتهنّ على صوته صلى الله عليه وسلم قبل نزول النهي عن رفع الصوت على صوته، أو كان ذلك طبعهنّ. انتهى، وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون الرفع حصل من مجموعهنّ، لا أن كل واحدة منهنّ كان صوتها أرفع من صوته، وفيه نَظَر، قيل: وَيحتمل أن يكون فيهنّ جهيرة، أو النهي خاصّ بالرجال، وقيل: في حقهن للتنزيه، أو كنّ في حال المخاصمة، فلم يتعمّدن، أو وَثِقن بعفوه، ويُحْتَمَل في الخلوة ما لا يُحْتَمَل في غيرها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الاحتمالات هو الأول، والله تعالى أعلم.
(فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ) رضي الله عنه (قُمْنَ يَبْتَدِرْنَ الْحِجَابَ)؛ أي: يتسابقن إلى الدخول فيه قبل أن يواجههنّ عمر بالتعنيف والتوبيخ، (فَأَذِنَ) بكسر الذال المعجمة، من باب عَلِم. (لَهُ رَسُولُ اللهِ الله صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ) جملة في محلّ نصب على الحال، وإنما ضحك صلى الله عليه وسلم تعجبًّا من حالهنّ حين سمعن صوت عمر رضي الله عنه. (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (أَضْحَكَ اللهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ) لَمْ يُرِدْ به الدعاء بكثرة الضحك، بل لازِمه، وهو السرور، أو نفي ضدّ لازِمه، وهو الحزن
(3)
. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ) النساء (اللَّاتي كُنَّ
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 164.
(2)
"الفتح" 8/ 381 - 382، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3683).
(3)
"الفتح" 8/ 382، و"عمدة القاري" 16/ 195.
عِنْدِي) يتكلّمن عاليات أصواتهنّ، (فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ"، قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه لهؤلاء النساء (أَيْ عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ، أَتَهَبْنَنِي) بفتح الهاء، من الهيبة؛ أي: توقرنني، وقال البغويّ: هو من قولهم: هِبتُ الرجلَ: إذا وقّرته، وعظّمته، يقال: هَبِ الناسَ يهابوك؛ أي: وقّرهم يوقّروك. انتهى
(1)
. (وَلَا تَهَبْنَ)؛ أي: لا توقّرن (رَسُولَ اللهِ الله صلى الله عليه وسلم؟) المستحقّ لذلك، (قُلْنَ: نَعَمْ) نَهَبُك؛ لأنك (أَنْتَ أَغْلَظُ، وَأفَظُّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ: الفظّ، والغليظ: بمعنى، وهو عبارة عن شدّة الْخُلُق، وخشونة الجانب، قال العلماء: وليست لفظة أفعل هنا للمفاضلة، بل هي بمعنى فظّ غليظ، قال القاضي: وقد يصحّ حملها على المفاضلة، وأن القَدْر الذي منها في النبيّ صلى الله عليه وسلم هو ما كان من إغلاظه على الكافرين، والمنافقين، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية [التوبة: 73]، وكان يَغضب، ويَغلُظ عند انتهاك حرمات الله تعالى، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": "أفظّ، وأغلظ" بالمعجمتين بصيغة أفعل التفضيل، من الفظاظة، والغلظة، وهو يقتضي الشركة في أصل الفعل، ويعارضه قوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية [آل عمران: 159]، فإنه يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فظًّا ولا غليظًا.
والجواب: أن الذي في الآية يقتضي نفي وجود ذلك له صفة لازمة، فلا يستلزم ما في الحديث ذلك، بل مجرد وجود الصفة له في بعض الأحوال، وهو عند إنكار المنكر مثلًا، والله أعلم.
وجوَّز بعضهم أن الأفظّ هنا بمعنى الفظّ، وفيه نظر؛ للتصريح بالترجيح المقتضي لحَمْل أفعل على بابه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بما يكره إلا في حقّ من حقوق الله، وكان عمر يبالغ في الزجر عن المكروهات مطلقًا، وطَلَب المندوبات، فلهذا قال النسوة له ذلك، قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3856.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 165 - 166.
(3)
"الفتح" 8/ 382.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أَنْتَ أَغْلَظُ، وَأَفَظُّ" لَمْ يُرِد مزيد الفظاظة والغلظة لعمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان حليمًا مواسيًا، رقيق القلب في الغاية، بل المبالغة في فظاظة عمر رضي الله عنه مطلقًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ"، وفي رواية البخاريّ: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيهًا يا ابن الخطّاب، والذي نفسي بيده
…
".
وقوله: "إيهًا يا ابن الخطاب": قال أهل اللغة: "إيهًا" بالفتح والتنوين معناها: لا تبتدئنا بحديث، وبغير تنوين كُفَّ من حديثٍ عهدناه، و"إيه" بالكسر والتنوين معناها: حدّثنا ما شئت، وبغير التنوين: زدنا مما حدثتنا، قال الحافظ: ووقع في روايتنا بالنصب والتنوين، وحَكَى ابن التين أنه وقع له بغير تنوين، وقال: معناه: كُفّ عن لومهنّ.
وقال الطيبيّ: الأمر بتوقير رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلوب لذاته تُحمد الزيادة منه، فكان قوله صلى الله عليه وسلم:"إيه" استزادة منه في طلب توقيره، وتعظيم جانبه، ولذلك عقَّبه بقوله: "والذي نفسي بيده
…
إلخ"، فإنه يُشعر بأنه رضي مقالته، وحَمِد فِعاله، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا)؛ أي: طريقًا واسعًا، وقوله:"قط" تأكيد للنفي، (إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ") قال النوويّ: الفجّ: الطريق الواسع، ويُطلق أيضًا على المكان المنخرق بين الجبلين، وهذا الحديث محمول على ظاهره أن الشيطان متى رأى عمر سالكًا فَجًّا هرب هيبةً من عمر، وفارق ذلك الفجّ، وذهب في فجّ آخر؛ لشدة خوفه من بأس عمر رضي الله عنه أن يفعل فيه شيئًا، قال القاضي عياض: ويَحْتمل أنه ضُرب مثلًا لِبُعد الشيطان، وإغوائه منه، وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد، خلاف ما يأمر به الشيطان، والصحيح الأول. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "غير فجِّك": الفج: الطريق الواسع، وهو أيضًا:
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3856.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3856.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 165 - 166.
الطريق بين جبلين، والظاهر بقاء هذا اللفظ على ظاهره، ويكون معناه: أن الشيطان يهابه، ويجانبه؛ لِمَا يَعْلم من هيبته، وقوَّته في الحقِّ، فيفرُّ منه إذا لقيه، ويكون هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إن الشيطان لَيَفْرَق منك يا عمر،
(1)
؛ ويعني بالشيطان: جنس الشياطين، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك مثلًا لبُعده عنه، وأنه لا سبيل له عليه، والأَوَّل أولى. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الثاني هو الأَولى؛ لظاهر النصّ، فتنبَّه، والله تعالى أعلم. وقال الحافظ رحمه الله ما خلاصته: فيه فضيلة عظيمة لعمر رضي الله عنه؛ لأن هذا الكلام يقتضي أن لا سبيل للشيطان عليه، إلا أن ذلك لا يقتضي وجوب العصمة؛ إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان من أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحَسَب ما تصل إليه قدرته. انتهى
(3)
.
وتعقّب العينيّ كلام الحافظ هذا، فقال: هذا موضع تأمل؛ لأنَّ عدم سلوكه الطريق الذي يَسلك فيه عمر رضي الله عنه إنما كان لأجل خوفه، لا لأجل معنى آخر، والدليل عليه ما رواه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث حفصة رضي الله عنها بلفظ:"إن الشيطان لا يَلْقَى عمر منذ أسلم إلا خَرّ لوجهه"، فالذي يكون حاله مع عمر هكذا كيف لا يُمنع من الوصول إليه لأجل الوسوسة؟ وتمكنُ الشيطان من وسوسة بني آدم ما هو إلا بأنه يجري في عروق بني آدم مثل ما يجري الدم، فالذي يهرُب منه، ويخرّ على وجهه إذا رآه كيف يجد طريقًا إليه؟ وما ذاك إلا خاصّة له، وَضَعها الله فيه؛ فضلًا منه، وكَرَمًا، وبهذا لا نَدَّعي العصمة؛ لأنها من خواص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام. انتهى كلام العينيّ رحمه الله
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله العينيّ رحمه الله وجيهٌ، خلاصته أن الله عز وجل خصَّ عمر رضي الله عنه بفراره منه، فلا يتمكّن من وسوسته، إلا أن ذلك لا يستلزم
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "مسنده، 5/ 353.
(2)
"المفهم" 6/ 259.
(3)
راجع: "الفتح" 8/ 382.
(4)
"عمدة القاري" 16/ 196.
العصمة، بل هو محفوظ برعاية الله تعالى، فالعصمة في حقّه فضيلة، وفي حقّ الأنبياء واجبة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6182](2396)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3294) و"فضائل الصحابة"(3683) و"الأدب"(6085)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(207) و"فضائل الصحابة"(28)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 171 و 182 و 187)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6893)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 332)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 132)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3874)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عمر رضي الله عنه، حيث إنه كان شديدًا في الحقّ.
2 -
(ومنها): بيان فضله أيضًا بفرار الشيطان منه، وعدم سلوكه طريقًا سلكه، وهذه خصوصيّة لم يُعطَها غيره ممن هو من أمثاله، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
3 -
(ومنها): بيان فضل لِيْن الجانب، والحِلم، والرفق ما لم يفوّت مقصودًا شرعيًّا، قال الله تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، وقال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} الآية [آل عمران: 159]، وقال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
4 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ نقلًا عن التوربشتيّ: فيه تنبيه على صلابة عمر رضي الله عنه في الدِّين، واستمرار حاله على الجِدّ الصِّرْف، والحقّ المحض، حتى كان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالسيف الصارم، والْحُسام القاطع، إن أمضاه مضي، وإن كفّه كَفّ، فلم يكن له على الشيطان سلطان إلا من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان كالوازع بين يدي الملِك، فلهذا كان الشيطان ينحرف عن
الفجّ الذي سلكه، ولمّا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم رحمةً مهداةً إلى العالمين، مأمورًا بالعفو عن المذنبين، معنيًّا بالصفح عن الجاهلين، لم يكن ليواجههم فيما لا يحمده من فعل مكروه، أو سوء أدب بالفظاظة والغلظة، والزجر البليغ؛ إذ لا يُتصوّر الصفح والعفو مع تلك الخلال، فلهذا تسامَحَ هو فيها، واستحسن استشعارهنّ الهيبة من عمر رضي الله عنه. انتهى ما قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيق مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6183](2397) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا بِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَعِنْدَهُ نِسْوةٌ، قَدْ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو علي الخزاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله أربع وسبعون سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدّراوَرْديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم، المدنيّ، صدوقٌ كان يحدِّث من كُتُب غيره فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد الله العمري منكَر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح ذكوان السمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ، تغيّر حِفظه بأَخَرَةٍ، روى له البخاريّ مقرونًا وتعليقًا [6] مات في خلافة المنصور (138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
4 -
(أَبُوهُ) ذكوان، أبو صالح السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلُب الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة" ذُكر في الباب.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3856.
وقوله: (حَدَّثَنَا بِهِ)؛ أي: بهذا الحديث الآتي.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سُهيل، ويَحْتَمل غيره.
[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا الذي أحاله المصنّف على ما قبله لم أجد من أخرجه غير المصنّف، فلْيُنْظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6184](2398) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ"، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من إبراهيم، والباقيان مصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، هكذا قال ابن وهب عن إبراهيم بن سعد، وخالفه أصحاب إبراهيم، فقالوا: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهو الذي أخرجه البخاريّ، قال في "الفتح" عند قوله:"عن أبي هريرة": كذا قال أصحاب إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن أبي سلمة، وخالفهم ابن وهب، فقال: عن إبراهيم بن سعد بهذا الإسناد، عن أبي سلمة، عن عائشة، قال أبو مسعود: لا أعلم أحدًا تابع ابن وهب على هذا، والمعروف عن إبراهيم بن سعد أنه عن أبي هريرة، لا عن عائشة، وتابع زكريا بن أبي زائدة إبراهيمَ بن سعد.
وقال محمد بن عجلان: عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة، أخرجه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، قال أبو مسعود: وهو مشهور عن ابن عجلان، فكأنّ أبا سلمة سمعه من عائشة، ومن أبي هريرة رضي الله عنهما جميعًا.
قال الحافظ: وله أصل من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه ابن سعد من طريق بن أبي عَتيق، عنها، وأخرجه من حديث خُفاف بن إيماء أنه كان يصلي مع عبد الرحمن بن عوف، فإذا خطب عمر سمعه يقول: أشهد أنك مُكَلَّم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث محفوظ عن أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما جميعًا، وهذا هو الحقّ، وقد استدرك الدارقطنيّ إسناد عائشة على مسلم، ورجّح الإرسال على الوصل، والحقّ أن الوصل هو الأرجح؛ لأن الذين وصلوه جماعة من الحفّاظ، وقد أجاد الشيخ ربيع بن هادي -حفظه الله- البحث في هذا في دراسته:"بين الإمامين: مسلم، والدارقطنيّ"، وحقّق وأفاد، ورجّح الوصل على الإرسال، وهو الحقّ
(2)
، فراجع كلامه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الأُمَمِ قَبْلَكُمْ) أراد بني إسرائيل، قال القرطبيّ رحمه الله: "كان" الأُولى بمعنى الأمر، وَالشأن؛ أي: كان الأمر والشان، وهي نحو "ليس" في قولهم: ليس خلق الله مثله، و"تكون" الثانية ناقصة، واسمها "محدِّثون"، وخبرها الجارّ والمجرور، ويصح أن تكون تامَّة، وما بعدها أحوال
(3)
.
وقوله: (مُحَدَّثُونَ) -بفتح الدال- هي الرواية، اسم مفعول، وقد فسَّر ابن وهب المحدَّثين بالملهمين؛ أي: يُحدَّثون في ضمائرهم بأحاديث صحيحة، هي من نوع الغيب، فيظهر على نحو ما وقع لهم، وهذه كرامةٌ يُكرم الله تعالى بها
(1)
"الفتح" 8/ 386 - 387، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3689).
(2)
راجع: "بين الإمامين: مسلم، والدارقطنيّ" ص 380 - 388.
(3)
"المفهم" 6/ 259.
من يشاء من صالحي عباده، ومن هذا النوع ما يقال عليه: فِراسةٌ، وتوسُّم، كما قد رواه الترمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتَّقوا فِراسة المؤمن، فإنَّه ينظر بنور الله"
(1)
، ثم قرأ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر: 75]، وقد تقدَّم القول في نحو هذا، وقد قال بعضهم: إن معنى محدِّثين: مكلَّمون؛ أي: تكلِّمهم الملائكة، قال: وهذا راجعٌ لِمَا ذكرته، غير أن ما ذكرته أعمّ، فقد يخلق الله تعالى الأحاديث بالغيب في القلب ابتداء من غير واسطة مَلَك، وقال بعضهم: إن معناه أنهم مصيبون فيما يظنونه، وإليه ذهب البخاريّ، وهذا نحو من الأول، غير أن الأوَّل أعمّ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الأكثر: المحدَّث -بالفتح- هو الرجل الصادق الظنّ، وهو مَن أُلقي في رُوعه شيء من قِبَل الملأ الأعلى، فيكون كالذي حدَّثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكريّ.
وقيل: مَن يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مُكَلَّم؛ أي: تكلّمه الملائكة بغير نبوّة، وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدريّ، مرفوعًا، ولفظه:"قيل: يا رسول الله، وكيف يُحَدَّث؟ قال: تتكلم الملائكة على لسانه"، قال الحافظ: رَوَيناه في "فوائد الجوهريّ"، وحكاه القابسيّ، وآخرون، ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلّقة
(3)
، ويَحْتَمِل ردّه إلى المعنى الأول؛ أي: تكلمه في نفسه، وإن لَمْ يَرَ مُكلِّمًا في الحقيقة، فيرجع إلى الإلهام.
وفسّره ابن التين: بالتفَرُّس، ووقع في "مسند الحميديّ" عقب حديث عائشة رضي الله عنها:"المحدَّث: الْمُلْهَم بالصواب الذي يُلْقَى على فيه".
وعند مسلم من رواية ابن وهب: "ملهمون"، وهي الإصابة بغير نبوة
(4)
،
(1)
حديث ضعيف، رواه الترمذيّ، وفي سنده عطيّة العوفيّ كثير الخطأ، شيعيّ، مدلّس، ومصعب بن سلّام، له أوهام.
(2)
"المفهم" 6/ 259 - 260.
(3)
أي: عند البخاريّ، حيث قال بعد الحديث: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "من نبيّ، ولا محدَّث".
(4)
قوله: "وهي الإصابة إلخ" هذا ليس في مسلم، فتنبّه.
وفي رواية الترمذيّ عن بعض أصحاب ابن عيينة رحمه الله: "مُحَدَّثون"؛ يعني: مُفَهَّمون، وفي رواية الإسماعيليّ: قال إبراهيم -يعني: ابن سعد راويه-: قوله: "مُحَدَّث"؛ أي: يُلْقَى في رُوعه. انتهى.
ويؤيده حديث: "إن الله جعل الحقّ على لسان عمر، وقلبه"، أخرجه الترمذيّ من حديث ابن عمر، وأحمد من حديث أبي هريرة، والطبراني من حديث بلال، وأخرجه في "الأوسط" من حديث معاوية، وفي حديث أبي ذرّ عند أحمد، وأبي داود:"يقول به" بدل قوله: "وقلبه"، وصححه الحاكم، وكذا أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث عمر نفسه. انتهى
(1)
.
(فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ)؛ أي: من المحدَّثين، (أَحَدٌ، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ") قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل التوقع، وقد وقع ذلك بحمد الله تعالى، وفيه منقبة عظيمة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه كرامة الأولياء، وأنها لا تنقطع إلى يوم الدين
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: وقوله: "فإن يكن في أمتي" قيل: لم يورِد هذا القول مَوْرِد الترديد، فإن أمته أفضل الأمم، وإذا ثبت أن ذلك وُجد في غيرهم، فبالأحرى أن يكونوا موجودين في هذه الأمة أكثر عددًا، وأعلى رتبةً، وإنما أورده مورد التأكيد والقطع به، ولا يخفى على ذي الفهم محلّه من المبالغة، كما في قول الرجل: إن يكن لي صديق، فإنه فلان، يريد اختصاصه بكمال الصداقة، لا نفي الأصدقاء، ونحوه قول الأجير: إن كنت عملت لك، فوفِّني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يُخيّل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحقّ فعلُ مَنْ عِنده شكٌّ في الاستحقاق مع وضوحه.
فالمراد بالمحدَّث: الملهَم المبالغ فيه الذي انتهى إلى درجة الأنبياء في الإلهام، فالمعنى: لقد كان فيما قبلكم من الأمم أنبياء مُلهَمُون من قِبَل الملأ الأعلى، فإن يك في أمتي أحد هذا شأنُه، فهو عمر، جَعَله لانقطاع قرينه، وتفوّقه على أقرانه في هذا كأنه تردّد هل نبيّ أم لا؟ فاستعمل "إنْ"، ويؤيده
(1)
"الفتح" 8/ 387، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3689).
(2)
"عمدة القاري" 16/ 55.
حديث: "لو كان بعدي نبيّ لكان عمر"، فـ "لو" فيه بمنزلة "إن" في هذا الحديث على سبيل الفرض والتقدير، كما قول عمر رضي الله عنه:"نعم العبد صُهيب، لو لم يَخف الله لم يعصه". انتهى
(1)
.
قال الحافظ: والحديث المشار إليه
(2)
أخرجه أحمد، والترمذيّ، وحسَّنه، وابن حبان، والحاكم، من حديث عقبة بن عامر، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أبي سعيد، ولكن في تقرير الطيبيّ نظر؛ لأنه وقع في نفس الحديث:"من غير أن يكونوا أنبياء"، ولا يتم مراده إلا بفرض أنهم كانوا أنبياء.
وقيل: الحكمة فيه أن وجودهم في بني إسرائيل كان قد تحقّق وقوعه، وسبب ذلك احتياجهم، حيث لا يكون حينئذ فيهم نبيّ، واحتَمَل عنده صلى الله عليه وسلم أن لا تحتاج هذه الأمة إلى ذلك؛ لاستغنائها بالقرآن عن حدوث نبيّ، وقد وقع الأمر كذلك، حتى إن المحدَّث منهم إذا تُحُقِّق وجوده لا يَحكُم بما وقع له، بل لا بدّ له من عَرْضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السُّنَّة عَمِل به، وإلا تَرَكه، وهذا وإن جاز أن يقع، لكنه نادر ممن يكون أمْره منهم مبنيًّا على اتّباع الكتاب والسُّنَّة، وتمحضت الحكمة في وجودهم، وكثرتهم بعد العصر الأَوَّل في زيادة شرف هذه الأمة بوجود أمثالهم فيه.
وقد تكون الحكمة في تكثيرهم مضاهاة بني إسرائيل في كثرة الأنبياء فيهم، فلما فات هذه الأمة كثرة الأنبياء فيها؛ لكون نبيّها صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عُوِّضوا بكثرة الملهَمين. انتهى
(3)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3854 - 3955.
(2)
يعني حديث: "لو كان بعدي نبيّ لكان عمر"، وأما حديث: "نعم العبد صهيب
…
إلخ"، فرواه بعضهم مرفوعًا، وبعضهم موقوفًا على عمر رضي الله عنه، وعلى التقديرين فلا يُعرف له سند، ولم يوجد في شيء من كتب الحديث، كما قال الحافظ العراقيّ، والشيخ بهاء الدين السبكيّ، راجع ما كتبه في: "شرح الكوكب الساطع" في الأصول ص 140.
(3)
"الفتح" 8/ 388.
ثم ذكر تفسير ابن وهب، فقال:(قَالَ) عبد الله (بْنُ وَهْبٍ) الراوي عن إبراهيم بن سعد: (تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ)، وقد تقدّم أقوالً غيره آنفًا، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال البخاريّ في "صحيحه" معلّقًا بعد إخراج الحديث ما نصّه: زاد زكرياء بن أبي زائدة، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال، يُكَلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر".
قال في "الفتح": ورواية زكريا وَصَلها الإسماعيليّ، وأبو نعيم في "مستخرجيهما"، قال: وفي روايته زيادتان: إحداهما: بيان كونهم من بني إسرائيل، والثانية تفسير المراد بالمحدَّث في رواية غيره، فإنه قال بدلها:"يكلمون، من غير أن يكونوا أنبياء". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه، وقد أخرجه البخاريّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6184 و 6185](2398)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3693)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 39)، و (الحميديّ) في "مسنده"(253)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 55)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 479)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 86)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6894)، و (الفسويّ) في "المعرفة"(1/ 457 و 461)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(7/ 1311 و 1312)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 583).
وأخرجه (البخاريّ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (3469 و 3689)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(19)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3873)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 8/ 387.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه منقبةً عظيمةً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): بيان كرامة الأولياء، وأنها لا تنقطع إلى يوم الدين.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنْ يكن في أمتي أحدٌ منهم فعمر" دليلٌ على قلَّة وقوع هذا، ونُدُوره، وعلى أنه ليس المراد بالمحدَّثين المصيبون فيما يظنون؛ لأنَّ هذا كثير في العلماء، والأئمة الفضلاء؛ بل وفي عوّام الخلق كثير ممن يَقْوَى حَدْسه، فتصح إصابته، فترتفع خصوصية الخبر، وخصوصية عمر رضي الله عنه بذلك، ومعنى هذا الخبر قد تَحقَّق، ووُجد في عمر قطعًا؛ وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجزم فيه بالوقوع، ولا صرَّح فيه بالإخبار؛ لأنَّه إنما ذكره بصيغة الاشتراط، وقد دلَّ على وقوع ذلك لعمر حكايات كثيرة عنه؛ كقصَّة:"الجبلَ يا ساريةُ"
(1)
، وغيره، وأصح ما يدلّ على ذلك: شهادة النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، كما رواه الترمذيّ، عن ابن عمر، مرفوعًا:"إن الله جعل الحقّ على لسان عمر وقلبه"
(2)
، وقال ابن عمر رضي الله عنهما:"ما نزل بالناس أمرٌ قط قالوا فيه، وقال فيه عمر، إلا نزل القرآن على نحو ما قال فيه عمر"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه: "وافقت ربي في ثلاث
…
" الحديث، متّفقٌ عليه.
وقد ادعى هذا الحال كثير من أهل الْمِحال
(3)
، لكن تشهد بالفضيحة شواهد صحيحة. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
هو ما أخرجه البيهقيّ في "الاعتقاد" 1/ 314 بسند صحيح عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب بعث جيشًا، وأَمَّر عليهم رجلًا يُدعَى سارية، قال: فبينا عمر يخطب، قال: فجعل يصيح، وهو على المنبر: يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ، قال: فقَدِم رسول الجيش، فسأله، فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدوّنا، فهزمونا، وإن الصائح ليصيح: يا ساريةُ الجبلَ، يا ساريةُ الجبلَ، فشددنا ظهورنا بالجبل، فهزمهم الله، فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك. انتهى.
(2)
رواه الترمذيّ، وحسّنه الشيخ الألبانيّ.
(3)
أي: الكيد والمكر.
(4)
"المفهم" 6/ 260 - 261.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6185](. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ عَجْلَانَ) هو: محمد بن عَجْلان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه[5](ت 148)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية الليث بن سعد عن ابن عجلان ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(8119)
- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: أنا الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان يكون في الأمة مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد، فعمر بن الخطاب". انتهى
(1)
.
وساقها أيضًا الترمذيّ رحمه الله بسند المصنّف في "جامعه"، فقال:
(3693)
- حَدَّثَنَا قتيبة، حدّثنا الليث، عن ابن عجلان، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد كان يكون في الأمم مُحدَّثون، فإن يك في أمتي أحدٌ، فعمر بن الخطاب"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، قال: حدّثني بعض أصحاب سفيان، قال: قال سفيان بن عيينة: مُحَدَّثون؛ يعني: مُفَهَّمون. انتهى
(2)
.
(253)
- حدثنا الحميدي قال: ثنا سفيان قال: نا محمد بن عجلان أنه سمع سعد بن إبراهيم يحدث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها
(1)
"السُّنن الكبرى" 5/ 39.
(2)
"جامع الترمذيّ" 5/ 622.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان في الأمم قبلكم محدَّثون، فإن يكن في هذه الأمة فهو عمر بن الخطاب".
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6186](2399) - (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، قَالَ: جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ أَخْبَرَنَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، وَفِي الْحِجَابِ، وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) هو: عقبة بن مُكْرَم -بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء- الْعَمِّيّ -بفتح المهملة، وتشديد الميم- أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
[تنبيه]: قوله: "الْعَمّيّ" -بفتح العين المهملة، وتشديد الميم-: نسبة إلى العمّ، وهو بطنٌ من تميم، قاله في "اللباب"
(1)
.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ) الضُّبَعيّ -بضم المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو محمد البصريّ ثقةٌ صالحٌ، وقال أبو حاتم: رُبّما وَهِمَ [9](ت 208) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1608.
3 -
(جُويرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ) بن عُبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
4 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله رضي الله عنه، ذُكر في الباب.
6 -
(عُمَرُ) بن الخطّاب، ذُكرت ترجمته في أول الباب.
[تنبيه]: هذا الإسناد مما انتقده الحافظ أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله، فقال: وجدت له علّةً، حدّثني محمد بن إسحاق بن إبراهيم السّرّاج، حدّثنا محمد بن إدريس، حدّثنا محمد بن عُمر بن عليّ، حدّثنا سعيد بن عامر، عن
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 359.
جويرية، عن رجل، عن نافع أن عمر قال: "وافقني ربي في ثلاث
…
"، فذكر الحديث، ولم يذكر ابن عمر في إسناده، وأدخل بين جويرية ونافع رجلًا غير مسمّى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه أبو الفضل أن في هذا الحديث علّتين: أولاهما: أن شيخ جويرية مجهول، وثانيهما: الانقطاع؛ لأن نافعًا لم يلق عمر رضي الله عنه.
والجواب عن هذا: أن مسلمًا ترجح لديه الوصل؛ لأنه زيادة ثقة؛ إذ عقبة بن مكرم ثقةٌ تُقبل زيادته، فالحديث صحيح، لا تضرّه المخالفة المذكورة، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وصحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (وَافَقْتُ رَبِّي) من الموافقة، من باب المفاعلة التي تدلّ على مشاركة اثنين في فعلٍ يُنسب إلى أحدهما، متعلقًا بالآخر، والمعنى في الأصل: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وِفْق ما رأيتُ، ولكنه راعى الأدب فأسند الموافقة إلى نفسه، لا إلى الربّ، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "الفتح": والمعنى: وافقني ربي، فأنزل القرآن على وفق ما رأيتُ، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار به إلى حدوث رأيه، وقِدَم الْحُكْم، وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها؛ لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، من مشهورها قصة الصلاة على المنافقين، واجتماع أزواجه صلى الله عليه وسلم في الغَيرة عليه، وهما في الصحيح، وصحح
(1)
تقدّم في "شرح المقدّمة"، فراجع: 1/ 154.
(2)
"عمدة القاري" 4/ 144.
الترمذيّ من حديث ابن عمر، أنه قال:"ما نَزَل بالناس أمر قطّ، فقالوا فيه، وقال فيه عمر، إلا نزل القرآن فيه على نحو ما قال عمر"، وهذا دالّ على كثرة موافقته، قال الحافظ: وأكثر ما وقفنا منها بالتعيين على خمسة عشر، لكن ذلك بحَسَب المنقول. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وافقت ربي في ثلاث"؛ يعني: أنَّه وقع له في قلبه حديث عن تلك الأمور، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع له، وذلك أنَّه وقع له أن مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم محلّ شرَّفه الله تعالى، وكرَّمه؛ بأن قام فيه إبراهيم صلى الله عليه وسلم للدُّعاء، والصَّلوات، وجعل فيه آيات بيّنات، وغَفَر لمن قام فيه الخطيئات، وأجاب فيه الدَّعوات، وقد تقدَّم في الحج ذِكر الخلاف فيه.
وكذلك وقع له شرف أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلوِّ مناصبهنَّ، وعظيم حرمتهنَّ، وأن الذي يناسب حالهنَّ أن يحتجبن عن الأجانب؛ فإنَّ اطلاعهم عليهنَّ ابتذال لهنَّ، ونقصٌ من حرمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وحرمتهنّ، فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"احجب نساءك، فإنَّهن يراهنَّ البرّ والفاجر"، وقد استوفينا الكلام على هذا في النكاح.
ووقع له أيضًا قَتْل أسارى بدر، وأشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم به، وأشار عليه أبو بكر بالإبقاء، والفداء، فمالَ النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما قال أبو بكر رضي الله عنه، فأنزل الله تعالى القرآن على نحو ما وقع لعمر رضي الله عنه في الأمور الثلاثة، فكان ذلك دليلًا قاطعًا على أنه محدَّث بالحقّ، مُلْهَمٌ لوجه الصَّواب، وقد تقدَّم القول في الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ، وفي قضية بدر في "الجهاد". انتهى
(2)
.
وقوله: (فِي ثَلَاثٍ)؛ أي: وقائع، قاله في "الفتح"
(3)
، فأفاد أنه إنما ذكّر "ثلاث "؛ لأن المميّز مؤنّث؛ وهي وقائع جَمْع واقعة، وقال في "العمدة": قوله: "في ثلاث"؛ أي: في ثلاثة أمور، وإنما لم يؤنث الثلاث، مع أن الأمر مذكَّر؛ لأن المميَّز إذا لم يكن مذكورًا جاز في لفظ العدد التذكير والتأنيث. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 2/ 126، كتاب "الصلاة" رقم (402).
(2)
"المفهم" 6/ 261 - 262.
(3)
"الفتح" 2/ 126.
(4)
"عمدة القاري" 4/ 144.
[فإن قلت]: حصلت الموافقة له في أشياء غير هذه الثلاث، منها في أسارى بدر حيث كان رأيه أن لا يَفْدُون فنزل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] ومنها في مَنْع الصلاة على المنافقين فنزل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ومنها في تحريم الخمر، ومنها ما رواه أبو داود الطيالسي من حديث حماد بن سلمة: حدثنا علي بن زيد، عن أنس قال عمر: وافقت ربي في أربع
…
وذَكَر ما في البخاري، قال: ونزلت: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12] إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فقلت أنا: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] فنزلت كذلك، ومنها في شأن عائشة رضي الله عنها لمّا قال أهل الإفك ما قالوا، فقال: يا رسول الله من زوّجكها؟ فقال: الله تعالى، قال: أفتنظر أن ربك دلَّس عليك فيها، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، فأنزل الله ذلك، ذَكَره المحب الطبري في أحكامه، وقد ذكر أبو بكر بن العربي أن الموافقة في أحد عشر موضعًا، قلت: يشهد لذلك ما رواه الترمذي مصحَّحًا من حديث ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه، وقال فيه عمر رضي الله تعالى عنه إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه، وهذا يدل على كثرة موافقته. فإذا كان كذلك فكيف نص على الثلاث في العدد؟ قلت: التخصيص بالعدد لا يدل على نفي الزائد، وقيل: يحتمل أنه ذكر ذلك قبل أن يوافق في أربع وما زاد وفيه نظر؛ لأنَّ عمر أخبر بهذا بعد موت النبي فلا يتجه ما ذكر من ذلك، ويقال: يحتمل أن الراوي اعتنى بذكر الثلاث دون ما سواها لغرض له.
(في مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ)؛ أي: في اتخاذه مصلّي، وفي رواية البخاريّ عن أنس، قال: "قال عمر وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلي، فنزلت:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لوأمَرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهنّ البرّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتَمَع نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهنّ:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} ، فنزلت هذه الآية. انتهى
(1)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 157.
[تنبيه]: قال الإمام ابن كثير رحمه الله: وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال: مقام إبراهيم الحرم كله، وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك.
وأخرج أيضًا عن ابن جريجٍ قال: سألت عطاء عن: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ، فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد، ثم قال: ومقام إبراهيم يُعَدّ كثيرًا، مقام إبراهيم الحج كله، ثم فسّره لي عطاء، فقال: التعريف، وصلاتان بعرفة، والمَشْعر، ومني، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة، فقلت: أَفسَّره ابن عباس؟ قال: لا، ولكن قال: مقام إبراهيم الحج كله، قلت: أسمعت ذلك لهذا أجمع؟ قال: نعم سمعته منه.
وقال سفيان الثوريّ عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير:{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال: الحَجَر مقام إبراهيم نبي الله، قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة، ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه.
وقال السديّ: المقام الحَجَر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه، حكاه القرطبيّ، وضعّفه، ورجحه غيره، وحكاه الرازي في "تفسيره" عن الحسن البصريّ، وقتادة، والربيع بن أنس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد، عن أبيه، سمع جابرًا يحدّث عن حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: "نعم"، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . انتهى باختصار
(1)
.
(وَفِي الْحِجَابِ)؛ أي: وفي طلب احتجاب أزواجه صلى الله عليه وسلم عن الرجال الأجانب، فقد قال عمر رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، وفي رواية أبي
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 169.
عوانة في "صحيحه" من طريق الزُّبيديّ، عن ابن شهاب:"فأنزل الله الحجاب، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} الآية [الأحزاب: 53] ".
وقال الكرمانيّ رحمه الله؛ الحجاب؛ أي: حُكم الحجاب؛ يعني: حجاب النساء عن الرجال، فأنزل الله آية الحجاب، ويَحْتَمِل أن يراد بآية الحجاب الجنس، فيتناول الآياتِ الثلاث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الآية [الأحزاب: 59]، وقوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى:{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} الآية [النور: 31]، وأن يراد به العهد من واحدة من هذه الثلاث.
قال العينيّ رحمه الله: رواية أبي عوانة المذكورة فسَّرت المراد من آية الحجاب صريحًا كما ذكرنا.
وسبب نزولها قصّة زينب بنت جحش رضي الله عنها لَمّا أَوْلَمَ عليها، وتأخر النفر الثلاثة في البيت، واستحيى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالخروج، فنزلت آية الحجاب، متّفقٌ عليه.
وروى ابن جرير في "تفسيره" من طريق مجاهد قال: بينا النبيّ صلى الله عليه وسلم يأكل، ومعه بعض أصحابه، وعائشة تأكل معهم؛ إذ أصابت يد رجل منهم يدها، فكره النبيّ ذلك، فنزلت آية الحجاب.
[فإن قلت]: ما طريقة الجمع بين هذه؟.
[قلت]: أسباب نزول الحجاب تعددت، وكانت قصة زينب آخرها للنص على قصّتها في الآية.
وقال التيميّ: الحجاب هنا استتارهنّ بالثياب حتى لا يُرَى منهنّ شيء عند خروجهنّ، وأما الحجاب الثاني فهو إرخاؤهنّ الحجاب بينهنّ وبين الناس.
وتعقّبه العينيّ، فقال: رواية أبي عوانة تخدش هذا الكلام على ما لا يخفى.
[ثم اعلم]: أن الحجاب كان في السَنَة الخامسة في قول قتادة، وقال أبو
عبيد: في الثالثة، وقال ابن إسحق: بعد أم سلمة، وعند ابن سعد: في الرابعة في ذي القعدة، ذكر هذا كلّه في "العمدة"
(1)
.
(وَفِي أُسَارَى بَدْرٍ) حيث كان رأيه أن لا يَفْدُون، فنزل:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآية [الأنقال: 67].
وقصّة أسارى بدر تقدّمت في "كتاب الجهاد والسِّيَر"[18/ 4578](1763)، "باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6186](2399)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(402) و"التفسير"(4483 و 4790 و 4916)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2959 و 2960)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(10998 و 11418)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1009)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 23 - 24 و 36 - 37) وفي "فضائل الصحابة"(434 و 437)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 44)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 607)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 92 و 207) و"الصغير"(2/ 110)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 825)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 339)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6896)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(7/ 1307)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 586)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3887)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عمر رضي الله عنه، حيث إن الله تعالى أيَّد به الدِّين، وأنزل الوحي على موافقته في كثير مما رآه رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): مشروعيّة مراجعة الأَدْوَن للأعلى في الشيء الذي يتبيَّن له.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 143 - 145.
3 -
(ومنها): فضل المراجعة إذا لم يقصد بها التعنت، فإنه قد يتبيّن فيها من العلم ما خفي، فإن نزول الآية، وهي قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية كان سببه المراجعة.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا من أجل مناقب عمر رضي الله عنه، وفضائله، وهو مطابق للحديث قبله، ولهذا عقّبه مسلم به، وجاء في هذه الرواية:"وافقت ربي في ثلاث"، وفسَّرها بهذه الثلاث، وجاء في رواية أخرى في "الصحيح":"اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه في الغَيْرة، فقلت: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فنزلت الآية بذلك"، وجاء في الحديث الذي ذَكره مسلم بعد هذا موافقته في منع الصلاة على المنافقين، ونزول الآية بذلك، وجاءت موافقته في تحريم الخمر، فهذه ستّ، وليس في لفظه ما ينفي زيادة الموافقة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": هذه -يعني: آية الحجاب- إحدى ما وافق فيها عمر رضي الله عنه ربه.
والثانية: في قوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5].
والثالثة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وهذه الثلاثة ثابتة في "الصحيح"
(2)
.
والرابعة: موافقته في أسرى بدر.
والخامسة: في منع الصلاة على المنافقين، وهاتان في "صحيح مسلم".
والسادسة: موافقته في آية المؤمنين، رَوَى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" من حديث عليّ بن زيد:"وافقت ربي لمَّا نزلت: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ}، فقلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين، فنزلت".
والسابعة: موافقته في تحريم الخمر.
والثامنة: موافقته في قوله {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ} الآية، ذكره الزمخشريّ، وقال ابن العربيّ: قدَّمنا في "الكتاب الكبير" أنه وافق ربه تعالى
(1)
"شرح مسلم" 15/ 166 - 167.
(2)
أي: "صحيح البخاريّ".
تلاوةً ومعنًى في أحد عشر موضعًا، وفي "جامع الترمذيّ" مصححًا عن ابن عمر رضي الله عنهما:"ما نزل بالناس أمرٌ قطّ، فقالوا فيه، وقال عمر فيه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر رضي الله عنه"
(1)
.
وقد نظم السيوطيّ رحمه الله أرجوزة في موافقات عمر رضي الله عنه
(2)
، ونصّها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَصَلَّى اللَّهُ
…
عَلَى نَبِيِّهِ الَّذِي اجْتَبَاهُ
يَا سَائِلِي وَالْحَادِثَاتُ تَكْثُرُ
…
عَنِ الَّذِي وَافَقَ فِيهِ عُمَرُ
وَمَا يُرَى أُنْزِلَ فِي الْكِتَابِ
…
مَوَافِقًا لِرَأْيِهِ الصَّوَابِ
خُذْ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ فِي أَبْيَاتِ
…
مَنْظُومَةٍ تَأْمَنُ مِنْ شَتَاتِ
فَفِي الْمَقَامِ وَأُسَارَى بَدْرِ
…
وَآيَتَيْ تَظَاهُرٍ وَسَتْرِ
وَذِكْرِ جِبْرِيلَ لأَهْلِ الْغَدْرِ
…
وَآيَتَيْنِ أُنْزِلَا فِي الْخَمْرِ
وَآيَةُ الصِّيَامِ فِي حِلِّ الرَّفَثْ
…
وَقَوْلُهُ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ يُبَثّْ
وَقَوْلُهُ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
…
يُحَكّمُوكَ إِذْ بِقَتْلٍ أَفْتَى
وَآيَةٌ فِيهَا لِبَدْرٍ أَوْبَهْ
…
وَلَا تُصَلِّ آيَةٌ فِي التَّوْبَهْ
وَآيَة فِي النُّورِ هَذَا بُهْتَانْ
…
وَآيَة فِيهَا بِهَا الاسْتِئْذَانْ
وَفِي خِتَامِ آيَةٍ فِي الْمُؤْمِنِينْ
…
تَبَارَكَ اللَّهُ بحِفْظِ الْمُتَّقِينْ
وَثُلَّةٌ مِنْ فِي صِفَاتِ السَّابِقِينْ
…
وَفِي سَوَاءٌ آيَةُ الْمُنَافِقِينْ
وَعَدَّدُوا مِنْ ذَاكَ نَسْخَ الرَّسْمِ
…
لآيَةٍ قَدْ نَزَلَتْ فِي الرَّجْمِ
وَقَالَ قَوْلًا هُوَ فِي التَّوْرَاةِ قَدْ
…
نَبَّهَهُ كَعْبٌ عَلَيْهِ فَسَجَدْ
وَفِي الأَذَانِ الذِّكْرُ لِلرَّسُولِ
…
رَأَيْتُهُ فِي خَبَرٍ مَوْصُولِ
وَفِي الْقُرْآنِ جَاءَ بِالتَّحْقِيقِ
…
مَا هُوَ مِنْ مُوَافِقِ الصِّدِّيقِ
كَقَوْلِهِ هُوَ الَّذِي يُصَلّي
…
عَلَيْكُمُ أَعْظِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِ
وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْمُجَادِلَهْ
…
لَا تَجِدُ الآيَةَ فِي الْمُخَالَلَهْ
نَظَمْتُ مَا رَأَيْتُهُ مَنْقُولًا
…
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَى
(1)
"عمدة القاري" 2/ 284.
(2)
راجع كتابه: "الحاوي للفتاوي" 1/ 377 - 378.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": قال ابن الجوزيّ: إنما طلب عمر الاستنان بإبراهيم عليه السلام مع النهي عن النظر في كتاب التوراة؛ لأنه سمع قول الله تعالى في حق إبراهيم: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ} ، وقوله تعالى:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، فعَلم أن الائتمام بإبراهيم من هذه الشريعة، ولكون البيت مضافًا إليه، وأن أثر قدميه في المقام كرقم الباني في البناء؛ ليُذكَر به بعد موته، فرأى الصلاة عند المقام كقراءة الطائف بالبيت اسمَ من بناه. انتهى.
وهي مناسبة لطيفة، ثم قال: ولم تزل آثار قَدَمَيْ إبراهيم حاضرة في المقام، معروفة عند أهل الحرم، حتى قال أبو طالب في قصيدته المشهورة [من الطويل]:
وَمْوِطئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ
…
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ
وفي "موطأ ابن وهب" عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس، قال:"رأيت المقام فيه أصابع إبراهيم، وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم".
وأخرج الطبريّ في "تفسيره" من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، في هذه الآية: إنما أُمروا أن يصلّوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، قال: ولقد ذَكَر لنا من رأى أثر عقبه، وأصابعه فيها، فما زالوا يمسحونه حتى اخلولق، وانمحى.
وكان المقام من عهد إبراهيم لَزِق البيت إلى أن أخّره عمر رضي الله عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" بسند صحيح، عن عطاء وغيره، وعن مجاهد أيضًا.
وأخرج البيهقيّ عن عائشة رضي الله عنها مثله بسند قويّ، ولفظه:"أن المقام كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي زمن أبي بكر ملتصقًا بالبيت، ثم أخّره عمر".
وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي حوّله، والأول أصحّ.
وقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عيينة، قال: كان المقام في سقع البيت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوّله عمر، فجاء سيل فذهب به، فردّه عمر إليه، قال سفيان: لا أدري أكان لاصقًا بالبيت، أم لا؟ انتهى.
ولم يُنكر الصحابة فِعل عمر، ولا من جاء بعدهم، فصار إجماعًا، وكان عمر رأى أن إبقاءه يَلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلّين، فوَضَعه في مكان يرتفع به الحَرَج، وتهيأ له ذلك؛ لأنه الذي كان أشار باتخاذه مصلي، وأول من عمل عليه المقصورة الموجودة الآن. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6187](2400) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ الَلّهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفِّنَ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْه، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْه، فَقَامَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَتُصَلِّي عَلَيْه، وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِيَ اللهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} الآية [التوبة: 80]، وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ"، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
والباقون ذُكروا في الباب، و"عبيد الله" هو: ابن عمر الْعُمَريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقيان كوفيّان، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث إلا في موضعين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
(1)
"الفتح" 9/ 650، كتاب "التفسير" رقم (4483).
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ) بمنع الصرف؛ لأنه عَلَم امرأة، والصواب كتابة "ابن" فيه بهمزة الوصل؛ ويُعرب بإعراب "ابنُ أُبيّ"؛ لأنه صفة ثانية لعبد الله، فأُبيّ أبوه، وسَلُولُ أمه، فهو ابن سَلُولَ، كما أنه ابن أُبيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الواقديّ، ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك، وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدة مرضه عشرين يومًا، ابتداؤها من ليالٍ بقيت من شوال، قالوا: وكان قد تخلّف هو ومن تبعه عن غزوة تبوك، وفيهم نزلت:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} الآية [التوبة: 47]، وهذا يدفع قول ابن التين: إن هذه القصة كانت في أول الإسلام قبل تقرير الإحكام، ذَكَره في "الفتح"
(1)
.
(جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقع في رواية الطبريّ من طريق الشعبيّ:"لمّا احتُضِر عبد الله جاء ابنه عبد الله إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله إن أبي قد احتُضِر، فأُحِبّ أن تشهده، وتصلّي عليه، قال: ما اسمك؟ قال: الحباب -يعني: بضم المهملة، وموحدتين، مخففًا- قال: بل أنت عبد الله، الحباب اسم الشيطان. وكان عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ هذا من فضلاء الصحابة، وشَهِد بدرًا وما بعدها، واستُشهد يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، ومن مناقبه أنه بلغة بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في قَتْله، قال: "بل أحْسِن صُحْبته"، أخرجه ابن منده من حديث أبي هريرة، بإسناد حسن، وفي الطبرانيّ من طريق عروة بن الزبير، عن عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ أنه استأذن، نحوه، وهذا منقطع؛ لأن عروة لم يدركه، وكأنه كان يَحْمِل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده، ويصلي عليه، ولا سيما وقد ورد ما يدل على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، والطبريّ من طريق سعيد، كلاهما عن قتادة، قال: "أرسل عبد الله بن أُبَيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه
(1)
"الفتح" 10/ 190، كتاب "التفسير" رقم (4670).
قال: أهلكك حب يهود، فقال: يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه، يكفن فيه، فأجابه"، وهذا مرسلٌ، مع ثقة رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبرانيّ من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لما مَرِض عبد الله بن أُبَيّ جاءه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فقال: قد فَهِمت ما تقول، فامنن عليّ، فكفّنّي في قميصك، وصلّ عليّ، ففعل"، وكأن عبد الله بن أُبَيّ أراد بذلك دفع العار عن ولده، وعشيرته بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحَسَب ما ظهر من حاله، إلى أن كشف الله الغطاء عن ذلك، وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلق بهذه القصة، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَسَأَلَهُ)؛ أي: سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ أَنْ يُكَفِّنَ فِيهِ)؛ أي: في ذلك القميص، (أَبَاهُ) عبد الله بن أُبَيّ، (فَأَعْطَاهُ) صلى الله عليه وسلم القميص (ثُمَّ سَأَلَهُ)؛ أي: سأل عبد الله النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ)؛ أي: على أبيه، (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ) في حديث ابن عبّاس عن عمر:"فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم .. "، وفي حديث الترمذيّ:"فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه، وَثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله، أتصلّي على ابن أُبَيّ؟ وقد قال يوم كذا: كذا وكذا، أُعَدِّد عليه قوله"، يشير بذلك إلى مثل قوله:{لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} الآية [المنافقون: 7]، وإلى مثل قوله:{لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} الآية [المنافقون: 8].
(فَقَامَ عُمَرُ) بن الخطّاب (فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَتُصَلِّي عَلَيْه، وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟) قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استُشكل جدًّا حتى أقدم بعضهم، فقال: هذا وَهَمٌ من بعض رواته، وعاكسه غيره، فزعم أن عمر اطَّلَع على نهى خاصّ في ذلك، وقال القرطبيّ: لعل ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام، ويَحْتَمِل أن يكون فَهِم ذلك من قوله:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113]، قال الحافظ: الثاني -يعني: ما قاله
(1)
"الفتح" 10/ 190، كتاب "التفسير" رقم (4670).
القرطبيّ -أقرب من الأول؛ لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث:"قال: فأنزل الله: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} ".
والذي يظهر أن في رواية الباب تجوّزًا بيَّنته الرواية الأخرى عن عبد الله بن عمر، بلفظ:"فقال: تصلي عليه، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم".
ورَوَى عبد بن حميد، والطبريّ من طريق الشعبيّ، عن ابن عمر، عن عمر، قال:"أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد الله بن أُبَيّ، فأخذت بثوبه، فقلت: والله ما أمرك الله بهذا، لقد قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ".
ووقع عند ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فقال عمر: أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ قال: أين؟ قال: قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية"، وهذا مثل رواية الباب، فكأن عمر قد فهم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب، من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور؛ أي: إن الاستغفار لهم وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لم تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصة.
وفَهِم عمر أيضًا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة، وأن العدد المعيَّن لا مفهوم له، بل المراد نفي المغفرة لهم، ولو كَثُر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأَطْلَقه.
وفَهِم أيضًا أن المقصود الأعظم من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت، والشفاعة له، فلذلك استلزم عنده النهي عن الاستغفار تَرْك الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد الله بن أُبَيّ.
هذا تقرير ما صدر عن عمر، مع ما عُرِف من شدّة صلابته في الدين، وكثرة بُغضه للكفار والمنافقين، وهو القائل في حقّ حاطب بن أبي بلتعة، مع ما كان له من الفضل، كشهوده بدرًا، وغير ذلك؛ لكونه كاتَبَ قريشًا قبل الفتح: دعني يا رسول الله أضرب عنقه، فقد نافق، فلذلك أقدم على كلامه
للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره؛ لِمَا غلب عليه من الصلابة المذكورة.
قال الزين ابن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصًا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشورةً، لا إلزامًا، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أَذِن له في مثل ذلك، فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النصّ، كما تمسَّك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احْتَمَل منه النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخْذَه بثوبه، ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفتَ إليه متبسمًا، كما في حديث ابن عباس بذلك. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِيَ اللهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} الآية [التوبة: 80]، وَسَأَزِيدُ عَلَى سَبْعِينَ") في حديث ابن عباس عن عمر من الزيادة: "فتبسَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أَخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خُيِّرت، فاخترت"؛ أي: خُيِّرت بين الاستغفار وعدمه، وقد بيَّن ذلك حديث ابن عمر حيث ذكر الآية المذكورة، وقوله في حديث ابن عباس، عن عمر:"لوأعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له لَزِدْتُ عليها"، وحديث ابن عمر جازم بقصة الزيادة، وآكد منه ما روى عبد بن حميد من طريق قتادة، قال: لمّا نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قد خيَّرني ربي، فوالله لأزيدنّ على السبعين"، وأخرجه الطبريّ من طريق مجاهد مثله، والطبريّ أيضًا، وابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه مثله، وهذه طُرُقٌ، وإن كانت مراسيل، فإن بعضها يعضد بعضًا، وقد خَفِيت هذه اللفظة على من خَرَّج أحاديث "المختصر"، و"البيضاويّ"، واقتصروا على ما وقع في هذا الباب.
ودلّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه من الاستغفار له.
وقد ورد ما يدلّ على ذلك، فذكر الواقديّ أن مُجَمِّع بن جارية قال:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قطّ ما أطال على جنازة عبد الله بن أُبَيّ من الوقوف".
(1)
"الفتح" 10/ 191 - 192، كتاب "التفسير" رقم (4670).
ورَوَى الطبريّ من طريق مغيرة، عن الشعبيّ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قال الله: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، فأنا أستغفر لهم سبعين، وسبعين، وسبعين"
(1)
.
(قَالَ) عمر رضي الله عنه (إِنَّهُ)؛ أي: عبد الله بن أُبيّ، (مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أما جَزْم عمر رضي الله عنه بأنه منافق، فجرى على ما كان يَطَّلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله، وصلى عليه؛ إجراءً له على ظاهر حُكْم الإسلام، كما تقدم تقريره، واستصحابًا لظاهر الحكم، ولمَا فيه من إكرام وَلَدِه الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودَفْع المفسدة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو، ويصفح، ثم أُمر بقتال المشركين، فاستمرّ صفحة، وعفوه عمن يظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك؛ لمصلحة الاستئلاف، وعدم التنفير عنه، ولذلك قال:"لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقلّ أهل الكفر، وذَلُّوا أُمر بمجاهرة المنافقين، وحَمْلهم على حُكْم مُرّ الحقّ، ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك، مما أُمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى، قاله في "الفتح"
(2)
.
(وَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84] زاد يحيى القطان، عن عبيد الله بن عمر التالي في آخره:"فترك الصلاة عليهم"، وأخرجه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن مسدّد، وحماد بن زاذان، عن يحيى، وقد أخرجه البخاريّ في "الجنائز" عن مسدد بدون هذه الزيادة، وفي حديث ابن عباس:"فصلى عليه، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت"، زاد ابن إسحاق في "المغازي": قال: "حدّثني الزهريّ عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس، عن عمر قال: "فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده، حتى قبضه الله".
(1)
"الفتح" 10/ 191 - 192، كتاب "التفسير" رقم (4670).
(2)
"الفتح" 10/ 192 - 193، كتاب "التفسير" رقم (4670).
ومِن هذا الوجه أخرجه ابن أبي حاتم، وأخرجه الطبريّ من وجه آخر، عن ابن إسحاق، فزاد فيه:"ولا قام على قبره".
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، قال:"لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين، فأنزل الله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لم تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، ورجاله ثقات، مع إرساله، ويَحْتَمِل أن تكون الآيتان معًا نزلتا في ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6187 و 6188](2400)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1269) و"التفسير"(4670 و 4671 و 4672) و"اللباس"(5796)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3098)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(4/ 36)، وفي "الكبرى"(1/ 621 و 6/ 375)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1/ 487)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 16 و 2/ 18)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3175 و 3176)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17051)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(17050 و 17055)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 298)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 402 و 8/ 199) و"دلائل النبوّة"(5/ 287)، و (البغويّ) في "تفسيره"(2/ 316)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وصلابته في الدِّين، وشدّة بغضه للمنافقين.
[تنبيه]: قد جمع أبو نعيم الحافظ صاحب "حلية الأولياء" في جزء له
(1)
"الفتح" 10/ 194 - 195.
جَمَع فيه طُرُق هذا الحديث، وتكلم على معانيه، فلخّصه الحافظ في "الفتح".
2 -
(ومنها): قال: فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره عن عبيد الله العمريّ في قول عمر: "أتصلي عليه، وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين؟ " ولم يبيّن محلّ النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة، عن العُمَريّ، وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم، ولفظه:"وقد نهاك الله أن تستغفر لهم".
3 -
(ومنها): أن في قول ابن عمر: "فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلّينا معه"، أن عمر تَرَك رأي نفسه، وتابع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونبَّه على أنَّ ابن عمر حَمَل هذه القصّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس، فإنه إنما حملها عن عمر؛ إذ لم يشهدها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله أبو نعيم رحمه الله من كون الحديث من مسند ابن عمر، هو الظاهر؛ للرواية المذكورة، لكن خالف ذلك أصحاب الأطراف؛ كالحافظ المزّيّ رحمه الله، فجعلوه من مسند عمر رضي الله عنه، وتابَعْتُهم: إذ هو ظاهر أكثر الروايات، وما في الرواية المذكورة يَحْتَمِل التأويل بأن المراد: فصلّى من حضر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أن فيه جوازَ الشهادة على المرء بما كان عليه حيًّا وميتًا؛ لقول عمر رضي الله عنه: إن عبد الله منافق، ولم يُنكر النبيُ صلى الله عليه وسلم قوله، ويؤخذ أن المنهيّ عنه من سبّ الأموات ما قُصِد به الشتم، لا التعريف.
5 -
(ومنها): أن المنافق تُجرَى عليه أحكام الإسلام الظاهرة.
6 -
(ومنها): أن الإعلام بوفاة الميت مجردًا، لا يدخل في النعي المنهيّ عنه.
7 -
(ومنها): جواز سؤال الموسر من المال مَن ترجى بركته شيئًا من ماله؛ لضرورة دينية
(1)
.
(1)
لكن هذا مما لم تَجْر به عادة السلف مع غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوه مع أبي بكر، وعمر، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، فمن أتانا عنهم بشيء مما صحَّ في ذلك، فعلى الرأس والعين، فالحقّ أن هذا التبرّك خاصّ به صلى الله عليه وسلم، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): رعاية الحيّ المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي.
9 -
(ومنها): جواز التكفين بالمخيط.
10 -
(ومنها): جواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة، والعمل بالظاهر، إذا كان النص محتملًا.
11 -
(ومنها): جواز تنبيه المفضول الفاضل على ما يظن أنه سها عنه، وتنبيه الفاضل المفضول على ما يُشكل عليه.
12 -
(ومنها): جواز استفسار السائل المسؤول، وعكسه عما يَحتَمِل ما دار بينهما.
13 -
(ومنها): جواز التبسم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه
(1)
، وقد استحب أهل العلم عدم التبسم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة، وبالله التوفيق. إلى هنا انتهى ما ذكره أبو نعيم منقولًا من "الفتح"
(2)
.
14 -
(ومنها): أنه قد تمسك بهذه القصة مَن جعل مفهوم العدد حجةً، وكذا مفهوم الصفة من باب أولي، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فَهِم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، فقال:"سأزيد على السبعين"، وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصّة، قال الحافظ: وليس ذلك بدافع للحجة؛ لأنه لو لم يَقُم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة، لكان الاستدلال بالمفهوم باقيًا. انتهى.
15 -
(ومنها): ما قال الخطابيّ: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أُبَيّ ما فَعَل؛ لكمال شفقته على من تعلَّق بطَرَف من الدِّين، ولتطييب قلب ولده عبد الله الرجل الصالح، ولتألُّف قومه من الخزرج؛ لرياسته فيهم، فلو لم يُجب سؤال ابنه، وتَرَك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سُبّةً على ابنه، وعارًا على قومه، فاستَعْمَل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نُهِيَ، فانتهى.
(1)
هذا الاستنباط فيه نظر؛ لأن ظاهر الروايات تدلّ على أنه وقع قبل حضوره صلى الله عليه وسلم إلى الجنازة، فتأمل.
(2)
"الفتح" 10/ 199 - 200.
وتبعه ابن بطال وعبَّر بقوله: ورجا أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يُظهره من الإسلام.
وتعقبه ابن المنَيِّر بأن الإيمان لا يتبعض، وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفًا.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن الإيمان لا يتبعّض: من مذاهب المتكلّمين الأشاعرة؛ لأن الإيمان عندهم لا يزيد، ولا ينقص، وهذا مذهب باطلٌ، مخالف لظواهر الكتاب والسُّنَّة، ومذهب السلف، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: بُني الإسلام على خمس، وهو قولٌ، وفعلٌ، ويزيد، وينقص"، ثم أورد الأدلة على ذلك من الكتاب والسُّنَّة، وهذا الحقّ، والغريب موافقة الحافظ له سامحه الله بقوله:"وهو كما قال"، فتنبّه، فإن هذا من مزالّ الأقدام، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أُبي لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذَهِلَ عن الوارد من الآيات، والأحاديث المصرحة في حقّه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جوابٍ شافٍ في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على تَرْك ذِكره في كُتُب الصحابة، مع شهرته، وذِكر من هو دونه في الشرف، والشهرة بأضعاف مضاعفة.
وقد أخرج الطبريّ من طريق سعيد، عن قتادة في هذه القصّة قال:"فأنزل الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}. قال: فذُكِر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: وما يغني عنه قميصي من الله، وإني لأرجو أن يُسلم بذلك ألف من قومه". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": ظاهر الآية -يعني: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} - أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدلّ على أنها نزلت في عدد معيَّن منهم، قال الواقديّ: أنبأنا معمر، عن الزهريّ قال: قال حذيفة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني مسرّ إليك سرًّا، فلا
(1)
"الفتح" 10/ 194.
تذكره لأحد، إني نُهيت أن أصلي على فلان وفلان، رهط ذوي عدد من المنافقين"، قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى معه، وإلا لم يصلّ عليه.
ومن طريق أخرى عن جبير بن مطعم: أنهم أثنا عشر رجلًا.
ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن الله علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف من سواهم، فإنهم تابوا. انتهى.
(المسألة الخامسة): استُشكِلَ فهمُ التخيير من قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80] حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طُرُقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث، وقلّة الاطلاع على طُرُقه.
قال ابن المنيّر: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال: لا يجوز أن يُقبل هذا، ولا يصحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله. انتهى. ولفظ القاضي أبي بكر الباقلّانيّ في "التقريب": هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في "مختصره": هذا الحديث غير مخرّج في الصحيح، وقال في "البرهان": لا يصححه أهل الحديث. وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الداوديّ الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.
والسبب في إنكارهم صحته ما تقرّر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه، من حَمْل "أو" على التسوية لِمَا يقتضيه سياق القصّة، وحَمْل السبعين على المبالغة. قال ابن المنيّر: ليس عند أهل البيان تردُّد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد. انتهى.
وأيضًا فشَرْط القول بمفهوم الصفة، وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت، وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله:"سأزيد على السبعين" مع أن حُكم ما زاد عليها حُكمها.
وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالةً لقلوب عَشيرته، لا أنه إن زاد على السبعين يُغفر له، ويؤيّده
تردده في قوله: "لوأعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له لزدت"، لكن ثبتت الرواية بقوله:"سأزيد" ووعْدُهْ صادق، ولا سيما، وقد ثبت قوله:"لأزيدنّ" بصيغة المبالغة في التأكيد.
وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فَعَل ذلك استصحابًا للحال؛ لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتًا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقيًا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن.
وحاصله: أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوّز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين، لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه.
وقيل: إن الاستغفار يتنزّل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربّه حاجة، فسؤاله إياه يتنزّل منزلة الذِّكر، لكنه من حيث طلبُ تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك، والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلّق العلم بعدم نَفْعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها، بل لتعظيم المدعوّ، فإذا تعذّرت المغفرة عُوّض الداعي عنها بما يليق به، من الثواب، أو دَفْع السوء، كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعوّ لم تخفيف، كما في قصّة أبي طالب. هذا معنى ما قاله ابن المنيّر.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعًا، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113].
ووقع في أصل القصّة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خُيّر بين الاستغفار لهم، وعدمه بقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80]، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال:"سأزيد عليها" مع أنه سبق قيل ذلك بمدّة طويلة نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الآية [التوبة: 113]، فإن هذه الآية نزلت في قصّة أبي طالب، حين قال صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنك"، فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، وقصة عبد الله بن أُبيّ
هذه في السنة التاسعة من الهجرة، كما تقدّم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟.
قال الحافظ: وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا، حاصله: أن المنهي عنه استغفارٌ تُرجَى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما في قصّة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أُبيّ، فإنه استغفار لِقَصْد تطييب قلوب من بقي منهم.
قال الحافظ: وهذا الجواب ليس بمَرْضيّ عندي، ونحوه قول الزمخشريّ، فإنه قال:
[فإن قلت]: كيف خفي على أفصح الخلق، وأَخبَرِهم بأساليب الكلام، وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار، ولو كثر لا يُجدي، ولا سيما وقد تلا قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 80]، فبيَّن الصارف عن المغفرة لهم؟.
[قلت]: لم يَخفَ عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته، ورأفته على من بُعث إليهم، وهو كقول إبراهيم عليه السلام:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبيّ صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لُطْف بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضًا. انتهى.
وقد تعقّبه ابن المنيّر وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله أخبر أنه لا يَغفر للكفار، وإذا كان الله لا يغفر لهم، فطَلَبُ المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإسلام؛ لاحتمال أن يكون معتقَده صحيحًا. وهذا جواب جيّد.
وقد رجّح الحافظ في تفسير "سورة القصص" أن نزول الآية كان متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًّا، وأن الذي نزل في قصته:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: 56].
قال: إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله ما يدلّ على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصّة، ولعلّ الذي نزل أوّلًا،
وتمسّك به النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} الآية [التوبة: 80] إلى هنا خاصّة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذِكر السبعين، فلما وقعت القصّة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفَضَحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله، ورسوله.
قال: وإذا تأمل المصنف وجد الحامل لمن ردّ الحديث، أو تعسّف في التأويل ظَنُّهُ بأن قوله:{بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 80]، نزل مع قوله:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ؛ أي: نزلت الآية كاملة؛ لأنه لو فُرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار، وكثيرة لا يُجدي، وإلا فإذا فُرض ما حرّرته أن هذا القدر نزل متراخيًا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك، فحجة المتمسّك من القصّة بمفهوم العدد صحيح، وكون ذلك وقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم متمسّكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فللَّه الحمد على ما ألهم، وعلّم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله ملخصًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي حرّره الحافظ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6188](. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ الله، بِهَذَا الإِسْنَاد، فِي مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، وَزَادَ: قَالَ: فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى القَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ، متقنٌ، حافظٌ، إمامٌ، قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (وَزَادَ: قَالَ .. إلخ) فاعل "زاد" ضمير يحيى القطّان.
[تنبيه]: رواية يحيى القطّان عن عبيد الله هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(3098)
- حَدَّثَنَا محمد بن بشار، حدّثنا يحيى بن سعيد، حدّثنا عبيد الله، أخبرنا نافع، عن ابن عمر، قال: جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبَيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم حين مات أبوه، فقال: أعطني قميصك أكفّنه فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِر له، فأعطاه قميصه، وقال:"إذا فرغتم، فآذنوني"، فلما أراد أن يصلي جذبه عمر، وقال: أليس قد نَهَى الله أن تصلي على المنافقين؟ فقال: "أنا بين خِيْرتين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، فصلى عليه، فأنزل الله:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، فتَرَك الصلاة عليهم، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابُ فَضَائِلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه
-)
هو: عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشيّ الأمويّ، أمير المؤمنين، أبو عبد الله، وأبو عمر، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أسلمت، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وعَدَد ما بينهما من الآباء متفاوت، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفّان، كما وقع لعمر سواءً، وُلد بعد الفيل بست سنين على الصحيح، وكان رَبْعَةً، حسن الوجه، رقيق البشرة، عظيم اللحية، بعيد ما بين المنكبين.
أسلم قديمًا، قال ابن إسحاق: كان أبو بكر مؤلّفًا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام من يثق به، فأسلم على يده فيما بلغني الزبير، وطلحة، وعثمان.
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 279.
وزَوَّج النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنته رقية من عثمان، وماتت عنده في أيام بدر، فزوّجه بعدها أختها أم كلثوم، فلذلك كان يلقب ذا النورين.
وجاء ممن أوجه متواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّره بالجنة، وعدّه من أهل الجَنَّة، وشَهِد له بالشهادة.
وجاء من طرق كثيرة شهيرة صحيحة عن عثمان لمَّا أنْ حصروه انتشد الصحابة في أشياء، منها تجهيزه جيش العسرة، ومنها مبايعة النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه تحت الشجرة لمَّا أرسله إلى مكة، ومنها شراؤه بئر رومة، وغير ذلك.
وهو أول من هاجر إلى الحبشة، ومعه زوجته رقية، وتخلف عن بدر لتمريضها، فكتَب له النبيّ صلى الله عليه وسلم بسهمه، وأجْره، وتخلف عن بيعة الرضوان؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان بَعَثه إلى مكة، فأُشيع أنهم قتلوه، فكان ذلك سبب البيعة، فضرب إحدى يديه على الأخرى، وقال:"هذه عن عثمان"، وقال ابن مسعود لمّا بويع: بايَعْنا خَيْرنا، ولم نَأْلُ، وقال عليّ: كان عثمان أوْصَلَنا للرحم، وكذا قالت عائشة لمّا بلغها قتله: قتلوه، وإنه لَأوصَلُهم للرحم، وأتقاهم للرب.
وكان سبب قَتْله أن أمراء الأمصار كانوا من أقاربه، كان بالشام كلها معاوية، وبالبصرة سعيد بن العاص، وبمصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وبخراسان عبد الله بن عامر، وكان مَن حجّ منهم يشكو من أميره، وكان عثمان ليّن العريكة، كثير الإحسان والحِلْم، وكان يستبدل ببعض أمرائه، فيرضيهم، ثم يعيده بعدُ إلى أن رحل أهل مصو يشكون من ابن أبي سرح، فعزله، وكتب له كتابًا بتولية محمد بن أبي بكر الصديق، فرضوا بذلك، فلما كانوا في أثناء الطريق رأوا راكبًا على راحلة، فاستخبروه، فأخبرهم أنه من عند عثمان باستقرار ابن أبي شرح، ومعاقبة جماعة من أعيانهم، فأخذوا الكتاب، ورجعوا، وواجهوا به، فحلف أنه ما كتب، ولا أَذِن، فقالوا: سلِّمنا كاتبك، فخشي عليه منهم القتل، وكان كاتبه مروان بن الحكم، وهو ابن عمة، فغضبوا، وحصروه في داره، واجتمع جماعة يحمونه منهم، فكان ينهاهم عن القتال إلى أن تسوّروا عليه من دار إلى دار، فدخلوا عليه، فقتلوه، فعَظُم ذلك على أهل الخير من الصحابة وغيرهم، وانفتح باب الفتنة، فكان ما كان، والله المستعان.
وروى البخاريّ في قصة قَتْل عمر أنه عَهِد إلى ستة، وأمرهم أن يختاروا رجلًا، فجعلوا الاختيار إلى عبد الرَّحمن بن عوف، فاختار عثمان، فبايعوه، ويقال: كان ذلك يوم السبت غُرّةَ المحرّم سنة أربع وعشرين.
وقال ابن إسحاق: قُتل على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا واثنين وعشرين يومًا من خلافته، فيكون ذلك في ثاني وعشرين ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وقال غيره: قُتل لسبع عشرة، وقيل: لثمان عشرة، رواه أحمد، عن إسحاق بن الطباع، عن أبي معشر.
وقال الزبير بن بكار: بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودُفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء في حُشّ كوكب، كان عثمان اشتراه، فوسَّع به البقيع، وقُتل، وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وأشهر على الصحيح المشهور، وقيل: دون ذلك، وزعم أبو محمد بن حزم أنه لم يبلغ الثمانين. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، يُكنى أبا عمرو، وأبا عبد الله، وأبا ليلى بأولادٍ وُلِدوا له، وأشهر كُنَاه: أبو عمرو، ولُقِّب بذي النُّورين؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم زوَّجه ابنتيه: رُقَيّة، وأم كلثوم، واحدة بعد أخرى، وقال صلى الله عليه وسلم:"لو كانت عندي أخرى لزوَّجتها له"، أسلم قديمًا قبل دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة، ولمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر خلّفه على ابنته رُقية يمرّضها، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه، وأجْره، فكان كمن شهدها، وقيل: كان هو في نفسه مريضًا بالْجُدَريّ، وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده في يده في بيعة الرضوان، وقال:"هذه لعثمان"، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد وجّهه إلى أهل مكة؛ ليكلمهم في أن يُخلُّوا بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين العمرة، فأُرجف بأن قريشًا قتلته، فبايع النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بسبب ذلك. انتهى
(2)
.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 459، بزيادة يسيرة من "الفتح" 8/ 393.
(2)
"المفهم" 6/ 262 - 263.
وقال القرطبيّ أيضًا: وتفصيل كيفية قَتْله، وما جرى لهم
(1)
معه مذكور في التواريخ، وجملة الأمر أن قومًا من أهل مصرِ وغيرهم غلب عليهم الجهل، والهوي، والتعصب، فنَقَموا عليه أمورًا، أكثرها كَذِب، وسائرها له فيها أوجهٌ من المعاذير، وليس فيها شيء يوجب خَلْعه، ولا قَتْله، فتحزَّبوا، واجتمعوا بالمدينة، وحاصروه في داره، فقيل: شهران، وقيل: تسعة وأربعون يومًا، وهو في كل ذلك يعظهم، ويذكّرهم بحقوقه، ويتنصل مما نسبوه إليه، ويعتذر منه، ويصرح بالتوبة، ويحتج عليهم بحجج صحيحة، لا مَخْلَص لهم عنها، ولا جواب عليها، لكن أعْمَتْهم الأهواء ليغلب القضاء، فدخلوا عليه، وقتلوه مظلومًا، كما شَهِد له النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجماعة أهل السُّنَّة، وأُلقي على مزبلة، فأقام فيها ثلاثة أيام، لم يقدر أحدٌ على دفنه، حتى جاء جماعة بالليل خفية، وحملوه على لوح، وصلّوا عليه، ودُفن في موضع من البقيع، يسمى:"حش كوكب"، وكان مما حبَّسه هو، وزاده في البقيع، وكان إذا مرّ فيه يقول: يُدفن فيك رجل صالح، فكان هو المدفون فيه، وعُمِّي قبره؛ لئلا يُعرف، وقد نَسَب أهلُ الشام قَتْله إلى علي رضي الله عنه، وهي نسبة كذب، وباطل، فقد صحَّ عنه أنه كان في المسجد، وقت دُخِل عليه في الدار، ولمّا بلغة ذلك قال لِقَتَلته: تبًا لكم آخر الدهر، ثم إنه قد تبرأ من ذلك، وأقسم عليه، وقال: من تبرأ من دِين عثمان، فقد تبرأ من الإيمان، والله ما أعَنْت على قتله، ولا أمرت، ولا رضيت، لكنه لم يقدر على المدافعة بنفسه، وقد كان عثمان منعهم من ذلك.
وكان مقتل عثمان في أوسط أيام التشريق، على ما قاله أبو عثمان النَّهْديّ، قال ابن إسحاق: على رأس إحدى عشرة سنة، وأحد عشر شهرًا، واثنين وعشرين يومًا من مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلى رأس خمس وعشرين سنة من مُتوفَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الواقدي: قُتل يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلت من ذي الحجة؛ يوم التروية سنة خمس وثلاثين، وقيل: لليلتين بقيتا من ذي الحجة، قال ابن إسحاق: وبويع له بالخلافة يوم السبت غرَّة محرم سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بثلاثة أيام، فكانت خلافته إحدى عشرة سنة، إلا
(1)
أي: للخوارج الذين خرجوا عليه.
أيامًا اختُلِف فيها حَسَب ما بيَّناه، وقد كان انتهى من الفضل، والعلم، والعبادة إلى الغاية القصوي، كان يصوم الدهر، ويقوم الليل يقرأ القرآن كله في ركعة الوتر.
وروى الترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حيّ: أبو بكر، وعمر، وعثمان. وقال فيه: حديثٌ صحيحٌ حسن.
وقد شَهِد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد، ومن أهل الجنة، وقَتَلَته مخطئون قطعًا، وقد قَدِموا على ما قَدِمُوا عليه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [6189](2401) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ ابْنَيْ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَو سَاقَيْه، فَاستَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَوَّى ثِيَابَهُ -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَا أَقُولُ: ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ- فَدَخَلَ، فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِه، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ، فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ، فَجَلَسْتَ، وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ؟ فَقَالَ: "أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حُجْر بن إياس السعديّ، أبو الحسن المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
(1)
"المفهم" 6/ 266 - 267.
3 -
(إِسْمَاعِيل بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَرْمَلَةَ) القرشيّ، أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن حويطب
(1)
، وقد ينسب إليه، ثقةٌ [6] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (خ م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 54/ 1934.
5 -
(عَطَاءُ) بن يسار الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضلٌ صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2](ت 92)، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
6 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقةٌ فاضلٌ أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسماعيل بن جعفر، وفيه عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، وَسُلَيْمَانَ ابْنَيْ يَسَارٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُضْطَجِعًا) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، اسم فاعل، من اضطجع، يقال: ضَجَعْتُ ضَجَعًا، من باب نَفَعَ، وضُجُوعًا: وضَعْتُ جنبي بالأرض، وأَضْجَعْتُ بالألف لغة، فأنا ضَاجِعٌ، ومُضْجعٌ، ويقال: اضطجع، واضَّجَعَ: إذا وضع جَنْبه بالأرض أيضًا، وأصله اضتجع، بوزن افْتَعَل، لكن من العرب من يقلب التاء طاء، ويُظهرها عند الضاد، فيقول: اضطجع، ومنهم من يقلب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يقال: اطَّجَعَ
(1)
هو: عبد الرحمن بن أبي سفيان بن حُويطب.
بطاء مشدّدة؛ لأنّ الضاد لا تدغم في الطاء؛ فإن الضاد أقوى منها، والحرف لا يدغم في أضعف منه، وما ورد من ذلك شاذّ، لا يقاس عليه، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وفي الرواية التالية: "وهو مضطجع على فراشه، لابسٌ مِرْطَ عائشة".
(فِي بَيْتِي) حال كونه (كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ) تقدّم أن فيه أربع لغات: فتح الفاء، وكسر الخاء، وإسكانها، مع فتح الفاء، وكسرها، وكسرهما معًا؛ للإتباع، وقوله:(أَوْ سَاقَيْهِ)"أو" هنا للشّكّ من الراوي، هل قال بلفظ الفخد، أو الساقي. (فَاسْتَأْذَنَ)؛ أي: طلب الإذن بالدخول على النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَأَذِنَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ)؛ أي: لأبي بكر، وقوله:(وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم كائن على حالته المذكورة، من كَشْف فخذيه، أو ساقيه، (فَتَحَدَّثَ) أبو بكر معه صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية التالية:"فقضى إليه حاجته، ثمّ انصرف". (ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَأَذِنَ) صلى الله عليه وسلم (لَهُ)؛ أي: لعمر (وَهُوَ كَذَلِكَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم على حالته المذكورة، (فَتَحَدَّثَ)، وفي الرواية التالية:"فقضى إليه حاجته، ثمّ انصرف". (ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ) بن عفّان رضي الله عنه (فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الفيّوميّ رحمه الله: الجُلُوسُ غير القعود، فإن الجُلُوسَ هو الانتقال من سفل إلى علوّ، والقعود هو الانتقال من علوّ إلى سفل، فعلى الأول يقال لمن هو نائم، أو ساجد: اجْلِسْ، وعلى الثاني يقال لمن هو قائم: اقْعُدْ، وقد يكون جَلَسَ بمعنى قَعَدَ، يقال: جَلَسَ متربعًا، وقَعَدَ متربعًا، وقد يفارقه، ومنه جَلَسَ بين شُعَبها؛ أي: حَصَلَ وتمكن؛ إذ لا يسمى هذا قعودًا، فإن الرجل حينئذ يكون معتمدًا على أعضائه الأربع، ويقال: جَلَسَ متكئًا، ولا يقال: قَعَدَ متكئًا، بمعنى الاعتماد على أحد الجانبين.
وقال الفارابيّ، وجماعة: الجُلُوسُ نقيض القيام، فهو أعمّ من القعود، وقد يُستعملان بمعنى الكون والحصول، فيكونان بمعنى واحدٍ، ومنه يقال: جَلَسَ متربعًا، وجَلَسَ بين شُعَبها؛ أي: حَصَلَ، وتَمَكَّن. انتهى
(2)
.
(وَسَوَّى ثِيَابَهُ) بتشديد الواو؛ أي: عدّلها، وفي الرواية التالية: "قال
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 358.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 105.
عثمان: ثم استأذنت عليه، فجلس، وقال لعائشة: اجمعي عليك ثيابك".
ثم اعترض بين المتعاطفين بتفسير بعض الرواة للمراد من الحديث، فقال:(قَالَ مُحَمَّدٌ)؛ أي: ابن أبي حرملة مفسّرًا للحديث حسب ما رآه، (وَلَا أَقُولُ: ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ) اسم الإشارة مبتدأ، خبره الجارّ والمجرور؛ يعني: أن دخول هؤلاء الثلاثة على النبيّ صلى الله عليه وسلم ليس في يوم واحد، وإنما هو في أيام متعدّدة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله محمد بن أبي حرملة، محْتَمِل، لا مجزوم به؛ إذ يَحْتَمِل أن يكون في يوم واحد؛ إذ لا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَدَخَلَ) معطوف على "فاستأذن"، وما قبله جملة معترضة، (فَتَحَدَّثَ)، وفي الرواية التالية عن عثمان:"فقضيتُ إليه حاجتي، ثم انصرفتُ".
(فَلَمَّا خَرَجَ) عثمان رضي الله عنه (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها متعجبّة من فِعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومستفسرةً ذلك، (دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه (فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "تهتش" بالتاء بعد الهاء، وفي بعض النسخ الطارئة بحذفها، وكذا ذكره القاضي، وعلى هذا فالهاء مفتوحة، يقال: هَشّ يَهَشّ، كشَمَّ يَشَمّ، وأما الهشّ الذي هو خَبْط الورق من الشجر، فيقال منه: هَشّ يَهُشّ، بضمّها، قال الله تعالى:{وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} الآية [طه: 18]، قال أهل اللغة: الهشاشة، والبشاشة، بمعنى طلاقة الوجه، وحُسْن اللقاء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قولها: "فلم تهتشَّ له" يُروَى: تهتش بالتاء باثنتين من فوقها، ويروى بحذفها، وفتح الهاء، وهو من الهشاشة، وهي الخفّة، والاهتزاز، والنشاط عند لقاء من يفرح بلقائه، يقال: هشَّ، وبشَّ، وتبشبش: كلها بمعنى.
(وَلَمْ تُبَالِهِ)؛ أي: لم تَكْتَرِث به، وتَحْتفل لدخوله، وقال القرطبيّ: لم تباله؛ أي: لم تعتني بأمره، وأصله من البال، وهو الاحتفال بالشيء، والاعتناء به، والفكر فيه، يقول: جعلته من بالي وفكري، وهو المعبَّر عنه في الرواية
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 168 - 169.
الأخرى بقولها: "لم أرك فَزِعت له"؛ أي: لم تُقْبِل عليه، ولم تتفرغ له. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: قولهم: لا أُبَالِيه، وَلا أُبَالِي بِهِ؛ أي: لا أهتمّ به، ولا أكترث له، ولَمْ أُبَالِ، ولَمْ أَبلْ؛ للتخفيف، كما حذفوا الياء من المصدر، فقالوا: لا أُبَالِيهِ بَالَةً، والأصل باليةً، مثل عافاه معافاةً وعافيةً، قالوا: ولا تُستعمل إلا مع الجَحد، والأصل فيه قولهم: تَبَالَى القومُ: إذا تبادروا إلى الماء القليل، فاستَقَوا، فمعنى لا أُبَالِي: لا أبادر إهمالًا له، وقال أبو زيد: مَا بَالَيْتُ بِهِ مُبَالاةً، والاسم البِلاءُ، وزانُ كتاب، وهو الهمّ الذي تُحَدِّث به نفسك. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ) رضي الله عنه (فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ، وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ) رضي الله عنه (فَجَلَسْتَ، وَسَوَّيتَ)؛ أي: عدّلت (ثِيَابَكَ؟)؛ أي: فما سبب ذلك؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا السبب: ("أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الرواية: "أستحي" بياء واحدة في كل واحدة منهما، قال أهل اللغة: يقال: استحيى يستحيي، بياءين، واستحى يستحي، بياء واحدة، لغتان، الأُولى أفصح، وأشهر، وبها جاء القرآن. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَيِيَ منه حَيَاءً بالفتح، والمدّ، فهو حَيِيٌّ، على فَعِيل، واسْتَحْيَا منه، وهو الانقباض، والانزواء، قال الأخفش: يتعدى بنفسه، وبالحرف، فيقال: اسْتَحْيَيْتُ منه، واسْتَحْيَيْتُهُ، وفيه لغتان: إحداهما لغة الحجاز، وبها جاء القرآن بياءين، والثانية لتميم بياء واحدة. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المفهم" 6/ 263 - 264.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 62.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 169.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 160.
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6189](2401)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20409)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 167) وفي "فضائل الصحابة"(760)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 565)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 211)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6907)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4815)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(7/ 1344)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 230 - 231)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3900)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عثمان بن عفّان رضي الله عنه، حيث كان كثير الحياء، بحيث إن الملائكة تستحيي منه، قال النوويّ رحمه الله: فيه فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه، وجلالته عند الملائكة. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن الحياء صفة جميلة من صفات الملائكة، فينبغي للمسلم أن يتحلّى به، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الحياء خير كلّه"، وفي لفظ:"الحياء لا يأتي إلا بخير".
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وفي بقاء النبيّ صلى الله عليه وسلم منكشف الفخذ حتى اطّلع عليه أبو بكر وعمر دليلٌ على أن الفخذ ليس بعورة، وقد تقدَّم الكلام فيه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما يحتج به المالكية، وغيرهم، ممن يقول: ليست الفخذ عورةً، ولا حجة فيه؛ لأنه مشكوك في المكشوف، هل هو الساقان، أم الفخذان؟ فلا يلزم منه الجزم بجواز كشف الفخذ. انتهى
(3)
.
قال المناويّ: لا يعارض هذا الحديث حديث جرهد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ به، وهو كاشف عن فخذه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"غَطِّ فخذك، فإنها من العورة"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
(4)
؛ لاحتمال أن المراد بكشف
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 169.
(2)
"المفهم" 6/ 263.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 168.
(4)
"جامع الترمذيّ" 5/ 111.
فخذه أنه كان مجردًا عن الثوب الذي يخرج به للناس، وليس عليه إلا ثوب مهنة، وذلك هو اللائق بكمال حيائه صلى الله عليه وسلم، وقد استدلّ بهذا الحديث البخاريّ وغيره على أن الفخذ ليست بعورة، واعترضه الإسماعيليّ بأنه لا تصريح فيه بعدم الحائل، ولا يقال: الأصل عدمه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح في المسألة ما قاله البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "حديث أنس أسند
(2)
، وحديث جرهد أحوط، حتى يُخرج من اختلافهم"؛ يعني: أن الأَولى العمل بحديث جرهد المذكور، فإنه صريح في كون الفخذ عورةً، خروجًا من الخلاف، وإن كان حديث أنس الذي دلّ على أن الفخذ ليست بعورة أقوى سندًا، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): جواز تدلّل العالم والفاضل بحضرة من يُدِلّ عليه من فضلاء أصحابه، واستحباب تَرْك ذلك إذا حضر غريب، أو صاحب يستحي منه، قاله النوويّ
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وفيه دليلٌ على جواز معاشرة كل واحد من الأصحاب بحَسَب حاله، ألا ترى انبساطه، واسترساله مع العُمَرَين رضي الله عنهما على الحالة التي كان عليها مع أهله، لم يُغيِّر منها شيئًا، ثم إنه لمّا دخل عثمان رضي الله عنه غيَّر تلك التي كان عليها، فغطى فخذيه، وتهيَّأ له، ثم لمّا سُئل عن ذلك، قال:"إن عثمان رجل حييّ، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال ألا يَبْلُغ إليَّ في حاجته"، وفي الرواية الأخرى:"ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟! "؛ أي: حياء التوقير والإجلال، وتلك منقبة عظيمة، وخصوصيَّة شريفة ليست لغيره، أعْرَض قَتَلَةُ عثمان رضي الله عنه عنها، ولم يُعرِّجوا عليها. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 404.
(2)
أراد البخاريّ بحديث أنس ما أخرجه في "صحيحه"، مطوّلًا، وفيه: "فأجرى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في زُقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن فخذه، حتى إني انظر إلى بياض فخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 168.
(4)
"المفهم" 6/ 263.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6190]
(2402) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاص، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَعُثْمَانَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِه، لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لأَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَال، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ، قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْه، فَجَلَسَ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: "اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ"، فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا لِي لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَال، أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ) بن سعيد بن العاص بن أمية القرشيّ الأمويّ، ويقال: أبو الحارث المدني، أخو عمرو الأشدق، ثقةٌ [3].
رَوَى عن أبيه، وعثمان، ومعاوية، وعائشة.
وروى عنه أشرس بن عبيد مولى أبيه، والربيع بن سَبْرة، والزهريّ.
قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال الزبير بن بكار: أمه العالية بنت سلمة بن يزيد بن مشجعة، وكان عبد الملك بن مروان حين قَتل أخاه عمرو بن سعيد الأشدق سيَّره إلى المدينة، فلَحِق بابن الزبير، ثم آمنه عبد الملك بعد قتل ابن الزبير، وقال ابن عساكر: بلغني أن عبد الملك كان يقول: ما رأيت أفضل من يحيى بن سعيد، وذكره معاوية بن صالح عن ابن معين في تابعي أهل المدينة، ومحدِّثيهم، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ووثّقه يعقوب بن سفيان.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(سَعِيدُ يْنُ الْعَاصِ) بن سعيد بن العاص بن أمية الأمويّ، قُتل أبوه ببدر، وكان لسعيد عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وذُكِر في الصحابة، وَوَلي إمرة الكوفة لعثمان، وإمرة المدينة لمعاوية، مات سنة ثمان وخمسين، وقيل غير ذلك.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن عمر، وعثمان، وعائشة رضي الله عنهم.
وعنه: ابناه عمر ويحيى، ومولاه كعب، وغيرهم.
قال معاوية: لكل قوم كريم، وكريمنا سعيد، وقال أيضًا: أقيمت عربية القرآن على لسان سعيد؛ لأنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عبد البر: كان من أشراف قريش، وهوأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان.
مات سنة (58 هـ) ودُفن بالبقيع.
أخرج له البخاري في "الأدب المفرد"، ومسلم، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائي، وابن ماجه في "التفسير"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث
(1)
.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (لَابِسٌ مِرْطَ عَائِشَةَ)"الْمِرْطُ" -بكسر الميم-: كساء من صوف، وقال الخليل: كساء من صوف، أو كتان، أو غيره، وقال ابن الأعرابيّ، وأبو زيد: هو الإزار، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الْمِرْط": كساء من صوف، أو خَزّ، يُؤتزر به، وتتلفّع المرأة به، والجمع: مُرُوطٌ، مثلُ حِمْلٍ وحُمُولٍ. انتهى
(3)
.
وقولفه: (وَقَالَ لِعَائِشَةَ: "اجْمَعِي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ" هو كناية عن كمال التستّر، وعدم بروز شيء من بدنها.
وقولها: (لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟)؛ أي: اهتممت لهما، واحتفلت بدخولهما، قال النوويّ: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "فزعت" بالزاي، والعين المهملة، وكذا حكاه القاضي عن رواية
(1)
راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب" 2/ 26 - 27.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 169.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 569.
الأكثرين، قال وضَبَطه بعضهم:"فَرَغت" بالراء، والغين المعجمة، وهو قريب من معنى الأول. انتهى
(1)
.
وقوله: (رَجُلٌ حَيِيٌّ) بفتح، فكسر: فَعِيلٌ بمعنى فاعل؛ أي: كثير الحياء، لا يُفصح بسبب حيائه بحاجته إليّ.
وقوله: (وَإِنِّي خَشِيتُ) بفتح الخاء، وكشر الشين المعجمتين، من باب رَضِي.
وقوله: (إِنْ أَذِنْتُ لَهُ) بكسر الذال المعجمة، من باب تَعِبَ.
وقوله: (أَنْ لَا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ)؛ يعني: أني إن أَذِنت له في تلك الحال أخاف أن يرجع حياءً مني عندما يراني على تلك الهيئة، ولا يَعْرِض عليّ حاجته؛ لغلبة الحياء عليه.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6191]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْد بْنُ حُمَيْدٍ، كلُّهُمْ عَنْ يَعْقُوبَ ئنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاص، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُثْمَانَ، وَعَائِشَةَ حَدَّثَاهُ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ استَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) فاعل "ذَكَر" ضمير صالح بن كيسان.
[تنبيه]: وواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، عن شيخ المصنّف عمرو الناقد، فقال:
(4818)
- حدّثنا عمرو بن محمد، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 169.
عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، أخبرني يحيى بن سعيد بن العاص، أن سعيد بن العاص أخبره، أن عثمان وعائشة حدّثاه، أن أبا بكر الصديق استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مضطجع على فراشه، لابسٌ مِرْط عائشة، فأَذِن لأبي بكر، وهو كذلك، قال: فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، وقال عثمان: ثم استأذن عمر، فأَذِن له، وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته، ثم انصرف، قال: فقالت عائشة: لم أَرَكَ فَزِعت لأبي بكر وعمر كما فَزِعت لعثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن عثمان رجل حَييٌّ، خَشِيت إن أذنت له، وأنا على تلك الحال، أن لا يبلغ في حاجته". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6192]
(2403) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ مِنْ حَائِطِ الْمَدِينَة، وَهُوَ مُتَّكِئٌ، يَرْكُزُ بِعُودٍ مَعَهُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّين، إِذَا اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ، فَقَالَ: "افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ: فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، فَفَتَحْتُ لَهُ، وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، قَالَ: ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ: "افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ، فَفَتَحْتُ لَهُ، وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، قَالَ: فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة، عَلَى بَلْوَى تَكُونُ"، قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: فَفَتَحْتُ، وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، قَالَ: وَقُلْتُ الَّذِي قَالَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَبْرًا، أَوِ اللهُ الْمُسْتَعَانُ)
(2)
.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزَّمِن، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
(1)
"مسند أبي يعلى" 8/ 242.
(2)
وفي نسخة: "اللهمّ صبرًا، والله المستعان".
3 -
(عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ) -بغين معجمة، وثاء مثلثة- الراسبيّ، أو الزهرانيّ البصريّ، ثقةٌ، ورُمي بالإرجاء [6](خ م د س) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) -بفتح النون وسكون الهاء- هو: عبد الرحمن بن مَلّ -بلام ثقيلة، والميم مثلثة- مشهور بكنيته، مخضرمٌ ثقةٌ، ثبتٌ، عابدٌ، من كبار [2] مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الضاد المعجمة- الصحابي المشهور، أَمَّره عمر، ثم عثمان، وهو أحد الْحَكَمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه محمد بن المثنّى أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة، وفيه أبو عثمان النهديّ مخضرم معمّر عاش مائة وثلاثين، وقيل أكثر، وفيه أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه الصحابيّ المشهور أحسن الصحابة صوتًا بالقراءة، الذي أُعطي مزمارًا من مزامير آل داود عليه السلام، كما وصفه به النبيّ صلى الله عليه وسلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه، أنه (قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ مِنْ حَائِطِ الْمَدِينَةِ)؛ أي: بستان من بساتينها، (وَهُوَ مُتَّكِئٌ) جملة في محل نصب على الحال؛ أي: حال كونه معتمِدًا على عود، والاتّكاء: الاعتماد، قال الفيّوميّ رحمه الله: تَوَكأ على عصاه: اعتمد عليها، واتّكَأَ: جلس متمكِّنًا، وفي التنزيل:{وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]؛ أي: يجلسون، وقال:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} الآية [يوسف: 31]؛ أي: مجلسًا يجلسن عليه، قال ابن الأثير: والعامّة لا تعرف الاتكاءَ إلا الميل في القعود معتمدًا على أحد الشقين، وهو يُستعمل في المعنيين جميعًا، يقال: اتَّكأ: إذا أسند ظهره، أو جَنْبه إلى شيء، معتمدًا عليه، وكلُّ من اعتمد على شيء فقد اتَّكَأ عليه، وقال السّرَقُسْطِيّ أيضًا: أتْكَأْتُهُ: أعطيته ما يتكئ عليه؛ أي: ما
يجلس عليه، والتاء مُبْدلة من واو، والاسم: التُّكُأَةُ، مثال رُطَبَةٍ. انتهى
(1)
.
(يَرْكُزُ) بضمّ الكاف، يقال: ركزتُ الرُّمْح رَكْزًا، من بابي نصر، وضرب: أثبتّه بالأرض، فارتكز، والْمَرْكِزُ، وزانُ مسجد: موضع الثبوت
(2)
، وقال النوويّ: أي: يضرب بأسفله ليثبته في الأرض
(3)
. (بِعُودٍ) بضم العين: الخشبُ، جمعه أعواد، وعِيدان
(4)
. (مَعَهُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ)، وفي رواية للبخاريّ:"عن أبي موسى أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، وفي يد النبيّ صلى الله عليه وسلم عُودٌ يضرب به بين الماء والطين".
قال ابن بطال رحمه الله: من عادة العرب إمساك العصا، والاعتماد عليها عند الكلام وغيره، وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له الحجةُ البالغةُ، وكأن المراد بالعود هنا: الْمِخْصرة التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها، وليس مصرَّحًا به في هذا الحديث. انتهى
(5)
.
وقد ترجم البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بقوله:"باب من نكت العود في الماء والطين"، فقال الحافظ رحمه الله: فقه الترجمة أن ذلك لا يُعَدّ من العبث المذموم؛ لأن ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم لا يستعمله فيما لا يضرّ تأثيره فيه، بخلاف من يتفكر، وفي يده سكين، فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي يسكنه فيما يسبّب فسادًا، فذاك هو العبث المذموم. انتهى
(6)
.
(إِذَا اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ)"إذا" هنا فجائيّة؛ أي: ففجأنا استفتاح رجل، وفي رواية البخاريّ:"فجاء رجلٌ يستفتح"، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("افْتَحْ) زاد في رواية:"له"، (وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ: فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، (فَفَتَحْتُ لَهُ، وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، قَالَ) أبو موسى (ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ) أبو موسى (فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه، (فَفَتَحْتُ لَهُ، وَبَشَّرْتُهُ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 671.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 237، بزيادة من "القاموس" ص 528.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 170.
(4)
"القاموس المحيط" ص 924.
(5)
"شرح البخاريّ" لابن بطّال رحمه الله 22/ 63.
(6)
"الفتح" 14/ 102، كتاب "الأدب" رقم (6216).
بِالْجَنَّة، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ رَجُلٌ آخَرُ، قَالَ) أبو موسى (فَجَلَسَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "افْتَحْ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة، عَلَى بَلْوَى تَكُونُ")؛ أي: تحصل له، فـ "تكون" تامّة، قال ابن بطال رحمه الله: إنما خُصَّ عثمان رضي الله عنه بذكر البلاء مع أن عمر رضي الله عنه قُتل أيضًا؛ لكون عمر لم يُمتحن بمثل ما امتُحِن عثمان، مِن تسلّط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور والظلم، مع تنصّله من ذلك، واعتذاره عن كل ما أوردوه عليه، ثم هجومهم عليه داره، وهَتْكهم سِتْر أهله، وكل ذلك زيادة على قَتْله، وحاصله: أن المراد بالبلاء الذي خُص به: الأمور الزائدة على القتل. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أبو موسى (فَذَهَبْتُ، فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) رضي الله عنه (قَالَ) أبو موسى (فَفَتَحْتُ) له الباب (وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّة، قَالَ) أبو موسى (وَقُلْتُ الَّذِي قَالَ)؛ أي: ذَكَر له الذي قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، من أنه تصيبه البلوى، إ فَقَالَ) عثمان رضي الله عنه (اللَّهُمَّ صَبْرًا)؛ أي: يا الله أسألك أن ترزقني صبرًا فيما يُصيبني من البلوى، (أَوِ) للشّكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (اللهُ الْمُسْتَعَانُ)، وفي بعض النسخ:"والله المستعان" بالواو؛ أي: المطلوب منه المعونة هو الله تعالى، لا غيره.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول عثمان: "اللهم صبرًا، والله المستعان"؛ أي: اللهم صبِّرني صبرًا، وأعنّي على ما قَدّرت عليّ
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية": في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6192 و 6193 و 6194 و 6195 و 6196](2403)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3674 و 3693 و 3695) و"الأدب"(6216) و"أخبار الآحاد"(7262) وفي "الأدب المفرد"(1151)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(5/ 631)، و (النسائيّ) في "الفضائل"(29 و 31)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 406 - 407) وفي "فضائل الصحابة"(209)،
(1)
"شرح البخاريّ" لابن بطال 10/ 48 - 49، بزيادة من "فتح الباري" 16/ 510.
(2)
"المفهم" 6/ 267 - 268.
و (عبد الله بن أحمد) في "زوائد فضائل الصحابة"(289)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20402)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(554)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6912)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 59)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 343)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 388 - 389)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم، وأنهم من أهل الجنة، وبيان فضيلة لأبي موسى رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): جواز الثناء على الإنسان في وجهه؛ إذا أُمنت عليه فتنة الإعجاب، ونحوه.
3 -
(ومنها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم لإخباره بقصة عثمان، والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى.
4 -
(ومنها): أن في قوله: "اللهمّ صبرًا، والله المستعان" استسلامًا لأمر الله تعالى، ورضًا بما قدَّره الله تعالى، فينبغي أن يقوله المسلم في مثل هذه الحال.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "على بلوى تكون"، وفي لفظ:"مع بلوى تصيبه" هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم إعلام لعثمان رضي الله عنه بما يصيبه من البلاء والمحنة في حال خلافته، وقد جاء من الأخبار ما يدلّ على تفصيل ما يجري عليه من القتل وغيره.
فمن ذلك ما خرَّجه الترمذيّ عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا عثمان! لعل الله يقمِّصك قميصًا، فإنْ أرادوك على خلعه، فلا تخلعه لهم"، وقال: حديثٌ حسنٌ غريب.
وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذَكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً، فقال:"يُقتل فيها مظلومًا" لعثمان، وقال: حديث حسنٌ غريب.
ورَوَى أبو عمر بن عبد البرّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي بعض أصحابي"، فقلت: أبو بكر؟ فقال: "لا"، فقلت: فعمر؟ فقال: "لا"، قالت: قلت: ابن عمك عليًّا؟ فقال: "لا"، فقلت له: عثمان؟ قال: "نعم"، فلما جاءه، فقال لي بيده، فتنحَّيت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارّه،
ولون عثمان يتغيَّر، فلما كان يوم الدار، وحُصر قيل له:"ألا نقاتل عنك؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَهِد إليّ عهدًا، وأنا صابرٌ عليه".
فهذه الأحاديث وغيرها مما يطول تتبّعه تدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره بتفصيل ما جرى عليه، وأنه سفم نفسه لمّا عَلِم من أن ذلك قَدَرٌ سَبَق، وقضاء وَجَب، ولذلك منع كل من أراد القتال دونه، والدفع عنه -ممن كان معه في الدار، وفي المدينة - من نصرته. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6193]
(. . .) - (حَدَّثنا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا، وَأَمَرَني أَنْ أَحْفَظَ الْبَابَ. بِمَعْنَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حَمَّادُ) بن زيد بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله إحدى وثمانون سنة (ع) تقدّم في "المقدمة" 5/ 26.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تَميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العبّاد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَحْفَظَ الْبَابَ) قال ابن التين رحمه الله: قوله: "وأمرني أن أحفظ الباب" هذا مغاير لقوله في الرواية الأخرى: "ولم يأمرني بحفظه"، فأحدهما وَهَم، وتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: بل هما جميعًا محفوظان، فالنفي كان في أول ما جاء، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم الحائط، فجلس أبو موسى في الباب، وقال:"لأكوننّ اليوم بوّاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فقوله:"ولم يأمرني بحفظه" كان في
(1)
"المفهم" 6/ 265 - 266.
تلك الحالة، ثم لما جاء أبو بكر، واستأذن له، فأمره أن يأذن له أمره حينئذ بحفظ الباب؛ تقريرًا له على ما فعله، ورضًا به، إما تصريحًا، فيكون الأمر له بذلك حقيقةً، وإما لمجرد التقرير، فيكون الأمر مجازًا، وعلى الاحتمالين لا وَهَمَ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو تعقّب حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ)؛ يعني: أن حديث أيوب السختيانيّ أبي عثمان النهديّ بمعنى حديث عثمان بن غياث عنه.
[تنبيه]: رواية أيوب، عن أبي عثمان النهديّ هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(3710)
- حدّئنا أحمد بن عبدة الضَّبّيّ، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: انطلقت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدخل حائطًا للأنصار، فقضى حاجته، فقال لي:"يا أبا موسى امْلِك عليّ الباب، فلا يدخلنّ عليّ أحدٌ إلا بإذن"، فجاء رجل يضرب الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلت: يا رسول الله، هذا أبو بكر يستأذن، قال:"ائذن له، وبشّره بالجنة"، فدخل، وبشّرته بالجنة، وجاء رجل آخر، فضرب الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله، هذا عمر يستأذن، قال:"افتح له، وبشّره بالجنة"، ففتحت الباب، ودخل، وبشّرته بالجنة، فجاء رجل آخر، فضرب الباب، فقلت: من هذا؟ قال: عثمان، فقلت: يا رسول الله، هذا عثمان يستأذن، قال:"افتح له، وبشّره بالجنة، على بلوى تصيبه".
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وقد رُوي من غير وجه عن أبي عثمان النّهْديّ، وفي الباب عن جابر، وابن عمر. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6194]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ- عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِه، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ:
(1)
"الفتح" 17/ 115، كتاب "أخبار الآحاد" رقم (7262).
(2)
"جامع الترمذيّ" 5/ 631.
لأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا. قَالَ: فَجَاءَ الْمَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: خَرَجَ، وَجَّهَ هَا هُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى أَثَرِه، أَسْأَلُ عَنْهُ، حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَاب، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ، حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ، وَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْه، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وَكشَفَ عَنْ سَاقَيْه، وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْر، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَاب، فَقُلْتُ: لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا أَبُو بَكْرٍ، يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ:"ائْذَن لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ، حَتَّى قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ، ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّة، قَالَ: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْر، كمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكشَفَ عَنْ سَاقَيْه، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ، وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: أِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ -يُرِيدُ أَخَاهُ- خَيْرًا يَأْتِ بِه، فَاِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ، يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ:"ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، فَجِئْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: أَذِنَ، وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّة، قَالَ: فَدَخَلَ، فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِه، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْر، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا -يَعْني: أَخَاهُ - يَأْتِ بِه، فَجَاءَ إِنْسَانٌ، فَحَرَّكَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَفلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، قَالَ: وَجِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:"ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة، مَعَ بَلْوَى تُصِيبُهُ"، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّة، مَعَ بَلْوَى تُصِيبُكَ، قَالَ: فَدَخَلَ، فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ، فَجَلَسَ وُجَاهَهُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ الْيَمَامِيُّ) بن نُميلة -بالنون، مصغرًا- أبو الحسن اليماميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11].
روى عن بشر بن بكير، وعباد بن عمر اليمامي، وأبي مسهر، ويحيى بن حسان، وغيرهم.
روى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والنسائيّ، ومحمد بن أبي عتاب الأعين، ومات قبله، وابن أبي عاصم، وأبو بكر بن أبي صدقة البغدادي، وغيرهم.
قال الحاكم: قرأت بخط أبي عمرو المستملى: سمعت البخاريّ يقول: ثنا محمد بن مسكين اليماميّ، ثقةٌ مأمونٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: كان ثقةً رحمه الله تعالى، وقال النسائيّ: كتبنا عنه بالبصرة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكر ابن منده أنه مات ببغداد سنة (279)، وقال مسلمة: لا بأس به، وقال الخطيب: كان ثقةً، وقال الحاكم: روى عنه مسلم حديثًا واحدًا -يعني: حديث الباب- وقد ذكره الدارقطنيّ، وأبو إسحاق الحبال في أفراد البخاريّ، وذكره النسائيّ في "مشيخته"، وقال: لا بأس به.
روى له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ) التِّنِّيسيّ -بكسر المثناة، والنون الثقيلة، وسكون التحتانية، ثم مهملة- أصله من البصرة، نزيل تِنِّيس، ثقةٌ [9](ت 208) وله أربع وستون سنةً (خ م د ت س) تقدم في "الحيض" 7/ 723.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
4 -
(شَرِيكُ بْنُ أَبيِ نَمِرٍ) هو: شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، أبو عبد الله المدنيّ، نُسب لجدّه، صدوقٌ، يخطئ [5] مات في حدود أربعين ومائة (خ م د تم س ق) تقدم في "الإيمان" 80/ 421.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو موسى الأشعريّ رضي الله عنه تقدّم القول فيه في الحديث الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) هو ابن عبد الله، وأبو نَمِر جدّه. (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) بكسر الياء المشدّدة على الصحيح، وقيل: بفتحها، قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":
كُلُّ مُسَيَّب فَبِالْفَتْحِ سِوَى
…
أَبِي سَعِيدٍ فَلَوَجْهَيْنِ حَوَى
وقلت مذيِّلًا عليه:
قُلْتُ وَكَسْرُهُ أَحَقُّ إِذْ أَتَى
…
أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَثَبَتَا
وَعَنْ سَعِيدٍ كُرْهُهُ الْفَتْحَ وَرَدْ
…
بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ
فَابْعُدْ عَنِ الْفَتْحِ تَكُنْ مُجَانِبَا
…
دُعَاءَهُ وَنِعْمَ ذَاكَ مَطْلَبَا
(أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن قيس رضي الله عنه، (أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِه، ثُمَّ خَرَجَ) من بيته مريدًا النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ: لأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (وَلأكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا) بيان للزومه. (قَالَ) أبو موسى (فَجَاءَ الْمَسْجِدَ) فيه التفاتٌ؛ إذ الظاهر أن يقول: فجئت المسجد، ويَحْتَمل أن يكون الفاعل ضمير سعيد؛ أي: قال سعيد راويًا عن أبي موسى، والأول أظهر؛ لأن ظاهر السياق يؤيّده، والله تعالى أعلم.
(فَسَأَل عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: خَرَجَ، وَجَّهَ هَا هُنَا) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المشهورة: "وجَّه" بفتح الجيم، مشدَّدةً، على أنه فعل ماضٍ، وضَبَطه أبو بحر:"وَجْه" -بسكون الجيم- على أن يكون ظرفًا، والعامل فيه "خَرَجَ"؛ أي: خرج في هذه الجهة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المشهور في الرواية: "وَجّه" بتشديد الجيم، وضَبَطه
(1)
"المفهم" 6/ 264.
بعضهم بإسكانها، وحكى القاضي الوجهين، ونقل الأول عن الجمهور، ورجَّح الثاني؛ لوجود "خَرَج"؛ أي: قَصَدَ هذه الجهة. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": كذا للأكثر: بفتح الواو، وتشديد الجيم؛ أي: توجه، أو وَجّه نفسه، وفي رواية الكشميهنيّ بسكون الجيم، بلفظ الاسم مضافًا إلى الظرف؛ أي: جهةَ كذا. انتهى
(2)
.
(قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى أَثَرِهِ) بفتحتين، أو بكسر، فسكون؛ أي: بَعده، (أَسْأَلُ عَنْهُ)؛ أي: عن المكان الذي يوجد فيه، (حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ) -بفتح الألف، وكسر الراء، بعدها تحتانية ساكنة، ثم سين مهملة-: بستان بالمدينة معروف، يجوز فيه الصرف، وعدمه، وهو بالقرب من قُباء، وفي بئرها سقط خاتم النبيّ صلى الله عليه وسلم من أصبع عثمان رضي الله عنه.
(قَالَ) أبو موسى (فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَاب، وَبَابُهَا)؛ أي: باب البئر (مِنْ جَرِيدٍ)؛ أي: من جريد النخل، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجريد: سَعَفُ النخل، الواحدة جريدة، فَعِيلةٌ بمعنى: مفعولة، وإنما تُسمّى جريدةً إذا جُرّد عنها خُوصُها. انتهى
(3)
.
(حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ)؛ أي: من البول ونحوه، (وَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(فَإِذَا هُوَ قَدْ جَلَسَ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني جلوسه (عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا) -بضم القاف، وتشديد الفاء- هي الدكة التي تُجعل حول البئرَ، وأصله ما غَلُظ من الأرض، وارتفع، والجمع قِفَافٌ، ووقع في رواية عثمان بن غياث عن أبي عثمان السابقة:"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حائط المدينة، وهو متكئ، ينكُت بعود معه بين الماء والطين"
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "القفّ" -بضم القاف- أصله: الغليظ من الأرض، قاله ابن دريد وغيره، وعلى هذا فالقف الذي يتمكن الجماعة أن يجلسوا عليه، ويُدْلُوا أرجلهم في البئر، هو جانبها المرتفع عن الأرض، وكل ما قيل فيه
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 171.
(2)
"الفتح" 8/ 365.
(3)
"المصباح المثير" 1/ 96.
(4)
"الفتح" 8/ 365.
خلاف هذا فيه بُعد، ولا يناسب مساق الحديث. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة" بعدما ذكر نحو ما تقدّم: ويقال: القُفّ: اليابس، ويَحْتَمِل أن يكون سُمّي به؛ لأن ما ارتفع حول البئر يكون يابسًا دون غيره غالبًا. انتهى
(2)
.
(وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْه، وَدَلَّاهُمَا)؛ أي: أرسلهما (فِي الْبِئْر، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَاب، فَقُلْتُ: لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ)، وفي رواية:"أمرني ان أحفظ الباب" قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم أمَره أن يكون بوابًا في جميع ذلك المجلس؛ ليبشّر هؤلاء المذكورين بالجنة رضي الله عنهم، ويَحْتَمِل أنه أمَره بحفظ الباب أولًا إلى أن يقضي حاجته، ويتوضأ؛ لأنها حالة يُستتر فيها، ثم حفظ الباب أبو موسى من تلقاء نفسه. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فقلت: لأكوننّ بوابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم" ظاهره أنه اختار ذلك، وفَعَله من تلقاء نفسه، وقد صرّح بذلك في رواية محمد بن جعفر، عن شريك، في "الأدب"، فزاد فيه:"ولم يأمرني"، قال ابن التين: فيه أن المرء يكون بوابًا للإمام، وإن لم يأمره، كذا قال.
وقد وقع في رواية أبي عثمان، عن أبي موسى:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا، وأمَره بحفظ باب الحائط"، ووقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيِّب في هذا الحديث:"فقال: يا أبا موسى امْلِك عليّ الباب، فانطلَق، فمَضى حاجته، وتوضأ، ثم جاء، فقعد على قُفّ البئر"، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والروياني في "مسنده".
وفي رواية الترمذيّ من طريق أبي عثمان، عن أبي موسى:"فقال لي: يا أبا موسى امْلِك عليّ الباب، فلا يدخلن عليّ أحدٌ".
قال الحافظ: فيُجمع بينهما بأنه لمّا حدّث نفسه بذلك صادف أمْر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يحفظ عليه الباب، وأما قوله:"ولم يأمرني" فيريد أنه لم يأمره
(1)
"المفهم" 6/ 264.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 190.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 170.
أن يستمرّ بوابًا، وإنما أمرَه بذلك قَدْر ما يقضي حاجته، ويتوضأ، ثم استمر هو من قِبَل نفسه.
قال: فبَطَل أن يُستدَلّ به لِمَا قاله ابن التين، والعجب أنه نَقَل ذلك بعدُ عن الداوديّ، وهذا من مختلف الحديث، وكأنه خَفِي عليه وجه الجمع الذي قررته، ثم إن قول أبي موسى رضي الله عنه هذا لا يعارض قول أنس رضي الله عنه: إنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له بواب، كما سبق في "كتاب الجنائز"؛ لأن مراد أنس أنه لم يكن له بوّاب مرتَّب لذلك على الدوام. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ في موضع آخر: قوله: "لأكوننّ اليوم بواب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرني"، قال الداوديّ في الرواية الأخرى:"أمرني بحفظ الباب"، وهو اختلاف ليس المحفوظ إلا أحدهما.
وتُعُقب بإمكان الجمع بأنه فَعَل ذلك ابتداءً من قِبَل نفسه، فلما استأذن أوّلًا لأبي بكر، وأمَره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأذن له، ويبشّره بالجنة، وافق ذلك اختيار النبيّ صلى الله عليه وسلم لِحِفظ الباب عليه؛ لكونه كان في حال خلوة، وقد كشف عن ساقه، ودلى رجليه، فأمَره بحفظ الباب، فصادف أمره ما كان أبو موسى ألزم نفسه به قِبَل الأمر، ويَحْتَمِل أن يكون أطلق الأمر على التقرير. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (فَدَفَعَ الْبَابَ)، وفي رواية:"فجاء رجل يستأذن"، (فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ)؛ أي: أنا أبو بكر، (فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ) بكسر الراء، وفتحها لغتان، والكسرَ أشهر، ومعناه: تَمَهَّلْ، وتَأَنَّ، قاله النوويّ
(3)
.
وقال القرطبيّ: هو بكسر الراء، وهو المعروف، ويقال: بفتحها؛ أي: اسكُنْ، وارْفُقْ، كما يقال: على هينتك. انتهى
(4)
.
(قَالَ) أبو موسى (ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، هَذَا أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه
(1)
"الفتح" 8/ 365 - 366، كتاب "الفضائل" رقم (3674).
(2)
"الفتح" 16/ 509، كتاب "الفتن" رقم (7097).
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 171.
(4)
"المفهم" 6/ 264.
(يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، قَالَ) أبو موسى (فَأَقْبَلْتُ، حَتَّى قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ، ادْخُلْ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ) زاد في رواية: "فحمد الله"، وكذا قال في عمر. (قَالَ: فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ فِي الْقُفّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ)؛ أي: مدّهما (فِي الْبِئْر، كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَكشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ)؛ أي: كما كشف صلى الله عليه وسلم عنهما. (ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ، وَيَلْحَقُنِي) كان لأبي موسى الأشعريّ أخوان: أبو رُهْم، وأبو بُرْدة، وقيل: إن له أخًا آخر، اسمه محمد، وأشهرهم أبو بُردة، واسمه عامر، وقد أخرج عنه أحمد في "مسنده" حديثًا
(1)
. (فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ -يُرِيدُ أَخَاهُ- خَيْرًا يَأْتِ بِهِ)؛ أي: حتى يبشَّر بالجنّة مع هؤلاء، (فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ) فيه حُسْن الأدب في الاستئذان، قال ابن التين: ويَحْتَمِل أن يكون هذا قبل نزول قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} الآية [النور: 27].
وتعقّبه الحافظ: فقال: وما أبعدَ ما قال، فقد وقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة:"فجاء رجل، فاستأذن"، وفي رواية أبي عثمان النّهْدي:"فجاء رجل، فاستفتح"، فعُرف أن قوله:"يحرك الباب" إنما حرّكه مستاذنًا، لا دافعًا له؛ ليدخل بغير إذن. انتهى
(2)
.
(فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب) رضي الله عنه (فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ، يَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَ: "ائْذَنْ لَهُ، وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ"، فَجِئْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: أَذِنَ) بالبناء للفاعل؛ أي: أذن لك صلى الله عليه وسلم في الدخول عليه، (وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّةِ) تقدّم أنه حمد الله تعالى. (قَالَ: فَدَخَلَ، فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِه، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْر، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا -يَعْنِي: أَخَاهُ- يَأْتِ بِه، فَجَاءَ إِنْسَانٌ، فَحَرَّكَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ) رضي الله عنه، (فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، قَالَ: وَجِئْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ:"ائْذَنْ لَهُ" في رواية أبي عثمان: "ثم جاء آخر، يستأذن، فسكت هُنَيّةً، ثم قال: ائذن له"،
(1)
"الفتح" 8/ 366.
(2)
"الفتح" 8/ 366.
(وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّة، مَعَ بَلْوَى تُصِيبُهُ"، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: ادْخُلْ، وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجَنَّة، مَعَ بَلْوَى تُصِيبُكَ) في رواية أبي عثمان: "فحمِد الله، ثم قال: الله المستعان"، وفي رواية عند أحمد:"فجعل يقول: اللهم صبرًا حتى جلس"، وفي رواية عبد الرحمن بن حرملة:"فدخل، وهو يحمد الله، ويقول: اللهم صبرًا". ووقع في حديث زيد بن أرقم عند البيهقيّ في "الدلائل": "قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلق حتى تأتي أبا بكر، فقل له: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ عليك السلام، ويقول لك: أبشر بالجنة، ثم انطلِقْ إلى عمر كذلك، ثم انطلق إلى عثمان كذلك -وزاد- بعد بلاء شديد، قال: فانطلق، فذكر أنه وجدهم على الصفة التي قال له، وقال: أين نبيّ الله؟ قلت: في مكان كذا وكذا، فانطلَق إليه، وقال في عثمان: فأخذ بيدي، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن زيدًا، قال لي: كذا، والذي بعثك بالحقّ ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك، فأيّ بلاء يصيبني؟ قال: هو ذاك"، قال البيهقيّ: إسناده ضعيف، فإن كان محفوظًا احْتَمَل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن أرقم قبل أن يجيء أبو موسى، فلما جاؤوا كان أبو موسى قد قعد على الباب، فراسَلَهم على لسانه بنحو ما أرسل به إليهم زيد بن أرقم، والله أعلم.
ووقع نحو قصة أبي موسى لبلال، وذلك فيما أخرجه أبو داود، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن نافع بن عبد الحارث الخزاعيّ، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطًا من حوائط المدينة، فقال لبلال: أَمْسِكْ عليّ الباب، فجاء أبو بكر يستأذن، فذكر نحوه.
وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أبي سعيد نحوه.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا إن صحّ حُمِل على التعدد، ثم ظهر لي أن فيه وَهَمًا من بعض روأته، فقد أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، وفي حديثه أن نافع بن عبد الحارث، هو الذي كان يستأذن، وهو وَهَمٌ أيضًا، فقد رواه أحمد من طريق موسى بن عقبة، عن أبي سلمة، عن نافع، فذكره، وفيه:"فجاء أبو بكر، فاستأذن، فقال لأبي موسى، فيما أعلم: ائذن له".
وأخرجه النسائيّ من طريق أبي الزناد، عن أبي سلمة، عن نافع بن
عبد الحارث، عن أبي موسى، وهو الصواب، فرجع الحديث إلى أبي موسى، واتَّحَدت القصةُ، والله أعلم.
[تنبيه]: أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار، وقد وَرَدَ عنه صلى الله عليه وسلم أصرح من هذا، فروى أحمد من طريق كُليب بن وائل، عن ابن عمر:"قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنةً، فمرّ رجل، فقال: يُقتل فيها هذا يومئذ ظلمًا، قال: فنظرت، فإذا هو عثمان"، وإسناده صحيح
(1)
.
(قَالَ) أبو موسى (فَدَخَلَ) عثمان (فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ) بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وصاحبيه رضي الله عنهما، (فَجَلَسَ وُجَاهَهُمْ) بضمّ الواو، وكَسْرها؛ أي: مقابلهم (مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ) بكسر الشين المعجمة؛ أي: الجانب الآخر.
(قَالَ شَرِيكٌ)؛ أي: ابن أبي نمر، فهو موصول بالإسناد الماضي. (فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ)؛ أي: أوَّلت هؤلاء الثلاثة الجالسين على الهيئة المذكورة بقبورهم، والتأويل بالقبور من جهة كون الشيخين مصاحبين له عند الحفرة المباركة، لا من جهة أن أحدهما في اليمين، والآخر في اليسار، وأما عثمان فهو في البقيع، مقابلًا لهم، وهذا من الفراسة الصادقة، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: يريد أنه تفرّس في تلك الحالة من جلوسهم، واجتماع الثلاثة في جهة، وانفراد عثمان عنهم دَفْن أولئك الثلاثة بمكان واحد، وليس تلك رؤيا تُحمل على التأويل، وإنما هو من باب التفرّس، ومما يقع في القلب. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": فيه وقوع التأويل في اليقظة، وهو الذي يُسَمَّى الفِراسة، والمراد: اجتماع الصاحبين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في الدفن، وانفراد عثمان عنهم في البقيع، وليس المراد خصوص صورة الجلوس الواقعة.
وقد وقع في رواية عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيِّب: "قال
(1)
"الفتح" 8/ 366.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 190.
(3)
"إكمال المعلم" 7/ 410.
سعيد: فأوَّلت ذلك انتباذ قبره من قبورهم"، وفي لفظ: "اجتمعت ها هنا، وانفرد عثمان".
ولو ثبت الخبر الذي أخرجه أبو نعيم عن عائشة رضي الله عنها في صفة القبور الثلاثة: أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، لكان فيه تمام التشبيه، ولكن سنده ضعيف، وعارَضه ما هو أصح منه.
أخرج أبو داود، والحاكم، من طريق القاسم بن محمد، قال:"قلت لعائشة: يا أماه اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فكشفت لي. . ." الحديث، وفيه:"فرأيت رسول الله، فإذا أبو بكر رأسه بين كتفيه، وعمر رأسه عند رجلي النبيّ صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6195]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ هَا هُنَا، وَأَشَارَ لِي سُلَيْمَانُ إِلَى مَجْلِسِ سَعِيدٍ، نَاحِيَةَ الْمَقْصُورَة، قَالَ أَبُو مُوسَى: خَرَجْتُ أُرِيدُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَلَكَ فِي الأَمْوَال، فَتَبِعْتُهُ، فَوَجَدْتُهُ قَدْ دَخَلَ مَالًا، فَجَلَسَ فِي الْقُفّ، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْه، وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ سَعِيدٍ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصَغانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 170)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ) هو: سعيد بن كثير بن عُفير الأنصاريّ مولاهم المصريّ، نُسب إلى جدّه، صدوقٌ عالم بالأنساب وغيرها، قال الحاكم:
(1)
"الفتح" 8/ 368.
يقال: إن مصر لم تُخْرج أجمعَ للعلوم منه، وقد ردّ ابن عبديّ على السعديّ في تضعيفه [10](ت 226)(خ م قد س) تقدم في "الأشربة" 1/ 5121.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَأَشَارَ لِي سُلَيْمَانُ
…
إلخ) هذا من قول سعيد بن عفير؛ يعني: أن شيخه سليمان بن بلال أشار له حين حدّثه بهذا الحديث إلى مكان جلوس سعيد بن المسيّب من المسجد النبويّ، وهو إلى ناحية المقصورة، قال الفيّوميّ رحمه الله: مقصورة الدار: الْحُجْرة منها، ومقصورة المسجد أيضًا، وبعضهم يقول: هي محوّلة عن اسم الفاعل، والأصل: قاصرة؛ لأنها حابسة، كما قيل:{حِجَابًا مَسْتُورًا} ؛ أي: ساترًا. انتهى
(1)
.
ويقال: إن أول من اتخذ المقصورة هو معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما بعد أن ضربه الخارجي، والقصّة مشهورة، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَدْ سَلَكَ فِي الأَمْوَالِ) قال ابنُ الأَثيرِ: المالُ في الأَصْلِ: ما يُمْلَكُ من الذَّهَب والفِضَّة، ثم أُطْلِقَ على كُلِّ ما يُقْتَنى ويُمْلَكُ من الأَعيان، وأَكثَرُ ما يُطلَقُ المالُ عندَ العربِ على الإبِلِ؛ لأَنَّها كانت أَكثَرَ أَموالِهِمْ. انتهى
(2)
.
والمراد هنا: البساتين، كما في الرواية الأخرى:"دخل حائطًا من حوائط المدينة".
وقوله: (قَدْ دَخَلَ مَالًا)؛ أي: بستانًا.
وقوله: (فَجَلَسَ فِي الْقُفِّ) القُفّ: ما ارتفع من متن البئر، وقال الداوديّ: ما حول البئر، والمراد هنا: مكان يبنى حول البئر للجلوس، والقُفّ أيضًا: الشيء اليابس، وفي أودية المدينة وادٍ يقال له: القُفّ، وليس مرادًا هنا
(3)
.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "ساق" ضمير سعيد بن عُفير.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
[تنبيه]: رواية سعيد بن عفير عن سليمان بن بلال هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فلْيُنْظَر، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 505.
(2)
"تاج العروس" 1/ 7524.
(3)
"الفتح" 16/ 510.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6196]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا إِلَى حَائِطٍ بِالْمَدِينَةِ لِحَاجَتِه، فَخَرَجْتُ فِي إِثْرِهِ. وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ، اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا، وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الْحَكَم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "اقتصّ" ضمير محمد بن جعفر. وقوله: (قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمُ، اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا، وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ) قال الداوديّ: كان سعيد بن المسيِّب لجودته في عبارة الرؤيا، يستعمل التعبير فيما يشبهها، وقال الحافظ: ويؤخذ منه أن التمثيل لا يستلزم التسوية، فإن المراد بقوله:"اجتمعت" مطلق الاجتماع، لا خصوص كون أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، كما كانوا على البئر، وكذا عثمان انفرد قبره عنهم، ولم يستلزم أن يكون مقابلهم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6684)
- حدّثنا سعيد بن أبي مريم، أخبرنا محمد بن جعفر، عن
(1)
"الفتح" 16/ 510.
شريك بن عبد الله، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى حائط من حوائط المدينة لحاجته، وخرجت في إثره، فلما دخل الحائط جلست على بابه، وقلت: لأكوننّ اليوم بواب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرني، فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقضى حاجته، وجلس على قُفّ البئر، فكشف عن ساقيه، ودلاهما في البئر، فجاء أبو بكر يستأذن عليه ليدخل، فقلت: كما أنت، حتى أستأذن لك، فوقف، فجئت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبيّ الله أبو بكر يستأذن عليك، قال:"ائذن له، وبشّره بالجنة"، فدخل، فجاء عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكشف عن ساقيه، ودلّاهما في البئر، فجاء عمر، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ائذن له، وبشّره بالجنة"، فجاء عن يسار النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكشف عن ساقيه، فد، هما في البئر، فامتلأ القُفّ، فلم يكن فيه مجلس، ثم جاء عثمان، فقلت: كما أنت حتى أستأذن لك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ائذن له، وبشّره بالجنة، معها بلاء يصيبه"، فدخل، فلم يجد معهم مجلسًا، فتحوّل حتى جاء مقابلهم على شفة البئر، فكشف عن ساقيه، ثم دلّاهما في البئر، فجعلت أتمنى أخًا لي، وأدعو الله أن يأتي. قال ابن المسيِّب: فتاوّلت ذلك قبورهم، اجتمعت ها هنا، وانفرد عثمان. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(4) - (بَابُ فَضَائِلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه
-)
هو: عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشيّ الهاشميّ أبو الحسن، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيق أبيه، واسمه عبد مناف على الصحيح، وُلد قبل البعثة بعشر سنين، على الراجح، وكان قد ربّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم من صِغَره، لقصة مذكورة في السيرة النبوية، فلازمه من صغره، فلم يفارقه إلى أن مات، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، وكانت ابنة عمة أبيه، وهي أول هاشمية وَلَدت لهاشميّ، وقد أسلمت، وصحبت، وماتت في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2599.
قال أحمد، وإسماعيل القاضي، والنسائيّ، وأبو علي النيسابوريّ: لم يَرِد في حقّ أحد من الصحابة رضي الله عنهم بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في عليّ رضي الله عنه، وكأنّ السبب في ذلك أنه تأخر، ووقع الاختلاف في زمانه، وخروج من خرج عليه، فكان ذلك سببًا لانتشار مناقبه، من كثرة من كان بيَّنها من الصحابة ردًّا على من خالفه، فكان الناس طائفتين، لكن المبتدعة قليلة جدًّا، ثم كان من أمر عليّ ما كان، فنجمت طائفة أخرى حاربوه، ثم اشتدّ الخطب، فتنقّصوه، واتخذوا لَعْنه على المنابر سنةً، ووافقهم الخوارج على بُغضه، وزادوا حتى كفّروه مضمومًا ذلك منهم إلى عثمان رضي الله عنه، فصار الناس في حقّ عليّ ثلاثةً: أهل السُّنَّة، والمبتدعة من الخوارج، والمحاربين له من بني أمية وأتباعهم، فاحتاج أهل السُّنَّة إلى بثّ فضائله، فكثر الناقل لذلك؛ لكثرة من يخالف ذلك، وإلا فالذي في نفس الأمر أن لكلّ من الأربعة من الفضائل، إذا حُرِّر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السُّنَّة والجماعة أصلًا.
وروى يعقوب بن سفيان بإسناد صحيح، عن عروة، قال: أسلم عليّ، وهو ابن ثمان سنين، وقال ابن إسحاق: عشر سنين، وهذا أرجحها، وقيل غير ذلك، ذَكَره في "الفتح"
(1)
.
وفي "الإصابة" ما ملخّصه: وشهد عليّ رضي الله عنه معه صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة:"ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولمّا آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له:"أنت أخي"، وكان قد اشتهر بالفروسية والشجاعة والإقدام.
وكان قَتْل عليّ رضي الله عنه في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة أشهر ونصف شهر؛ لأنه بويع بعد قتل عثمان في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكانت وقعة الجمل في جمادى سنة ست وثلاثين، ووقعة صفين في سنة سبع وثلاثين، ووقعة النهروان مع الخوارج في سنة ثمان وثلاثين، ثم أقام سنتين يُحَرِّض على قتال البغاة، فلم
(1)
"الفتح" 8/ 419 - 420، كتاب "الفضائل" رقم (3701).
يتهيأ ذلك إلى أن مات. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى: أبا الحسن، واسم أبي طالب: عبد مناف، وقيل: اسمه كنيته، واسم هاشم عمرو، وسُمِّي هاشِمًا؛ لأنَّه أوَّل من هشم الثريد، وأم علي فاطمة بنت أسد بن هاشم، وهي أوَّل هاشمية ولدت هاشميًّا، توفيت مسلمة قبل الهجرة، وقيل: إنها هاجرت، وكان علي أصغر ولد أبي طالب، كان أصغر من جعفر بعشر سنين، وكان جعفر أصغر من عَقِيل بعشر سنين. وكان عَقيل أصغر من طالب بعشر سنين. رُوي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدريّ، وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول من أسلم -يعنون من الرجال- وإلا فقد اتَّفَق الجمهور على أن أول من أسلم وأطاع النبيّ صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، وقد تقدَّم من قال: إن أول من أسلم أبو بكر رضي الله عنه.
وقد روى أبو عمر بن عبد البر عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولكم واردًا على الحوض أولكم إسلامًا: عليّ بن أبي طالب"
(2)
، قيل: أسلم وهو ابن سبع سنين، وقيل: ابن ثمان، وقيل: ابن عشر، وقيل: ابن ثلاث عشرة. وقيل: ابن خمس عشرة، وقيل: ابن ثمان عشرة.
وروى سلمة بن كهيل عن حبة بن جوين العرني قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: أنا أوَّل مَن صلَّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد عبدت الله قبل أن يعبده أحدٌ من هذه الأمة خمس سنين.
وروي عن عليّ رضي الله عنه؛ أنه قال: مكثت كذا وكذا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يصلِّي معه أحد غيري إلا خديجة.
وأجمعوا: على أنه رضي الله عنه صلَّى إلى القبلتين، وأنه شهد بدرًا وأُحدًا،
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 564 - 569.
(2)
ذكره صاحب "تنزيه الشريعة"(1/ 377)، وفي "اللآلئ المصنوعة"(1/ 169)، و"الموضوعات" لابن الجوزيّ، وقال: هذا حديث لا يصحّ.
ومشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، إلا غزوة تبوك، فإنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يتخلَّف في أهله، وقال له:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ "، وزوَّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدة نساء أهل الجنة؛ فاطمة رضي الله عنها، وآخى بينه وبينه، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق"، وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنه يحبُّه الله ورسوله، وأنَّه يحبُّ الله ورسوله".
وكان رضي الله عنه قد خُصَّ من العلم، والشجاعة، والحلم، والزهد، والورع، ومكارم الأخلاق ما لا يسعه كتاب، ولا يحويه حصر حساب، بويع له بالخلافة يوم مقتل عثمان رضي الله عنه، واجتمع على بيعته أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار؛ إلا نفرًا منهم، فلم يُكرههم، وسئل عنهم، فقال: أولئك قوم خَذَلوا الحقّ، ولم يعضدوا الباطل، وتخلف عن بيعته معاوية ومن معه من أهل الشام، وجرت عند ذلك خطوب لا يمكن حصرها، والتحمت حروب لم يُسمع في المسلمين بمثلها، ولم تزل ألويته منصورة عالية على الفئة الباغية إلى أن جرت قضيه التحكيم، وخُدع فيها ذو القلب السليم، وحينئذ خرجت الخوارج، فكفَّروه وكلَّ من معه، وقالوا: حكَّمت الرجال في دين الله، والله تعالى يقول:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، ثم اجتمعوا وشقُّوا عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم عليّ بمن معه، ورام رجوعهم فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان، فقَتَلهم واستأصل جميعهم، ولم ينج منهم إلا اليسير، وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم:"يقتلهم أَولى الطائفتين بالحقّ"، ثم انتدب إليه رجل من بقايا الخوارج يقال له: عبد الرحمن بن ملجم، قال الزبير: كان من حِمْيَر، فأصاب دماء فيهم، فلجأ إلى مراد، فنُسب إليهم، فدخل على عليّ في مسجده بالكوفة، فقتله ليلة الجمعة، وقيل: في صلاة صُبْحها، وقيل: لإحدى عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل: لثلاث عشرة، وقيل: لثمان عشرة، وقيل: في أول ليلة من العشر الآخر من رمضان سنة أربعين، واختُلف في موضع قبره اختلافًا كثيرًا يدلّ على عدم العلم به، وأنه مجهول، وكذلك اختُلف في سِنِّه يوم قُتل، فقيل: ابن سبع وخمسين إلى خمس وستين سنة، وكانت مدة خلافته أربع سنين وستة أشهر، وستة أيام، وقيل: ثلاثة. وقيل: أربعة عشر يومًا، فأُخِذ عبد الرحمن بن
ملجم، فقُتِل أشقى هذه الأمة، وكان عليّ رضي الله عنه إذا رآه يقول [من الوافر]:
أريدُ حَيَاتَهُ ويُرِيدُ قَتْلِي
…
عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرادِ
وكان يقول: ما يمنع أشقاها، أو ما ينتظر أشقاها أن يخضبَ هذه من هذا، والله ليخضبنَّ هذه من دم هذا -ويشير إلى لحيته ورأسه- خضاب دمٍ، لا خضاب حناء ولا عبير.
وقد روى النسائي وغيره من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعليّ رضي الله عنه: "أشقى الناس الذي عقر الناقة، والذي يضربك على هذا -ووضع يده على رأسه- حتى يخضب هذه"، يعني: لحيته.
وتأخر موته رضي الله عنه، ولا رضي عن قاتله- عن ضربه نحو الثلاثة الأيام.
وجملة ما حُفظ له من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وسبعة وثلاثون حديثًا، مثل أحاديث عمر رضي الله عنهما، أُخرج له منها في "الصحيحين" أربعة وأربعون حديثًا. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6197]
(2404) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، وَعُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيرِيُّ، وَسُرُيْجُ بْنُ يُونُسَ، كُلُّهُمْ عَنْ يُوسُفَ الْمَاجِشُونِ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الصَّبَاحِ- حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِر، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي"، قَالَ سَعِيدٌ: فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَافِهَ بِهَا سَعْدًا، فَلَقِيتُ سَعْدًا، فَحَدَّثْتُهُ بِمَا حَدَّثَنِي عَامِرٌ، فَقَالَ: أَنَا سَمِعْتُهُ، فَقُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ؟ فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْه، فَقَالَ: نَعَمْ، وَإِلَّا فَاسْتَكَّتَا).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) البزاز الدُّولابيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
(1)
"المفهم" 6/ 268 - 271.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ الْقَوَارِيريُّ) هو: عبيد الله بن عُمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصح، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
3 -
(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث، مَرُّوذيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
4 -
(يُوسُفُ أَبُو سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ) هو: يوسف بن يعقوب بن أبي سلمة الماجشون المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 185)، وقيل: قبل ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 28/ 1812.
5 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقون تقدّموا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين غير شيوخه، فإنهم بغداديّون، غير يحيى، فنيسابوريّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: ابن المنكدر، عن ابن المسيّب، عن عامر بن سعد، وفيه ابن المسيّب من الفقهاء السبعة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وآخر من مات منهم، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، ذو مناقب جمّة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ يُوسُفَ الْمَاجِشُونِ) قال النوويّ رحمه الله: وفي بعض النسخ: "يوسف بن الماجشون"، وكلاهما صحيح، وهوأبو سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة، واسم أبي سلمة دينار، والماجشون لقب يعقوب، وهو لقب جَرَى عليه، وعلى أولاده، وأولاد أخيه، وهو بكسر الجيم، وضم الشين المعجمة، وهو لفظ فارسيّ، ومعناه: الأحمر الأبيض الْمُوَرَّد، سُمِّي يعقوبُ بذلك؛ لحمرة وجهه، وبياضه. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 173 - 174.
قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِر، عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ) رضي الله عنه ("أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) هذا قاله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين خلّفه على أهله واستخلفه على المدينة، فيما قيل. ولمّا صَعُب على عليّ رضي الله عنه تخلَّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشقّ عليه، سكَّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم وآنسه بقوله:"أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ "، وذلك: أن موسى صلى الله عليه وسلم لمّا عزم على الذهاب لِمَا وعده الله به من المناجاة قال لهارون: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ} [الأعراف: 142].
وأخرج البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" من طريق الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك، واستخلف عليًّا، فقال: أتُخَلِّفُني في الصبيان والنساء؟ قال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي". وأخرج الحاكم في "الإكليل" من مرسل عطاء بن أبي رباح: فقال: "يا عليّ اخلُفني في أهلي، واضرب، وخذ، وعِظْ"، ثم دعا نساءه، فقال:"اسمعن لعليّ، وأطعن"
(1)
.
وأخرج النسائيّ في "السنن الكبرى" بسند صحيح، من طريق سعيد بن المسيِّب، عن سعد بن أبي وقاص قال: لَمّا غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك خَلّف عليًّا بالمدينة، فقالوا فيه: مَلَّه، وكره صُحْبته، فتبع عليّ النبي صلى الله عليه وسلم حتى لَحِقه بالطريق، فقال: يا رسول الله خَلّفتني بالمدينة مع الذراري والنساء، حتى قالوا: مَلّه، وكَرِه صحبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا علي إنما خَلّفتك على أهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي"
(2)
.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: كان هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم مَخْرَجه إلى غزوة تبوك، وقد خلّف عليًّا رضي الله عنه على أهله، وأمَره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالًا له، وتخفّفًا منه، فلما سمع به عليّ أخذ سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازلٌ بالجرف، فقال: يا
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 716.
(2)
"السُّنن الكبرى" 7/ 307 رقم الحديث (8082).
رسول الله زعم المنافقون كذا، فقال: "كذبوا، إنما خلّفتك لِمَا تركت ورائي، فارجع، فاخلفني في أهلي وأهلك، أما ترضى يا عليّ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ تأوّل قول الله تعالى:{وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} الآية [الأعراف: 142]. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة" عند قوله: "أنت منّي، وأنا منك" ما نصّه: قوله: "أنت" مبتدأ، و"مني" خبره، ومتعلق الخبر خاصّ، وكلمة "مني" هذه تسمى بـ "من" الاتصالية، ومعناه أنت متصل بي، وليس المراد به اتصاله من جهة النبوة، بل من جهة العلم، والقرب، والنسب، وكان أبو النبيّ صلى الله عليه وسلم شقيق أبي عليّ رضي الله عنه، وكذلك الكلام في قوله:"وأنا منك".
وفي حديث آخر: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" ومعناه: أنت متصل بي، ونازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه، ووجه التشبيه مبهم، وبيَّنه بقوله:"إلا أنه لا نبيّ بعدي"؛ يعني: أن اتصاله ليس من جهة النبوّة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة؛ لأنها تلي النبوة في المرتبة، ثم إنها إما أن تكون في حياته، أو بعد مماته، فخرج بعد مماته؛ لأن هارون مات قبل موسى عليه السلام فتبيّن أن يكون في حياته عند مسيره إلى غزوة تبوك؛ لأن هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم كان مَخرجه إلى غزوة تبوك، وقد خلّف عليًّا على أهله، وأمره بالإقامة فيهم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ "؛ أي: نازلًا مني منزلة هارون من موسى، والباء زائدة، وفي رواية سعيد بن المسيِّب عن سعد:"فقال عليّ: رضيتُ رضيتُ"، أخرجه أحمد.
ولابن سعد من حديث البراء بن أرقم في نحو هذه القصة: "قال: بلى يا رسول الله، قال: فإنه كذلك"، وفي أول حديثهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لعليّ:"لا بُدّ أن أُقيم، أو تقيم، فأقام عليّ، فسمع ناسًا يقولون: إنما خلّفه لشيء كرهه منه، فاتّبعه، فذَكر له ذلك، فقال له. . ." الحديث، وإسناده قويّ
(3)
.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3881.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 214.
(3)
"الفتح" 8/ 424.
(إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي") قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم تحذيرًا مما وقعت فيه طائفة من غلاة الرَّافضة؛ فإنَّهم قالوا: إن عليًّا نبي يوحى إليه، وقد تناهى بعضهم في الغلوّ إلى أن صار في عليّ إلى ما صارت إليه النصارى في المسيح، فقالوا: إنه الإله. وقد حرَّق عليّ رضي الله عنه من قال ذلك، فافتتن بذلك جماعة منهم، وزادهم ضلالًا، وقالوا: الآن تحققنا أنه الله؛ لأنَّه لا يعذِّب بالنار إلا الله، وهذه كلها أقوال عوام، جهَّال، سخفاء العقول، لا يُبالي أحدهم بما يقول، فلا ينفع سهم البرهان، لكن السَّيف والسِّنان. انتهى
(1)
.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: واحتجاج أهل الزيغ بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم أراد بذلك استخلافه، فقد أجابه عن ذلك أبو إسحاق المروزي بجواب على وجهين مجملين:
أحدهما: أن هارون كان خليفة موسى في حياته، ولم يكن عليّ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وإذا جاز أن يتأخر عليّ عن خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته على حسبما كان هارون خليفة موسى في حياته، جاز أن يتأخر بعد موته زمانًا، ويكون غيره مقدَّمًا عليه، ويكون معنى الحديث: القصد إلى إثبات الخلافة له، كما ثبتت لهارون، لا أنه استحق تعجيلها في الوقت الذي تعجّلها هارون من موسى عليه السلام.
والوجه الآخر: أن هذا الكلام إنما خرج من النبيّ صلى الله عليه وسلم تفضيل عليّ، ومعرفة حقه، لا في الإمامة؛ لأنه ليس كل من وجب حقه، وصار مفضّلًا استَحَقّ الإمامة؛ لأن هارون مات قبل موسى بزمان، فاستخلف موسى بعده يوشع بن نون، فهارون إنما كان خليفة لموسى في حياته، وقد عُلم أن عليًّا لم يكن خليفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حياته، ولم يكن هارون خليفة لموسى بعد موته، فيكون ذلك دليلًا على أن عليًّا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته.
قال أبو عمر: كان هذا القول من النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ حين استخلفه على المدينة في وقت خروجه غازيًا غزوة تبوك، وهذا استخلاف منه في حياته، وقد شَرِكه في مثل هذا الاستخلاف غيره ممّن لا يَدَّعي له أحد خلافةً جماعةٌ قد
(1)
"المفهم" 6/ 274.
ذَكَرهم أهل السُّنَّة، وقد ذكرناهم في "كتاب الصحابة"، وليس في استخلافه حين قال له ذلك القول دليل على أنه خليفة بعد موته، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(قَالَ سَعِيدٌ)؛ أي: ابن المسيِّب، (فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُشَافِهَ بِهَا)؛ أي: بهذه القصّة، (سَعْدًا)؛ أي: ابن أبي وقّاص رضي الله عنه بعد أن سمعها من ابنه عامر، زيادة في التأكّد، وهل هو سمعه منه صلى الله عليه وسلم بنفسه، أو بواسطة شخص آخر؟ (فَلَقِيتُ سَعْدًا، فَحَدَّثْتُهُ بمَا حَدَّثَنِي عَامِرٌ)؛ يعني: الحديث المذكور، (فَقَالَ) سعد رضي الله عنه (أنَا سَمِعْتُهُ)؛ أَي: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَقُلْتُ: آنْتَ) بالمدّ، أصله: أأنت بهمزتين، أُولاهما همزة الاستفهام، فأُبدلت الثانية ألفًا تخفيفًا. (سَمِعْتَهُ)؛ أي: هذا الحديث منه صلى الله عليه وسلم، ولفظ ابن حبّان:"فأحببت أن أسأله سعدًا، فقلت له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم". (فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ) تقدّم أن فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبُوع بوزن عُصفور، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة. (عَلَى أُذُنَيْه، فَقَالَ) سعد (نَعَمْ) سمعته، وقوله:(وَإِلَّا) هي "إن" الشرطيّة، أُدغمت في "لا" النافية، (فَاسْتَكَّتَا) بتشديد الكاف؛ أي: صُمّتا، يقال: استكّت مسامعه: بمعنى صُمّت
(2)
.
وقال المجد: السَّكَكُ مُحَرَّكَةً: الصَّمَمُ، وقِيلَ: صِغَرُ الأذُن، ولُزُوقُها بالرَّأْس، وقِلَّةُ إِشْرافِها، أَو صِغَرُ قُوفِ الأُذُن، وضِيقُ الصِّمَاخ، ويكونُ ذلِكَ في النّاسِ وغَيرِهِمْ. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: حديث الباب دون زيادة: "إلا أنه لا نبيّ بعدي" رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عن غير سعد من حديث عمر، وعليّ نفسه، وأبي هريرة، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، والبراء، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد، وأنس، وجابر بن سمرة، وحُبْشيّ بن جُنادة، ومعاوية، وأسماء بنت عُميس، وغيرهم،
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 22/ 132.
(2)
"المصباح المنير"282.
(3)
"القاموس المحيط" ص 626.
وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة عليّ، وقريب من هذا الحديث في المعنى حديث جابر بن سمرة قال صلى الله عليه وسلم لعليّ:"مَن أشقى الأَوَّلين؟ " قال: عاقر الناقة، قال:"فمن أشقى الآخِرين؟ "، قال: الله ورسوله أعلم، قال:"قاتِلُك"، أخرجه الطبرانيّ، وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد، ومن حديث صُهيب عند الطبرانيّ، وعن عليّ نفسه عند أبي يعلى، بإسناد ليّن، وعند البزار بإسناد جيّد، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6197 و 6198 و 6199 و 6200 و 6201](2404)، و (البخاريّ) في "الفضائل"(3706) و"المغازي"(4416)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3724)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 44 و 107 و 108 و 113 و 119 و 120 و 121 و 122 و 123 و 124 و 125)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(115 و 121)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(20390)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(209)، و (الحميديّ) في "مسنده"(71)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 173 و 179 و 185) وفي "فضائل الصحابة"(957)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6926 و 6927)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(698 و 709 و 738)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1342 و 1343)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 40) و "دلائل النبوّة"(5/ 220)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3907)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه ذو مكانة عند الله تعالى، حيث جعله من نبيّه صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى عليه السلام، وهذا غاية الفضل والكمال.
وقد وردت أحاديث في مناقبه رضي الله عنه في غير هذا الموضع، منها: حديث عمر: "عليّ أقضانا"، وله شاهد صحيح من حديث ابن مسعود عند الحاكم، ومنها حديث قتاله البغاة، وهو في حديث أبي سعيد: "تقتل عمارًا الفئة
(1)
"الفتح" 8/ 424 - 425، كتاب "الفضائل" رقم (3706).
الباغية"، وكان عمار مع عليّ، ومنها حديث قتاله الخوارج، وقد تقدم من حديث أبي سعيد وغير ذلك مما يُعرف بالتتبع، وأوعب مَن جمع مناقبه من الأحاديث الجياد: النسائيّ في "كتاب الخصائص"، وأما حديث: "من كنت مولاه فعليّ مولاه"، فقد أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وهو كثير الطرُق جدًّا، وقد استوعبها ابن عُقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح، وحسان، قال الحافظ: وقد رَوينا عن الإمام أحمد قال: ما بلَغنا عن أحد من الصحابة ما بلَغنا عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البرّ بإسناده إلى ضرار الصُّدائي، وقال له معاوية: صِفْ لي عليًّا، فقال: أعفني يا أمير المؤمنين! قال: صِفْه، قال: أما إذ لا بدّ من وَصْفه، فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلًا، ويحكم عدلًا، يتفجَّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس من الليل ووحشته، وكان غزير الدَّمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قَصُر، ومن الطعام ما خَشُن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويفتينا إذا استفتيناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقُربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يُعظِّم أهل الدِّين، ويُقرب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضًا على لحيته يتملل تملل السَّليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غُرِّي غيري، أإليّ تعرضتِ؟ أم إليّ تشوَّفت؟، هيهات هيهات! قد بَتَتُّك ثلاثًا، لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آهٍ من قلة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق؛ فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا حسن! كان والله كذلك، كيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حُزْن من ذُبح واحدها في حِجْرها، نقله القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"
(2)
.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": استُدِلّ بحديث الباب على استحقاق عليّ للخلافة دون غيره من الصحابة رضي الله عنهم، فإن هارون كان خليفة موسى.
وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته، لا بعد موته؛
(1)
"الفتح 8/ 452 - 426.
(2)
"المفهم" 6/ 277 - 278.
لأنه مات قبل موسى باتفاق، أشار إلى ذلك الخطابيّ، وقال الطيبيّ: معنى الحديث أنه متصلٌ بي، نازل مني منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه مبهمٌ بيَّنه بقوله:"إلا أنه لا نبي بعدي"، فعُرف أن الاتصال المذكور بينهما ليس من جهة النبوة، بل من جهة ما دونها، وهو الخلافة، ولمّا كان هارون المشبه به إنما كان خليفة في حياة موسى دلّ ذلك على تخصيص خلافة عليّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم بحياته، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله العلماء في قوله: "إلا أنه لا نبيّ بعدي" دليل على أن عيسى عليه السلام إذا نزل يَنزل حَكَمًا من حُكّام هذه الأمة، يدعو بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينزل نبيًّا. قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القاري بعد ذكر كلام النوويّ هذا: أقول: لا منافاة بين أن يكون نبيًّا ويكون متابعًا لنبيّنا صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام شريعته، وإتقان طريقته، ولو بالوحي إليه، كما يُشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم:"لو كان موسى حيًّا لَمَا وسعه إلا اتّباعي"
(3)
؛ أي: مع وصف النبوة والرسالة، وإلا فمع سَلْبهما لا يفيد زيادة المزيّة، فالمعنى أنه لا يحدُثُ بعده نبيّ؛ لأنه خاتم النبيين السابقين، وفيه إيماء إلى أنه لو كان بعده نبيّ لكان عليًّا، وهو لا ينافي ما ورد في حقّ عمر رضي الله عنه صريحًا
(4)
؛ لأن الحكم فَرْضيّ وتقديريّ، فكأنه قال: لو تُصُوّر بعدي نبيّ لكان
(1)
"الفتح" 8/ 425.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 174.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، ولفظه من طريق مُجَالد، عن الشعبي، عن جابر ابن عبد الله: أن عمر بن الخطاب أَتَى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب، فقال:"أَمُتَهَوِّكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء، فيخبروكم بحق، فتُكَذِّبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتّبعني". وفي سنده مجالد بن سعيد، والأكثرون على تضعيفه.
(4)
هو ما أخرجه أحمد، والترمذيّ بسند حسن من طريق مِشْرَح بن هَاعَان، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث مشرح بن هاعان.
جماعة من أصحابي أنبياء، ولكن لا نبيّ بعدي، وهذا معنى حديث:"لو عاش إبراهيم لكان صدّيقًا نبيًّا"
(1)
.
وأما حديث: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل"، فقد صرّح الحفّاظ؛ كالزركشيّ، والعسقلانيّ، والدميريّ، والسيوطيّ أنه لا أصل له. قاله القاريّ رحمه الله
(2)
.
وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: لا أصل له باتفاق العلماء، وهو مما يَستدلّ به القاديانية الضالّة على بقاء النبوّة بعده صلى الله عليه وسلم، ولو صحّ لكان حجة عليهم، كما يظهر بقليل من التأمّل. انتهى
(3)
. والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث مما تعلقت به الروافض، والإمامية، وسائر فرق الشيعة، في أن الخلافة كانت حقًّا لعلي، وأنه وصّى له بها، قال: ثم اختلف هؤلاء، فكفّرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره، وزاد بعضهم، فكفّر عليًّا؛ لأنه لم يَقُم في طلب حقّه بزعمهم، وهؤلاء أسخف مذهبًا، وأفسد عقلًا من أن يُرَدّ قولهم، أو يُناظَر.
وقال القاضي: ولا شك في كفر من قال هذا؛ لأن من كفّر الأمة كلها، والصدر الأول خصوصًا، فقد أبطل نَقْل الشريعة، وهَدَم الإسلام، وأما من عدا هؤلاء الغُلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك الشنيع القبيح، ومن ارتكبه منهم ألحقناه بمن تقدّم في التكفير، ومأواه جهنّم، وبئس المصير.
وأما الإمامية، وبعض المعتزلة، فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره لا كُفّار، وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة؛ لجواز تقديم المفضول عندهم.
وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم، بل فيه إثبات فضيلة لعليّ، ولا
(1)
هذا أثر أنس رضي الله عنه، أخرجه أحمد بسند حسن، وأخرجه البخاريّ، وأحمد، وابن ماجه، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن عبد الله بن أبي أوفى، قال: رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: مات صغيرًا، ولو قُضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه، ولكن لا نبي بعده.
(2)
"المرقاة" 10/ 455 - 456.
(3)
راجع: "السلسلة الضعيفة" 1/ 480 رقم الحديث (466).
تعرّض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله، وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعليّ حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك، ويؤيد هذا أن هارون المشبَّه به لم يكن خليفةً بعد موسى، بل تُوفي في حياة موسى، وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة، على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص، قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة، فلما رجع موسى عليه السلام من مناجاته عاد هارون إلى أول حالاته، على أنه قد كان هارون شُرِّك مع موسى في أصل الرسالة، فلا تكون لهم فيما راموه دلالة.
وغاية هذا الحديث أن يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما استخلف عليًّا رضي الله عنه على المدينة فقط، فلما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من تبوك قعد مقعده، وعاد عليّ رضي الله عنه إلى ما كان عليه قبلُ، وهذا كما استَخلَف رسول الله غبهيمّ على المدينة ابنَ أُمّ مكتوم وغيرَه، ولا يلزم من ذلك استخلافه دائمًا بالاتفاق
(1)
.
وقال الطيبيّ بعدما ذكر نحو ما تقدّم ما نصّه:
أقول: وتحريره من جهة علم المعاني أن قوله: "منّي" خبر للمبتدإ، و"من" اتّصاليّة، ومتعلّق الخبر خاصّ، والباء زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ} الآية [البقرة: 137]؛ أي: فإن اَمنوا إيمانًا مثل إيمانكم؛ يعني: أنت متّصل بي، ونازل منّي منزلة هارون من موسى، وفيه تشبيه، ووجه الشبه منه لم يُفهم أنه رضي الله عنه فيما شبّهه به صلى الله عليه وسلم، فبيّن بقوله:"إلا أنه لا نبي بعدي"، أن اتّصاله به ليس من جهة النبوّة، فبقي الاتّصال من جهة الخلافة؛ لأنها تلي النبوّة في المرتبة، ثم إما أن يكون حال حياته، أو بعد مماته، فخرج من أن يكون بعد مماته؛ لأن هارون عليه السلام مات قبل موسى، فتعيّن أن يكون في حياته عند مسيره إلى غزوة تبوك. انتهى
(2)
.
وخلاصته: أن الخلافة الجزئيّة في حياته لا تدلّ على الخلافة الكلية بعد مماته، لا سيّما وقد عُزل عن تلك الخلافة برجوعه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. قاله القاري
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 174، و"المفهم" للقرطبيّ 6/ 273.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3882.
(3)
"المرقاة" 10/ 455.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق بطلان استدلال الشيعة والرافضة بهذا الحديث على أن الخلافة بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه، نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، آمين. والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6198]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَم، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِب فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاء، وَالْصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ:"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي؟ ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة الْكِنْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه رُبّما دلّس [5](ت 113) أو بعدها، وله نيّف وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 103)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 541.
والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة الماضية.
وقوله: (خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ) بتشديد اللام؛ أي: جعله خليفته في أهله، وعلى المدينة.
وقوله: (فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) مكان معروف، هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، وبينه وبين المدينة من جهة الشام أربع عشرة مرحلة، وبينه وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة، والمشهور فيه عدم الصرف؛ للتأنيث والعَلَمية، ومَنْ صَرَفه أراد الموضع.
وغزوة تبوك كانت في شهر رجب من سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف، وكان السبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره، قالوا: بلغ
المسلمين من الأنباط الذين يَقْدَمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعًا، وأجلبت معهم لخم، وجُذام، وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدّمتهم إلى البلقاء، فندب النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمَهم بجهة غزوهم، وسيأتي البحث في هذا مستوفًى في "كتاب التوبة" عند شرح الحديث الطويل في توبة كعب بن مالك، وصاحبيه رضي الله عنهم -إن شاء الله تعالى-.
وقوله: (تُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاء، وَالْصِّبْيَانِ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أتخلّفني
…
إلخ.
وقوله: (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي
…
إلخ) "أما أداة عرض وتحضيض، مثل "ألا" في قوله عز وجل: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} الآية [النور: 22] ".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6199]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7. و"شعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ عن شعبة هذه ساقها أبو نعيم رحمه الله في "حلية الأولياء"، فقال:
حدّثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود (ح) وحدّثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، ثنا محمد بن جعفر (ح) وحدّثنا سليمان بن أحمد، ثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدّد، ثنا يحيى بن سعيد (ح) وحدّثنا أبو إسحاق بن حمزة، ثنا أبو زكريا الحنائيّ،
ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، قالوا: ثنا شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن سعد، قال: خَلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي"، قال: صحيح مشهور من حديث شعبة، عن الحكم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6200]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -وَهُوَ: ابْنُ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟ فَقَالَ: أمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا، قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَنْ أَسُبَّهُ؛ لأَنْ تّكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ، خَلَّفَهُ
(2)
فِي بَعْضِ مَغَازِيه، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ الله، خَلَّفْتَيني مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنَي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي؟ "، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:"لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَتَطَاوَلْنَا لَهَا، فَقَالَ:"ادْعُوا لِي عَلِيًّا"، فَاُتيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي عَيْنِه، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْه، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْه، وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَفَاطِمَةَ، وَحَسَنًا، وَحُسَيْنًا، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان، تقدّم قبل باب.
2 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، أصله
(1)
"حلية الأولياء" 7/ 196.
(2)
وفي نسخة: "وقد خلّفه"، وفي أخرى:"وخلّفه".
من الكوفة، صحيح الكتاب، صدوقٌ يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
3 -
(بُكَيْرُ بن مِسْمَارٍ) الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، أخو مهاجر، صدوقٌ [4].
روى عن ابن عمر، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وزيد بن أسلم، وغيرهم.
وروى عنه حاتم بن إسماعيل، وأبو بكر الحنفيّ، وعمرو بن محمد العنقزي، والواقديّ، وغيرهم.
قال البخاريّ: فيه نَظَر، وقال العجليّ: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن عبديّ: مستقيم الحديث.
وأرّخ الذهبيّ وفاته تَبَعًا لابن حبان سنة (153)، وقال الحاكم: استَشهد به مسلم في موضعين
(1)
، وقال ابن حبان في "الثقات": وليس هذا ببكير بن مسمار الذي يروي عن الزهريّ ذاك ضعيف، وقال في "الضعفاء" في ترجمة الذي يروي عن الزهريّ: وقد قيل: إنه بكير الدامغانيّ، قال: وليس هذا أخَا مهاجر، ذاك ثقةٌ، قال الحافظ: وأما البخاريّ فجَمَع بينهما في "التاريخ"، لكنه ما قال: فيه نَظَر إلا عندما ذَكَر روايته عن الزهريّ، ورواية أبي بكر الحنفيّ عنه. انتهى
(2)
.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، برقم (2404)، وحديث (2412):"ارم فداك أبي وأمي. . ." الحديث، و (2965):"إن الله يحبّ العبد التقيّ الغنيّ الخفيّ".
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ) رضي الله عنهما (سَعْدًا)؛ أي: ابن أبي وقّاص رضي الله عنه، (فَقَالَ: مَا
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: بل في ثلاثة مواضع، كما سأبيّنه آخر الترجمة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(2)
"تهذيب التهذيب" 1/ 434.
مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَاب)؛ يعني: عليًّا رضي الله عنه، وأبو التراب كُنيته، وتقدّم أنه صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه به، وأنه أَحب كنيته إليه.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول معاوية لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: "ما منعك أن تسبَّ أبا تراب" يدلّ على أن مقدَّم بني أميَّة كانوا يسبُّون عليًّا، وينتقصونه، وذلك كان منهم لِمَا وَقَرَ في أنفسهم من أنه أعان على قتل عثمان، وأنه أسْلَمَه لمن قَتَله؛ بناءً منهم على أنه كان بالمدينة، وأنه كان متمكنًا من نُصرته، وكل ذلك ظنّ كذب، وتأويلٌ باطلٌ غطَّى التعصُّب منه وجه الصَّواب، وقد قدمنا: أن عليًّا رضي الله عنه أقسم بالله أنه ما قتله، ولا مالأ على قتله، ولا رضيه. ولم يقل أحد من النقلة قط، ولا سُمع من أحد أن عليًّا كان مع القتلة، ولا أنه دخل معهم الدَّار عليه، وأما تَرْك نُصرته؛ فعثمان رضي الله عنه أسلمَ نفسه، ومَنَع من نُصرته، كما ذكرناه في بابه.
ومِمَّا تشبَّثوا به: أنهم نسبوا عليًّا إلى تَرْك أخْذ القِصاص من قتلة عثمان، وإلى أنه مَنَعهم منهم، وأنَّه قام دونهم، وكل ذلك أقوال كاذبة أنتجت ظنونًا غير صائبة، ترتَّب عليها ذلك البلاء كما سبق به القضاء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ أيضًا: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنهما، ومنزلته، وعظيم حقه، ومكانته، وعند ذلك يَبْعد على معاوية أن يصرِّح بلعنه وسبِّه؛ لِمَا كان معاوية موصوفًا به من الفضل والدِّين، والحلم، وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيها قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا التراب؟ وهذا ليس بتصريح بالسبّ، وإنَّما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولمّا سمع ذلك معاوية سكت، وأذعن، وعرف الحق لمستحقه، ولو سلّمنا: أن ذلك من معاوية حَمْل على السَّب، فإنَّه يَحْتمل أن يكون طلب منه أن يسبَّه بتقصير في اجتهاد في إسلام عثمان لقاتليه، أو في إقدامه على الحرب والقتال للمسلمين، وما أشبه ذلك مما يمكن أن يقصر بمثله من أهل الفضل، وأما التصريح باللعن، وركيك القول، كما قد
(1)
"المفهم" 6/ 272.
اقتحمه جهَّال بني أمية وسفلتهم، فحاشا معاوية منه، ومن كان على مثل حاله من الصحبة، والدِّين، والفضل، والحلم، والعلم، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دَخَلٌ على صحابيّ يجب تأويلها، قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، فقول معاوية رضي الله عنه هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدًا بسبّه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورعًا، أو خوفًا، أو غير ذلك، فإن كان تورعًا وإجلالًا له عن السبّ فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعدًا رضي الله عنه قد كان في طائفة يسبّون، فلم يسبّ معهم، وعجز عن الإنكار، أوأنكر عليهم، فسأله هذا السؤال، قالوا: ويَحْتَمِل تأويلًا آخر، أن معناه: ما منعك أن تخطّئه في رأيه، واجتهاده، وتُظهر للناس حُسْن رأينا، واجتهادنا، وأنه أخطأ. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) سعد (أَمَّا مَا)"أما" هي الشرطيّة التي ذَكَرها ابن مالك رحمه الله في قوله:
"أمَّا" كَـ "مَهْمَا يَكُ مَنْ شَيْءٍ"وفَا
…
لِتِلْوِ تِلْوِهَا وُجُوبًا أُلِفَا
و"ما" مصدريّة ظرفيّة، وَصِلَتُها قوله:(ذَكَرْتُ) بضمّ التاء للمتكلّم، (ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث خصال (قَالَهُنَّ لَهُ)؛ أي: لعليّ رضي الله عنه (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(فَلَنْ أَسُبَّهُ) جواب "أما"، والتقدير: أما مُدّة ذِكري ثلاث خصال قالها النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه، فلن أسبّه؛ لكونه بريئًا من أسباب السبّ؛ فكيف أسبّه؟.
وعند أبي يعلى عن سعد رضي الله عنه من وجه آخر، لا بأس به:"قال: لو وُضع المنشار على مفرقي، على أن أَسبّ عليًّا ما سببته أبدًا".
ثمّ فخّم سعد رضي الله عنه شأن تلك الخصال بقوله: (لأَنْ تَكُونَ) اللام للابتداء، و"أن" مصدريّة. (لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ)؛ أي: من تلك الخصال الثلاث، (أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ) بضمّ الحاء المهملة، وسكون الميم: جمع أحمر. (النَّعَمِ) بفتحتين المراد به هنا الإبل، وإن كان في الأصل يُطلق على غيرها، قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّعَمُ: المال الراعي، وهو جَمْع لا واحد له من لَفْظه، وأكثر ما يقع على
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 175 - 176.
الإبل، قال أبو عبيد: النَّعَمُ: الْجِمال فقط، ويؤنث، ويذكَّر، وجَمْعه نُعْمَانٌ، مثل حَمَل وحُمْلان، وأَنْعَامٌ أيضًا، وقيل: النَّعَمُ: الإبل خاصّةً، والأَنْعَامُ: ذوات الْخُفّ، والظلف، وهي الإبل، والبقر، والغنم، وقيل: تُطلق الأنعام على هذه الثلاثة، فإذا انفردت الإبل فهي نَعَمٌ، وإن انفردت البقر، والغنم لم تسمَّ نَعَمًا. انتهى
(1)
.
وإنما خصّ حُمْر النعم؛ لأنها أعزّ أنفس الأموال عند العرب، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الخصلة الأولى، وهي كونه من النبيّ صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى عليه السلام فقال رحمه الله.
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ)؛ أي: لعليّ رضي الله عنه، (خَلَّفَهُ) بتشديد اللام، وفي بعض النُّسخ:"وقد خلّفه"، وفي أخرى:"وخلّفه"، والمعنى: تركه بعد ذهابه في أهله، وعلى المدينة، (فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ) تقدّم أنها غزوة تبوك في السنة التاسعة، (فَقَالَ لَهُ) صلى الله عليه وسلم (عَلِيٌّ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ الله، خَلَّفْتَنِي)؛ أي: تركتني بعدك، يَحتمل أن يكون إخبارًا بذلك على سبيل التحسّر، والتحزّن، ويَحتمل أن يكون بتقدير همزة الاستفهام، (مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟)؛ أي: مع الضعفاء الذين عَذَرَهم الله تعالى عن الجهاد، وأنا في الأقوياء الذين لا عُذر لهم، (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) عليه السلام (إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي؟ ") إذ أنا خاتم الأنبياء، كما قال تعالى:{وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
ثم ذكر الخصلة الثانية، كونه يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، فقال:
(وَسَمِعْتُهُ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ)؛ أي: يوم غزوة خيبر بوزن جعفر، مدينة كبيرة على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، غزاها صلى الله عليه وسلم في المحرّم سنة سبع، فحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فَتَحها في صفر، وقد تقدّم البحث فيها مستوفًى في "كتاب الجهاد".
(1)
"المصباح المنير" 2/ 613 - 617.
("لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ)؛ أي: العَلَم، قال الفيّوميّ رحمه الله: الراية: عَلَم الجيش، يقال: أصلها الهمز، لكن العرب آثرت تَرْكه تخفيفًا، ومنهم من يُنكر هذا القول، ويقول: لم يُسمَع الهمز، والجمع رايات. انتهى
(1)
.
وقوله: (رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ") قال في "الفتح":
أراد بذلك وجود حقيقة المحبة، وإلا فكل مسلم يشترك مع عليّ في مطلق هذه الصفة، وفي الحديث تلميح بقوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31]، فكانه أشار إلى أن عليًّا تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اتصف بصفة محبة الله له، ولهذا كانت محبته علامة الإيمان، وبغضه علامة النفاق، كما أخرجه مسلم من حديث عليّ رضي الله عنه نفسِهِ:"قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إنه لَعَهْد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق"، وله شاهد من حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أحمد. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلان على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي إخباره عن فتح خيبر، ووقوعه على نحو ما أخبر، وبرء رَمَد عين عليّ رضي الله عنه على فَوْر دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي غير كتاب مسلم: أنه مسح على عينيّ عليّ، ورقاه. انتهى
(3)
.
وفيه من الفقه: جواز المدح بالحق إذا لم تُخْشَ على الممدوح فتنة. وقد تقدَّم القول في محبة الله.
وفيه ما يدل: على أن الأَولى بدفع الراية إليه من اجتمع له الرئاسة، والشجاعة، وكمال العقل.
(قَالَ) سعد (فَتَطَاوَلْنَا لَهَا)؛ أي: حرصنا عليها، وأصل التطاول: الامتداد والارتفاع، والمراد: رَفَعنا وجوهنا، وأظهرنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليتذكّرنا، عسى أن يختارنا لهذه السعادة
(4)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ادْعُوا لِي عَلِيًّا"، فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، (بِهِ أَرْمَدَ)؛ أي:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 246.
(2)
"الفتح" 8/ 420 - 421.
(3)
"المفهم" 6/ 274 - 275.
(4)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 104.
وَجِعُ العين، وفي "التاج": الرَّمَدُ بالتحريك: هَيَجَان العَيْن، وانتفاخها؛ كالارْمِداد. انتهى
(1)
.
(فَبَصَقَ فِي عَيْنِهِ)؛ أي: رَقَى صلى الله عليه وسلم عين عليّ ببصاقه المبارك، وفي رواية أخرى أنه برئ من ساعته. (وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْه، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ)، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد:"فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وفَدَك، وجاء بعَجْوتهما".
ثم ذكر الخصلة الثالثة، وهي قوله صلى الله عليه وسلم له ولزوجته، وولديهما:"اللهم هؤلاء أهل بيتي"، فقال:(وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا، وَفَاطِمَةَ، وَحَسَنًا، وَحُسَيْنًا، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهْلِي") قال الراغب الأصبهانيّ: أهل الرجل من يجمعه وإياهم نَسَب، أو دينٌ، أو ما يجري مجراهما، من صناعة، وبيت، وبلد، فأهل بيت الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن، ثم تُجُوّز فيه، وقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسبٌ، وتُعُوْرِف في أُسرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعشيرته مطلقًا إذا قيل:"أهل البيت"؛ لقوله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]، وعبّر بأهل الرجل عن امرأته، وأهل الإسلام الذين يجمعهم دين محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: هذه الآية هي آية المباهلة، وسبب نزولها وفد نجران.
أخرج البخاريّ، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو نعيم في "الدلائل" عن حذيفة رضي الله عنه أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعَنَنا لا نُفلح نحن ولا عَقِبنا من بعده، فقالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلًا أمينًا، فقال:"قم يا أبا عبيدة -فلما وقف قال-: هذا أمين هذه الأمة"
(3)
.
وأخرج الحاكم، وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في "الدلائل" عن
(1)
"تاج العروس" 1/ 1995.
(2)
"مفردات الألفاظ" للراغب الأصفهانيّ ص 94.
(3)
"الدر المنثور" 2/ 230.
جابر رضي الله عنه قال: "قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم العاقب والسيد، فدعاهما إلى الإسلام، فقالا: أسلمنا يا محمد، قال: كذبتما، إن شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الإسلام، قالا: فهات، قال: حب الصليب، وشرب الخمر، وأكل لحم الخنزير. قال جابر: فدعاهما إلى الملاعنة، فواعداه إلى الغد، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيد عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه، وأقرّا له، فقال: والذي بعثني بالحقّ لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارًا، قال جابر: فيهم نزلت: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، قال جابر: أنفسنا وأنفسكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليّ، وأبناءنا: الحسن، والحسين، ونساءنا فاطمة".
وأخرج الحاكم، وصححه عن جابر رضي الله عنه:"أن وفد نجران أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو رُوح الله، وكلمته، وعبد الله ورسوله"، قالوا له: هل لك أن نلاعنك أنه لشى كذلك؟ قال: وذاك أحب إليكم؟، قالوا: نعم، قال: فإذا شئتم، فجاء، وجمع ولده الحسن والحسين، فقال رئيسهم: لا تلاعنوا هذا الرجل، فوالله لئن لاعنتموه، ليُخسفنّ بأحد الفريقين، فجاؤوا، فقالوا: يا أبا القاسم إنما أراد أن يلاعنك سفهاؤنا، دانا نحب أن تُعفينا، قال: قد أعفيتكم، ثم قال: إن العذاب قد أظلّ نجران"
(1)
.
وأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق عطاء والضحاك، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ثمانية من أساقف العرب، من أهل نجران قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم العاقب والسيد، فأنزل الله:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا} إلى قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} يريد: نَدْعُ الله باللعنة على الكاذب، فقالوا: أخّرنا ثلاثة أيام، فذهبوا إلى بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع، فاستشاروهم، فأشاروا عليهم أن يصالحوه، ولا يلاعنوه، وهو النبيّ الذي نجده في التوراة، فصالَحوا النبيّ صلى الله عليه وسلم على ألف حُلّة في صَفَر، وألف في رجب، ودراهم
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"الدر المتثور" 2/ 231.
(2)
"الدر المنثور" 2/ 232.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6201]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ:"أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص، تقدم في "السلام" 16/ 5765.
والباقون ذُكروا قبل حديثين، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6202]
(2405) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ"، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَتَسَاوَرْتُ لَهَا رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، وَقَالَ: "امْش، وَلَا تَلْتَفِتْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ"، قَالَ: فَسَارَ عَلِيٌّ شَيْئًا، ثُمَّ وَقَفَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَصَرَخَ: يَا رَسُولَ الله، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: "قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"سُهيل" هو: ابن أبي صالح، و"أبوه": ذكوان السمّان.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمٍ خَيْبَرَ)؛ أي: يوم غزوة خيبر، وقد تقدّم بيانها. ("لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (مَا أَحْبَبْتُ الإِمَارَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ)؛ أي: لما فيه من الشرف العظيم، حيث وُصف أميرها بكونه يحبّ الله ورسوله، ويُحبّه الله ورسوله، وأن فتح خيبر يكون على يديه. (قَالَ) عمر (فَتَسَاوَرْتُ لَهَا) -بالسين المهملة، وبالواو، ثم الراء- ومعناه: تطاولت لها، كما صرِّح في الرواية الأخرى؛ أي: حَرَصت عليها، وأظهرت وجهي، وتصديت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليراني، ويتذكّرني، (رَجَاءَ أَنْ أُدْعَى لَهَا) بالبناء للمفعول، و"رجاء" منصوب على أنه مفعول لأجله، كما قال في "الخلاصة":
يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ
…
أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ "جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"
(قَالَ) أبو هريرة، ويَحْتَمل أن يكون الفاعل عمر، (فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (فَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا)؛ أي: الراية، (وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("امْشِ)؛ أي: اذهب إلى أهل خيبر، (وَلَا تَلْتَفِتْ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الالتفات يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: أنه على ظاهره؛ أي: لا تلتفت بعينيك، لا يمينًا، ولا شمالًا، بل امض على جهة قصدك.
والثاني: أن المراد الحثّ على الإقدام، والمبادرة إلى ذلك، وحَمَله عليّ رضي الله عنه على ظاهره، ولم يلتفت بعينه حين احتاج، وفي هذا حَمْل أمره صلى الله عليه وسلم-
على ظاهره، وقيل: يَحْتَمِل أن المراد: لا تنصرف بعد لقاء عدوك حتى يفتح الله عليك. انتهى
(1)
.
(حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ") فيه تشجيع له، وتحريض على مواجهتهم وقتالهم دون أن يكون له فتور، ولا التفات إلى غيرهم. (قَالَ) أبو هريرة (فَسَارَ عَلِيُّ) رضي الله عنه (شَيْئًا)؛ أي: سيرًا قليلًا، (ثُمَّ وَقَفَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ) امتثالًا لأمره صلى الله عليه وسلم بعدم الالتفات، (فَصَرَخَ)؛ أي: رفع صوته ليسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قائلًا (يَا رَسُولَ الله، عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ؟)، وفي حديث سهل التالي:"فقال عليّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ ". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ)، وفي حديث سهل المذكور:"فقال: انفُذ على رِسْلك، حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم". (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ)؛ أي: شهدوا الشهادتين، (فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ)؛ أي: لكونهم مسلمين، و"كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه". (إِلَّا بِحَقِّهَا)؛ أي: الدماء والأموال؛ يعني: هي معصومة، إلا عن حقٍّ يجب فيها، كقَوَدٍ، ورِدّة، وحَدّ، وترك صلاة، وزكاة بتأويل باطل، وحقّ آدمي، فالباء بمعنى "عن"، أو "من"؛ أي: فقد منعوها إلا عن حقها، أو من حقها، أو إلا بحق كلمة التوحيد، وحقها ما تبعها من الأفعال، والأقوال الواجبة التي لا يتم الإسلام إلا بها، فالمتلفظ بكلمة التوحيد يطالَب بهذه الفروض بعدُ. ففائدة النص عليه، دَفْع توهّم أن قضية جعلِ غايته المقاتَلة وجود ما ذُكر: أن من شَهِد عُصم دمه، وإنْ جَحَد الأحكام
(2)
.
(وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ")؛ أي: فيما يسترون من الكفر، والمعاصي بعد ذلك، والجملة مستأنفة، أو معطوفة على جزاء الشرط، والمعنى: إنا نحكم بظاهر الحال، والإيمان القوليّ، ونرفع عنهم ما على الكفار، ونؤاخذهم بحقوق الإسلام بحسب ما يقتضيه ظاهر حالهم، لا أنهم مخلصون، والله يتولى
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 177.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 189.
حسابهم، فيثيب المخلص، ويعاقب المنافق، ويجازي المصرّ بفسقه، أو يعفو عنه
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى: "وحسابهم على الله": إنا نَكُفّ عنه في الظاهر، وأما بينه وبين الله تعالى، فإن كان صادقًا مؤمنًا بقلبه نفعه ذلك في الآخرة، ونجا من النار، كما نفعه في الدنيا، وإلا فلا ينفعه، بل يكون منافقًا من أهل النار. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6202](2405)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 110 و 179)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 384)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه معجزات ظاهرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولية، وفعلية، فالقولية: إعلامه صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يفتح على يديه، فكان كذلك، والفعلية: بُصاقه صلى الله عليه وسلم في عينه، وكان أرمد، فبرأ من ساعته.
2 -
(ومنها): أن فيه فضائلَ ظاهرةً لعليّ رضي الله عنه، وبيان شجاعته، وحُسْن مراعاته لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبة لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحبهما إياه.
3 -
(ومنها): أن فيه الدعاء إلى الإسلام قبل القتال، وقد قال بإيجابه طائفة على الإطلاق، قال النوويّ رحمه الله: ومذهبنا، ومذهب آخرين أنهم إن كانوا ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام وجب إنذارهم قبل القتال، وإلا فلا يجب، لكن يستحبّ، وقد سبقت المسألة مبسوطة في أول "كتاب الجهاد"، وليس في هذا ذِكر الجزية، وقبولها إذا بذلوها، ولعله كان قبل نزول آية الجزية، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه الدَّعوة قبل القتال التي تقدَّم القول فيها في
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 7/ 281.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 178.
"الجهاد"، وقد فسَّرها في الرواية الأخرى في مسلم قال:"فصرخ عليٌّ: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟ قال: قاتِلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسول الله، فإذا فعلوا فقد منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله"، فهذا هو حقّ الله المذكور في الرواية المتقدِّمة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على قبول الإسلام، سواءٌ كان في حال القتال، أم في غيره.
5 -
(ومنها): أنه يُشترط في صحة الإسلام النطق بالشهادتين، فإن كان أخرس، أو في معناه كَفَتْه الإشارة إليهما، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6203]
(2406) - (حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْني: ابْنَ أَبِي حَازِمِ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ (ح) وَحَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ -وَاللَّفْظُ هَذَا- حَدَّثَنَاَ يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -عَنْ أَبِي حَازِم، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ:"لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الًرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْه، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ"، قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ
(2)
أيّهُمْ يُعْطَاهَا، قَالَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ:"أَيْنَ عَلِئ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ "، فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْه، قَالَ: فَأَرْسَلُوا إِلَيْه، فَأُتِيَ بِه، فَبَصَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْه، وَدَعَا لَهُ، فَبَرَأَ، حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ الله، أُقاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ فَقَالَ:"انْفُذْ عَلَى رِسلِكَ، حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَام، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، مِنْ حَقِّ اللهِ فِيه، فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ").
(1)
"المفهم" 6/ 276.
(2)
وفي نسخة: "يذكرون ليلتهم".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، صدوقٌ فقيهٌ [8](ت 184)، وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
2 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5] مات في خلافة المنصور سنة (140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
3 -
(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العباس، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
والباقيان ذُكرا قبله، و"يعقوب بن عبد الرحمن" هو: القاريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (478) من رباعيّات الكتاب، وفيه رواية الابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَازِم) سلمة بن دينار الأعرج المدنيّ، أنه قال:(أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ) السًاعديّ رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ)؛ أي: يوم غزوة خيبر، ("لأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ)، وفي حديث بريدة:"إني دافع اللواء غدًا إلى رجل يحبه الله ورسوله".
والراية: بمعنى اللواء، وهو العَلَم الذي في الحرب، يُعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يَحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدّم العسكر، وقد صرّح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، لكن رَوَى أحمد، والترمذيّ، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض"، ومثله عند الطبرانيّ عن بريدة، وعند ابن عبديّ عن أبي هريرة، وزاد:"مكتوبًا فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفيّةٌ، وقد ذكر ابن إسحاق، وكذا أبو الأسود، عن عروة، أن أول ما وُجدت
الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الألوية
(1)
.
(رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ)، وفي رواية ابن إسحاق:"ليس بفرّار"، وفي حديث بريدة:"لا يرجع حتى يفتح الله له"، (يُحِبُّ اللهَ) تعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَيُحِبُّهُ اللهُ) تعالى (وَرَسُولُهُ") صلى الله عليه وسلم (قَالَ) سهل (فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ) -بالدال المهملة، وبالكاف-؛ أي: يخوضون، من الدَّوْكة، وهو الاختلاط، والخوض، يقال: بات القوم يدوكون دَوْكًا: إذا باتوا في اختلاط، ودَوَران، وقيل: يخوضون، ويتحدثون في ذلك
(2)
، وفي بعض النسخ:"يذكرون" بالذال المعجمة بدل الدال، من الذكر، وفي حديث أبي هريرة الماضي:"أن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ"، وفي حديث بُريدة:"فما منا رجل له منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجوأن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، فدعا عليًّا، وهو يشتكي عينه، فمسحها، ثم دفع إليه اللواء"، وفي حديث سلمة بن الأكوع التالي:"قال: فأرسلني إلى عليّ، قال: فجئت به أقوده، أَرْمَدَ، فبَزَق في عينه، فبرأ". (أيُّهُمْ يُعْطَاهَا، قَالَ) سهل (فَلَمَّا أَصبَحَ النَّاسُ غَدَوْا)؛ أي: ذهبوا، وانطلقوا غَدْوةً، وهي ما بين صلاة الصبح، وطلوع الشمس، ثم كثر استعماله في الذهاب، والانطلاق أي وقت كان، ومنه حديث: "واغد يا أُنيس على امرأة هذا
…
"، متّفقٌ عليه، ويَحتَمِل أن يكون هذا الحديث منه. (عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يُعْطَاهَا)؛ أي: الراية، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبِ"؟، فَقَالُوا: هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْه، قَالَ) سهل (فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ)؛ أي: بأمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَأُتِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول، وقد تبيّن من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه هو الذي أحضره، ولعل عليًّا حضر إليهم بخيبر، ولم يقدر على مباشرة القتال لِرَمَده، فأرسل إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحضر من المكان الذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة، فصادف حضوره. (فَبَصَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَيْنَيْه، وَدَعَا لَهُ) بأن يبرأ (فَبَرَأَ) -بفتح الراء، والهمزة-، بوزن ضَرَبَ، ويجوز كسر الراء، بوزن عَلِم، وعند الحاكم من حديث عليّ رضي الله عنه
(1)
"فتح" 9/ 314، كتاب "المغازي" رقم (4210).
(2)
"عمدة القاري" 16/ 215.
نفسِهِ: "قال: فوضع رأسي في حَجره، ثم بَزَق في ألية راحته، فدلك بها عيني". (حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ)، وعند بريدة في "الدلائل" للبيهقيّ:"فما وَجِعها عليّ حتى مضى لسبيله"؛ أي: مات، وعند الطبرانيّ من حديث عليّ:"فما رَمِدت، ولا صُدِعت، مذ دفع النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ الرايةَ يوم خيبر"، وله من وجه آخر:"فما اشتكيتهما حتى الساعة، قال: ودعا لي، فقال: اللهم أذهب عنه الحرّ والقرّ، قال: فما اشتكيتهما حتى يومي هذا". (فَأَعْطَاهُ) صلى الله عليه وسلم (الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (يَا رَسُولَ الله، أُقاتِلُهُمْ) حُذف منه همزة الاستفهام؛ أي: أأقاتلهم؟ (حَتى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟)؛ أي: مسلمين مثلنا، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("انْفُذْ) بضمّ الفاء، والذال المعجمة؛ أي: امض (عَلَى رِسْلِكَ) بكسر، فسكون؛ أي: على هينتك، (حَتى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهمْ) قال الفيّوميّ رحمه الله: ساحةُ الدار: الموضع المتّسع أمامها، والجمع: ساحاتٌ، وساحٌ، مثلُ ساعة وساعات، وسَاعٍ. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ) استُدِلّ به على أن الدعوة شرط في جواز القتال، والخلاف في ذلك مشهور، فقيل: يُشترط مطلقًا، وهو عن مالك، سواء من بلغتهم الدعوة، أو لم تبلغةم، قال: إلا أن يعجلوا المسلمين، وقيل: لا مطلقًا، وعن الشافعي مثله، وعنه: لا يُقَاتِل من لم تبلغة حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء، وهو مقتضى الأحاديث، ويُحمل ما في حديث سهل رضي الله عنه هذا على الاستحباب، بدليل أن في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لمّا لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طَرَقَهم، وكانت قصة عليّ بعد ذلك، وعن الحنفية: تجوز الإغارة عليهم مطلقًا، وتستحب الدعوة
(2)
، وقد تقدّم في "كتاب الجهاد" البحث في هذا مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(وَأخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، مِنْ حَقِّ اللهِ فِيهِ)؛ أي: في الإسلام؛ يعني: شرائع الإسلام، (فَوَاللهِ. لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا) يؤخذ منه أن تألّف الكافر حتى يُسلم أولى من المبادرة إلى قتله. (خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ") -بسكون الميم- من "حُمْر"، وبفتح النون، والعين المهملة، وهو من
(1)
"المصباح المنير" 1/ 294.
(2)
"الفتح" 9/ 316.
ألوان الإبل المحمودة، قيل: المراد: خير لك من أن تكون لك، فتتصدق بها، وقيل: تقتنيها، وتملكها، وكانت مما تتفاخر العرب بها
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه حضٌّ عظيمٌ على تعليم العلم، وبثّه في الناس، وعلى الوعظ، والتذكير بالدار الآخرة والخير، وهذا كما قال في الحديث الآخر:"إن الله وملائكته يصلّون على معلمي الناس الخير"
(2)
.
والهداية: الدَّلالة والإرشاد، والنَّعَم: هي الإبل، وحُمْرها هي خيارها حُسنًا وقوة ونفاسة؛ لأنَّها أفضل عند العرب، ويعني به -والله أعلم-: أن ثواب تعليم رجل واحد، وإرشاده للخير أعظم من ثواب هذه الإبل النفيسة لو كانت لك فتصدّقت بها؛ لأنَّ ثواب تلك الصدقة ينقطع بموتها، وثواب العلم والهدى لا ينقطع إلى يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة"، فذكر منها:"علم يُنتفع به"
(3)
. انتهى
(4)
.
وذكر ابن إسحاق من حديث أبي رافع: "قال: خرجنا مع عليّ حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فضربه رجل من يهود، فطرح ترسه، فتناول عليّ بابًا كان عند الحصن، فتترس به عن نفسه، حتى فتح الله عليه، فلقد رأيتني أنا في سبعة، أنا ثامنهم، نجهد على أن نقلب ذلك الباب، فما نقلبه"، وللحاكم من حديث جابر:"أن عليًّا حَمَل الباب يوم خيبر، وأنه جُرِّب بعد ذلك، فلم يحمله أربعون رجلًا".
قال الحافظ رحمه الله: والجمع بينهما أن السبعة عالجوا قَلْبَه، والأربعين عالجوا حَمْله، والفرق بين الأمرين ظاهر، ولو لم يكن إلا باختلاف حال الأبطال.
وفي حديث إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: "وخرج مرحب، فقال:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ
الأبيات.
(1)
"الفتح" 9/ 317.
(2)
حديث صحيح، رواه الترمذيّ وغيره.
(3)
رواه مسلم.
(4)
"المفهم" 6/ 276.
فقال عليّ رضي الله عنه:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
الأبيات
(1)
.
فضرب رأس مرحب فقتله، فكان الفتح على يديه، وكذا في حديث بريدة، وخالف ذلك أهل السير، فجزم ابن إسحاق، وموسى بن عقبة، والواقديّ بأن الذي قتل مرحبًا هو محمد بن مسلمة، وكذا روى أحمد بإسناد حسن، عن جابر، وقيل: إن محمد بن مسلمة كان بارَزه، فقطع رجليه، فأجهز عليه عليّ، وقيل: إن الذي قتله هو الحارث أخو مرحب، فاشتبه على بعض الرواة، فإن لم يكن كذلك، وإلا فما في "الصحيح" مقدَّم على ما سواه، ولا سيما وقد جاء من حديث بريدة أيضًا، وكان اسم الحصن الذي فتحه عليّ: القموص، وهو من أعظم حصونهم، ومنه سُبيت صفية بنت حُييّ، والله أعلم
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6203](2406)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2942 و 3009) و"الفضائل"(3701) و"المغازي"(4210)، و (أبو داود) في "العلم"(3661)، و (النسائيّ) في "الفضائل"(46) و"الخصائص"(17)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 333) وفي "الفضائل"(1037)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2472 و 2482)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6932)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 292 و 13/ 523 و 531)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5877 و 5991)، و (الطحاويّ) في "معاني الآثار"(3/ 207)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 62)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 106 - 107)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3906)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.
(1)
تقدّمت الأبيات في باب "غزوة خيبر"، فراجعها تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
"الفتح" 9/ 317، كتاب "المغازي" رقم (4210).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6204]
(2407) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَع، قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ النَبيِّ صلى الله عليه وسلم في خَيْبَرَ، وَكَانَ رَمِدًا، فَقَالَ: أَنَا أَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَخَرَجَ عَلِيٌّ، فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ الَّتي فَتَحَهَا اللهُ فِي صبَاحِهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأُعْطِيَن الرَّايَةَ -أَو لَيَأخُذَنَّ بِالرَّايَةِ- غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، أَو قَالَ: يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَيْهِ"، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ، وَمَا نَرْجُوهُ، فَقَالُوا: هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميّ، مولى سلمة بن الأكوع، ثقة [4] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الصلاة" 51/ 1140.
2 -
(سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو: سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، نُسب لجدّه، أبو مسلم، وأبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِد بيعة الرضوان، ومات سنة أربع وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (479) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلَمَةَ) بن عمرو (بْنِ الأَكْوَعِ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه (قَدْ تَخَلَّفَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْبَرَ)؛ أي: في غزوتها، بسبب رَمَده، كما بيّنه بقوله:(وَكَانَ رَمِدًا) بفتح الراء، وكسر الميم، ويقال أيضًا: أرمد، والأنثى رَمْداء، (فَقَالَ) عليّ رضي الله عنه (أَنَا أتخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) استنكار على نفسه، وتوبيخ لها في تخلّفها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. (فَخَرَجَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه من المدينة متوجّهًا إلى خيبر، (فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بكسر الحاء، يقال: لَحِقته، ولحِقتُ به
ألحَق، من باب تَعِب لَحَاقًا بالفتح: إذا أدركته، وألحقته بالألف مثله، وألحقتُ زيدًا بعمرو: أتبعته إياه، فلَحِق هو، وألحق أيضًا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(فَلَمَّا كَانَ مَسَاءُ اللَّيْلَةِ) برفع "مساءُ" على الفاعليّة؛ لأن "كان" هنا تامّة، بمعنى "جاء"، كما قال الحريريّ رحمه الله:
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
ويَحْتَمِل أن تكون ناقصةً، و"مساءَ" منصوب على الخبريّة، واسمها مقدّر؛ أي: فلما كان الوقت مساءَ الليلة (الَّتى فَتَحَهَا)؛ أي: خيبر، (اللهُ فِي صَبَاحِهَا)؛ أي: صباح الليلة، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لأُعْطِيَن الرَّايَةَ -أَو لَيَأْخُذَن بِالرَّايَةِ-) "أو" للشكّ من الراوي؛ أي: أول قال: "ليأخذنّ الراية" (غَدًا رَجُل يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، أَو قَالَ) "أو" أيضًا للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللهُ عَلَيْهِ"، فَإِذَا نَحْنُ بِعَلِيٍّ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففجأنا حضور عليّ، (وَمَا نَرْجُوهُ)؛ أي: ما نرجو حضوره هناك؛ لكونه رَمِدًا، (فَقَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون، (هَذَا عَلِيٌّ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ)، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6204](2407)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2975) و"الفضائل"(3702) و"المغازي"(4209)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 31)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6205]
(2408) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَشُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَني أَبُو حَيَّانَ، حَدَّثَني يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ، وَعُمَرُ بْن مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 550.
أَرْقَمَ، فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْه، قَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زيدُ خَيْرًا كَثِيرًا، رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ، وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ، لَقَدْ لَقِيتَ يَا زيدُ خَيْرًا كَثِيرًا، حَدِّثْنَا يَا زيدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي وَاللهِ لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وَقَدُمَ عَهْدِي، وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا حَدَّثْتُكُمْ فَاقْبَلُوا، وَمَا لَا فَلَا تُكَلِّفُونِيه، ثُمَّ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَة، فَحَمِدَ اللهَ، وَأثنَى عَلَيْه، وَوَعَظَ، وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ:"أمّا بَعْدُ، أَلا أيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي، فَاُجِيبَ، وَأنا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ الله، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَاب الله، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ"، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ الله، وَرَغَّبَ فِيه، ثُمَّ قَالَ:"وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي"، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَليْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(زُهيْرُ بْنُ حَرْبِ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(شُجَاعُ بْنُ مًخْلَدٍ) الفلاس، أبو الفضل البغويّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، وَهِمَ في حديث واحد، رفعه وهو موقوف، فذكره بسببه العقيلي في "الضعفاء"[10](ت 235)(م د ق) تقدم في "الصيام" 12/ 2576.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، المعروف بابن عُلَيّة، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن ثلاث وثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(أَبُو حَيَّانَ) يحيى بن سعيد بن حيّان التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
5 -
(يَزِيدُ بْنُ حَيَّانَ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ [4].
روى عن زيد بن أرقم، وشبرمة بن الطفيل، وكدير الضبيّ، وعنبس بن عقبة.
وروى عنه ابن أخيه أبو حيان التيميّ، والأعمش، وفطر بن خليفة، وسعيد بن مسروق الثوريّ.
قال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان بن سعيد، ثنا يزيد بن حيّان، وهو من قدماء أهل الكوفة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابي المشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل الله تصديقه في "سورة المنافقين"، مات سنة ست، أو ثمان وستين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.
[تنبيه] من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، وقد أنزل الله تعالى في تصديقه سورة كاملة، وهي "سورة المنافقون".
شرح الحديث:
عن يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ التيميّ، أنه (قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا) أتى به لِيُمْكِنه عَطْف الاسم الظاهر على الضمير المتّصل المرفوع، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْع مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَو فَاصِل مَا وَبِلَا فَصْل يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهْ اعْتَقِدْ
(وَحُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ) هذا ليس من رجال الكتب السّتّة، فلذا لم يُترجم في "التهذيبين"، ولا في فرعهما، وإنما ترجمه البخاريّ في "التاريخ الكبير"، فقال: حصين بن سَبْرة، سمع عمر قوله، روى عنه إبراهيم التيميّ. انتهى
(1)
.
(1)
"التاريخ الكبير" للبخاريّ 3/ 6.
وقال العينيّ رحمه الله في "مغاني الأخبار": حصين بن سبرة: ذكره ابن حبّان في "الثقات" من التابعين، وقال: يروي عن عمر، وروى عنه إبراهيم التيميّ، روى له أبو جعفر الطحاويّ. انتهى
(1)
.
وذكر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" قال ابن معين: حصين بن سبرة ثقة. انتهى
(2)
.
(وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِم) هذا أيضًا ليس من رجال الكتب الستّة، وإنما ترجمه البخاريّ أيضًا في "التاريخ"، فقال: عُمر بن مسلم بن سالم، هو عمر بن أبي فروة، أبو حفص الْجُهنيّ الكوفيّ، سمع أباه، مراسيل. انتهى
(3)
.
(إِلَى زيدِ بْنِ أَرْقَمَ) رضي الله عنه (فَلَمَّا جَلَسْنَا إِلَيْه، قَالَ لَهُ حُصَيْن: لَقَدْ لَقِيتَ يَا زيدُ خَيْرًا كَثِيرًا)، ثمّ فصّل ما أجمله بقوله:(رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَسَمِعْتَ حَدِيثَهُ، وَغَزَوْتَ مَعَهُ، وَصَلَّيْتَ خَلْفَة، لَقَدْ لَقِيتَ يَا زَيْدُ خَيْرًا كَثِيرًا) هذا الكلام قدّمه ليستحثّه على أن يحدّثهم، كما قال:(حَدِّثْنَا يَا زيدُ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) زيد رضي الله عنه (يَا ابْنَ أَحي) هذا قاله من باب التلطّف والتكريم، وإلا فليس هو ابن أخيه؛ لأنه لا قربة بينهما. (وَاللهِ لَقَدْ كَبِرَتْ) بكسر الباء الموحّدة، يقال: كَبِرَ الصبيّ، وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِب مَكْبِرًا، مثل مسجد، وكِبَرًا، وزانُ عِنَب: طَعَنَ في السنّ، فهو كبِيرٌ، وجمعه كِبَارٌ، والأنثى كَبِيرَةٌ، وفي التفضيل هو الأكبرُ، وجَمْعه الأَكَابِرُ، وهي الكُبْرى، وجمعها كُبَرٌ، وكُبْرَيَاتٌ، وهذا أَكْبَرُ من زيد: إذا زادت سنة على سن زيد، قاله الفيّوميّ
(4)
.
(سِنِّي) بكسر السين المهملة، وتشديد النون؛ أي: عمري، وإنما أنّث فِعلها؛ لكونها مؤنّثة؛ لأنها بمعنى المدّة
(5)
. (وَقَدُمَ) بضمّ الدال المهملة، يقال: قَدُم الشيءُ بالضم قِدَمًا، وزانُ عِنَب: خلاف حَدُث، فهو قديم
(6)
.
(1)
"مغاني الأخبار في شرح أسامي رجال معاني الآثار" 1/ 182.
(2)
"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، الترجمة (831).
(3)
"التاريخ الكبير" للبخاريّ 6/ 49.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 523، بزيادة من "القاموس" ص 1110.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 292.
(6)
"المصباح المنير" 2/ 492.
(عَهْدِي)؛ أي: تقدّم زمان لقائي به صلى الله عليه وسلم، (وَنَسِيتُ بَعْضَ الَّذِي كُنْتُ أَعِي)؟ أي: أحفظه (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا حَدَّثْتُكمْ) من قِبَل نفسي (فَاقْبَلُوا)؛ لأنه مما لم أنسه (وَمَما لَا)؛ أي: والذي لم أحدّثكم به من قِبَل نفسي (فَلَا تُكَلِّفُونيِهِ)؛ أي: بأن أحدّثكمِ؛ لأنه ليس من محفوظي. (ثُمَّ قَالَ) زيد رضي الله عنه (قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فِينَا)؛ أي: معاشر الصحابة، حال كونه (خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى)؛ أي: يسمّى ذلك الماء (خُمًّا) بضمّ الخاء المعجمة، وتشديد الميم: اسم لِغَيْضْة على ثلاثة أميال من الجحفة، عندها غَدِير مشهور يضاف إلى الغيضة، فيقال: غَدير خُمّ، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
(بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ) الظرف متعلّق بحال من "خمًّا"، وقوله:(فَحَمِدَ اللهَ، وَأثْنَى عَلَيْه، وَوَعَظَ)؛ أي: أمر بالطاعة، ووصّى بها (وَذَكَّرَ)؛ أي: وعظ، فهو من عَطْف المرادف. (ثُمَّ قَالَ: "أمَّا بَعْدُ، أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (أَيُّهَا النَّاسُ) بحذف حرف النداء؛ أي: يا أيها الناس (فَإنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ)؛ أي: يقرب (أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي)؛ أي: ملَك الموت، (فَأُجِيبَ)؛ أي: أموت، كَنَى عنه بالإجابة؛ إشارةً إلى أنه ينبغي تلقيه بالقبول، كأنه مجيب إليه باختياره
(2)
. (وَأَنَا تَارِ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ) قال العلماء: سُمّيا ثقلين؛ لِعِظَمهما، وكِبَر شأنهما، وقيل: لِثِقَل العمل بهما، قاله النوويّ
(3)
، وقال الزمخشريّ في "الفائق": الثقل: المتاع المحمول على الدابّة، وإنما قيل للجنّ والإنس: الثقلان؛ لأنهما قُطّان الأرض، فكأنهما ثقّلاها، وقد شُبّه بهما الكتاب والعترة في أن الدين يُستصلح بهما، كما عَمُرت الدنيا بالثقلين. انتهى
(4)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تارك فيكم" إشارة إلى أنهما بمنزلة التوأمين الخَلَفَين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يوصي الأمة بحسن الخلافة معهما، وإيثار حقّهما، كما يوصي الأب الشفيق الناس في حق أولاده، ويعضده قوله:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 179 - 180.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 2/ 174.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 180.
(4)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3903.
"أذكّركم الله في أهل بيتي" كما يقول الأب المشفق: الله الله في حقّ أولادي. انتهى
(1)
.
(أَوَّلُهُمَا)؛ أي: أول الثقلين: (كِتَابُ اللهِ) تعالى، قدَّمه؛ لأحقيته بالتقديم، (فِيهِ الْهُدَى)؛ أي: الهداية من الضلال، (وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَاب الله، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ") فإنه السبب الموصل إلى المقامات العليّة، والسعادة الأَبدية، فمن أخذ به واستمسك، كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ وأخطأ طريق السعادة، وهلك في ميادين الحيرة، والشقاوة.
قال الطيبيّ رحمه الله: معنى التمسّك بالقرآن: هو العمل بما فيه، وهو الائتمار بأوامره، والانتهاء عن نواهيه، والتمسّك بأهل البيت: محبّتهم، والاهتداء بهديهم وسيرتهم. انتهى
(2)
.
(فَحَثَّ)؛ أي: حرّض (عَلَى كِتَابِ الله، وَرَغَّبَ فِيه، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم موضّحًا الأمر الثاني ("وَأَهْلُ بَيْتِي)؛ أي: ثاني الثقلين هم أهل بيتي، (أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتي)؛ أي: في الوصية بهم، واحترامهم، وكرّره ثلاثًا للتأكيد، قال الفخر الرازيّ: جعل الله تعالى أهل بيته مساوين له في خمسة أشياء: في المحبة، وتحريم الصدقة، والطهارة، والسلام والصلاة، ولم يقع ذلك لغيرهم. انتهى
(3)
.
(أذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي") كرّره للتأكيد، والمعنى: أحذّركم الله في شأن أهل بيتي، وأقول لكم: اتقوا الله، ولا تؤذوهم، بل احفظوهم، فالتذكير بمعنى الوعظ، كما يدلّ عليه، قوله:"ووعظ، وذكّر".
قال الطيبيّ رحمه الله: لعل السرّ في هذه التوصية، واقتران العترة بالقرآن أن إيجاب محبتهم لائح من معنى قوله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} الآية [الشورى: 23]، فإنه تعالى جَعَل شُكر إنعامه وإحسانه بالقرآن منوطًا
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3909.
(2)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3909.
(3)
"فيض القدير" 2/ 175.
بمحبتهم على سبيل الحصر، فكأنه صلى الله عليه وسلم يوصي الأمة بقيام الشكر، وقيّد تلك النعمة به، ويحذّرهم عن الكفران، فمن قام بالوصية، وشكر تلك الصنيعة بحسن الخلافة فيهما لن يفترقا، فلا يفارقانه في مواطن القيامة، ومشاهدها حتى يردا الحوض فيشكرا صنيعه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ هو بنفسه يكافئه، والله تعالى يجازيه بالجزاء الأوفى، ومن أضاع الوصية، وكفر النعمة، فحُكمه على العكس، وعلى هذا التأويل حَسُن موقع قوله:"فانظروا كيف تخلفوني فيهما"، والنظر بمعنى التأمل والتفكر؛ أي: تأملوا، واستعملوا الرويّة في استخلافي إياكم، هل تكونون خَلَف صدق، أو خَلْفَ سوء؟ انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لزيد بن أرقم رضي الله عنه، (حُصَيْن)؛ أي: ابن سبرة، (وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ) صلى الله عليه وسلم الذين جعلهم قرين كتاب الله عز وجل في وجوب التمسّك بهم (يَا زيدُ؟ ألَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ) زيد (نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِه، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ) قال النوويّ: هو بضم الحاء، وتخفيف الراء، والمراد بالصدقة: الزكاة، وهي حرام عندنا علي بني هاشم، وبني المطلب، وقال مالك: بنو هاشم فقط، وقيل: بنو قصيّ، وقيل: قريش كلها.
وقوله في الرواية الأخرى: "فقلنا: مَنْ أهل بيته؟ نساؤه؟ " قال: "لا"، هذا دليل لإبطال قول من قال: هم قريش كلها، فقد كان في نسائه قرشيات، وهنّ عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وسودة، وأم حبيبة رضي الله عنهن.
وأما قوله في الرواية الأخرى: "نساؤه مَنْ أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة"، قال: وفي الرواية الأخرى: "فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا"، فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال:"نساؤه لسن من أهل بيته"، فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه، وَيعُوْلهم، وأَمَر باحترامهم، وإكرامهم، وسمّاهم ثَقَلًا، ووعظ في حقوقهم، وذَكَّر فنساؤه داخلات في هذا كله، ولا يدخلن فيمن حُرِم الصدقة، وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله:"نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة"، فاتفقت
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3909 - 3910.
الروايتان. انتهى
(1)
.
وقال الأبّيّ رحمه الله: قوله: "نساؤه من أهل بيته
…
إلخ"؛ يعني: أن نساءه من أهل مسكنه، ولسن المراد، وإنما أهل بيته: أهله وعَصَبته الذين حُرموا الصدقة بعده؛ أي: الذين مَنَعتهم خلفاء بني أميّة صَدَقته التي خصّه الله سبحانه وتعالى بها، وكانت تُفرّق عليهم في أيامه، وأيام الخلفاء الأربعة؛ لقوله: وزيد كان عاش حتى أدرك ذلك؛ لأنه تُوفّي سنة ثمان وستّين.
ويَحْتَمِل أنه يعني: الذين حُرموا الصدقة التي هي أوساخ الناس، وقد جاء ذلك عن زيد مفسّرًا في غير هذا، وقيل: من آل محمد؟ قال: الذين لا تحلّ لهم الصدقة، آل عليّ، وآل عَقِيل، وآل جعفر، وآل عبّاس. وهو حجة لمالك في قَصْره المنع علي بني هاشم؛ لأنه لم يذكر سواهم، وأدخل الشافعيّ معهم بني المطّلب؛ لحديث:"إنما نحن وبنو المطّلب شيء واحد"
(2)
، ومال إليه بعض شيوخنا، وقال بعض أصحابنا: هم بنو قصيّ، وقيل: قريش كلها، وتقدّم ذلك في "الزكاة". انتهى كلام الأبيّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفنا في "كتاب الزكاة" أن الراجح في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه الشافعيّ رحمه الله، من أنهم بنو هاشم، وبنو المطّلب؛ لقوة دليله، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(قَالَ) حصين (وَمَنْ هُمْ؟) أهل بيته صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) زيد (هُمْ آل عَلِيِّ) بن أبي طالب، (وَآل عَقِيلِ) بن أبي طالب، (وَآل جَعْفَرِ) بن أبي طالب، (وَآلُ عَبَّاسِ) بن عبد المطّلب عم النبيّ صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) حصين (كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ؟ قَالَ) زيد (نَعَمْ) حُرمت الصدقة عليهم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 180.
(2)
أخرجه البخاريّ بلفظ: "إنما بنو هاشم، وبنو المطّلب شيء واحد".
(3)
"شرح الأبيّ" 6/ 226.
أخرجه (المصنف) هنا [4/ 6205 و 6206 و 6207 و 6208](2408)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 51)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 62)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 366)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 114)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 520)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 182 و 183)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 643)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1/ 79)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 148 و 7/ 30 و 10/ 113) وفي "الاعتقاد"(1/ 325)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6206]
(. . .) - (وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّان، حَدَّثنَا حَسَّانُ -يَعْني: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّانِ) الهاشميّ مولاهم، أبو عبد الله البغداديّ الرُّصافيّ، ثقةٌ [10](ت 238) وله ثلاث وتسعون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
2 -
(حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الله الكرمانيّ، أبو هشام العَنَزيّ، قاضي كِرْمان، صدوقٌ يخطئ [8](ت 186) وله مائة سنة (خ م د) تقدم في "الطهارة" 8/ 569.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ) الثوريّ، والد سفيان، ثقةٌ [6](ت 126)، وقيل بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1738.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل ساق هو: محمد بن بكّار شيخه، وليس لسعيد بن مسروق، كما قال بعض الشرّاح، لتصريحه بعده بقوله:"بمعنى حديث زهير"، فتبيّن به أنه الفاعل ضمير شيخه، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حيّان هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:
(5026)
- حدّثنا محمد بن حيان المازنيّ، ثنا كثير بن يحيىى، ثنا
حيان
(1)
بن إبراهيم، ثنا سعيد بن مسروق، أو سفيان الثوريّ، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، قال: دخلنا عليه، فقلنا: لقد رأيت خيرًا صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصليت خلفه، قال: لقد رأيت خيرًا، وخشيت أن أكون إنما أُخِّرت لشرّ، ما حدّثكم فاقبلوا، وما سكتُّ عنه فدعوه، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواد بين مكة والمدينة، فخطبنا، ثم قال:"أنا بشر يوشك أن أُدْعَى، فأجيبَ، وإني تارك فيكم اثنين، أحدهما كتاب الله، فيه حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة، وأهل بيتي، أذكِّركم الله في أهل بيتي"، ثلاث مرات، فقلنا: من أهل بيته، نساؤه؟ قال: لا، إن المرأة قد يكون يتزوج بها الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وأمها، أهلُ بيته أهله، وعَصَبته الذين حُرِموا الصدقة بعده، آل عليّ، وآل العباس، وآل جعفر، وآل عقيل. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6207]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي حَيَّانَ، بِهَذَا الإِسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:"كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، مَنِ اسْتَمْسَكَ بِه، وَأَخَذَ بِهِ كانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأهُ ضَلَّ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوق عارفٌ، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرْط الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرّيّ وقاضيها، ثقة صحيح الكتاب [8](ت 188) وله إحدى وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
والباقيان ذُكرا في الباب.
(1)
هكذا النسخة "حيان"، والصواب كما في مسلم: حسّان بن إبراهيم، فتنبّه.
(2)
"المعجم الكبير" 5/ 182.
وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ) فاعل "زاد" ضمير إسحاق بن إبراهيم.
[تنبيه]: رواية محمد بن فُضيل، وجرير بن عبد الحميد كلاهما عن أبي حيّان التيميّ ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2357)
- حدّثنا يوسف بن موسى، حدّثنا جرير، ومحمد بن فضيل، عن أبي حيان الميميّ -وهو يحيى بن سعيد التيميّ- عن يزيد بن حيان، قال: انطلقت أنا وحصين بن سَبرة وعُمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم، فجلسنا إليه، فقال له حصين: يا زيد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلّيت خلفه، وسمعت حديثه، وغزوت معه، لقد أصبت يا زيد خيرًا كثيرًا، حَدِّثنا يا زيد حديثًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شهدت معه، قال: بلى ابن أخي، لقد قَدُم عهدي، وكَبِرت سني، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حدثتكم فاقبلوه، وما لم أحدثكموه فلا تكلفوني، قال: قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا بماء يُدْعَى خُمًّا، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكّر، ثم قال:"أما بعد أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به، كان على الهدى، ومن تركه، وأخطأه كان على الضلالة، وأهل بيتي، أُذَكِّركم الله في أهل بيتي"، ثلاث مرات، قال حصين: فمن أهل بيته يا زيد؟، أليست نساؤه من أهل بيته؟ قال: بلى، نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة، قال: من هم؟ قال: آل عليّ، وآل عَقيل، وآل جعفر، وآل العباس، قال حصين: وكل هؤلاء حُرِم الصدقة؟ قال: نعم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6208]
(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارِ بْنِ الرَّيَّان، حَدَّثنَا حَسَّانُ -يَعْني: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ- عَنْ سَعِيدٍ -وَهُوَ ابْنُ مَسْرُوقٍ- عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ، عَنْ زيدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَيْه، فَقُلْنَا لَة: لَقَدْ رَأَيْتَ خَيْرًا، لَقَدْ صاحَبْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَصَلَّيْتَ خَلْفَهُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "ألَا وَإِنِّي
(1)
"صحيح ابن خزيمة" 4/ 62.
تَارِك فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَحَدُهُمَا كِتَابُ اللهِ عز وجل، هُوَ حَبْلُ الله، مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ"، وَفيهِ: فَقُلْنَا: مَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ؟، نِسَاؤُهُ؟ قَالَ: لَا، وَايْمُ الله، إِنَّ الْمَرْأةَ تَكُونُ مَعَ الرَّجُلِ الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْر، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا، فَتَرْجِعُ إِلَى أَبِيهَا وَقَوْمِهَا، أَهْلُ بَيْتِهِ أَصْلُهُ، وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبل حديث.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ) فاعل "ساق" ضمير سعيد بن مسروق.
وقوله: (هُوَ حَبْلُ اللهِ) قيل: المراد بحبل الله: عَهْده، وقيل: السبب الموصل إلى رضاه ورحمته، وقيل: هو نوره الذي يَهدي به، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (الْعَصْرَ مِنَ الدَّهْرِ)؛ أي: القطعة منه.
وقوله: (وَعَصَبَتُهُ الَّذِينَ حُرِمُوا الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ) قال الفيّوميّ: العَصَبَةُ: القرابة الذكور الذين يُدْلون بالذكور، هذا معنى ما قاله أئمة اللغة، وهو جَمْع عَاصِبٍ، مثلُ كَفَرةٍ جمع كافر، وقد استعمل الفقهاء العَصَبَةَ في الواحد، إذا لم يكن غيره؛ لأنه قام مقام الجماعة في إحراز جميع المال، والشَّرْعُ جعل الأنثى عَصَبَةً في مسألة الإعتاق، وفي مسألة من المواريث، فقلنا بمقتضاه في مورد النصّ، وقلنا في غيره: لا تكون المرأة عصبة، لا لغة، ولا شرعًا. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حيّان هذه ساقها ابن عساكر رحمه الله في "تاريخه"، فقال:
أخبرنا أبو محمد هبة الله بن سهل بن عمر، وأبو القاسم زاهر بن طاهر، قالا: أنا أبو عثمان البحيريّ أنبأ أبو عمرو بن حمدان، أنا عبد الله بن محمد بن يونس السمنانيّ، نا محمد بن عبد الله بن بزيع، نا حسان بن إبراهيم، نا سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم، قال: دخلنا عليه، فقلنا له: لقد رأيت خيرًا، صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصليت خلفه، فقال: لقد
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 181 - 182.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 412.
رأيته، وقد خشيت أن يكون إنما أُخرت لشرّ، ما حدثتكم به فاقبلوه، وما سكتُّ عنه فدعوه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بواد بين مكة والمدينة، يُدْعَى خُمّ، فخطب، فقال:"إنما أنا بشر، أُوشك أن أُدعَى فأجيبَ، ألا، وإني تارك فيكم الثقلين: أحدهما كتاب الله، حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، ثم أهل بيتي، ثم أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي"، ثلاث مرات، قال: فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: لا؛ لأن المرأة تكون مع الرجل البرهة من الدهر، ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله، وعصبته الذين حُرِموا الصدقة بعده، آل عليّ، والعباس، وآل جعفر، وآل عَقِيل. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6209]
(2409) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي حَازِمٍ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا، قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا إِذْ أَبيْتَ، فَقُلْ: لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَاب، فَقَالَ سَهْلٌ: مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَاب، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِه، لِمَ سُمّيَ أَبَا تُرَابِ؟ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم-بَيْتَ فَاطِمَةَ، فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْت، فَقَالَ:"أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ "، فَقَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيءٌ، فَغَاضَبَني، فَخَرَجَ، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ:"انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ "، فَجَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ، قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّه، فَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: "قُمْ أبَا التُّرَاب، قُمْ أَبَا التُّرَابِ
(2)
").
قال الجامع عفا الله عنه: إسناد هذا الحديث قد ذُكر في الباب قبل خمسة أحاديث، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (479) من رباعيّات الكتاب.
(1)
"تاريخ مدينة دمشق" 41/ 19.
(2)
وفي نسخة: "قم أبا تراب، قم أبا تراب".
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه صريحًا. (قَالَ: فَدَعَا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ) رضي الله عنهما (فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه. (قَالَ: فَأَبَى سَهْلٌ) أن يشتم عليًّا رضي الله عنه، (فَقَالَ لَهُ) ذلك الأمير (أمّا إِذْ أَبيْتَ) أن تشتم عليًّا باسمه (فَقُلْ: لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ)؛ أي: اشتم كنيته، (فَقَالَ سَهْل) رضي الله عنه (مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ)؛ يعني: أن هذا الاسم أحبّ الأسماء إليه، فكيف ألعنه؟، وفيه إطلاق الاسم على الكنية. (وَإِنْ) مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف؛ أي: وإنّه (كَانَ لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ) بالبناء للمفعول؛ أي: نودي (بِهَا)؛ أي: بهذه الكنية. (فَقَالَ لَهُ) ظاهر السياق أن القائل ذلك الأمير، لكن رواية البخاريّ صريحة في أنه أبو حازم، ولفظه:"فاستطعمت الحديث سهلًا، وقلت: يا أبا عبّاس كيف ذلك؟ ". (أَخْبِرْنَا عَنْ قِصَّتِهِ)؛ أي: عن قصّة عليّ رضي الله عنه، (لِمَ سُمِّيَ أَبَا تُرَاب؟ قَالَ) سهل (جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فَاطِمَةَ) رضي الله عنهما (فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا) رضي الله عنه (فِي الْبَيت، فَقَالَ) لها ("أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ ") أراد به عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي الحقيقة هو ابن عم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما اختار هذه العبارة، ولم يقل أين زوجك؟ أوأين عليّ؟؛ لأنه فَهِم أنه جرى بينهما شيء، فأراد استعطافها عليه بذكره القرابة النسبية التي بينهما، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": فيه إطلاق ابن العمّ على أقارب الأب؛ لأنه ابن عم أبيها، لا ابن عمها، وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك؛ لِمَا فيه من الاستعطاف بذكر القرابة، وكأنه صلى الله عليه وسلم فَهِم ما وقع بينهما، فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة القريبة التي بينهما. انتهى
(2)
.
(فَقَالَتْ) فاطمة (كَانَ بَيْني وَبَيْنَهُ شَيْءٌ)؛ أي: من المخاصمة، (فَغَاضَبَنِي) من باب المفاعلة المقتضية للمشاركة، (فَخَرَجَ) من البيت (فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي) بكسر القاف، من القيلولة، والقيلولةُ نوم نصف النهار، ذكره ابن درستويه.
(1)
"عمدة القاري" 4/ 199.
(2)
"الفتح" 2/ 178، كتاب "الصلاة" رقم (441).
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، وقال في "الفتح": يظهر لي أنه سهل، راوي الحديث؛ لأنه لم يُذكر أنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم غيره. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: يظهر لي أنه سهل، لا يخفى ما فيه؛ لأنه لم يذكر عليه دليلًا مقنعًا، فتدبّر، والله تعالى أعلم.
("انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟ ") وللبخاريّ في "الأدب": "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لفاطمة: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد"، وليس بينه وبين الذي هنا مخالفةٌ؛ لاحتمال أن يكون المراد من قوله:"انظر أين هو؟ " المكان المخصوص من المسجد، وعند الطبرانيّ:"فأمر إنسانًا معه، فوجده مضطجعًا في فيء الجدار". انتهى
(2)
.
(فَجَاءَ) ذلك الإنسان بعد البحث عنه (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ) فيه جواز النوم في المسجد، ولو كان له بيت. (فَجَاءَهُ)؛ أي: عليًّا، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(وَهُوَ مُضْطَجِعٌ) جملة اسمية وقعت حالًا، ولكن في الكلام مقدّر، تقديره: فجاء رسول الله إلى المسجد، ورآه، وهو مضطجع، وكذلك قوله:(قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ) جملةٌ حالية، (عَنْ شِقِّهِ)؛ أي: جَنْبه، (فَأَصَابَهُ تُرَابٌ) في رواية الإسماعيليّ:"حتى تخلّص ظهره إلى التراب"، وكأنه نام أوّلًا على مكان لا تراب فيه، ثم تقلّب فصار ظهره على التراب، أو سفى عليه التراب.
(فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ، وشرع (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُهُ)؛ أي: التراب، (عَنْهُ)؛ أي: عن جَنْب عليّ، وقوله:(وَيَقُولُ) عَطْف على "يمسحه"، ولا يكون حالًا؛ لأن الجملة المضارعيّة المثبتة لا تُقرن بالواو، إلا إذا قُدّر مبتدأ؛ أي: وهو يقول، قال في "الخلاصة":
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ
وَذَاتُ وَاو بَعْدَها انْوِ مُبْتَدَا
…
لَهُ الْمُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا
("قُمْ أَبا التُّرَاب، قُمْ أَبا التُّرَابِ") حُذف منه حرف النداء، والتقدير: يا
(1)
"الفتح" 2/ 178، كتاب "الصلاة" رقم (441).
(2)
"الفتح" 2/ 178، كتاب "الصلاة" رقم (441).
أبا التراب، وفي بعض النُّسخ:"قم أبا تراب، قم أبا تراب"، وفي رواية للبخاريّ:"اجلس يا أبا تراب مرتين"، قال في "الفتح": ظاهره أن ذلك أول ما قال له ذلك، وروى ابن إسحاق، وأحمد من حديث عمّار بن ياسر:"قال: نِمت أنا وعليّ في غزوة العسيرة في نخل، فما أفقنا إلا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يحرِّكنا برجله، يقول لعليّ: قم يا أبا تراب؛ لِمَا يُرى عليه من التراب، وهذا إن ثبت حُمل على أنه خاطبه بذلك في هذه الكائنة الأخرى، ويُروى من حديث ابن عباس، أن سبب غضب عليّ كان لمّا آخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، ولم يؤاخ بينه وبين أحد، فذهب إلى المسجد، فذكر القصة، وقال في آخرها: "قم، فأنت أخي"، أخرجه الطبرانيّ، وعند ابن عساكر نحوه، من حديث جابر بن سمرة، وحديث الباب أصحّ، ويمتنع الجمع بينهما؛ لأن قصة المؤاخاة كانت أول ما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، وتزويج عليّ بفاطمة، ودخوله عليها كان بعد ذلك بمدة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6209](2409)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(441) وفي "الفضائل"(3703) و"الأدب"(6204) و"الاستئذان"(6280)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1/ 358)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 191)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 446)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(42/ 17)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز دخول الرجل في بيت ابنته بغير إذن زوجها، حيث يَعلم رضاه.
2 -
(ومنها): استعطاف الشخص على غيره بذِكر ما بينهما من القرابة.
(1)
"الفتح" 8/ 422، كتاب "الفضائل" رقم (3703).
3 -
(ومنها): بيان فضيلة عظيمة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
4 -
(ومنها): إباحة النوم في المسجد لغير الفقراء، ولغير الغريب، وكذا القيلولة في المسجد، فإن عليًّا لم يَقِلْ عند فاطمة رضي الله عنهما، بل نام في المسجد، وفي "كتاب المساجد" لأبي نعيم من حديث بشر بن جبلة، عن أبي الحسن، عن عمرو بن دينار، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، يرفعه:"لا تمنعوا القائلة في المسجد مقيمًا، ولا ضيفًا".
5 -
(ومنها): استحباب الممازحة للغاضب بالتكنية بغير كنية؛ إذا كان ذلك لا يغضبه، بل يؤنسه.
6 -
(ومنها): مداراة الصهر، وتسلية أمره في غيابه.
7 -
(ومنها): جواز التكنية بغير الولد، فإنه كناه أبا تراب، وما كان لعليّ اسم أحب إليه منه، وإنه كان يفرح إذا دُعي به.
8 -
(ومنها): جواز إبداء المنكبين في غير الصلاة.
9 -
(ومنها): جواز تكنية الشخص بأكثر من كنية، والتلقيب بلفظ الكنية، وبما يُشتق من حال الشخص، وأن اللقب إذا صدر من الكبير في حق الصغير تلقاه بالقبول، ولو لم يكن لَفْظه لَفْظ مدح، وأن من حَمَل ذلك على التنقيص لا يُلتفت إليه، وهو كما كان أهل الشام ينتقصون ابن الزبير بزعمهم حيث يقولون له: ابن ذات النطاقين، فيقول:"تلك شَكاة ظاهر عنك عارها".
10 -
(ومنها): بيان أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طُبع عليه البشر من الغضب، وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته، ولا يعاب عليه، قاله ابن بطّال رحمه الله.
وقال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون سبب خروج عليّ خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة رضي الله عنهما، فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما.
11 -
(ومنها): بيان كرم خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه توجه نحو عليّ؛ ليترضاه، ومسح التراب عن ظهره؛ لِيُبْسطه، وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته، ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده.
12 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار، وتَرْك معاتبتهم؛
إبقاءً لمودتهم؛ لأن العتاب إنما يُخشى ممن يُخشى منه الحقد، لا ممن هو منزه عن ذلك.
[تنبيه]: أخرج ابن إسحاق، والحاكم من طريقه من حديث عمار، أنه "كان هو وعليّ في غزوة العشيرة، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد عليًّا نائمًا، وقد علاه تراب، فأيقظه، وقال له: ما لك أبا تراب؟ ثم قال: ألا أحدّثك بأشقى الناس. . ." الحديث، وغزوة العشيرة كانت في أثناء السثة الثانية قبل وقعة بدر، وذلك قبل أن يتزوج عليّ فاطمة، فإن كان محفوظًا أمكن الجمع بأن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم في حقّ عليّ، والله أعلم.
وقد ذكر ابن إسحاق عقب القصة المذكورة قال: حدّثني بعض أهل العلم أن عليًّا كان إذا غضب على فاطمة في شيء، لم يكلمها، بل كان يأخذ ترابًا فيضعه على رأسه، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى ذلك عَرَف، فيقول:"ما لك يا أبا تراب؟ " فهذا سبب آخر يقوي التعدد، والمعتمَد في ذلك كله حديث سهل في الباب، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(5) - (بَابُ فَضْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه
-)
هو سعد بن أبي وقاص مالك بن وُهيب، ويقال: أهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب بن مرّة، يَجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرّة، وعدد ما بينهما من الآباء متقارب، وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تُسْلم، مات بالعقيق سنة خمس وخمسين، وقيل: بعد ذلك إلى ثمانية وخمسين، وعاش نحوًا من ثمانين سنةً، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اسمه سعد بن مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب بن مرَّة، يكنى: أبا إسحاق، أسلم قديمًا، وهو ابن سبع عشرة
(1)
"الفتح" 14/ 87 - 88، كتاب "الأدب" رقم (6204).
(2)
"الفتح" 8/ 439، كتاب "الفضائل" رقم (3725).
سنة، وقال: مكثت ثلاثة أيام، وأنا ثلث الإسلام، وقال: أنا أول من رمى بسهم في سبيل الله، شَهِد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووَلي الولايات العظيمة من قِبَل عمر وعثمان رضي الله عنهم، وهو أحد أصحاب الشورى، وأحد الشهود لهم بالجنة، تُوُفّي في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وصلَّى عليه مروان بن الحكم، ومروان إذ ذاك والي المدينة، ثم صلى عليه أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أُدخلت جنازته المسجد، فصلّين عليه في حُجَرهنّ، وكُفِّن في جبة صوف، لقي المشركين فيها يوم بدر، فوصّى أن يكفّن فيها، ودُفن بالبقيع سنة خمس وخمسين، ويقال: سنة خمسين، وهو ابن بضع وسبعين سنة، ويقال: ابن اثنين وثمانين، ورُوي عنه من الحديث مائتان وسبعون، أُخرج له منها في "الصحيحين" ثمانية وثلاثون. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6210]
(2410) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَرِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، قَالَتْ: وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاح، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المديني لا يقدّمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) المدنيّ، تقدّم قبل باب.
(1)
"المفهم" 6/ 279.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ أبو سعيد القاضي، ثقةٌ ثبث [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ) الْعَنَزيّ، حليف بني عديّ، أبو محمد المدنيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله رؤيةٌ، ولأبيه صحبة مشهورة، ووثّقه العجليّ [2] مات سنة بضع وثمانين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1619.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بصريًّا إلا أنه سكن المدينة مدّة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّة، وفيه عائشة من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: أَرِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الراء، من باب تَعِب، بمعنى الرواية التالية بلفظ:"سَهِرَ"، قال المجد رحمه الله: الأَرَقُ محرّكةً: السهر بالليل؛ كالائتراق، أَرِقَ، كفَرِحَ، فهوأَرِقٌ، وآرقٌ. انتهى
(1)
. (ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلةً من الليالي، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ "؛ أي: سَهِر عند أول قدومه على المدينة في ليلة من الليالي، فقال: "ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة". قيل: كان هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، قبل أن ينزل عليه:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، قلت
(2)
: ويَحْتَمِل أن يقال: إن قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ليس فيه ما يناقض احتراسه من الناس، ولا ما يمنعه، كما أن إخبار الله تعالى عن نَصْره، وإظهاره لِدِينه ليس فيه ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العَدَد، والعُدَد، والأخذ بالجدّ والحزم، والحذر، وسرُّ ذلك أن هذه أخبار عن عاقب الحال، ومآله، لكن هل تحصل تلك العاقبة عن سبب معتاد، أو عن غير سبب؟ لم يتعرض ذلك الأخبار له، فليُبْحَث عنه في موضع آخر، ولمّا بحثت عن ذلك وجدت
(1)
"القاموس المحيط" ص 42،
(2)
القائل هو: القرطبيّ، فتنبّه.
الشريعة طافحة بالأمر له ولغيره بالتحصن، وأخْذ الحذر من الأعداء، ومدافعتهم بالقتل، والقتال، وإعداد الأسلحة والالات، وقد عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخَذ به، فلا تعارض في ذلك، والله الموفق لفهم ما هنالك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم سَهِر، فلما قَدِم المدينة قال: ليت رجلًا صالِحًا من أصحابي، يحرسني الليلة"، قال في "الفتح":، هكذا في هذه الرواية، ولم يبيِّن زمان السهر، وظاهره أن السهر كان قبل القدوم، والقول بعده، وقد أخرجه مسلم من طريق الليث، عن يحيى بن سعيد، وقال فيه: "سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدمه المدينة ليلةَ، فقال
…
"، فذكره، وظاهره أن السهر والقول معًا كانا بعد القدوم، وقد أخرجه النسائيّ من طريق أبي إسحاق الفزاري، عن يحيى بن سعيد، بلفظ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قَدِم المدينة يسهر من الليل".
وليس المراد بقدومه المدينة أول قدومه إليها من الهجرة؛ لأن عائشة إذ ذاك لم تكن عنده، ولا كان سعد أيضًا ممن سبق.
وقد أخرجه أحمد عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد، بلفظ:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة، وهى إلى جَنْبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟. . ." الحديث.
وقد روى الترمذيّ من طريق عبد الله بن شقيق، عن عائشة، قالت:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الآية [المائدة: 67] "، وإسناده حسنٌ، واختُلف في وصله وإرساله. انتهى
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: هذا الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يُحرَس بعد ذلك بناءً على سَبْق نزول الآية، لكن ورد في عدة أخبار أنه حُرس في بدر، وفي أُحد، وفي الخندق، وفي رجوعه من خيبر، وفي وادي القرى، وفي عمرة القَضِيَّة، وفي حنين، فكأن الآية نزلت متراخية عن وقعة حنين، ويؤيده ما أخرجه
(1)
"المفهم" 6/ 280.
(2)
"الفتح" 7/ 162، كتاب "الجهاد" رقم (2885).
الطبرانيّ في "الصغير" من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "كان العباس فيمن يحرس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية تَرَك"، والعباس إنما لازمه بعد فتح مكة، فَيُحمَل على أنها نزلت بعد حُنين، وحديث حراسته ليلة حنين أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والحاكم، من حديث سهل بن الحنظلية:"أن أنس بن أبي مرثد حَرَس النبيَّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة".
وتتبَّع بعضهم أسماء مَن حَرَس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجَمَع منهم: سعدُ بن معاذ، ومحمد بن مسلمة، والزبير، وأبوأيوب، وذكوان بن عبد القيس، والأدرع السلميّ، وابن الأدرع، واسمه مِحْجَن، ويقال: سلمة، وعبّاد بن بشر، والعباس، وأبو ريحانة، وليس كل واحد من هؤلاء في الوقائع التي تقدَّم ذِكرها حَرَس النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده، بل ذُكر في مطلق الْحَرَس، فأمكن أن يكون خاصًّا به، كأبي أيوب حين بنائه بصفية بعد الرجوع من خيبر، وأمكن أن يكون حَرَس أهل تلك الغزوة؛ كأنس بن أبي مرثد، والعلم عند الله تعالى. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: "لَيْتَ رَجُلًا صالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ")؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم تمنّى أن يُحرس تلك الليلة، فحقّق الله أمنيّته، حيث أُلهم سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه-أن يأتيه ليحرسه، كما بيَّنته عائشة رضي الله عنها:(قَالَتْ: وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاح، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟ ") الذي يُسمع صوت سلاحه، (قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) خبر لمحذوف؛ أي: أنا سعد بن أبي وقّاص (يَا رَسُولَ اللهِ جِئْتُ أَحْرُسُكَ) من باب نصر؛ أي: أحفظ مِنْ تعرّض العدوّ لك بالأذى، وفي رواية الليث التالية:"فقال: وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم". (قَالَتْ عَائِشَةُ: فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ)؛ أي: تردّد نفسه في حَلْقه، يقال: غطّ النائم يَغِطّ من باب ضرب غطيطًا: تردّد نَفَسه صاعدًا إلى حلقه حتى يَسمعه من حوله، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 17/ 79، كتاب "التمنّي" رقم (7231).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 449.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6210 و 6211 و 6212](2410)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2885) و"التمنّي"(7231)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 88)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 141) وفي "الفضائل"(1305)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 61 و 272)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6986)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1411)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 501)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الأخذ بالْحَذَر، والاحتراس من العدوّ، وأن على الناس أن يحرُسوا سلطانهم خشية القتل.
2 -
(ومنها): الثناء على من تبرعَّ بالخير، وتسميته صالِحًا، وإنما عانى النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوة توكّله؛ للاستنان به في ذلك، وقد ظاهر بين درعين، مع أنهم كانوا إذا اشتدّ البأس كان أمام الكل، وأيضًا فالتوكل لا ينافي تعاطي الأسباب؛ لأن التوكل عمل القلب، وهي عمل البدن، وقد قال إبراهيم عليه السلام:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقال صلى الله عليه وسلم:"اعقلها، وتوكّل".
قال ابن بطال رحمه الله: نُسخ ذلك، كما دلّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها، وقال القرطبيّ رحمه الله: ليس في الآية ما ينافي الحراسة، كما أن إعلام الله نصْر دينه وإظهاره ما يمنع الأمر بالقتال، وإعداد العُدَد، وعلى هذا فالمراد: العصمة من الفتنة، والإضلال، أو إزهاق الروح، والله أعلم.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قول سعد: "وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه" دليلٌ على مكانة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكرامته على الله تعالى، فإنَّه قضى أمنيته، وحقّق في الحين طِلْبَته، وفيه دليل على أن سعدًا رضي الله عنه من عباد الله الصالحين المحدَّثين المُلْهَمين، وتخصيصه بهذه الحالة كلها، وبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له من أعظم الفضائل، وأشرف المناقب، وكذلك جَمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم له أبويه، وفداؤه بهما خاصَّةٌ مِن خصائصه؛ إذ لم يُروَ،
ولا سُمع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم فدى أحدًا من الناس بأبويه جميعًا غير سعد هذا، وغير ما يأتي في حديث ابن الزبير. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6211]
(. . .) - (حَدَّثنَا قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَهِرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ لَيْلَةً، فَقَالَ:"لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ"، قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ:"مَنْ هَذَا؟ "، قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا جاءَ بِكَ؟ "، قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ نَامَ. ورفي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ: فَقُلْنَا: مَنْ هَذَا؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ المشهور، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ)؛ أي: صوت سلاح صدم بعضه بعضًا.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6212]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَرِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ).
(1)
"المفهم" 6/ 280 - 281.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، تقدم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثقفي، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8](ت 194) عن نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب بن عبد المجيد الثقفي عن يحيى بن سعيد هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1105)
- أخبرنا عبد الوهاب الثقفيّ، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: قالت عائشة: أَرِق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال:"ليت رجلًا من أصحابي يحرسني الليلة"؛ إذ سمعنا صوت السلاح، فقال:"من ذا؟ " قال سعد: أنا يا رسول الله جئت أحرسك، قال: فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غَطِيطه. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6213]
(2411) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ -يَعْنِي: ابْنَ سَعْدٍ- عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَا جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبويهِ لأَحَدٍ، غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فَإنهُ جَعَلَ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أحُدٍ: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي، وَأُمِّي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ) بن الهاد الليثيّ، أبو الوليد المدنيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذَكَره العجليّ من كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا في الفقهاء [2] مات بالكوفة مقتولًا سنة إحدى وثمانين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الحيض" 1/ 687.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبله بباب.
(1)
"مسند إسحاق بن راهويه" 2/ 525.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن شَدَّادٍ) الليثيّ المدنيّ، أنه (قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا)؛ أي: ابن أبي طالب رضي الله عنه (يَقُول: مَا) نافية، (جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ)؛ أي: ما فدّى أحدًا بأبويه جميعًا، (غَيْرَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ) هو ابن أبي وقّاص رضي الله عنه، قال النوويّ رحمه الله: أما قوله: "ما جمع أبويه لغير سعد"، وذكر بعدُ أنه جَمَعهما للزبير، وقد جاء جَمْعهما لغيرهما أيضًا، فيُحْمَل قول عليّ رضي الله عنه على نفي علم نفسه؛ أي: لا أعلمه جمعهما إلا لسعد بن أبي وقاص، وهو سعد بن مالك. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (جَعَلَ يَقُولُ لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ) بضمّتين؛ أي: يوم غزوة أُحُد، ("ارْمِ فِدَاكَ أَبِي، وَأُمِّي")، وفي رواية الترمذيّ:"ارْمِ أيها الغلام الْحَزَوَّر"
(2)
، وقال الزهريّ: رمى سعد يومئذ ألف سهم
(3)
.
قال الجوهريّ: الفداء إذا كُسر أوله يُمَدّ، ويقصر، وإذا فُتح فهو مقصور، يقال: قُمْ فِدًى لك أبي.
وقال الخطابيّ: التفدية من رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء، وأدعيته خليق أن تكون مستجابة، وادَّعَى المهلب أن هذا مما خُصّ به سعد، وليس كذلك ففي "الصحيحين" أنه فَدَى الزبير بذلك، ولعل عليًّا رضي الله عنه لم يسمعه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6213 و 6214](2411)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2905)، و"المغازي"(4058)، و (الترمذيّ) في "الأدب" (2828
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 184 - 185.
(2)
والحزوَّر من الغلمان: هو الذي قد قوي، واشتد، وخَدَم، ويُجمع: حزاورة، وحزوَّرين، قاله في "تهذيب الآثار" 3/ 115.
(3)
"عمدة القاري" 17/ 149.
و 2829) و"المناقب"(3753)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(194)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(129)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 144) وفي "الفضائل"(1314)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(12/ 86 - 87)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 141)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6988)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1405)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3920)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم فداه بأبيه وأمه.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة الرمي، والحثّ عليه، والدعاء لمن فعل خيرًا.
3 -
(ومنها): جواز التفدية بالأبوين، قال النوويّ رحمه الله: التفدية جائزة عند الجمهور، وكَرِهه عمر بن الخطاب، والحسن البصريّ، وكَرِهه بعضهم في التفدية بالمسلم من أبويه، والصحيح الجواز مطلقًا؛ لأنه ليس فيه حقيقة فداء، وإنما هو بِرّ، ولُطف، وإعلام بمحبته له، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالتفدية مطلقًا.
وقال الطبريّ في "تهذيبه": في الحديث دليلٌ على صحة قول القائلين بإجازة تفدية الرجل بأبويه ونفسه، وفساد قول منكري ذلك، فإن ظنّ ظان أن تفدية النبيّ صلى الله عليه وسلم مَن فداه بأبويه إنما جاز؛ لأن أبويه كانا مشركين، فأما المسلم فإنه غير جائز له أن يفدي مسلمًا ولا كافرًا بنفسه، ولا بأحد سواه من أهل الإسلام اعتلالًا منه بما حدّثني به يحيى بن داود الواسطيّ، قال: حدّثنا أبو أسامة، قال: أخبرني مبارك، عن الحسن، قال: دخل الزبير على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو شاكٍ، فقال: كيف تجدك؟ جعلني الله فداك، فقال له:"أما تركت أعرابيتك بعدُ؟ "، قال الحسن: لا ينبغي أن يفدي أحد أحدًا، ثم ساقه بسند آخر، ثم قال: هذه أخبار واهية الأسانيد، لا تثبت بمثلها في الدين حجة، وذلك أن مراسيل الحسن أكثرها صُحُف غير سماع، وأنه إذا وصل الأخبار فأكثر روايته عن مجاهيل، لا يُعرفون، ومن كان كذلك فيما يروي من الأخبار، فإن الواجب عندنا أن نتثبت في مراسيله، وأن المنكدر بن محمد عند أهل النقل ممن لا يعتمَد على نَقْله.
وبعدُ فلو كانت هذه الأخبار التي ذكرناها عن المنكدر بن محمد، عن الحسن، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحاحًا لم يكن فيها لمحتج بها حجة في إبطال ما روينا عن عليّ والزبير رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبرين اللذين ذكرناهما عنه أنه فدى من فدى بأبويه، ولا كان في ذلك دلالة على أن قِيْلَ ذلك غير جائز؛ إذ لا بيان فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى الزبير عن قول ذلك له، بل إنما فيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له:"أما تركت أعرابيتك بعدُ"، والمعروف من قول القائل إذا قال: إن فلانًا لم يترك أعرابيته بعدُ أنه إنما نَسَبه إلى الجفاء، لا إلى فِعل ما لا يجوز فعله، فلو صح خبر الحسن الذي رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله ما قال الزبير لم يَعْدُ أن يكون ذلك كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم نسبة لقول الزبير الذي قال له إلى الجفاء، وإعلامًا منه له أن غيره من القول، والتحية ألطف، وأرقّ منه.
وقد روينا عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد لا تُشبه أسانيد خبر الحسن في الصحة أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلنا الله فداك، فلم يُنْكِر ذلك عليهم. انتهى كلام الطبريّ رحمه الله
(1)
.
وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": باب قول الرجل: "جعلني الله فداك"، قال في "الفتح"؛ أي: هل يباح، أو يكره؟ وقد استوعب الأخبار الدالة على الجواز أبو بكر بن أبي عاصم في أول كتابه "آداب الحكماء"، وجزم بجواز ذلك، فقال: للمرء أن يقول ذلك لسلطانه، ولكبيره، ولذوي العلم، ولمن أحب من إخوانه، غيرُ محظور عليه ذلك، بل يثاب عليه إذا قصد توقيره، واستعطافه، ولو كان ذلك محظورًا لنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم قائل ذلك، ولأعلمه أن ذلك غير جائز أن يقال لأحد غيره.
قال الطبريّ: في هذه الأحاديث دليل على جواز قول ذلك، وأما ما رواه مبارك بن فَضَالة عن الحسن:"قال: دخل الزبير على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو شاكٍ، فقال: كيف تجدك؟ جعلني الله فداك، قال: ما تركت أعرابيتك بعدُ"، ثم ساقه من هذا الوجه، ومن وجه آخر، ثم قال: لا حجة في ذلك على المنع؛ لأنه لا يقاوم تلك الأحاديث في الصحة، وعلى تقدير ثبوت ذلك فليس فيه صريح
(1)
"تهذيب الآثار" 3/ 113.
المنع، بل فيه إشارة إلى أنه ترك الأَولى في القول للمريض، إما بالتأنيس، والملاطفة، وإما بالدعاء، والتوجع.
فإن قيل: إنما ساغ ذلك؛ لأن الذي دعا بذلك كان أبواه مشركين.
فالجواب: أن قول أبي طلحة كان بعد أن أسلم، وكذا أبو ذرّ، وقول أبي بكر كان بعد أن أسلم أبواه. انتهى ملخصًا.
ويمكن أن يُعترض بأنه لا يلزم من تسويغ دول ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يَسُوغ لغيره؛ لأن نفسه أعز من أنفُس القائلين، وآبائهم، ولو كانوا أسلموا.
فالجواب ما تقدم من كلام ابن أبي عاصم، فإن فيه إشارة إلى أن الأصل عدم الخصوصية، وأخرج ابن أبي عاصم من حديث ابن عمر: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "فداك أبوك"، ومن حديث ابن مسعود: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "فداكم أبي، وأمي"، ومن حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك للأنصار. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6214]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمُّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِئ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، مَنْ مِسْعَرٍ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ مِسْعَرٍ، كُلُّهُمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَليّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة عشر:
1 -
(وَكيعُ) بن الجرّاح تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: سقط من سند مسلم هنا سفيان، وهو الثوري، وقد نبّه على ذلك الحافظ المزيّ: رحمه الله في "تحفته"، فأشار إلى أن مسلمًا رواه عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، -يعني: عن سفيان- ثم قال: سقط سفيان من كتاب مسلم، قال أبو مسعود: هكذا روى مسلم حديث أبي بكر عن وكيع، وأسقط
(1)
"الفتح" 58 - 59، كتاب "الأدب" رقم (6185).
منه سفيان، فتوهّم الناس أنه وكيع عن مسعر، وإنما رواه أبو بكر في "المسند"، و"المغازي"، وفي غير موضع عن وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم
(1)
.
حدّثنا أبو عمر النَّمَريّ، نا سعيد بن نصر، نا قاسم، نا ابن وضّاح، نا ابن أبي شيبة، نا وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شدّاد، عن عليّ بن أبي طالب، قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي أحدًا بأبويه إلا سعدًا، فإني سمعته يقول يوم أُحد:"ارم فداك أبي وأمي". انتهى
(2)
.
وقال الحافظ في "نكته": أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" بسنده إلى أبي بكر، ثنا وكيع، ثنا سفيان، وقال: أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن سفيان، فهذا يُشعر بأن سقوط سفيان من الرواة عن مسلم. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن، واتّضح بما سبق أنه سقط من هذا السند ذِكر سفيان، وهو الثوريّ، وسقوطه من رواة مسلم، لا منه، وأما ما قاله النوويّ رحمه الله من أنه أسقط من روايته سفيان الثوريّ بين وكيع ومسعر؛ لأن أبا بكر بن أبي شيبة رواه في "مسنده"، و"المغازي" وغير موضع عن وكيع، عن الثوريّ، عن مسعر، قال: وادعى بعضهم أن وكيعًا لم يُدرِك مسعرًا
…
إلى آخر كلامه، فهو غلط فاحشٌ، مبنيّ على التصحيف، فقد تصحّف عليه سعد إلى مسعر، فالثوريّ يرويه عن سعد، لا عن مسعر، فتنبّه.
وكذا مشى الأبيّ على كلام النوويّ رحمه الله، من أنه وكيع عن مسعر، وذكر عن المازريّ كلامًا يتعلّق بلقيّ وكيع مسعرًا، وتبعه على ذلك بعض الشرّاح
(4)
، فكل ذلك ليس بصحيح، بل الصواب أن الساقط هو سفيان، وهو يرويه عن سعد بن إبراهيم، لا عن مسعر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"تحفة الأشراف" 7/ 410.
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 913 - 914.
(3)
"النكت الظراف" 7/ 410.
(4)
هو: الشيخ الهرري، راجع شرحه: 23/ 472.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيىى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل بابين.
6 -
(مِسْعَرُ) بن كدام، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (كلّهُمْ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة، وهم شعبة، وسفيان الثوريّ، ومسعر، كلهم رووه عن سعد بن إبراهيم بسنده المذكور.
[تنبيه]: رواية شعبة عن سعد بن إبراهيم ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(129)
- حدّثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد، عن علي قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه قال له يوم أُحد:"ارم سعدُ فداك أبي وأمي". انتهى
(1)
.
ورواية وكيع، عن سفيان، عن سعد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(32145)
- حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد، عن عليّ بن أبي طالب قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفدي بأبويه أحدًا، إلا سعدًا، فإني سمعته يقول يوم أُحد:"ارم سعدُ فداك أبي وأمي". انتهى
(2)
.
ورواية مسعر عن سعد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا محمد بن بشر، عن مسعر، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: سمعت عليًّا يقول: ما
(1)
"سُنن ابن ماجه" 1/ 47.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 375.
سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد، إلا لسعد. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6215]
(2412) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -يَعْنِي: ابْنَ بِلَالٍ- عَنْ يَحْيَى -وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا في الباب وقبله، و"يحيى بن سعيد" هو: الأنصاريّ، و"سَعِيدٌ" هو: ابن المسيِّب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدٍ) هو: ابن المسيِّب، (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقاصٍ) مالك بن وُهيب رضي الله عنه، وفي رواية للبخاريّ: "عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن الْمُسيِّب قال: سمعت سعدًا يقول
…
". (قَالَ: لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَبَويهِ يَوْمَ أُحُدٍ)؛ أي: في التفدية، وفي رواية للبخاريّ: "قال سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: جَمَع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبويه كليهما، يريد: حين قال: فداك أبي وأمي، وهو يقاتل".
وقال الحافظ رحمه الله ورأيت في هذا الحديث زيادة من وجه آخر مرسل، أخرجها ابن عائذ، عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن حمزة، قال: قال سعد: "رميت بسهم، فردّ علي النبيّ صلى الله عليه وسلم سهمي أعرفه، حتى واليت بين ثمانية أو تسعة، كل ذلك يردّه عليّ، فقلت: هذا سهم دم، فجعلته في كنانتي، لا يفارقني"، وعند الحاكم لهذه القصّة بيان سبب، فأخرج من طريق يونس بن بكير، وهو في المغازي: روايته من طريق عائشة بنت سعد، عن أبيها: "قال: جال الناس يوم أُحد تلك الجولة، تنحيت، فقلت: أذود عن نفسي، فإما أن أنجو، وإما أن أُستَشهَدَ، فإذا رجل محمرّ وجهه، وقد كاد المشركون أن يركبوه، فملأ يده من الحصى، فرماهم، وإذا بيني وبينه المقداد، فأردت أن
(1)
"السُّنن الكبرى" 6/ 56.
أسأله عن الرجل، فقال لي: يا سعد هذا رسول الله يدعوك، فقمت، وكأنه لم يصبني شيء من الأذى، وأجلسني أمامه، فجعلت أرمي
…
"، فذكر الحديث
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6215 و 6216 و 6217](2412)، و (البخاريّ) في "الفضائل"(3725) و"المغازي"(4056 و 4057)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2755 و 2856) و"المناقب"(و 3756)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 61)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(130)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 174 و 180)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6216]
(. . .) - (حَدَّثنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ الْوَهَّاب، كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) ضمير التثثية للّيث بن سعد، وعبد الوهّاب الثقفيّ.
[تنبيه]: رواية الليث عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3831)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا ليث، عن يحيى، عن ابن المسيِّب، أنه قال: قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبويه كليهما، يريد حين قال: فداك أبي وأمي، وهو يقاتل. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 9/ 130، كتاب "المغازي" رقم (4056).
(2)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1490.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن يحيى بن سعيد، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6217]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -يَعْنِي: ابْنَ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ لَهُ أَبَويهِ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: كَانَ رَجُل مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"ارْمِ فِدَاكَ أَبِي، وَأُمِّي"، قَالَ: فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمِ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ، فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ
(1)
عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وقد تقدّم الإسناد نفسه في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه (أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ لَهُ أَبويهِ)؛ أي: في التفدية، حيث قال:"ارم فداك أبي وأمي". (يَوْمَ أحُدٍ)؛ أي: غزوة أُحُد. (قَالَ) سعد مبيّنًا سبب تفدية النبيّ صلى الله عليه وسلم له بأبويه: (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه
(2)
. (قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ)؛ أي: أثخن فيهم، وعَمِل فيهم نحو عمل النار، قاله النوويّ
(3)
، وقال القرطبيّ: أي: أصاب منهم كثيرًا، وآلمهم حتى كأنه فعل فيهم ما تفعله النار من الإحراق. انتهى
(4)
.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لسعد، وفيه التفات، فإن الظاهر أن يقول: فقال لي (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ارْمِ فِدَاكَ أَبِي، وَأُمّي"، قَالَ) سعد (فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ)؛ أي: رميته بسهم لا حديدة فيه، وأصل النزع: الجذب، (فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ) قال النوويّ: كذا في أكثر الأصول بالجيم والنون، وفي بعضها:"حبته" بحاء مهملة، وباء موحّدة مشدّدة، ثم مثناة فوق؛ أي: حبة قلبه. انتهى.
(1)
وفي نسخة: "وانكشفت".
(2)
"تنبيه المعلم" ص 410.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 185.
(4)
"المفهم" 6/ 281.
وقال القرطبيّ: "فأصبت جنبه" بالجيم والنون، كذا لأكثر الرواة، وكذا رويته، وقيّده القاضي الشهيد:"حبّته" بالحاء المهملة، والموحّدة؛ يعني به: حبة قلبه، وفيه بُعْدٌ. انتهى
(1)
.
(فَسَقَطَ) على الأرض ميتًا، (فَانْكَشَفَتْ) وفي نسخة:"وانكشفت"(عَوْرَتُهُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) سرورًا بقتل عدوّه، لا بانكشاف عورته، (حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ) قال القرطبيّ: النَّواجذ آخر الأضراس، وتقال على الضواحك، وأنها المعنيَّة في هذا الحديث، فإنها هي التي يمكنُ أن يُنظر إليها غالبًا في حال الضحك، وكان صلى الله عليه وسلم جُلّ ضحكه التبسُّم، فإذا استغرب فغايةُ ما يظهر منه ضواحكه، مع ندور ذلك منه، وقِلَّته. انتهى
(2)
.
والحديث سبق تخريجه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6218]
(1748)
(3)
- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، قَالَا: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، أنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَات مِنَ الْقُرْآن، قَالَ: حَلَفَتْ
(4)
أمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا، حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِه، وَلَا تَأْكُلَ، وَلَا تَشْرَبَ، قَالَتْ: زَعَمْتَ أَن اللهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أمّكَ، وَأنا آمُرُكَ بِهَذَا، قَالَ: مكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْد، فَقَامَ ابْن لَهَا، يُقَالُ لَهُ: عُمَارَةُ، فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ، فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الآيَةَ:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] وَفيهَا: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، قَالَ: وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنِيمَةً عَظِيمَةً، فَإِذَا فِيهَا سَيْف، فَأَخَذْتُهُ، فَأَتَيْتُ بِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ، فَقَالَ:"رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ"، فَانْطَلَقْتُ حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ ألْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ
(1)
"المفهم" 6/ 281.
(2)
"المفهم" 6/ 281.
(3)
هذا الرقم تقدّم، فهو مكرّر.
(4)
وفي نسخة: "فحلفت".
لَامَتْني نَفْسِي، فَرَجَعْتُ إِلَيْه، فَقُلْتُ: أَعْطِنِيه، قَالَ: فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ: "رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَدتَهُ"، قَالَ: فَأنزَلَ اللهُ عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنقال: 1]، قَالَ: وَمَرِضْتُ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَانِي، فَقُلْتُ: دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ، قَالَ: فَأَبَى، قُلْتُ: فَالنِّصْفَ، قَالَ: فَأبى، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ، قَالَ: فَسَكَتَ، فَكَانَ بَعْدُ الثُّلُثُ جَائِزًا، قَالَ: وَأتيْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ، نُطْعِمْكَ، وَنَسْقِيكَ
(1)
خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ: فَأَتيْتُهُمْ فِي حَشٍّ -وَالْحَشُّ: الْبُسْتَانُ- فَإِذَا رَأْسُ جَزُورٍ مَشْوِيٌّ عِنْدَهُمْ، وَزِقّ مِنْ خَمْرٍ، قَالَ: فَأَكَلْتُ، وَشَرِبْتُ مَعَهُمْ، قَالَ: فَذُكِرَتِ الأَنَصَارُ وَالْمُهَاجِرُونَ
(2)
عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الأَنْصَار، قَالَ: فَأَخَذَ رَجُل أَحَدَ لَحْيَيِ الرَّأس، فَضَرَبَنِي بِه، فَجَرَحَ بِأَنْفِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَأنزَلَ اللهُ عز وجل فِيَّ -يَعْنِي: نَفْسَهُ- شَأْنَ الْخَمْرِ: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90].
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب، أبو عليّ البغداديّ، قاضي الْمَوْصِل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سِمَاكُ بْنُ حَرْبِ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ الكوفيّ، أبو المغيرة، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّة مضطربةٌ، وقد تغيّر بآخره، فكان ربما تلقن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، وبالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
(1)
وفي نسخة: "ونُسقيك" بضم النون.
(2)
وفي نسخة: "فقذَكَرتُ الأنصارَ والمهاجرين".
شرح الحديث:
عن مُصْعَب بْنِ سَعْدٍ (عَنْ أَبيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه (أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَات مِنَ الْقُرْآنِ) هي أربع آيات، كما يأتي في الحديث التالي، وفي رواية الترمذي قال: أُنزلت فيّ أربع آيات، فذكر قصة، فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر؟ والله لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا حتى أموت، أو تَكْفُر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعموها شَجَروا فاها، فنزلت هذه الآية:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} الآية، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
ورُوي عن سعد أنه قال: كنت بارًّا بأمي، فأسلمتُ، فقالت: لتدعَنّ دينك، أو لا آكل، ولا أشرب، حتى أموت، فتُعَيَّر بي، ويقال: يا قاتل أمه، وبَقِيَتْ يومًا ويومًا، فقلت: يا أماه! لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فَكُلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكَلَتْ، ونزلت:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} الآية.
ثم أشار إلى الآية الأُولى بقوله:
(قَالَ: حَلَفَتْ أمّ سَعْدٍ) هي حمنة بنت سفيان بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ، كما ذكرها ابن سعد في "الطبقات"
(1)
. (أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ)؛ أي: سعدًا (أَبَدًا، حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ) دين الإسلام، (وَلَا تَأْكُلَ، وَلَا تَشْرَبَ، قَالَتْ) أمه (زَعَمْتَ أَنَّ اللهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ)؛ أي: أمَرك بالإحسان إليهما (وَأنَا أمُّكَ)؛ أي: فأحْسِن إليَّ بتنفيذ ما طلبته منك، (وَأنَا آمُرُكَ بِهَذَا)؛ أي: بالكفر بدينك. (قَالَ) سعد (مَكَثَتْ ثَلاثًا)؛ أي: ثلاث ليال، لا تأكل، ولا تشرب (حَتَّى غُشِيَ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ) بفتح الجيم، وضمّها؛ أي: المشقّة من الجوع والعطش، (فَقَامَ ابْن لَهَا، يُقَالُ لَهُ: عُمَارَةُ) هوأخو سعد، (فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَعْدٍ) حيث حَمَلها على هذا الجَهْد، (فَأَنزَلَ اللهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الآيَةَ) هي آية العنكبوت ({وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا})؛ أي: أمرناه بأن يحسن إليهما إحسانًا، ({وَإِنْ جَاهَدَاكَ})؛ أي: كلّفاك ({لِتُشْرِكَ بِي}){مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت: 8]، (وَ) نزلت أيضًا (فِيهَا) آية لقمان، وفيها ({وَصَاحِبْهُمَا})
(1)
"الطبقات الكبرى" 3/ 137 و 6/ 12.
أي الوالدين {فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15])؛ أي: بالمعروف والإحسان الدنيويّ، من الخُلُق الجميل، والحِلم، والاحتمال، والبرّ، والصلة.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى آمرًا عباده بالإحسان إلى الوالدين بعد الحثّ على التمسك بتوحيده، فإن الوالدين هما سبب وجود الإنسان، ولهما عليه غاية الإحسان، فالوالد بالإنفاق، والوالدة بالإشفاق؛ ولهذا قال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23 - 24].
ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإحسان إليهما، في مقابلة إحسانهما المتقدم، قال:{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} أي: وإن حَرَصا عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك وإياهما، لا تطعهما في ذلك، فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة، فأجزيك بإحسانك إليهما، وصَبْرك على دينك، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك، وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا، فإن المرء إنما يُحشر يوم القيامة مع مَنْ أحب، أي: حبًّا دينيًّا؛ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)} [العنكبوت: 9]. انتهى
(1)
.
ثم أشار إلى الآية الثانية، فـ (قَالَ: وَأَصَابَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَنِيمَةً عَظِيمَةً)، وذلك في غزوة بدر، (فَإِذَا فِيهَا سَيْف، فَأَخَذْتُهُ، فَأَتيْتُ بِهِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: نَفِّلْنِي)؛ أي: أعطنيه زيادة على نصيبي من المغنم، (هَذَا السَّيْفَ، فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُ)؛ أي: من الشجاعة، وقَتْل المشركين، واستئصالهم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ")؛ أي: في الغنائم، والظاهر أنه لم يوحَ إليه بحِلّ الغنائم، فأمَرَه بالردّ حتى يتبيّن أمره. (فَانْطَلَقْتُ)؛ أي: ذهبت لأردّه، (حَتَّى إِذَا أَرَدْتُ أَنْ ألْقِيَهُ فِي الْقَبَضِ) -بفتح القاف، والباء الموحّدة، والضاد المعجمة -: الموضع الذي يُجمع فيه الغنائم
(2)
. (لَامَتْنِي نَفْسِي)؛ أي: على ردّه، (فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: أَعْطِنِيه، قَالَ: فَشَدَّ لِي صَوْتَهُ)؛ أي: رَفَعه أكثر من الأول
(1)
"تفسير ابن كثير" 6/ 264 - 265.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 187.
مبالغة في الزجر ("رُدُّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ")، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية [الأنقال: 1])؛ أي: يجعلانها حيث شاءا، ولذلك أعطاه سعدًا، فأخذه، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن سعد بن أبي وقاص قال: لمّا كان يومُ بدر، وقُتل أخي عُمَيْر، وقَتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى "ذا الكتيفة"، فأتيت به نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فقال:"اذهب فاطرحه في القَبَض"، قال: فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخْذ سَلَبي، قال: فما جاوزت إلا يسيرًا حتى نزلت سورة الأنفال، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اذهب فخذ سيفك"
(1)
.
وأخرج أحمد أيضًا عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك قال: يا رسول الله، قد شفاني الله اليوم من المشركين، فَهَبْ لي هذا السيف، فقال:"إن هذا السيف لا لك، ولا لي، ضعه". قال: فوضعته، ثم رجعت، قلت: عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي! قال: إذا رجل يدعوني من ورائي، قال: قلت: قد أنزل الله فيّ شيئًا؟ قال: "كنتَ سألتني السيف، وليس هو لي وإنه قد وُهب لي، فهو لك". قال: وأنزل الله هذه الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما يتعلّق بقصّة السيف وآية الأنفال قد تقدّم البحث فيه مستوفًى في "كتاب الجهاد والسِّيَر" برقم [12/ 4546](1748) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
ورواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ من طرق، وقال الترمذيّ: حسن صحيح.
(قَالَ) سعد (وَمَرِضْتُ) بكسر الراء، من باب تَعِبَ، (فَأَرْسَلْتُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتانِي، فَقُلْتُ: دَعْنِي)؛ أي: اتركني، ولا تمنعني (أَقْسِمْ) بفتح الهمزة مضارع قَسَم ثلاثيًّا، من باب ضرب، (مَالِي حَيْثُ شِئْتُ)؛ أي: على الأقارب، والمساكين. (قَالَ: فَأَبَى) صلى الله عليه وسلم ذلك، (قُلْتُ: فَالنِّصْفَ) بالنصب على المفعوليّة؛ أي: أَقسم النصف حيث شئت، (قَالَ: فَأبَى، قُلْتُ: فَالثُّلُثَ،
(1)
"المسند" 1/ 180.
(2)
"المسند" 1/ 178.
قَالَ: فَسَكَتَ)؛ أي: لأن الثلث حقّ الشخص عند موته يتصدّق به، ويوصي به، (فَكَانَ بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لِقَطْعها عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد تلك الواقعة، (الثُّلُثُ)؛ أي: قَسْم الثلث بالوصيّة (جَائِزًا)؛ أي: فيجوز الآن لكلّ أحد أن يوصي بالثلث، وقصّة سعد في الوصيّة قد تقدّم البحث فيها مستوفي في "الوصايا".
ثم أشار إلى الآية الثالثة، فـ (قَالَ: وَأَتَيْتُ عَلَى نَفَرٍ) بفتحتين؛ أي: جماعة من الرجال، من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة
(1)
. (مِنَ الأنصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَقَالُوا: تَعَالَ) بفتح اللام: أمْر من تعالى يتعالى؛ أي: ارتفع، قال الفيّوميّ: تَعَالَ فِعل أمْر من تعالى يتعالى، وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل فيقول: تَعَالَ، ثم كَثُر في كلامهم، حتى استُعْمِل بمعنى هَلُمّ مطلقًا، وسواء كان موضع المدعوّ أعلى، أو أسفل، أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنى خاصّ، ثم استُعمل في معنى عامّ، ويتصل به الضمائر باقيًا على فَتْحه، فيقال: تَعَالَوا، تَعَالَيَا، تَعْالُينْ، وربما ضُمّت اللام مع جمع المذكر السالم، وكُسرت مع المؤنئة، وبه قرأ الحسن البصريّ في قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} الآية [آل عمران: 64]؛ لمجانسة الواو. انتهى
(2)
.
(نُطْعِمْكَ) بضمّ أوله، من الأطعام، (وَنَسْقِيكَ) بفتح أوله، من سقى يسقي ثلاثيًّا، كما قال تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، أو بضمّه، من أسقى يُسقي رباعيًّا، كما قال تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. (خَمْرًا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، قَالَ) سعد (فَأتيْتُهُمْ فِي حَشٍّ) بفتح الحاء المهملة، وضمّها، وفسّره بقوله:(-وَالْحَشُّ الْبُسْتَانُ- فَإِذَا) هي الفجائيّة، (رَأْسُ جَزُورٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الجَزُورُ من الإبل خاصّةً يقع على الذكر والأنثى، والجمع: جُزُرٌ، مثل رسول ورُسُل، ويُجمع أيضًا على جُزُرَاتٍ، ثم على جَزَائِرَ، ولفظ الْجَزُور أنثى، يقال: رعت الجَزُورُ، قاله ابن الأنباريّ، وزاد الصغانيّ: وقيل: الجَزُورُ: الناقة التي تُنحر، وجَزَرْتُ الجَزُورَ وغيرها،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 617.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 428.
من باب قتل: نحرتُها، والفاعل جَزَّارٌ، والحرفة الجِزَارَةُ، بالكسر، والمَجْزَرُ: موضع الجزر، مثل جعفر، وربما دخلته الهاء، فقيل: مَجْزَرَةٌ. انتهى
(1)
.
(مَشْوِيٌّ) مفعول مِن شوى اللحم، من باب ضرب، وأصله مشوويٌ، اجتمعت الواو والياء، وسُبقت إحداهما بالسكون، فقُلبت الواو ياء، وأُدغمت في الياء، فصار مشويًّا بياء مشدّدة، كما قال في "الخلاصة":
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَن مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًا غَيْرَمَا قدْ رُسِما
(عِنْدَهمْ، وَزِقٌّ) بكسر الزاي: الظَّرْف، وبعضهم يقول: ظَرْف زَفْتٍ، أو قِيرٍ، والجمع أزقاق، وزِقَاق، وزُقَّاقٌ، مثلُ كِتاب، ورُغْفان، قاله الفيّومي
(2)
، وقال المجد: الزِّقّ بالكسر: السِّقَاءُ، أو جلدٌ يُجزّ، ولا يُنتف للشراب وغيره، انتهى
(3)
. (مِنْ خَمْرٍ، قَالَ) سعد (فَأَكلْتُ) من ذلك المشويّ (وَشَرِبْتُ) من تلك الخمر (مَعَهُمْ، قَالَ: فَذُكِرَتِ) بالبناء للمفعول، (الأنصَارُ وَالْمُهَاجِرُونَ)؛ أي: ذُكر في ذلك المجلس حال الأنصار والمهاجرين، وفي بعض النسخ: "فذَكَرتُ الأنصار
…
إلخ" بالبناء للفاعل؛ يعني: أن سعدًا هو بدأ بذكرهم (عِنْدَهُمْ، فَقُلْتُ: الْمُهَاجِرُونَ خَيْرٌ مِنَ الأنصَارِ) حيث إنهم هاجروا في الله، وفارقوا الأهل، والأموال، وتركوا الأوطان لله سبحانه وتعالى، فهم خير. (قَالَ) سعد (فَأَخَذَ رَجُلٌ) زاد في رواية: "منهم"، قال ابن بشكوال: الرجل الأنصاريّ عِتبان بن مالك، وساق له شاهدًا، قال: وقيل: إنه حمزة بن عبد المطّلب، ذكره فتح بن إبراهيم عن أبي الطيّب الحريريّ البغداديّ، صاحب محمد بن جرير الطبريّ، واسم أبي الطيّب أحمد بن سليمان، وقال الشيخ وليّ الدين: قال الزهريّ: إن سعدًا كان هو الضارب لعتبان، ذكره صاحب "التنبيه"
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كون الضارب هو حمزة، أو سعد فيه نَظَر لا يخفى؛ لتصريح رواية مسلم بأنه من الأنصار، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(أَحَدَ لَحْيَيِ الرَّأْسِ) بفتح اللام، وسكون الحاء المهملة: تثنية لَحْيٍ، وهو
(1)
"المصباح المنير" 1/ 98.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 254.
(3)
"القاموس المحيط" ص 565.
(4)
"تنبيه المعلم" ص 410.
عَظْم الحَنَك، وهو الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيثُ ينبت الشعرُ، وهو أعلى وأسفلُ، وجمعه أَلْحٍ، ولُحيّ، مثلُ فَلْسٍ، وفُلُوسٍ، وأفلُسٍ
(1)
. (فَضَرَبَنِي بِهِ) وهذا الذي حصل بين سعد، وبين الأنصاريّ إنما هو لمّا سكروا من شُرب الخمر، كما سيأتي في رواية شعبة بلفظ:"فانتشينا"؛ أي: سَكِرنا، والله تعالى أعلم. (فَجَرَحَ بِأنفِي)، وفي الرواية التالية:"فضرب به أنف سعد، ففزره، -أي: شقّه- وكان أنف سعد مفزورًا"؛ أي: مشقوقًا. (فَأَتيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ) بما حصل بينه وبين الأنصاريّ من الضرب، (فَأنزَلَ اللهُ عز وجل في -يَعْنِي: نَفْسَهُ- شَأْنَ الْخَمْرِ)؛ يعني: أن الله تعالى حرّمها بسبب تلك الواقعة. ({إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ})؛ أي: القمار ({وَالْأَنْصَابُ})؛ أي: الأصنام التي تُنصب، فتُعبد من دون الله تعالى، ({وَالْأَزْلَامُ})؛ أي: القِداح التي يستقسمون بها، كانت في البيت عند سدنة البيت، وخدام الأصنام، يأتي الرجل إذا أراد حاجة، فيقبض منها شيئًا، فإن كان عليه: أمرني ربي، خرج إلى حاجته على ما أحب، أو كره
(2)
. ({رِجْسٌ})؛ أي: خبيث مستقذَر، ({مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} الآية [المائدة: 90])؛ أي: مما يحمل الشيطان عليه، فكأنه عَمَله، وتمام الآية:{فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، والضمير في "فاجتنبوه" للرجس، أو لعمل الشيطان، أو للمذكور، أو للمضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما تعاطي الخمر والميسر، قال النسفيّ رحمه الله في "تفسيره": أكّد تحريم الخمر والميسر من وجوه، حيث صدّر الجملة بـ "إنما"، وقرنهما بعبادة الأصنام، ومنه الحديث:"شارب الخمر كعابد الوثن"
(3)
، وجعلهما رجسًا من عمل الشيطان، ولا يأتي منه إلا الشرّ البحت، وأمَر بالاجتناب، وجعل الاجتناب من الفلاح، وإذا كان الاجتناب فلاحًا كان الارتكاب خسارةً. انتهى
(4)
.
[تنبيه]: لم يذكر في هذه الرواية الآية الرابعة، وستأتي، وهي آية: {وَلَا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 551.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 6/ 286.
(3)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله "الإيمان" لابن سلام (96).
(4)
"تفسير النسفيّ" 1/ 300.
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية [الأنعام: 52]، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6218 و 6219](1748)، و (أبو داود) في "سننه"(208)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3189)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 181 و 185 - 186)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9/ 174 و 21/ 70)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 104)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6992)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(782)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 269 و 291 و 8/ 285 و 9/ 26)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه حيث نزلت الآيات المذكورة فيه.
2 -
(ومنها): وجوب برّ الوالدين، وإن كانا كافرين بما لا يخالف الشرع.
3 -
(ومنها): حلّ الغنائم خصوصيّةٌ لهذا الأمة، وجواز تنفيل الإمام بعض الغزاة بما يراه.
4 -
(ومنها): جواز الوصيّة، وأنه لا يجوز إلا بالثلث.
5 -
(ومنها): تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة، قال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله: الأحاديث تدلّ على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحًا معمولًا به معروفًا عندهم، بحيث لا يُنكَر، ولا يغمر، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرّهم عليه، وهذا ما لا خلاف فيه، يدل عليه آية النساء:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43].
وهل كان يباح لهم شرب القَدْر الذي يُسكر؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين
بَقَر خواصر ناقَتَي عليّ رضي الله عنهما، وجَبّ أسنمتهما، فأَخبر عليّ بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى حمزة، فصدر عن حمزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لِمَا يجب عليه من احترام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتوقيره، وتعزيره، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر، ولذلك قال الراوي: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكِر على حمزة ولا عنَّفه، لا في حال سُكره ولا بعد ذلك، بل رجع لمَّا قال حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لأبي؟ على عقبيه القهقرى وخرج عنه.
وهذا خلاف ما قاله الأصوليون، وحكوه، فإنهم قالوا: إن السكر حرام في كل شريعة؛ لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم، وأصل المصالح العقل، كما أن أصل المفاسد ذهابه، فيجب المنع من كل ما يُذهبه، أو يشوّشه، إلا أنه يَحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشُربه السُّكر، لكنه أسرع فيه، فغلبه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله أيضًا: كان تحريم الخمر بتدريج، ونوازل كثيرة، فإنهم كانوا مولَعين بشربها، وأول ما نزل في شأنها:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219]؛ أي: في تجارتهم، فلما نزلت هذه الآية تركها لعض الناس وقالوا: لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير، ولم يتركها بعض الناس وقالوا: نأخذ منفعتها ونترك إثمها، فنزلت هذه الآية:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فتركها بعض الناس، وقالوا: لا حاجة لنا فيما يَشغلنا عن الصلاة، وشَرِبها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ} الآية؛ فصارت حرامًا عليهم حتى صار يقول بعضهم: ما حرَّم الله شيئًا أشد من الخمر.
وقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب، فإنه ذَكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر، وما ينزل بالناس من أجلها، ودعا الله في تحريمها، وقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر: انتهينا انتهينا.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 6/ 287.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] نسختها التي في المائدة: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ} . انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6219]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: قَالَ: فَكَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا بِعَصًا، ثُمَّ أَوْجَرُوهَا، وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا: فَضَرَبَ بِهِ أنفَ سَعْدٍ، فَفَزَرَهُ، وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) فاعل "ساق" ضمير شعبة.
وقوله: (يُطْعِمُوهَا شَجَرُوا فَاهَا بعَصًا)؛ أي: فتحوه، ثم صبّوا فيها الطعام، وإنما شَجَروها بالعصا؛ لئلا تُطَبِّقه، فيمتنع وصول الطعام جوفها، قال النوويّ: وهكذا صوابه بالشين المعجمة، والجيم، والراء، وهكذا في جميع النسخ، قال القاضي: ويروى "شحّوا فاها" بالحاء المهملة، وحذف الراء، ومعناه قريب من الأول؛ أي: أوسعوه، وفتحوه، والشَّحْو: التوسعة، ودابة شحوٌ: واسعة الخطو. انتهى
(2)
.
وقوله: (ثُمَّ أَوْجَرُوهَا)؛ أي: صبّوا الطعام في حلقها، لمحال الفيّوميّ رحمه الله: الْوَجُور بفتح الواو، وزانُ رَسُول: الدواء يُصبّ في الحلق، أوجرت المريض إيجارًا، فعلتُ به ذلك، ووجَرْته أَجِرُهُ، من باب وَعَدَ لغةٌ. انتهى
(3)
.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 6/ 286.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 187.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 648.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "شجروا فاها بعصًا، ثم أوجروها" -بالشين والجيم -؛ أي: فتحوا فمها، وأدخلوا فيه العصا؛ لئلا تُغلقه حتى يوجروها الغذاء، والوَجُور: -بفتح الواو - ما يُصَبُّ في وسط الفم، واللَّدود -بفتح اللام -: ما يُصَبُّ من جانب الفم، ويقال: وجرته، وأوجرته -ثلاثيًّا، ورباعيًّا - وقد رواه بعضُهم:"شحُّوا فاها" -بحاء مهملة، وواو من غير راء - وهو قريب من الأول؛ أي: وسَّعوه بالفتح، والشحو: التوسع في المشي، والدابة الشحواء: الواسعة الخطو، ويقال: شحا فاه، وشحا فوه -مُعَدًّى، ولازمًا -؛ أي: فَتَحه، ووصية الله تعالى بمبرَّة الوالدين المشركين، والإحسان إليهما، وإن كانا كافرَين، وحريصَين على حَمْل الولد على الكفر، يدلُّ دلالة قاطعة على عظيم حرمة الآباء، وتأكُد حقوقهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَفَزَرَهُ) بزاي، ثم راء؛ أي: شقّه.
وقوله: (وَكَانَ أَنْفُ سَعْدٍ مَفْزُورًا)؛ أي: مشقوقًا.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن سماك بن حرب هذه ساقها ابن حبّان في "صحيحه"، فقال:
(6992)
- أخبرنا عمر بن محمد الهمدانيّ، حدّثنا بندار، حدّثنا محمد، حدّثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: أنزلت فيّ أربع آيات، أصبت سيفأ، فأتيت به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفّلنيه، قال: ضَعْه، ثم قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفّلنيه، وأُجْعَل كمن لا غناء له؟ قال: ضعه من حيث أخذت، فنزلت هذه الآية:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1].
وصنع رجل من الأنصار طعامًا، فدعانا، فشربنا الخمر، حتى انتشينا، فتفاخرت الأنصار وقريش، فقالت الأنصار: نحن أفضل منكم، وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور، فضرب أنف سعد، ففزره، فكان أنف سعد مفزورًا، قال: فنزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90].
(1)
"المفهم" 6/ 282.
وقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبِرّ، والله لا أطعم طعامًا، ولا أشرب شرابًا، حتى أموت، أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يُطعموها شَجَروا فاها، فنزلت هذه الآية:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8].
قال: ودخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا مريض يعودني، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أُوصي بمالي كله؟، قال:"لا"، قلت: فبثلثيه؟، قال:"لا"، قلت: فبنصفه؟ قال: "لا"، قلت: فبثلثه؟ قال: فسكت. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6220]
(2413) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَعْدٍ: فِيَّ نَزَلَتْ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]، قَالَ: نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ، أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَالُوا لَهُ: تُدْنِي هَؤُلَاءِ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحِ) بن هانئ بن يزيد الحارثيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.
3 -
(أَبُوهُ) شُريح بن هانئ بن يزيد الحارثيّ الْمَذْحِجيّ، أبو المقدام الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2] قُتل مع ابن أبي بكرة بسجستان سنة (78)(بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو الثوريّ، هو شيخ وكيع الذي سقط من الإسناد قبل خمسة أحاديث.
وشرح الحديث يأتي في الذي بعده، وقوله:(قَالُوا لَهُ: تُدْنِي هَؤُلَاءِ)؛ أي: قال المشركون: إنك يا محمد تقرّب هؤلاء الفقراء إلى مجلسك، ونحن لا نجلس معهم، أو الكلام على تقدير الاستفهام الإنكاريّ، كأنهم قالوا: أتدني هؤلاء، وتدعونا أن نجلس معهم؛؛ أي: وهذا غير ممكن؛ لأننا
(1)
"صحيح ابن حبان" 15/ 452 - 453.
أصحاب شرف وعلوّ منزلة، فلا ينبغي لنا أن نجلس معهم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[1622]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَسَدِيُّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْح، عَنْ أَبِيه، عَنْ سَعْدٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلَاء، لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ، وَبِلَالٌ، وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا
(1)
، فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقَعَ، فَحَدَّث نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَسَدِيُّ) هو: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم، أبوأحمد الزبيريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
2 -
(إِسْرَائِيلُ) بن يونس بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ الْهَمْدانيّ، أبو يوسف الكوفيّ، ثقةٌ تُكُلِّم فيه بلا حجة [7](ت 160)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 542.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف عز وجل، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه سعد رضي الله عنه أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ) بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ نَفَرٍ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ) قال الخطيب: قائل هذا الكلام هو الأقرع بن حابس، وعُيينة بن
(1)
وفي نسخة: "نسيت اسميهما".
حِصْن. انتهى
(1)
. (لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ) الفقراء (لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا) قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: كان هؤلاء المشركون أشرافَ قومهم، وقيل: كان منهم عُيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، أنِفُوا من مجالسة ضعفاء أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ كصهيب، وسلمان، وعمار، وبلال، وسالم، ومِهجَع، وسعد هذا، وابن مسعود، وغيرهم، ممن كان على مثل حالهم استصغارًا لهم، وكِبرًا عليهم، واستفذارًا لهم؛ فإنهم قالوا: يُؤذوننا بريحهم، وفي بعض كتب التفسير أنهم لمّا عَرَضوا ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم أبي، فقالوا له: اجعل لنا يومًا، ولهم يومًا، وطلبوا أن يكتبَ لهم بذلك، فهمَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، دعا عليًّا ليكتب، فقام الفقراء، وجلسوا ناحية، فأنزل الله تعالى الآية.
قلتُ
(2)
: ولهذا أشار سعد بقوله: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما مال إلى ذلك طمعًا في إسلامهم، وإسلام قومهم، ورأى أن ذلك لا يُفَوِّتُ أصحابه شيئًا، ولا ينقصُ لهم قَدْرًا، فمال إليه، فأنزل الله تعالى:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] الآية؛ فنهاه عما هَمَّ به من الطرد، لا أنه أوقع الطرد، ووصف أولئك بأحسن أوصافهم، وأمره أن يصبر نفسه معهم بقوله:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بعد ذلك يقول:"مرحبًا بقوم عاتبني الله فيهم"، وإذا جالَسَهم لم يَقُم عنهم حتى يكونوا هم الذين يبدؤون حوله بالقيام. انتهى
(3)
.
(قَالَ) سعد (وَكُنْتُ أَنَا، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ) لم يُسمَّ، (وَبِلَالٌ) المؤذّن، (وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا)؛ أي: لم أتذكر اسمهما، وفي بعض النسخ:"نسيتُ اسميهما".
وفي رواية ابن ماجه من طريق قيس بن الربيع، عن المقدام بن شُريح، عن أبيه، عن سعد قال: نزلت هذه الآية فينا ستةٍ، فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال، قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 411.
(2)
القائل هو: القرطبيّ.
(3)
"المفهم" 6/ 284 - 285.
نرضى أن نكون أتباعًا لهم، فاطردهم عنك، قال: فدخل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} والآية. انتهى
(1)
.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} الآية قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عبديّ،
والحارث بن نوفل، وقَرَظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من بني عبد مناف، من أهل الكفر إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدًا يطرد عنه موالينا، وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا، وعُسَفاؤنا، كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدثى لاتّباعنا إياه، وتصديقنا له، قال: فاتى أبو طالب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحدّثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلتَ ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون من قولهم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} -إلى قوله -: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 51 - 53] قال: وكانوا بلالًا، وعمار بن ياسر، وسالمًا مولى أبي حذيفة، وصبيحًا مولى أسيد، ومن الحلفاء: ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القارئ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وعمرو بن عبد عمرو، وذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأبو مرثد الغنويّ حليف حمزة بن عبد المطلب، وأشباههم من الحلفاء، فنزلت في أئمة الكفر من قريش، والموالي، والحلفاء:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، فلما نزلت أقبل عمر رضي الله عنه، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعتذر من مقالته، فأنزل الله عز وجل:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} [الأنعام: 54]، وقوله:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54]؛ أي: فأكرمهم بردّ السلام عليهم، وبشّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم. انتهى
(2)
.
(فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقَعَ)؛ أي: حيث أراد أن يجعل لهؤلاء يومًا، ولهؤلاء يومًا، (فَحَدَّثَ نَفْسَهُ) بذلك (فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:
(1)
"سُنن ابن ماجه" 2/ 1383.
(2)
"تفسير ابن كثير" 2/ 136.
{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52].
قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، قيل: معناه: يدعون ربهم بالغداة بطلب التوفيق والتيسير، وبالعشي: قيل: معناه: بطلب العفو عن التقصير، وقيل: معناه: يذكرون الله بعد صلاة الصبح، وصلاة العصر، وقيل: يصلّون الصبح والعصر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يصلّون الصلوات الخمس، وقال يحيى بن أبي كثير: هي مجالس الفقه بالغداة والعشيّ، وقيل: يعني به: دوام أعمالهم، وعباداتهم؛ وإنَّما خصَّ طرفي النهار بالذِّكر؛ لأنَّ مَن عمل في وقت الشغل كان في وقت الفراغ من الشغل أعمل.
وقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ؛ أي: يُخْلصون في عباداتهم، وأعمالهم لله تعالى، ويتوجهون إليه بذلك لا لغيره، ويصح أن يقال: يقصدون بأعمالهم رؤية وجهه الكريم.
وقوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ؛ أي: من جزائهم، ولا كفاية رزقهم؛ أي: جزاؤهم، ورزقهم، وجزاؤك، ورزقك على الله تعالى، لا على غيره، فكأنه يقول: وإذا كان الأمر كذلك، فأقبِل عليهم، وجالِسهم، ولا تطردهم؛ مراعاة لحقّ من ليس على مثل حالهم في الدِّين والفضل، فإنْ فعلت كنت ظالِمًا، وحاشاه من وقوع ذلك منه؛ وإنَّما هذا بيان للأحكام، ولئلا يقع مثل ذلك من غيره من أهل الإسلام، وهذا نحو قوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقد علم الله منه أنه لا يشرك، ولا يحبط عمله.
وقوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} نصب بالفاء في جواب النفي، وقد تقدم أن الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه، ويحصل من فوائد الآية والحديث: النهي عن أن يُعظَّم أحدٌ لجاهه، وأثوابه، وعن أن يُحتقر أحدٌ لخموله، ورثاثة ثوبيه. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ؛ أي: لا تُبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك، وأخصاءك؛ كقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
(1)
"المفهم" 6/ 285 - 286.
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)} [الكهف: 28].
وقوله: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ؛ أي: يعبدونه، ويسألونه {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، قال سعيد بن المسيِّب، ومجاهد، والحسن، وقتادة: المراد به: الصلاة المكتوبة، وهذا كقوله:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ أي: أتقبّل منكم، وقوله:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ؛ أي: يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم، وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات، والطاعات، وقوله:{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ؛ كقول نوح عليه السلام في جواب الذين قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)} [الشعراء: 111 - 113]؛ أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس عليّ من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء، وقوله:{فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ؛ أي: إن فعلت هذا والحالة هذه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6220 و 6221](2413)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 62 و 66 و 72)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4128)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(131)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6573)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(13263)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 319)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 141)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 62)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"تفسير ابن كثير" 2/ 135.
1 -
(منها): بيان فضائل هؤلاء الصحابة سعد، ومن معه حيث أنزل الله تعالى فيهم الآية المذكورة، وأَمَره بالصبر معهم، وعدم الالتفات إلى ما يقوله المشركون.
2 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة المذكورة.
3 -
(ومنها): بيان أن أول من يتّبع الأنبياء هم الضعفاء، والفقراء، والمساكين، وهو موافق لِمَا في حديث أبي سفيان لمّا قال له هرقل:"فأشراف الناس يتّبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال له: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: وهم أتباع الرسل"، فبيّن أن من سُنَّة الله تعالى أن يكون أول من يتّبعهم هم الضعفاء، وذلك لأنهم لا طمع لهم في الرئاسة، فينقادون للحقّ، وأما الأشراف، فإنَّ طمعهم في الرئاسة والملك يمنعهم أن يخضعوا للحقّ؛ لظنهم أن رئاستهم تَذهب عنهم، مع أنهم لو أسلموا وانقادوا للحقّ لزادهبم الإسلام شرفًا إلى شرفهم، ولكنّ النفس {لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، والله تعالى أعلم.
(6) - (بَابُ فَضَائِلِ طلحَةَ وَالزُّبَيْرِ رضي الله عنهما
-)
أما طلحة: فهو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة بن كعب، يجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرّة، وعَدَد ما بينهم من الآباء سواء، يكنى أبا محمد، وأمه: الصعبة بنت الحضرمي، أخت العلاء، أسلمت، وهاجرت، وعاشت بعد أبيها قليلًا، وروى الطبرانيّ من حديث ابن عباس قال: أسلمت أم أبي بكر، وأم عثمان، وأم طلحة، وأم عبد الرحمن بن عوف، وقُتل طلحة يوم الجمل، سنة ست وثلاثين، رُمي بسهم، جاء من طرق كثيرة أن مروان بن الحكم رماه، فأصاب ركبته، فلم يزل ينزف الدم منها حتى مات، وكان يومئذ أول قتيل، واختُلف في سنّه على أقوال، أكثرها أنه خمس وسبعون، وأقلّها ثمان
وخمسون، ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب
(2)
بن لؤيّ، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها إلا بدرًا؛ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعثه، وسعيد بن زيد يتجسَّسان خبر عِير قريش، فلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من بدر، فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما، وأجْرهما، فكانا كمن شهدها، وسَمَّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ طلحة الخير، ويوم ذات العشيرة: طلحة الفياض، ويوم حنين: طلحة الجود، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، ووقى النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده، فَشُلَّت إصبعاه، وجُرح يومئذ أربعًا وعشرين جراحة، وهو أحد العشرة الشهود لهم بالجنة.
وجملة ما رُوي عنه من الحديث ثمانية وثلاثون حديثًا، أُخرج له منها في "الصحيحين" سبعة، وقُتل يوم الجمل، وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ويقال: إن سهمًا غَربًا أتاه، فوقع في حلقه، فقال: بسم الله {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، ويقال: إن مروان بن الحكم قتله، ودُفن بالبصرة، وهو ابن ستين سنة، وقيل: ابن اثنتين وستين سنة، وقيل: ابن أربع. انتهى
(3)
.
وأما الزبير: فهو الزبير بن العوام بن خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصيّ، يجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصيّ، وعَدَد ما بينهما من الآباء سواء، وأمه صفية بنت عبد المطلب، عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان يُكنى أبا عبد الله، وروى الحاكم باسناد صحيح، عن عروة، قال: أسلم الزبير، وهو ابن ثمان سنين
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وأما الزبير رضي الله عنه، فيكنى أبا عبد الله بولده عبد الله؛ لأنَّه كان أكبر أولاده، وهو الزبير بن العوام بن خُويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب، أمه: صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت، وأسلم الزبير، وهو ابن ثمان سنين، وقيل: ابن ست عشرة سنة، فعذَّبه عمُّه
(1)
"الفتح" 8/ 438، كتاب "الفضائل" رقم (3722).
(2)
"المفهم" 6/ 286 - 287.
(3)
"الفتح" 8/ 434، كتاب "الفضائل" رقم (3717).
بالدخان؛ لكي يرجع عن الإسلام، فلم يفعل، هاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوأول من سَلّ سيفًا في سبيل الله، وكان عليه يوم بدر ريطة صفراء، قد اعتجر بها، وكان على الميمنة، فنزلت الملائكة على سيماه، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وبايعه على الموت، فقُتل يوم الجمل، وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقيل: خمس وستين، وقيل: بضع وخمسين، قتله ابن جرموز، وكان من أصحاب عليّ، فأُخبر عليٌّ بذلك، فقال: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار. وهوأحد العشرة الشهود لهم بالجنة.
وروي عنه من الحديث مثل ما روي عن طلحة، وله في "الصحيحين" مثل ما له سواءً. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6222]
(2414) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ -وَهُوَ ابْنُ سُلَيْمَانَ- قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتى قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طَلْحَةَ وَسَعْدٍ، عَن حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم، أبو عبد الله الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](ت 234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ قاضي كرمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](ت 233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانئ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قدت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
(1)
"المفهم" 6/ 287 - 288.
4 -
(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
5 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
6 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مَلّ -بلام ثقيلة، والميم مثلثة- ابن عمرو النَّهْديّ -بفتح النون، وسكون الهاء- الكوفيّ، ثم البصريّ، مشهور بكنيته، مخضرمٌ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ من كبار [2] (ت 95) وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنةً، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
و"طلحة" ذُكر أول الترجمة، و"سعد" ذُكر في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، عن صحابيّين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ النَّهْديّ أنه (قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ تِلْكَ الأَيَّامِ) يريد: يوم أُحد، (الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله (وَسَعْدِ) بن أبي وقّاص، وقوله:(عَنْ حَدِيثِهِمَا)؛ يعني: أنهما حدّثا بذلك أبا عثمان النهديّ، ووقع في فوائد أبي بكر بن المقرئ من وجه آخر عن معتمر بن سليمان، عن أبيه: فقلت لأبي عثمان: وما علمك بذلك؟ قال: هما أخبراني بذلك، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "القتح " أيضًا في موضع آخر: قوله: "عن حديثهما" يريد أنهما حدثا أبا عثمان بذلك، ووقع عند أبي نعيم في "المستخرج" من طريق عبد الله بن معاذ، عن معتمر، في هذا الحديث:"قال سليمان: فقلت لأبي عثمان: وما علمك بذلك؟ قال: عن حديثهما".
وهذا قد يعكر عليه ما ثبت أن المقداد كان ممن بقي معه، لكن يَحْتَمِل
(1)
"الفتح" 8/ 438، كتاب "الفضائل" رقم (3722).
أن المقداد إنما حضر بعد تلك الجولة، ويَحتمل أن يكون انفرادهما عنه في بعض المقامات، فقد روى مسلم من طريق ثابت، عن أنس:"قال: أُفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد في سبعة من الأنصار، ورجلين من قريش"، وكأن المراد بالرجلين طلحة وسعد، وكان المراد بالحصر المذكور في حديث الباب تخصيصه بالمهاجرين، فكأنه قال: لم يبق معه من المهاجرين غير هذين، وتعيّن حَمْله على ما أوّلته، وأن ذلك باعتبار اختلاف الأحوال، وأنهم تفرقوا في القتال، فلما وقعت الهزيمة فيمن انهزم، وصاح الشيطان: قُتل محمد، اشتَغَل كل واحد منهم بهمّه، والذب عن نفسه، كما في حديمثما سعد، ثم عَرَفوا عن قربِ ببقائه، فتراجموا إليه أوّلًا فأوّلًا، ثم بعد ذلك كان يندُبهم إلى القتال، فيشتغلون به.
وروى ابن إسحاق بإسناد حسن، عن الزبير بن العوام "قال: مال الرُّماة يوم أُحد يريدون النهب، فأُتينا من ورائنا، وصرخ صارخ: ألا إن محمدًا قد قتل، فانكفأنا راجعين، وانكفأ القوم علينا".
وسمى ابن إسحاق في "المغازي" بإسناد له أن جملة من استُشهِد من الأنصار الذين بَقُوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ زياد بن السكن، قال: وبعضهم يقول: عمارة بن السكن، في خمسة من الأنصار، وعند ابن عائذ من موسل المطلب بن عبد الله بن حنطب:"أن الصحابة تفرقوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، حتى بقي معه اثنا عشر رجلًا من الأنصار".
وللنسائيّ، والبيهقيّ في "الدلائل" من طريق عمارة بن غَزِيّة، عن أبي الزبير، عن جابر:"قال: تفرَّق الناس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد، وبقي معه أحد عشر رجلًا من الأنصار، وطلحة"، وإسناده جيّد، وهو كحديث أنس، إلا أن فيه زيادة أربعة، فلعلهم جاؤوا بعد ذلك.
وعند محمد بن سعد أنه ثبت معه أربعة عشر رجلًا، سبعة من المهاجرين، منهم أبو بكر، وسبعة من الأنصار.
ويُجمَع بينه وبين حديث الباب بأن سعدًا جاءهم بعد ذلك، وأن المذكور من الأنصار استُشهدوا، كما في حديث أنس، فإن فيه عند مسلم: "فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: من يردّهم عنّا، وهو رفيقي في الجنة؟ فقام رجل من الأنصار
…
"،
فذكر أن المذكورين من الأنصار استُشهدوا كلهم، فلم يبق غير طلحة وسعد، ثم جاء بعدهم من جاء.
وأما المقداد فيَحْتَمِل أن يكون استمرّ مشتغلًا بالقتال.
وذكر الواقديّ في "المغازي" أنه ثَبَت يوم أُحد من المهاجرين سبعة: أبو بكر، وعليّ، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، ومن الأنصار: أبو دُجانة، والحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمّة، وسهل بن حُنيف، وسعد بن معاذ، وأُسيد بن حُضير، وقيل: سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة بَدَل الأخيرين، وإن ثَبَت حُمل على أنهم ثَبَتوا في الجملة، وما تقدم فيمن حضر عنده صلى الله عليه وسلم أوّلًا، فأوّلًا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عن حديثهما" هذا من قول الراوي عن أبي عثمان، وهو: سليمان؛ ويعني به: أن أبا عثمان إنما حدَّث بثبوت طلحة وسعد عنهما، لا أنه شاهَدَ هو ثبوتهما، فإنَّه تابعيّ، لا صحابيّ، ولا أنه حدَّث بذلك عن غيرهما، بل عنهما، هما حدَّثاه بذلك، واتفق لطلحة في ذلك اليوم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُثقل بالجراح، وكان عليه درعان، فنهض ليصعد على صخرة كانت هنالك، فلم يستطع، فحنى طلحة ظهره لاصقًا بالأرض حتى صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم على ظهره حتى رَقِي على الصخرة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أوجب طلحة"
(2)
؛ أي: أوجب له ذلك الفعلُ الثوابَ الجزيلَ عند الله تعالى، والمنزلة الشريفة، وروى جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من سرَّه أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض، فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله"
(3)
، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"طلحة بن عبيد الله ممن قضى نَحْبه"؛ أي: ممن وفَّى بنذره، وقام بواجباته. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 9/ 131 - 132، كتاب "المغازي" رقم (4060).
(2)
رواه أحمد 1/ 165، والترمذيّ رقم (1692).
(3)
رواه الترمذيّ (3739)، وابن ماجه رقم (125).
(4)
"المفهم" 6/ 288 - 289.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طلحة، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6222](2414)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3722 و 3723) و"المغازي"(4060 و 4061)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 20)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(25/ 81)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6223]
(2415) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: نَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَق، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلِّ نَبِي حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بكير، أبو عثمان البغدادي، نزل الرَّقة، ثقةٌ حافظ وَهِمَ في حديث، [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) تقدّم قبل باب.
4 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (480) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: نَدَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ) يقال: ندب إلى الأمر؛ أي: دعا إليه، وحثّ عليه، وقال النوويّ: أي: دعاهم للجهاد، وحرّضهم عليه، فأجابه الزبير
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 188.
وفي رواية البخاريّ في "الجهاد": عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من يأتيني بخبر القوم؟ " يوم الأحزاب، قال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتيني بخبر القوم؟ " قال الزبير: أنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن لكل نبيّ حواريًّا، وحواريّ الزبير".
وفي روايته في "المغازي": قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتينا بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال:"إن لكل نبيّ حواريًا، وإن حواريّ الزبير".
وفي رواية النسائيّ: لمّا اشتد الأمر يوم بني قريظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من يأتينا بخبرهم. . ." الحديث، وفيه أن الزبير توجّه إلى ذلك ثلاث مرات، ومنه يظهر المراد بالقوم في رواية ابن المنكدر.
قال في "الفتح": قد استُشكل ذِكر الزبير في هذه القصة، فقال شيخنا ابن الملقِّن: اعلم أنه وقع هنا أن الزبير هو الذي ذهب لكشف خبر بني قريظة، والمشهور كما قاله شيخنا أبو الفتح اليعمريّ أن الذي توجه ليأتي بخبر القوم حذيفة، كما رويناه من طريق ابن إسحاق وغيره.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وهذا الحصر مردود، فإن القصة التي ذهب لكشفها غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها، فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، ووافقوا قريشًا على محاربة المسلمين، وقصة حذيفة كانت لمّا اشتَدّ الحصار على المسلمين بالخندق، وتمالأت عليهم الطوائف، ثم وقع بين الأحزاب الاختلاف، وحذَّرت كل طائفة من الأخرى، وأرسل الله تعالى عليهم الريح، واشتد البرد تلك الليلة، فانتدب النبيّ صلى الله عليه وسلم من يأتيه بخبر قريش، فانتدب له حذيفة بعد تكراره طلب ذلك، وقصته في ذلك مشهورة لمّا دخل بين قريش في الليل، وعَرَف قصتهم، ورجع، وقد اشتد عليه البرد، فغطّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى دفئ، وبيّن الواقدي أن المراد بالقوم: بنو قريظة، وروى ابن أبي شيبة من مرسل عكرمة أن رجلًا من المشركين قال يوم الخندق: من يبارز؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: قم يا زبير، فقالت أمه صفية بنت عبد المطلب: واحدي يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا زبير، فقام الزبير،
فقتله، ثم جاء بسَلَبه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنفّله إياه. انتهى
(1)
.
(يَوْمَ الْخَنْدَقِ) قال موسى بن عقبة: كانت في شوال مشة أربع، (فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ)؛ أي: أجابه، وأسرع إليه، (ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لِكلِّ نَبِيٌّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ)؛ أي: خاصّتي، والمفضّل عندي، وناصري، وهو مبتدأ خبره قوله:(الزُّبَيْرُ") قال القاضي عياضٌ: اختُلف في ضَبْط "حواريّ"، فضَبَطه جماعة من المحققين بفتح الياء من الثاني، كمصرخيّ، وضبطه أكثرهم بكسرها، والحواريّ: الناصر، وقيل: الخاصة. انتهى
(2)
؛ أي: خاصّةً، وناصرًا مخلصًا، وذَكَر البخاريّ رحمه الله تعليقًا: وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: هو حواريّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسُمّي الحواريّون لبياض ثيابهم. انتهى.
قال في "الفتح": وَصَله ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، وزاد:"أنهم كانوا صيّادين"، وإسناده صحيح إليه، وأخرج عن الضحّاك أن الحواريّ هو الغَسّال بالنبطيّة، لكنهم يجعلون الحاء هاء، وعن قتادة أن الحواريّ هو الذي يصلح للخلافة، وعنه هو الوزير، وعن ابن عيينة هو الناصر، أخرجه الترمذيّ وغيره عنه، وعند الزبير بن بكّار من طريق مسلمة بن عبد الله بن عروة مثله، وهذه الثلاثة الأخيرة متقاربة، وقال الزبير عن محمد بن سلام: سألت يونس بن حبيب عن الحواريّ، قال: الخالص، وعن ابن الكلبيّ: الحواريّ الخليل. انتهى
(3)
.
وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "حواري" بكسر الراء، وتشديد الياء، لفظه مفرد بمعنى الخالص والناصر، والياء فيه للنسبة، وأصل معناه: البياض، فهو منصرف منوّنٌ. انتهى.
وقال القاري بعد نقل كلام عياض المتقدّم ما نصّه: ولا يخفى أن الأخير يَحْتَمِل أن يكون بعد الياء المشدّدة ياء الإضافة مفتوحة على وفق القراءة المتواترة في قوله تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ} [الأعراف: 196]، ويَحْتَمِل
(1)
"الفتح" 9/ 204 - 205، كتاب "المغازي" رقم (4113).
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 188.
(3)
راجع: "الفتح" 7/ 100، كتاب "فضائل الصحابة" الحديث رقم (3721).
أن تكون ياء الإضافة ساكنةً تُحذَف وصلًا وتثبُتُ وقفًا، ويَحتمل أن يكون بالياء المشدّدة المكسورة فقط، كما روى السُّوسيّ في:{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} بكسر الياء المشدّدة، ثم لا يخفى أنه على تقدير الياء المشدّدة المفتوحة، أو المكسورة بلا ياء الإضافة ينبغي أن يكون مرسومًا بياء واحدة، كما وجدناه في بعض النسخ المصحّحة، ومنها نسخة الجزريّ، وهو الظاهر من نَقْل النوويّ، والموافق للرسم القراَنيّ، ثم توجيه المشدّدة بلا ياء بعدها هوأنه جاء الحواري بتخفيف الياء، وقد قُرئ:{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} بالتخفيف شاذًّا، فالثانية ياء إضافة، وهي قد تكون مفتوحةً، وقد تكون ساكنةً، وتُكسر لالتقاء الساكنين، هذا.
وفي "شرح السُّنَّة": المراد منه: الناصر، وحواريّ عيسى عليه السلام أنصاره، سُمُّوا به؛ لأنهم كانوا يغسلون الثياب، فيُحوّرونها؛ أي: يبيّضونها. انتهى كلام القاري
(1)
.
وقال السنديّ: أصل "حَوَاريّ" بالإضافة إلى ياء المتكلّم، لكن حُذفت الياء اكتفاء بالكسرة، قيل: وقد تُبْدَلُ فتحةً للتخفيف، ويُروى بالكسر والفتح، قال: هذا تخفيف لا يناسب الاكتفاء، والوجه في الفتح أنه اجتمعت ثلاث ياءات، فاستثقلوا، فحذفوا إحدى يائي النسبة، ثم أدغموا الثانية في ياء المتكلّم، وياء المتكلّم تُفتح، سيّما عند التقاء الساكنين، فاختلاف الروايتين مبنيّ على أن المحذوفة ياء المتكلّم، أو إحدى يائَي النسبة، والله تعالى أعلم.
ومعناه: إن خاصّتي وناصري، وكأنه الخاصّة مِن بيْن مَن كان مطلوبًا بالنداء في ذلك الوقت. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "النهاية": معناه: خاصّتي من أصحابي، وناصري
(3)
، والله تعالى أعلم.
وقال في "العمدة" في موضع آخر: قوله: "حواريًا"؛ أي: خاصة من الصحابة، وقال الترمذيّ: والحواريّ، ومنه الحواريون من أصحاب المسيح عليه السلام؛ أي: خلصاؤه، وأنصاره، وأصله من التحوير، وهو التبييض،
(1)
"المرقاة" 10/ 484.
(2)
"شرح السنديّ" 1/ 87.
(3)
"النهاية" 2/ 185.
وقيل: إنهم كانوا قصَّارين، يُحَوِّرون الثياب؛ أي: يبيّضونها، ومنه الخبز الْحُوَّارَى، الذي نُخِل مرة بعد مرة، وقال الأزهريّ: الحواريون خلصاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: الحواريّ: الوزير؛ إذا أضيف الحواري إلى ياء المتكلم تُحذف الياء، وحينئذ ضَبَطه جماعة بفتح الياء، وأكثرهم بكسرها، قالوا: والقياس الكسر، لكنهم حين استثقلوا الكسرة، وثلاث ياءأت حذفوا ياء المتكلم، وأبدلوا من الكسرة فتحة، وقد قُرئ في الشواذ:"إن ولي الله" بالفتح. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6223 و 6224](2415)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2846 و 2847 و 2997) وفي "الفضائل"(3719) و"المغازي"(4113) و"أخبار الآحاد"(7261)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3745)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 60 و 264 و 270 و 339)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(122)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 307 و 314 و 365) وفي "فضائل الصحابة"(1264)، و (الحميديّ) في "مسنده"(516)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6985)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(4/ 301)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1/ 119) و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 19 و 63)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 425)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1393)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(3563)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 148) و"دلائل النبوّة"(3/ 431)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الزبير رضي الله عنه.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 141.
2 -
(ومنها): بيان شجاعة الزبير، وتقدّمه وفَضْله، وقال الداوديّ: ولا أعلم رجلًا جمع له النبيّ صلى الله عليه وسلم أبويه إلا الزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، كان يقول له:"ارم فداك أبي وأمي"، وإنما كان يقول لغيرهما: ارم فداك أبي، أو فدتك أمي، وهي كلمة تقال للتبجيل، ليس على الدعاء، ولا على الخبر
(1)
.
3 -
(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه إذا لم يُخَف عليه افتتان.
4 -
(ومنها): جواز بعث الطَّلِيعة إلى العدوّ.
5 -
(ومنها): جواز استعمال التجسّس في الجهاد.
6 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به بعضُ المالكية على أن طليعة اللصوص المحاربين يُقتل، وإن كان لم يباشر قتلًا، ولا سَلَبًا، قال الحافظ: وفي أخْذه من هذا الحديث تكلّف.
7 -
(ومنها): جواز سفر الرجل وحده، وأن النهي عن السفر وحده
(2)
، إنما هو حيث لا تدعو الحاجة إلى ذلك.
قال في "الفتح" نقلًا عن ابن المنيّر رحمه الله: السير لمصلحة الحرب أخصّ من السفر، والخبر ورد في السفر، فيؤخذ من حديث جابر جواز السفر منفردًا للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم إلا بالانفراد، كإرسال الجاسوس والطَّلِيعة، والكراهة لِمَا عدا ذلك، ويَحْتَمِل أن تكون حالة الجواز مقيّدة بالحاجة عند الأمن، وحالة المنع مقيّدة بالخوف حيث لا ضرورة.
قال: "وقد وقع في كتب المغازي بعثُ كل من حذيفة، ونُعيم بن مسعود، وعبد الله بن أُنيس، وخَوّات بن جُبير، وعمرو بن أُميّة، وسالم بن عُمير، وبسبسة بن عمرو في عدّة مواطن، وبعضها في الصحيح". انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 14/ 142.
(2)
هو ما أخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لو يعلم الناس ما في الوَحْدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده".
(3)
راجع: "الفتح" 6/ 161، كتاب "الجهاد والسير" رقم الحديث (2997)، و (2998).
[تنبيه]: قال ابن بطال رحمه الله: زعم بعض المعتزلة أن بَعْث النبيّ صلى الله عليه وسلم الزبير وحده معارِض لقوله صلى الله عليه وسلم: "الراكب شيطان"، ونهى أيضًا عن أن يسافر الرجل وحده، قال المهلب: وليس بينهما تعارض؛ لاختلاف المعنى في الحديثين، وهو أن الذي يسافر وحده لا يأنس بأحد، ولا يقطع طريقه بمحدِّث، يُهَوِّن عليه مؤونة السفر؛ كالشيطان الذي لا يأنس بأحد، ويطلب الوحدة ليغويه، وأما سفر الزبير فليس كذلك؛ لأنه كان كالجاسوس يتجسس على قريش ما يريدون من حرب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يناسبه إلا الوحدة، على أنه خرج في مثل هذا الأمر الخطير؛ لحماية الدين، وإظهار طاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يزل كان عليه حِفْظ من الله تعالى ببركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأين هذا من ذلك؟ ألا يرى أن عمر رضي الله عنه لمّا بلغة أن سعدًا بنى قصرًا أرسل شخصًا وحده ليهدمه، وذكر ابن أبي عاصم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل عبد الله بن أنس سرية وحده، وبعث عمرو بن أمية وحده عَيْنًا، وذكر ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم أرسل سالم بن عمير سرية وحده، وحمل الطبري الحديث على جواز السفر للرجل الواحد؛ إذا كان لا يَهُوله هَوْل، وإلا فممنوع من السفر وحده؛ خشية على عقله، أو يموت فلا يَدري خبره أحد، ولا يَشهده، كما قال عمر رضي الله عنه: أرأيتم إذا سافر وحده، فمات من أسأل عنه؟ قال: ويَحْتَمِل أن يكون النهي عن السفر وحده نهي تأديب، وإرشاد إلى ما هو الأَولى، وقال ابن التين: وحَمَله الشيخ أبو محمد على السفر الذي يَقصر فيه الصلاة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن سفر الرجل وحده إنما يُنهى عنه إذا كان خارج البلد، وأما ما كان داخل البلد، كما في قصّة الزبير، وحُذيفة رضي الله عنهما، فلا يشمله النهي، وكذا ما كان لغرض التجسّس على العدوّ، فلا يشمله؛ للضرورة؛ فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6224]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُوأُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
(1)
"عمدة القاري" 14/ 142.
كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُوأُسَامَةَ) حماد بن أُسامة الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ" هو: ابن راهويه، و"سفيان" هو الثوريّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) ضمير التثنية لهشام بن عروة، وسفيان الثوريّ.
[تنبيه]: رواية هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(8842)
- أنبأ يونس بن عبد الأعلى، قال: أنبأ ابن وهب، قال: أخبرني سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق:"من رجل يأتينا بخبر بني قريظة؟ " قال الزبير: أنا، فذهب على فرسه، فجاء بخبرهم، ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لكل نبي حواريّ، وحواري الزبير". انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ، عن محمد بن المنكدر ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(18221)
- أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أبو القاسم سليمان بن أحمد اللخميّ، ثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، ثنا الفريابي (ح) قال: وحدّثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، قالا: ثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "من يأتيني بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتيني بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، ثم قال:"من يأتيني بخبر القوم؟ " فقال الزبير: أنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
(1)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 264.
"إن لكل نبي حواريًا، وحواريّ الزبير". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6225]
(2416) - (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْن الْخَلِيل، وَسُوَيْدُ بْن سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ، قَالَ إِسْمَاعِيل: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْن فسْهِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ غرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْر، قَالَ: كُنْتُ أنا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مَعَ النِّسْوَة، فِي أُطُمِ حَسَّانٍ، فَكَانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةً، فَأنْظُرُ، وَأُطَأْطِئُ لَهُ مَرَّةً، فَيَنْظُرُ، فَكُنْتُ أَعْرِفُ أَبِي إِذَا مَرَّ عَلَى فَرَسِهِ فِي السِّلَاحِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْر، قَالَ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لأَبِي، فَقَالَ: وَرَأَيْتَنِي يَا بنَيَّ؟، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ أَبوَيْه، فَقَالَ: "فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْمَاعِيل بْنُ الْخَلِيلِ) الْخَزّاز، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 225)(خ م قد) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 29/ 1816.
2 -
(سُويْدُ بْن سَعِيدِ) بن سهل الْهَرَويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
3 -
(عَلِيُّ بْن مُسْهِرٍ) -بضمّ الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ له غرائب بعد أن أضرّ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(عُرْوَةَ) بن الزبير، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْن الزّبَيْرِ) بن العوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خبيب -بالمعجمة، مصغرًا- كان أول مولود في الإسلام بالمدينة من
(1)
"سُنن البيهقي الكبرى" 9/ 148.
المهاجرين، ووَليَ الخلافة تسع سنين، إلى أن قُتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين (ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
و"هشام"، و"الزبير" ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، من هشام، والباقون كوفيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وصحابيّ عن صحابيّ، ورواية الابن عن أبيه، عن أخيه، عن أبيه، والزبير أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ)؛ أي: ابن عبد الأسد المخزوميّ، ربيب النبيّ صلى الله عليه وسلم، صحابيّ صغير، وأمه أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، أمّره عليّ على البحرين، ومات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 54/ 1157. (يَوْمَ الْخَنْدَقِ): وهو يوم الأحزاب لَمّا حاصرت قريش، ومن معها المسلمين بالمدينة، وحفروا الخندق بسبب ذلك، وقد تقدّم البحث في ذلك مستوفًى في "كتاب الجهاد". (مَعَ النِّسْوَةِ)؛ يعني: نسوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بُيّن في الرواية التالية. (فِي أُطُمِ حَسَّانٍ)"الأُطم" بضم الهمزة، والطاء: الحصن، وهو بناء مرتفع، وجمعه آطام، كعُنُق وأَعنادتى، قال القاضي عياض: ويقال في الجمعِ أيضًا: إِطام بكسر الهمزة، والقصر، كآكام، وإكام.
(1)
(فَكَانَ يُطَأْطِئُ لِي مَرَّةَ)، معناه: يَخفض لي ظهره حتى أرتفع من الأرض، وفي رواية أحمد:"فكان يرفعني، وأرفعه، فإذا رفعني عرفت أبي، حين يمرّ إلى بني قريظة"، (فَأَنْظُرُ) إلى ما يفعل القوم، (وَأُطأْطِئُ لَهُ مَرَّةً، فَيَنْظُرُ، فَكُنْتُ أَعْرِفُ أَبِي) الزبير (إِذَا مَرَّ عَلَى فَرَسِهِ فِي السِّلَاحِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ)، وفي رواية البخاريّ:"يختلف إلى بني قريظة"، وعند الإسماعيليّ:"مرّتين، أو ثلاثًا".
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 429.
[تنبيه]: قُريظة تصغير قَرَظة، اسم للقبيلة اليهوديّة المعروفة، قال الفيّوميّ: بنو قُرَيْظَةَ: هم إخوة بني النضير، وهم حَيّان من اليهود، كانوا بالمدينة، فأما قُرَيْظَةَ، فقُتلت مقاتِلتهم، وسُبيت ذراويهم؛ لِنقضهم العهد، وأما بنو النضير فأُجْلوا إلى الشام، ويقال؛ إنهم دخلوا في العرب، مع بقائهم على أنسابهم. انتهى
(1)
.
(قَالَ) هشام (وَأَخْبَرَنى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام، أبو بكر الأسديّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ من الثالثة، بقي إلى أواخر دولة بني أميّة، وكان مولده سنة خمس وأربعين، تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1711. (عَنْ) عمّه (عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) أنه (قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ)؛ أي: الذي تقدّم من كونه رآه يتردّد إلى بني قريظة، (لأَبِي) الزبير (فَقَالَ) الزبير (وَرَأَيْتَني يَا بُنَيَّ؟) بتقدير الاستفهام؛ أي: وأرأيتني يا ولدي؛ (قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ) الزبير (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، مثل "ألا"، (وَاللهِ لَقَدْ جَمَعَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ أَبَوَيْهِ)؛ أي: في التفدية، (فَقَالَ:"فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي") "فداك" بكسر الفاء مقصورًا مبتدأ خبره: "أبي وأمي"، ويجوز العكس، ويَحْتَمِل أن يكون "فَدَاك" بفتحة الفاء فعلًا ماضيًا، و"أبي وأمي" مرفوعًا على الفاعليّة، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الزبير رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6225 و 6226](2416)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3720)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3743)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(123)، و (النسائيّ) في "اليوم والليلة"(199)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 91)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 164) وفي "فضائل الصحابة"(1267)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6984)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"المصباح المنير" 2/ 499.
1 -
(منها): بيان فضل الزبير بن العوّام رضي الله عنه.
2 -
(ومنها): جواز التفدية بالأبوين.
3 -
(ومنها): جواز بعث الطليعة وحده؛ للضرورة، وقد تقدّم الجمع بينه وبين النهي عن سفر الرجل وحده، فلا تغفل.
4 -
(ومنها): أن فيه دليلًا لحصول ضَبْط الصبيّ وتمييزه، وهو ابن أربع سنين، فإن ابن الزبير وُلد عام الهجرة في المدينة، وكان الخندق سنة أربع من الهجرة، على الصحيح، فيكون له في وقت ضَبْطه لهذه القضية دون أربع سنين، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا رَدٌّ على ما قاله جمهور المحدثين: إنه لا يصح سماع الصبي حتى يبلغ خمس سنين، والصواب صحته، متى حصل التمييز، وإن كان ابن أربع أو دونها
(1)
.
وقال في "الفتح": فيه صحة سماع الصغير، وأنه لا يتوقف على أربع، أو خمس؛ لأن ابن الزبير كان يومئذ ابن سنتين وأشهر، أو ثلاث وأشهر، بحسب الاختلاف في وقت مولده، وفي تاريخ الخندق، فإن قلنا: إنه وُلد في أول سنة من الهجرة، وكانت الخندق سنة خمس، فيكون ابن أربع وأشهر، وإن قلنا: وُلد سنة اثنتين، وكانت الخندق سنة أربع، فيكون ابن سنتين وأشهر، وإن عَجَّلنا إحداهما، وأخَّرنا الأخرى، فيكون ابن ثلاث سنين وأشهر، وعلى كل حال فقد حَفِظ من ذلك ما يُستغرب حِفْظ مثله. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لابن الزبير رضي الله عنهما؛ لجودة ضَبْطه لهذه القضية مفصَّلةً في هذا السنّ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6226]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْر، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَق، كُنْتُ أنَا وَعُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ فِي الأُطُمِ الَّذِي فِيهِ النِّسْوَةُ؛ يَعْنِي: نِسْوَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَسَاقَ الْحَدِيثَ،
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 189 - 190.
(2)
"الفتح" 8/ 436، كتاب "الفضائل" رقم (3720).
بِمَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُرْوَةَ فِي الْحَدِيث، وَلَكِنْ أَدْرَجَ الْقِصَّةَ فِي حَدِيثِ هِشَامٍ، عَنْ أَبيه، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي أُسامة.
وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بهذا الإسناد المذكور، وهو: عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير.
وقوله: (وَلَكِنْ أَدْرَجَ الْقِصَّةَ
…
إلخ) غرضه بيان أن أبا أسامة وإن ساق الحديث بمعنى حديث عليّ بن مسهر، إلا أنه خالفه، حيث أدرج قصّة عبد الله بن الزبير، وهي قوله:"فذكرت ذلك لأبي ...... إلخ" الذي رواه عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير في حديث هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير.
والحاصل: أن مسلمًا بيّن أن في هذه الرواية إدراجًا، فإنه ساقه من رواية عليّ بن مسهر، عن هشام إلى قوله:"إلى بني قريظة، قال هشام: وأخبرني عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي. . ." إلى آخر الحديث، ثم ساقه من طريق أبي أسامة، عن هشام، قال: فساق الحديث نحوه، ولم يذكر عبد الله بن عروة، ولكن أدرج القصة في حديث هشام، عن أبيه، عن ابن الزبير. انتهى.
قال في "الفتح": ويؤيده -يعني: الإدراج المذكور- أن النسائيّ أخرج القصة الأخيرة من طريق عبدة، عن هشام، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: نصّ النسائيّ في "الكبرى":
(8214)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبدة بن سليمان، قال: أنا هشام بن عروة، عن عبد الله بن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير،
(1)
"الفتح" 8/ 436.
قال: جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم قريظة، فقال:"فداك أبي وأمي". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن هشام بن عروة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1409)
- حدّثنا أبوأسامة، أنبأنا هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: لَمّا كان يومُ الخندق، كنت أنا وعُمر بن أبي سلمة في الأُطُم الذي فيه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم أطم حسّان، فكان يرفعني، وأرفعه، فإذا رفعني عرفت أبي، حين يمرّ إلى بني قريظة، وكان يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فقال:"من يأتي بني قريظة، فيقاتلهم؟ " فقلت له حين رجع: يا أبت تالثه إن كنتُ لأعرفك حين تمرّ ذاهبًا إلى بني قريظة، فقال: يا بُنيّ أمَا والله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجمع لي أبويه جميعًا، يفديني بهما، يقول:"فداك أبي وأمي". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6227]
(2417) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ سُهَبْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ، هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَو صِدِّيقٌ، أَو شَهِيدٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قريبًا، "فقتيبة" تقدّم في الباب الماضي، والباقون قبل باب، إلا "عبد العزيز بن محمد"، وهو الدراورديّ المدنيّ، فتقدّم قبل ثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى حِرَاءٍ) بكسر الحاء
(1)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 61.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 164.
المهملة، وزانُ كتاب: جبل بمكة، يُذكّر، ويؤنّث، قاله الجوهريّ، واقتصر في "الجمهرة" على التأنيث، وهو مقابل ثَبِير، قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال النوويّ: والصحيح أنه مذكّر، ممدود، مصروف
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وحراء: جبل بمكة، وهو بكسر الحاء، ممدود، ويُذَكر، فيُصْرَف، ويؤنَّث، فلا يُصرف، وقد أخطأ مَن فَتح حاءه، ومن قَصَره. انتهى
(3)
.
وفي حديث أنس عند البخاريّ: "صعِد النبيّ صلى الله عليه وسلم أُحدًا، ومعه أبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف، وقال: اسكن أُحُدُ -أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبيّ، وصدّيقٌ، وشهيدان".
ويُجمع بينهما بالحمل على التعدّد، فوقعت القصّة على الجبلين في وقتين مختلفين، ويؤيّد هذا اختلاف الهسياق، كما هو ظاهر، والله تعالى أعلم.
(هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ) الصدّيق (وَعُمَرُ) بن الخطّاب (وَعُثْمَانُ) بن عفّان (وَعَلِيُّ) بن أبي طالب (وَطَلْحَةُ) بن عبيد الله (وَالزُّبَيْرُ) بن العوّام، زاد في الرواية التالية:"وسعد بن أبي وقّاص".
ووقع في النسخة التي شَرَحها النوويّ بتقديم عليّ على عثمان، ولذا قال النوويّ: هكذا وقع في معظم النُّسخ بتقديم عليّ على عثمان، وفي بعضها بتقديم عثمان على عليّ، كما وقع في الرواية الثانية باتفاق النُّسخ. انتهى
(4)
.
(فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ) التي كانوا عليها (نَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اهْدَأْ) بهمزة آخره، أمْر من هدأ يهدأ -كقرأ يقرأ- هُدُوءًا: إذا سكن؛ أي: اسكن.
وقال القرطبيّ: قوله: "اهدأ فما عليك" كذا صحَّ هذا النَّص هنا بسكون الهمزة على أنه أمْر من "هدأ" المذكر، و"عليك " بفتح كاف خطاب المذكر، مع أنه افتتح الكلام بذكر الصخرة، فكان حقّ خطابها أن يقال: اهدئي فما عليك، فتُخاطَب خطاب المؤنث، لكنه لمّا كانت تلك الصخرة جبلًا خاطب خطاب المذكر، وقد تقدَّم مثل هذا كثيرًا. انتهى
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 133.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 190.
(3)
"المفهم" 6/ 286.
(4)
"شرح النوويّ" 15/ 190.
(5)
"المفهم" 6/ 286.
(فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ) هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَو صِدِّيقٌ)"أو" للتنويع، هو أبو بكر رضي الله عنه، (أَو شَهِيدٌ) هم البقيّة، فالمراد بشهيد: الجنس.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فما عليك إلا نبيّ، أو صدِّيق، أو شهيد" بـ "أو": التي هي للقَسْم، والتنويع، فالنبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصِّدِّيق: أبو بكر، والشهيد: من بقي رضي الله عنهم، وهذا من دلائل صحة نبوَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ هؤلاء كلهم قُتلوا شهداء، فأمَّا عمر: فقتله العلج، وأما عثمان فقُتل مظلومًا، وعليّ غِيلة، وأما طلحة والزبير: فقُتلا يوم الجمل، منصرفَين عنه تاركين له، وأما أبو عبيدة فمات بالطاعون، والموت فيه شهادة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا ذِكر في الرواية لأبي عبيدة، وإنما المذكور هو سعد بن أبي وقّاص، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف، وأخرجه البخاريّ من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في "الفضائل" برقم (3675 و 3686 و 3699).
(المسألة الثاني): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6227 و 6228](2417)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(3696)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 59) و"فضائل الصحابة"(1/ 32)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 419)، و"فضائل الصحابة"(1/ 413)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 621)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضائل هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم.
2 -
(ومنها): إثبات التمييز في الصخرة، حيث تحرّكت، وسكّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخاطبها بما يخاطب به العقلاء، ففهمت ذلك، وسكنت.
(1)
"المفهم" 6/ 290 - 291.
3 -
(ومنها): جواز التزكية، والثناء على الإنسان في وجهه، إذا لم يُخَف عليه فتنة بإعجاب ونحوه.
4 -
(ومنها): بيان معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم غير النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء، فإن عمر، وعثمان، وعليًّا، وطلحة، والزبير رضي الله عنهم قُتلوا ظلمًا شهداء، فقَتْل الثلاثة مشهور، وقُتل الزبير بوادي السباع، بقرب البصرة منصرفًا تاركًا للقتال، وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركًا للقتال، فأصابه سهم، فقتله، وقد ثبت أن من قُتل ظلمًا فهو شهيد، والمراد: شهداء في أحكام الآخرة، وعظيم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيُغَسَّلون، ويصلى عليهم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6228]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ، فتَحَرَّكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْكُنْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَو صِدِّيق، أَو شَهِيدٌ"، وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيُّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنهم).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ) بالخاء المعجمة، والنون، والمهملة، مصغرًا المخزوميّ أبو يحيى، ويقال: أبو بكر المكيّ، مقبول [11].
رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي أويس، وروى عنه مسلم، وعبد الكريم الدير عاقوليّ، وأبو محمد إسماعيل بن محمود، ومحمد بن إسحاق السراج، وغيرهم.
مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث
(1)
.
(1)
هذا هو الذي سجّل في برنامج الحديث للكتب التسعة، لكن نَقل في =
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ) هو: أحمد بن يوسف بن خالد الأزديّ، أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، حافظٌ ثقةٌ [11](ت 264) وله ثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ) هو: إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله بن أبي أويس المدنيّ، صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه [10](ت 226)(خ م د ت ق) تقدم في "الحج" 17/ 2921.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (اسْكُنْ حِرَاءُ) منادى مبنيّ على الضمّ، حُذف منه حرف النداء؛ أي: يا حراءُ.
وقوله: (وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاص رضي الله عنهم) قال القاضي عياض: إنما سُمّي شهيدًا؛ لأنه مشهود له بالجنة. انتهى
(1)
.
والحديث تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6229]
(2418) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَعَبْدَةُ، قَالَا: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: أَبوَاكَ، وَاللهِ مِنَ الَّذِينَ استَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه
= "تهذيب التهذيب"(7/ 43)، عن "الزهرة" أن مسلمًا روى عنه ستة أحاديث، وفيه نظر لا يخفى.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 430.
عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، من هشام، والباقون كوفيّون، وفيه رواية الابن عن أبيه، عن خالته، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عَن هِشَامِ بن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير أنه (قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ: أَبَوَاكَ) في الرواية التالية: تعني: أبا بكر والزبير، (وَاللهِ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا)؛ أي: أجابوا، فالسين والتاء زائدتان، كما قال الشاعر [من الطويل].
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَا
…
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
أي: لم يُجبه.
(لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) بفتح، فسكون: الجِراح، وأشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما جرى في غزوة حمراء الأسد، وهو موضع على نحو ثمانية أميال من المدينة، وكان من حديثها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رجع إلى المديذنة من أُحد بمن بقي من أصحابه، وأكثرهم جريح، وقد بلغ منهم الجَهد، والمشقة نهايته، أمَرهم بالخروج في أَثَر العدوِّ مرهّبًا لهم، وقال:"لا يخرجن إلا من كان شَهد أُحدًا"، فخرجوا على ما بهم من الضَّعف والجراح، وربما كان فيهم المثقل بالجراح، لا يستطيع المشي، ولا يجد مركوبًا، فربما يُحْمَل على الأعناق، كل ذلك امتثالٌ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغبة في الجهاد، والشهادة، حتى وصلوا إلى حمراء الأسد، فلقيهم نعيم بن مسعود، فأخبرهم أن أبا سفيان بن حرب، ومن معه من قريش قد جمعوا جموعهم، وأجمعوا رأيهم على أن يرجعوا إلى المدينة، فيستأصلوا أهلها، فقالوا ما أخبرنا الله به عنهم:{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173]، وبينا قريش قد أجمعوا على ذلك؛ إذ جاءهم معبد الخزاعيّ، وكانت خزاعة حلفاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعيبة نُصحه، وكان قد رأى حال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وما هم عليه، ولمّا رأى عَزْم
قريش على الرجوع، واستئصال أهل المدينة احتمله خوف ذلك، وخالص نُصحه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أنْ خوَّف قريشًا بأن قال لهم: إني قد تركت محمدًا وأصحابه بحمراء الأسد في جيش عظيم، قد اجتمع له كل من تخلّف عنه، وهم قد تحرَّقوا عليكم، وكأنهم قد أدركوكم، فالنجاء النجاء، وأنشدهم شعرًا، يعظّم فيه جيش محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ويكثّرهم، وهو مذكور في كتب السّيَر، فقذف الله في قلوبهم الرُّعب، ورجعوا إلى مكة مسرعين خائفين، ورجع النبيّ صلى الله عليه وسلم في أصحابه إلى المدينة مأجورًا منصورًا، كما قال تعالى:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)} [آل عمران: 174]، وقوله تعالى:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]؛ يعني به: نعيم بن مسعود الذي خوَّف أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقوله:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ؛ يعني به: قريشًا، ذكره القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: عن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها:{الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)} [آل عمران: 172] قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير، وأبو بكر، لَمّا أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أُحد، وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، قال:"من يذهب في إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلًا، قال: كان فيهم أبو بكر، والزبير. انتهى.
قال في "الفتح": وقد سُمّي منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمار بن ياسر، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة، وحذيفة، وابن مسعود، أخرجه الطبريّ من حديث ابن عباس، وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن، ذَكر الخمسة الأوَّلين، وعند عبد الرزاق من مرسل عروة ذَكر ابن مسعود، وقد ذَكرت عائشة في حديث الباب أبا بكر والزبير.
وقال ابن إسحاق: كان أُحُدٌ يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان
(1)
"المفهم" 6/ 291 - 292.
الغد يوم الأحد سادس عشر شوال أَذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدوّ، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس، فاستأذنه جابر بن عبد الله في الخروج معه، فأذِن له
(1)
، وإنما خرج مُرْهِبًا للعدوّ، وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم، فلما بلغ حمراء الأسد لقيه سعيد بن أبي معبد الخزاعيّ فيما حدّثني عبد الله بن أبي بكر، فعزّاه بمصاب أصحابه، فأعلمه أنه لقي أبا سفيان، ومن معه، وهم بالرَّوْحاء، وقد تلوَّموا في أنفسهم، وقالوا: أصبنا جلّ أصحاب محمد، وأشرافهم، وانصرفنا قبل أن نستأصلهم، وهَمُّوا بالعود إلى المدينة، فأخبرهم معبد أن محمدًا قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله، ممن تخلَّف عنه بالمدينة، قال: فثَنَاهم ذلك عن رأيهم، فرجعوا إلى مكة، وعند عبد بن حميد من مرسل عكرمة نحو هذا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6229 و 6230 و 6231](2418)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4077)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(111)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 377)، و (أحمد) في "الزهد"(1/ 144)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 326)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(3/ 1125)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 368)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
ذلك أن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما تأخر عن بدر، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي كان خلّفني على أخوات لي سبع، وقال: يا بُنيّ إنه لا ينبغي لي، ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهنّ، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلفْ على أخواتك، فتخلفت عليهنّ، فأذِن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معه إلى حمراء الأسد.
(2)
"الفتح" 9/ 153، كتاب "المغازي" رقم (4077).
1 -
(منها): بيان فضيلة أبي بكر، والزبير، والصحابة الذين استجابوا لله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم بعدما أصابهم القرح.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنه من الاستجابة لله والرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا في حال شدّة، ومرض، وضَعف شديد.
3 -
(ومنها): بيان ما كانوا عليه من الحرص لنيل الشهادة في سبيل الله تعالى، وإن كانوا في الضعف الشديد.
4 -
(ومنها): الحثّ على الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن كانت الأسباب لا تساعد، والوسائل لا تتيسّر، كما قال تعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)} [التوبة: 41]، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6230]
(. . .) - (وَحَدَّثنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ: تَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَزَادَ: تَعْنِي أَبا بَكْرٍ، وَالزُّبَيْرَ) فاعل "زاد" ضمير أبي أسامة؛ أي: زاد في روايته على رواية ابن نمير، وعبدة قوله: "تعني -أي: تريد عائشة بقولها: أبواك - أبا بكر الصدّيق، والزبير بن العوّام رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن هشام لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6231]
(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْبَهِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: قًالَتْ لِي عَائِشَةُ: كَانَ أَبوَاكَ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
2 -
(الْبَهِي) هو: عبد الله الْبَهِيّ -بفتح الموحّدة، وكسر الهاء، وتشديد التحتانية- مولى مصعب بن الزبير، يقال: اسم أبيه يسار، صدوق يخطئُ [3](بخ م 4) تقدم في "الحيض" 29/ 832.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية الْبَهيّ عن عروة هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(32169)
- حدّثنا وكيع، عن إسماعيل، عن الْبَهِيّ، عن عروة، عن عائشة قال قالت لي: كان الزبير من {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران: 172]. انتهى
(1)
.
(7) - (بَابُ فَضَائِلِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه
-)
هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فِهْر، يجتمع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في فِهر بن مالك، وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت جدًّا بخمسة آباء، فيكون أبو عبيدة من حيث العدد في درجة عبد مناف، ومنهم من أدخل في نَسَبه بين الجراح وهلال ربيعة، فيكون على هذا في درجة هاشم، وبذلك جزم أبو الحسن بن سميع، ولم يذكر غيره.
وأم أبي عبيدة: هي من بنات عمّ أبيه، ذكر أبوأحمد الحاكم أنها أسلمت، وقُتل أبوه كافرًا يوم بدر، ويقال: إنه هو الذي قتله، ورواه الطبرانيّ وغيره من طريق عبد الله بن شوذب مرسلًا، ومات أبو عبيدة، وهو أمير على
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 377.
الشام من قِبَل عمر رضي الله عنهما بالطاعون سنة ثمان عشرة باتفاق
(1)
.
وقال في "الإصابة": عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب، ويقال: وُهيب بن ضبة بن الحارث بن فِهر القرشيّ الفهريّ، أبو عبيدة بن الجراح، مشهور بكنيته، وبالنسبة إلى جدّه، ومنهم من لم يذكر بين عامر والجراح: عبد الله، وبذلك جزم مصعب الزبيريّ في نَسَب قريش، والأكثر على إثباته، وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون، وعُبيدة بن الحارث بن المطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبيّ صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، ذكره ابن سعد من رواية يزيد بن رُومان، وأنكر الواقدي ذلك، وزعم أن أباه مات قبل الإسلام.
وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة، أحدُ العشرة السابقين إلى الإسلام، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرًا وما بعدها، وهو الذي انتزع الحلقتين من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيتا أبي عبيدة، وكان أميراَ على الشام، وكان فَتْح أكثر الشام على يده، وقَتَل أباه يوم بدر، ونزلت فيه:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]، وهو فيما أخرجه الطبرانيّ بسند جيّد، عن عبد الله بن شوذب، قال: جَعل والد أبي عبيدة يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، فيحيد عنه، فلما أكثر قَصَده، فقَتَله، فنزلت.
قال خليفة: وكانت أمه من بني الحارث بن فهر، أدركت الإسلام، وأسلمت، وقال الواقديّ: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن معاذ.
وقال يعقوب بن سفيان: حدّثنا حجاج، حدّثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد من أصحابي إلا لو شئت لأخذت عليه في خُلُقه، ليس أبا عبيدة بن الجراح"، هذا مرسل، ورجاله ثقات. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(2)
.
(1)
"الفتح" 8/ 454، كتاب "الفضائل" رقم (3744).
(2)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 586 - 587.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6232]
(2419) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا خَالِذ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: قَالً رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الأمّةُ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل حديث.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل باب.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) تقدّم قبل بابين.
4 -
(خَالِدُ) بن مِهْران، أبو المنازل -بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي- البصريّ الحذّاء -بفتح المهملة، وتشديد الذال المعجمة - قيل له ذلك: لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول: احْذُ على هذا النحو، وهو ثقةٌ، يُرسل، أشار حماد بن زبد إلى أن حِفظه تغيّر لمّا قَدِم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان [5](ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
5 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ كثير الإرسال، قال العجليّ: فيه نَصْبٌ يسيرٌ [3] مات بالشام هاربًا من القضاء (104)، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(أَنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه، فا لأول: كوفيّ، والثاني: نسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، ومن المشهورين بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونال بركة دعوته، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد جاوز عمره مائة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد الْجَرْميّ، أنه (قَالَ: قَالَ أنَسُ) بن مالك رضي الله عنه (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا) قال القرطبيّ رحمه الله:
الأمانة: ضد الخيانة، وهي عبارة عن قوَّة الرجل على القيام بحفظ ما يوكل إلى حفظه، ويخلِّي بينه وبينه، وهي مأخوذة من قولهم: ناقة أَمُون؛ أي: قوية على الحمل والسير، فكأنّ الأمين: هو الذي يوثَق به في حِفظ ما يوكل إلى أمانته حتى يؤدِّيه؛ لقوَّته على ذلك، وكان أبو عبيدة قد خصَّه الله تعالى من هذا بالحظ الأكبر، والنصيب الأكثر، بحيث شَهِد له بذلك المعصوم، وصار له ذلك الاسم، والعَلَم المعلوم، وقد ظهر ذلك من حاله للعيان حتى استوى في معرفته كل إنسان؛ وذلك أن عمر لَمّا قَدِم الشام متفقِّدًا أحوال الناس والأمراء، وفي خل منازلهم، وبحث عنهم أراد أن يدخل منزل أبي عبيدة وهو أمير على الشام، قد فُتحت عليه بلاده، وترادفت عليه فتوحاته، وخيراته، واجتمعت له كنوزه، وأمواله، فلما كلَّمه عمر رضي الله عنه في ذلك، قال له: يا أمير المؤمنين! والله لئن دخلت منزلي لتعصرنّ عينيك، فلما دخل منزلة لم يجد فيه شيئًا يردُّ البصر أكثر من سلاحه، وأداة رَحْل بعيره، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أمين هذه الأمة"، أو كما قال.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أَخبر عن كل واحد من أعيان أصحابه رضي الله عنهم بما غلب عليه من أوصافه، وإن كانوا كلهم فضلاء، علماء، حكماء، مختارين لمختار، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذيّ من حديث أنس بن مالك:"أرحم أمي بأمتي: أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله: عمر، وأصدقهم حياءً: عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام: معاذ، وأفرضهم: زيد، وأقرؤهم: أُبّي، ولكل أمَّة أمين، وأمين هذه الأمَّة: أبو عبيدة"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ.
ومن حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "ما أظلّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء، أصدق لهجةً من أبي ذرّ"
(1)
.
(وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الأُمَّةُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هو منادى مفرد محذوف حرف النداء، والأمَّة: نعتُه مرفوعًا، والأفصح نَصْبها على الاختصاص، وحكى سيبويه: اللهم اغفر لنا أيتها العِصابةَ بالنصب. انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 293، وحديث:"ما أظلت الخضراء. . ." صحيح.
(2)
"المفهم" 6/ 293.
قال الجامع عفا الله عنه: الاختصاص ذَكره ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
الاخْتِصَاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ "يَا"
…
كَـ "أَيُّهَا الْفَتَى" بِإِثْرِ "ارْجُونِيَا"
وَقَدْ يُرَى ذَا دُونَ "أَيٍّ" تِلْوَ "أَلْ"
…
كَمِثْلِ "نَحْنُ الْعُرْبَ أَسْخَى مَنْ بَذَلْ".
وقوله: (أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ") مرفوع على أنه خبر "إنّ"، و"أيتها الأمة" معترض بينهما.
وقال في "الفتح": قوله: "أيتها الأمة" صورته صورة النداء، لكن المراد فيه الاختصاص؛ أي: أميننا مخصوصين من بين الأمم أبو عبيدة، وعلى هذا فهو بالنصب على الاختصاص، وقال القاضي: هو بالرفع على النداء، والأفصح أن يكون منصوبًا على الاختصاص
(1)
.
و"الأمين": هو الثقة الرضيّ، وهذه الصفة، وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره، لكن السياق يُشعر بأن له مزيدًا في ذلك، لكن خَصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلَّ واحد من الكبار بفضيلة، ووَصفه بها، فأشْعَر بقدَرْ زائد فيها على غيره؛ كالحياء لعثمان، والقضاء لعليّ، ونحو ذلك.
[تنبيه]: أورد الترمذيّ، وابن حبان هذا الحديث من طريق عبد الوهاب الثقفيّ، عن خالد الحذاء، بهذا الإسناد مطوَّلًا، وأوله: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأقرأهم لكتاب الله أُبَيّ، وأفرضهم زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، ألا وإن لكل أمة أمينًا
…
" الحديث، وإسناده صحيح، إلا أن الحفاظ قالوا: إن الصواب في أوله الإرسال، والموصول منه ما اقتَصَر عليه الشيخان، وهو إن لكل أمة أمينًا
…
إلخ". والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 7/ 93، كتاب "الفضائل" رقم (5534).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6232 و 6233](2419)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3744) و"المغازي"(4382) و"أخبار الآحاد"(7255)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 57) و"فضائل الصحابة"(1/ 29)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 133 و 189 و 245)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 391)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 266 و 6/ 68)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 270)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 412 و 7/ 384)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6233]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ - عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا، يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ، وَالإِسْلَامَ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقَالَ: "هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَفانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شك في حَرْف من الحديث تَرَكه، وربما وَهِم، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات بعدها بيسير، من كبار [10](ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ، عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (أَنَّ أَهْلَ الْيَمَنِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
إلخ) هكذا في هذه الرواية: "أن أهل اليمن"، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه:"جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، قال في "الفتح": إن كان الراوي تجوّز عن أهل نجران بقوله:
"أهل اليمن"؛ لِقُرب نجران من اليمن، وإلا فهما واقعتان، والأول أرجح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا رجّح في "الفتح" الوجه الأول، وعندي أن الثاني، وهو تعدد الواقعة هو الأرجح؛ لأن قولهم: "يُعَلِّمْنَا السُّنَّةَ، وَالإِسْلَامَ) يدلّ على أنهم مسلمون، وأما أهل نجران فإنما طلبوا من يأخذ عنهم الجزية، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6234]
(2420) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ يُحَدِّثُ عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ: "لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ، حَقَّ أَمِينٍ"، قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ، قَالَ: فَبَعَثَ أَبا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد، ويقال: عليّ الهمدانيّ، السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ اختلط بأخرة، ويدلّس [3](ت 129)، وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
2 -
(صِلَةُ بْنُ زُفَرَ) -بكسر أوله، وفتح اللام الخفيفة - ابن زُفَر -بضم الزاي، وفتح الفاء -العبسيّ -بالموحّدة - أبو العلاء، أوأبو بكر الكوفيّ، تابعيّ كبيرٌ ثقةٌ جليلٌ [2] مات في حدود السبعين (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 29/ 1814.
3 -
(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان: حُسَيل -بمهملتين مصغرًا - ويقال: حِسْل -بكسر، ثم سكون - الَعَبْسيّ - بالموحدة - حليف الأنصار،
(1)
"الفتح" 8/ 456 رقم (3744).
الصحابي الجليل من السابقين الأولين، وأبوه صحابي أيضًا استُشهد بأُحُد، ومات حذيفة في أول خلافة عليّ رضي الله عنهما سنة ستّ وثلاثين (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 457.
والباقون تقدّموا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه حذيفة رضي الله عنه الصحابيّ الشهير، ذو مناقب جمّة، فقد صحّ في "صحيح مسلم" عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان، وما يكون إلى أن تقوم الساعة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ صِلَةَ) بكسر الصاد، وفتح اللام، (ابْنِ زُفَرَ) بضمّ الزاي، وفتح الفاء، (عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: جَاءَ أَهْلُ نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بفتح النون، وسكون الجيم: بلدة من بلاد هَمْدَان من اليمن، قال البكريّ: سُمّيت بِاسم بانيها: نَجْران بن زيد بن يَشْجُب بن يَعْرُب بن قحطان. قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقال في "الفتح": "نجران" -بفتح النون، وسكون الجيم -: بلدٌ كبيرٌ، على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسبعين قريةً، مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في "المغازي"، وذكر ابن إسحاق أنهم وَفَدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهم حينئذ عشرون رجلًا، لكن أعاد ذِكرهم في الوفود بالمدينة، فكأنهم قدموا مرتين، وقال ابن سعد: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وَفْدهم في أربعة عشر رجلًا، من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضًا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلًا، وسَرَد أسماءهم. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": "نجران" -بفتح النون، وسكون الجيم، وبالراء- بلد
(1)
"المصباح المنير" 2/ 594.
(2)
"الفتح" 9/ 528 - 529، كتاب "المغازي" رقم (4380).
باليمن، وأهلها العاقب، واسمه عبد المسيح، والسيد، وأبو الحارث بن علقمة، وأخوه كرز، وأوس، وزيد بن قيس، وشيبة، وخويلد، وعمرو، وعبيد الله، وكان وفد نجران سنة تسع، كما ذكره ابن سعد، وكانوا أربعة عشر رجلًا من أشرافهم، وكانوا نصارى، ولم يُسْلموا إذ ذاك، ثم لم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرًا حتى أتيا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسلما، وقال ابن إسحاق: قَدِم وفد نصارى نجران ستون راكبًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من أشرافهم، وثلاثة منهم يؤول إليهم أمرهم، وهم العاقب، والسيد، وأبو حارثة، أحد بني بكر بن وائل أسقُفّهم، وصاحب مدارسهم، ولمّا دخلوا المسجد النبويّ دخلوا في تجمّل، وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر، فقاموا يصلّون إلى المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوهم"، وكان المتكلم أبا حارثة، والسيد، والعاقب، وسألوه أن يرسل معهم أمينًا، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وكان أبو حارثة يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن صدّه الشرف والجاه عن اتباع الحقّ
(1)
.
(فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله، ابْعَثْ إِلَيْنَا رَجُلًا أَمِينًا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم "لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلًا أَمِينًا) قال القرطبيّ رحمه الله: الأمانة ضدّ الخيانة، وهي عبارة عن قوّة الرجل على القيام بحفظ ما يوكَلُ إلى حفظه، ويُخلَّى بينه وبينه، وهي مأخوذة من قولهم: ناقة أَمُون؛ أي: قويّة على الحمل والسير، فكأن الأمين: هو الذي يوثَق به في حِفظ ما يُوكَلُ إلى أمانته حتى يؤدّيه لقوّته على ذلك. انتهى
(2)
.
(حَقَّ أَمِينٍ، حَقَّ أَمِينٍ") هكذا مكررًا، ونصب "حقّ" على أنه مصدر مضاف، وهو في موضع الصفة، تقديره: أمينًا محَقَّقًا في أمانته، قاله القرطبيّ
(3)
، وقال غيره رحمه الله أي: بلغ في الأمانة الغاية القصوى، قيل: الأمانة كانت مشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم خصّ بعضهم بصفات غلبت عليه، وكان أخصّ بها، وقيل: خصّه بالأمانة؛ لكمال هذه الصفة فيه،
(1)
"عمدة القاري" 16/ 239.
(2)
"المفهم" 6/ 292.
(3)
"المفهم" 6/ 294.
قاله السنديّ
(1)
.
(قَالَ) حذيفة (فَاسْتَشْرَفَ لَهَا النَّاسُ)، وفي رواية:"فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"؛ أي: تطلّعوا للولاية، ورَغِبوا فيها حرصًا على تحصيل الصفة المذكورة، وهي الأمانة، لا على الولاية من حيث هي، والله أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: تشوّفوا، وتعرّضوا لمن هو الموجّه معهم، وكلهم يحرص على أن يكون هو المعنيّ؛ إذ كل واحد منهم أمين. انتهى
(2)
.
(قَالَ) حذيفة (فَبَعَثَ) صلى الله عليه وسلم (أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ)، وفي رواية أبي يعلى:"قم يا أبا عبيدة، فأرْسَله معهم"، ووقع في رواية لأبَي يعلى من طريق سالم، عن أبيه، سمعت عمر يقول: ما أحببت الإمارة قط إلا مرّة واحدةً -فذكر القصة، وقال في الحديث -: فتعرضتُ أن تصيبني، فقال:"قم يا أبا عبيدة"
(3)
.
[تنبيه]: وقد أخرج البخاريّ في "المغازي" من "صحيحه" هذا الحديث مطوّلًا، فقال:
(4380)
- حدثني عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صِلَة بن زُفَر، عن حذيفة قال: جاء العاقب، والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يُلاعننا، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيًّا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عَقِبنا من بعدنا، قالا: إنا نُعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلًا أمينًا، ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال:"لأبعثنّ معكم رجلًا أمينًا حَقَّ أمين"، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"قم يا أبا عبيدة بن الجراح"، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا أمين هذه الأمة".
وقوله: "جاء السيد والعاقب صاحبا نجران"، أما السيد فكان اسمه: الأيهم -بتحتانية ساكنة - ويقال: شُرَحبيل، وكان صاحب رحالهم، ومجتمعهم، ورئيسهم في ذلك، وأما العاقب فاسمه عبد المسيح، وكان
(1)
"حاشية السندي على ابن ماجه" 1/ 93.
(2)
"المفهم" 6/ 294.
(3)
"الفتح" 8/ 456.
صاحب مَشُورتهم، وكان معهم أيضًا أبو الحارث بن علقمة، وكان أُسْقُفَّهم، وحِبْرهم، وصاحب مِدْراسهم. قال ابن سعد: دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا، فقال:"إن أنكرتم ما أقول، فهَلُمّ أُبَاهِلكم"، فانصرفوا على ذلك.
وذكر ابن إسحاق بإسناد مرسل أن ثمانين آية من أول سورة آل عمران نزلت في ذلك، يشير إلى قوله تعالى:{فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران: 61].
وفي رواية يونس بن بكير أنه صالَحَهم على ألفيّ حُلّة: ألفٍ في رجب، وألفٍ في صفر، ومع كل حلة أُوقِيّة، وساق الكتاب الذي كَتَبه بينهم مطوَّلًا. وذكر ابن سعد أن السيد والعاقب رجعا بعد ذلك فأسلما
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6234 و 6235](2420)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3745) و"المغازي"(4381) و"أخبار الآحاد"(7254)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3796)، و (النسائيّ) في "الفضائل"(95)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(135)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(412)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 136)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 385 و 401) وفي "الفضائل"(1276)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6999 و 7000)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 267)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 412)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3929)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(2)
:
1 -
(منها): بيان فضل أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه، ففيه منقبة ظاهرة
(1)
"الفتح" 9/ 529.
(2)
المراد: الفوائد التي اشتمل عليها الحديث بطوله، كما أسلفته من رواية البخاريّ مطوّلًا، فتنبّه.
له رضي الله عنه، فقد خصّه الله تعالى بالحظ الأكبر والنصيب الأكثر من الأمانة، بحيث شهِد له بذلك الرسول المعصوم الذي لا يفعل إلا حقًّا، ولا يقول إلا صدقًا، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]، وصار له ذلك الاسمَ والعَلَمَ المعلوم، وقد ظهر ذلك من حاله للعيان
(1)
، حتى استوى في معرفته كل إنسان، وذلك أن عمر رضي الله عنه لَمّا قَدِم الشام مُتفقّدًا أحوال الناس والأُمراء، ودخل منازلهم، وبحث عنهم أراد أن يدخل منزل أبي عبيدة، وهو أمير على الشام قد فُتحت عليه بلاده، وترادفت عليه فتوحاته وخيراته، واجتمعت له كنوزه وأمواله، فلما كلّمه عمر رضي الله عنه في ذلك، قال له: يا أمير المؤمنين والله لئن دخلت منزلي لتعصِرَنّ عينيك، فلما دخل منزلة لم يجد فيه شيئًا يرُدّ البصر أكثر من سلاحه، وأداة رَحْل بعيره، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أمين هذه الأمة"، أو كما قال.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر كل أحد من أعيان أصحابه رضي الله عنهم بما غلب عليه من أوصافه، وإن كانوا كلّهم فضلاء علماء حكماء مختارين لمختار، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذيّ، وابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعًا:"أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدّهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأعْلَمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أُبيّ، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة"
(2)
.
وأخرج الترمذيّ (3801)، وابن ماجه (156) أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو:"ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذرّ"
(3)
.
2 -
(ومنها): أن في قصة أهل نجران هذه أن إقرار الكافر بالنبوة لا يُدخله في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام.
3 -
(ومنها): بعثُ الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الْهُدْنة في مصلحة الإسلام.
4 -
(ومنها): جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تَعَيَّنت مصلحته.
(1)
راجع: "المفهم" 6/ 293.
(2)
حديث صحيح.
(3)
حديث صحيح بطرقه.
5 -
(ومنها): مشروعية مباهلة المخالف إذا أصرّ بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابنُ عباس إلى ذلك، ثم الأوزاعيّ، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، قال الحافظ: ومما عُرِف بالتجربة أن من باهَلَ، وكان مُبطِلًا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يُقِمْ شهرين.
6 -
(ومنها): مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، وَيجرِي ذلك مَجْرَى ضرب الجزية عليهم، فإن كُلًّا منها مال يؤخذ من الكفار على وجه الصَّغَار في كل عام.
[فإن قلت]: ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًّا إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجِزْيتهم، فكيف يُجمع بينها وبين قصّة أبي عبيدة هذه؟.
[أجيب]: بأن قصة أبي عبيدة رضي الله عنه هذه غير قصّة عليّ رضي الله عنه؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقَبَض مال الصلح، ورَجَع، وأما عليّ فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يَقْبِض منهم ما استُحِقّ عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة. أفاده في "الفتح"
(1)
. والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6235]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ) -بفتح الحاء المهملة، والفاء -: نسبة إلى موضع بالكوفة، وهو: عمر بن سَعْد بن عُبيد، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 203)(م 4) تقدم في "النكاح" 15/ 3498.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن أبي إسحاق هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 429، كتاب "المغازي" رقم الحديث (4383).
(8197)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا أبو داود الحفريّ، قالْ ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن حذيفة، قال: جاء العاقب والسيد، وهما صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا: ابعث معنا رجلًا أمينًا حقَّ أمين، فجثا الناس، فقال:"قم يا أبا عبيدة". انتهى
(1)
.
وساقها الترمذيّ أيضًا
(2)
في "جامعه"، فقال:
(3796)
- حدّثنا محمود بن غَيلان، حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة بن اليمان، قال: جاء العاقب والسيد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالا: ابعث معنا أمينًا، فقال: فإني سأبعث معكم أمينًا حقّ أمين، فأشرف لها الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.
قال: وكان أبو إسحاق إذا حدّث بهذا الحديث عن صلة قال: سمعته منذ ستين سنةً، قال: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وقد رُوي عن ابن عمر، وأنس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لكل أمة أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح". انتهى
(3)
.
(8) - (بَابُ فَضَائِلِ الْحَسَن، وَالْحُسَيْنِ رضي الله عنهما
-)
أما الحسن: فهو ابن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشميّ سِبْط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، أمير المؤمنين، أبو محمد، وُلد في نصف شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، قاله ابن سعد، وابن الْبَرْقيّ، وغير واحد، وقيل: في شعبان منها، وقيل: وُلد سنة أربع، وقيل: سنة خمس، والأول أثبت.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أحاديث حفظها عنه.
(1)
"السُّنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 57.
(2)
إنما أوردت رواية الترمذيّ؛ لِمَا فيها من الزيادة، فتنبّه.
(3)
"جامع الترمذيّ" 5/ 667.
وقال ابن أبي خيثمة: حدّثنا هارون بن معروف، حدّثنا ضمرة عن ابن شَوْذب قال: لمّا قُتل عليّ سار الحسن في أهل العراق، ومعاوية في أهل الشام، فالتقوا، فكَرِه الحسن القتال، وبايع معاوية على أن يجعل العهد له من بَعده، فكان أصحاب الحسن يقولون له: يا عار أمير المؤمنين، فيقول: العار خير من النار.
وأخرج ابن سعد من طريق مجالد، عن الشعبي وغيره قال: بايع أهل العراق بعد عليّ الحسن بن عليّ، فسار إلى أهل الشام، وفي مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفًا، يسمّون شرطة الجيش، فنزل قيس بمسكن من الأنبار، ونزل الحسن المدائن، فنادى منادٍ في عسكر الحسن: ألا إن قيس بن سعد قُتل، فوقع الانتهاب في العسكر، حتى انتهبوا فسطاط الحسن، وطعنه رجل من بني أسد بخنجر، فدعا عمرو بن سلمة الأرحبيّ، وأرسله إلى معاوية يَشترط عليه، وبعث معاوية عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر، فأعطيا الحسن ما أراد، فجاء له معاوية من منبج إلى مسكن، فدخلا الكوفة جميعًا، فنزل الحسن القصر، ونزل معاوية النخيلة، وأجرى عليه معاوية في كل سنة ألف ألف درهم، وعاش الحسن بعد ذلك عشر سنين.
قال ابن سعد: وأخبرنا عبد الله بن بكر السهميّ، حدّثنا حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار، قال: وكان معاوية يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فراسله، وأصلح الذي بينهما، وأعطاه عهدًا إن حدَث به حدَث، والحسن حيّ ليجعلنّ هذا الأمر إليه، قال: فقال عبد الله بن جعفر: قال الحسن: إني رأيت رأيًا أحب أن تتابعني عليه، قلت: ما هو؟ قال: رأيت أن أعمد إلى المدينة، فأنزلها، وأُخْلي الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة، وسُفكت الدماء، وقُطعت السبل، قال: فقلت له: جزاك الله خيرًا عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فبَعث إلى حسين، فذَكر له ذلك، فقال: أعيذك بالله، فلم يزل به حتى رضي.
وقال يعقوب بن سفيان: حدّثنا سعيد بن منصور، حدّثنا عون بن موسى، سمعت هلال بن خباب: جَمَع الحسن رؤوس أهل العراق في هذا القصر، قصر المدائن، فقال: إنكم قد بايعتموني على أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإني قد بايعت معاوية، فاسمعوا له وأطيعوا.
قال الواقديّ: مات سنة تسع وأربعين، وقال المدائنيّ: مات سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين، وقال الهيثم بن عبديّ: سنة أربع وأربعين، وقال ابن منده: مات سنة تسع وأربعين، وقيل: خمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، ويقال: إنه مات مسمومًا. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وُلد الحسن في النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، هذا أصحُّ ما قيل في ذلك، ووُلد الحسين لخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وقيل: سنة ثلاث، هذا قول الواقدي. وقال: علقت به فاطمة رضي الله عنها بعد مولد الحسن بخمسين ليلة، ومات الحسن مسمومًا في ربيع الأول من سنة خمسين بعدما مضى من خلافة معاوية عشر سنين. وقيل: بل مات سنة إحدى وخمسين، ودُفن ببقيع الغرقد إلى جانب قبر أمه، وصلَّى عليه سعيد بن العاص، وكان أمير المدينة، قدَّمه الحسين، وقال: لولا أنَّها سُنَّة لَمَا قدَّمتك، وقد كان وصى أن يُدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن أذِنَتْ في ذلك عائشة فأذِنَتْ في ذلك، ومَنَع من ذلك مروان، وبنو أمية.
وروى أبو عمر بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه قال: لمّا وُلد الحسن جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أروني ابني، ما سمّيتموه؟ " قلت: حربًا. قال: "بل هو: حسن"، فلما وُلد الحسين، قال:"أروني ابني، ما سمَّيتموه؟ "، قلت: حربًا، قال:"بل هو: حسين"، فلمّا ولد الثالث، قال:"أروني ابني، ما سميتموه؟ " قلت: حربًا، قال:"بل هو: محسِّن".
وعقَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كل واحدٍ من الحسن والحسين يوم سابعه بكبش كبش، وأمر أن يُحلَق كل واحد منهما، وأن يُتَصَدَّق بوزن شعرهما فضة. وقال عليّ رضي الله عنه:"الحسين رضي الله عنه أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر إلى الرأس، والحسن أشبه الناس بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك". وتواردت الآثار الصّحاح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن: "إن ابني هذا سيِّد، وعسى الله أن يبقيه حتى يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين"، ولا أَسْوَد ممن سوَّده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد له بذلك، وكان حليمًا، ورِعًا، فاضلًا، دعاه وَرَعه
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 68.
وفَضْله إلى أن تَرَك الْمُلك والدنيا رغبة فيما عند الله. ومما يدلّ على صحة ذلك، وعلى صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوّته ما قد اشتهر من حال الحسن، وتواتر من قضيَّة خلافته، وإصلاحه بين المسلمين، وذلك أنه لمّا قُتِل عليّ رضي الله عنه بايعه أكثر من أربعين ألفًا، وكثير ممن تخلَّف عن أبيه، وممن نكث بيعته، فبقي نحو سبعة أشهر خليفة بالعراق، وما وراءها من خراسان، ثم سار إلى معاوية في أهل الحجاز، والعراق، وما وراءها من خراسان، ثم سار إليه معاوية في أهل الشام، فلما تراءى الجمعان بموضع، يقال له: مَسْكَن، من أرض السواد بناحية الأنبار، كره الحسن القتال؛ لِعِلمه أن إحدى الطائفتين لا تغلب حتى يهلكَ أكثر الأخرى، فيهلك المسلمون، فسلَّم الأمر لمعاوية على شروط شَرَطها عليه، منها: أن يكون الأمر له من بعد معاوية، فالتزم كل ذلك معاوية، واجتمع الناس على بيعته في النصف من جمادى الأولى من سنة إحدى وأربعين. هذا أصح ما قيل في ذلك، ولمّا فعل ذلك الحسن عَتَب عليه أصحابه، ولاموه على ذلك؛ حتى قال له بعض أصحابه: يا عار المؤمنين! فقال: العار خير من النار. وقال له شيخ من أهل الكوفة يكنى أبا عامر لمّا قَدِمها: السلام عليك يا مُذِلّ المؤمنين، فقال له: لا تقل ذلك يا أبا عامر! فإني لم أذل المؤمنين، ولكني كرهت أن أقتلهم في طلب المُلك. فقد ظهر ما قاله سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من أن الحسن سيِّد، وأن الله أصلح به بين فئتين من المسلمين، لكن خُشي من طول عمره فسُمَّ فمات من فوره، ونقل الثقات: أنه لمّا سُمَّ لفظ قِطَعًا من كبده، وحينئذ قال: لقد سُقيتُ السُّمَّ ثلاث مرات لم أُسقَ مثل هذه المرة، فقال له الحسين: يا أخي من سقاك؟ قال: وما تريد إليه؟ أتريد أن تقتله؟ قال: نعم. قال: لئن كان الذي أظن؛ فالله أشد نقمة، ولئن كان غيره فما أحب أن يُقتل بي بريء. ولمّا وَرَدَ البريد بموته على معاوية قال: يا عجبًا من الحسن! شرب شربة من عسل بماء رُومة فقضى نحبه. انتهى
(1)
.
وأما الحسين: فهو ابن عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو عبد الله، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، وريحانته، قال الزبير وغيره: وُلد
(1)
"المفهم" 6/ 295 - 297.
في شعبان سنة أربع، وقيل: سنة ستّ، وقيل: سنة سبع، وليس بشيء.
وكانت إقامة الحسين بالمدينة إلى أن خرج مع أبيه إلى الكوفة، فشهد معه الجَمَل، ثم صفّين، ثم قتال الخوارج، وبقي معه إلى أن قُتل، ثم مع أخيه إلى أن سَلَّم الأمر إلى معاوية، فتحول مع أخيه إلى المدينة، واستمرّ بها إلى أن مات معاوية، فخرج إلى مكة، ثم أتته كُتُب أهل العراق بأنهم بايعوه بعد موت معاوية، فأرسل إليهم ابن عمة مسلم بن عَقِيل بن أبي طالب، فأخذ بيعتهم، وأرسل إليهم فتوجه، وكان من قصة قتله ما كان.
وقال عمار بن معاوية الدُّهْنيّ: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين: حدّثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته، قال: مات معاوية، والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته ليلته، فقال: أخِّرني، ورَفَق به، فأخّره، فخرج إلى مكة، فأتاه رُسُل أهل الكوفة: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فاقدُم علينا، وقال: وكان النعمان بن بشير الأنصاريّ على الكوفة، فبعث الحسين بن علي إليهم مسلم بن عَقيل، فقال: سِرْ إلى الكوفة، فانظر ما كتبوا به إليّ، فإن كان حقًّا قَدِمت إليه، فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين، فمرّا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، فقَدِم مسلم الكوفة، فنزل على رجل يقال له: عوسجة، فلما علم أهل الكوفة بقدومه دَبُّوا إليه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفًا، فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال: إنك ضعيف، أو مستضعف، قد فسد البلد، قال له النعمان: لَأَنْ أكون ضعيفًا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويًّا في معصيته، ما كنت لأهتك سترًا، فكتب الرجل بذلك إلى يزيد، فدعا يزيد مولى له يقال له: سرحون، فاستشاره، فقال له: ليس للكوفة إلا عبيد الله بن زياد، وكان يزيد ساخطًا على عبيد الله، وكان هَمّ بعزله عن البصرة، فكتب إليه برضاه عنه، وأنه قد أضاف إليه الكوفة، وأمَرَه أن يطلب مسلم بن عَقيل، فإن ظَفَر به قتله، فأقبل عبيد الله بن زياد في وجوه أهل البصرة، حتى قَدِم الكوفة متلثمًا، فلا يمرّ على أحد، فيسلّم إلا قال له أهل المجلس: عليك السلام يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يظنونه الحسين بن علي، قدم عليهم، فلما نزل عبيد الله القصر، دعا مولى له،
فدفع إليه ثلاثة آلاف درهم، فقال: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايعه أهل الكوفة، فادخل عليه، وأعلمه أنك من حمص، وادفع إليه المال، وبايِعه، فلم يزل المولى يتلطف حتى دلّوه على شيخ يلي البيعة، فذكر له أمره، فقال: لقد سرّني إذ هداك الله، وساءني أنّ أمْرنا لم يستحكم، ثم أدخله على مسلم بن عَقيل، فبايعه، ودفع له المال، وخرج حتى أتى عبيد الله فأخبره، وتحوّل مسلم حين قدم عبيد الله من تلك الدار إلى دار أخرى، فأقام عند هانئ بن عروة المراديّ، وكان عبيد الله قال لأهل الكوفة: ما بال هانئ بن عروة لم يأتني؟ فخرج إليه محمد بن الأشعث في أناس من وجوه أهل الكوفة، وهو على باب داره، فقالوا له: إن الأمير قد ذَكَرك، واستبطأك، فانطلق إليه، فركب معهم، حتى دخل على عبيد الله بن زياد، وعنده شريح القاضي، فقال عبيد الله لمّا نظر إليه لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلّم عليه، قال له: يا هانئ أين مسلم بن عَقيل؟ فقال له: لا أدري، فأخرج إليه المولى الذي دفع الدراهم إلى مسلم، فلما رآه سُقط في يده، وقال: أيها الأمير والله ما دعوته إلى منزلي، ولكنه جاء، فطرح نفسه عليّ، فقال: ائتني به، فتلكأ، فاستدناه، فأدْنوه منه، فضربه بالقضيب، وأمَر بحبسه، فبلغ الخبر قومه، فاجتمعوا على باب القصر، فسمع عبيد الله الجلبة، فقال لشريح القاضي: اخرج إليهم، فأعْلِمهم أنني ما حبسته إلا لأستخبره عن خبر مسلم، ولا بأس عليه مني، فبلّغهم ذلك، فتفرقوا، ونادى مسلم بن عَقيل لمّا بلغة الخبر بشعاره، فاجتمع عليه أربعون ألفًا من أهل الكوفة، فركب، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة، فجَمَعهم عنده في القصر، فأمَر كل واحد منهم أن يُشرف على عشيرته، فيردّهم، فكلّموهم، فجعلوا يتسللون، فأمسى مسلم، وليس معه إلا عدد قليل منهم، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضًا، فلما بقي وحده تردد في الطُّرُق بالليل، فأتى باب امرأة، فقال: اسقيني ماء، فسَقَته، فاستمر قائمًا، قالت: يا عبد الله إنك مرتاب، فما شأنك؟ قال: أنا مسلم بن عَقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم ادخل، فدخل، وكان لها ولد من موالي محمد بن الأشعث، فانطلق إلى محمد بن الأشعث، فأخبره، فلم يفجأ مسلمًا إلا والدار قد أحيط بها، فلما رأى ذلك خرج بسيفه يدفعهم عن نفسه، فأعطاه محمد بن الأشعث الأمان،
فأمكن من يده، فأُتي به عبيد الله، فأمر به، فأُصعد إلى القصر، ثم قتله، وقتل هانئ بن عروة، وصلبهما، فقال شاعرهم في ذلك أبياتًا منها [من الطويل]:
فَإِنْ كُنْتِ لَا تَدْرِينَ مَا الْمَوَتُ فَانْظُرِي
…
إِلَى هَانِئٍ فِي السُّوقِ وَابْنِ عَقِيلِ
ولم يبلغ الحسين ذلك حتى كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، فلقيه الحرّ بن يزيد التميميّ، فقال له: ارجع، فإني لم أَدَعْ لك خلفي خيرًا، وأخبره الخبر، فهَمَّ أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم، فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا، أو نُقتل، فساروا، وكان عبيد الله قد جهّز الجيش لملاقاته، فوافوه بكربلاء، فنزلها ومعه خمسة وأربعون نفسًا من الفرسان، ونحو مائة راجل، فلقيه الحسين، وأميرهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان عبيد الله ولّاه الريّ، وكَتَب له بعهده عليها إذا رجع من حرب الحسين، فلما التقيا قال له الحسين: اختر مني إحدى ثلاث، إما أن ألحق بثغر من الثغور، وإما أن أرجع إلى المدينة، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية، فقَبِل ذلك عمر منه، وكَتَب به إلى عبيد الله، فكَتَب إليه: لا أقبل منه حتى يضع يده في يدي، فامتنع الحسين، فقاتَلوه، فقُتل معه أصحابه، وفيهم سبعة عشر شابًا من أهل بيته، ثم كان آخر ذلك أن قُتل، وأُتي برأسه إلى عبيد الله، فأرسله ومن بقي من أهل بيته إلى يزيد، ومنهم علي بن الحسين، وكان مريضًا، ومنهم عمته زينب، فلما قَدِموا على يزيد أدخلهم على عياله، ثم جهَّزهم إلى المدينة. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وأما الحسين رضي الله عنه: فكان فاضلًا، ديِّنًا، كثير الصوم، والصلاة، والحج، قال مصعب الزبيري: حجَّ الحسين خمسًا وعشرين حجَّة ماشيًا، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه وفي الحسن:"إنهما سيِّدا شباب أهل الجنة"، وقال:"هما رَيْحانتاي من الدنيا"، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رآهما هشَّ لهما، وربما أخذهما، كما روى أبو داود: أنهما دخلا المسجد، وهو يخطب، فقطع خطبته، ونزل فأخذهما، وصعد بهما، وقال:"رأيت هذين، فلم أصبر"، وكان يقول فيهما:"اللهم إني أُحبهما، فأَحِبَّهما، وأحِبَّ من يحبهما"،
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 68 - 73.
وقُتل رحمه الله، ولا رحم قاتله يوم الجمعة لعشر خلون من محرم سنة إحدى وستين بموضع يقال له: كربلاء، بقرب موضع يقال له: الطفُّ بقرب من الكوفة. قال أهلُ التواريخ: لما مات معاوية، وأفضت الخلافة إلى يزيد، وذلك في سنة ستين، وَرَدَت بيعته على الوليد بن عتبة بالمدينة ليأخذ البيعة على أهلها، أرسل إلى الحسين بن عليّ، وإلى عبد الله بن الزبير ليلًا، فأُتي بهما فقال: بايعا. فقالا: مثلنا لا يبايع سرًّا، ولكنا نبايع على رؤوس الناس إذا أصبحنا، فرجعا إلى بيوتهما، وخرجا من ليلتهما إلى مكة، وذلك ليلة الأحد لليلتين بقيتا من رجب، فأقام الحسين بمكة شعبان، ورمضان، وشوال، وذا القعدة، ثم خرج يوم التروية يريد الكوفة، فبعث عبيد الله بن زياد خيلًا لقتل الحسين، وأمَّر عليهم عمر بن سعد، فأدركه بكربلاء، فقُتل الحسين، وقُتل معه مِن وَلَده وإخوته وأهل بيته ثلاثة وعشرون رجلًا، وسُبي نساؤه، وذلك في يوم عاشوراء من السنة المذكورة، وكان من قضاء الله تعالى، وتعجيل عقوبته لعبيد الله بن زياد، أن قُتل يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى ابن الزبير، فبعث به إلى علي بن حسين.
واختُلف في سنّ الحسين يوم قُتل. فقيل: سبع وخمسون. وقيل: ثمان. وقيل: أربع. وقال جعفر بن محمد: توفي عليّ بن أبي طالب وهو ابن ثمان وخمسين. وقُتل الحسين وهو ابن ثمان وخمسين، وتوفي علي بن الحسين، وهو ابن ثمان وخمسين، وتوفي محمد بن علي، وهو ابن ثمان وخمسين. قال سفيان: قال لي جعفر بن محمد: وأنا بهذه السنة في ثمان وخمسين، وتوفي فيها، رحمة الله عليهم أجمعين.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم نصف النهار، وهو قائم أشعث، أغبر، بيده قارورة فيها دم، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا؟ قال: هذا دم الحسين، لم أزل ألقطه منذ اليوم، فوُجد قد قُتل في ذلك اليوم.
وأما الحسن فكان سنَّه يوم مات ستًّا وأربعين سنة، وقيل: سبعًا وأربعين سنة. وروى الحسن عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الدعاء في القنوت.
وقوله: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة"
(1)
، وروى الحسين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من حُسن إسلام المرء تَرْكه ما لا يعنيه"
(2)
.
وقوله صلى الله عليه وسلم في ابن صائد: "اختلفتم وأنا بين أظهركم؟ فأنتم بعدي أشدُّ اختلافًا". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6236]
(2421) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِحَسَنٍ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المروزيّ، نزيل بغداد، أحد الأئمة، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ حجةٌ، وهو رأس [10](ت 241) وله سبع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 427.
2 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) المكيّ، مولى آل قارظ بن شيبةٌ، ثقةٌ كثير الحديث [4](ت 126) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الصيام" 21/ 2662.
3 -
(نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ) بن مُطْعِم النوفليّ، أبو محمد، وأبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 99)(ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 482.
والباقيان ذُكرا قبل باب، وشرح الحديث يأتي بعده، وإنما أخّرته إليه لكونه أتمّ مما هنا.
وقوله: (قَالَ لِحَسَنٍ)؛ أي: عنه، فاللام بمعنى:"عن"؛ أي: قال مخبرًا عن شأن الحسن رضي الله عنه، وقيل: هي للتعليل، وقيل: هي لام التبليغ، أفاده ابن هشام رحمه الله في "مغنيه"
(4)
.
(1)
رواه عبد الرزاق، والطبرانيّ، وأبو نعيم.
(2)
رواه الترمذيّ، ومالك في "الموطّأ".
(3)
"المفهم" 6/ 297 - 299.
(4)
راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 419 - 420.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6237]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَار، لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ، حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ انْصَرَفَ حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: "أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟ "؛ يَعْنِي: حَسَنًا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لَأَنْ تُغَسِّلَهُ، وَتُلْبِسَهُ سِخَابًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ يَسْعَى، حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحْبِبْ مَنْ يُحِبُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم ذُكروا في الباب، والبابين قبله، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ": هو محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد الله، وشيخه وسفيان مكيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنَ النَّهَارِ)؛ أي: في قطعة منه، وحَكَى الكرمانيّ أن في بعض الروايات:"صائفة" بالصاد المهملة بدل "طائفة"؛ أي: في حرّ النهار، يقال: يوم صائفٌ؛ أي: حارّ
(1)
. (لَا يُكَلِّمُنِي وَلَا أُكَلِّمُهُ) أما من جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلعله كان مشغولَ الفكر بوحيٍ، أو غيره، وأما من جانب أبي هريرة فلتوقيره، وكان ذلك من شأن الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يروا منه صلى الله عليه وسلم نشاطًا
(2)
. (حَتَّى جَاءَ سُوقَ بَنِي قَيْنُقَاعَ) قال ياقوت: "قينقاع" بفتح القاف، وسكون التحتانيّة، وضمّ النون، وفتحها،
(1)
"الفتح" 5/ 585، كتاب "البيوع" رقم (2122).
(2)
"الفتح" 5/ 585، كتاب "البيوع" رقم (2122).
وكسرها، كُلٌّ يُروَى، بعدها قاف، وآخره عين مهملة: اسم لشَعْب من اليهود الذين كانوا بالمدينة، أضيف إليهم سُوق، كان بها، ويقال: سوق بني قينقاع. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": "قينقاع" بفتح القاف، وسكون التحتانية، وضم النون، بعدها قاف: قبيلة من اليهود، نُسِب السوق إليهم، وذكر ابن التين أنه ضُبِط قينقاع بكسر النون، في أكثر نُسخ القابسيّ، وهو صواب أيضًا، وقد حُكِي فَتْحها أيضًا، يُصرف على إرادة الحيّ ويجوز تركه على إرادة القبيلة. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ انْصَرَفَ)؛ أي: من سُوق بني قينقاع، (حَتَّى أَتَى خِبَاءَ فَاطِمَةَ) ابنته صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنها، و"الخباء" بكسر الخاء المعجمة، والمدّ: ما يُعمل من وَبَر، أو صُوف، وقد يكون من شعَرٍ، والجمع: أخبية بغير همز، مثلُ كِسَاء وأكسيةٍ، ويكون على عَمُودين، أو ثلاثة، وما فوق ذلك، فهو بيتٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى أتى خباء فاطمة"؛ أي: بيتها، وأصل الخباء ما يخبأ فيه، وقد صار بحكم العرف العربيّ عبارةً عن بيوت الأعراب. انتهى
(4)
.
ووقع عند البخاريّ بلفظ: "بفناء بيت فاطمة"، و"الفِناء" بكسر الفاء، بعدها نون، ممدودة: الموضع المتَّسِع أمامَ البيت.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَثَمَّ) بهمزة الاستفهام بعدها ثاء مثلثة مفتوحة: اسم إشارة يشار به للمكان البعيد، كما يشار إليه بـ "هناك"، أو "هنالك"، أو "هِنّا"، كما قال في "الخلاصة":
وَبِـ"هُنَا" أو "هَا هُنَا" أَشِرْ إِلَى
…
دَانِي الْمَكَانِ وَبِهِ الْكَافَ صِلَا
فِي الْبُعْدِ أَو بِـ"ثَمَّ" فُهْ أَو "هَنَّا". . . وبِـ"هُنَالِكَ" انْطِقَنْ أَو "هِنَّا"
وقال في "العمدة": "ثَمّ" بفتح الثاء المثلثة: اسم يشار به إلى المكان
(1)
"معجم البلدان" 4/ 424.
(2)
"الفتح" 5/ 503 - 504، كتاب "البيوع" رقم (2048).
(3)
"المصباح المنير" 1/ 163.
(4)
"المفهم" 6/ 299.
البعيد، وهو ظرف لا يتصرف، فلذلك غُلِّط مَن أعربه مفعولًا لـ "رأيت" في قوله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20]. انتهى
(1)
.
(لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟ ") مكرّرًا للتأكيد، وهو بضم اللام، وفتح الكاف، قال الخطابيّ: اللُّكَع على معنيين: أحدهما: الصغير، والآخر: اللئيم، والمراد هنا الأول، والمراد بالثاني ما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا:"يكون أسعدُ الناس بالدنيا لُكعُ ابنُ لُكَع".
وقال ابن التين: زاد ابن فارس أن العبد أيضًا يقال له: لُكَع. انتهى. ولعل من أطلقه على العبد أراد أحد الأمرين المذكورين، وقال بلال بن جرير التميميّ: اللكع في لغتنا: الصغير، وأصله في المُهْر ونحوه، وعن الأصمعيّ: اللكع: الذي لا يهتدي لمنطق، ولا غيره، مأخوذ من الملاكيع: وهي التي تخرج مع السَّلا من البطن، قال الأزهريّ: وهذا القول أرجح الأقوال هنا؛ لأنه أراد أن الحسن صغير، لا يهتدي لمنطق، ولم يُرد أنه لئيم، ولا عبد، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لُكَع"؛ يعني به: الصغير، وهي لغة بني تميم، وسئل ابن جرير عن اللكع، فقال: هو الصغير في لغتنا، وأصل هذه الكلمة: أنها تُستعمل للتحقير، والتجهيل، واللكع: العبد الوَغْد
(3)
، والقليل العقل، ويقال للأنثى: لَكْعاء، ويُعْدَل به في النداء إلى لَكَاع، وقد تقدم القول فيه، ويَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم مُمازحًا له بذلك اللفظ، ومُؤْنسًا، كما يقول الرجل لابنه الصغير: تعال يا كُليب، وكما قالت العربية لابنها وهي تُرَقِّصه: حُزُقَّة
(4)
تَرَقّ عين بقَّة
(5)
.
(1)
"عمدة القاري" 11/ 240.
(2)
"الفتح" 5/ 585 - 586، كتاب "البيوع" رقم (2122).
(3)
"الوغد": الأحمق الضعيف.
(4)
في "لسان العرب" في مادّة: (حزق)، وفي كلامهم: حُزُقّةٌ حُزُقّة تَرَقَّ عينَ بقّة. "الحزقّة": الضعيف يقارب خطوه، "تَرَقَّ": بمعنى: اصعد، "عين بقّة" كناية عن صِغَر العين.
(5)
"المفهم" 6/ 299.
وقوله: (يَعْنِي: حَسَنًا) تفسير لقوله: "لُكَع"، والعناية من أبي هريرة، أو مَن دونه، والله تعالى أعلم.
(فَظَنَنَّا)، وفي رواية البخاريّ:"فحَبَسته شيئًا، فظننت أنها تُلبسه سِخابًا"، (أَنَّهُ)؛ أي: أن الشأنَ والحالَ، فالضمير للشأن، (إِنَّمَا تَحْبِسُهُ أُمُّهُ لَأَنْ تُغَسِّلَهُ) بضمّ أوله، وتشديد ثالثه، من التغسيل؛ أي: لأجل تغسيله، ويجوز أن يُقرأ بفتح أوله، وكسر ثالثه، من الغسل، والأول أظهر؛ لأن فيه معنى المبالغة. (وَتُلْبِسَهُ) بضمّ أوله، من الإلباس، (سِخَابًا) -بكسر السين المهملة، بعدها خاء معجمة، خفيفة، وبموحّدة - قال الخطابيّ: هي قلادة تُتَّخذ من طِيب، ليس فيها ذهب، ولا فضةٌ، وقال الداوديّ: من قَرَنْفُل، وقال الهرويّ: هو خيط من خَرَز يلبسه الصبيان، والجواري، ورَوَى الإسماعيلي عن ابن أبي عمر شيخ مسلم في هذا الحديث قال: السخاب شيء يُعمل من الحنظل؛ كالقميص، والوشاح. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: السِّخاب: خيطٌ فيه خرز يُنْظم، ويُجعل في عنق الصبيان، والسِّخاب مأخوذ من السَّخَب: وهو اختلاط الأصوات، وارتفاعها، وكأن هذه الخرزات لها أصوات مختلفة عند احتكاك بعضها مع البعض، وقيل: السِّخاب من القلائد: ما اتخذ من القَرَنْفُل، والمسك، والعُود وشِبْهه، دون الجوهر. انتهى
(2)
.
(فَلَمْ يَلْبَثْ) بفتح أوله، وثالثه، مضارع لَبِث، قال الفيّوميّ رحمه الله: لَبِثَ بالمكان لَبَثًا، من باب تَعِبَ: مكَثَ فيه، وجاء في المصدر السكون، للتخفيف، واللَّبثة بالفتح: المرة، وبالكسر: الهيئة والنوع، والاسم: اللُّبثُ بالضم، واللَّبَاثُ بالفتح، وتَلَبَّثَ بمعناه، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أَلْبَثتُهُ، ولبَّثتُهُ. انتهى
(3)
.
(أَنْ جَاءَ)"أن" بالفتح مصدريّة، والمصدر المؤوّل فاعل "يلبث"؛ أي: لم
(1)
"الفتح" 5/ 586، كتاب "البيوع" رقم (2122).
(2)
"المفهم" 6/ 299.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 547 - 548، بزيادة من "القاموس" ص 1162.
يتأخّر مجيؤه، وقوله:(يَسْعَى) جملة حاليّة، وفي رواية البخاريّ:"فجاء يشتدّ"، (حَتَّى اعْتَنَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا)؛ أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم، والحسن، (صَاحِبَهُ)، وفي رواية البخاريّ:"حتى عانقه، وقبّله"، وفي رواية ورقاء، عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده هكذا -أي: مدّها- فقال الحسن بيده هكذا، فالتزمه"
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ) بضمّ همزة المتكلّم، (فَأَحِبَّهُ) بفتح الهمزة، بلفظ الدعاء، وبالإدغام، وفي رواية الكشميهنيّ:"أحببه" بفك الإدغام
(2)
. (وَأَحْبِبْ) بفكّ الإدغام، (مَنْ يُحِبُّهُ")"من" اسم موصول في محل نصب على أنه مفعول "أحبب"، زاد في رواية ابن ماجه:"وضمّه إلى صدره"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6236 و 6237](2421)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2122) و"اللباس"(5884) وفي "الأدب المفرد"(1152)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 49) وفي "الفضائل"(61)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(142)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1043)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 249 و 331) وفي "الفضائل"(1349)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6963)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 279)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(8/ 1422)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 233)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3933)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(3)
:
1 -
(منها): بيان فضل الحسن بن عليّ رضي الله عنهما.
2 -
(ومنها): بيان فضل من يُحبّ الحسن رضي الله عنه، حيث دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يُحبّه الله عز وجل.
(1)
"عمدة القاري" 11/ 240.
(2)
"عمدة القاري" 11/ 240.
(3)
المراد فوائد الحديث برواياته المختلفة المذكورة في الشرح، لا خصوص سياق المصنّف، فتنبّه.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من توقير النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمشي معه.
4 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع؛ حيث كان يدخل السوق ويجلس بفناء الدار.
5 -
(ومنها): بيان شفقته صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالصغير، والمزاح معه، ومعانقته، وتقبيله.
6 -
(ومنها): أن فيه ملاطفةَ الصبيان، ورحمتهم، ومماسّتهم، وأن رطوبات وجهه ونحوها طاهرة، حتى تتحقق نجاستها، ولم يُنقل عن السلف التحفظ منها، ولا يخلُوَن منها غالبًا
(1)
.
7 -
(ومنها): المحافظة على النظافة، وعلى تحسين الصغار، وتزيينهم، وخصوصًا عند لقاء من يُعظَّم، ويحترم.
8 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه ما يدل على تواضع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورحمته بالصغار، وإكرامه، ومحبَّته للحَسن، ولا خلاف -فيما أحسب- في جواز عناق الصِّغار كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنَّما اختُلف في عِناق الكبير في حالة السلام، وكرهه مالك، وأجازه سفيان بن عيينة، وغيره، واحتج سفيان على مالك في ذلك بعناق النبيّ صلى الله عليه وسلم جعفرًا لَمّا قَدِم عليه، فقال مالك: ذلك مخصوصٌ بجعفر، فقال سفيان: ما يخص جعفرًا يعمُّنا، فسكت مالك، ويدلّ سكوت مالك على أنه ظهر له ما قاله سفيان من جواز ذلك، قال القاضي عياض: وهو الحقّ، حتى يدلّ دليل على تخصيص جعفر بذلك. انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: واختَلف العلماء في معانقة الرجل للرجل القادم من سفر، فكرهها مالك، وقال: هي بدعةٌ، واستحبها سفيان وغيره، وهو الصحيح الذي عليه الأكثرون، والمحققون، وتناظر مالك وسفيان في المسألة، فاحتج سفيان بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بجعفر حين قَدِم، فقال مالك: هو خاصّ به، فقال سفيان: ما يخصه يعمّنا، فسكت مالك، قال القاضي عياض: وسكوت
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 194.
مالك دليل لتسليمه قول سفيان، وموافقته، وهو الصواب، حتى يدلّ دليل للتخصيص. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القاضي عياض، وتابعه عليه القرطبيّ، والنوويّ، من تصويب رأي سفيان على رأي مالك في المسألة هو الحقّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: وفيه من الفقه ما يدلّ على: جواز حمل الصِّبيان، وترك التعمُّق في التحفظ مما يكون منهم من المخاط، والبول، وغير ذلك، فلا يُجتنب من ذلك إلا ما ظهرت عينه، أو تحقَّق، أو تفاحش، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يعملون على مقتضى الحنيفية السَّمحة، فيمشون حفاة في الطِّين، ويجلسون بالأرض، وتكون عليهم الثياب الوسخة التي ليست بنجسة، ويلعقون أصابعهم، والقصعة عند الأكل، ولا يعيبون شيئًا من ذلك، ولا يتوسوسون فيه، وكل ذلك ردٌّ على غلاة متوسوسة الصوفية اليوم؛ فإنَّهم يبالغون في نظافة الظواهر، والثياب، وبواطنهم وسخة خراب. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6238]
(2422) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ -وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ- حَدَّثَنَا الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 193.
(2)
"المفهم" 6/ 300 - 301.
5 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث بن عبديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابي ابن الصحابي رضي الله عنهما، نزل الكوفة، واستُصغِر يوم بدر، ومات سنة اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية الابن عن أبيه.
وقوله: (رَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ) ووقع عند الإسماعيليّ من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة:"الحسن، أو الحسين" بالشكّ، ثم ذكر أن أكثر أصحاب شعبة رووه، فقالوا:"الحسن" بغير شكّ، ثم عدّ منهم ثمانية، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (عَلَى عَاتِقِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم) العاتق: ما بين المنكب إلى العنق، قيل: هو موضع الرداء من المنكب، قاله القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: يقال لِمَا بين المنكب والعُنُق: عاتقٌ، وهو موضع الرداء، ويُذكّر، ويؤنّث، والجمع عواتق. انتهى
(3)
، وبقيّة شرح الحديث يُعلم مما قبله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6238 و 6239](2422)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3749) وفي "الأدب المفرد"(86)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3782 و 3783)، و (النسائيّ) في "فضائل الصحابة"(60)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(732)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 101)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 283 - 284 و 292) وفي "فضائل الصحابة" (1353
(1)
"الفتح" 8/ 459.
(2)
"المفهم" 6/ 300.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 392.
و 1388)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2582 و 2583 و 2584)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6962)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 35)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 233)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3932)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6239]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ ابْنُ نَافِعٍ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ -وَهُوَ: ابْنُ ثَابِتٍ- عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاضِعًا الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِه، وَهُوَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الطهارة" 16/ 607.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6240]
(2423) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ ابْنُ الرُّومِيِّ الْيَمَامِيُّ، وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ -وَهُوَ ابْنُ عَمَّارٍ- حَدَّثَنَا إِيَاسٌ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: لَقَدْ قُدْتُ بِنَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَسَن، وَالْحُسَيْن، بَغْلَتَهُ الشَّهْبَاءَ، حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَذَا قُدَّامَهُ، وَهَذَا خَلْفَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ ابْنُ الرُّومِيِّ الْيَمَامِيُّ) هو: عبد الله بن محمد اليماميّ، نزيل بغداد، المعروف بابن الرُّوميّ، ويقال: اسم أبيه عُمر، صدوق [10](ت 236)(م) تقدم في "الإيمان" 63/ 356، من أفراد المصنّف رحمه الله.
2 -
(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ بن إسماعيل الْعَنْبَرِيُّ) أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
3 -
(النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن موسى الْجُرَشيّ -بالجيم المضمومة، والشين معجمة- أبو محمد اليماميّ، مولى بني أمية، ثقةٌ، له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.
4 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العِجْليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ، يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
5 -
(إِيَاسُ) بن سلمة بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119) وهو ابن سبع وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
6 -
(أَبُوهُ) سلَمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبومسلم، وأبو إياس الصحابيّ المشهور، شَهِد بيعة الرضوان، مات رضي الله عنه سنة أربع وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالتحديث، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه.
شرح الحديث:
عن إياس بن سلمة (عَنْ أَبِيهِ) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَقَدْ قُدْتُ) بضم القاف، يقال: قَاد الرجل الفرس قَوْدًا، من باب قال، وقِيَادًا، بالكسر، وقِيَادَةً، قال الخليل: القَوْدُ أن يكون الرجل أَمامَ الدابة آخذًا بقيادها، والسَّوْق أن يكون خلفها، فإن قَادَهَا لنفسه قيل: اقْتَادَهَا، ويُطلق على الخيل التي تُقَادُ بمقَاوِدِهَا، ولا تُرْكَب، قاله الأزهريّ، والمِقْوَدُ بالكسر: الحبل، يُقادُ به، والجمع: مَقَاوِدُ، والقِيَادُ مثلُ المِقْوَد، ومثله لِحَافٌ، ومِلْحَفٌ، وإِزارٌ، ومِئْزَرٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 518.
(بِنَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْحَسَن، وَالْحُسَيْنِ) ابني عليّ رضي الله عنهم، وسبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورَيحانَتيه. (بَغْلَتَهُ) منصوب على المفعوليّة لـ "قُدتُ"، و"البغل" بفتح، فسكون: هو المولّد بين الحمار والفرس، وجَمْع القلّة منه: أَبْغالٌ، وجَمْع الكثرة: بِغَالٌ، والأنثى بالهاء، وجَمْعها بَغَلاتٌ، مثلُ سجَدَة وسَجَدَات، وبِغالٌ أيضًا، قاله الفيّوميّ
(1)
، وقوله:(الشَّهْبَاءَ) صفة لـ "بغلته"، وهو مؤنّث أشهب، والشَّهَب بفتحتين مصدر شَهِبَ، كتَعِبَ، وهوأن يغلب البياض السواد، والاسم: الشُّهْبة
(2)
. (حَتَّى أَدْخَلْتُهُمْ حُجْرَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) -بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم-؛ أي: بيته، وجَمْعه حُجَرٌ، وحُجُرَات، مثلُ غُرَفٍ، وغُرُفات في وجوهها، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار بقوله: "في وجوهها" إلى لغات "غُرْفَات"، فإن فيها ثلاث لغات، ضمّ الراء؛ إتباعًا للفاء، وفَتْحها؛ تخفيفًا، وإسكانها كذلك، والغين في كلّها مضمومة، وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة في "الخلاصة"، حيث قال:
وَالسَّالِمَ الْعَيْنِ الثُّلَاثِي اسْمًا أَنِلْ
…
إِتْبَاعَ عَيْنٍ فَاءَهُ بِمَا شُكِلْ
إِنْ سَاكِنَ الْعَيْنِ مُؤَنَّثًا بَدَا
…
مُخْتَتَمًا بِالتَّاءِ أَو مُجَرَّدَا
وَسَكِّنِ التَّالِيَ غَيْرَ الْفَتْحِ أَو
…
خَفِّفْهُ بِالْفَتْحِ فَكُلًّا قَدَ رَوَوْا
وقوله: (هَذَا قُدَّامَهُ، وَهَذَا خَلْفَهُ)؛ أي: أحدهما راكب أَمامَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، والآخر راكب خلفه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 56، بزيادة من "تاج العروس" 1/ 6883.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 324.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 122.
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6240](2423)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2775)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5618)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6247)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة، ورحمته للصغار، حيث إنه يردفهم أمامه وخلفه، يلاطفهم بذلك، ويؤانسهم.
2 -
(ومنها): بيان جواز استخدام الحرّ باختياره.
3 -
(ومنها): استحباب خدمة الأكابر.
4 -
(ومنها): جواز ركوب ثلاثة على دابة إذا كانت مُطيقة، قال النوويّ رحمه الله: وهذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّةً، وحكى القاضي عن بعضهم مَنْع ذلك مطلقًا، وهو فاسد. انتهى.
وقال في "الفتح": والأصل في ذلك -يعني: مَنْعِ ركوب الثلاثة على دابّة- ما أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن جابر: "نهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَركب ثلاثة على دابة"، وسنده ضعيف، وأخرج الطبريّ عن أبي سعيد رفعه:"لا يركب الدابة فوق اثنين"، وفي سنده لِيْن، وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل زاذان أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال: لينزل أحدكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث، ومن طريق أبي بردة عن أبيه نحوه، ولم يصرِّح برفعه، ومن طريق الشعبيّ قوله مثله، ومن حديث المهاجر بن قنفذ أنه لعن فاعل ذلك، وقال: إنا قد نُهينا أن يركب الثلاثة على الدابة، وسنده ضعيف، وأخرج الطبريّ عن عليّ قال: إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم، حتى ينزل أحدهم.
وعكسه ما أخرجه الطبريّ أيضًا بسند جيّد عن ابن مسعود قال: كان يوم بدر ثلاثة على بعير، وأخرج الطبرانيّ، وابن أبي شيبة أيضًا من طريق الشعبيّ، عن ابن عمر قال: ما أبالي أن أكون عاشر عشرة على دابة، إذا أطاقت حمل ذلك.
قال: وبهذا يُجْمَع بين مختلف الحديث في ذلك، فيُحمل ما ورد في الزجر عن ذلك على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة؛ كالحمار مثلًا، وعكسه على عكسه؛ كالناقة، والبغلة.
ثم نَقَل كلام النوويّ السابق، ثم قال: لم يصرِّح أحد بالجواز مع العجز، ولا بالمنع مع الطاقة، بل المنقول من المطلق في المنع والجواز محمول على المقيّد. انتهى ما في "الفتح"
(1)
وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(9) - (بَابُ فَضَائِلِ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6241]
(2424) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةً
(2)
، وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ، فَدَخَلَ مَعَه
(3)
، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ، فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ، فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، وكان يدلِّس، وسماعه من أبي إسحاق بأخرة [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
2 -
(مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ) بن جبير بن شيبة بن عثمان الْعَبْدريّ المكيّ الْحَجَبيّ، لَيِّن الحديث [5](م 4) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
3 -
(صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ) بن عثمان بن أبي طلحة الْعَبْدريّة، لها رؤية، وحدّثت عن عائشة وغيرها من الصحابة، وفي "صحيح البخاريّ" التصريح بسماعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنكر الدارقطنيّ إدراكها (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 699.
(1)
"الفتح" 10/ 396.
(2)
وفي نسخة: "ذات غداة".
(3)
وفي نسخة: "فأدخله معه".
والباقون تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أمه، ورواية صحابيّة عن صحابيّة عند من أثبت لصفيّة صحبة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، روت (2210) أحاديث.
شرح الحديث:
(عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ) العبدريّة رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةً)، وفي بعض النسخ:"ذات غداة"؛ أي: غداةً من الغداة، والغداة: أول النهار، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغداة: الضحوة، وهي مؤنّثةٌ. (وَعَلَيْهِ مِرْطٌ) -بكسر الميم، وإسكان الراء-: كساءٌ يكون تارةً من صوف، وتارةً من شَعْر، أو كتان، أو خَزّ، قال الخطابيّ: هو كساء يؤتزر به، وقال النضر: لا يكون الْمِرْط إلا دِرْعًا، ولا يلبسه إلا النساء، ولا يكون إلا أخضر، قال النوويّ: وهذا الحديث يَرُدّ عليه
(1)
. (مُرَحَّلٌ) -بفتح الراء، وفتح الحاء المهملة المشدّدة- هذا هو الصواب الذي رواه الجمهور، وضبطه المتقنون، وحَكَى القاضي عياضٌ أن بعضهم رواه بالجيم؛ أي: عليه صُوَر الرجال، والصواب الأول، ومعنى المرحل بالحاء: هو الْمُوَشِيّ المنقوش عليه صور رجال الإبل، وبالجيم عليه صور المراجل: وهي القدور.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المرحَّل يروى بالحاء؛ يعني: فيه صور الرّحال، ويُروى بالجيم؛ أي: فيه صور الرجال، أو صور المراجل، وهي: القدور، يقال: ثوب مراجل، وثوب مرجَّل. هذا قولُ الشارحين.
قال: ويظهر لي أن المرجَّل. هنا يُراد به: الممشوط خَمَلُه وزُبْرُه، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:
خَرَجْتُ بِهَا تَمْشِي تَجُرُّ وراءَنا
…
على أثَرَيْنا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرجَّلِ
وهذا أَولى؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كيف يلبس الثوب الذي فيه صور الرِّجال؛ مع
(1)
"شرح النوويّ" 14/ 57.
أنه قد نهى عن الصُّوَر، وهَتَك السِّتر الذي كانت فيه، وغضب عند رؤيته، كما تقدَّم في "اللباس". انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه أنه لا بأس بهذه الصُّوَر، وإنما يحرم تصوير الحيوان، وقال الخطابيّ: المرحَّل الذي فيه خطوط، ويقال: إنما سمّي مُرَحّلًا؛ لأن عليه تصاوير رَحْلٍ، أو ما يُشْبهه. انتهى
(2)
.
(مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ) إنما قيّده بالأسود؛ لأن الشعر قد يكون أبيض، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لا رغبة له في فاخر الثياب في الدنيا، بل يَقْنَع بما يحصل به المقصود من ستر العورة، ونحوه.
(فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ) رضي الله عنهما (فَأَدْخَلَهُ)؛ أي: في ذلك المِرط، (ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ) بن عليّ رضي الله عنهما (فَدَخَلَ مَعَهُ)، وفي بعض النسخ:"فأدخله معه"، (ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ) بنته صلى الله عليه وسلم-رضي الله عنها (فَأَدْخَلَهَا) معهما، (ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (فَأَدْخَلَهُ) معهم.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم ({إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ}) هذا تعليل لجميع ما تقدّم من الأوامر، والنواهي من قوله تعالى:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32] إلى هنا
(3)
، بيّن الله سبحانه وتعالى أنه إنما نهاهنّ، وأمَرهنّ، ووعظهنّ؛ لئلا يقارف أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المآثم، وليتصوّنوا عنها بالتقوى، واستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطُّهر؛ لأن عِرض المقترف للمقحمات يتلوّث بها كما يتلوّث بدنه بالأرجاس، وأما المحسنات فالعِرض منها نقيّ كالثوب الطاهر، وفيه تنفير أولي الألباب عن المناهي، وترغيب لهم في الأوامر، قاله النسفيّ
(4)
. {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ} عبّر به؛ لأنه أريد الرجال والنساء من آل بيته بدلالة قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. ({الرِّجْسَ}) قيل: هو الشكّ، وقيل: العذاب، وقيل: الإثم، قال الأزهريّ: الرجس اسم لكل مُستقذَر من عمل. انتهى
(5)
.
({أَهْلَ الْبَيْتِ}) نُصب على النداء، أو المدح، وفيه دليل على أن نساءه صلى الله عليه وسلم
(1)
"المفهم" 6/ 301 - 302.
(2)
"شرح النوويّ" 14/ 57 - 58.
(3)
"حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 436.
(4)
"تفسير النسفيّ" 3/ 302 - 303.
(5)
"شرح النوويّ" 15/ 195.
من أهل بيته. ({وَيُطَهِّرَكُمْ})، وقوله:({تَطْهِيرًا (33)}) مصدر فيه معنى التأكيد.
قال القرطبيّ رحمه الله: وقراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية دليل على أن أهل البيت المعنيّون في الآية هم الْمُغَطَّون بذلك المرط في ذلك الوقت، والرجس: اسم لكل ما يستقذَر، قاله الأزهريّ، والمراد بالرجس الذي أُذهب عن أهل البيت: هو مستخبَث الْخُلُق المذمومة، والأحوال الركيكة، وطهارتهم: عبارة عن تجنّبهم ذلك، واتصافهم بالأخلاق الكريمة، والأحوال الشريفة. انتهى
(1)
.
وقال أبو السعود رحمه الله في "تفسيره": {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} [الأحزاب: 33]؛ أي: الذنب المدنِّس لعِرضكم، وهو تعليل لأمْرهنّ ونهيهنّ على الاستئناف، ولذلك عمَّم الحكم بتعميم الخطاب لغيرهنّ، وصرّح بالمقصود حيث قيل بطريق النداء، أو المدح:"أهل البيت" مرادًا بهم من حَوَاهم بيت النبوة، ويطهركم من أوضار الأوزار، والمعاصي {تَطْهِيرًا} بليغًا، واستعارةُ الرجس للمعصية، والترشيح بالتطهير لمزيد التنفير عنها، وهذه كما ترى آية بينة، وحجة نيّرة على كون نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهل البيت بفاطمة، وعليّ وابنيهما -رضوان الله عليهم- وأما ما تمسكوا به من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات غدوة، وعليه مرط مرَجَّل من شعر أسود، وجلس، فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثم جاء عليّ، فادخله فيه، ثم جاء الحسن والحسين، فأدخلهما فيه، ثم قال:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، فإنما يدلّ على كونهم من أهل البيت، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك، ولو فُرضت دلالته على ذلك لَمَا اعتُدّ بها؛ لكونها في مقابلة النصّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أراد بقوله: "في مقابلة النصّ" الآية المذكورة فإنها نصّ في كون أزواجه من أهل البيت، فدلالتها مقدّمة على ما دلّ عليه الحديث المذكور، وعندي أن التأويل الأول هو المعتمَد، وخلاصته أنه لا تنافي بين الآية وبين الحديث، فما دلّ عليه الحديث من أن أهل بيته هم الذين دخلوا في ذلك المرط لا ينافي كون غيرهم من أهل البيت.
(1)
"المفهم" 6/ 302 - 303.
(2)
"تفسير أبي السعود" 7/ 103.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية المذكورة ما نصّه: وهذا نصّ في دخول أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ها هنا؛ لأنهن سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل فيه قولًا واحدًا، إما وحده على قول، أو مع غيره على الصحيح، ثم نقل عن عكرمة عن ابن عبّاس أنه قال: نزلت في نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّةً.
وقال أيضًا: ثم الذي لا يَشُكّ فيه من تَدَبَّر القرآن أن نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ، فإن سياق الكلام معهن؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله:{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]؛ أي: اعملن بما يُنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسُّنَّة. قاله قتادة وغير واحد، واذكرن هذه النعمة التي خُصِصْتن بها من بين الناس، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصدّيقة بنت الصدّيق أَوْلاهُنَّ بهذه النعمة، وأحظاهن بهذه الغنيمة، وأخصّهن من هذه الرحمة العميمة، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ في فراش امرأة سواها، كما نصّ على ذلك -صلوات الله وسلامه عليه-.
قال بعض العلماء رحمهم الله: لأنه لم يتزوج بِكرًا سواها، ولم يَنَمْ معها رجل في فراشها سواه، فناسب أن تُخصص بهذه المزية، وأن تُفرَد بهذه الرتبة العلية. ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته، فقرابته أحقّ بهذه التسمية، كما تقدَّم في الحديث:"وأهل بيتي أحقّ".
وهذا يُشبه ما ثبت في "صحيح مسلم": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن المسجد الذي أُسس على التقوى من أول يوم، فقال:"هو مسجدي هذا"، فهذا من هذا القبيل؛ فإن الآية إنما نزلت في مسجد قُباء، كما ورد في الأحاديث الأخرى، ولكن إذا كان ذاك أسّسَ على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أَولى بِتَسمِيَته بذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله،
(1)
"تفسير ابن كثير" 6/ 416.
وقد تقدّم تخريجه في "كتاب اللباس" برقم [5/ 5434](2081) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: قد أسلفت في "كتاب اللباس" أن هذا الحديث مما يُستغرب على المصنّف رحمه الله إخراجه؛ لأنه من رواية مصعب بن شيبة، وقد تفرّد به، وهو وإن رُوي عن ابن معين، والعجليّ توثيقه، فالأكثرون على تليينه، فقال أحمد: روى أحاديث مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحمدونه، وليس بقويّ، وقال النسائيّ: منكَر الحديث، وقال أيضًا: في حديثه شيء، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، ولا بالحافظ، وقال ابن عبديّ: تكلّموا في حفظه
(1)
.
لكنّ مسلمًا إمام مطّلعٌ ولعله قَوِيَ عنده شأنه، بمتاج، أو شاهِد، والله تعالى أعلم.
(10) - (بَابُ فَضَائِلِ زيدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زيدٍ رضي الله عنهما
-)
أما زيد بن حارثة رضي الله عنه: فهو زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد وَدّ بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة الكلبي، قال ابن سعد: أمه سعدى بنت ثعلبة بن عامر من بني معن من طيء، وحدّثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبيّ عن أبيه، وعن جميل بن مرثد الطائيّ، وغيرهما، قالوا: زارت سعدى أم زيد بن حارثة قومها، وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية على أبيات بني معن، فاحتملوا زيدًا، وهو غلام، يَفَعَةٌ، فأتوا به في سوق عكاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بأربعمائة درهم، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وَهَبَتْه له، وكان أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده، قال [من الطويل]:
بَكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ
…
أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الأَجَلْ
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 4/ 85.
فَوَاللَّهِ لَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ
…
أَغَالَكَ بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَكَ الدَّهْرَ أَوْبَةٌ
…
فَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا رُجُوعُكَ لِي بَجَلْ
(1)
تُذَكِّرِنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا
…
وَتَعْرِضُ ذِكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبَّتِ الأَرْيَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ
…
فَيَا طُولَ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأَعْمَلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الأَرْضِ جَاهِدًا
…
وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَو تَسْأَمُ الإِبِلْ
حَيَاتِيَ أَو تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي
…
فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ
(2)
ويقول فيها أيضًا:
أُوَصِّي بِهِ عَمْرًا وَقَيْسًا كِلَاهُمَا
…
وَأُوصِي يَزِيدَ ثُمَّ بَعْدَهُمُ جَبَلْ
يعني: بعمرو وقيس: أخويه، وبيزيد: أخا زيد لأمه، وهو يزيد بن كعب بن شراحيل، وبجبل: وَلَده الأكبر، قال: فحجّ ناس من كلب، فرأوا زيدًا، فعرفهم، وعرفوه، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات [من الطويل]:
أَحِنُّ إِلَي قَوْمِي وَإِنْ كُنْتُ نَائِيًا
…
بِأَنِّي قَطِينُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ
في أبيات، فانطلقوا، فأعلموا أباه، ووصفوا له موضعًا، فخرج حارثة وكعب أخوه بفدائه، فقدما مكة، فسألا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا ابن عبد المطلب يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تُفكّون العاني، وتُطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عبدك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك، قال:"وما ذاك؟ " قالوا: زيد بن حارثة، فقال:"أو غير ذلك؟ ادعوه، فخيِّروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله، ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"، قالوا: زدتنا على النصف، فدعاه، فقال:"هل تعرف هؤلاء؟ " قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي، قال:"فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني، أو اخترهما"، فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدًا، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك، وأهل بيتك؟ قال: نعم إني قد رأيت من هذا الرجل شيئًا، ما أنا بالذي أختار عليه أحدًا،
(1)
بجل كنَعَم وزنًا ومعنى.
(2)
هذه الأبيات من تفسير القرطبيّ 14/ 118.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الْحِجْر، فقال:"اشهدوا أن زيدًا ابني، يرثني، وأرثه"، فلما رأى ذلك أبوه وعمة طابت أنفسهما، وانصرفا، فدُعِي زيدَ بن محمد حتى جاء الله بالإسلام.
وقال ابن الكلبيّ عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس: لمّا تبنى النبيّ صلى الله عليه وسلم زيدًا زوَّجه زينب بنت جحش، وهي بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، وزوّجه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك مولاته أم أيمن، فولدت له أسامة، ثم لمّا طلّق زينب زوّجه أم كلثوم بنت عقبة، وأمها أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب، فولدت له زيد بن زيد، ورقية، ثم طلّق أم كلثوم، وتزوج دُرّة بنت أبي لهب بن عبد المطلب، ثم طلّقها، وتزوج هند بنت العوّام أخت الزبير.
وقال ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] الحديث، أخرجه البخاريّ.
ويقال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمّاه زيدًا لمحبة قريش في هذا الاسم، وهو اسم قصي.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن الزهريّ قال: ما نعلم أن أحدًا أسلم قبل زيد بن حارثة، قال عبد الرزاق: لم يذكره غير الزهريّ، قال الحافظ: قد ذكره الواقديّ بإسناد له، عن سليمان بن يسار جازمًا بذلك، وقاله زائدة أيضًا.
وشهد زيد بن حارثة بدرًا، وما بعدها، وقُتل في غزوة مؤتة، وهو أمير، واستخلفه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره إلى المدينة.
وعن عائشة رضي الله عنها: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمّره عليهم، ولو بقي لاستخلفه، أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد قويّ عنها.
وعن سلمة بن الأكوع قال: غزوت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، ومع زيد بن حارثة سبع غزوات، يؤمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاريّ.
قال الواقديّ: أول سرايا زيد إلى الْقَرَدة، ثم إلى الجموم، ثم إلى العِيص، ثم إلى الطَّرَف، ثم إلى حِسْمَى، ثم إلى أم قرفة، ثم تأميره على غزوة مؤتة، واستُشهد فيها، وهو ابن خمس وخمسين سنة، ولم يقع في القرآن تسمية
أحد باسمه إلا هو باتفاق، ثم السِّجِلّ إن ثبت
(1)
.
وعن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه، قال: قال رسول الله لزيد بن حارثة: "يا زيد أنت مولاي، ومني، وإليّ، وأحب الناس إليَّ"، أخرجه ابن سعد بإسناد حسن، وهو عند أحمد مطوّل.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وايمُ الله إن كان لخليقًا للإمارة -يعني: زيد بن حارثة- وإن كان لَمِن أحب الناس إليّ"، أخرجه البخاريّ.
وروى الترمذيّ وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "قَدِم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه، حتى اعتنقه، وقبله".
وعن ابن عمر: فرض عُمر لأسامة أكثر مما فرض لي، فسألته، فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وإن أباه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، صحيح.
وعن زيد بن حارثة رواية في "الصحيح"، عن أنس عنه في قصة زينب بنت جحش، رَوَى عنه أنس، والبراء بن عازب، وابن عباس، وابنه أسامة بن زيد، وأرسل عنه جماعة من التابعين. انتهى ملخّصًا من الإصابة"
(2)
.
وأما أسامة رضي الله عنه، فهو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، وتقدّم ذِكر نَسَبه في نَسَب أبيه، الكلبيّ الْحِبّ ابن الْحِبّ، يكنى أبا محمد، ويقال: أبو زيد، وأمه أم أيمن حاضنة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سعد: وُلد أسامة في الإسلام، ومات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وله عشرون سنةً، وقال ابن أبي خيثمة: ثماني عشرة، وكان أمَّره على جيش عظيم، فمات النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه، فأنفذه أبو بكر، وكان عمر يُجلّه، ويكرمه، وفضّله في العطاء على ولده عبد الله بن عمر، واعتزل أسامة الفتن بعد قَتْل عثمان إلى أن مات في أواخر خلافة معاوية، وكان قد سكن الْمِزَّةَ مِن عمل دمشق، ثم رجع،
(1)
هذا لا يثبت.
(2)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 494 - 498.
فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى المدينة، فمات بها بالْجُرُف، وصحح ابن عبد البر أنه مات سنة أربع وخمسين.
وقد رَوى عن أسامة من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، ومن كبار التابعين: أبو عثمان النَّهْديّ، وأبو وائل، وآخرون، وفضائله كثيرة، وأحاديثه شهيرة. انتهى من "الإصابة"
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6242]
(2425) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَّا زَيْدَ ابْنَ مُحَمَّدٍ، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5].
قال الشَيْخُ أَبُوأَحْمَدَ، مُحَمَّدُ بْنُ عِيْسَى: أَخْبَرَنَا أَبُو العَبَّاسِ السَّرَّاجُ ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوسُفَ الدُّوَيْرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيْدٍ، بِهَذَا الحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قريبًا.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاريّ -بتشديد التحتانية - المدني نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عياش الأسديّ، مولى آل الزبير، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي [5] لم يصح أن ابن معين لَيّنه، مات سنة (141)، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
4 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أوأبو عبد الله المدنيّ، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يشبّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 202 - 203.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه سالم بن عبد الله أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله، عَن أَبِيهِ) عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا) نافية، (كُنَّا نَدْعُو)؛ أي: نُسمّي (زْيدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَّا زْيدَ ابْنَ مُحَمَّدٍ)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تبنّاه، وفي رواية القاسم بن معن، عن موسى بن عقبة في هذا الحديث:"ما كنا ندعو زيد بن حارثة الكلبيّ مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن محمد"، أخرجه الإسماعيليّ، وفي حديث عائشة رضي الله عنها في قصة سالم مولى أبي حذيفة:"وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه، ووَرِث ميراثه، حتى نزلت هذه الآية"
(1)
.
(حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ) فيه إطلاق القرآن على بعضه؛ لأن الذي نزل في هذه الواقعة هي هذه الآية الكريمة، لا كل القرآن. ({ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ})؛ أي: أعدل ({عِنْدَ اللَّهِ}) قال ابن كثير رحمه الله: هذا أمر ناسخ لِمَا كان في ابتداء الإسلام من جواز ادّعاء الأبناء الأجانب، وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بردّ نَسَبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل، والقسطُ والبرّ. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيدًا، ودعاه ابنه، وكانت العرب تفعل ذلك يتبنى الرجل مولاه، أو غيره، فيكون ابنا له، يوارثه، وينتسب إليه، حتى نزلت الآية، فرجع كل إنسان إلى نَسَبه، إلا من لم يكن له نَسَب معروف، فيضاف إلى مواليه، كما قال الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. انتهى
(3)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} نزلت
(1)
"الفتح" 10/ 492، كتاب "التفسير" رقم (4782).
(2)
"تفسير ابن كثير" 3/ 467.
(3)
"شرح النوويّ" 15/ 195 - 196.
في زيد بن حارثة على ما تقدم بيانه، وفي قول ابن عمر: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد دليل على أن التبني كان معمولًا به في الجاهلية والإسلام يُتوارث به، ويُتناصر، إلى أن نَسَخ الله ذلك بقوله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ أي: أعدل، فرفع الله حكم التبني، ومَنَع من إطلاق لَفْظه، وأرشد إلى أن الأَولى، والأعدل أن يُنسب الرجل إلى أبيه نسبًا.
يقال: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه من الرجل جَلَده وظَرْفه ضمّه إلى نفسه، وجعل له نصيب الذكر من أولاده، من ميراثه، وكان يُنسب إليه، فيقال: فلان ابن فلان.
وقال النحاس: هذه الآية ناسخة لِمَا كانوا عليه من التبني، وهو من نسخ السُّنَّة بالقرآن، فأمر أن يَدْعُوا من دَعَوْا إلى أبيه المعروف، فإن لم يكن له أب معروف نسبوه إلى ولائه، فإن لم يكن له ولاء معروف، قالوا له: يا أخي؛ يعني: في الدّين، قال الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. انتهى
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: كان التبنِّي معمولًا به في الجاهلية والإسلام، يُتوارث به، ويُتناصر؛ إلى أن نَسَخ الله تعالى ذلك كله بقوله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} : أي: أعدلُ، فرفع الله تعالى حكم التبني، ومنع من إطلاق لفظه، وأرشد إلى أن الأَولى والأعدل أن يُنسب الرَّجل إلى أبيه نسبًا، فلو نُسب إلى أبيه من التبني؛ فإنْ كان على جهة الخطأ -وهو أن يسبق اللسان إلى ذلك من غير قصد - فلا إثم، ولا مؤاخذة، لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب: 5]؛ أي: لا إثم فيه، ولا يجري هذا المجرى إطلاق ما غَلَب عليه اسم التبني؛ كالحال في المقداد بن عمرو؛ فإنَّه قد غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يُعرف إلا بالمقداد ابن الأسود، فإنَّ الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية، وعُرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك فبقي ذلك الإطلاق عليه، ولم يُسمع فيمن مضى من عصَّى مُطْلِق ذلك عليه، وإن كان متعمِّدًا، وليس كذلك الحال في زيد بن حارثة؛ فإنَّه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمد، فإن قاله
(1)
"تفسير القرطبيّ" 14/ 119.
أحدٌ متعمِّدًا عَصَى، لقوله تعالى:{وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ أي: فعليكم فيه الجُناح، والله تعالى أعلم، ولذلك قال بعده:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)} [الأحزاب: 5]؛ أي: غفورًا للعمد، ورحيمًا برفع إثم الخطأ.
ومعنى قوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} أي: انسبوهم إليهم، ولذلك عدَّاه باللام، ولو كان الدُّعاء بمعنى: النداء لعدَّاه بالباء.
وقوله: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ أي: فانسبوهم إليكم نسبة الأخوة الدينية التي قال الله فيها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، والمولويَّة التي قال فيها:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 7]. وقد تقدَّم: أنه يقال: مولى على الْمُعْتِق، والْمُعْتَق، وابن العمّ، والناصر. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ الشَّيْخُ
…
إلخ) هذا ليس من كلام مسلم، وإنما هو ملحق من تلامذة أبي أحمد الجلوديّ، تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ مسلم، ألحقه لعلوّه على إسناد مسلم، كما سنبيّنه.
و (أَبُوأَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى) بن محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن منصور الزاهد النيسابوريّ الْجُلُوديّ -بضْمّ الجيم- نسبة إلى سكة الجلوديين بنيسابور، تُوفّي في ذي الحجة سنة (368 هـ) تقدّمت ترجمته في مقدّمة "قرّة عين المحتاج" جـ 1 ص 63، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّرَّاجُ) هو: محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران، الإمام الحافظ الثقة، شيخ الإسلام، محدث خراسان، أبو العباس الثقفيّ مولاهم، الخراسانيّ النيسابوريّ، صاحب "المسند الكبير" على الأبواب و"التاريخ"، وغير ذلك.
مولده في سنة ست عشرة ومئتين، وذكر الحاكم وغيره: أن أبا العباس السراج مات في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة بنيسابور، ذكره الذهبيّ رحمه الله في "السير"
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 306 - 307.
(2)
راجع: "سير أعلام النبلاء" 14/ 388، و"طبقات الحفّاظ" ص 311.
وقوله: (وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُوسُفَ الدُّوَيْرِيُّ) لم أجد ترجمته، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالا)؛ أي: أبو العبّاس، ومحمد بن عبد الله (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ).
وغرض الشيخ أبي أحمد رحمه الله بهذا بيان علوّ إسناده على إسناد مسلم، حيث وصل إلى قتيبة بواسطة واحدة، وهي شيخاه: أبو العبّاس، ومحمد بن عبد الله، وقد وصل إليه في رواية مسلم بواسطتين، هما: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، وشيخه مسلم.
والحاصل أنه لما وجد سندًا أعلى من سند كتاب مسلم بيّنه بعد سوقه طريق مسلم، وقد تقدّم لشيخه أبي إسحاق مثل هذا، وكذلك يفعل الفربريّ في روايته لـ "صحيح البخاريّ"، وأبو الحسن القطّان في روايته لـ "سنن ابن ماجه"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6242 و 6243](2425)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4782)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3209) و"المناقب"(3814)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 429)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 392)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 77)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 43)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1317)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7042)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 161)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة زيد بن حارثة رضي الله عنه، حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحبّه حبًّا شديدًا، حتى تبنّاه.
2 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، وأنها نسخت ما كان عليه الأمر في الأول من التبنّي، فردّ كلّ إلى نسبه الحقيقيّ.
3 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز التبنّي الآن، قال في "العمدة": وعليه جماهير أهل العلم، وقام الإجماع على أنه لا يجوز تحويل النسب، وقد نسخ الله تعالى المواريث بالتبني بقوله:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} إلى قوله: {وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى غير أبيه، فقال:"ومن ادَّعَى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا"، رواه مسلم
(1)
.
وقال في "الفتح" بعد ذكر نحو ما تقدّم من تحريم التبنّي ما نصّه: فنُسب كل واحد إلى أبيه الحقيقيّ، وتُرك الانتساب إلى من تبناه، لكن بقي بعضهم مشهورًا بمن تبنّاه، فيُذكر به؛ لِقَصْد التعريف، لا لقصد النسب الحقيقيّ؛ كالمقداد بن الأسود، وليس الأسود أباه، وإنما كان تبناه، واسم أبيه الحقيقيّ: عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهرانيّ، وكان أبوه حليف كِنْدة، فقيل له: الكندقي، ثم حالف هو الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فتبنى المقداد، فقيل له: ابن الأسود. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): أنه لا يجوز نسبة الشخص إلى من تبنّاه عمدًا، قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: لو نسبه إنسان إلى أبيه من التبني، فإن كان على جهة الخطأ، وهو أن يسبق لسانه إلى ذلك من غير قصد، فلا إثم، ولا مؤاخذة؛ لقوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وكذلك لو دعوت رجلًا إلى غير أبيه، وأنت ترى أنه أبوه، فليس عليك بأس، قاله قتادة، ولا يجرى هذا المجرى ما غلب عليه اسم التبني كالحال في المقداد بن عمرو، فإنه كان غلب عليه نسب التبني، فلا يكاد يعرف إلا بالمقداد بن الأسود، فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية، وعُرف به، فلما نزلت الآية قال المقداد: أنا ابن عمرو، ومع ذلك فبقي الإطلاق عليه، ولم يُسمع فيمن مضى مَن عَصَّى مُطْلِق ذلك عليه، وإن كان متعمدًا، وكذلك سالم مولى أبي حذيفة كان يُدْعَى لأبي حذيفة، وغير هؤلاء، ممن تُبَنِّي، وانتسب لغير أبيه، وشُهِر بذلك، وغَلَب عليه، وذلك بخلاف الحال في زيد بن حارثة، فإنه لا يجوز أن يقال فيه: زيد بن محمد، فإن قاله أحد
(1)
"عمدة القاري" 13/ 95.
(2)
"الفتح" 12/ 55.
متعمدًا عَصَى؛ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]؛ أي: فعليكم الجُناح، ولذلك قال بعده:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5]؛ أي: غفورًا للعمد، ورحيمًا برفع إثم الخطأ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6243]
(
…
) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَني سَالِمٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) هو: أحمد بن سعيد بن صَخْر، أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغيّر قليلًا بآخره [7](ت 165)، وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: حدّث وُهيب عن موسى بن عقبة بمثل حديث يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، عنه.
[تنبيه]: رواية وُهيب عن موسى بن عقبة هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(32308)
- حدّثنا عفان، ثنا وُهيب، قال: ثنا موسى بن عقبة، قال: حدّثني سالم بن عبد الله بن عمر، أن عبد الله بن عمر قال: ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} . انتهى
(2)
.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 14/ 120.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 392.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6244]
(2426) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، ويَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا، وَأمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمْرَتِه، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمْرَتِه، فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإمْرَة، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) هو: عليّ بن حجر السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (481) من رباعيّات الكتاب، وله فيه أربعة من الشيوخ قَرَن بينهم، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما سبق الكلام فيه قبل حديث.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ) العدويّ مولاهم، (أَنَّهُ سَمِعَ) عبد الله (بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا) هو البعث الذي أَمَر صلى الله عليه وسلم بتجهيزه في مرض وفاته، وقال:"أنْفِذوا بعث أسامة"، فأنفذه أبو بكر رضي الله عنه بعده صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: كان تجهيز أسامة رضي الله عنه يوم السبت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر، ودعا أسامة، فقال:"سِرْ إلى موضع مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وَلّيتك هذا الجيش، وأَغِر صباحًا على أُبْنَى، وحَرِّق عليهم، وأسرع المسير تسبق الخبر، فإن ظَفّرك الله بهم، فأقلّ اللُّبْث فيهم"، فبدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه في اليوم الثالث، فعقد لأسامة لواءً بيده، فأخذه أسامة، فدفعه إلى بريدة، وعَسْكَر بالْجُرُف، وكان ممن انتدب مع أسامة كبار المهاجرين، والأنصار، منهم أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، وسعد، وسعيد، وقتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم، فتكلم في ذلك قوم، منهم عياش بن أبي ربيعة المخزوميّ، فرَدّ عليه عمر، وأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب بما ذُكِر في هذا الحديث، ثم اشتدّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: أنفِذُوا بَعْث أسامة، فجهّزه أبو بكر بعد أن استُخلف، فسار عشرين ليلة إلى الجهة التي أُمر بها، وقَتَل قاتل أبيه، ورجع بالجيش سالِمًا، وقد غَنِموا.
وكانت آخر سريّة جهّزها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأول شيء جهّزه أبو بكر رضي الله عنه.
قال الحافظ: وقد أنكر ابن تيمية في كتاب الردّ على ابن المطهر أن يكون أبو بكر، وعمر، كانا في بعث أسامة، ومستند ما ذكره ما أخرجه الواقديّ بأسانيده في "المغازي"، وذكره ابن سعد أواخر الترجمة النبوية بغير إسناد، وذكره ابن إسحاق في السيرة المشهورة، ولفظه: بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الأربعاء، فأصبح يوم الخميس، فعقد لأسامة، فقال: اغْزُ في سبيل الله، وسِرْ إلى موضع مقتل أبيك، فقد ولّيتك هذا الجيش، فذكر القصة، وفيها لم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة، منهم أبو بكر وعمر، ولمّا جهّزه أبو بكر بعد أن استُخلف سأله أبو بكر أن يأذن لعمر بالإقامة، فأَذِن، ذكر ذلك كله ابن الجوزيّ في "المنتظم" جازمًا به، وذكر الواقديّ، وأخرجه ابن عساكر من طريقه مع أبي بكر وعمر: أبا عبيدة، وسعدًا، وسعيدًا، وسلمة بن أسلم، وقتادة بن النعمان، والذي باشر القول ممن نُسب إليهم الطعن في إمارته: عياش بن أبي ربيعة، وعند الواقديّ أيضًا أن عِدّة
ذلك الجيش كانت ثلاثة آلاف، فيهم سبعمائة من قريش، وفيه عن أبي هريرة: كانت عدة الجيش سبعمائة، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(وَأَمَّرَ) بتشديد الميم؛ أي: جَعَل (عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ) رضي الله عنهما (فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمْرَتِهِ) بكسر الهمزة، وسكون الميم: الولاية؛ كالإمارة، يقال: أَمَرَ يأمُرُ، من باب قَتَلَ، فهو أمير، والجمع الأُمراء، ويُعدَّى بالتضعيف، فيقال: أمّرته تأميرًا
(2)
، زاد في رواية البخاريّ:"فطعن بعض الناس في إمارته"، قال في "الفتح": سُمّي ممن طَعَن في ذلك: عيّاش بن أبي ربيعة المخزوميّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: بعثُ أسامة هذا -والله تعالى أعلم - هو الذي جهَّزه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة، وأمّره عليهم، وأمَره أن يغزو أُبْنَى، وهي القرية التي هي عند مؤتة -الموضع الذي قتل فيه زيد أبو أسامة-، فأمَره أن يأخذ بثأر أبيه، فطَعن من في قلبه ريبٌ في إمارته؛ من حيث إنه من الموالي، ومن حيث إنه كان صغير السِّن؛ لأنَّه كان إذ ذاك ابن ثماني عشرة سنة، فمات النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد برز هذا البعث عن المدينة، ولم ينفصل بعدُ عنها، فنفَّذَه أبو بكر بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
(3)
.
(فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: على المنبر (فَقَالَ)، وفي الرواية التالية:"قال: وهو على المنبر". ("إِنْ تَطْعَنُوا) -بفتح العين - يقال: طَعَن يَطْعَن بالفتح، في الْعِرْض، والنَّسب، وبالضم بالرمح واليد، ويقال: هما لغتان فيهما. (فِي إِمْرَتِهِ)؛ أي: إمرة أسامة رضي الله عنه، (فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِي إِمْرَةِ أَبِيهِ) قال الكرمانيّ: قالت النحاة: الشرط سبب للجزاء متقدِّم عليه، وها هنا ليس كذلك، ثم أجاب بأنه يؤَوَّل مثله بالإخبار عنهم؛ أي: إن طعنتم فيه فأُخبركم بأنكم طعنتم من قبل في أبيه، قال: ويلازمه عند البيانيين؛ أي: إن طعنتم فيه تأثمتم بذلك؛ لأنه لم يكن حقًّا، والغرض أنه كان خليقًا بالإمارة، أشار إليه بقوله:"وايم الله" إلى آخره
(4)
.
(1)
"الفتح" 9/ 622 - 623، كتاب "المغازي" رقم (4469).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 22.
(3)
"المفهم" 6/ 308.
(4)
"عمدة القاري" 24/ 261.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فقد كنتم تطعنون
…
إلخ" هذا الجزاء إنما يترتّب على الشرط بتأويل التنبيه، والترشيح؛ أي: طَعْنكم الآن سبب لِأَنْ أخبركم أن ذلك من عادة الجاهليّة، وهِجِّيراهم، ومن ذلك طَعْنكم في أبيه من قبلُ، ونحوه قول تعالى:{إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} الآية [يوسف: 77]. انتهى
(1)
.
(مِنْ قَبْلُ)؛ أي: من قبل إمرة أسامة، وأشار به إلى إمارة زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة، وعند النسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما بَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في جيش قطّ، إلا أمّره عليهم. وفيه جواز إمارة المولى، وتولية الصغار على الكبار، والمفضول على الفاضل؛ لأنه كان في الجيش الذي كان عليهم أُسامة: أبو بكر وعمر رضي الله عنهم
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إن تطعنوا في إمرته، فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه"؛ أي: إن طعنتم فيه، فأُخبركم بأنكم طعنتم من قبلُ في أبيه، والتقدير: إن تطعنوا في إمرته فقد أثمتم بذلك؛ لأن طعنكم بذلك ليس حقًّا، كما كنتم تطعنون في إمرة أبيه، وظهرت كفايته، وصلاحيته للإمارة، وإنه كان مستحقًّا لها، فلم يكن لطعنكم مستنَد، فلذلك لا اعتبار بطعنكم في إمرة ولده، ولا التفات إليه، وقد قيل: إنما طعنوا فيه؛ لكونه مولى، وقيل: إنما كان الطاعن فيه من يُنسب إلى النفاق، وفيه نظر؛ لأن من جملة من سُمِّيَ ممن طَعَن فيه: عياش -بتحتانية، وشين معجمة- ابن أبي ربيعة المخزوميّ، وكان من مُسلِمة الفتح، لكنه كان من فضلاء الصحابة، فعلى هذا فالخطاب بقوله:"إن تطعنوا" لعموم الطاعنين، سواء اتحد الطاعن فيهما، أم اختَلَف.
وقوله: "إن كان لخليقًا"؛ أي: مستحقًّا، وقوله:"للإمرة" بكسر الهمزة، وفي رواية الكشميهنيّ:"للإمارة"، وهما بمعنى. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن تطعنوا في إمرته
…
إلخ" هذا خطاب منه صلى الله عليه وسلم لمن وقع له ذلك الطعن، لكنه على كريم خُلُقه لم يعيِّنهم سَتْرًا لهم؛ إذ
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3907.
(2)
"الفتح" 8/ 445.
(3)
"الفتح" 17/ 16 - 17، كتاب "الأحكام" رقم (7187).
مَعْتبتُه كانت كذلك، كما تقدَّم، وكان الطعن في إمارة زيد من حيث إنه كان مولًى، فشهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لأسامة وأبيه رضي الله عنهما بأنَّهما صالحان للإمارة، لِمَا يَعْلم من أهليتهما لها، وأن كونهما مَوْلَيين لا يغضُّ من مناصبهما، ولا يقدح في أهليتهما للإمارة.
ولا خلاف أعلم في جواز إمارة المولى والمفضول، وقد تقدَّم القول في استخلاف المفضول.
و"الإمرة" رويناها بالكسر بمعنى: الولاية، وقال أبو عبيد: يُقال: لك عليّ أمرةٌ مطاعة -بفتح الهمزة-، وكذلك حكاه القتبي، وهي واحدة الأمر.
قلت
(1)
: وهذا على قياس: جَلسة، وجِلسة -بالفتح للمصدر، والكسر للهيئة -.
والخليق، والحريُّ، والقَمِنُ، والحقيقُ: كلُّها بمعنى واحد. انتهى
(2)
.
(وَايْمُ اللهِ)؛ يعني: يمين الله، بمعنى: يمين الحالف بالله؛ وروي عن ابن عمر، وابن عباس أنهما كانا يحلفان بأيم الله، وأبى الحلف بها الحسن البصريّ، وإبراهيم النخعيّ، ويردّ عليهما هذا الحديث، وغيره، قال العينيّ: وهو يمين عند أصحابنا، قاله الطحاويّ، وبه قال مالك، وقال الشافعيّ: إن لم يُرد بها يمينًا فليست بيمين، وروي عن ابن عباس أنه اسم من أسماء الله تعالى، فإن صح ذلك فهو الحلف بالله
(3)
.
وقال العينيّ رحمه الله أيضًا: ولفظ "ايم الله" من ألفاظ القَسَم؛ كقولك: والله، وفيها لغات كثيرة، وتُفتح همزتها، وتُكسر، وهمزتها همزة وَصْل، وقد تُقْطَع، وأهل الكوفة من النحاة يزعمون أنها جَمْع يمين، وغيرهم يقول: هو اسم موضوع للقَسَم. انتهى
(4)
.
(إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا)؛ أي: جديرًا، وأهلًا (لِلإمْرَةِ)"إن" بكسر الهمزة مخفّفة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين "إن" المخفّفة، و"إن" النافية، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
(1)
القائل القرطبيّ.
(2)
"المفهم" 6/ 308.
(3)
"عمدة القاري" 23/ 167.
(4)
"عمدة القاري" 24/ 261.
والمعنى: أن زيدًا رضي الله عنه كان خليقًا بالإمرة؛ يعني: أنهم طعنوا في إمارة زيد، وظهر لهم في الآخر أنه كان جديرًا لائقًا بها، فكذلك حال أسامة رضي الله عنه.
(وَإِنْ كَانَ)؛ أي: زيدٌ (لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّ هَذَا)؛ أي: أسامةَ، (لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ")؛ أي: بعد أبيه زيد رضي الله عنه.
وقال في "العمدة": قوله: "إن كان" لفظه: "إن" مخففة من المثقلة، أصله: إنه كان؛ أي: إن زيدًا كان لخليقًا؛ أي: لائقًا للإمرة، ومستحقًّا لها، وفي رواية الكشميهنيّ:"للإمارة".
وقوله: "وإن كان"؛ أي: وإنه كان لَمِن أحب الناس إليّ بتشديد الياء.
وقوله: "وإن هذا"؛ أي: وإن أسامة لمن أحب الناس إليّ بعده؛ أي: بعد أبيه.
[فإن قلت]: قد طُعِن على أسامة وأبيه ما ليس فيهما، ولم يعزل النبيّ صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما، بل بيّن فَضْلهما، ولم يَعْتَبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهذا القول في سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، وعَزَله حين قذفه أهل الكوفة بما هو بريء منه.
[قلت]: عمر رضي الله عنه لم يعلم من مُغَيّب أمْر سعد ما عَلِمه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمر زيد وأسامة، وإنما قال عمر لسعد حين ذكر أن صلاته تُشبه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الظنّ بك، ولم يقطع على ذلك، كما قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر زيد إنه خليق للإمارة.
وقيل: الطاعنون فيهما من استصغار سنّهما على من قُدِّما عليه من مشيخة الصحابة، وقيل: هم المنافقون الذي كانوا يطعنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقبّحون آراءه. انتهى من "العمدة" ببعض تصرّف
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإن كان لمن أحبِّ الناس إليَّ": "إن" عند البصريين مخففة من الثقيلة، واللام الداخلة بعدها هي المفرّقة بين "إن" المخففة، وبين "إن" الشرطية، وعند الكوفيين:"إن" نافية، واللام بمعنى "إلا"، وهذا نحو قوله [من الكامل]:
شَلَّت يَمِينُك إِنْ قَتَلْتَ لَمُسْلِمًا
…
حَلَّت عَلَيك عقوبةُ الْمُتَعَمِّدِ
(1)
"عمدة القاري" 24/ 261.
تقديرها عند البصريين: إنك قتلت مسلمًا، وعند الكوفيين: ما قتلت إلا مسلمًا.
وهذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر عن محبته لزيد رضي الله عنه، ثم أخبر عن محبته لأسامة، فقال:"وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده"، فكان أسامة الحبَّ ابنَ الحبِّ، وبذلك كان يُدعى، ورضي الله عن عمر بن الخطاب لقد قام بالحقّ، وعرفَه لأهله، وذلك: أنه فرض لأسامةَ في العطاء خمسة آلاف، ولابنه عبد الله ألفين، فقال له عبد الله: فَضَّلت عليّ أسامة، وقد شَهِدْتُ ما لم يَشْهد؟! فقال رضي الله عنه: إن أسامة كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، ففضَّل محبوب رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبوبه، وهكذا يجب أن يحب ما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبغض ما أبغض، وقد قابل مروان هذا الحبّ الواجب بنقيضه، وذلك أنه مرَّ بأسامة بن زيد وهو يصلي عند باب بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: إنَّما أردتَّ أن يُرى مكانُك، فقد رأينا مكانك، فعل الله بك، وفعل -قولًا قبيحًا - فقال له أسامة: إنَّك آذيتني، وإنَّك فاحش متفحش، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الله يبغض الفاحش المتفحش"
(1)
، فانظر ما بين الفعلين، وقِسْ ما بين الرَّجلين، فلقد آذى بنوأمية رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحبابه، وناقضوه في مَحابِّه.
[تنبيه]: رَوَى موسى بن عقبة عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أحبُّ الناس إليَّ أسامة"، فما حاشا فاطمة ولا غيرها، وهذا يعارضه ما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم: إن أحبَّ الناس إليه عائشة، ومن الرِّجال أبوها؛ ويرتفع التعارض من وجهين:
أحدهما: أن الأحاديث الصحيحة المشهورة إنما جاءت في حبِّه لأسامة بـ "من" التي للتبعيض، كما قد نصَّ عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنه لمن أحب الناس إلي"، وقد رواه هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أسامة بن زيد أحب الناس إليَّ"، أو "من أحب الناس إليّ"، فعلى هذا يَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن من أحب الناس إليّ أسامة"، فأسقطها بعض الرواة.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 5/ 202، وابن حبّان في "صحيحه" رقم (5694).
والوجه الثاني: على تسليم أن صحيح الرواية بغير "من"، فيرتفع التعارض بأن كل واحد من هؤلاء أحب بالنسبة إلى عالَمِه.
وبيان ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحب هؤلاء من حيث الصور الظاهرة، فإنَّ أسامة كان أسود أفطس؛ وإنَّما كان يحبهم من حيث المعاني، والخصائص التي كانوا موصوفين بها.
فكان أبو بكر رضي الله عنه أحب إليه من حيث إنه كان له من أهلية النيابة عنه، والخلافة في أمته ما لم يكن لغيره.
وكانت عائشة رضي الله عنها أحب النساء إليه من حيث إن لها من العلم والفضيلة ما استَحَقّت به أن تَفْضُل على سائر النساء، كما فَضَل الثريد على سائر الطعام.
وكان أسامة رضي الله عنه أيضًا أحب إليه من حيث إنه كان قد خُص بفضائل ومناقب استَحَقّ بها أن يكون أحب الموالي إليه، فإنَّه أفضلهم وأجلّهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"فأوصيكم به خيرًا، فإنَّه من صالحيكم"، فأكد الوصية به، ونبَّه على الموجب لذلك، وهو ما يعلمه من صلاحه وفضله، وقد ظهر ذلك عليه، فإنَّه لم يدخل في شيء من الفتن، فسلَّمه الله تعالى من تلك المحن، إلى أن توفي في خلافة معاوية سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين رضي الله عنه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6244 و 6245](2426)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3730) و"المغازي"(4250 و 4468 و 4469) و"الأحكام"(7187)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3816)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 52 و 53) وفي "فضائل الصحابة"(1/ 24)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 20 و 89 و 106 - 107) وفي "فضائل الصحابة"(2/ 834)، و (ابن سعد) في
(1)
"المفهم" 6/ 309 - 311.
"الطبقات"(4/ 65 - 66)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7044 و 7059)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 128 و 8/ 154 و 10/ 44)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(8/ 60 و 61 و 16/ 363)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة ظاهرة للصحابيين الجليلين: زيد بن حارثة، وابنه أسامة رضي الله عنهما، حيث إنهما من أحب الناس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنهما جديران بالإمارة، وقال في الرواية التالية:"فأوصيكم به، فإنه من صالحيكم"، وهذا شرف عظيم، وفخر مستديم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
2 -
(ومنها): جواز إمارة العتيق، وجواز تقديمه على العرب.
3 -
(ومنها): جواز تولية الصغير على الكبار، فقد كان أسامة صغيرًا جدًّا، تُوُفّي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، وقيل: عشرين.
4 -
(ومنها): جواز تولية المفضول على الفاضل؛ للمصلحة.
5 -
(ومنها): بيان تحريم الطعن في النسب والحسب، وأن ذلك من أعمال الجاهليّة، ولا سيّما الطعن فيمن ولاه الله تعالى أمور المسلمين، قال التوربشتيّ رحمه الله: إنما طعن من طعن في إمارة زيد، وأسامة رضي الله عنهما؛ لأنهما كانا من الموالي، وكانت العرب لا ترى تولية الموالي، وتستنكف من اتّباعهم كلَّ الاستنكاف، فلما جاء الله سبحانه وتعالى بالإسلام، ورَفع قَدْر من لم يكن له عندهم قدرٌ بالسابقة، والهجرة، والعلم، والتُّقى عَرَف حقّهم المحفوظون من أهل الدين، وأما المرتهَنون بالعادة، والممتحَنون بحبّ الرئاسة من الأعراب، ورؤساء القبائل، فلم يزل يختلج في صدورهم شيء من ذلك، لا سيّما أهل النفاق، فإنهم كانوا يسارعون إلى الطعن، وشدّة التكبّر عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث زيد بن حارثة رضي الله عنه أميرًا على عدّة سرايا، وأعظمها جيش مؤتة، وسار تحت رايته في تلك الغزوة نجباء الصحابة رضي الله عنهم، منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان خليقًا بذلك؛ لسوابقه، وفَضْله، وقُربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بَعْثُ أسامة رضي الله عنه وقد أمّره في مرضه على جيش، فيهم جماعة من مشيخة الصحابة، وفضلائهم رضي الله عنهم، وكأنه رأى في ذلك سوى ما توسّم فيه من
النجابة أن يمهّد الأمر، ويعطيه لمن يلي الأمر بعده؛ لئلا ينزع أحد من طاعته، وليعلم كلٌّ منهم أن العادات الجاهليّة قد عَمِيت مسالكها، وخفيت معالمها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في مسألة مهمة من مسائل علم النحو، تتعلّق بحديث الباب:
(اعلم): أنه وقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "وإن كان من أحبّ الناس إليّ" بإسقاط اللام الفارقة، وكذا وقع في رواية ابن حبّان بلفظ:"إن كان خليقًا للإمارة" بإسقاطها، وقد تكلّم العلامة النحويّ ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح" بتحقيق هذه المسألة، وذلك بعد أن ذكر هذا الحديث، وحديث: عبد الله بن بُسر: "إن كنّا فرغنا في هذه الساعة"، وحديث: معاوية رضي الله عنه: "إن كان مِن أصدق هؤلاء المحدّثين"؛ يعني: كعب الأحبار، وقول نافع:"فكان ابن عمر رضي الله عنهما يُعطي - يعني: صدقة الفطر - عن الكبير والصغير حتى إن كان يعطي عن بَنِيَّ".
قال ابن مالك: تضمّنت هذه الأحاديث استعمال "إن" المخفّفة المتروكة العمل عاريًا ما بعدها من اللام الفارقة؛ لعدم الحاجة إليها، وذلك لأنه إذا خُفّفت "إنّ" صار لفظها كلفظ "إنْ" النافية، فيُخاف التباس الإثبات بالنفي عند تَرْك العمل، فألزموا تالي ما بعد المخفّفة اللام المؤكّدة مميّزة لها، ولا يُحتاج إلى ذلك إلا في موضع صالح للنفي والإثبات، نحو: إن علمتك فاضلًا، فاللام هنا لازمة؛ إذ لو حُذفت مع كون العمل متروكًا، وصلاحية الموضع للنفي لم يتيقّن الإثبات.
فلو لم يصلح الموضع للنفي جاز ثبوت اللام وحَذْفها.
فمن الحذف: "إن كنا فرغنا هذه الساعة"، و"إن كان من أحبّ الناس إليّ"، و"إن كان من أصدق هؤلاء"، و"إن كان يُعطي عن بَنِيَّ"، ومنه قول عائشة رضي الله عنها:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ التيمّن"، وقول عامر بن ربيعة:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثنا، وما لنا طعام إلا السلف من التمر"، قال: حديث عائشة رضي الله عنها من "جامع المسانيد"، وحديث عامر رضي الله عنه من غريب الحديث.
(1)
"الكاشف عن حقائق السُّنن" 12/ 3907 - 3908.
ومنه قراءة أبي رجاء: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35]؛ أي: وإن كلُّ ذلك للذي هو متاع الحياة الدنيا، فحُذف من الصلة المبتدأ، وأبقي الخبر، ومنه قول الطِّرِمّاح بن حكيم [من الطويل]:
أَنَا ابْنُ أُبَاةِ الضَّيْمِ مِنْ آلِ مَالِكٍ
…
وَإِنْ مَالِكٌ كَانتْ كِرَامَ الْمَعَادِنِ
ومثله قول الآخر [من البسيط]:
إِنْ كُنْتُ قَاضِيَ نَحْبِي يَوْمَ بَيْنِكُمُ
…
لَوْ لَمْ تَمُنُّوا بِوَعْلٍ غَيْرَ تَوْدِيعِ
ومثله [من الطويل]:
أَخِي إِنْ عَلِمْتُ الْجُودَ لِلْحَمْدِ مُنْمِيًا
…
وَلِلْوُدِّ مُثْبِتًا وَللْمَالِ مُفْنِيَا
ومثله [من الخفيف]:
إِنْ وَجَدْتَ الْكَرِيمَ يَمْنَعُ أَحْيَا
…
نًا وَمَا إِنْ بِذَا يُعَدُّ بَخِيلَا
وقد أغفل النحويّون التنبيه على جواز حذف اللام عند الاستغناء عنها بكون الموضع غير صالح للنفي، وجعلوها عند ترك العمل لازمةً على الإطلاق؛ ليَجرِيَ البابُ على سَنَنٍ واحد، وحامِلهم على ذلك عدم الاطّلاع على شواهد السماع، فبيّنتُ إغفالهم، وأثبتُّ الاحتجاج عليهم، لا لهم، وأَزِيدُ على ذلك: أن اللام الفارقة إذا كان بعدما وَليَ "إن" نفي، واللَّبس مأمون، فحذفها واجبٌ؛ كقول الشاعر [من الطويل]:
إِنِ الْحَقُّ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ
…
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَعْدَمْ خِلَافَ مُعَانِدِ
ومثله [من الطويل]:
أَمَا إِنْ عَلِمْتُ اللَّهَ لَيْسَ بِغَافِلٍ
…
لَهَانَ اصْطِبَارِي إِنْ بُلِيتُ بِظَالِمِ
وقد أشار ابن مالك إلى مجمل ما تقدّم في "الخلاصة" حيث قال:
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَرُبَّمَا اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مَعْتَمِدَا
انتهى كلام ابن مالك رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
"شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 50 - 53.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6245]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ -يَعْنِي: ابْنَ حَمْزَةَ - عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: "إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتهِ -يُرِيدُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ- فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِه، وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لَهَا، وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لأَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَايْمُ اللهِ إِن هَذَا لَهَا لَخَلِيقٌ -يُرِيدُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ- وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ لأَحَبَّهُمْ إِلَيَّ مِنْ بَعْدِه، فَأُوصِيكُمْ بِه، فَإِنَّهُ مِنْ صَالِحِيكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العُمَريّ المدنيّ، ضعيف [6](خت م د ت ق) تقدم في "النكاح" 22/ 3542.
[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لعمر بن حمزة، وهو ضعيف؟.
[قلت]: إنما أخرج له في المتابعة، لا في الأصول، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، وقد بيّن مسلم رحمه الله هذا في مقدّمة كتابه هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقيان ذُكرا قبله، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفى
في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(11) - (بَابُ فَضَائِلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ رضي الله عنهما
-)
هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ، أبو محمد، وأبو جعفر، وهي أشهر، وحكى المرزبانيّ أنه كان يكنى أبا هاشم، أمه أسماء بنت عُميس الخثعمية، أخت ميمونة بنت الحارث لأمها،
وُلد بأرض الحبشة لمّا هاجر أبواه إليها، وهو أول مَن ولد بها من المسلمين، وحَفِظ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عنه، وعن أبويه، وعمه علي وأبي بكر، وعثمان، وعمار بن ياسر، وروى عنه بنوه: إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية، وأبو جعفر الباقر، والقاسم بن محمد، وعروة، والشعبيّ، وآخرون.
قال محمد بن عائذ: حدّثنا محمد بن شعيب، حدّثنا عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس: خرج جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة، ومعه امرأته أسماء بنت عميس، فوَلدت له بأرض الحبشة عبدَ الله ومحمدًا.
وقال ابن جريج: أنبأنا جعفر بن خالد بن سارة، أن أباه أخبره، عن عبد الله بن جعفر قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسي، وقال:"اللهم اخلُف جعفرًا في ولده"، وقال: كنا نلعب فمرّ بنا على دابة، فحملني أمامه. أخرجه أحمد، وغيره بسند قويّ.
ومن طريق محمد بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا استعمل عليهم زيد بن حارثة، فذكر الحديث بطوله في قصة مؤتة، وقتل جعفر، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأما عبد الله فيُشْبه خَلْقي، وخُلُقي"، ثم أخذ بيدي، فقال:"اللهم اخلُف جعفرًا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه"، قالها ثلاث مرات، وفيه:"وأنا وليّهم في الدنيا والآخرة".
وقال البغويّ: حدّثنا القواريريّ، حدّثنا عبد الله بن داود، عن فطر بن خليفة، عن أبيه، عن عمرو بن حريث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بعبد الله بن جعفر، وهو يبيع مع الصبيان، فقال:"اللهم بارك له في بيعه، أو صفقته".
وروى مسلم من طريق الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر قال أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ذات يوم، فأسرّ إليّ حديثًا لا أحدّث به أحدًا من الناس. الحديث.
قال الزبير بن بكار عن عمه: وَلَدت أسماء لجعفر بالحبشة: عبد الله ومحمدًا وعونًا، وقال ابن حبان: كان يقال له: قطب السخاء، وكان له عند موت النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقال يعقوب بن سفيان: كان أحد أمراء عليّ يوم صفين. انتهى.
وقد تزوج أمه أبو بكر الصديق، فكان محمد أخاه لأمه، ثم تزوجها عليّ، فولدت له يحيى، وأخباره في الكرم كثيرة شهيرة، مات سنة ثمانين عام الجحاف، وهو سيل كان ببطن مكة جَحَف الحاج، وذهب بالإبل، وعليها الحمولة، وصلى عليه أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة حينئذ لعبد الملك بن مروان، هذا هو المشهور. انتهى ملخّصًا من "الإصابة"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: عبد الله بن جعفر يكنى: أبا جعفر، وأمه: أسماء بنت عميس، وَلَدته بأرض الحبشة، وهو أول مولود من المسلمين وُلد بها، وتُوُفّي بالمدينة سنة ثمانين، وهو ابن تسعين سنة، وكان عبد الله كريمًا جوادًا، طريفًا، حليمًا، عفيفًا، سخيًّا، يُسمَّى: بحر الجود، يقال: إنه لم يكن في الإسلام أسخى منه، وعوتب في ذلك، فقال: إن الله عوَّدني عادة، وعوَّدت الناسَ عادة، وأنا أخاف إن قطعتها قُطِعَتْ عني، وأخباره في الجود شهيرة، وفضائله كثيرة.
وجملة ما رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثًا، أخرج له منها في "الصحيحين" حديثان. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6246]
(2427) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حَبِيبِ ابْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ لِابْنِ الزُّبَيْرِ: أَتَذْكُرُ إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَأَنْتَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ؟، قَالَ: نَعَمْ، فَحَمَلَنَا، وَتَرَكَكَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: ابن إبراهيم بن مِقسم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 35 - 39.
(2)
"المفهم" 6/ 311.
3 -
(حَبِيبُ بْنُ الشَّهِيدِ) الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 145) وهو ابن ست وستين سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 11/ 887.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عُبيد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة: زُهير التيميّ المدنيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي طالب الهاشمي رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمته أول الباب، كما تقدم في "الحيض" 19/ 780.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) أنه قال: (قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ لابْنِ الزُّبَيْرِ: أتذْكُرُ) هكذا رواية مسلم جَعَل المستفهِم عبد الله بن جعفر، والمجيب ابن الزبير، وفي رواية البخاريّ:"قال ابن الزبير لابن جعفر"، فجعل المستفهم عبد الله بن الزبير والمجيب ابن جعفر، وسيأتي أن ما في البخاريّ هو الصحيح، فتنبّه. (إِذْ تَلَقَّيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: استقبلناه عند قدومه من سفره، وقوله:(أَنَا وَأَنْتَ) تأكيد للضمير الفاعل أتي به ليمكنه عطف قوله: (وَابْنُ عَبَّاسٍ؟) رضي الله عنهما (قَالَ) ابن الزبير (نَعَمْ) أذكر ذلك، وقوله:(فَحَمَلَنَا، وَتَرَكَكَ) من كلام عبد الله بن جعفر، لا من كلام ابن الزبير، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فحملنا، وتركك": معناه: قال ابن جعفر: فحملنا، وتركك، وتوضحه الروايات بعده، وقد توهّم القاضي عياض أن القائل:"فحملنا" هو ابن الزبير، وجعله خَلْطًا في رواية مسلم، وليس كما قال، بل صوابه ما ذكرناه، وأن القائل:"فحملنا وتركك" ابنُ جعفر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: نصّ عبارة عياض في "المشارق": وفي فضائل ابن الزبير: قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير: "أتذكر إذ تلقينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت وابن عباس، فحمَلَنا، وتركك؟ " كذا رواه مسلم، والضمير في
(1)
"شرح النوويّ" 15/ 196 - 197.
"حملنا" هنا عائد على عبد الله بن جعفر، والمتروك ابن الزبير، وربما أوهم ظاهره خلاف ذلك، بدليل الحديث الآخر بعده، وفي مسلم: عن عبد الله بن جعفر أنه صلى الله عليه وسلم قَدِم من سفر، فسُبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه، وكذا وقع في مُصَنَّف ابن أبي شيبة، وكتاب ابن أبي خيثمة أن القائل أوّلًا عبد الله بن جعفر، وحَمَله عليه أوّلًا، وهو الأشبه بأن يكون ابن جعفر المحمول؛ لِقُرباه، وذكر البخاريّ الحديث، والنسائيّ، وقال في أوله: إن ابن الزبير قال لابن جعفر، ويأتي الجواب عليه بقوله:"قال: نعم، فحملنا" أبين لما ذكر من كتاب المحمول والمتروك، والأول يحتاج إلى إضمار "قال"، وعَوْد الكلام إلى ابن جعفر، وتقديم "نعم" قبل ذِكر تمام كلام ابن جعفر بقوله:"فحملنا، وتركك". انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام القاضي هذا يقتضي تصحيح رواية مسلم بتأويل التقديم والتأخير، والأصل:"أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت، وابن عبّاس، فحملنا، وتركك؟، قال: نعم"، وهذا التأويل صحيح، إلا أنه يعارض كون المستفهم عند مسلم هو ابن جعفر كونه عند البخاريّ ابن الزبير، والذي يظهر لي أن ما في البخاريّ هو الصحيح، كما يأتي في كلام الحافظ؛ لأن ما في مسلم من رواية ابن عليّة، وقد خالفه فيه عند البخاريّ: يزيد بن زريع، وحميد بن الأسود كلاهما عن حبيب بن الشهيد، فجعلا المستفهم هو ابن الزبير، وعليه يلتئم جواب ابن جعفر له بـ "نعم، فحملنا وتركك" دون أيّ إشكال، ودون دعوى التقديم والتأخير، فتنبّه.
ودونك نصّ البخاريّ رحمه الله:
(2916)
- حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود، حدّثنا يزيد بن زريع، وحميد بن الأسود، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن أبي مليكة، قال ابن الزبير لابن جعفر رضي الله عنهم:"أتذكر إذ تلقينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنا وأنت، وابن عباس، قال: نعم، فحملنا، وتركك". انتهى
(2)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 374.
(2)
"صحيح البخاري" 3/ 1121.
قال في "الفتح": قوله: "قال: نعم، فحملنا وتركك" ظاهره أن القائل: "فحملنا" هو عبد الله بن جعفر، وأن المتروك هو ابن الزبير، وأخرجه مسلم من طريق أبي أسامة، وابن عُلَيّة كلاهما عن حبيب بن الشهيد بهذا الإسناد مقلوبًا، ولفظه:"قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير" جعل المستفهم عبد الله بن جعفر، والقائل:"فحملنا" عبد الله بن الزبير، والذي في البخاريّ أصحّ.
قال: ويؤيده ما تقدم في "الحج" عن ابن عباس قال: لَمّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة استقبلته أغيلمة من بني عبد المطلب، فحمل واحدًا بين يديه، وآخر خلفه، فإن ابن جعفر من بني عبد المطلب، بخلاف ابن الزبير، وإن كان عبد المطلب جدّ أبيه، لكنه جدّه لأمه.
وأخرج أحمد، والنسائيّ من طريق خالد بن سارة، عن عبد الله بن جعفر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حمله خلفه، وحمل قُثم بن عباس بين يديه.
وقد حكى ابن التين عن الداوديّ أنه قال: في هذا الحديث من الفوائد: حِفْظ اليتيم، يشير إلى أن جعفر بن أبي طالب كان مات، فعطف النبيّ صلى الله عليه وسلم على ولده عبد الله، فحمله بين يديه، وهو كما قال.
وأغرب ابن التين، فقال: إن في الحديث النصَّ بأنه صلى الله عليه وسلم حَمَل ابن عباس وابن الزبير، ولم يَحْمِل ابن جعفر، قال: ولعل الداودي ظنّ أن قوله: "فحملنا، وتركك" من كلام ابن جعفر، وليس كذلك.
قال الحافظ: كذا قال، والذي قاله الداوديّ هو الظاهر من سياق البخاريّ، فما أدري كيف قال ابن التين: إنه نصّ في خلافه؟
وقد نبّه عياض على أن الذي وقع في البخاريّ هو الصواب، قال: وتأويل رواية مسلم أن يُجعل الضمير في "حملنا" لابن جعفر، فيكون المتروك ابن الزبير، قال: ووقع على الصواب أيضًا عند ابن أبي شيبة
(1)
، وابن أبي خيثمة، وغيرهما.
(1)
قال الجامع: الذي وقع في "مصنّف ابن أبي شيبة" 5/ 308، وكذا في "مسند أحمد" 1/ 203، و"مسند أبي يعلى" 12/ 181 هو الذي وقع في "صحيح مسلم"، لا كما يوهمه كلام صاحب "الفتح"، وهو الذي نصّ عليه عياض في كلامه السابق، فتنبّه لِمَا في عبارة "الفتح" من الخبط، والخلط، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ: وقد رَوَى أحمد الحديث عن ابن علية، فبيَّن سبب الوهم، ولفظه مثل مسلم، لكن زاد بعد قوله:"قال: نعم، قال: فحملنا"، قال أحمد: وحدثنا به مرة أخرى، فقال فيه:"قال: نعم، فحملنا"؛ يعني: وأسقط "قال" التي بعد "نعم". قال الحافظ: وبإثباتها تُوافِق رواية البخاريّ، وبحذفها تخالفها.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن ما في "صحيح البخاريّ" هو الصواب؛ لاتفاق يزيد بن زريع، وحميد بن الأسود عليه، ووافقهما شعبة عند ابن الجعد، بخلاف رواية مسلم، وإن اتّفق ابن عليّة، وأبو أسامة، كما قال مسلم، إلا أن رواية ابن عليّة وقع فيها الشكّ، فقد أخرج الحديث أبو يعلى في "مسنده" من طريقه بالشكّ، فقال:
(6808)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: قال عبد الله بن جعفر لابن الزبير، أو ابن الزبير لابن جعفر: أتذكر يوم تلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، وأنت، وابن العباس، فحملنا، وتركك؟ انتهى
(1)
.
فقد شكّ ابن عليّة، فدلّ على أنه لم يضبطه، وأن الذي ضبطه هو يزيد بن زريع، وحميد بن الأسود، ولذلك أخرجه البخاريّ من روايتهما، وترك رواية ابن عليّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6246 و 6247](2427)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3082)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 478)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 203)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 308)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 181)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(27/ 270)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة ظاهرة لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما.
(1)
"مسند أبي يعلى" 12/ 181.
2 -
(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورحمته لأمته، ولا سيما الأطفال.
3 -
(ومنها): بيان جواز الفخر بما يقع من إكرام النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث افتخر عبد الله بن جعفر على تِرْبه عبد الله بن الزبير بكون صلى الله عليه وسلم حمله على دابته.
4 -
(ومنها): بيان ثبوت الصحبة له ولابن الزبير رضي الله عنهم، وهما متقاربان في السنّ، وقد حفظا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث.
5 -
(ومنها): جواز ركوب الثلاثة على دابّة إذا كانت مطيقة.
6 -
(ومنها): بيان استحباب استقبال القادم من السفر قبل أن يدخل مدينته، حيث كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُستقبل قبل أن يدخل من ثنيّة الوداع، ونحوه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6247]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِسْنَادِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة، ذُكر قبل حديث.
و"حبيب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن حبيب بن الشهيد هذه لم أجد من ساقها، فلْيُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6248]
(2428) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْليِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ، قَالَ: وَإِنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ، فَحَمَلَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ، فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ، قَالَ: فَأُدْخِلْنَا الْمَدِينَةَ ثَلاثةً عَلَى دَابَّةٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو مُعَاوَيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) ابن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ [4] لم يتكلم فيه إلا القطان، فكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
3 -
(مُوَرِّقٌ الْعِجْلِيُّ) -بتشديد الراء- ابن مُشَمْرِج -بضم أوله، وفتح المعجمة، وسكون الميم، وكسر الراء، بعدها جيم- أو ابنُ عبد الله، أبو المعتمر البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، من كبار [3] مات بعد المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرِ) بن أبي طالب رضي الله عنهما أنه (قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ) بكسر الدال، (مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ) بالبناء للمفعول، (بِصِبْيَانِ أَهْلِ بَيْتِهِ) بكسر الصاد، وضمّها
(1)
: جمع صبيّ، وهو الصغير. (قَالَ) عبد الله بن جعفر.
قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كانوا يتلقّونه بصبيان بيته؛ لِمَا يعلمونه من محبته لهم، ومِن تعلّق قلبه بهم، ولفرط فرح الصغار برؤيته، ولتنالهم بوادر بركته. انتهى
(2)
.
(وَإِنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ) لم يُسمَّ هذا السفر، (فَسُبِقَ بِي إِلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: جاءوا بي أوّلًا (فَحَمَلَنِي)؛ أي: أركبني على دابته (بَيْنَ يَدَيْهِ)؛ أي: أمامه صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن عبد الله بن جعفر من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرًا، ويدل على محبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله، وعلى شدة تهمُّمه به، وإكرامه له، وكان صلى الله عليه وسلم يخصُّ
(1)
راجع: "القاموس" ص 727.
(2)
"المفهم" 6/ 312.
أولاد جعفر بزيادة احترام، وإكرام جَبْرًا لهم، وشفقة عليهم؛ إذ كان أبوهم جعفر قُتل بمؤتة شهيدًا رضي الله عنه، وقد تقدَّم القول على ركوب ثلاثة على دابة. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ جِيءَ بِأَحَدِ ابْنَيْ فَاطِمَةَ) في الرواية التالية: "فَتُلُقِّيَ بِي، وَبِالْحَسَنِ، أَوْ بِالْحُسَيْنِ"، (فَأَرْدَفَهُ خَلْفَهُ)؛ أي: جعله صلى الله عليه وسلم راكبًا وراءه. (قَالَ) عبد الله (فَأُدْخِلْنَا) بالبناء للمفعول، (الْمَدِينَةَ ثَلَاثَةً) بالنصب على الحاليّة، وقوله:(عَلَى دَابَّةٍ) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كوننا راكبين على دابة واحدة، قال النوويّ رحمه الله: هذه سنّة مستحبّة أن يتلقّى الصبيانُ المسافر، وأن يُركبهم، ويردفهم، ويلاطفهم
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6248 و 6249](2428)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2566)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4246)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3773)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 203)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 370)، و (تمام) في "فوائد"(1/ 271)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 260)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(27/ 258)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6249]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، حَدَّثَنِي مُوَرِّقٌ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ تُلُقِّيَ بِنَا، قَالَ: فَتُلُقِّيَ بِي، وَبِالْحَسَنِ، أَوْ بِالْحُسَيْنِ، قَالَ: فَحَمَلَ أَحَدَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالآخَرَ خَلْفَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ).
(1)
"المفهم" 6/ 312.
(2)
"شرح النوويّ" 15/ 197.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكنانيّ، أو الطائيّ، أبو علي الأشلّ المروزيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، له تصانيف، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الحيض" 26/ 817.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَحَمَلَ أَحَدَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ. . . إلخ) تبيّن بالرواية السابقة أن المحمول بين يديه صلى الله عليه وسلم هو ابن جعفر رضي الله عنه، وإنما جعله أمامه؛ لِسَبْقه، والمحمول خلفه، هو الحسن، أو الحسين.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وتخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6250]
(2429) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا، لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبي شيبة الْحَبِطِيّ -بمهملة، وموحّدة مفتوحتين- الأُبُلّيّ -بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام- أبو محمد، صدوق يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزدي الْمِعْوليّ -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو- أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ) التميميّ البصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الحيض" 19/ 780.
4 -
(الْحَسَنُ بْنُ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ) الهاشميّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ [4](بخ م د س ق) تقدم في "الحيض" 19/ 780.
والصحابيّ رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ) رضي الله عنهما أنه (قَالَ: أَرْدَفَنِي)؛ أي: أركبني (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام، وقوله:(خَلْفَهُ) ظرف لـ "أردفني"؛ لأن الإرداف: هو الإركان خلفه، فيكون ذِكره معه تأكيدًا، (فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا)؛ أي: حدّثني حديثًا خاصًّا بي، لم يُسمعه غيري، وقوله:(لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "حديثًا".
قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ على عُلُوّ مكانة عبد الله بن جعفر رضي الله عنه عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكمال فضله، وأهليته لأنْ يتخذه النبيّ صلى الله عليه وسلم موضع سرِّه، وهذه أهلية شريفة، وفضيلة منيفة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم له في "كتاب الحيض" بأتمّ مما هنا، ولفظه:
[780]
(342) - (حدّثنا شيبان بن فروخ، وعبد الله بن محمد بن أسماء الضُّبعيّ، قالا: حدّثنا مهديّ -وهو ابن ميمون- حدّثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن عليّ، عن عبد الله بن جعفر، قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه، فأسرّ إليّ حديثًا، لا أحدّث به أحدًا من الناس، وكان أحبّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ، أو حائش نخل، قال ابن أسماء في حديثه: يعني: حائط نخل). انتهى.
وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"المفهم" 6/ 312.
وقد أخرج الحديث الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده" مطوّلًا، فقال:
(1754)
- حدّثنا وهب بن جرير، حدّثنا أبي، قال: سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدّث عن الحسن بن سعد، عن عبد الله بن جعفر، قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته، وأردفني خلفه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبرَّز كان أحب ما تبرَّز فيه هَدَفٌ يستتر به، أو حائش نخل، فدخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه ناضح له، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم حَنّ، وذَرَفَت عيناه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه، وسَرَاتَهُ، فسكن، فقال:"من رَبُّ هذا الجمل؟ " فجاء شابّ من الأنصار، فقال: أنا، فقال:"ألا تتقي اللهَ في هذه البهيمة التي ملّكك الله إياها، فإنه شكاك إليّ، وزعم أنك تجيعه، وتُدئبه"، ثم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحائط، فقضى حاجته، ثم توضأ، ثم جاء، والماء يقطر من لحيته، على صدره، فأسرّ إليّ شيئًا لا أحدّث به أحدًا، فحَرّجنا عليه أن يحدّثنا، فقال: لا أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّه حتى ألقى الله. انتهى
(1)
.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة -عفا الله عنه وعن والديه-:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثامن والثلاثين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله، والمؤذّن يؤذّن لصلاة المغرب يوم الخميس المبارك، وهو اليوم التاسع والعشرون من شهر ذي القعدة
(2)
(29/ 11/ 1432 هـ) الموافق (27 أكتوبر 2011 م).
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 205.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة شهران، و (14) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء التاسع والثلاثون مفتتحًا بـ (12) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ خَدِيجَةَ رضي الله عنها) رقم الحديث [6251](2430).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *