الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
64 - (بَابُ بَيَانِ وَعِيدِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[360]
(137) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ ابْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَلَاءُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، مَوْلَى الْحُرَقَة، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمِيّ، عَنْ أَخِيه، عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِه، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية، كلّهم تقدّموا قبل باب، سوى ثلاثة:
1 -
(مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ السَّلَمِيُّ) - بفتحتين - هو: مَعبَد بن كعب بن مالك الأنصاري السَّلَمِيّ المدني، كان أصغر الإخوة، السَّلَميّ، صدوق
(1)
[3].
رَوَى عن أبي قتادة، وجابر، وعن أخويه: عبد الله، وعبيد الله.
ورَوَى عنه: وهب بن كيسان، ومحمد بن عمرو بن حَلْحَلة، والعلاء بن عبد الرحمن، والوليد بن كثير، وابن إسحاق، وأسامة بن زيد الليثي، وعيسى بن معاوية، وعُقَيل بن خالد. ذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاري حديثًا واحدًا
(2)
والمصنّف، وأبو داود في "الناسخ
(1)
وما قاله في "التقريب" من أنه "مقبول" ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان وله في البخاريّ حديث واحد، وأخرج له مسلم، فالأولى أنه صدوق. والله تعالى أعلم.
(2)
هو حديث رقم (6512): "مستريح ومستراح منه
…
" الحديث، وأعاده بعده رقم (6513).
والمنسوخ"، والنسائي، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا (137)، و (950): "مستريح ومستراح منه
…
"، و (1607): "إياكم وكثرة الحلف في البيع
…
".
2 -
(أَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ) بن مالك الأنصاريّ السَّلَمِيّ المدنيّ، ثقةٌ، يقال: له رؤية [2].
كان قائد أبيه حين عَمِيَ، روى عنه، وعن أبي أيوب، وأبي لبابة، وأبي أمامة بن ثعلبة، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وعبد الله بن أُنيس الجُهَنيّ، وجابر، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: عبدُ الرحمن، وخارجةُ، وإخوته: عبد الرحمن، ومحمد، ومعبد بنو كعب، والأعرج، والزهريّ، وسعد بن إبراهيم، وعبد الله بن أبي أمامة بن ثعلبة، وعبيد الله بن أبي يزيد، وغيرهم.
قال أبو زرعة: ثقة، وقال ابن سعد: سَمِعَ من عثمان، وكان ثقة، وكناه أبا فَضَالة، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكر البخاريّ أنه رَوَى عن عمر رضي الله عنه، وذكره العسكريّ فيمن لَحِقَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال أبو القاسم البغويّ: قال الواقديّ: وُلِد على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات في ولاية سليمان سنة سبع، أو ثمان وتسعين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث، فقط، هذا (137)، وحديث (716): "لا يَقْدَمُ من سفر إلا نهارًا
…
"، و (1142): "لا يدخل الجنة إلا مؤمن
…
"، و (1558): "يا كعب"، فقال: لبيك يا رسول الله
…
، و (2032): "يأكل بثلاث أصابع
…
"، و (2810): "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع
…
".
3 -
(أَبُو أُمَامَةَ) البَلَويّ الأنصاريّ، واسمه: إياس بن ثعلبة، ويقال: عبد الله بن ثعلبة بن عبد الله، حليف بني حارثة، وهو ابن أخت أبي بُرْدَة بن نِيَار، وقال أبو حاتم: ثعلبةُ بن عبد الله بن سهل.
رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله بن أُنيس الجُهَنيّ، وعنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن أُنيس الجهنيّ، وقيل: هو عبد الله بن عطية بن عبد الله بن أُنيس
الجهنيّ، وعبد الله بن كعب بن مالك، ومحمد بن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ.
قال أبو أحمد الحاكم: رَدّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من بدر، من أجل أُمّه، فلما رَجَعَ وجدها ماتت، فصلى عليها، رواه عبد الله بن المُنِيب، عن جده عبد الله بن أبي أُمامة، عن أبيه، ورَجَّحَ كونه إياس بن ثعلبة.
أخرج له المصنّف، والأربعة، له عندهم هذا الحديث، وعند أبي داود، وابن ماجه حديث آخر أيضًا؛ حديث:"إن البذاذة من الإيمان"، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيات المصنف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بثقات المدنيين، غير شيوخه، فالأول بغداديّ، والثاني بغلانيّ، والثالث مروزيّ.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض: العلاء، عن معبد، عن أخيه عبد الله بن كعب، ورواية الراوي عن أخيه.
4 -
(ومنها): أن صحابيّه من المقلّين من الرواية، ليس له في الكتب الخمسة إلا هذا الحديث، وآخر عند أبي داود، وابن ماجه، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن أبا أمامة هذا ليس هو أبا أمامة الباهليّ، صُدَيَّ بن عجلان المشهور، بل هذا غيره، واسم هذا إياس بن ثعلبة الأنصاريّ الحارثيّ، من بني الحرث بن الخزرج، وقيل: إنه بَلَويّ، وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت أبي بُرْدة بن نِيَار، هذا هو المشهور في اسمه، وقال أبو حاتم الرازي: اسمه عبد الله بن ثعلبة، ويقال: ثعلبة بن عبد الله.
قال: (ثم اعلم): أن هنا دقيقةً، لا بدَّ من التنبيه عليها، وهي أن الذين صَنّفُوا في أسماء الصحابة رضي الله عنهم، ذكر كثير منهم، أن أبا أمامة هذا الحارثيّ رضي الله عنه، تُوُفي عند انصراف النبيّ صلى الله عليه وسلم من أُحد، فصَلَّى عليه، ومقتضى هذا التاريخ أن يكون هذا الحديث الذي رواه مسلم منقطعًا، فإن عبد الله بن كعب تابعيّ، فكيف يَسمَع مَن تُوفي عامَ أحد في السنة الثالثة من الهجرة؟
ولكن هذا النقل في وفاة أبي أمامة ليس بصحيح، فإنه صَحّ عن عبد الله بن كعب، أنه قال: حدثني أبو أمامة، كما ذكره مسلم في الرواية الثانية، فهذا تصريح بسماع عبد الله بن كعب التابعيّ منه، فبَطَل ما قيل في وفاته، ولو كان ما قيل في وفاته صحيحًا، لم يخرّج مسلم حديثه، ولقد أحسن الإمام أبو البركات الجزريّ، المعروف بابن الأثير، حيث أنكر في كتابه "معرفة الصحابة رضي الله عنهم" هذا القول في وفاته، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله حسنٌ جدًّا، ومنه يتبيّن غلط ما كتبه أصحاب برنامج الحديث (صخر) حيث كتبوا لأبي أمامة المذكور في هذا الحديث ترجمة: صُدَيّ بن عَجْلان الصحابيّ المشهور، فليُتنبَّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ) زاد في الرواية التالية: "الحارثيّ" رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ: مَنِ اقْتَطَعَ) افتعال من القطع للمبالغة، قال القرطبيّ رحمه الله تعالى: وهو الأخذ هنا؛ لأن من أخذ شيئًا لنفسه، فقد قطعه عن مالكه
(2)
. (حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم بِيَمِينِهِ) أي بسبب يمينه الكاذبة (فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ") قال القرطبيّ: أي إذا كان مستحلًّا لذلك، فإن كان غير مستحلّ، وكان ممن لم يُغْفَر له، فيعذّبه الله تعالى في النار ما شاء من الآباد، وفيها تحرُم عليه الجنّة، ثم يكون حاله كحال أهل الكبائر من الموحّدين، على ما تقدّم. انتهى
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: إنما كَبُرَت هذه المعصية بحسب اليمين الغَمُوس التي هي من الكبائر الموبقات، وتغييرها في الظاهر حكمَ الشرع، واستحلاله بها الحرام، وتصييرها المُحِقَّ في صورة المُبْطِل، والمُبْطِلَ في صورة المُحِقّ، ولهذا عَظُمَ أمرها، وأمرُ شهادة الزور.
(1)
"شرح مسلم" 2/ 160.
(2)
"المفهم" 1/ 347.
(3)
المصدر السابق.
وإيجاب النار فيها على حكم الكبائر إلا أن يشاء الله تعالى أن يعفو عن ذلك لمن يشاء، وتحريمُ الجنّة عند دخول السابقين لها، والمتّقين، وأصحاب اليمين، ثمّ لا بُدّ لكلّ موحّد من دخولها إما بعد وقوف وحساب، أو بعد نَكَال وعذاب.
وتخصيصه هنا المسلم؛ إذ هم المخاطبون، وعامّة المتعاملين في الشريعة، لا أن غير المسلم بخلافه، بل حكمه حكمه في ذلك. انتهى كلام القاضيرحمه الله
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ) أي للنبيّ صلى الله عليه وسلم (رَجُلٌ: وَإنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟)؛ أي: وإن كان الحقّ المقتطع شيئًا قليلًا من المال، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ") بنصب "قضيبًا" على أنه خبر لـ"كان" المحذوفة مع اسمها، على حدّ قول الشاعر [من البسيط]:
قَدْ قِيلَ مَا قِيلَ إِنْ صِدْقًا وَإِنْ كَذِبًا
…
فَمَا اعْتِذَارُكَ مِنْ قَوْلٍ إِذَا قِيلَا
وهذا الحذف كثير بعد "إن"، و"لو"، كما قال في "الخلاصة":
وَيَحْذِفُونَهَا وَيُبْقُونَ الخَبَرْ
…
وَبَعْدَ "إِنْ" وَ"لَوْ" كَثِيرًا ذَا اشْتَهَرْ
واسم "كان" ضمير يعود إلى حقّ امرئ، ويحتمل أن يعود إلى "شيئًا يسيرًا"، ويحتمل أن يكون نصبه على أنه مفعول لفعل محذوف، أي: وإن اقتطع قضيبًا.
ووقع في بعض النسخ: "وإن قضيب" بالرفع، قال النوويّ: هكذا هو بالرفع في بعض الأصول، أو أكثرها، وفي كثير منها، فيكون مرفوعًا على أنه اسم "كان" المحذوفة، مع خبرها، وهو قليلٌ، أو نائب فاعل لفعل محذوف، تقديره: وإن اقتُطِعَ قضيبٌ.
و"القَضيب" - بفتح، فكسر فَعِيل بمعنى مفعول -: الغُصْنُ المقطوع، والجَمْعُ قُضْبَان، بضمّ القاف وتُكسر، يقال: قَضَبْتُ الشئَ قَضْبًا، من باب ضَرَبَ، فانقضب: إذا قطعته، فانقطع، واقتضبته مثل اقتطعته وزنًا ومعنًى
(2)
.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 535 - 536.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 506 - 507.
[تنبيه]: ذكر في هامش النسخة التي صحّحها محمد ذهني ما نصّه: ثم إن لفظ "قُضَيِّب" وُجِد في هامش نسخة مُصَغَّرًا، فتقرأ ياؤه مشدّدة مكسورة، مع ضمّ أوله، وفتح ثانيه. انتهى
(1)
. يعني: أن قُضَيِّبًا بتشديد الياء تصغير قَضِيب بتخفيفها.
و"الأَرَاك" - بفتح الهمزة، وتخفيف الراء -: شجرٌ من الحَمْض، يُستاك بقُضْبَانه، الواحدة أراكةٌ، ويقال: هي شجرة طويلةٌ، ناعمةٌ، كثيرة الوَرَقِ والأغصان، خَوّارةُ العُود، ولها ثَمَرٌ في عَنَاقِيد، يُسَمَّى البَرِيرَ، يملأ العُنقُود الكفَّ، والأَرَاك: موضعٌ بعرفة من ناحية الشام، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
وإضافة "قَضيب" إلى "أراك"، بمعنى "من"، أو هي من إضافة العامّ إلى الخاصّ، ومثله خاتم حديد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أمامة الحارثيّ رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[64/ 360 و 361](137)، و (النسائيّ)(5421)، وفي "الكبرى"(5980)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2324)، و (أحمد) في "مسند الأنصار"(21736)، و (مالك) في "الموطأ" في "الأقضية"(1435)، و (الدارميّ) في "البيوع"(2490)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(88)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(353 و 354)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وعيد من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه الكاذبة، وأن ذلك من الأخلاق التي تنافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده في "كتاب الإيمان".
(1)
راجع: النسخة المذكورة 1/ 85.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 12.
2 -
(ومنها): تحريم مال المسلم مطلقًا، كثيرًا كان، أو قليلًا.
3 -
(ومنها): أن اليمين الفاجرة من الكبائر؛ لتوعّد الشارع عليها بأنها موجبة للنار، ومحرّمة للجنة.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: أنه يستفاد منه أن اليمين الغَمُوس لا يرفع إثمها الكفّارة، بل هي أعظم من أن يكفّرها شيء، كما هو مذهب مالك رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله بعد أن ساق أحاديث تتعلّق بالباب ما حاصله: فهذه الآثار كلّها تدلّ على أن هذه اليمين من الكبائر، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك نصًّا، قال: وأجمع العلماء على أن اليمين إذا لم يُقْتَطَع بها مالُ أحد، ولم يَحْلِف بها على مال، فإنها ليست اليمين الغَمُوس التي وَرَدَ فيها الوعيد، والله أعلم.
قال: وقد تُسَمَّى غَمُوسًا، وليست عندهم كذلك، وإنما هي كَذْبَةٌ، ولا كفارة عند أكثرهم فيها إلا الاستغفار، وكان الشافعيّ، وأصحابه، ومعمر بن راشد، والأوزاعيّ يرون فيها الكفارة.
ورُوِي عن جماعة من السلف أن اليمين الغَمُوس لا كفّارة لها، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، وكان الشافعيّ، والأوزاعيّ، ومعمر، وبعض التابعين، فيما حَكَى المروزيّ يقولون: إن فيها الكفارةَ فيما بينه وبين الله في حنثه، فإن اقتطع بها مالَ مسلم، فلا كفارة لذلك إلا أداءُ ذلك، والخروج عنه لصاحبه، ثم يُكَفِّر عن يمينه بعد خروجه مما عليه في ذلك، وقال غيرهم من الفقهاء، منهم: مالك، والثوريّ، وأبو حنيفة: لا كفارة في ذلك، وعليه أن يؤدي ما اقتطعه من مال أخيه، ثم يتوب إلى الله تعالى، ويستغفره، وهو فيه بالخيار إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه، وأما الكفّارة فلا مدخل لها عندهم في اليمين الكاذبة، إذا حَلَفَ بها صاحبها عَمْدًا، متعمدًا للكذب، وهذا لا يكون إلا في الماضي أبدًا، وأما المستقبل من الأفعال فلا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بعدم الكفّارة في اليمين الغَمُوس
(1)
"المفهم" 1/ 347.
(2)
"التمهيد" 20/ 267 - 268.
هو الذي يظهر لي؛ لعدم حجة توجبها، وسيأتي تمام البحث في ذلك في موضعه - إن شاء الله تعالى -، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): بيان مشروعيّة القضاء في قليل المال وكثيره، وترجم عليه الإمام النسائيّ في "السنن"، فقال:"القضاء في كثير المال وقليله"، ووجه في لالة الحديث عليه أنه لمّا ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن من اقتطع حقّ امرئٍ مسلم، وإن كان شيئًا يسيرًا، دلّ على أن اقتطاع القليل محرّم، وظلم ككثيره، ومعلوم أن مَن ظَلَم غيره، رافعه المظلوم إلى الحاكم، فإذا رُفع إليه وجب عليه القضاء فيه، كما يجب عليه القضاء في كثير المال بلا فرق؛ إذ الكلّ ظلم؛ وقضاؤه هو الذي يدفع الظلم عن المظلوم، وهو استنباط حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[361]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ جَمِيعًا، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَخَاهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ كَعْبٍ، يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ الْحَارِثيَّ، حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان أبو موسى البغداديّ البزّاز الحافظ المعروف بالحَمّال، ثقة [10].
رَوَى عن ابن عيينة، وحسين بن عليّ الجعفيّ، وجعفر بن عون، وأسود بن عامر، وأبي أسامة، وحماد بن مَسْعَدة، ورَوْح بن عُبَادة، وأبي داود الطيالسيّ، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وابن أبي فُدَيك، ومحمد بن عُبيد الطَّنَافسيّ، ووهب بن جرير، ومَعْن بن عيسى، وخلق كثير.
ورَوَى عنه الجماعة، سوى البخاريّ، ورَوَى النسائيّ في "مسند مالك"، عن زكريا السِّجْزيّ، عنه، وابنه موسى بن هارون، وأبو حاتم، وأبو زرعة،
وبَقِيّ بن مَخْلَد، وابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحربيّ، ومحمد بن وَضّاح، وابن أبي داود، والبغويّ، وابن صاعد، وغيرهم.
قال المَرُّوذيّ: قلت لأبي عبد الله: أكتب عنه؟ قال: إي والله. وقال أبو حاتم، وإبراهيم الحربيّ: صدوقٌ، زاد الحربي: لو كان الكذب حلالًا تركه تَنَزُّهًا، وقال النسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وفيها أَرَّخه غير واحد، زاد ابنه موسى: لتسع عشرةَ خَلَت من شوال، وكان مولده سنة إحدى أو اثنتين وسبعين ومائة، ورُوِيَ عن عُبيد بن محمد البزاز أنه قال: مات سنة تسع وأربعين، والصواب الأول، ويقال: إنه إنما سُمِّي بالحمّال؛ لأنه كان بَزّازًا، فتزهَّد، فصار يَحْمِل الشيء بالأجرة، ويأكل منها.
وله في هذا الكتاب (78) حديثًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المَخزوميّ مولاهم، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، ورمي برأي الخوارج [6].
رَوَى عن سعيد بن أبي هند، وسعيد المقبريّ، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، ومعبد ومحمد ابني كعب بن مالك، ومحمد بن جعفر بن الزبير بن العوّام، ومحمد بن عمرو بن عطاء، وإبراهيم بن عبد الله بن حُنَين، وبُشَير بن يسار، وعمرو بن شعيب، والزهريّ، ونافع مولى ابن عمر، ووهب بن كيسان، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، وآخرين.
وروى عنه إبراهيم بن سعد، وعيسى بن يونس، وابن عيينة، وأبو أسامة، والواقديّ، وغيرهم.
قال عيسى بن يونس: ثنا الوليد بن كثير، وكان ثقةً، وقال إبراهيم بن سعد: كان ثقةً مُتَّبِعًا للمغازي، حَرِيصًا على علمها، وقال عليّ ابن المدينيّ، عن ابن عيينة: كان صدوقًا، وكنت أعرفه ها هنا، وقال الدُّوريّ، عن ابن
معين: ثقة، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ثقة، إلا أنه إباضيّ
(1)
، وقال ابن سعد: كان له علم بالسيرة والمغازي، وله أحاديث، وليس بذاك، مات بالكوفة سنة إحدى وخمسين ومائة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه: ثنا عيسى بن يونس، ثنا الوليد بن كثير، وكان مُتْقِنًا في الحديث، وقال الساجيّ: صدوقٌ ثَبْتٌ، يُحْتَجُّ به، وقال ابن معين: ثقةٌ لا بأس به، وقال الساجيّ: وكان إباضيًّا، ولكنه كان صدوقًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ) بن مالك الأنصاريّ السَّلَميّ - بفتحتين - المدنيّ، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، وأخيه، عبد الله، وروى عنه الزهريّ، والوليد بن كثير.
تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وله عندهما هذا الحديث فقط.
[تنبيه]: محمد بن كعب هذا هو الأصغر، وله أخ أكبر منه اسمه أيضًا محمد بن كعب، وهو صحابيّ مات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما يقال
(2)
.
والباقون تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن فيه تصريح محمد بن كعب بالسماع من أخيه عبد الله بن كعب، وهو صرّح بتحديث أبي أمامة له، وصرّح أيضًا بنسبه، فقال: الحارثيّ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (بِمِثْلِهِ) وفي نسخة: "يقول بمثله"، يعني: أن رواية محمد بن كعب، عن أخيه عبد الله، عن أبي أُمامة مثل رواية معبد بن كعب، عن أخيه، عنه.
[تنبيه]: رواية محمد بن كعب التي أشار إليها المصنّف رحمه الله أخرجها الحافظ أبو نُعيم رحمه الله في "مستخرجه"(1/ 204)، فقال:
(435)
حدثنا عليّ بن هارون، نا موسى بن هارون، ثنا أبو بكر بن أبي
(1)
بكسر الهمزة: نسبة إلى عبد الله بن إباض التميميّ من الخوارج، قاله في "القاموس المحيط" ص 572.
(2)
راجع: "تهذيب التهذيب" 3/ 685، و"التقريب" ص 317.
شيبة، ثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير، عن محمد بن كعب، أنه سمع أخاه عبد الله بن كعب، (ح) وحدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، أنا إسحاق بن إبراهيم، قال: قلت لأبي أسامة: أحدثكم الوليد بن كثير المخزوميّ، عن محمد بن كعب بن مالك، أنه سمع أخاه، عبد الله بن كعب يُحَدِّث، أن أبا أُمامة الحارثيَّ حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يَقْتَطِع رجل حقَّ امرئ مسلم بيمينه، إلا حَرَّم الله عليه الجنة، وأوجب له النار"، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، وإن كان يسيرًا؟ قال:"وإن كان سِوَاكًا من أراك "؟.
قال: أبو أمامة هو ابن ثعلبة الحارثيّ، من الأنصار، وهو ابن أخت أبي بُرْدة بن نِيَار، وقيل: اسمه إياس، وقيل: عبد الله. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[362]
(138) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، قَالَ: فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: مَا يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن، فِيَّ نَزَلَتْ، كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَن، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ "، فَقُلْتُ: لَا، قَالَ:"فَيَمِينُهُ"، قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:"مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [آل عمران: 77]).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُو وَائِل) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
و"ابن أبي شيبة": هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، و"إسحاق بن إبراهيم" الحنظليّ: هو ابن راهويه، و"أبو معاوية": هو محمد بن خازم الضرير، و"وكيع": هو ابن الجرّاح، و"الأعمش": هو سليمان بن مِهْرَان، و"عبد الله": هو ابن مسعود رضي الله عنه، وكلهم تقدّموا قريبًا، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ، أوردهم بالتحويل.
2 -
(ومنها): قوله: "واللفظ له"؛ يعني: أن متن الحديث الذي ساقه لشيخه إسحاق بن إبراهيم الحنظليّ، وأما الشيخان الآخران: أبو بكر، وابن نُمير، فروياه بالمعنى.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا معاوية أحفظ الناس لحديث الأعمش.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، الأعمش، عن أبي وائل.
5 -
(ومنها): أن فيه "عبد الله" مطلقًا، وقد سبق أنه يميّز بالرواة عنه، فإذا كان السند كوفيًّا كما هنا، فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وقد استوفيت البحث فيه فيما مضى، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) وقد أخرج البخاريّ هذا الحديث في "كتاب الأيمان والنذور"(6659) مَن رواية شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل، فيستفاد من روايته أنه مما لم يُدَلِّس فيه الأعمش؛ لأن شعبة لا يروي عنه، ولا قتادة، وأبي إسحاق، إلا ما سمعوه من شيوخهم، فلا يضرّ مجيئه عنه هنا
بالعنعنة، فتنبّه، وقد مرّ ذكر هذه القاعدة غير مرّة، فلا تكن من الغافلين.
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ لما بيّنته من القاعدة في ذكر اللطائف (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ) - بفتح الصاد المهملة، وسكون الموحدة - وإضافة "يمين" إليها: وهي التي يَحْبِسُ الحالف نفسه عليها، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": "يمين الصبر": هي التي تَلْزَم، ويُجْبَر عليها حالفها، يقال: أصبره اليمينَ: أحلفه بها في مَقَاطع الحقّ. انتهى
(2)
.
وقوله (يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) جملة في محلّ نصب على الحال، من الفاعل، وفي رواية حجاج بن منهال عن البخاريّ:"ليقطع بها" بزيادة لام التعليل، و"يَقْتَطِعُ": يَفْتَعِلُ، من القطع، كأنه قَطَعَهُ عن صاحبه، أو أخذ قطعةً من ماله بالحلف المذكور.
(هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ) فيه حذف مضاف؛ أي: في الإقدام عليها، والمراد بالفجور: لازِمه وهو الكذب، (لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ")، وفي حديث وائل بن حُجْر الآتي:"وهو عنه مُعْرِضٌ"، وفي رواية كُرْدُوس عن الأشعث رضي الله عنه عند أبي داود:"إلا لَقِيَ اللهَ، وهو أجذم"، وفي حديث أبي أمامة بن ثعلبة رضي الله عنه الماضي:"فقد أوجب الله له النار، وحَرَّمَ عليه الجنة"، وفي حديث عمران رضي الله عنه عند أبي داود:"فليتبوأ مقعده من النار".
(قَالَ) أبو وائل رحمه الله (فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ) بن مَعْدِي كَرِبَ الكنديّ، أبو محمد الصحابيّ، نَزَلَ الكوفةَ، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عمر، وعنه أبو وائل، والشعبيّ، وقيس بن أبي حازم، وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن المُسْلِيّ، ومسلم بن هَيْضَم، وأبو بَصِير العَبْديّ، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وغيرهم.
قال ابن سعد: وَفَدَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبعين رجلًا من كِنْدَة، وكان اسمه مَعْدِ يكَرِب، ولُقِّب الأشعث؛ لِشَعْثِ رأسه، ومات بالكوفة حين صالح الحسنُ معاويةَ رضي الله عنه، فصلّى عليه، وقال خليفة: مات في آخر سنة أربعين، بعد قَتْل
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 160.
(2)
"الفتح" 11/ 568.
عليّ رضي الله عنه بيسير، وقال ابن منده: كان ارتدّ ثم راجع الإسلام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وزَوّجه أخته أُمَّ فَرْوَة، وشَهِدَ القادسيَّة، والمدائن، وقال قيس بن أبي حازم: شَهِدت جنازةً فيها الأشعث وجرير، فقَدَّمَ الأشعثُ جريرًا، وقال: إن هذا لم يرتدَّ، وكنتُ قد ارتددتُّ، وذكره خليفةُ، ويعقوب بن سفيان، وغيرهما، فيمن شَهِدَ صِفِّين مع عليّ رضي الله عنه، وقال أبو حَسَّان الزياديّ: تُوُفِّي، وهو ابن ثلاث وستين سنة، أخرج له الجماعة، وليس له عند الشيخين إلا حديث الباب.
وقوله: (فَدَخَلَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ)، وفي رواية جرير عند البخاريّ في "كتاب الرهن":"ثم إن الأشعث بن قيس خرج إلينا، فقال: ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ "، قال في "الفتح": والجمع بينهما أنه خَرَج عليهم من مكانٍ كان فيه، فدَخَل المكان الذي كانوا فيه، وفي رواية الثوريّ، عن الأعمش ومنصور جميعًا عند البخاريّ في "كتاب الأحكام":"فجاء الأشعث، وعبد الله يحدثهم"، ويجمع بأن خروجه من مكانه الذي كان فيه إلى المكان الذي كان فيه عبد الله، وَقَعَ وعبدُ الله يحدثهم، فلعلّ الأشعث تشاغل بشيء، فلم يُدرِك تحديث عبد الله، فسأل أصحابه عما حدَّثهم به. انتهى.
(فَقَالَ) الأشعث رضي الله عنه (مَا) استفهاميّة مفعول ثان مقدّم لـ"يحدِّثكم"؛ أيْ: أيَّ شيء (يُحَدِّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟) كنية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(قَالُوا: كَذَا وَكَذَا) وفي رواية جرير المذكورة: "فحدَّثْناه"، وبَيّن شعبة في روايته: أن الذي حدّثه بما حدثهم به ابن مسعود هو أبو وائل الراوي، ولفظه عند البخاريّ:"قال: فلقيني الأشعث، فقال: ما حدَّثكم عبد الله اليوم؟ قلت: كذا وكذا"، وليس بين قوله:"فلقيني" وبين قوله: "خَرَج إلينا، فقال: ما يحدثكم؟ " منافاة؛ إذ يقال: إنما أفرد في هذه الرواية؛ لكونه المجيب، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) الأشعث (صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَن، فِيَّ نَزَلَتْ) ولفظ البخاريّ: "فيَّ أُنزلت"، وفي رواية جرير عنده:"قال: فقال: صَدَقَ، لَفِيَّ، والله أُنزلت"، واللام لتأكيد القسم، دخلت على "في" الجارّة لياء المتكلّم، ومراده أن الآية التي ذكرها ابن مسعود في حديثه نزلت بسبب خصومته التي يَذكُرُها،
وفي رواية أبي معاوية: "فيّ والله كان ذلك"، وزاد جرير، عن منصور:"صدق".
[تنبيه]: قال ابن مالك رحمه الله في "شواهد التوضيح": في قول الأشعث رضي الله عنه: "لفيَّ، والله نزلت" شاهد على جواز توسط القسم بين جزأي الجواب، وعلى أنّ اللام يجب وصلها بمعمول الفعل الجوابي الْمُقَدَّم، وخلوّ الفعل منها، ومن قبول "قد" إن كان ماضيًا، كما يجب خلوّ المضارع منها، ومن قبول نون التوكيد إذا قُدِّم معموله، كقوله تعالى:{وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)} [آل عمران: 158]. انتهى كلام ابن مالك رحمه الله
(1)
.
(كَانَ بَيْني وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ) وفي رواية جرير، عن منصور الآتية:"كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر".
وقال في "الفتح" عند قوله: "كانت بئر": في رواية أبي معاوية: "أرضٌ"، وادَّعَى الإسماعيلي أن أبا حمزة تفرد بقوله:"في بئر"، وليس كما قال، فقد وافقه أبو عوانة كما تري، وكذا يأتي من رواية الثوريّ، عن الأعمش ومنصور جميعًا، ومثله في رواية شعبة الماضية قريبًا عنهم، لكن بَيَّن أن ذلك في حديث الأعمش وحده، ووقع في رواية جرير، عن منصور:"في شيء"، ولبعضهم:"في بئر"، ووقع عند أحمد من طريق عاصم، عن شقيق أيضًا:"في بئر". انتهى.
ووقع عند البخاريّ بلفظ: "كان لي بئر في أرض ابن عمّ لي".
قال في "الفتح": قوله: "في أرض ابن عمّ لي" كذا للأكثر أن الخصومة كانت في بئر يَدَّعِيها الأشعث في أرض لخصمه، وفي رواية أبي معاوية:"كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجَحَدني".
ويُجْمَع بأن المراد أرض البئر، لا جميع الأرض التي هي أرض البئر، والبئرُ من جملتها".
قال: ولا منافاة بين قوله: "ابنُ عمّ لي"، وبين قوله:"من اليهود"؛ لأن جماعة من اليمن كانوا تَهَوَّدوا لَمّا غَلَب يوسف ذو نواس على اليمن" فَطَرَد عنه
(1)
"شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح" ص 169.
الحبشة، فجاء الإسلام وهم على ذلك، وقد ذَكَر ذلك ابن إسحاق في أوائل "السيرة النبوية" مبسوطًا
(1)
.
وأخرج الطبراني من طريق الشعبيّ، عن الأشعث، قال: خاصم رجلٌ من الحضرميين رجلًا منَّا يقال له: الخفشيش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في أرض له، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للحضرميّ: "جئ بشهودك على حقّك، وإلا حَلَف لك
…
" الحديث، وهذا يخالف السياق الذي في "الصحيحين"، قال الحافظ رحمه الله: فإن كان ثابتًا، حُمِلَ على تعدد القصة.
وقد أخرج أحمد، والنسائيّ، من حديث عَدِيّ بن عَمِيرة الكِنديّ، قال: "خاصم رجل من كِنْدَةَ، يقال له: امرؤ القيس بن عابس الكنديّ رجلًا من حضرموت، في أرض
…
"، فذَكَرَ نحو قِصَّةِ الأشعث، وفيه: "إنْ مَكَّنْتُهُ من اليمين، ذَهَبت أرضي"، وقال: "مَن حَلَفَ
…
"، فذكر الحديث، وتلا الآية.
و"معد يكرب" جَدُّ الخفشيش، وهو جد الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن جَبَلَة بن عديّ بن ربيعة بن معاوية، فهو ابن عمه حقيقة.
ووقع في روايةٍ لأبي داود، من طريق كُرْدُوس، عن الأشعث: أنّ رجلًا من كِنْدَة، ورجلًا من حضرموت، اختَصَمَا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن
…
، فذكر قصةً تُشْبِهُ قصةَ الباب، إلَّا أن بينهما اختلافًا في السياق، قال الحافظ: وأظنها قصةً أخرى، فإن مسلمًا أخرج من طريق علقمة بن وائل، عن أبيه، قال: جاء رجل من حضرموت، ورجل من كِندَة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرميّ: إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي
…
الحديث.
(1)
قال في "كتاب الإيمان والنذور" عند شرح هذا الحديث ما نصّه: واسم ابن عمّه المذكور الخفشيش بن معدان بن معدي كرب، وبيّنت الخلاف في ضبط الخفشيش، وأنه لقب، واسمه جرير، وقيل: معدان، حكاه ابن طاهر، والمعروف أنه اسم، وكنيته أبو الخير. انتهى. فوقع في "الخفشيش" بالخاء.
وذكر في "كتاب الشِّرْب والمساقاة" 5/ 41 ما نصّه: واسم ابن عمه معدان بن الأسود بن مَعْدان بن معد يكرب الكِنديّ، ولقبه الجَفْشِيش، بوزن فَعليل، مفتوح الأول، واختُلف في ضبط هذا الأول على ثلاثة أقوال: أشهرها بالجيم، والشين المعجمة في موضعين. انتهى، والله تعالى أعلم.
قال: وإنما جَوَّزتُ التعددَ؛ لأن الحضرميّ يغاير الكنديّ؛ لأن المُدَّعِيَ في حديث الباب هو الأشعث، وهو كنديّ جزمًا، والمُدَّعيَ في حديث وائل هو الحضرميّ، فافترقا.
ويجوز أن يكون الحضرميّ نُسِبَ إلى البلد، لا إلى القبيلة، فإن أصل نسبة القبيلة، كانت إلى البلد، ثم اشتهرت النسبة إلى القبيلة، فلعل الكنديّ في هذه القصة، كان يسكن حضرموت، فنُسِب إليها، والكنديّ لَمْ يسكنها، فاستمر على نسبته. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قد ذَكَرُوا الخفشيش في الصحابة
(2)
، واستشكله بعضهم لقوله في بعض الروايات: إنه يهوديّ.
(1)
"الفتح" 11/ 569 - 570 "كتاب الإيمان والنذور" رقم (6677).
(2)
وقال في "الإصابة"(1/ 491): جَفْشِيش بن النعمان الكِنديّ، كذا سَمَّى ابن منده أباه، وقال: يقال: اسمه مَعْدَان يُكنى أبا الخير، ويقال: جرير بن مَعْدَان، ووقع في بعض الروايات خَفْشيش - بالخاء المعجمة - وكذا قال أبو عمر: إنه قيل فيه: بالجيم، والمعجمة، وزاد أنه قيل فيه: بالمهملة أيضًا، وذكر بكسر أوله، وضمه، وقال ابن الكلبيّ، وابنُ سعد: اسمه مَعْدان بن الأسود بن مَعْد يكَرِب بن ثُمَامة بن الأسود، وذكر أبو عمر بن عبد البر من طريق مجالد، عن الشعبيّ، قال: قال الأشعث بن قيس: كان بين رجل منا، وبين رجل من الحضرميين، يقال له: الجفشيش خصومة في أرض
…
الحديث، وأصل الخبر في "سنن أبي داود" من رواية مُسْلِمٌ بن هَيْضَم، عن الأشعث، لكن لَمْ يُسَمِّ الجفشيش، وأخرج أبو عمر من طريق ابن عون، عن الشعبيّ، عن جرير بن مَعْدان، وكان يُلَقَّب الجفشيش، أنه خاصم رجلًا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث. قال الحافظ: وهذا ظاهره أن اسم الجفشيش جرير، وأنه الصحابيّ، وهو غريب. ويمكن أن يكون الضمير في قوله:"وكان يُلَقَّب" لمعدان والد جرير، ويكون الخبر من رواية جرير، عن أبيه، وأرسله جرير، وهذا أقرب عندي إلى الصواب، وذكر أبو سَعْد النيسابوريّ، من طريق مَسْلَمة بن مُحَارب، عن السديّ، عن أبي مالك، عن ابن عباس، قال: قَدِمَ ملوك حضرموت، فقَدِمَ وَفْدُ كنْدَة، فيهم الأشعث بن قيس
…
فذكر القصة، قال: وفي ذلك يقول الجفشيش، واسمه معدان بن الأسود الكِنْدِيّ [من البسيط]:
جَادَتْ بِنَا العِيسُ مِنْ أَعْرَابِ ذِي يَمَنٍ
…
تَغُورُ غَوْرًا بِنَا مِنْ بَعْدِ إِنْجَادَ =
وأجيب بأنه أسلم، وإنما وصفه الأشعث بكونه يهوديًّا باعتبار ما كان عليه أَوّلًا، ويؤيد إسلامه أنه وقع في رواية كُردوس، عن الأشعث في آخر القصة أنه لَمّا سمع الوعيد المذكور، قال: هي أرضه، فترك اليمين تورُّعًا، ففيه إشعار بإسلامه، ويؤيده أنه لو كان يهوديًّا ما بالى بذلك؛ لأنهم يستحلون أموال المسلمين، كما بيّنه الله عز وجل في كتابه، حيث قال:{قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} الآية [آل عمران: 75]، أي حَرَجٌ.
ومما يؤيّد إسلامه أيضًا ما وقع في رواية الشعبيّ، عن الأشعث رضي الله عنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن هو حلف كاذبًا أدخله الله النار"، فذهب الأشعث، فأخبره القصة، فقال: أصلح بيني وبينه، قال: فأصلح بينهما، وفي حديث عَديّ بن عَمِيرة، فقال له امرؤ القيس: ما لمن تركها يا رسول الله؟ قال: "الجَنَّة"، قال: اشْهَدْ أني قد تركتها له كلها، هكذا ذكر في "الفتح".
(فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية جرير، عن منصور التالية:
= حَتَّى أَنَخْنَا بِجَنْبِ الهَضْبِ مِنْ مَلأٍ
…
إِلَى الرَّسُولِ الأَمِينِ الصَّادِقِ الهَادِي
وروى الطبراني من طريق صالح بن حَيّ، عن الجفشيش الكِنْديّ، قال: جاء قوم من كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أنت مِنّا، وادَّعَوه، فقال: لا تنتفوا منَّا، ولا ننتفي من أبينا، وله من طريق أخرى، عن صالح: حدثنا الجفشيش، وهو خطأ، فإنه لَمْ يدركه، وأصل الحديث في "مسند أحمد"، من رواية مسلم بن هَيْضَم، عن الأشعث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من كندة، ولم يذكر الجفشيش، وذكر أبو عمر، عن عمران بن موسى بن طلحة، عن الجفشيش مثله، وهو مرسل أيضًا، وذكره بغير سند، وقال: إنه أعاد ذلك ثلاثًا، فأجابه في الثالثة، فقال له الأشعث: فَضَّ الله فاك، ألا سكتَّ على مرتين، قال: والجفشيش هو القائل في الرِّدَّة [من الطويل]:
أَطَعْنَا رَسُولَ اللهِ إِذْ كَانَ صَادِقًا
…
فَيَا عَجَبَا مَا بَالُ مُلْكِ أَبِي بَكْرِ
وأنشد المبرد هذا البيت في "الكامل" للحطيئة، ولفظه:"حاضِرًا" بدل "صادقًا"، و"لَهَفًا" بدل "عَجَبًا".
وذكر عمر بن شَبَّة أن الجفشيش ارتدّ من كندة، وأنه أُخِذ أسيرًا، وأنه قُتِل صبرًا، فإن صح ذلك فلا صحبة له، وروايةُ كلِّ مَن رَوَى عنه مرسلةٌ؛ لأنهم لَمْ يدركوا ذلك الزمان، والله أعلم. انتهى ما في "الإصابة".
"فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي معاوية، عن الأعمش عند البخاريّ:"فجَحَدَني، فقدّمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(فَقَالَ: "هَلْ لَكَ بَيِّنَةٌ؟ " وفي رواية جرير التالية: "شاهداك، أو يمينه"، وفي رواية عند البخاريّ: "فقال: بيّنتك أو يمينه" (فَقُلْتُ: لَا) أي: ليست لي بيّنة (قَالَ) صلى الله عليه وسلم" (فَيَمِينُهُ") الفاء في جواب شرط مقدَّر، أي: إذا لَمْ تكن لك بيّنةٌ، فيمينه، و"يمينه" مبتدأ خبره محذوف: أي فلك يمينه، ويحتمل أن يكون خبرًا لمحذوف، أي: المثبتُ لك ما تدّعيه يمينه.
(قُلْتُ: إِذَنْ) حرف نصب وجواب، وفي كتابتها اختلاف، فالجمهور يكتبونها بالألف، وكذا رُسمت في المصاحف، والمازنيّ والمبرّد يكتبانها بالنون، وعن الفرّاء: إن عَمِلت كُتبت بالألف، وإلا كُتبت بالنون؛ للفرق بينها وبين "إذا "الشرطية، وتبعه ابن خروف.
وقوله: (يَحْلِفُ) قال السهيليّ: بالنصب لا غير؛ لوجود شرائطه، من الاستقبال والاتصال، كما قال في "الخلاصة":
وَنَصَبُوا بِـ "إِذًا" الْمُسْتَقْبَلَا
…
إِنْ صُدِّرَتْ وَالْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلَا
أَوْ قَبْلَهُ الْيَمِينُ وَانْصِبْ وَارْفَعَا
…
إِذَا "إِذًا" مِنْ بَعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا
وحَكى ابن خروف جواز الرفع في مثل هذا على إهمال "إذن"، أو على تقدير "هو إذن يحلفُ"
(1)
، وقال النوويّ في "شرحه": وذكر أبو الحسن بن خروف في "شرح الجُمَل" أن الرواية فيه بالرفع
(2)
.
وزاد في رواية أبي معاوية عن البخاريّ: "إذًا يَحلِفَ، ويذهبَ بمالي"، ووقع في حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه الآتي من الزيادة بعد قوله:"ألك بينة؟ "، قال: لا: قال: "فلك يمينه"، قال: إنه فاجر، ليس يبالي ما حلف عليه، وليس
(1)
قال الجامع: عمل "إذًا" إذا استوفت الشروط واجب عند جمهور النحاة، وجوّز بعضهم إهمالها مع استيفاء الشروط، وهي لغة نادرة، لكن تلقّاها البصريون بالقبول؛ لأنَّها حرف غير مختصٍّ، فقياسه الإهمال، فلا التفات إلى من أنكرها، ذكره الخضريّ في "حاشيته على شرح ابن عقيل" 2/ 173.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 160.
يَتَوَرَّع من شيء، قال:"ليس لك منه إلَّا ذلك"، ووقع في رواية الشعبيّ، عن الأشعث: قال: أرضي أعظم شأنًا من أن يحلف عليها، فقال:"إن يمين المسلم يدرأُ بها أعظم من ذلك".
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ) أي كاذب، هذه زيادة على حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المتقدّم، لكنها وقعت في حديثه في بعض الطرق (لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ") جملة حاليّة من المفعول، (فَنَزَلَتْ:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الآيةِ [آل عمران: 77].
تفسير الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ} أي: يعتاضون، ويستبدلون، فكأنهم يعطون ما أوجب الله عليهم من رعاية العُهُود والأيمان، {بِعَهْدِ اللَّهِ} أي: ميثاقه، وهو إيجابه على المكلّفين أن يقوموا بالحق، ويعملوا بالعدل {وَأَيْمَانِهِمْ} جمع يمين، وهو الحلف بالله تعالى، {ثَمَنًا قَلِيلًا} أي: بشيء قليل حقيرٍ من عَرَض الدنيا، من الترؤّس، والارتشاء، ونحو ذلك.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى: إن الذين يعتاضون عمَّا عاهدوا الله عليه، من اتّباع محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر صفته للناس، وبيان أمره، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة، وهي عُرُوض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، {لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} أي: لا حَظّ، ولا نصيب لهم يوم القيامة، {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} أي: بما يسرّهم؛ إذ لا يكلّمهم إعراضًا عنهم، واحتقارًا لهم، {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: نظرَ رحمة، {وَلَا يُزَكِّيهِمْ} أي: لا يُثني عليهم كما يُثني على من تَزَكَّي، وقيل: لا يُطهّرهم من الذنوب، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] أي موجع شديد الألم.
وقال ابن كثير رحمه الله: يعني: أن الله تعالى لا يكلمهم كلام لُطْفٍ بهم، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة، ولا يزكيهم من الذنوب، بل يأمر بهم إلى النار
(1)
.
[تنبيه]: هذا الحديث صريح في أن سبب نزول هذه الآية هو قصّة الأشعث بن قيس مع خصمه حين تحاكما في أرض، أو بئر، ويعارضه حديث
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 3/ 92 - 93، و"تفسير النسفيّ" 1/ 165، و"المفهم" 1/ 351.
عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وهو ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن العوّام بن حوشب، عن إبراهيم بن عبد الرَّحمن، عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أن رجلًا أقام سلعةً في السوق، فَحَلَف فيها، لقد أَعْطَى بها ما لَمْ يُعْطِه؛ ليوقع فيها رجلًا من المسلمين، فنزلت:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إلى آخر الآية [آل عمران: 77]، فهذا مخالف لحديث الباب.
ويُجمع بأن نزول الآية كان للسببين جميعًا، ولفظ الآية أعمّ من ذلك، ولهذا وقع في حدر حديث الباب ما يقتضي ذلك، حيث قال: "من حلف يمينَ صبرٍ؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم
…
"الحديث، وذكر أبو جعفر الطبريّ رحمه الله من طريق عكرمة أن الآية نزلت في حُيَيّ بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة من شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا، وحَلَفُوا أنه من عند الله، وقصّ الكلبيّ في "تفسيره" في ذلك قصّةً طويلةً، وهي محتملةٌ أيضًا، لكن المعتمد في ذلك ما ثبت في "الصحيح"، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحاصل أنه لا تعارض في تعدّد الأسباب لنزول آية واحدة، إن صحّت الرواية بذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[64/ 362 و 363 و 364](138)، و (البخاريّ) في "الشُّرْب والمساقاة"(2356 و 2357)، و (الرهن)(2515 و 2516)، و"الشهادات"(2669 و 2670 و 2673 و 2676 و 2677)، و"التفسير"(4549 و 4550)، و"الإيمان والنذور"(6659 و 6660 و 6676 و 6677)، و"الأحكام"(7183 و 7184)، و"التوحيد"(7445 و 7446)،
(1)
"الفتح" 8/ 61 "كتاب التفسير" رقم (4549 - 4550).
و (ابن ماجة) في "كتاب الإحكام"(2323)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(262 و 1050 و 1051)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 44 - 377 - 416 - 460)، و (5/ 211 - 212)، و (ابن حبّان)(5084)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(108 و 109 و 110) و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(355 و 356 و 357)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2500)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 178 - 253)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(442)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10248 و 10307)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تحريم اقتطاع حقّ المسلم باليمين الفاجرة، وأن ذلك مما ينافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده هنا.
2 -
(ومنها): جواز سماع الحاكم الدعوى فيما لَمْ يَرَه إذا وُصِفَ وحُدِّدَ، وعَرَفَهُ المتداعيان، لكن لَمْ يقع في الحديث تصريح بوصف، ولا تحديد، فاستدَلَّ به القرطبيّ على أن الوصف والتحديد ليس بلازم لذاته، بل يكفي في صحة الدعوى تمييز المدَّعَى به تمييزًا، ينضبط به، وتعقّبه الحافظ رحمه الله بأنه لا يلزم من ترك ذكر التحديد، والوصف في الحديث، أن لا يكون ذلك وقع، ولا يُسْتَدَل بسكوت الراوي عنه بأنه لَمْ يقع، بل يطالَب من جَعَلَ ذلك شرطًا بدليله، فإذا ثَبَتَ حُمِل على أنه ذُكِر في الحديث، ولم ينقله الراوي. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: تعقّب الحافظ على القرطبيّ فيه نظرٌ؛ لأن خلاصته تسليم لما قاله؛ إذ حاصله أنه لَمْ يوجد دليل إيجابه، فلما لَمْ يوجد بقي على عدم لزومه، وهو ما دلّ عليه ظاهر الحديث، فعاد الأمر إلى موافقة قول القرطبيّ رحمه الله.
والحاصل أنه لا دليل لمن شرط، فلا يلزم الوصف والتحديد، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن الحاكم يَسأَل المدعي، هل له بينةٌ؟ وقد ترجم بذلك الإمام البخاريّ في "كتاب الشهادات".
4 -
(ومنها): أن البينة على المدعِي في الأموال كلِّها.
5 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به لمالك رحمه الله في قوله: إن مَن رَضِي بيمين
غريمه، ثم أراد إقامة البينة بعد حلفه أنَّها لا تسمع، إلَّا إن أتى بعذر، يتوجه له في ترك إقامتها قبل استحلافه.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: ووجهه أن "أو" تقتضي أحد الشيئين، فلو جاز إقامة البينة بعد الاستحلاف، لكان له الأمران معًا، والحديث يقتضي أنه ليس له إلَّا أحدهما، قال: وقد يجاب بأن المقصود من هذا الكلام نفيُ طريق أخرى لإثبات الحقّ، فيعود المعنى إلى حصر الحجة في البينة واليمين، ثم أشار إلى أن النظر إلى اعتبار مقاصد الكلام وفهمه، يُضَعِّف هذا الجواب.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن دقيق العيد رحمه الله أيضًا: إنه قد يَستَدِلُّ الحنفية به في ترك العمل بالشاهد واليمين في الأموال.
وأجاد الحافظ رحمه الله حيث قال: والجواب عنه بعد ثبوت دليل العمل بالشاهد واليمين أنَّها زيادة صحيحةٌ، يَجِبُ المصير إليها؛ لثبوت ذلك بالمنطوق، وإنما يستفاد نفيه من حديث الباب بالمفهوم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أحسن الحافظ رحمه الله في الردّ على الحنفيّة في استدلالهم هذا، فإن الحديث صحيح، أخرجه المصنّف رحمه الله في "صحيحه"، وسيأتي برقم (1712) من طريق قيس بن سعد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضَى بيمين وشاهد"، فبعد صحّة المنطوق بطل الاستدلال بالمفهوم، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد.
قال العلامة الصنعانيّ رحمه الله: قد ثبتت أدلّة العمل بالشاهد واليمين، ثم ذكر حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور، ثم قال: قال في "التمييز": إنه حديث صحيحٌ، لا يُرتاب في ححّته، وقال ابن عبد البرّ: لا مطعن لأحد في ححّته، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد"، وهو عند أصحاب "السنن"، ورجاله مدنيّون ثقات، ولا يضرّه أن سُهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدّث به ربيعة؛ لأنه بعد ذلك كان يروي به عن ربيعة، عن نفسه، عن أبيه، وقصّته في ذلك مشهورة في "سنن أبي داود" وغيرها، ومنها حديث جابر رضي الله عنه مثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجة، وصحّحه
أبو عوانة، وابن خُزيمة، وفي الباب عن نحو من عشرين من الصحابة رضي الله عنهم، منها الضعاف، والحسان، وبذلك ثبتت الشهرة.
قال الصنعانيّ: أشار بقوله: الشهرة إلى ردّ الحنفيّة لحديث العمل بالشاهد واليمين بأنه زيادة على ما في القرآن، ولا تُقبل الزيادة من الأحاديث إلَّا إذا كان الخبر مشهورًا، وقد عَمِلوا بأحاديث فيها الزيادة على ما في القرآن، لا تبلغ شهرتها شهرة ما نحن فيه، مثل حديث إيجابهم الوضوء من القهقهة، والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء، وغير ذلك، قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: القضاء بشاهد ويمين لا يُخالف نصّ القرآن؛ لأنه لَمْ يمنع أن يجوز أقلّ مما نَصَّ عليه، يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم، فضلًا عن مفهوم العدد. انتهى ما كتبه الصنعاني رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على توجيه اليمين في الدَّعَاوَى كلّها على من ليست له بينة.
8 -
(ومنها): أن فيه بناءَ الإحكام على الظاهر، وإن كان المحكوم له في نفس الأمر مبطلًا.
9 -
(ومنها): أن فيه دليلًا للجمهور على أن حكم الحاكم لا يُبيح للإنسان ما لَمْ يكن حلالأ له، خلافًا لأبي حنيفة، كذا أطلقه النوويّ.
وتُعُقّب بأن ابن عبد البر نَقَلَ الإجماع على أن الحكم لا يُحِلّ حرامًا في الباطن في الأموال، قال: واختلفوا في حِلّ عصمة نكاح مَنْ عَقَد عليها بظاهر الحكم، وهي في الباطن بخلافه، فقال الجمهور: الفروج كالأموال، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وبعض المالكية: إن ذلك إنما هو في الأموال دون الفروج، وحجتهم في ذلك اللعان. انتهى.
وقد طَرَدَ ذلك بعضُ الحنفية في بعض المسائل في الأموال، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: ما ذهب إليه الجمهور من أن الحكم لا يُحلّ شيئًا من الأموال، والفروج، وغيرها هو الحقّ؛ لظهور حجته، والفرق بين
(1)
"العدّة حاشية العمدة" 4/ 402 - 403.
الأموال والفروج غير صحيح، بل أمر الفروج أشدّ من الأموال، وسيأتي تفصيل المسألة في موضعها من "كتاب الأقضية"، حيث يذكر المصنّف رحمه الله حديث أم سلمة رضي الله عنها هناك
(1)
- إن شاء الله تعالى -.
10 -
(ومنها): أن فيه التشديدَ على من حَلَف مُبطلًا؛ ليأخذ حقَّ مسلم، وهو عند الجميع محمول على من مات من غير توبة صحيحة، وعند أهل السنة محمول على من شاء الله أن يعذبه، كما تقدم تقريره مرارًا.
11 -
(ومنها): ما قاله المازريّ: ذَكَرَ بعض أصحابنا أن فيه دلالةً على أنّ صاحب اليد أولى بالمدعَّى فيه.
12 -
(ومنها): أن فيه التنبيهَ على سورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنه بدأ بالطالب، فقال:"ليس لك إلَّا يمين الآخر"، ولم يَحْكُم بها للمدَّعَى عليه، إذا حَلَفَ، بل إنما جَعَلَ اليمين تَصْرِف دعوى المُدَّعِي، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حَلَفَ المدَّعَى عليه أن لا يحكم له بملك المدَّعَى فيه، ولا بحيازته، بل يُقِرُّه على حُكْم يمينه.
13 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أنه لا يُشْتَرط في المتداعيين أن يكون بينهما اختلاط، أو يكونا ممن يُتَّهَم بذلك، ويليق به؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ المدَّعَى عليه هنا بالحَلِفِ بعد أن سمع الدعوي، ولم يسأل عن حالهما.
وتُعُقّب بأنه ليس فيه التصريح بخلاف ما ذهب إليه مَن قال به من المالكية؛ لاحتمال أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ من حاله ما أغناه عن السؤال فيه، وقد قال خصمه عنه: إنه فاجرٌ، لا يبالي، ولا يَتَوَرَّع عن شيء، ولم يُنْكِر عليه ذلك، ولو كان بَرِيئًا مما قال لبادر بالإنكار عليه، بل في بعض طُرُق الحديث ما يدُلّ على أن الغصب المُدَّعَى به وقع في الجاهلية، ومثل ذلك تُسْمَع الدعوى بيمينه فيه عندهم، قاله الحافظ رحمه الله.
(1)
هو ما سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب الأقضية" برقم (1713) من طريق زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعةً من النار".
14 -
(ومنها): أنّ يمين الفاجر تُسْقِط عنه الدعوي، وأن فُجُوره في دينه لا يوجب الحجر عليه، ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك لَمْ يكن لليمين معنًى.
15 -
(ومنها): أن المُدَّعَى عليه إن أقر أن أصل المُدَّعَى لغيره، لا يُكَلَّف بيان وجه مصيره إليه، ما لَمْ يُعْلَم إنكارُهُ لذلك، يعني: تسليم المطلوب له ما قال.
16 -
(ومنها): أن من جاء بالبينة قُضِي له بحقه من غيريمين؛ لأنه مُحَالٌ أن يسأله عن البينة، دون ما يجب له الحكم به، ولو كانت اليمين من تمام الحكم له، لقال له: بيِّنتك ويمينك على صدقها.
وتُعُقّب بأنه لا يلزم من كونه لا يُحَلَّف مع بيِّنته على صدقها فيما شهدت أن الحكم له لا يتوقف بعد البينة على حلفه بأنه ما خَرَجَ عن ملكه، ولا وهبه مثلًا، وأنه يستحق قبضه، فهذا وإن كان لَمْ يُذكَر في الحديث، فليس في الحديث ما ينفيه، بل فيه ما يُشْعِر بالاستغناء عن ذكر ذلك؛ لأن في بعض طرقه أن الخصم اعتَرَفَ، وسَلَّم المُدَّعَى به للمُدَّعِي، فأغنى ذلك عن طلبه يمينه، والغرض أن المدَّعِي ذَكَر أنه لا بينة له، فلم تكن اليمين إلَّا في جانب المدَّعَى عليه فقط.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا تعقّب هذه الفائدة في "الفتح"، ولكن في تعقّبه نظر لا يخفى، فأين الدليل الذي يدلّ على أنه لا يُقضَى لمن جاء بالبيّنة بمجرّدها، بل مع اليمين؟، فالحقّ أن البيّنة تكفي وحدها للقضاء بها؛ لظاهر النصّ، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
17 -
(ومنها): البداءة بالسماع من الطالب، ثم من المطلوب، هل يُقِرّ، أو ينكر؟ ثم طلب البينة من الطالب، إن أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب، إذا لَمْ يَجِد الطالب البينة.
18 -
(ومنها): أن الطالب إذا ادَّعَى أن المُدَّعَى به في يد المطلوب، فاعترف استُغْنِي عن إقامة البينة بأن يد المطلوب عليه.
19 -
(ومنها): ما قاله بعض العلماء: إن كلَّ ما يَجْرِي بين المتداعيين من تسابٍّ بخيانة، وفجور، هَدَرٌ؟ لهذا الحديث.
وتُعُقّب بأنه إنما نسبه إلى الغصب في الجاهلية، وإلى الفجور، وعدم
التوقِّي في الإيمان في حال اليهودية، فلا يَطَّرِدُ ذلك في حقّ كلّ أحد.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر في "الفتح" هذا التعقّب، ولم يتعقّبه، وفيه نظر، بل الذي يظهر من الأدلّة ما قاله البعض، وقد ترجم الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا، فقال:"بَابُ كلام الخُصُوم بعضِهِم في بعض"، ثم أورد هذا الحديث مستدلًّا على ما ترجم له
(1)
.
ومن الأدلّة عليه ما ثبت في "الصحيحين" من قول العبّاس رضي الله عنه حين كان بينه وبين عليّ رضي الله عنه خصومة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعنده عثمان بن عفّان، وعبد الرَّحمن بن عوف، والزبير بن العوّام، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقضِ بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن؛ يعني: عليًّا رضي الله عنه، فقد جرى هذا الكلام، ووصف عليًّا بهذه الأوصاف المستكرهة، بين يدي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، بمحضر من هؤلاء الأفاضل، ولم يُنكر ذلك أحد منهم، لا عمر، ولا هم، بل قالوا: أجل يا أمير المؤمنين فاقضِ بينهم، وأَرِحْهُم، والقصّة مشهورة في "الصحيحين"، وغيرهما، وهذا لفظ مسلم.
والحاصل أن الصواب أن صدور مثل هذا بين المتخاصمين يُتسامح فيه؛ لصدوره غالبًا في حال الغضب، والله تعالى أعلم.
20 -
(ومنها): موعظة الحاكم المطلوب إذا أراد أن يَحْلِف خوفًا من أن يَحْلِف باطلًا، فيرجع إلى الحقّ بالموعظة.
21 -
(ومنها): أنه استَدَلَّ به القاضي أبو بكر بن الطيب في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه، فيقول له: ألك دليل على ذلك؟، فإن قال: نعم، سأله عنه، ولا يقول له ابتداءً: ما دليلك على ذلك؟، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم قال للطالب:"ألك بينة؟ "، ولم يقل له: قَرِّب بيِّنتك.
22 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن لليمين مكانًا يَختصّ به؛ لقوله في بعض طرقه: "فانطلق ليحلفَ"، وقد عُهِدَ في عهده صلى الله عليه وسلم الحلف عند منبره، وبذلك احْتَجَّ الخطابيّ، فقال: كانت المحاكمة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم في المسجد،
(1)
راجع: "صحيح البخاريّ "(5/ 88 - 89) بنسخة "الفتح".
فانطَلَق المطلوب ليحلف، فلم يكن انطلاقه إلَّا إلى المنبر؛ لأنه كان في المسجد، فلا بد أن يكون انطلاقه إلى موضع أخص منه.
23 -
(ومنها): أن فيه أن الحالف يَحْلِف قائمًا؛ لقوله: "فلما قام ليحلف"، وفيه نظرٌ؛ لأن المراد بقوله:"قام"، ما تقدّم من قوله:"انطلق ليحلف".
24 -
(ومنها): أن الإمام الشافعي رحمه الله استَدَلّ به على أن مَن أسلم وبيده مال لغيره، أنه يَرْجِع إلى مالكه إذا أثبته، وعن المالكيّة اختصاصه بما إذا كان المال لكافر، وأما إذا كان لمسلم، وأسلم عليه الذي هو بيده، فإنه يُقَرّ بيده، والحديث حجة عليهم.
25 -
(ومنها): "أن ابن المُنَيِّر رحمه الله قال: يُستفاد من الحديث أن الآية المذكورة في هذا الحديث، نَزَلت في نقض العهد، وأن اليمين الغَمُوس لا كفارة فيها؛ لأن نقض العهد لا كفارة فيه، كذا قال، وفيه نظرٌ؛ لأن غايته أنَّها دلالة اقتران.
26 -
(ومنها): أن النوويّ رحمه الله قال: يدخل في قوله: "من اقتَطَعَ حقَّ امرئ مسلم" مَن حَلَف على غير مال، كجِلْد الميتة، والسِّرْجين، وغيرهما، مما يُنْتَفَع به، وكذا سائر الحقوق، كنصيب الزوجة بالقَسْم، وأما التقييد بالمسلم، فلا يَدُلّ على عدم تحريم حقِّ الذميّ، بل هو حرام أيضًا، لكن لا يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة.
قال في "الفتح": وهو تأويل حسنٌ، لكن ليس في الحديث المذكور دلالة على تحريم حَقِّ الذميّ، بل ثبت بدليل آخر، والحاصل أن المسلم والذميّ لا يفترق الحكم في الأمر فيهما في اليمين الغَمُوس، والوعيد عليها، وفي أخذ حقّهما باطلًا، وإنما يفترق بالنسبة إليهما.
27 -
(ومنها): أن فيه بيان غِلَظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحقّ وكثيره في ذلك، قاله النوويّ أيضًا.
قال في "الفتح": وكأنّ مراده عدم الفرق في غِلَظ التحريم، لا في مراتب الغِلَظ، وقد صَرَّح ابن عبد السلام في "القواعد" بالفرق بين القليل والكثير، وكذا بَيْنَ ما يترتب عليه كثير المفسدة وحقيرها، وقد وَرَدَ الوعيد في الحالف
الكاذب في حقّ الغير مطلقًا، في حديث أبي ذَرّ رضي الله عنه، مرفوعًا: "ثلاثةٌ لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم
…
"الحديث، وفيه: "والمنفق سِلْعته بالحلف الكاذب"، أخرجه مسلم، وله شاهد عند أحمد، وأبي داود، والترمذيّ من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم بلفظ: "ورجلٌ حَلَفَ على سِلْعته، بعد العصر كاذبًا". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قوله: (وَلَا ينظر الله إليه) قال في "الكشاف": هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند مَنْ يُجَوِّز عليه النظر، مجازٌ عند من لا يُجَوِّزه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كلا التأويلين باطلان، أما الأول فإنه مذهب متأخري الأشاعرة الذين يؤولون الصفات، وأما الثاني فإنه مذهب المعتزلة الذين جمعوا بين نفي نظر المؤمنين لربهم، وبين تأويل الصفات، وهو مذهب الزمخشريّ، وكلاهما باطل.
قال القاضي عياض: الإعراض، والغضب، والسخط من الله تعالى هو إرادته إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته، وتعذيبه، وإنكار فعله وذمّه، قال: فيكون ذلك من صفات الذات، ويرجع إلى الإرادة، أو الكلام، أو أن يَفعل بهم فعل المسخوط عليه المُعرِض عنه المغضوب عليه من النقمة والعذاب والإبعاد عن الرحمة، فيكون من صفات الفعل، وهي في المخلوق تغيُّر حاله لإرادة السوء، أو فعله بمن غَضِبَ عليه، والله جلّ اسمه يتعالى عن التغيّر، واختلاف الحال. انتهى كلام عياض، وتبعه النوويّ، وأقرّه عليه
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه القاعدة التي ذكرها القاضي، وتبعه النوويّ عليها هي من المسائل التي خالف فيها متأخرو الأشاعرة مذهب السلف، وهي تأويل الصفات، وهي تحتاج إلى بيان، فأقول:
(اعلم أَوّلًا): أن صفات الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: ثبوتيّةٌ، وسلبيّةٌ، فأما الثبوتيّة، فهي ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، أو فيما صحّ على لسان
(1)
"الفتح" 11/ 571 - 573 "كتاب الإيمان والنذور" رقم الحديث (6676 - 6677).
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 536 - 538، و"شرح النوويّ" 2/ 162.
رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال والجلال، فيجب إثباتها له سبحانه وتعالى حقيقةً على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى.
وأما الصفات السلبيّة، فهي ما نفاه الله سبحانه وتعالى عن نفسه في كتابه، أو فيما صحّ عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلّها صفات نقص في حقّه سبحانه وتعالى، كالموت، والنوم، والنسيان، فيجب نفيها عن الله تعالى مع إثبات ضدّها له على الوجه الأكمل.
ثم إن الصفات الثبوتيّة تنقسم إلى ذاتيّة وفعليّة، فالذاتيّة هي التي لَمْ يزل الله تعالى متّصفًا بها، كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، وغيرها، ويدخل في هذا القسم الصفات الخبريّة، كالوجه، واليدين، والعينين.
والصفات الفعليّة هي التي تتعلّق بمشيئته سبحانه وتعالى، إن شاء فعلها، وإن شاء لَمْ يفعلها، وهو سبحانه وتعالى متّصفٌ بها منذ الأزل، ولا يجوز اعتقاد أنه تعالى قد وُصِف بها بعد أن لَمْ يكن متّصفًا بها، مثل النزول إلى السماء الدنيا، والغضب، والرضا، والإحياء، والإماتة، ونحوها.
وكلُّ صفة تعلّقت بمشيئة الله تعالى، فإنها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومة لنا، وقد نَعجَز عن إدراكها، لكن نعلم علم اليقين أنه سبحانه وتعالى لا يشاء إلَّا وهو موافقٌ للحكمة.
وقد تكون الصفة ذاتيّة باعتبار، وفعليّة باعتبار آخر، كالكلام، فإنه صفة من صفات الذات؛ لأن الله سبحانه وتعالى لَمْ يزل متكلّمًا، ولا يزال متكلّمًا، وأما باعتبار آحاد الكلام، فهو صفة فعليّة.
(ثم اعلم ثانيًا): أن التأويل الذي ذكره عياض والنوويّ للإعراض، والغضب والسخط بإرادة الانتقام، ونحو ذلك هو مذهب الأشاعرة، وأما مذهب السلف، فهو إثبات هذه الصفات لله سبحانه وتعالى على حقيقتها، فيُثبتون له الغضب حقيقةً على كيفيّة تليق بجلاله، وأما قول القائل: إن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، ونحو ذلك، والله تعالى منزّه عن هذا، فيقال له: هذا قد يصحّ في المخلوق، ولا يجوز تشبيه الخالق بالمخلوق؛ لأن سبحانه وتعالى أثبت هذه الصفات لنفسه، وقال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثم إن المعنى الذي صرفوا إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفوه عنه، فإن
الإرادة تتضمّن الميل، وهو مما يتّصف به المخلوق، فوجب إثبات الأمرين، أو نفيهما معًا
(1)
.
والحاصل أن الفرق بين معاني صفات الله سبحانه وتعالى وصفات المخلوقين فيما يقع فيه الشركة في اللفظ والتسمية واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، لا يخفى إلَّا على من أعمى الهوى والتقليد بصيرته، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[363]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، يَسْتَحِقُّ بِهَا مَالًا، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْأَعْمَش، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَة فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَرِير) هو ابن عبد الحميد المذكور في الباب الماضي.
2 -
(مَنْصُور) هو: ابن المعتمر بن عبد الله السُّلَميّ، أبو عَتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
والباقون تقدّموا في الذي قبله.
وقوله: (عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ) هو ابن مسعود رضي الله عنه، ثم إن روادة جرير، عن منصور هذه هكذا وقعت موقوفة في "الصحيحين"، ولم يقع فيها الرفع، وقد سبق الحديث الماضي من رواية الأعمش مرفوعًا، ولفظه:"عن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"، وكذا وقع التصريح برفعه في رواية شعبة عن الأعمش،
(1)
راجع ما كتبه محقق: "إكمال المعلم" 1/ 537 - 538.
ومنصور عند البخاريّ في "الإيمان والنذور"، ولفظه:"عن شعبة، عن سليمان، ومنصور، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال"، وكذلك وقع التصريح، بالرفع عنده في "كتاب الإحكام" من رواية سفيان، عن منصور، والأعمش.
والظاهر أن منصورًا كان يرويه بالوجهين، أحيانًا مرفوعًا، وأحيانًا موقوفًا.
والحاصل أن حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا مرفوعًا صحيح، لا يضرّه وقفه في بعض طرقه؛ لأن الرفع فيه أكثر، على أن الموقوف في مثل هذا له حكم الرفع، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ) أي متعمّد للكذب، وتسمّى هذه اليمين الغَمُوس.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير منصور، يعني: أن منصورًا ساق الحديث نحو رواية الأعمش.
وقوله: (غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ) يعني: أن منصورًا خالف الأعمش في قوله: "كانت بيني وبين رجل
…
إلخ"، فإن الأعمش ساقه بلفظ: "كان بيني وبين رجل أرض باليمن"، وقد سبق أن قلنا: إنه لا تخالف بين الروايتين لإمكان كون البئر كانت في تلك الأرض، وأراد بالأرض المتنازع فيها أرض البئر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم ("شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ") معناه: لك ما يشهد به شاهداك، أو يمينه، فـ"شاهداك" خبر لمحذوف: أي الحجّة، أو المثبتُ لك شاهداك، أو مبتدأ وخبره محذوف: أي شاهداك، يثبتان لك حقّك، وقيل: إن رفعه على تقدير فعل، أي يُثبتُ لك شاهداك، وقيل: إنه على تقدير مضاف، أي لك إقامة شاهديك، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامه، فارتفع ارتفاعه، وقوله:"أو يمينه" معطوف عليه في كلّ ما له.
[تنبيه]: رواية جرير، عن منصور التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية الأعمش، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2516)
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله رضي الله عنه: "من حَلَفَ على يمين، يَستَحِقّ بها مالًا، وهو فيها
فاجر، لقي الله، وهو عليه غضبان، فأنزل الله تصديق ذلك:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فقرأ إلى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، ثم إن الأشعث بن قيس، خَرَجَ إلينا، فقال: ما يُحَدِّثكم أبو عبد الرَّحمن؟ قال: فحدثناه، قال: فقال: صَدَقَ، لَفِيَّ والله أُنْزِلت، كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك، أو يمينه"، قلت: إنه إذًا يحلفَ، ولا يبالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَلَفَ على يمين، يستحقّ بها مالًا، وهو فيها فاجر، لقي الله، وهو عليه غضبان"، فأنزل الله تصديق ذلك، ثم اقترأ هذه الآية" {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} فقرأ إلى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[364]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ، سَمِعَا شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، بِغَيْرِ حَقِّه، لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، قَالَ عَبْدُ اللهِ: ثُمَّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِصْدَاقَهُ مِنْ كتَابِ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيةِ [آل عمران: 77].
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيي، ثقةٌ
(1)
، صنّف "المسند"، وكان يلازم ابن عيينة [10](243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) هو: ابن عيينة الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.
(1)
قال في "التقريب": صدوق، والظاهر أنه ثقة، فقد روى عنه جماعة، ووثقه الأئمة، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب" 3/ 731 - 732.
3 -
(جَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ) الكاهليّ الصيرفيّ الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5].
رَوَى عن أبي الطُّفَيل، ومنذر الثوريّ، وأبي وائل، وغيرهم.
ورَوى عنه الأعمش، وزُبَيد الياميّ، وهما من أقرانه، والسفيانان، ومحمد بن طلحة بن مُصَرِّف، وشريك.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقة ثبتٌ صالحٌ، وأخوه ربيع يقال: إنه لَمْ يكن بالكوفة في زمانه أفضل منه، وهما في عِدَاد الشيوخ، ليس حديثهم بكثير، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيٌّ ثقةٌ، وقال البخاري في "التاريخ": قال عليّ، عن سفيان: جامعٌ أحبُّ إليّ من عبد الملك بن أعين، وقال ابن حبان في "الثقات": جامع بن أبي راشد، ورُبّما رَوَى عنه شريك، فقال: جامع بن راشد، والصحيح ما قاله سفيان - يعني - وغيره: ابن أبي راشد.
أخرج له الجماعة، - وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (138)، وحديث (144): "فتنة الرجل في أهله
…
".
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَعْيَنَ) الكوفيّ، مولى بني شيبان، صدوقٌ شيعيّ، له حديث متابعةً [6].
رَوَى عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، وعبد الله بن شَدَّاد بن الهاد، وأبي وائل، وأبي حرب الأسود، وعبد الرَّحمن بن أُذَينة.
ورَوَى عنه ابن إسحاق، وإسماعيل بن سُمَيع، وعبد الملك بن أبي سليمان، والسفيانان، قال محمد بن المثنى: ما سمعتط ابن مهديّ يحدّث عن سفيان، عن عبد الملك بن أعين، وكان يُحدِّث عنه فيما أُخبرتُ، ثم أمسك، وقال الحميديّ، عن سفيان: حدثنا عبد الملك بن أعين شيعيّ، كان عندنا، رافضيّ، صاحب رأي، وقال الدُّورِيّ، عن ابن معين: ليس بشيء، وقال حامد، عن سفيان: هم ثلاثة إخوة: عبد الملك، وزُرَارة، وحُمْران، رَوَافِضُ كلهم، أخبثهم قولًا عبد الملك، وقال أبو حاتم: هو من أَعْتَى الشيعة، محله الصدق، صالح الحديث، يُكْتَب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكان يتشيع، وقال الساجيّ: كان يتشيع، ويُحْتَمَلُ في الحديث، وقال العجليّ: كوفيّ، تابعيّ، ثقة.
أخرج له الجماعة، وله عند الشيخين هذا الحديث فقط، أخرجاه له مقرونًا بجامع بن أبي راشد.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، و"شقيقٌ" هو: أبو وائل المذكور في السند السابق.
وقوله: (قَالَ عَبْدُ اللهِ) هو ابن مسعود رضي الله عنه، وهو موصولٌ بالسند المذكور.
وقوله: (مِصْدَاقَهُ) أي مِصداق الحديث، و"المِصْدَاق" بكسر أوله، مِفْعالٌ من الصدق، بمعنى الموافقة، قاله في "الفتح"، وقال في "القاموس": ومصداق الشيء: ما يُصَدِّقه. انتهى
(1)
.
(مِنْ كِتَابِ اللهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} إِلَى آخِرِ الْآيةِ [آل عمران: 77]، وتمام شرح الحديث، ومسائله تقدّما قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[365]
(139) - (حَدَّثَنَا قتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبيِ شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وَأَبُو عَاصِمٍ الْحَنَفِيُّ، وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُل مِنْ كِنْدَةَ، إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي، فِي يَدِي، أَزْرَعُهَا، لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ"، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ، لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْه، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ"، فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَدْبَرَ: "أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ؛ لِيَأْكَلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ").
(1)
"القاموس المحيط" ص 810.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(هنّاد بن السريّ) - بفتح السين المهملة، وكسر الراء الخفيفة - ابن مصعب بن أبي بكر بن شَبْر بن صَعْفُوق بن عَمْرو بن زُرَارة بن عبدس بن زيد بن عبد الله بن دارم التميميّ الدارميّ، أبو السَّرِيّ الكوفيّ، ثقة [10].
رَوَى عن عبد الرَّحمن بن أبي الزناد، وهشيم، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وأبي الأحوص، وحفص بن غياث، وعبدة بن سليمان، وغيرهم. ورَوَى عنه البخاري في "خلق أفعال العباد"، والباقون، وابن أخيه محمد بن السريّ بن يحيى بن السريّ، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأحمد بن منصور الرمادي، ومحمد بن عبد الملك الدقيقي، ومطين، وعبدان الأهوازي، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وغيرهم. قال أحمد بن حنبل: عليكم بهنّاد. وقال أبو حاتم: صدوق. وقال قتيبة: ما رأيت وكيعًا يُعَظّم أحدًا تعظيمه لهنّاد. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال السراج: قال هنّاد بن السريّ: وُلدت سنة اثنتين وخمسين ومائة، قال: ومات في ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين ومائتين. روى عنه البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (25) حديثًا.
2 -
(أَبُو عَاصمٍ الْحَنَفِيُّ) هو: أحمد بن جَوّاس - بفتح الجيم، وتشديد الواو، آخره سين مهملةٌ - الكوفيّ، ثقةٌ [10].
رَوَى عن أبي الأحوص، وعبد الله بن إدريس، وابن المبارك، وأبي معاوية، وأبي بكر بن عَيّاش، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وابن وَارَةَ، وأحسن الثناء عليه، وأبو بكر الأثرم، والحسن بن سفيان، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وقال: إنه لَمْ يُحَدّث إلَّا عن ثقة، وغيرهم، وقال مطيّن: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال مطيّن: مات لثلاث خَلَوْنَ من المحرم سنة (238).
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط: هذا (139)، و (290): "ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟
…
"، و (715): "فقضاني، وزادني
…
"، و (806): "بينما جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
".
3 -
(أَبُو الْأَحْوَصِ) هو: سلّام بن سُليم الحَنَفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
4 -
(سِمَاك) - بكسر أوّله، وتخفيف الميم - ابن حرب بن أوس بن خالد بن نِزَار بن معاوية بن حارثة الذُّهْليّ البكريّ، أبو المغيرة الكوفيّ، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصّةً مضطربة، وقد تغيّر بآخره، فكان ربّما يُلقَّن [4].
رَوَى عن جابر بن سمرة، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، والضحاك بن قيس، وثعلبة بن الحكم، وعبد الله بن الزبير، وطارق بن شهاب، وإبراهيم النخعي، وعبد الرَّحمن بن عبد الله بن مسعود، وغيرهم.
ورَوى عنه ابنه سعيد، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وداود بن أبي هند، وحماد بن سلمة، وشعبة، والثوري، وشريك، وغيرهم. قال حماد بن سلمة عنه: أدركت ثمانين من الصحابة. وقال عبد الرزاق عن الثوري: ما سقط لسماك حديث.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا نقله الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال"، واعترضه الحافظ، فقال: إنما قال الثوري هذا في سماك بن الفضل اليماني، وأما سماك بن حرب فالمعروف عن الثوري أنه ضعفه
(1)
. والله تعالى أعلم.
وقال صالح بن أحمد، عن أبيه: سماك أصح حديثًا من عبد الملك بن عمير. وقال أبو طالب عن أحمد: مضطرب الحديث. وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: ثقة. قال: وكان شعبة يُضَعِّفه، وكان يقول في التفسير: عكرمة، ولو شئت أن أقول له: ابن عباس، لقاله. وقال ابن أبي خيثمة: سمعت ابن معين سُئل عنه: ما الذي عابه؟ قال: أسند أحاديث لَمْ يُسندها غيره، وهو ثقة. وقال ابن عمار: يقولون: إنه كان يَغلَط، ويختلفون في حديثه. وقال العجلي: بكري جائز الحديث، إلَّا أنه كان في حديث عكرمة ربما وصل الشيء، وكان الثوري يضعفه بعض الضعف، ولم يَرْغَب عنه أحد، وكان فصيحًا، عالمًا بالشعر وأيام الناس. وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وهو كما قال أحمد. وقال
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 115.
يعقوب بن شيبة: قلت لابن المديني: رواية سماك عن عكرمة؟ فقال: مضطربة. وقال زكريا بن عدي عن ابن المبارك: سماك ضعيف في الحديث. وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصةً مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين، ومن سمع منه قديمًا، مثل شعبة، وسفيان، فحديثهم عنه صحيح مستقيم، والذي قاله ابن المبارك، إنما نَرَى أنه فيمن سمع منه بآخره. وقال النسائي: ليس به بأس، وفي حديثه شيء. وقال أيضًا: كان ربما لُقِّن، فإذا انفرد بأصل لَمْ يكن حجة؛ لأنه كان يُلَقَّن فيتلقن. وقال صالح جزرة: يُضَعَّف. وقال ابن خِرَاش: في حديثه لين. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ كثيرًا، مات في آخر ولاية هشام بن عبد الملك حين ولي يوسف بن عمر على العراق. وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": سئل أبو زرعة: هل سمع سماك من مسروق شيئًا؟ فقال: لا. وقال البزار في "مسنده": كان رجلًا مشهورًا، لا أعلم أحدًا تركه، وكان قد تغير قبل موته. وقال جرير بن عبد الحميد: أتيته فرأيته يبول قائمًا، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خَرِفَ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: البول قائمًا لا يكون سببًا لتضعيف الشخص؛ لأنه جائز شرعًا، ولعل جريرًا قام عنده من القرينة ما يدلّ على خَرَف سماك، فتحاشاه لذلك، لا لمجرّد البول قائمًا، فليُتأمّل. والله تعالى أعلم.
وقال ابن عدي: ولسماك حديث كثير مستقيم - إن شاء الله - وهو من كبار تابعي أهل الكوفة، وأحاديثه حسان، وهو صدوق لا بأس به. وقال ابن قانع: مات سنة 123.
أخرج له البخاري في التعاليق، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب (62) حديثًا.
5 -
(عَلْقَمَةَ بْنُ وَائِلٍ) بن حُجْر الحَضرميّ الكِنديّ الكوفيّ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وطارق بن سُويد على خلاف فيه.
وروى عنه أخوه عبد البربار، وابن أخيه سعيد بن عبد البربار، وعبد الملك بن عُمير، وعمرو بن مُرَّة، وسِمَاك بن حَرْب، وإسماعيل بن سالم،
وجامع بن مَطَر، وسَلَمة بن كُهَيل، وموسى بن عُمير العنبريّ، وقيس بن سُلَيم العنبريّ، وأبو عُمَر العائذيّ.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة، وقال: كان ثقةً قليلَ الحديث، وحَكَى العسكري عن ابن معين أنه قال: علقمة بن وائل، عن أبيه مرسلٌ.
أخرج له البخاري في "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، والأربعة وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث: هذا (139) وأعاده بعده، وحديث (401): "سمع الله لمن حمده
…
"، و (1680): "أقتلته؟ فقال: إنه لو لَمْ يعترف
…
"، وأعاده بعده، و (1846): "اسمعوا، وأطيعوا، فإنما عليهم
…
"، و (1984): "إنه ليس بدواء
…
"، و (2135): "إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم
…
"، و (2248): "لا تقولوا: الكرم
…
"، وأعاده بعده.
[تنبيه]: ما حَكاه العسكري عن ابن معين من أن علقمة بن وائل، عن أبيه مرسلٌ، وكذا نصّ عليه في "التقريب"(ص 243)، وقال: لَمْ يسمع من أبيه، وفيه نظر؛ لأمرين:
[أحدها]: أنه صحّ سماعه من أبيه، فقد أخرج مسلم، والنسائيّ، وجمعٌ أحاديثَ صرّح فيها بالسماع من أبيه:
(فمنها): ما أخرجه مسلم في "كتاب القسامة"(1680)، حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبريّ، حدثنا أبي، حدثنا أبو يونس، عن سِمَاك بن حرب، أن علقمة بن وائل حدثه، أن أباه حدثه، قال: "إني لقاعد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنِسْعَةٍ
…
"الحديث، فقد صرّح بأن أباه حدّثه.
(ومنها): ما أخرجه البخاريّ في "جزء رفع اليدين"(ص 6 - 7)، قال: حدّثنا أبو نعيم الفضل بن دُكين، أنبأنا قيس بن سُليم العَنبريّ، قال: "سمعت علقمة بن وائل بن حجر، حدثني أبي، قال: صلّيتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكبّر افتتح الصلاة
…
"الحديث، وهذا إسناد صحيح، متصلٌ بالسماع.
(ومنها): ما أخرجه النسائيّ في "سننه"(1045)، فقال:
أخبرنا سُويد بن نصر، قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك، عن قيس بن سُلَيم العنبريّ، قال: حدثني علقمة بن وائل، قال: حدثني أبي، قال: "صليت
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع
…
" الحديث، فقد صرّح أيضًا بأن أباه حدّثه.
[الثاني]: أن الأئمة خالفوا ما ذُكر عن ابن معين، فنصّوا على أن علقمة سمع من أبيه، فمنهم: الإمام البخاريّ رحمه الله، فقد نصّ في "التاريخ الكبير"(7/ 41) على أن علقمة بن وائل سمع أباه.
ومنهم: الإمام الترمذيّ رحمه الله، فقال في "جامعه" بعد أن أخرج حديث علقمة بن وائل عن أبيه (1454) في "الحدود": هذا حديث حسنٌ غريبٌ صحيح، وعلقمة بن وائل بن حجر، سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبّار بن وائل، وعبد الجبّار لَمْ يسمع من أبيه.
ومنهم: الإمام ابن حبّان في "ثقاته"، قال: علقمة سمع أباه، وعبد الجبّار لَمْ يرَه، مات أبوه وأمه حامل به. انتهى
(1)
.
وأما ما نقله في "نصب الراية" عن الترمذيّ في "علله الكبير"، قال: سألت محمد بن إسماعيل: هل سمع علقمة من أبيه؟ فقال: إنه وُلد بعد موت أبيه بستة أشهر، فإنه غلطٌ بلا شكّ، فإن هذا إنما قاله البخاريّ في أخيه عبد الجبّار، كما نصّ عليه في "التاريخ الكبير"(6/ 106 و 107)، وقد نقل الترمذيّ نفسه هذا أيضًا عن البخاريّ، فقال في "الجامع" عقب الحديث الذي أخرجه فيه (1453) ما نصّه: وسمعت محمدًا - يعني: البخاريّ - يقول: عبد الجبّار بن وائل لَمْ يسمع من أبيه، ولا أدركه، يقال: إنه وُلد بعد موت أبيه بأشهر.
والحاصل أن الراجح صحّة سماع علقمة من أبيه؛ لِمَا ذُكر من الأدلّة الصحيحة الواضحة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم إن ما قيل: إن عبد الجبّار وُلد بعد موت أبيه يعكُرُ عليه ما أخرجه أبو داود في "سننه"(723) من طريق محمد بن جُحَادة، حدثني عبد الجبار بن وائل بن حُجْر، قال: كنت غلامًا لا أَعْقِل صلاة أبي، قال: فحدّثني وائل بن علقمة، عن أبي وائل بن حجر، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا كبّر
(1)
"الثقات" لابن حبّان 5/ 209.
رفع يديه
…
الحديث، وهذا الإسناد صحيح، فقد أثبت أنه وُلد في حياة أبيه، لكنه لا تمييز عنده في ذلك الوقت، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
6 -
(وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون الجيم - ابن سَعَد بن مسروق بن وائل بن ضمْعَج بن رَبِيعة بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عَوْف الحضرميّ، أبو هُنَيدة، ويقال: أبو هِنْد الكِنْديّ، ويقال غير ذلك في نسبه.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابناه: علقمة، وعبد الجبار، ومولى لهم، وأمُّ يحيى زوجته، وكليب بن شهاب، وحُجْر بن عَنْبَس، وأبو حَرِيز، وعبد الرَّحمن اليَحْصُبيّ.
قال أبو نعيم الأصبهانيّ: قَدِمَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزله، وأصعده معه على المنبر، وأقطعه القطائع، وكتب له عَهْدًا، وقال: هذا وائل بن حُجْر سيد الأقيال، جاءكم حُبًّا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. سَكَنَ الكوفةَ، وعَقِبُه بها، وذكره ابن سعد فيمن نزل الكوفة من الصحابة، وقال ابن حبان في "الصحابة": كان بقيةَ أولاد الملوك بحضرموت، وبشَّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل قُدُومه، وأقطعه أرضًا، وبعث معه معاوية؛ ليُعرّفه بها، قال: فقال لي معاوية: أَرْدفني، قلتُ: إنك لا تكون من أرداف الملوك، قال: أعطني نعلك، فقلتُ: انتعل ظلّ الناقة، قال: فلما استُخلف أتيته، فأقعدني معه على السرير، فذكّرني الحديث، فقلتُ في نفسي: ليتني حملته بين يديّ، ومات في ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم
(1)
.
أخرج له البخاريّ في "جزء القراءة"، والمصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب ستّة أحاديث: هذا (139) وأعاده بعده، وحديث (401): "سمع الله لمن حمده
…
"، و (1680): "أقتلته؟ فقال: إنه لو لَمْ يعترف
…
"، وأعاده بعده، و (1846): "اسمعوا، وأطيعوا، فإنما عليهم
…
"، و (1984): "إنه ليس بدواء
…
"، و (2248): "لا تقولوا: الكرم
…
"، وأعاده بعده، والله تعالى أعلم.
(1)
"الإصابة" 6/ 466 - 467، و"سير أعلام النبلاء" 2/ 573 - 574، و"تهذيب التهذيب" 4/ 304.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.
2 -
(ومنها): أنه مسلسل بالكوفيين.
3 -
(ومنها): أن فيه روايةَ تابعيّ عن تابعيّ: سماك، عن علقمة، ورواية الابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ) وائل بن حُجْر رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ) - بفتح الحاء المهملة، وسكون الضاد المعجمة، وفتح الراء والميم -: بُلَيْدة من اليمن بقرب عَدَن، قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال في "اللسان":"حَضْرَمَوْتُ": اسم بلد، قال الجوهريّ: وقَبِيلةٌ أيضًا، وهما اسمان جُعِلا واحدًا، إن شئتَ بَنيت الاسم الأولَ على الفتح، وأَعْرَبت الثاني إعراب ما لا ينصرف، فقلتَ: هذا حَضْرَموتُ، وإن شئتَ أضفتَ الأول إلى الثاني، فقلتَ: هذا حَضْرَمَوْتٍ، أعربتَ حَضْرًا، وخفضت موتًا، وكذلك القولُ في سامَّ أَبْرَص، ورَامَهُرْمُز، والنسبة إليه حَضْرميّ، والتصغير حُضَيْرُمَوْتٍ، تُصغِّر الصدر منهما، وكذلك الجمع، تقول: فلانٌ من الْحَضَارِمة. انتهى
(2)
.
(وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ) - بكسر الكاف، وسكون النون -: حيّ باليمن، والنسبة إليها كِنْديّ بسكون النون: أبو قبيلة من العرب، وقيل: أبو حيّ من اليمن، وهو كِنْدة بن ثَوْر، قاله في "اللسان"
(3)
.
وقال في "القاموس": و"كِنْدَةُ" بالكسر، ويقال: كِنْديّ: لقب ثَوْر بن عُفير، أبو حيّ من اليمن؛ لأنه كَنَدَ أباه النعمة، ولَحِقَ بأخواله، و"الكَنْدُ": القطع. انتهى
(4)
.
وقال في "الأنساب": "الكِنْديّ - بالكسر - نسبة إلى كندة، وهي قبيلة
(1)
"المصباح المنير" 1/ 140.
(2)
"لسان العرب" 4/ 202.
(3)
"لسان العرب" 3/ 382.
(4)
"القاموس المحيط" ص 286.
كبيرة مشهورة من اليمن، واسم كندة الذي تنسب إليه القبيلة ثور بن مرتع بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، وقيل: هو ثور بن عُفَير بن محمديّ بن الحارث بن مُرّة بن أدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ". انتهى
(1)
.
(إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ هَذَا) مشيرًا إلى الرجل الكِنْديّ (قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي) أي: غصبها منّي قهرًا، وفي الرواية التالية:"إن هذا انتزى على أرضي"، وهو بمعنى: غلب، من النزو، وهو الارتفاع
(2)
. (كَانَتْ لِأَبِي، فَقَالَ) الرجل (الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي) أي: ملك لي (فِي يَدِي) أي: تحت تصرّفي (أَزْرَعُهَا) من باب فتح: أي: أحرُثها للزارعة (لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ ") أي: شهود يشهدون لك بأنها أرضك، وفي الرواية التالية:"بيّنتك"، أي: المثبت لحقّك بيّنتك (قَالَ) الحضرميّ (لَا)، وفي الرواية التالية:"ليس لي بيّنة"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلَكَ يَمِينُهُ") الفاء في جواب شرط مقدَّر، أي إذا لَمْ تكن لك بيّنة، على ذلك، فكائن لك يمينه، أي: حلفه على أنَّها ليست لك، وإنما هي ملكه، (قَالَ) الحضرميّ (يَا رَسُولَ الله، إِن الرَّجُلَ) أي: الكنديّ (فَاجِرٌ) أي: كاذبٌ جريء على الكذب، وفي الرواية التالية:"إذن يذهب بها"، وقوله:(لَا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ) صفةٌ كاشفة لـ "فاجرٌ"، (وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ) أي: مع هذا إنه ليس عنده وَرَعٌ، يقال: تورعَّ من كذا: إذا تحرّج
(3)
، وقال القرطبيّ: الورعُ: الكفّ، ومنه قولهم: رَوِّعُوا اللصّ، ولا تورِّعُوه؛ أي: لا تنكفّوا عنه
(4)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَيْسَ لَكَ مِنْهُ) أي: من خصمك الكِنديّ (إِلَّا ذَلِكَ")، وفي الرواية التالية:"إلَّا ذاك"، أي: غير يمينه (فَانْطَلَقَ) أي: ذهب الكنديّ (لِيَحْلِفَ) أي: على قصد أن يحلف (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَدْبَرَ) أي: حين وَلَّى على هذا القصد، وفي الرواية التالية:"فلما قام ليحلف"("أَمَا) - بفتح الهمزة، وتخفيف
(1)
"الأنساب" 5/ 104 - 105، و"اللباب" 3/ 115 - 116.
(2)
"المفهم" 1/ 347.
(3)
"القاموس" ص 693.
(4)
"المفهم" 1/ 349.
الميم: أداة استفتاح وتنبيه، كـ "إلا" - (لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ) أي: مال الحضرميّ (لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ) أي: إعراض الغضبان، وفي الرواية التالية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع أرضًا ظالِمًا، لقي الله، وهو عليه غضبان"، وقد سبق أن الإعراض، والغضب مما أثبته هذا الحديث الصحيح، وغيره من نصوص الكتاب والسنة، فالواجب أن نؤمن به على ظاهره، كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نؤوّل، ولا نكيّف، ولا نعطّل، فلا تلتفت لما كتبه الشرَّاح هنا، كالقرطبيّ وغيره، فإنه مذهب مخالف لمنهج السلف، كما أسلفته قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث وائل بن حُجْر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[64/ 365 و 366](139)، و (أبو داود) في "الإيمان والنذور"(3245)، و"الأقضية"(3623)، و (الترمذيّ) في "الإحكام"(1340)، و (النسائيّ) في "القضاء" من "الكبرى"(5989 و 5990)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 317)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5074)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 148)، و"مشكل الآثار"(4/ 248)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(6002 و 6003)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(358 و 359)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 144 و 179 و 254)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم اقتطاع حقّ مسلم بيمين فاجرة، وأن ذلك ينافي الإيمان، وهو وجه المطابقة لإيراده هنا.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً لمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وجماهير العلماء أن حكم الحاكم لا يُبيح للإنسان ما لَمْ يكن له، خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقد تقدّم ردّه.
3 -
(ومنها): بيان أن صاحب اليد أولى من أجنبيّ يَدَّعي عليه، وأنه لا يُنتزع الشيء المُدَّعَى من يده لمجرّد الدعوي، ولا يُسأل عن سبب يده، ولا عن سبب ملكه.
4 -
(ومنها): أن المدعي يلزمه إقامة البيّنة، فإن لَمْ يُقمها لزم المُدَّعَى عليه اليمين، وهذا أمر متّفقٌ عليه، وهو مستفادٌ من هذا الحديث.
قال القرطبيّ رحمه الله: فأما ما يُروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله: "البيّنة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر"، فليس بصحيح الرواية
(1)
؛ لأنه يدور على مسلم بن خالد الزنجي، ولا يُحتجّ به، لكن معنى متنه صحيحٌ بشهادة الحديث المتقدّم له، وبحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما الذي قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيه:"ولكن اليمين على من أنكر". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
5 -
(ومنها): أن البينة تُقَدَّم على اليد، ويُقْضَى لصاحبها بغير يمين.
6 -
(ومنها): أن يمين الفاجر المُدَّعَى عليه تُقْبَل كيمين العدل، وتَسْقُط عنه المطالبة بها.
7 -
(ومنها): أن من نسب خصمه إلى الغصب حالة المحاكمة لَمْ يُنكر الحاكم عليه، قال القرطبيّ: إلَّا أن يكون المقول له ذلك لا يليق به. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في تقييد القرطبيّ نظر؛ لأنه يخالفه
ظاهر هذا الحديث، ولأننا أسلفنا ما جرى للعبّاس في حقّ عليّ أمام عمر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينكره عليه أحد منهم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن في قوله: "إن الرجل فاجرٌ، لا يُبالي ما حلف عليه
…
إلخ" دليلٌ على أن ما يجري بين المتخاصمين في مجلس الحكم من مثل هذا السبّ، والتقبيح جائزٌ، ولا شيء فيه؛ إذ لَمْ يُنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، والجمهور لا يُجيزون شيئًا من ذلك، ويَرون إنكار ذلك،
(1)
الحديث ضعيف الإسناد، لكنه صحيح بشواهده كما قال، انظر ما كتبه الشيخ الالبانيّ رحمه الله في:"إرواء الغليل"(8/ 265 - 267).
(2)
"المفهم" 1/ 348 - 349.
(3)
"المفهم" 1/ 348.
ويؤدّبون عليه؛ تمسّكًا بقاعدة تحريم السباب، والأَعْراض، واعتذروا عن هذا الحديث بأنه مُحتمِلٌ لأن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِمَ أن المقول له ذلك القول كان كما قيل فيه، فكان القائل صادقًا، ولم يقصِدْ أذاه بذلك، وإنما قصد منفعةً يستخرجها، فلعلّه إذا شنَّعَ عليه، فقد ينزجر بذلك، فيرجع به للحقّ، ويحتمل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم تركه، ولم يزجُرْهُ؛ لأن المقول له لَمْ يطلُب حقّه في ذلك، قاله القرطبيّ أيضًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذهب إليه الجمهور فيه نظر لا يخفى؛ إذ هو خلاف ظواهر النصوص، فمن تأمّل الخصومات التي جرت بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين وجدها مخالفة له، كهذا الحديث، وكما أسلفناه من قصّة العباسّ وعليّ رضي الله عنهما، فالصواب ما ذهب إليه بعضهم من القول بجواز مثل ذلك؛ لِمَا ذكرناه، وأما الاحتمالات التي ذكروها، فليست مما يعارض بها ما دلّ عليه ظاهر النصوص، وأما قولهم: فقد ينزجر بذلك، ويرجع للحقّ، فليس كذلك، بل يزيده السبّ والشتم، والطعن علي التمادي في المخاصمة، لا العكس، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): أن فيه حُجّةً لمن لا يشترط الخُلطة في توجّه اليمين على المُدَّعَى عليه، وقد اشترط ذلك مالك رحمه الله، واعتُذِر له عن هذا الحديث بأنها قضيّة في عين، ولعلّه صلى الله عليه وسلم علم بينهما خُلْطةً، فلم يُطالبه بإثباتها، قاله القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي نُسب إلى مالك رحمه الله فيه نظرٌ لا يخفي، والاعتذار المذكور مما لا ينفع، فالظاهر ما دلّ عليه الحديث من إطلاق الحكم، فتأمّله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
10 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن المُدّعي لا يلزمه تحديد المُدَّعى به إن كان مما يُحَدُّ، ولا أن يَصفه بجميع أوصافه، كما يوصَف المُسْلَمُ فيه، بل يكفي من ذلك أن يتميّز المُدَّعَى به تميُّزًا تنضبط به الدعوي، وهو مذهب مالك سبحانه وتعالى، خلافًا لما ذهبت إليه الشافعيّة، حيث ألزموا المُدَّعي أن يَصِفَ المدَّعَى به بحدوده، وأوصافه المعيّنة التامّة، كما يوصف المُسْلَم فيه، وهذا
الحديث حجّة عليهم، إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لَمْ يُكلّفه تحديد الأرض، ولا تعيينها، بل لَمّا كانت الدعوى متميِّزةً في نفسها اكتفَى بذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة هو الأرجح عندي؛ لظاهر الحديث، والله تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): أنه يدلّ على اشتراط العدد في الشهادة، وعلى انحصار طُرُق الحِجَاج في الشاهد واليمين ما لَمْ يَنْكُل المُدَّعى عليه عن اليمين، فإن نكل حَلَف المُدَّعي مع شاهد واحد، واستحقّ المُدَّعى فيه، فإن نكل فلا يُحكم، بل يُترك المُدَّعَى فيه في يد من كان بيده، وسيأتي تحقيق الكلام في الشاهد واليمين في محلّه، إن شاء الله تعالى.
12 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فانطلق ليحلف" دليل على أن اليمين لا تُبذَل أمام الحاكم، بل لها موضع مخصوص، وهو أعظم مواضع ذلك البلد، كالبيت بمكّة، ومِنبر النبيّ رحمه الله بالمدينة، ومسجد بيت المقدس، وفي المساجد الجامعة من سائر الأمصار، لكن ذلك فيما ليس بتافه، وهو ما تُقطع فيه يد السارق، وهو أقلّ من ربع دينار عند مالك رحمه الله، فيحلف فيه حيث كان، مستقبل القبلة، وفي ربع دينار، فصاعدًا لا يَحلف إلَّا في تلك المواضع، وخالفه في ذلك أبو حنيفة رحمه الله في ذلك، فقال: لا تكون اليمين إلَّا حيث كان الحاكم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي في استنباط قوله: إن اليمين لا تُبذل أمام الحاكم، بل لها موضع مخصوص من هذا الحديث نظرٌ؛ إذ ليس فيه ما يدلّ على تعيّن هذه الأماكن، فالظاهر أن ما قاله الإمام أبو حنيفة رحمه الله هو الأرجح، فتأمّله، والله تعالى أعلم.
13 -
(ومنها): أن المدّعَى عليه إذا حَلَفَ انقطعت حجّة رحمه الله، وبقي المدّعَى فيه بيده، وفي ملكه في ظاهر الأمر، غير أنه لا يَحكم له الحاكم بملك ذلك، فإن غايته أنه جائزٌ، ولم يجد ما يُزيله عن حَوْزه، فلو سأل المطلوب
(1)
"المفهم" 1/ 350.
تعجيز الطالب، جحيث لا تبقى له حجةٌ، فهل للحاكم تعجيزه، وقطع حجته، أم لا؟ قولان بالنفي والإثبات، قاله القرطبيّ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالنفي هو الحقّ عندي؛ لأن يمين المدّعَى عليه مجرّد دفاع عن نفسه، لا إبطالٌ لحقّ خصمه، فلو وَجَدَ بعد ذلك حجة استحقّ عليه المدّعي، فتفّطن، والله تعالى أعلم.
14 -
(ومنها): أن الوارث إذا ادَّعَى شيئًا لِمُوَرِّثه، وعَلِمَ الحاكم أن مُوَرِّثه مات، ولا وارث له سوى هذا المدَّعِي جاز له الحكم به، ولم يُكَلِّفه حال الدعوى بينة على ذلك، وموضع الدلالة أنه قال: غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقد أقر بأنها كانت لأبيه، فلولا علم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه وَرِثَها وحده لطالبه بينة على كونه وارثًا، ثم بيّنةً أُخرى على كونه مُحِقًّا في دعواه على خصمه.
[فإن قال قائل]: قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك" معناه: شاهداك على ما تستحقّ به انتزاعها، وإنما يكون ذلك بأن يشهدا بكونه وارثًا وحده، وأنه وَرِثَ الدار.
[فالجواب]: أن هذا خلاف الظاهر، ويجوز أن يكون مرادًا، قاله النووي رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ من كون هذه الشهادة خلاف الظاهر، فيه نظر لا يخفي، بل الظاهر أنَّها لإثبات استحقاقه، وأن ما ادّعاه من كونها أرض أبيه، وأنه الوارث هو الظاهر.
ولقد أجاد القرطبيّ رحمه الله حيث قال: وظاهر هذا الحديث أن والد المدَّعِي قد كان تُوفّي، وأن الأرض صارت للمدَّعي بالميراث، ومع ذلك فلم يطالبه النبيّ صلى الله عليه وسلم بإثبات الموت، ولا بحصر الورثة، فيحتمل أن يقال: إن ذلك كان معلومًا عندهم، ويحتمل أن يقال: لا يلزمه إثبات شيء من ذلك ما لَمْ يناكره خصمه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الظاهر، فلا يُعدَلُ عنه إلَّا لدليل أظهر منه.
والحاصل أن الحاكم يطالب المدّعي البيّنة على إثبات كونه صادقًا في
(1)
"المفهم" 1/ 347 - 348.
دعواه، وأنه يستحقّ الشيء المُدّعَى على المدعَى عليه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فتأمّله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
15 -
(ومنها): أن يمين الفاجر تُسقط عنه حكم دعوى المدَّعى، كيمين من ليس بفاجر، وأنه ليس يجري يمينه مجرى شهادته.
16 -
(ومنها): أن الفاجر في دينه لا يوجب فجوره الحجر عليه، ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك لَمْ يكن لليمين معنًى.
17 -
(ومنها): أن من جاء بالبيّنة قُضي له بحقّه من غير يمين؛ لأنه محالٌ أن يسأله دون ما يجب له الحكم به، ولو كان من تمام الحكم اليمينُ لقال له: بيّنتك ويمينك على تصديق بيّنتك.
18 -
(ومنها): أن البداية بالسماع من الطالب، ثم السماع من المطلوب، هل يُقِرّ، أو يُنكر؟ كما جاء في الحديث، ثم طلب البيّنة من الطالب إذا أنكر المطلوب، ثم توجيه اليمين على المطلوب إذا لَمْ يجد الطالب بيّنةً.
19 -
(ومنها): أن الخصم إذا اعترف أن المُدَّعى فيه في يد خصمه، استُغني باعترافه عن تكليف خصمه إثبات كون يده عليه؛ لقول الحضرميّ:"إن هذا غلبني على أرض لي"، فقال الآخر:"أرضي في يدي أزرعها"، فلم يكلّفه النبيّ صلى الله عليه وسلم إثباتًا.
20 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الزراعة يدٌ وحَوْزٌ، فمن ثبت أنه يزرع أرضا، فقد ثبت أنَّها في يده.
21 -
(ومنها): أن فيه وعظَ الحاكم الحالف، عساه أن يكون يَحلف باطلًا، فيرُدّه وعظه إلى الحقّ، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قام الحضرميّ ليحلف.
22 -
(ومنها): أن فيه التنبيهَ على سورة سؤال الحاكم الطالبَ بأن يقول له: "ألك بيّنة؟ "، ولا يقول له: قرّب بيّنتك؛ إذ قد لا تكون له بيّنة، وإلى هذا ذهب بعض حُذّاق الجدليين، والنظريين في سؤال أحد المتناظرين صاحبه عن مذهبه، ودليله بأن يقول له: ألك دليلٌ على قولك؟، فإن قال: نعم، سأله عنه ما هو؟، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلّانيّ، ولم يرَه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ.
23 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن من ادُّعي عليه دعوى في مالٍ وَرِثَهُ، أو صار إليه من غيره أن يمينه على نفي علم دعوى المُدّعِي، كما ذُكر في زيادة
أبي داود
(1)
، لا على القطع إلَّا أن يدّعي عليه خصمه معرفة ذلك.
24 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل على أن الكفّار إذا أسلموا، وفي أيديهم أموالٌ لغيرهم من أهل الكفر غصبُوها أنَّها ترجع إلى أربابها، بخلاف ما أسلموا عليه من أموال المسلمين؛ لتقرّر ملكهم لها باستحلالهم أموالنا، خلافًا للشافعيّ في قوله: ترجع إلى أربابها من المسلمين، ولا تُملَك عليهم، وقد يَحتجّ بهذا الحديث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما ذهب إليه الإمام الشافعيّ رحمه الله في هذه المسألة، وهو أن أن الكفّار إذا أسلموا وفي أيديهم أموال للمسلمين، فإنها تردّ على أصحابها عندي أرجح؛ لهذا الحديث، فإنه حجة ظاهرة، حيث إن النبيّ صلى الله عليه وسلم طلب بيّنة، أو يمين المدَّعى عليه، وقد قال المدَّعي في دعواه: إنه انتزى على أرضه في الجاهليّة، فلو كانت لا تُردّ، لما كان لقوله:"ألك بيّنة؟ " مَعْنًى، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
25 -
(ومنها): أنه دليلٌ على أن الخصم الصالح والطالح في سيرة الحكم سواء بمطالبة الطالب بالبيّنة، والمطلوب باليمين. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[366]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي الْوَلِيد، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبدِ الْمَلِك، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ
(1)
حديث صحيحٌ. أخرجه أبو داود في "سننه"(3244) من طريق الحارث بن سليمان، حدثني كردوس، عن الأشعث بن قيس، أن رجلًا من كندة، ورجلًا من حضرموت، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا، وهي في يده، قال:"هل لك بينة؟ " قال: لا، ولكن أُحَلِّفه، والله يعلم أنَّها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يقتطع أحد مالًا بيمين، إلَّا لقي الله، وهو أجذم"، فقال الكنديّ: هي أرضه.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 549.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَاهُ رَجُلَان، يَخْتَصِمَانِ فِي أَرْضٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنَّ هَذَا انْتَزَى عَلَى أَرْضِي، يَا رَسُولَ الله، فِي الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيُّ، وَخَصْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ، قَالَ:"بَيِّنَتُكَ"، قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ، قَالَ:"يَمِينُهُ"، قَالَ: إِذَنْ يَذْهَبَ بِهَا، قَالَ:"لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَاكَ"، قَالَ: فَلَمَّا قَامَ لِيَحْلِفَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضًا ظَالِمًا، لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ"، قَالَ إِسْحَاقُ فِي رِوَايَتِهِ: رَبِيعَةُ بْنُ عَيْدَانَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الْوَليد، هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ) الباهليّ مولاهم الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227) وله (94) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 63.
2 -
(أَبُؤ عَوَانَةَ) الوضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزّاز، مشهور بكنيته، ثقة ثبتٌ [7](ت 175)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الكوفيّ الفَرَسِيّ، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حفظه، وربّما دلّس [3](ت 136) وله (103)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (انْتَزَى عَلَى أَرْضِي) أي: غلب عليها، واستولي، وقال أبو نعيم رحمه الله: يعني: وَثَبَ، من النَّزَوان. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "انتزَى": افتَعَلَ من النَّزْو، والانتزاءُ، والتنَزّي أيضًا: تسرّع الإنسان إلى الشرّ. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: "انتزى": أي: أخذها، وأصل النَّزْوِ: الْوَثْبُ، ثم كثُر استعمالهم له في كلّ ما أشبهه، فاستعملوه في الجماع، فقالوا: نَزَا الفحلُ على الأنثى، واستعملوه في كلّ مَنْ حَصَلَ على أمر من سلطان، أو خرج عليه، ونحو هذا. انتهى
(3)
.
(1)
"المستخرج على صحيح مسلم" 1/ 206.
(2)
"النهاية" 5/ 44.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 552 - 553.
وقوله: (فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هو: ما قبل النبوّة؛ لكثرة جهلهم، قاله النوويّ رحمه الله، وقال ابن الأثير:"الجاهليّة": هي الحال التي كانت عليه العرب قبل الإسلام، من الجهل بالله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وشرائع الدين، والمفاخرة بالأنساب، والكِبْر، والتجبّر، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَهُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ) بباء موحَّدة، وسين مهملة.
وقوله: (رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ) هكذا النسخ التي بين أيدينا من "صحيح مسلم" هنا من رواية زُهير: "عِبْدان" بالموحّدة، وفي كلام إسحاق الآتي:"عَيْدَان" بالياء المثنّاة، وصوّبه القاضي عياض رحمه الله، ودونك نصّه: قال رحمه الله: "ربيعة بن عَيْدَان" بفتح العين المهملة، وياء باثنتين تحتها، هذا صوابه، واختَلَفت الرواية فيه في مسلم، فقال زُهير:"ربيعة بن عِبْدَان" بكسر العين، وباء بواحدة، وقال ابن راهويه:"عَيْدَان" على الصواب كما تقدّم، كذا ضبطناه في الحرفين عن شُيُوخنا، ووقع عند ابن الحَذّاء عكس ما ضبطناه، فقال في رواية زُهير:"عَيْدَان"، بالفتح، والياء باثنتين، وفي رواية إسحاق بن راهويه:"عِبْدَان" بالكسر، والباء بواحدة، عكس ما تقدّم، قال الجيّاني: وكذا في الأصل عن الجلوديّ.
قال: والذي صوّبناه أَوّلًا هو قول الدارقطنيّ، وكذا قيّده هو وأبو نصر ابن ماكولا في "المؤتلف"، وابن يونس في "التاريخ"، وكذا قاله عبد الغنيّ بن سعيد، قال: ويقال فيه: "عِبْدَان". انتهى كلام القاضي رحمه الله
(2)
.
وقال النوويّ بعد كلام عياض، ما نصُّهُ: وضبطه جماعة من الحفاظ، منهم الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الدِّمَشقيّ:"عِبِدّان" بكسر العين، والموحدة، وتشديد الدال. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: ربيعة بن عَيْدان الحَضْرميّ معروف بهذا الحديث، له صحبة، ولا تُعرف له رواية، قال في "الإصابة": ربيعة بن عَيْدَان - بفتح المهملة، وسكون التحتانيّة، على المشهور - ابن ذي العُرْف بن وائل بن ذي طَوَاف الحضرميّ،
(1)
"النهاية" 1/ 323.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 553 - 554.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 161.
ويقال: الكنديّ، ثم ذكر هذا الحديث من رواية الطبرانيّ، ثم قال: وأصله في مسلم من حديث علقمة دون تسميتهما، وله طرُقٌ، وقال أبو سعيد بن يونس: شهد ربيعة بن عَيْدَان بن ربيعة الأكبر بن عَيْدان الأكبر بن مالك بن زيد بن ربيعة الحضرمي فتحَ مصرَ، وله صحبة، وليست له رواية نعلمها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وأصله في مسلم
…
إلخ" هذا غريب من الحافظ رحمه الله، كيف خَفِي عليه؟ فإن هذا الحديث الذي عزاه إلى الطبرانيّ موجود في "صحيح مسلم" بسنده، ومتنه، وفيه تسميتهما، وهو الحديث الذي نشرحه الآن، سبحان من لا يسهو، ولا يَغفُل!!!.
وقوله: (إِذَنْ يَذْهَبَ بِهَا) تقدَّم أن نصب"يذهبَ " هو الأصل؛ لوجود شروط عمل "إذن"، وقد جوّز بعضهم الرفع، فراجع الحديث الماضي.
وقوله: (فَلَمَّا قَامَ لِيَحْلِفَ) استدلّ به بعضهم على أن الحالف يكون قائمًا، لكن في قيامه هنا احتمالٌ، هل لنفس اليمين، أو لينهض لموضعها، كما تقدّم، قاله عياض رحمه الله
(2)
.
وقوله: (قَالَ إِسْحَاقُ) هو ابن راهويه أحد شيخي المصنّف في هذا الحديث.
(رَبِيعَةُ بْنُ عَيْدَانَ) أي بفتح العين، وسكون الياء التحتانيّة بدل قول زُهير بن حرب:"ربيعة بن عِبْدَان" بكسر العين، وسكون الباء الموحدة، وقد سبق أن الضبط الأول هو الصواب، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(65) - (بَابُ مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِه، فَهُوَ شَهِيدٌ)
[367]
(140) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا خَالِدٌ؛ يَعْني: ابْنَ مَخْلَدٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ
(1)
"الإصابة" 2/ 392.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 548 - 549.
إِنْ جَاءَ رَجُلٌ، يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟، قَالَ:"فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ"، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ"، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأَنْتَ شَهِيدٌ"، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو كُرَيْب، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(خالد بن مَخْلد) القَطَوَانيّ - بفبح القاف والطاء - أبو الهَيْثَم البجليّ مولاهم الكوفيّ، وقَطَوَان موضع بالكوفة، صدوقٌ يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10].
رَوَى عن سليمان بن بلال، وعبد الله بن عُمر العُمَريّ، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، ومالك، وعبد الرَّحمن بن أبي الموال، وإسحاق بن حازم المدني، وغيرهم.
ورَوَى عنهْ البخاري، وروى له مسلم، وأبو داود في "مسند مالك"، والباقون بواسطة محمد بن عثمان بن كَرَامة، وأبي كريب، وابن نمير، والقاسم بن زكريا، وعبد بن حميد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن عثمان بن حكيم الأودي، وجماعة.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: له أحاديث مناكير. وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه. وقال الآجري عن أبي داود: صدوقٌ، ولكنه يَتَشَيَّع. وقال عثمان الدارمي عن ابن معين: ما به بأس. وقال ابن عديّ: هو من المكثرين، وهو عندي - إن شاء الله - لا بأس به. وقال أيضًا بعد أن ساق له أحاديث: لَمْ أجد في حديثه أنكر مما ذكرته، ولعلها تَوَهُّمًا منه، أو حملًا على حفظه. وقال ابن سعد: كان متشيعًا منكر الحديث مُفْرِطًا في التشيع، وكتبوا عنه للضرورة. وقال العجلي: ثقة، فيه قليل تشيع، وكان كثير الحديث. وقال صالح بن محمد جَزَرَة: ثقة في الحديث، إلَّا أنه كان مُتَّهَمًا بالغلوّ. وقال الجوزجاني: كان شَتّامًا مُعْلِنًا لسوء مذهبه. وقال الأعين: قلت له: عندك أحاديث في مناقب الصحابة؟ قال: قل: في المثالب، أو المثاقب - يعني: بالمثلثة، لا بالنون -. وحكى أبو الوليد الباجي في رجال البخاري، عن أبي حاتم أنه قال: لخالد بن
مَخْلَد أحاديث مناكير، ويكتب حديثه. وفي "الميزان" للذهبي: قال أبو أحمد: يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال الأزديّ: في حديثه بعض المناكير، وهو عندنا في عداد أهل الصدق. وقال ابن شاهين في "الثقات": قال عثمان بن أبي شيبة: هو ثقة صدوق. وذكره الساجي والعقيلي في "الضعفاء".
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان يكره أن يقال له: القَطَوَانيّ. وقال البخاري في "تاريخه": كان يغضب من القَطَوَاني، ويقال: إنما قَطَوَان بَقّال. وزعم الباجي أن قَطَوان قرية بالقرب من الكوفة، وبه جزم ابن السمعاني.
قال مطيّن: مات سنة (213)، وكذا أرَّخه ابن سعد، وقال ابن قانع: سنة (14)، وذكره البخاري في "الأوسط" فيمن مات فيما بين سنة (11) إلى (15).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "مسند مالك"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجة، وله في هذا الكتاب (28) حديثًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزرقيّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، أكبر منه، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
4 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الحُرَقيّ، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الرَّحمن بن يعقوب الجُهنيّ الحُرقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى العلاء، فأخرج له البخاريّ في "جزء القراءة".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وخالد، فكوفيّان.
4 -
(ومنها): أن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة أصحاب الأصول بلا واسطة، كما تقدّم بيان ذلك غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء عن أبيه.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيهِ) عبد الرَّحمن بن يعقوب (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: ذكر الشيخ مشهور في تعليقه على "تنبيه المعلم"(ص 76 - 77) نقلًا عن الديوبندي أن الرجل المبهم هو مخارق بن سُليم، ولم يتعقّبه، بل ذكر أنه وقع ذلك في رواية النسائيّ في "المجتبى"(7/ 113 - 114) رقم (4081)، وانظر:"تحفة الأشراف"(8/ 366 - 367) رقم (11242). انتهى.
وهذا وَهَمٌ، فإن مخارق بن سُليم ليس هو الرجل المبهم، وإنما هو روى الحديث بالإبهام كرواية أبي هريرة زحنه هذه، فقال: "جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
" إلخ، فليس عند النسائيّ، ولا في "تحفة الأشراف" ما يدلّ على أن الرجل هو مخارق، فتنبّه لهذا الوهم، والله تعالى أعلم.
(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ) أي: أخبرني عما ينبغي أن أفعله (إِنْ جَاءَ رَجُل يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟) أي: غصبًا، والجملة في محلّ جرّ صفة لـ "رجل"، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فماذا أفعل؟ أعطيه، أم أمنعه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلَا ثُعْطِهِ مَالَكَ") ناهية، ولذا جُزم بها "تُعطه"، والهاء ضمير الرجل، وذكر القاري أنه وقع في بعض نسخ "المشكاة" بسكون الهاء، وعليه فتكون هاء سكت، جيء بها للوقف، كما قال في "الخلاصة":
وَقِفْ بِهَا السَّكْتِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلْ
…
بِحَذْفِ آخِرٍ كَـ "أَعْطِ مَنْ سَأَلْ"
والفاء في جواب شرط محذوف، أي إن جاءك فلا تعطه مالك، معناه لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء.
(1)
"تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" ص 76.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فلا تُعطه" جواب للسؤال، وجزاء الشرط محذوفٌ، يدلّ عليه السؤال، كما أن السؤال شرط جزائه محذوف، يعني: إن جاء رجلٌ بهذه الصفة، فأعطيه أم لا؟، قال:"فلا تعطه"، يعني: إن كان كما وصفته، وعلى هذا قوله:"فأنت شهيد"، وأما ما جاء بلا فاء من قوله:"قاتله"، "هو في النار"، فعلى الاستئناف، بعد تقدير جواب الشرط، كأن قائلًا سأل، قال: فماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوابه؟ فأجيب: قال: كذا. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: "قوله؟ صلى الله عليه وسلم: "فلا تُعْطه"، فمعناه ة لا يلزمك أن تعطيه، وليس المراد تحريم الإعطاء". انتهى
(2)
.
(قَالَ) الرجل (أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟) أي: فماذا أفعل؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قَاتِلْهُ") هذا دليل جواب الشرط المقدّر، وليس جوابًا، وإلا لاقترن بالفاء؛ أي: إن قاتلك، فقاتله.
ثم إن هذه المقاتلة تكون بعد المناشدة بالله، والاستعانة بالمسلمين، وولاة الأمور، فقد أخرج النسائيّ هذا الحديث في "المجتبى"(4014) من طريق عمرو بن قُهَيد الغفاريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن عُدِي على مالي؟ قال:"فانشُدْ بالله!، قال: فإن أَبَوا عليّ، قال: "فانشد بالله"، قال: فإن أبوا عليّ؟ قال: "فانشد بالله!، قال: فإن أبوا عليّ؟ قال: "فقاتل، فإن قُتلتَ ففي الجَنَّة، كان قَتَلْتَ ففي النار"؛ أي: إن قتلتَ هؤلاء المعتدين، فهم في النار.
وأخرج (4013) من طريق سماك بن حرب، عن قابوس بن مخارق، عن أبيه، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم و، فقال: الرجلُ يأتيني، فيريد مالي؟ قال:"ذَكِّره بالله!، قال: فإن لَمْ يَذَّكَّرْ؟ قال: "فاستعن عليه مَنْ حَوْلَك من المسلمين"، قال: فإن لَمْ يكن حولي أحدٌ من المسلمين؟ قال: "فاستعن عليه
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2487.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 165.
بالسلطان"، قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: "قاتل دون مالك، حتى تكون من شهداء الآخرة، أو تمنع مالك"
(1)
.
فقد دلّ هذان الحديثان على أن القتال يكون بعد الدفع بالأسهل فالأسهل، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) الرجل (أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟) أي: فماذا حكم الله تعالى في أمري؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَنْتَ شَهِيدٌ) قال القاضي عياضٌ رحمه الله: أصل الشهادة التبيين، ومنه قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية [آل عمران: 18]؛ أي: بيّن، وسُمّي الشاهد؛ لأن بشهادته تبيينَ الحكم. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "الشهيد" في الأصل: من قُتل مجاهدًا في سبيل الله، ويُجمع على شُهداء، وسُمي شهيدًا؛ لأن الله تعالى وملائكته شهودٌ له بالجنّة، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهد غسله، أو تشهد نقل روحه إلى الجنّة، أو لأن الله تعالى شهد له بالجنّة، وقيل: لقيامه بشهادة الحقّ في أمر الله تعالى حتى قُتل، وقيل: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، وقيل غير ذلك، فهو فعيلٌ بمعنى فاعل، أو مفعول على حسب اختلاف التأويل. انتهى
(3)
.
وقال النضر بن شُميل: سُمِّي الشهيد شهيدًا؛ لأنه حيّ؛ لأن أرواحهم شَهِدَت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها إلَّا يوم القيامة، وهو مأخوذ من قوله عز وجل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].
وقال ابن الأنباريّ؛ لأن الله تعالى، وملائكته يشهدون له بالجنة، فمعنى شَهِيد مشهود له.
وقيل: سُمّي شهيدًا؛ لأنه شَهِدَ عند خروج روحه ما له من عند الله تعالى
(1)
حديث في سنده انقطاع، لكنه صحيح بشواهده، كما حقّقته في "شرح النسائيّ" 32/ 61.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 556.
(3)
"النهاية" 3/ 513، و"المصباح المنير" 1/ 324.
من النجاة، والثواب والبشرى، والكرامة، وحَقَّقَ ذلك، كما قال تعالى:{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)} [آل عمران: 170].
وقيل: لأن ملائكة الرحمة يَشْهَدون، فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شُهِدَ له بالإيمان، وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل: لأن عليه شاهدًا يَشْهَد بكونه شهيدًا، وهو دَمُهُ، فإنه يُبْدَثُ، وجُرْحُهُ يَثْعَب
(1)
دَمًا.
وحَكَى الأزهريّ وغيره قولًا آخر، أنه سُمّي شَهِيدًا؛ لكونه ممن يَشْهَد يوم القيامة على الأمم
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول فيه نظر لا يخفى؛ لأن هذا لا يخصّ الشهيد، بل يَعُمّ جميع المسلمين، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} الآية [البقرة: 143].
(قَالَ) الرجل (أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟) أي: فماذا عليّ؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("هُوَ فِي النَّارِ") أي: لكونه قُتل ظالِمًا، ولا شيء عليك؛ لكونك مظلومًا مدافِعًا عن حقّك.
والمراد أنه يَستحقّ النار، وقد يُجَازَي، وقد يُعْفَى عنه، إلَّا أن يكون مستحلًّا لذلك بغير تأويل، فإنه يَكْفُر، ولا يُعْفَى عنه
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة المانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[65/ 367](140)، و (النسائيّ) في "كتاب المحاربة"(4084 و 4085)، وفي "الكبرى"(3545 و 3546)،
(1)
"يَثْعَبُ" من باب منع: أي يسيل، ويتفجّر.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 556 - 558، و"شرح النوويّ" 2/ 163 - 164.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 165.
و (أبو عوانة) في "مسنده"(126 و 127)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(361)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 265 - 266)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم مال المسلم بغير رضاه، وأنه ينافي كمال الإيمان، وهو وجه المطابقة في إيراده هنا.
2 -
(ومنها): أن من قصد مال مسلم بغير حقّ يكون هَدَر الدم، وإن قُتل بذلك كان من أهل النار.
3 -
(ومنها): أن من تعرّض له ظالم ليأخذ ماله له منعه، ومدافعته، ولو أدّى إلى قتله.
4 -
(ومنها): أن الدفاع يكون بالأسهل، فالأسهل؛ لِمَا سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:"فانشده بالله"، وفي رواية:"ذكّره بالله"، ثم أمر بالاستعانة بالمسلمين، ثم برفع أمره إلى ولاة الأمور، فإن لَمْ يتمكنّ من ذلك كلّه جاز له قتله.
5 -
(ومنها): أن فيه بيان انقسام الشهداء إلى شُهداء الدنيا، وشُهداء الآخرة. قال النوويّ رحمه الله:(واعلم): أن الشهيد ثلاثة أقسام:
[أحدها]: المقتول في حرب الكفار بسببٍ من أسباب القتال، فهذا له حكم الشهداء في ثواب الآخرة، وفي أحكام الدنيا، وهو أنه لا يُغْسَلُ، ولا يُصَلى عليه.
[والثاني]: شَهِيدٌ في الثواب دون أحكام الدنيا، وهو المبطون والمطعون، وصاحب الهَدْم، ومن قُتِل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيدًا، فهذا يُغْسَلُ ويُصَلَّى عليه، وله في الآخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول.
[والثالث]: مَنْ غَلَّ في الغنيمة، وشِبْهُهُ، ممن وَرَدَت الآثار بنفي تسميته شهيدًا، إذا قُتِلَ في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا، فلا يُغْسَلُ، ولا يُصَلَّى عليه، وليس له ثوابهم الكامل في الآخرة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 164.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أنه لا دية في قتل المحاربين، ولا قَوَدَ؛ لأنه إذا كان مقتوله شهيدًا، وأُمر بقتاله، وأَخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه إن قُتل في النار، في يأمر الشرع به لا تَعَقّبَ على فاعله، ولا تَبِعَةَ عليه في الدنيا والآخرة، قاله القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
6 -
(ومنها): جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حَقّ، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا؛ لعموم الحديث، وهذا قول الجماهير من العلماء، وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئًا يسيرًا، كالثوب، والطعام، وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير.
وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف بين العلماء، والمدافعة عن المال جائزةٌ، غير واجبة، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول النوويّ: "والمدافعة عن المال جائزةٌ، غير واجبة" هذا مذهبه، والأرجح أنه واجب؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تعطه"، وقوله:"قاتله".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تعطه"، و"قاتله" دليلٌ على أن المحارب لا يجوز أن يُعطَى شيئًا له بالٌ من المال إذا طلبه على وجه الحرابة ما أمكن، لا قليلًا، ولا كثيرًا، وأن المحارب يجب قتاله، ولذلك قال مالك رحمه الله: قتال المحاربين جهاد، وقال ابن المنذر رحمه الله: عوامّ العلماء على قتال المحارب على كلّ وجه، ومدافعته عن المال، والأهل، والنفس.
قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف المذهب - يعني: مذهب المالكية - إذا طلب الشيء الخفيف، كالثوب، والطعام، هل يُعطاه، أو يقاتل دونه؟ وهو مبنيّ على الخلاف في أصل المسألة، هل قتالهم مأمور به؛ لأنه تغيير منكر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"قاتله"، أو هو مباحٌ، غير مأمور به.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي أنه من باب تغيير المنكر، فيجب قتالهم؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تعطه"، وقوله:"قاتله"، من دون أن يستفصل بين القليل والكثير، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 560.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 165.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في حكم دعوة المحاربين قبل القتال:
اختلفوا، هل يُدعون قبل القتال، أم لا؟، والمراد بالدعوة دعوة الإمام، أو نائبه قبل مقاتلتهم، وهذا في حال اعتصامهم، وتعذّر إقامة الحقّ عليهم دون قتال، فهم حينئذ كالبغاة الذين يجب على الإمام أن يُبيّن لهم، ويدعوهم إلى ترك ما هم عليه قبل مباشرة قتالهم، وهو رأي الجمهور، وذهب بعض أهل العلم من الحنفيّة وغيرهم إلى أنه يبدأ بقتالهم؛ لعلمهم بما سيدعوهم إليه.
وقد فصّل ابن رُشد رحمه الله القول في هذه المسألة لدى المالكيّة، فنقل عن مالك رحمه الله أنهم يُدْعَون، وعن سَحْنُون رحمه الله أنهم لا يُدعون، ثم قال: تكلّم سحنون على ما يُعْرَف من غالب أمرهم، وتكلّم مالك على قدر ما يُرجَى في النادر منهم، وذلك يَرْجِع إلى أنه إن رُجي إن دُعُوا، أو نُشِدوا أن يَكُفُّوا استُحِبَّ دعاؤهم، وترك معاجلتهم بالقتال، وإن تُيُقِّنَ ذلك وجب أن يُدْعَوا، وإن خيف إن دُعُوا أن يستأسِدُوا، ويعاجلوا المسلمين وجب أن لا يُدْعَوا، كما قال سحنون رحمه الله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره ابن رُشد رضي الله عنه من التفصيل حسنٌ جدًّا.
وحاصله أن دعوتهم يُنظر فيها إلى ما يترتّب من المصالح، فإن يُرجى رجوعهم عن غيّهم تُستحبّ دعوتهم، وإن غلب ذلك تجب، وإن كان يُخشى إلحاق الضرر بالمسلمين بتأخيرهم لأجل الدعوة وجب تركها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[368]
(141) - (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ
(1)
راجع: "البيان والتحصيل" 3/ 83 - 84، و 16/ 376 - 385 - 417، انظر ما كتبه محقّق:"إكمال المعلم" 1/ 559.
الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ، أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَا كَانَ، تَيَسَّرُوا لِلْقِتَال، فَرَكِبَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، فَوَعَظَهُ خَالِدٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِه، فَهُوَ شَهِيدُ"؟).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) - بضمّ الحاء المهملة، وسكون اللام - أبو عليّ الخَلّال، نزيل مكة، ثقة حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د، ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرَام الكَوْسَجُ، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقة حافظٌ مصنَّفٌ مشهور، عَمِي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
5 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج، منسوب إلى جدّه، الأمويّ مولاهم، أبو خالد، وأبو الوليد المكيّ، ثقة فقيه فاضلٌ، يُدلّس، ويرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
6 -
(سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ) هو: سليمان بن أبي مسلم المكيّ الأحول، خالُ ابن أبي نَجِيح، قيل: اسم أبيه عبد الله، ثقةٌ [5](ع).
رَوَى عن طارق بن شهاب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وأبي سلمة بن عبد الرَّحمن، وطاووس، وغيرهم.
وروى عنه ابن جُريج، وحُسين المعلِّم، وشعبة، وابن عيينة، وإبراهيم بن نافع المكيّ، وغيرهم.
قال الحميديّ، عن سفيان: ثنا سليمان الأحول، وكان ثقةً، وقال
أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو داود، والنسائيّ: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد: هو ثقةٌ ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، ونَقَلَ ابن خَلْفُون، عن ابن وَضّاح توثيقه.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط: هذا (141)، و (769): "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض
…
"، و (1327): "لا يَنْفِرنّ أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت"، و (1637): "ائتوني أَكْتُبْ لكم كتابًا
…
"، و (2000): "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبيذ في الأوعية
…
"، و (2077): "أأمُّك أمرتك بهذا؟
…
".
7 -
(ثَابِتٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) هو: ثابت بن عياض، الأحنف الأعرج العَدَويّ مولاهم، وهو مولى عبد الرَّحمن بن زيد بن الخطاب، وقال ابن سعد: ثابت بن الأحنف بن عياض، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عُمَر، وابن عَمْرٍو، وابن الزبير، وأنس، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
وروى عنه زياد بن سعد، وسليمان الأحول، وعمرو بن دينار، وفُليح بن سليمان، ومالك بن أنس، وغيرهم.
قال أبو حاتم: لا بأس به، وقال النسائيّ: ثقة، وقال زياد بن سعد: قيل لثابت الأعرج: أين سمعت من أبي هريرة؟ فقال: كان مواليَّ يبعثوني يوم الجمعة، آخذُ مكانًا، فكان أبو هريرة يجيء يحدث الناس قبل الصلاة، وقال ابن المدينيّ: معروف، ووثقه أحمد بن صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات" في موضعين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط: هذا (141)، و (278): "إذا استيقظ أحدكم، فليُفرِغ على يده
…
"، و (1432): "شرّ الطعام طعام الوليمة
…
"، و (2160): "يسلّم الراكب على الماشي
…
".
8 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعَيد بن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، أو أبو عبد الرَّحمن، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة على الأصحّ بالطائف (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيوخه الثلاثة، وثابت، كما أسلفته آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: سليمان الأحول، عن ثابت.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: (وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ) أي: ألفاظ حديث الشيوخ الثلاثة متقاربة، وقوله:(قَالَ إِسْحَاقُ) أي: ابن منصور (أَخْبَرَنَا) مقول "قال"، وقوله:(وَقَالَ الآخَرَانِ) أي: قال الحسن الحُلْوانيّ، ومحمد بن رافع، وقوله:(حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّزَّاقِ) مقول "قال"، يعني: أنهم اختلفوا في صيغ الأداء عن شيخهم عبد الرزاق، فقال إسحاق: أخبرنا عبد الرزّاق؛ لكونه أخذه عنه سماعًا بقراءة غيره عليه، وقال الحسن، ومحمد بن رافع: حدّثنا عبد الرزّاق؛ لكونهما سمعاه من لفظه، فقوله:"عبد الرزاق" تنازعه الفعلان قبله، أي:"أخبرنا"، و"حدّثنا"، وإعمال الثاني أولى عند البصريين؛ لقربه، والأول أولى عند الكوفيين؛ لسبقه، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
إِنْ عَامِلَان اقْتَضَيَا فِي اسْمٍ عَمَلْ
…
قَبْلُ فَلِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا العَمَلْ
وَالثَّانِ أَوْلَى عِنْدَ أَهْلِ البَصْرَهْ
…
وَاخْتَارَ عَكْسًا غَيْرُهُمْ ذَا أُسْرَهْ
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أحد العبادلة الأربعة، وأوّل من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد فقهاء الصحابة، والمشهورين بالفتوي، والرواية رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
عن ثَابِتٍ (مَوْلَى عُمَرَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن زيد بن الخطّاب أنه (أَخْبَرَهُ) أي: أخبر سليمانَ الأحولَ (أَنَّهُ) الضمير للشأن، والضمير الذي تفسّره الجملة بعده، وهي قوله: (لَمَّا كَانَ
…
إلخ) "لَمَّا" بفتح اللام، وتشديد الميم: حرف وجود لوجود، وسيبويه يقول: حرف وجوب لوجوب، تدخل على الماضي،
فتقتضي جملتين، وُجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما، نحو لَمّا جاءني أكرمته، وزعم ابن السرّاج، وتبعه الفارسيّ، وابن جني، وجماعة أنَّها ظرف بمعنى "حين"، وابن مالك يقول: بمعنى "إذ"
(1)
.
وإلى هذا أشار شيخنا عبد الباسط المناسيّ رحمه الله في "نظم المغني":
وَالثَّانِ مِنْ أَوْجُهِهَا أَنْ تَلْزَمَا
…
لِمَاضِيَيْنِ رَبَطَتْ بَيْنَهُمَا
حَرْفُ وَجُودٍ لِوُجُودٍ أَوْ فَقُلْ
…
حَرْفُ وَجُوبٍ لِوُجُوبِ فَكَمُلْ
وَالفَارِسِيُّ كَوْنَهَا ظَرْفًا زَعَمْ كَذَا
…
ابْنُ جِنِّي مِثْلُ "حِينٍ" قَدْ حَكَمْ
وَمِثْلَ "إِذْ" جَعَلَهَا ابْنُ مَالِكِ
…
وَابْنُ خَرُوفٍ سَدَّ كُلَّ مَسْلَكِ
(2)
و"كان" هنا تامّة، أي: حصل ووقع، "وما" فاعلها، و"كان" الثانية أيضًا تامّة، وفاعلها ضمير يعود على"ما"، أي: لما وقع بينهما ما وقع من المعاداة.
(بَيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو) بن العاص صلى الله عليه وسلم (وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ) بفتح العين المهملة، وسكون النون، وفتح الموحدة (ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ) هو: عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، أبو الوليد، ويقال: أبو عثمان، ويقال: أبو عامر المدنيّ.
رَوَى عن أخته أم حبيبة، وشداد بن أوس، وغيرهما، وروى عنه أبو أمامة الباهليّ، ويعلى بن أمية التميميّ، وعمرو بن أوس الثقفيّ، والقاسم أبو عبد الرَّحمن، والمسيب بن رافع، ومكحول الشاميّ، وعطاء بن أبي رَبَاح، وحسان بن عطية، وغيرهم.
قال أبو نعيم الأصبهانيّ: أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا تصح له صحبة، ولا رؤية، واتفق متقدمو أئمتنا على أنه من التابعين، وذكره أبو زرعة الدمسقيّ في الطبقة الأولى من التابعين، وذكره ابن حبان في "ثقات التابعين"، وذكر الليث وغيره أنه حَجَّ بالناس سنة (46) وسنة (47)، وكذا ذكر خليفة، وزاد أن معاوية ولَّاه مكة، فكان إذا شَخَصَ إلى الطائف استَخْلَف طارق بن المُرَقّع، وقال الواقديّ: استعمله أخوه على الصائفة سنة (42).
(1)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 280.
(2)
يعني: أنه أنكر كونها اسمًا أصلًا، لا بمعنى "حين"، ولا بمعنى "إذ".
أخرج له المصنّف في هذا الكتاب حديثًا واحدًا فقط، عن أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما
(1)
، والأربعة.
(مَا كَانَ) أي: الذي حصل، ووقع من العداوة.
وسبب ذلك أن عنبسة بن أبي سفيان كان عاملًا على الطائف من قِبَل أخيه معاوية بن أبي سفيان، وكان لآل عمرو بن العاص بستان، وحائط في الطائف، فأجرى عنبسة عينًا من ماء ليسقي بها أرضًا، فدنا من حائط آل عمرو، فأراد أن يَخرقه ليُجري العين منه إلى الأرض، فأقبل عبد الله بن عمرو، ومواليه بالسلاح، يُدافعون عن مالهم، وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا حتى لا يبقى منّا أحدٌ، وتأهبّ الفريقان للقتال
(2)
، وهذا معنى قوله:(تَيَسَّرُوا) أي تهيّأ كلّ من عنبسة، وأتباعه، وعبد الله بن عمرو ومواليه، وتأهبوا، واستعدّوا (لِلْقِتَالِ) أي: لمقاتلة بعضهم بعضًا (فَرَكِبَ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطناه "فركب" بالفاء، وفي بعض الأصول:"وركب بالواو"، وفي بعضها "رَكِبَ" من غير فاء، ولا واو، وكلّه صحيح. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وجه صحة الأوجه، أنه إذا كان بالفاء، والواو فإنه معطوف على "تيسّروا"، وأما بدونهما، فيكون بدلًا من "تيسّروا" بدلَ فِعْلٍ من فعلٍ، كما قال في "الخلاصة":
وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ كَـ "مَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ"
(خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ) بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، قُتل أبوه يوم بدر، قال ابن سعد، وابن حبّان: أسلم يوم الفتح، وأقام بمكة، قال في "الإصابة": يقال: إن عمر رضي الله عنه استعمل خالد بن العاص هذا على مكة بعد نافع بن عبد الحارث الخُزاعيّ، وكذلك استعمله عليها عثمان بن عفّان رضي الله عنه، ثم أورد
(1)
سيأتي للمصنّف في "كتاب الصلاة"(728) عن أم حبيبة رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجَنَّة
…
" الحديث.
(2)
راجع: "الفتح" 5/ 147 "كتاب المظالم" رقم (2480).
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 164.
حديث مسلم هذا، ثم قال: وهذا يدلّ على أن خالد بن العاص تأخّر إلى خلافة معاوية رضي الله عنه. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: خالد بن العاص هذا ليس عمًّا لعبد الله بن عمرو بن العاص، وإنما نبّهت عليه، وإن كان واضحًا من نسبه؛ لئلا يقع الاشتباه بسبب اتفاق اسم الأب على من غَفَلَ عن الجدّ، فلا تكن من الغافلين، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قد سبق أن الأفصح في "العاصي" إثبات الياء كتابةً، ويوقف عليها، ويجوز حذفها على قلّة، وهو الذي يستعمله معظم المحدّثين، أو كلّهم، قال ابن مالك رحمه الله في "باب الوقف" من "الخلاصة" مشيرًا إلى هذه القاعدة:
وَحَذْفُ يَا المَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا
…
لَمْ يُنْصَبَ اوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا
وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالعَكْسِ وَفِي
…
نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقْتُفِي
(إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (فَوَعَظَهُ خَالِدٌ) أي: وَعَظ خالدُ بن العاص عبدَ الله بن عمرو رضي الله عنهم، يقال: وَعَظَه يعِظه وَعْظًا، وعِظَةً، من باب وَعَدَ يَعِدُ عِدَةً ووَعْدًا: إذا أمره بالطاعة، ووصّاه بها، وعليه قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ: 46]: أي أوصيكم، وآمركم، فاتَّعَظ؛ أي: ائتمر، وكفَّ نفسه، قاله الفيّوميّ
(2)
.
والمعنى هنا: أمر خالد بن العاص عبدَ الله بنَ عمرو بأن يُطيع الأمير، ولا يخالفه فيما طلب منه (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح للتنبيه على الاهتمام بما بعدها، كـ "إلا" (عَلِمْتَ) بفتح التاء للمخاطب (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ" شرطيّة (قُتِلَ) بالبناء للمفعول (دُونَ مَالِهِ) أي: عنده، أو من أجله، وقال القرطبيّ رحمه الله:"دُون" في أصلها ظرف مكان بمعنى أسفل وتحتُ، وهو نقيض "فوق"، وقد استُعْمِلَت في هذا الحديث لأجل السببيّة، وهو مجاز، وتوسّعٌ، ووجهه أن الذي يقاتل على ماله إنما يجعله خلفه، أو تحته، ثم يقاتل عليه. انتهى
(3)
. (فَهُوَ شَهِيدٌ") جواب الشرط.
قال في "الفتح": قوله: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد"، قال الإسماعيليّ:
(1)
"الإصابة" 2/ 205 - 206.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 665.
(3)
"المفهم" 1/ 352.
وكذا أخرجه البخاريّ، وكأنه كتبه من حفظه، أو حدث به المقرئ من حفظه، فجاء به على اللفظ المشهور، وإلا فقد رواه الجماعة عن المقرئ بلفظ:"مَن قُتِلَ دون ماله مظلومًا، فله الجَنَّة"، قال: ومن أتى به على غير اللفظ الذي اعتيد فهو أولى بالحفظ، ولا سيما وفيهم مثل دُحَيم، وكذلك ما زادوه من قوله:"مظلومًا"، فإنه لا بُدّ من هذا القيد، وساقه من طريق دُحَيم، وابن أبي عمر، وعبد العزيز بن سلام.
قال الحافظ: وكذلك أخرجه النسائيّ، عن عبيد الله بن فَضَالة، عن المقريّ، وكذلك رواه حَيْوَة بن شُرَيح، عن أبي الأسود بهذا اللفظ، أخرجه الطبريّ.
نعم للحديث طريق أُخرى عن عكرمة، أخرجها النسائيّ باللفظ المشهور، وأخرجه مسلم كذلك، من طريق ثابت بن عياض، عن عبد الله بن عمرو، وفي روايته قِصّةٌ، قال: لَمّا كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان
…
إلخ.
قال: وأشار بقوله: "ما كان" إلى ما بَيَّنه حيوة في روايته المشار إليها، فإن أولها أن عاملًا لمعاوية أجرى عينًا من ماء؛ ليسقي بها أرضًا، فدنا من حائط لآل عمرو بن العاص، فأراد أن يخرقه؛ ليجري العين منه إلى الأرض، فأقبل عبد الله بن عمرو، ومواليه بالسلاح، وقالوا: والله لا تخرقون حائطنا، حتى لا يبقى منّا أحد
…
فذكر الحديث، والعامل المذكور هو عنبسة بن أبي سفيان كما ظهر من رواية مسلم، وكان عاملًا لَأخيه على مكة والطائف، والأرض المذكورة كانت بالطائف.
قال: وامتناع عبد الله بن عمرو من ذلك؛ لِمَا يدخل عليه من الضرر، فلا حجة فيه لمن عارض به حديث أبي هريرة رضي الله عنه فيمن أراد أن يَضَعَ جِذْعَه على جدار جاره، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه أن ظاهر هذا الحديث يعارض ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَمْنَعْ جارٌ جارَه أن يَغْرِز خشبة في جداره"، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها مُعْرِضين؟ والله لأَرْمِيَنَّ بها بين أكتافكم. لفظ البخاريّ.
فهذا يوجب أن يأذن الجار لجاره في وضع الخشبة، وحديث ابن عمرو رضي الله عنهما يبيح المنع، بل القتال عليه.
والجواب أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه مشروط بعدم تضرّر صاحب الجدار، فأما إذا تضرّر، فلا يجب عليه؛ لحديث:"لا ضرر، ولا ضِرَار"
(1)
، والضرر منا موجود؛ لأنه إذا ثُقب الجدار لمرور الماء لا يسذ ذلك الثقب شيء، فيتضرّر صاحبه بدخول الحيوانات، ونحوها فيه، بخلاف وضع الخشبة؛ لأنه لو ثُقب شيء منه لسدّته الخشبة.
وأيضًا حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم خاصّ بالجار، وليس عنبسة جارًا لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
وأخرجه النسائيّ من وجهين آخرين، وأبو داود، والترمذيّ، من وجه آخر كلهم عن عبد الله بن عمرو باللفظ المشهور، وفي رواية لأبي داود، والترمذيّ:"من أربد ماله بغير حقّ، فقاتل، فقُتِل فهو شهيد"، ولابن ماجة من حديث ابن عمر نحوه، ورَوَى الترمذيّ وبقية أصحاب السنن، من حديث سعيد بن زيد نحوه، وفيه ذكر الأهل، وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجة:"من أريد ماله ظلمًا، فقُتِل فهو شهيد".
قال النوويّ رحمه الله: فيه جواز قتل من قَصَدَ أخذ المال بغير حقّ، سواء كان المال قليلًا أو كثيرًا، وهو قول الجمهور، وشَذّ من أوجبه.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالشذوذ فيه نظر، كيف وظاهر النصّ يدلّ له، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"لا تُعطه"، وقال أيضًا:"قاتله"، فإذا لَمْ يدلّ هذا النصّ على الوجوب، في الذي يدلُّ عليه؟ إن هذا لشيء عجيب!!!.
وَحَكى ابن المنذر رحمه الله عن الشافعيّ رحمه الله قال: من أريد ماله، أو نفسه، أو حريمه، فله الاختيار أن يكلمه، أو يستغيث، فإن مُنِعَ، أو امتَنَعَ لَمْ يكن له قتاله، وإلا فله أن يدفعه عن ذلك، ولو أتى على نفسه، وليس عليه عقلٌ، ولا ديةٌ، ولا كفارةٌ، لكن ليس له تعَمُّد قتله.
قال ابن المنذر رحمه الله: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذُكِر، إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل، إلَّا أنّ كلَّ من يُحفَظُ عنه من علماء الحديث، كالمجمعين على استثناء السلطان؛ للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جَوْره، وترك القيام عليه.
(1)
حديث صحيح، أخرجه ابن ماجة في "سننه" برقم (2331 و 2332).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله ابن المنذر رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وفَرّقَ الأوزاعي رحمه الله بين الحال التي للناس فيها جماعة وإمام، فحَمَلَ الحديث عليها، وأما في حال الاختلاف والفُرْقة، فليستسلم، ولا يقاتل أحدًا.
قال الجامع عفا الله عنه: ويرد على ما قاله الأوزاعيّ رحمه الله كما قال الحافظ - حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي تقدّم قبل هذا بلفظ: "أرأيت إن جاء رجل، يريد أخذ مالي" قال: "فلا تعطه"، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "فاقتله"، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد"، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: "فهو في النار".
فإنه صلى الله عليه وسلم في نصّه هذا لَمْ يخصّ حالةً دون حالة، بل أطلق المقاتلة، وأمره أن يقاتل كلَّ من بغى عليه، فلو كانت الحال التي فيها الجماعة والإمام لا يحل المقاتلة فيها، لبيّنها صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[65/ 368](141)، و (البخاريّ) في "المظالم والغصب"(2485)، و (أبو داود) في "السنّة"(4771)، و (الترمذيّ) في "الديات"(1419)، و (النسائيّ) في "المحاربة"(4086 و 4087 و 4088 و 4989 و 4090 و 4091)، وفي "الكبرى"(3547 و 3548 و 3549 و 3550 و 3551 و 3553)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 163 - 206 - 21799)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(128 و 129)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(365).
وأما فوائده فقد تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[369]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيّ، حَدَّثنَا أَبُو عَاصِم، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْج، بِهَذَا الْإِسْنَاد، مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون المروزيّ، بغداديّ الأصل تقدّم قبل باب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ) بن عثمان الْبُرْسَانِيُّ - بضم الموحدة، وسكون الراء، ثم مهملة - أبو عبد الله، ويقال: أبو عثمان البصريّ، صدوق [9].
رَوَى عن أيمن بن نابل، وهشام بن حسان، وابن جريجٍ، وشعبة، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن زياد، وابن أبي عروبة، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وابن المدينيّ، وابن معين، وأبو بكر بن أبي شيبة، وهارون الحمّال، وإسحاق الكَوْسَجُ وغيرهم.
قال حنبل بن إسحاق، عن أحمد: صالح الحديث، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقة، وقال أبو داود، والعجليّ: ثقة، وقال ابن عمار الْمَوْصِلِيُّ: لَمْ يكن صاحب حديث، تركناه ولم نسمع منه، وقال أبو حاتم: شيخ محله الصدق، وقال النسائي في "كتاب المحاربة" من "سننه": ليس بالقويّ، وقال ابن قانع: كان ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو وابن سعد وآخرون: مات سنة (203)، زاد ابن سعد: بالبصرة في ذي الحجة، وكان ثقة، وقال أبو موسى محمد بن المثنى: مات سنة (204).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (56) حديثًا.
3 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) هو: أحمد بن عثمان بن أبي عثمان عبد النور بن عبد الله بن سِنَان النوفليّ، أبو عثمان البصريّ المعروف بأبي الجوزاء، ثقةٌ [11].
رَوَى عن أبي داود الطيالسيّ، وأبي عاصم، وأزهر بن سَعْد، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وقال: ثقةٌ رَضِيّ، وابن خزيمة، وابن بُجَير، وابن أبي عاصم، وابن جرير، وغيرهم.
قال ابن أبي عاصم: مات سنة (246)، قال: وكان من نُسّاك أهل البصرة، وقال النسائيّ: لا بأس به، وقال البزار: بصريّ ثقةٌ مأمون، وذكره ابن حبان في "الثقات".
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
وابن جريج تقدّم في السند الماضي.
قوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي بسند ابن جريجٍ الماضي، وهو: عن سليمان الأحول، عن ثابت، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقوله: (مِثْلَهُ) أي مثل المتن الماضي، وقد سبق ما قيل في الفرق بينه وبين "نحوه"، وما فيه من الاعتراض، فلا تنسَ.
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر، عن ابن جريجٍ التي أحالها المصنّف رحمه الله أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6628)
حدثنا محمد بن بكر، وعبد الرزاق، قالا: أخبرنا ابن جريجٍ، أخبرني سليمان الأحول، أن ثابتًا، مولى عمر بن عبد الرَّحمن، أخبره أنه لَمّا كان بين عبد الله بن عمرو، وعنبسة بن أبي سفيان ما كان، وتيسروا للقتال، فركب خالد بن العاصي إلى عبد الله بن عمرو، فوعظه، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قُتِل دون ماله فهو شهيد"؟.
وقال عبد الرزاق: "مَن قُتِل على ماله فهو شهيد".
وأما رواية أبي عاصم، فلم أجدها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
66 - (بَابُ اسْتِحْقَاقِ الْوَالِي الْغَاشِّ لِرَعِيَّتِهِ النَّارَ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[370]
(142) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَب، عَنِ الْحَسَن، قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ، مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزنِيَّ، فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ
فِيه، قَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِه، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبو محمد الأبُليّ
(1)
، صدوقٌ يَهِمُ، ورُمي بالقدر، من صغار [9](ت 236)(م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السّعْديّ العُطارديّ البصريّ الخَزّاز الأعمي، مشهور بكنيته، ثقةٌ [6].
رَوَى عن أبي رجاء العُطارديّ، وأبي الجوزاء الرَّبَعيّ، والحسن البصريّ، وأبي نَضْرة، وخُليد العصريّ، وجماعة.
وروى عنه ابن المبارك، والقطان، ويزيد بن هارون، وابن عُلية، وأبو نعيم، وأبو الوليد، وعلي بن الجعد، وشيبان بن فَرُّوخ، وجماعة.
قال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صدوق، وقال أبو حاتم، عن أحمد: من الثقات، وقال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقة، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقة - إن شاء الله - وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن المدينيّ: ثقة ثبتٌ، وقال أبو حاتم: هو أحبّ إليّ من سلام بن مسكين، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن أبي خيثمة: ثنا موسى بن إسماعيل، قال: كان حماد بن زيد يقول: لَمْ يسمع أبو الأشهب من أبي الجوزاء. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله حماد بن زيد: من أن أبا الأشهب لَمْ يسمع من أبي الجوزاء يُشكل عليه ما وقع في "صحيح البخاري" في "تفسير سورة النجم" من التصريح بسماعه منه، ونصّه: حدثنا مسلم، ثنا أبو الأشهب، ثنا أبو الجوزاء
…
، فذَكَرَ حديثًا.
ويحتمل أن يكون نفي حماد سماع أحاديث معيّنة، فلا ينافي سماعه لغيرها، فالله تعالى أعلم.
(1)
نسبة إلى موضع بالبصرة.
وذكر أبو عمرو الدانيّ في "طبقات القراء" أنه قرأ على أبي رجاء العُطارديّ. قال الأصمعيّ، عن أبي الأشهب: وُلدتُ عام الجُفْرَة سنة (70)، أو (71)، وقال البخاريّ، عن محمد بن محبوب: مات في آخر يوم من شعبان سنة (165).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث، هذا (142) وأعاده في "كتاب الإمارة"، و (438): "تقدّموا، فأتمّوا بي، وليأتمّ بكم من بعدكم
…
"، و (992): "بشّر الكانزين بكيّ في ظهورهم
…
"، و (1728): "من كان معه فضل ظهر، فليعد به
…
"، و (2737): "اطّلعتُ في الجنّة، فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء
…
".
[تنبيه]: "الجُفْرَة" بضمّ الجيم، وسكون الفاء، قال في "القاموس": موضع بالبصرة، كان بها حَرْبٌ شديدٌ عامَ سبعين، وقيل لجعفر بن حيّان العُطَارديّ: الجُفْريّ؛ لأنه وُلد عام الجُفْرة. انتهى
(1)
.
3 -
(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار الأنصاريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، يرسل كثيرًا، ويدلّس، رأس الطبقة [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 306.
4 -
(مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ الْمُزنِيُّ) هو: معقل بن يسار بن عبد الله بن مُعَبّر، ويقال: ابن مِعْيَر، ويقال: ابن مُغيرة بن حُرّاق بن لاي بن كعب بن عبد بن ثَوْر بن هُذْمة بن لاطم بن عثمان بن عَمْرو بن أُد بن طابخة، واسمه عَمْرو بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار، المزنيّ، أبو عليّ، ويقال: أبو يسار، ويقال: أبو عبد الله البصريّ، ومُزَينة هي والدة عثمان بن عمرو، ونُسِبُوا إليها، وهي مُزَينة بنت كلب بن وَبْرَة بن تَغلب بن حُلْوان بن عمران بن الحاف بن قُضَاعة
(2)
.
أسلم قبل الحُديبية، وكان ممن بايع تحت الشجرة.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن النعمان بن مُقَرِّن المزنيّ، ورَوَى عنه عمران بن حصين، ومعاوية بن قُرّة، وعلقمة بن عبد الله، والحكم بن الأعرج، وعمرو بن ميمون، والحسن البصريّ، ونافع بن أبي نافع، وأبو
(1)
"القاموس المحيط" ص 331.
(2)
"الإصابة" 6/ 146، و"تهذيب الكمال" 28/ 279 - 281.
المليح بن أسامة، ومسلم بن مِخْرَاق، وعِيَاض أبو خالد، وغيرهم.
قال البغويّ: هو الذي حفَر نهر معقِل بالبصرة بأمر عمر رضي الله عنه، فنُسب إليه، ونزل البصرة، وبنى بها دارًا، ومات بها في خلافة معاوية رضي الله عنه، وأسند من طريق يونس بن عُبيد قال: ما كان ها هنا - يعني: بالبصرة - أحدٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم أهنأ من معقل بن يسار، وأخرج أحمد من طريق معاوية بن قُرّة، عن معقل بن يسار: حُرِّمت الخمر، ونحن نشرب الفَضِيخ، فجعلتُ أشرب، وأقول: هذا آخر العهد بالخمر.
قال العجلي: يُكنى أبا عليّ، ولا نَعْلَم في الصحابة مَن يُكنى أبا عليّ غيره.
قال الجامع عفا الله عنه: كذا قال العجليُّ: "ولا نعلم
…
إلخ"، وتُعُقّب بأن قيس بن عاصم المِنْقريّ، وطلق بن عليّ الحنفيّ كلاهما من الصحابة، وكلاهما يُكنى أبا عليّ
(1)
.
قيل: إنه مات بالبصرة في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، وقيل: في ولاية يزيد، وذكره البخاري في "الأوسط" في فصل من مات ما بين الستين إلى السبعين، وهو الذي فَجَّرَ نَهْرَ مَعْقِل بالبصرة
(2)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا (142) وكرّره خمس مرّات، و (1858): "يبايع الناس، وأنا رافع غصنًا من أغصانها
…
"، و (2948): "العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ"
(3)
، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رُباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد، وهو (13) من رباعيات الكتاب، والإسناد التالي خماسيّ، أنزل منه بدرجة، والذي يليه سُداسيّ، أنزل منه بدرجة، وكذا الأخير.
(1)
راجع: "الإصابة" 6/ 147، و"تهذيب التهذيب" 4/ 121.
(2)
"الإصابة" 6/ 146 - 147، و"تهذيب الكمال" 28/ 279 - 280، و"تهذيب التهذيب" 4/ 121.
(3)
وفي "قرّة العين" ص 440: له (34) حديثًا، اتّفقا على حديث، وانفرد البخاريّ بحديث، ومسلم بحديثين.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو وأبو داود، والنسائيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وشيخه أُبُلِّيّ، وهي محلة بالبصرة.
4 -
(ومنها): أن "أبا الأشهب" مشهور بهذه الكنية، ولا يوجد في الكتب الستّة من يُكنى بها غيره.
4 -
(ومنها): أن أبا الأشهب، والصحابيّ هذا أول محلّ ذكرهما في الكتاب، وقد عرفتَ ما لكلّ منهما عند المصنّف من الحديث آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْحَسَنِ) البصريّ رحمه الله أنه (قَالَ: عَادَ) أي: زار، يقال: عاد المريضَ يعود، من باب قال، عِيَادةً: إذا زاره، فالرجل عائد، وجمعه عُوّاد بألف، وعُوَّدٌ بدونها، والمرأةُ عائدة، وجمعها عُوَّد بغير ألف
(1)
، كما قال في "الخلاصة":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وَمِثْلُهُ الفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي المُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ) هو: عبيد الله بن زياد بن عبيد المعروف بابن زياد بن أبي سفيان، ويقال له: زياد بن أبيه، وابن سُميّة، أمير العراق بعد أبيه زياد، وقال ابن معين: ويقال له: عبيد الله بن مرجانة، وهي أمه، وقال غيره: وكانت مجوسيّة، وكنيته أبو حفص، وقد سكن دمشق بعد يزيد بن معاوية، وكانت له دار عند الديماس تُعرف بدار ابن عجلان، وكان مولده في سنة تسع وثلاثين، فيما حكاه ابن عساكر، عن أبي العباس أحمد بن يونس الضبيّ، قال ابن عساكر: وروى الحديث عن معاوية، وسعد بن أبي وقّاص، ومعقِل بن سنان، وحدّث عنه الحسن البصريّ، وأبو المليح بن أسامة، وقال أبو نعيم الفضل بن دُكين: ذكروا أن عبيد الله بن زياد حين قُتل الحسين كان عمره ثمانيًا وعشرين
(1)
"القاموس المحيط" ص 274، و"المصباح المنير" 2/ 436.
سنة، قال الحافظ ابن كثير: فعلى هذا يكون مولده سنة ثلاث وثلاثين، فالله أعلم.
وكانت فيه جرأة، وإقدام على سفك الدماء، قَتَل خلقًا كثيرًا صبرًا، وكان سفيهًا شديدًا، وكان أميرَ البصرة في زمن معاوية، وولده يزيد، وقُتل سنة ست وستين، وقيل: سنة سبع وستين، ويقال: في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قُتل فيه الحسين بن عليّ رضي الله عنهما
(1)
.
(مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزنِيَّ) بالنصب على المفعوليّة لـ "عاد"(فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ) وكانت وفاة معقل رضي الله عنه بالبصرة، فيما ذكره البخاريّ في "الأوسط" ما بين الستين إلى السبعين، وذلك في خلافة يزيدَ بنِ معاوية، وتقدّم الخلاف في وقت وفاته في ترجمته (قَالَ مَعْقِلٌ) رضي الله عنه (إِنِّي مُحَدِّثُكَ) وفي الرواية الآتية:"فقال له معقل: إني سأحدّثك"(حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ لِي حَيَاةً) أي: بقاء بعد هذا اليوم (مَا حَدَّثْتُكَ) أي: بهذا الحديث.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله: إنما قال له معقل رضي الله عنه هذا إما لأنه عَلِمَ قبل ذلك أنه ممن لا ينفعه الوعظ، كما ظهر منه مع غيره، ثم خرج آخرًا من كتمه الحديث، ورأى تبليغه لأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتبليغ، أو لأنه خافه من ذكره مدّة حياته؛ لِمَا يُهيج عليه ذكرُ هذا الحديث، ويُثبته في قلوب الناس من سوء حاله. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر القاضي الاحتمالين، والاحتمال الثاني - كما قال النووي - هو الظاهر، والأول ضعيفٌ؛ لأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لا يسقط باحتمال عدم قبوله، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وزاد في رواية يونس، عن الحسن التالية:"قال: ألَّا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: لَمْ أكن لأحدثك".
قال في "الفتح": قيل: سبب عدم تحديثه قبله هو ما وصفه به الحسن البصريّ من سفك الدماء، ووقع في رواية الإسماعيلي من الوجه الذي أخرجه
(1)
راجع: "البداية والنهاية" لابن كثير 6/ 39 - 41، بزيادة يسيرة من "الفتح" 13/ 136.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 561 - 562.
مسلم: "لولا أني ميتٌ ما حدثتك"، فكأنه كان يَخْشَى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يَكُفّ بذلك بعض شره عن المسلمين، وإلى ذلك وقعت الإشارة في الرواية الآتية من طريق أبي المليح: أن عبيد الله بن زياد عاد مَعْقِل بن يسار، فقال له معقل:"لولا أني في الموت ما حدثتك".
وقد أخرج الطبراني في "الكبير" من وجه آخر عن الحسن، قال: لَمّا قَدِمَ علينا عبيد الله بن زياد أميرًا - أَمَّرَه علينا معاويةُ - غلامًا سفيهًا، يَسْفِك الدماء سَفْكًا شديدًا، وفينا عبد الله بن مغفل المزنيّ، فدَخَل عليه ذات يوم، فقال له: انْتَهِ عما أراك تصنعُ، فقال له: وما أنت وذاك؟، قال: ثم خَرَجَ إلى المسجد، فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس الناس؟، فقال: إنه كان عندي علمٌ، فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رؤوس الناس، ثم قام، في لَبِثَ أن مَرِضَ مرضه الذي تُوُفِّي فيه، فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فذكر نحو حديث الباب، فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين، قاله في "الفتح"
(1)
.
(إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية (مِنْ) زائدة للتأكيد، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"
(عَبْدٍ) مبتدأٍ خبره قوله: "إلَّا حرّم الله
…
إلخ" (يَسْتَرْعِيهِ اللهُ) أي: يستحفظه، ويجعله راعيًا لهم، قيل: السين والتاء للصيرورة، أي: صيّره الله راعيًا لهم، والجملة صفة لـ "عبد"، ووقع في بعض نسخ البخاريّ: "استرعاه الله" (رَعِيَّةً) بفتح، فكسر: فَعِلية بمعنى مفعولة، أي: مَرْعيّةً محفوظة، قال ابن الأثير: الرَّعِيّةُ: كلُّ من شَمِله حفظ الراعي ونظره
(2)
.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما من عبد
…
إلخ" هو لفظ عامّ في كلّ من كُلّف حفظَ غيره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راع، وكلّكم مسئول عن رعيّته، فالإمام راعٍ، ومسؤول عن رعيّته
…
"
(3)
، وهكذًا الرجل على أهل بيته، والولد، والعبد، والرعاية: الحفظ والصيانة، والغشّ: ضدّ النصيحة، وحاصله راجع
(1)
"الفتح" 13/ 137 "كتاب الأحكام" رقم (7150 و 7151).
(2)
"النهاية" 2/ 236.
(3)
متّفقٌ عليه.
إلى الزجر عن أن يضيّع ما أُمر بحفظه، وأن يقصّر في ذلك، مع التمكّن من فعل ما يتعيّن عليه. انتهى
(1)
.
وقوله: (يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ) جملة في محلّ رفع صفة ثانية لـ "عبد"(وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيتِهِ) أي: غير ناصح لهم، والجملة في محلّ نصب على الحال، والغاشّ: اسم فاعل من الغَشّ، يقال: غَشّه غَشًّا، من باب نصر، والاسم الغِشّ بالكسر: إذا لَمْ ينصحه، وزَيَّنَ له غير المصلحة، ولَبَنٌ مغشوشٌ؛ أي: مخلوط بالماء
(2)
.
(إِلَّا) أداة استثناء مُلْغاة، وجملة:(حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ") خبر في محل رفع خبر لـ "عبد".
وفي رواية أبي المَليح الآتية: "ما من أميرٍ يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم، وَينْصح إلَّا لَمْ يدخل معهم الجنّة"، وفي رواية البخاريّ من طريق أبي نعيم، عن أبي الأشهب:"ما من عبد يسترعيه الله رَعِيّةً، فلم يَحطُها بنصحه، لَمْ يجد رائحة الجنّة".
وزاد في رواية الطبراني من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: "وعَرْفُها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عامًا".
وقوله: "فلم يَحُطْها" - بفتح أوله، وضمّ الحاء، وسكون الطاء المهملتين -: أي يَكْلَؤهَا، أو يَصُنْها، والاسم: الحِيَاطة، يقال: حاطه: إذا استولى عليه، وأحاط به مثله.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فلم يَحُطْها"، وفي قوله:"فيموت"
(3)
، مثل اللام في قوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الآية [القصص: 8]، وقوله:"وهو غاشّ" حالٌ
(4)
قيدٌ للفعل، ومقصودٌ بالذكر؛ لأن المعتبر من الفعل، والحال هو الحال، يعني: أن الله تعالى إنما وَلّاه واسترعاه على عباده؛ لِيُدِيم لهم النصيحة، لا لِيَغُشَّهم، حتى
(1)
"المفهم" 1/ 353 - 354.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 447.
(3)
أي في رواية البخاريّ، فإنها بلفظ: "فيموت، وهو غاشّ
…
" إلخ.
(4)
أي جملة في محلّ نصب على الحال، كما أسلفناه.
يموت على ذلك، فلما قَلَبَ القضيةَ، استَحَقَّ أن لا يجد رائحة الجَنَّة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "حرم الله عليه الجَنَّة" فيه التأويلان المتقدمان في نظائره:
[أحدهما]: أنه محمول على المستحلّ.
[والثاني]: حَرَّم عليه دخولَها مع الفائزين السابقين، ومعنى التحريم هنا: المنع. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث، وما في معناه قد تقدّم معنى تحريم الجنّة، والتأويل في مثله، ومعناه بَيّن في التحذير مِن غَشّ المسلمين لمن قَلّده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونَصَبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتُمِن عليه، فلم يَنصَح فيما قَلَّده إما بتضييعه تعريفهم ما يَلْزَمهم من دينهم، وأَخْذهم به، في ما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم، والذّبّ عنها كلَّ مُتَصَدٍّ لإدخال داخلة فيها، أو تحريفٍ لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حَوْزَتهم، ومجاهدة عدُوّهم، أو تَرْكِ سِيرةِ العدل فيهم، فقد غَشَّهم.
قال: وقد نبّه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك من كبائر الذنوب المُوبِقَة المبعدة عن الجَنَّة إذا دخلها السابقون، والمقرَّبون، إن أنفذ الله عليه وعيده الموجِبَ لعذابه بالنار، أو نحو ذلك، أو يُحْرَمُ الجنّةَ رأسًا، إن فَعَلَ ذلك مُستحِلًّا. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(3)
.
وقال ابن بطّال رحمه الله: معنى "حَرَّم الله عليه الجَنَّة"؛ أي: أنفذ الله عليه الوعيد، ولم يُرْضِ عنه المظلومين، ونقل ابن التين عن الداوديّ نحوَه، قال: ويحتمل أن يكون هذا في حقّ الكافر؛ لأن المؤمن لا بُدّ له من نصيحة.
وتعقّبه الحافظ: فقال: هو احتمال بعيد جدًّا، والتعليل مردود، فالكافر أيضًا قد يكون ناصحًا فيما تولاه، ولا يمنعه ذلك الكفر، وقال غيره: يُحْمَل على المستحلّ، والأولى أنه محمول على غير المستحلّ، فَإنما أريد به الزجر
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 8/ 2569.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 166.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 560 - 561.
والتغليظ، وقد وقع في رواية لمسلم بلفظ:"لَمْ يدخل معهم الجَنَّة"، وهو يؤيِّد أن المراد أنه لا يدخل الجَنَّة في وقت دون وقت. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث مَعْقِل بن يسار المزنيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[66/ 370 و 371 و 372 و 373](142)، وفي "الإمارة"(3/ 1460)، و (البخاريّ) في "الإحكام"(7150 و 7151)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(928 و 929)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 25 و 27)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 324)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(89 و 7043 و 7048)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(362 و 363 و 364 و 365)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 449 و 455 و 456 و 457 و 458 و 459 و 469 و 472 و 473 و 476 و 478)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4495)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(2478)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 41)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الغشّ، وأنه ينافي الإيمان، وهذا هو وجه المطابقة في إيراده هنا.
2 -
(ومنها): بيان استحقاق الوالي الغاشّ لرعيّته، النار بغشّه.
3 -
(ومنها): ما قاله أبو عوانة رحمه الله بعد تخريجه الحديث: في هذا الحديث دليلٌ على أن العاصي يستوجب بعصيانه النار، إلَّا أن يلقى الله، وهو تائبٌ، فإن لَمْ يفعل فهو في مشيئة الله، إن شاء غفر له، وإن شاء عذّبه. انتهى
(1)
.
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 40.
4 -
(ومنها): بيان التحذير مِن غَشّ المسلمين لمن قَلّده الله تعالى شيئًا من أمرهم، واسترعاه عليهم، ونَصَبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم.
5 -
(ومنها): بيان أن هذا الغشّ من الكبائر الموبِقَة المُبْعِدة عن الجَنَّة.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: هذا وعيدٌ شديدٌ على أئمة الجور، فمَن ضَيَّعَ مَن استرعاه الله، أو خاف دم، أو ظلمهم، فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يَقْدِر على التحلل من ظلم أمّة عظيمة.
7 -
(ومنها): أن في قوله: "يموت يوم يموت، وهو غاشّ" إشارة إلى أنه لو تاب قبل الموت قُبِلت توبته.
وقد أخرج الترمذيّ، وحسّنه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يقبل توبة العبد ما لَمْ يُغَرْغِرْ"
(1)
.
8 -
(ومنها): بيان فضل هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، حيث قام بتبرئة ذمّته، عن آفة كتمان العلم، مع علمه بقساوة هذا الوالي، وعدم انتفاعه بالموعظة، لكنه أراد أن يبلغ هذا اوحديث العظيم إلى الأمة حتى تكون على بيّنة من أمرها؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} الآية [الأنفال: 42]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[371]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَن، قَالَ: دَخَلَ عُبيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ عَلَى مَعْقَلِ بْنِ يَسَارٍ، وَهُوَ وَجِعٌ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، لَمْ أَكُنْ حَدَّثْتُكَهُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسْتَرْعِيِ اللهُ عَبْدًا رَعِيَّةً، يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ، وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"، قَالَ: أَلَّا كُنْتَ حَدَّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: مَا حَدَّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أَكُنْ لَأُحَدِّثَكَ).
(1)
حديث حسن، أخرجه الترمذيّ في "كتاب الدعوات" من "جامعه" برقم (3460).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبتٌ [8](182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار العَبْديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالفقهاء الزهاد العبّاد، فكلّهم فقهاء زُهّاد عبّاد، ومما قيل في رواية يحيى بن يحيى، عن يزيد بن زُريع، ما ذكره الحسن بن سفيان، قال: كنّا إذا رأينا روايةً ليحيى بن يحيى، عن يزيد بن زُريع، قلنا: رَيْحانة أهل خُرَاسان عن رَيْحانة أهل العراق
(1)
.
وقوله: (وَهُوَ وَجِعٌ) بفتح الواو، وكسر الجيم؛ أي: مريضٌ، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَجِعَ فلانًا رأسُهُ، أو بَطْنُهُ، يُجعَل الإنسان مفعولًا، والعضوُ فاعلًا، وقد يجوز العكسُ، وكأنه على القلب؛ لفهم المعنى، يَوْجَعُ وَجَعًا، من باب تَعِبَ، فهو وَجِعٌ؛ أي: مريضٌ، مُتَأَلِّمٌ، ويقع الوجعُ على كلّ مرضٍ، وجمعه: أَوْجَاعٌ، مثل سَبَبٍ وأَسباب، ووِجَاعٌ أيضًا بالكسر، مثل: جَبَلٍ وجِبَالٍ، وقومٌ وَجِعُونَ، ووَجْعَي، مثلُ: مَرْضَي، ونساءٌ وَجِعَات، ووَجَاعَي، وربما قيل: أوجعه رأسُهُ بالألف، والأصل: وَجِعَهُ أَلَمُ رأسه، وأوجعه أَلَمُ رأسه، لكنه حُذِفَ؛ للعلم به، وعلى هذا فيقال: فلان مَوْجُوعٌ، والأجود مَوْجُوعُ الرأس، وإذا قيل: زيد يَوْجَعُ رَأْسَهُ بحذف المفعول، انتصب الرأسُ وفي نصبه قولان: قال الفراء: وَجِعْتَ بَطْنَكَ، مثلُ رَشِدتَ أَمْرَكَ، فالمعرفة هنا في معنى النكرة، وقال غير الفراء: نُصِبَ البطنُ بنزع الخافض، والأصلُ: وَجِعْتَ مِنْ بطنك، ورَشِدتَ في أمرك؛ لأن المُفَسِّرات عند البصريين لا تكون إلَّا نكراتٍ، وهذا على القول بجعل الشخصِ مفعولًا واضحٌ، أما إذا جُعِل
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 397.
الشخصُ فاعلًا، والعضوُ مفعولًا، فلا يحتاج إلى هذا التأويل، وتَوَجَّعَ: تَشَكَّي، وتَوَجَّعتُ له من كذا: رَثَيتُ له. انتهى كلام الفيّومي رحمه الله
(1)
.
وقوله: (فَسَأَلَهُ) أي: سأل عبيد الله بن زياد معقلَ بن يسار رضي الله عنه عن مرضه، وعما يَحتاج إليه من العلاج، أو غيره.
ويحتمل أن يكون معناه أنه سأله أن يُحدّثه بما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤيّد هذا ما في رواية أبي نعيم قال: دخل عبيد الله على معقل بن يسار، فقال: حدّثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال معقلٌ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استُرعي رعيّةً، فمات، وهو لها غاشّ، حَرَّمَ الله عليه الجنّة".
وقال بعضهم: معنى سأله: طلب أن يدعو له معقل؛ أي: لكونه من أهل الفضل والصلاح؛ لأنه صحابيّ، وفيه بعدٌ؛ لما سبق من حال عبيد الله، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ) فاعله ضمير عبيد الله (أَلَّا) بفتح الهمزة، وتشديد اللام، وهي في الأصل للتحضيض، ولكنها هنا للتوبيخ، ويحتمل أن تكون بتخفيف اللام، وهي أيضًا تأتي للتوبيخ والإنكار، كقوله [من الطويل]:
أَلَا ارْعِوَاءَ لِمَنْ وَلَّتْ شَبِيبَتُهُ
…
وَآذَنَتْ بِمَشِيبٍ بَعْدَهُ هَرَمُ
(2)
وقوله: (مَا حَدَّثْتُكَ)"ما" نافية.
وقوله: (أَوْ لَمْ كُنْ)"أو" للشكّ من الراويّ.
وقوله: (لَأُحَدِّثَكَ) في محلّ نصب على أنه خبر "أكن"، كما في قوله تعالى:{مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} [الأنعام: 111]، واللام المكسورة التي في أوله تُسمّى لام الجحود، وتُضْمَرُ بعدها "أن" وُجوبًا.
وقد تقدّم سبب عدم تحديثه له إلى أن جاء موته، من كونه لا ينفعه الوعظ، بل يزيده عتوًّا، ويبطش به، فخاف على نفسه، ثم لما خشي عند موته من آفة كتمان العلم حدّثه؛ - قيامًا بما وجب عليه من التبليغ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 648 - 649.
(2)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 68 - 74.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[372]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ - يَعْنِي: الْجُعْفِيَّ - عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: كُنَّا عِنْدَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، نَعُودُهُ، فَجَاءَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيادٍ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القُرَشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحّان، ثقة [11](ت في حدود 250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(حُسَيْن الْجُعْفيُّ) هو: الحُسين بن عليّ بن الوليد الكوفيّ المقريّ، ثقةٌ عابدٌ [9](3) أو (204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
3 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثّقَفيّ، أبو الصّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سنّة [7](ت 160)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
4 -
(هِشَامٌ) بن حسّان الأزديّ القُرْدوسيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يُرسل عنهما [6](ت 147)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
[فإن قلت]: كيف أخرج المصنّف هذا الحديث من رواية هشام بن حسّان عن الحسن، وقد عرفت أن فيه مقالًا؟.
[قلتُ]: إنما أخرج له متابعةً لا أصالةً، فقد رواه قبل هذا من رواية أبي الأشهب، ويونس بن عبيد، وهما ثبتان، على أن يونس من أثبت الناس في الحسن، فلا يضرّ الكلام في هشام، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ) الفاعل ضمير هشام بن حسّان.
وقوله: (قَالَ الْحَسَنُ) أي: البصريّ.
وقوله: (كُئا عِنْدَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ) هذا فيه تصريح من الحسن بأنه حضر القصّة، وسمع محاورة معقل رضي الله عنه، مع عبيد الله.
وقوله: (نَعُودُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من اسم "كان".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ) الضمير لهشام بن حسّان (بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا) أي: بمعنى حديث أبي الأشهب، ويونس بن عُبيد.
[تنبيه]: رواية هشام عن الحسن التي أحالها المصنّف رضي الله عنه، أخرجها الطبرانيّ في "المعجم الكبير" (20/ 207) (472) فقال:
حدّثنا محمد بن إسحاق بن راهويه، ثنا أبي، (ح) وحدّثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهانيّ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، قالا: ثنا محمد بن أبي بكر الْمُقَدَّمِيِّ، قالا: ثنا وهب بن جرير، (ح) وحدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحُباب، ثنا أبو موسى محمد بن المثنّى، قالا: ثنا عبد القدّوس بن الجواري، أبو الحواري
(1)
، قالا: ثنا هشام بن حسّان، عن الحسن، عن معقل بن يسار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من استرعاه الله رَعِيّةً، فمات، وهو غاشّ لها، إلَّا حَرّم الله عليه الجنّة"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[373]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيح، أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زَيادٍ، عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِه، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ، لَوْلَا أَنِّي فِي الْمَوْت، لَمْ أُحَدِّثْكَ بِه، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: "مَا مِنْ أَمِيرٍ، يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ، وَيَنْصَحُ، إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ").
(1)
هكذا النسخة، ولم يتبيّن لي من هو عبد القدّوس بن الجواري أبو الحواري، اللهم إلَّا أن يكون فيه تصحيف، فليُحرّر، لكن السند صحيح من طريق: وهب بن جرير، عن هشام، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) هو: مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
[تنبيه]: "الْمِسْمَعِيُّ" - بكسر الميم الأولي، وفتح الثانية -: نسبة إلى مِسْمَع بن ربيعة
(1)
.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ البصريّ، المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيه مجتهدٌ [10](ت 238)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدَّسْتَوَائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدودقٌ ربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
5 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر بوزن جعفر الدَّسْتَوَائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
6 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رأسُ الطبقة [4] مات سنة بضع عشرة ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
7 -
(أَبُو الْمَلِيحِ) بْنُ أُسَامَةَ الْهُذَليّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: زيد بن أسامة بن عُمير، وقيل: ابن عامر بن عُمَير بن حُنَيف بن ناجية بن عَمْرو بن الحارث بن كَثير بن هند بن طابِخَة بن لِحْيَان بن هُذيل، وقيل: ابن عُمير بن عامر بن أُقَيْش، اسمه عُمَير بن حُنَيف، ثقة [3].
رَوَى عن أبيه، ومَعْقِل بن يسار، ونُبَيشة الهُذَليّ، وعوف بن مالك، وعائشة، وابن عباس، وواثلة بن الأسقع، وأبي عَزّة الهُذَليّ، وابن عُمر، وابن العاص، وبُريدة بن الحُصَيب، وجابر، وأنس، وعبد الله بن عُتبة بن أبي سفيان، وعبد الله بن سَلِيط، وغيرهم.
ورَوَى عنه أولاده: عبد الرَّحمن، ومحمد، ومُبَشِّر، وزياد، وأيوب،
(1)
راجع: "الديباج على صحيح مسلم بن الحجَّاج" للسيوطيّ رحمه الله 1/ 157.
وخالد الحذّاء، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية، وسالم بن أبي الجعد، وعبد الله بن أبي حُمَيد الهُذَليّ، وأبو قِلابة الجَرْميّ، وقتادة بن دِعامة، وأبو تميمة الهُجَيميّ، ويزيد الرِّشْك، وأبو عبد الدائم الهَداديُّ، ومَطَر الوَرَّاق، والحَكَم بن فَرُّوخ، وعلي بن زَيد بن جُدْعان، وآخرون.
قال أبو زرعة، وابن سعد: ثقة. وذكره ابن حبّان في "الثقات".
قال ابن سعد: توُفّي سنة اثنتي عشرة ومائة، وقال ابن حبّان: ومنهم من زعم أنه مات سنة ثمان ومائة.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط: هذا (142) وأعاده في "كتاب الإمارة"، و (1141):"أيامُ التشريق أيام أكل وشرب"، و (1159): "أما يَكفيك من كلّ شهر ثلاثةُ أيّام
…
".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه إسحاق، فإنه مروزيّ، وفيه أبو المَلِيح مشهور بكنيته، وهذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد أسلفت آنفًا عدّة ما رواه له المصنّف رحمه الله فيه، وليس في "صحيح مسلم" من يُكنى بهذه الكنية غيره، ويوجد في غيره ممن يُكنى بها اثنان:
[أحدهما]: أبو المَلِيح الرَّقِّيّ، واسمه الحسن بن عمر، أو عَمْرو بن يحيى الفزاريّ مولاهم، ثقة [8] أخرج له البخاريّ، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجة.
[والثاني]: أبو المَلِيْح الفارسيّ المدنيّ الخَرّاط، واسمه: صَبِيح، وقيل: حُميد، ثقةٌ [7]، أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد" والترمذيّ، وابن ماجة.
وقوله: (قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا
…
إلخ) قد سبق الكلام على هذا قريبًا، فلا تغفل.
وقوله: (لَوْلَا أَنِّي في الْمَوْتِ) أي: في سياق الموت، وفي حضوره.
وقوله: (لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ) أي: خوفًا من جراءتك، وظلمك لمن عاديته.
وقوله: (يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ) مضارع وَلي من باب ورث يرث، يقال: وَليتُ الأمرَ أَلِيه بكسرتين، وِلايةً بالكسر: تولّيتُهُ، والوَلايةُ بالفتح، والكسر: النُّصرة
(1)
.
(1)
راجع: "المصباح" 2/ 672.
وقوله: (ثُمَّ لَا يَجْهَدُ لَهُمْ) بفتح أوله وثالله، وسكون ثانيه؛ أي: يجتهد، وفي "القاموس": جَهَدَ، كمَنَعَ: جَدَّ، واجتهدَ.
[تنبيه]: ذكر في "الفتح" أنه وقع في رواية أبي المليح بلفظ: "ثم لا يَجِدّ لهم" بجيم، ودال مشدّدة، من الجدّ بالكسر: ضدّ الهزل. انتهى
(1)
.
قال الجامع: لَمْ أجد هذا اللفظ في النسخ التي بين يديّ من "صحيح مسلم"، بل كلّها بلفظ:"ثم لا يَجْهَد لهم"، ولعل صاحب "الفتح" - وهو إمام في النقل - وجد نسخة كما ذكره، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَيَنْصَحُ) تقدّم في الرواية السابقة إثبات الغشّ، وفي هذه الرواية نفي النصيحة، ومعنى الروايتين واحد؛ لأن الغشّ ضدّ النصيحة.
قال في "الفتح": ويحصل ذلك بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، وحبس حقوقهم، وترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم، وبإهمال إقامة الحدود فيهم، ورَدْع المفسدين منهم، وترك حمايتهم، ونحو ذلك. انتهى
(2)
.
وقوله: (إِلَّا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ) وللطبراني في "الأوسط": "إلَّا كَبَّه الله على وجهه في النار".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لَمْ يدخل معهم الجنّة" يُشير إلى صحّة ما ذكرناه، من أنه لا يدخل الجنّة في وقت دون وقت، وهو تقييد للرواية الأخرى المطلقة التي لَمْ يُذكر فيها "مَعَهم". انتهى
(3)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(67) - (بَابُ رَفْعِ الأَمَانَة، والإِيمَانِ مِنَ الْقُلُوبِ)
[374]
(143) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، وَوَكِيعٌ، (ع) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ زيدِ بْنِ
(1)
"الفتح" 13/ 137.
(2)
"الفتح" 13/ 137.
(3)
"المفهم" 1/ 354 - 355.
وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْن، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظَرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَال، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآن، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّة، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَة، قَالَ:"يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِه، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْت، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِه، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ - ثُمَّ أَخَذَ حَصًى، فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ - فَيُصْبحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ، مَا أَظْرَفَهُ، مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ"، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ، وَمَا أُبَالِي أَيَّكُمْ بَايَعْتُ؟، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَى دِينُهُ، وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ يَهُودِيًّا، لَيَرُدَّنَّهُ عَلَى سَاعِيه، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لِأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا).
رجال هذا الإسناد: سبعةٌ:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير، تقدّم قبل بابين أيضًا.
3 -
(وَكِيعٌ) بن الجرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين أيضًا.
4 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) هو: محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، تقدم قبل باب.
5 -
(الْأَعْمَشُ) هو: سليمان بن مِهْرَان الإمام الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
6 -
(زيدُ بْنُ وَهْبٍ) الجُهَنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ جليلٌ، لَمْ يُصِبْ من قال: في حَديثه خَلَلٌ [2].
رَحَلَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقُبِض وهو في الطريق، ورَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وأبي ذرّ، وابن مسعود، وحذيفة، وأبي الدرداء، وأبي موسى، وغيرهم.
وروى عنه أبو إسحاق السبيعي، وإسماعيل بن أبي خالد، والحَكَم بن
عُتيبة، والأعمش، ومنصور، وحُصين، وعبد العزيز بن رُفيع، وسَلَمَة بن كُهيل، وطلحة بن مُصَرِّف، وحبيب بن أبي ثابت، وحماد بن أبي سليمان، وعَدِيّ بن ثابت، وعبد الملك بن ميسرة، وجماعة.
قال زهير عن الأعمش: إذا حدثك زيد بن وهب عن أحد، فكأنك سمعته من الذي حدثك عنه. وقال ابن معين: ثقة: وقال ابن خَرَاش: كوفي ثقة، دخل الشام، وروايته عن أبي ذر صحيحة. وقال العجلي: ثقة. وقال ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وابن منده: أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهاجر إليه، فلم يدركه. وقال يعقوب بن سفيان: في حديثه خلل كثير
(1)
. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، تُوفي في ولاية الحجَّاج بعد الجماجم. وقال أبو بكر بن منجويه: مات سنة ست وتسعين. وكذا قال ابن حبان في "الثقات".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى قول يعقوب بن سفيان: في حديثه خلل كثير، فأجاد وأفاد، ونصّه في "ميزان الاعتدال":
زيد بن وهب من أجلة التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به، إلَّا ما كان من يعقوب الفسويّ، فإنه قال في "تاريخه": في حديثه خلل كثير، ولم يصب الفسويّ، ثم إنه ساق من روايته قول عمر:"يا حذيفة بالله أنا من المنافقين؟ "، قال: وهذا مُحال أخاف أن يكون كذبًا، قال: ومما يُستَدَلُّ به على ضعف حديثه روايته عن حذيفة: "إن خَرَج الدجال تبعه من كان يحب عثمان"، ومن خلل روايته قوله: حدثنا والله أبو ذر بالرَّبَذَة قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقبلنا أحد
…
"الحديث.
فهذا الذي استنكره الفسويّ من حديثه، ما سُبِق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا، لرددنا كثيرًا من السنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفتح علينا في زيد بن وهب خاصّة باب الاعتزال، فردوا حديثه الثابت عن ابن مسعود، حديث الصادق المصدوق، وزيد سيد، جليل القَدْر. انتهى المقصود من كلام
(1)
قد عرفت في أول الترجمة أن هذا غير صحيح.
الذهبيّ رحمه الله لهُ، وهو كلام نفيسٌ جدًّا
(1)
. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (11) حديثًا.
7 -
(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل، أو حِسْل العَبْسيّ، حليف الأنصار، الصحابيّ الجليل، مات رضي الله عنه في أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة (36)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 457، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة من صيغ الأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه أبي بكر، في أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بثقات الكوفيين، وحذيفة رضي الله عنه مدائنيّ كوفيّ.
4 -
(ومنها): أن شيخه أبا كُريب أحد المشايخ التسعة الذين اتّفق أصحاب الأصول بالرواية عنهم بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن أبا معاوية أحفظ من روى لحديث الأعمش بعد الثوريّ.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: الأعمش، عن زيد بن وهب.
7 -
(ومنها): أن صحابيّه رضي الله عنه، من السابقين الأولين، وقصّة إسلامه مشهورة في "الصحيح"، وهو صاحب سِرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه بأسماء المنافقين، وغيرها من المغيّبات، فقد أخرج المصنّف رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وبما يكون إلى أن تقوم الساعهّ، وأبوه صحابيّ أيضًا، استُشهد بأُحد رضي الله عنهما، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ الْأَعْمَشِ) هكذا عنعنعه الأعمش، وهو مدلّس، وقد تقدّم الجواب
(1)
راجع: "ميزان الاعتدال" 2/ 107.
عن هذا في "شرح المقدّمة"، فراجعه (عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ) الجُهنيّ (عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه ـ أنه (قَالَ: حَدَّثنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: حدثنا حديثين في الأمانة، وإلا فروايات حذيفة رحمه الله كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما، قال صاحب"التحرير" وعنى بأحد الحديثين قوله:"حَدَّثَنَا أن الأمانة نَزَلت في جِذْر قلوب الرجال"، وبالاني قوله: "ثم حَدَّثنا عن رفع الأمانة
…
" إلى آخره. انتهى
(1)
.
(قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الْأَمَانَةَ) الظاهر أن المراد بها التكليف الذي كَلَّف الله تعالى به عباده، والعهدُ الذي أخذه عليهِم، قال الإمام أبو الحسن الواحديّ رحمه الله في قول الله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية [الأحزاب: 72]: قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الفرائض التي افترضها الله تعالى على العباد، وقال الحسن: هو الدينُ والدين كلُّه أمانة، وقال أبو العالية: الأمانةُ ما أُمِروا به، وما نُهُوا عنه، وقال مقاتل: الأمانة الطاعة، قال الواحديّ: وهذا قول أكثر المفسرين، قال: فالأمانة في قول جميعهم: الطاعة، والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب، وبتضييعها العقاب، والله تعالى أعلم.
وقال صاحب "التحرير": الأمانة في الحديث: هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} ، وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد، قام حينئذٍ بأداء التكاليف، واغتَنَمَ ما يَرِدُ عليه منها، وَجَدَّ في إقامتها، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الأمانة: كلُّ ما يُوكَلُ إلى الإنسان حفظه، ويُخلَّى بينه وبينه، ومن هنا سُمّي التكليف أمانة في قوله تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية [الأحزاب: 72] في قول كثير من المفسّرين. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قال ابن التين: "الأمانة": كلّ ما يَخْفَى ولا يعلمه،
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 168.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 168.
(3)
"المفهم" 1/ 356.
إلَّا الله من المكلَّف، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أُمروا بها، ونُهُوا عنها، وقيل: هي الطاعة، وقيل: التكاليف، وقيل: العهد الذي أَخَذه الله على العباد، وهذا الاختلاف وقع في تفسير الأمانة المذكورة في الآية:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ} الآية [الأحزاب: 72]، وقال صاحب "التحرير": الأمانة المذكورة في الحديث، هي الأمانة المذكورة في الآية، وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت في القلب، قام بأداء ما أُمر به، واجتَنَب ما نُهِي عنه. انتهى
(1)
.
(نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ) الجِذْر - بفتح الجيم، وكسرها، لغتان، وبالذال المعجمة فيهما -، وهو الأصل. قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب الأصمعيّ في هذا الحرف فتح الجيم، وأبو عمرو يكسرها.
قال القرطبيّ رحمه الله: معنى إنزال الأمانة في القلوب أن الله تعالى جَبَلَ القلوبَ الكاملة على القيام بحقّ الأمانة من حفظها، واحترامها، وأدائها لمستحقّها، وعلى النَّفْرة من الخِيَانة فيها؛ لتنتظم المصالح بذلك، لا لأنَّها حسنةٌ في ذاتها كما يقوله المعتزلة، على ما يُعرف في موضعه.
(ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآن، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ) ولفظ البخاريّ من طريق الثوريّ، عن الأعمش:"ثم علموا من القرآن، ثم عَلِموا من السنّة"، قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية بإعادة "ثُمّ"، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السُّنَن، والمراد بالسنن ما يَتَلَقَّونه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم واجبًا كان، أو مندوبًا. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ) هذا هو الحديث الثاني الذي ذَكَرَ حذيفة رضي الله عنه أنه ينتظره، وهو رفع الأمانة أصلًا، حتى لا يبقى مَن يوصف بالأمانة إلَّا النادر.
ولا يَعْكِرُ
(3)
على هذا ما ذكره في آخر الحديث، مما يدُلّ على قلة مَن
(1)
"الفتح" 13/ 43 - 44.
(2)
"الفتح" 13/ 43 "كتاب الفتن" رقم (7086).
(3)
من بابي ضرب، ونصر: أي لا يردّ عليه.
ينسب للأمانة، فإن ذلك بالنسبة إلى حال الأولين، فالذين أشار إليهم بقوله:"ما كنتُ أبايع إلَّا فلانًا وفلانًا"، هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه، والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقلُّ، وأما الذي ينتظره، فإنه حيث تُفْقَدُ الأمانة من الجميع إلَّا النادر، قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ) بفتح، فسكون: المرّة من النوم، كما قال في "الخلاصة":
وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَـ "جَلْسَهْ"
…
وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَـ "جِلْسَهْ"
(فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ) ببناء الفعل للمفعول، أي: تنزع منه، وقال في "المرقاة": أي: يُقبض بعضها، كما يدلّ عليه ما بعده، والمعنى: يُقبَضُ بعض ثمرات الإيمان. انتهى
(2)
.
(فَيَظَلُّ) - بفتح أوله، وثانيه، وتشديد اللام -؛ أي: فيصير (أَثَرُهَا) أي: أثر الأمانة، وهو ثمرة الإيمان، والمعنى أن الأمانة تَذْهَب حتى لا يبقى منها إلَّا الأثر الموصوف في الحديث.
(مِثْلَ الْوَكْتِ) بفتح الواو، وسكون الكاف، آخره تاء مثنّاة فوقيّة: هو الأثر اليسير، كذا قاله الهَرَويّ، وقال غيره: هو سوادٌ يسير، وقيل: هو لونٌ مخالفٌ للّون الذي كان قبله، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال الهَرَويّ رحمه الله: "الْوَكْتُ": الأثر اليسير، يقال للْبُسْر إذا وقعت فيه نكتة من الإرطاب: قد وَكَّتَ، وقال صاحب "العين": الوَكْتُ بفتح الواو: نُكْتةٌ في العين، وعينٌ مُوَكوتةٌ، والوكتُ سواد اللون، قال أبو عبيدة: هو اليسير منه، ويقال: قد وَكَّتَ البُسْرُ والزَّهْوُ: إذا ظهرت فيه نُكتةٌ من الإرطاب من جانبها، وبُسْرَةٌ مُوَكَّتَةٌ، فإذا كان من طَرَفها، فهي مُذَنِّبَةٌ. انتهى
(3)
.
(ثمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِه، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ) - بفتح الميم، وإسكان الجيم وفتحها -، لغتان حكاهما صاحب "التحرير"، والمشهور الإسكان، قاله النوويّ.
(1)
"الفتح" 13/ 43.
(2)
"المرقاة" 9/ 254.
(3)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 563 - 564، و"المفهم" 1/ 356.
وقال المجد رحمه الله: مَجَلَت يدُهُ، كنصَرَ، وفَرِحَ، مَجْلًا - بفتح الميم، وسكون الجيم -، ومَجَلًا بفتح الجيم، ومُجُولًا: نَفِطَت من العمل، فَمَرَنَتْ، كأَمْجَلَت. انتهى
(1)
.
وقال ابن بطّال رحمه الله: المَجلُ: أثرُ العمل باليد، يعالج به الإنسان الشيءَ حتى تغلُظ جلودها، يقال منه: مَجِلت يدُهُ، ومَجَلت لغتان، وذكر الحربيّ عن ابن الأعرابيّ: المجلُ: النفط باليد ممتلئ ماءً، وقال أبو زيد: إذا كان بين الجلد واللحم ماءٌ قيل: مجلت يده تمجل، ونَفِطَت تَنْفَط نَفَطًا، ونَفِيطًا
(2)
. انتهى
(3)
.
قال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة والغريب: المَجَلُ: هو التَّنَفُّط الذي يصير في اليد من العمل بفأس أو نحوها، ويصير كالقبة، فيه ماء قليل. انتهى
(4)
.
(كَجَمْرٍ) بفتح الجيم، وسكون الميم: جمعُ جَمْرةِ النار، وهي القطعة المُلْتَهِبة، قاله في:"المصباح"، وقال في "القاموس": الجَمْرَةُ: النارُ المُتَّقِدَةُ: جمعها جَمْرٌ. انتهى
(5)
.
وهو بدلٌ من "أثر المجل"، أي: يكون أثرها في القلب كأثر جمر، أو خبرٌ لمبتدأ محذوف؛ أي: هو - يعني: أثر المجل - كائن كجمر (دَحْرَجْتَهُ) أي: قلبتَ، ودوّرت ذلك الجمر (عَلَى رِجْلِكَ) بكسر الراء، وسكون الجيم: القدم، أو من أصل الفخذ إلى القدم، جمعه: أرجُلٌ، قاله في:"القاموس"، وقال في "المصباح": رِجْلُ الإنسان التي يمشي بها من أصل الفخذ إلى القدم، وهي أنثى، وجمعها أرجُلٌ، ولا جمع لها غير ذلك. انتهى
(6)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 952.
(2)
نَفِطَت، كفرِحَ نَفْطًا بفتح النون، وسكون الفاء، ونَفَطًا بفتحها، ونَفِيطًا: قَرِحت عَمَلًا. اهـ. "ق" ص 621.
(3)
"شرح البخاريّ" لابن بطَّال 10/ 39.
(4)
"شرح النوويّ" 2/ 169.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 108، و"القاموس المحيط" ص 331.
(6)
"القاموس المحيط" ص 903، و"المصباح المنير" 1/ 220.
(فَنَفِطَ) بكسر الفاء، يقال: نَفِطَت يدُهُ نَفَطًا، من باب تَعِبَ، ونَفِيطًا: إذا صار بين الجِلْد واللحم ماءٌ، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: نَفِطَت، كفرِحَ نَفْطًا، ونَفَطًا، ونَفِيطًا: قَرِحت عَمَلًا، أو مَجِلَت، وأنفطها العمل. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: إنما ذكّر الضمير فيه، وفي قوله:"فتراه منتبرًا"، وإن كانت الرّجْلُ مؤنّثة كما أسلفناه في عبارة "المصباح" بتأويله بالعضو، أو بالموضع المدَحْرَج عليه الجمرُ.
وقال النوويّ: وقوله: "نَفِطَ"، ولم يقل: نَفِطَت مع أن الرجل مؤنثةٌ، إما أن يكون ذَكَّرَ نَفِطَ اتباعًا للفظ الرِّجْل، وإما أن يكون اتباعًا لمعنى الرّجْل، وهو العضو. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "اتباعًا للفظ الرِّجْل" محلُّ نظر، فالوجه الثاني هو الأقرب، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَتَرَاهُ) أي: ترى الموضع المدحرج عليه الجمرُ (مُنْتَبِرًا) بكسر الموحدة: أي: مرتفعًا، قال عياضٌ رحمه الله: أصل هذه اللفظة من الارتفاع، ومنه انتَبَرَ الأميرُ: إذا صَعِدَ على المِنْبَر، وبه سُمّي المِنبَر مِنْبَرًا؛ لارتفاعه، ونَبَرَ الجُرْحُ؛ أي: وَرِمَ، والنَّبْرُ: نوعٌ من الذباب يَلْسَع الإبل، فَيَرِمُ مكانُ لَسْعَته، ومنه سُمّي الهمز نَبْرًا؛ لكون الصوت على حال من الارتفاع، لا يوجد في غير هذا الحرف، وكلُّ شيء ارتفع فقد نَبَرَ، قال أبو عُبيد:"مُنْتَبِرًا: مُتَنَفّطًا". انتهى
(4)
.
(وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ) أي: ليس في ذلك المنتبر شيءٌ صالح، وإنما هو ماءٌ فاسد.
وحاصل الخبر أنه أنذر برفع الأمانة، وأن الموصوف بالأمانة يُسْلَبها حتى يصير خائنًا بعد أن كان أمينًا، وهذا إنما يقع على ما هو مُشاهَدٌ لمن خالط أهلَ الخيانة، فإنه يصير خائنًا لأن القرين يقتدي بقرينه
(5)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 618.
(2)
"القاموس المحيط" ص 621.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 169.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 564 - 565.
(5)
راجع: "الفتح" 13/ 43.
(ثُمَّ أَخَذَ) الظاهر أن الضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون لِحُذيفة رضي الله عنه (حَصًى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه، وهو ظاهر، ووقع في أكثر الأصول:"ثم أَخَذَ حصاةً، فدحرجه"، بإفراد لفظ "الحصاة"، وهو صحيح أيضًا، ويكون معناه: دَحْرَجَ ذلك المأخوذَ، أو الشيءَ، وهو الحصاة. انتهى
(1)
.
و"الحَصَى" - بفتحتين -: صغار الحجارة، والواحدة حَصَاةٌ، وجمعه: حَصَيات، وحِصيّ بضم الحاء، وكسرها، مع كسر الصاد، قاله المجد رحمه الله
(2)
.
(فَدَحْرَجَهُ) أي: قلبه (عَلَى رِجْلِهِ) قال صاحب "التحرير": معنى الحديث: أن الأمانة تزول عن القلوب شيئًا فشيئًا، فإذا زال أوَّل جزء منها زال نورها، وخَلَفته ظلمة، كالوكت، وهو اعتراضُ لون مخالفٍ للّون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر، صار كالمَجْل، وهو أَثَرٌ مُحْكَمٌ، لا يكاد يزول إلَّا بعد مدّة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شَبَّهَ زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب، وخروجه بعد استقراره فيه، واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله، حتى يُؤَثِّر فيها، ثم يزول الجمر، ويبقى التنفيط، وأَخْذُه الحصاةَ، ودَحْرَجته إياها أراد بها زيادة البيان، وإيضاح المذكور، والله تعالى أعلم
(3)
.
وقيل: المراد أن الأمانة تُرفع عن القلوب عقُوبةً لأصحابها على ما اجترحوا من الذنوب، حتى إذا استيقظوا من منامهم لَمْ يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه، ويبقى فيه أثرٌ تارةً مثلَ الوكت، وتارة مثلَ الْمَجْل، وهو انتفاط اليد من العمل، و"المَجْلُ" وإن كان مصدرًا إلَّا أن المراد به هنا نفس النفطة، وأراد به خلوّ القلب عن الأمانة مع بقاء أثرها
(4)
.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: المراد بالأمانة في حديث حُذيفة رضي الله عنه: الإيمان، وتحقيقُ ذلك فيما ذَكَرَ من رفعها أن الأعمال السيئة لا تزال تُضْعِف الإيمان، حتى إذا تناهى الضعف، لَمْ يبقَ إلَّا أثر الإيمان، وهو التلفظ باللسان،
(1)
"شرح مسلم" للنوويّ 2/ 169.
(2)
راجع: "القاموس" وهامشه ص 1147.
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 169.
(4)
راجع: "المرقاة" 9/ 255.
والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، فشبّهه بالأثر في ظاهر البدن، وكَنَى عن ضعف الإيمان بالنوم، وضَرَبَ مثلًا لزُهُوق الإيمان عن القلب حالًا بزهوق الحجر عن الرِّجْل حتى يقع بالأرض. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "ثمّ " في قوله: "ثمّ ينام النومة" للتراخي في الرتبة، وهي نقيض
(2)
"ثمّ" في قوله: "ثمّ عَلِمُوا من القرآن، ثمَّ عَلِموا من السنّة"، كما أن علم القرآن والسنّة يزيد أصل الأمانة في القلوب، ويُربّيها، كذلك ينقص استمرار رفع الأمانة وقبضها من أثرها، فإن أثر المجل المشبَّهَ بالنفاطة التي ليس فيها شيء أبلغ في الخلوّ من أَثَر الوَكت، وفيه تشبيهان مفردان، شُبّهت حالهما مجموعةً بحالة جمرٍ أَثّرَ في عُضْوٍ، ثم نَفِطَ، وارتفع، وإنما شبّه أوّلًا أثر الأمانة بأثر الوَكْت، ثم ثانيًا بأثر المَجْل، ثمّ شبّههما بالجمرة المُدَحْرجة على الرِجْل تقبيحًا لحالهما، وتهجينًا؛ لتستنفر عنها النفس وتعافها، فإن الأمانةَ والخيانة ضدّان، فإذا ارتفعت إحداهما عاقبتها الأخرى. انتهى
(3)
.
(فَيُصْبحُ النَّاسُ) أي: يدخلون في الصباح، أو المراد يصيرون (يَتَبَايَعُونَ) أي: يجري بينهم التبايع، ويقع عندهم التعاهد (لَا يَكَادُ) أي: لا يقرب (أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ) أي: بل يظهر من كلّ أحد منهم الخيانة في المبايعة، والمواعدة، والمعاهدة، ومن المعلوم أن حفظ الأمانة أثرُ كمال الإيمان، فإذا نقصت الأمانة نقص الإيمان، وبطل الإيقان، وزال الإحسان، وقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده"، وصححه ابن حبّان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلَّا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دِينَ لمن لا عهد له"
(4)
.
(حَتَّى يُقَالَ) أي: من غاية قلّة الأمانة في الناس (إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 43 - 44.
(2)
وقع في النسخة: "وهي تقتضيه"، والظاهر أنه تصحيف، كما لا يخفي، والله تعالى أعلم.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3404 ببعض تغيير.
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده" برقم (11935 و 12108 و 12722 و 13145)، وصححه ابن حبّان، وأورده الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" 2/ 1205 رقم (7179).
أَمِينًا) أي: كامل الأمانة (حَتَّى يُقَالَ) في ذلك الزمان (لِلرَّجُلِ) أي: من أرباب الدنيا، ممن له عقلٌ في تحصيل المال، والجاه، وطبعٌ في الشعر والنثر، وفصاحة، وبلاغةٌ، وصباحةٌ، وقوّة بدنيّة، وشجاعة، وشوكة (مَا أَجْلَدَهُ)"ما" تعجّبيةٌ، أي: يقال له هذا تعجّبًا من كمال جَلَده - بفتحتين - وهو القوّة والشدّة
(1)
. (مَا أَظْرَفَهُ) أي: ما أحسنه، قال القرطبيّ رحمه الله: الظرف عند العرب في اللسان والجسم، وهو حُسنهما، وقال ابن الأعرابيّ: الظرف في اللسان، والحلاوة في العين، والملاحة في الفم، وقال المبرِّد: الظريف مأخوذ من الظَّرْف، وهو الوِعَاء، كأنه جُعِل وعاءً للآداب، وقال غيره: يقال منه: ظَرُف يَظْرُفُ ظَرْفًا، فهو ظَرِيفٌ، وهم ظُرَفاءُ، وإنما يقال في الفتيان والفَتَيات أهل الخِفّة. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الظَّرْفُ وزانُ فَلْسٍ: البَرَاعَةُ، وذَكَاءُ القلب، وظَرُفَ بالضمّ ظَرَافَةً، فهو ظَرِيفٌ، قال ابنُ القُوطيّة: ظَرُفَ الغلام والجارية، وهو وصفٌ لهما لا للشيوخ، وبعضهم يقول: المراد الوصفُ بالحُسْن والأدب، وبعضهم يقول: المراد الكَيْسُ، فيعمّ الشباب والشيوخ. انتهى
(3)
.
(مَا أَعْقَلَهُ) أي: ما أحسن فهمه وتدبيره للشيء، يقال: عَقَلتُ الشيءَ عَقْلًا، من باب ضَرَبَ: تدبّرتُهُ، وعَقِلَ يَعْقَلُ، من باب تَعِبَ لغةٌ فيه، ثم أُطلق العقل الذي هو مصدر على الحِجَا واللُّبّ، ولهذا قال بعض الناس: العقلُ غَرِيزة يتهيّأُ بها الإنسان إلى فهم الخطاب، فالرجل عاقلٌ، والجمعُ عُقّالٌ، مثلُ: كافر وكُفّار، وربّما قيل: عُقَلاءُ، وامرأة عاقلٌ، وعاقلةٌ، كما يقال فيها: بالغٌ، وبالغةٌ، والجمعُ عَوَاقل، وعاقلات، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(4)
.
وحاصله أنهم يمدحونه بكمال عقله، وظرافة حاله، وجَلَد بدنه، وقوّة بنيته، ولا يمدحونه بقوّة إيمانه، وغزارة علمه النافع، وعمله الصالح، كما أكّد ذلك بقوله:
(وَمَا فِي قَلْبِهِ) الواو للحال، و"ما" نافية، أي: والحال أنه ليس في قلبه
(1)
"لسان العرب" 3/ 125.
(2)
"المفهم" 1/ 357.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 384 - 385.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 423.
(مِثْقَالُ حَبَّةٍ) أي: مقدار شيء قليل (مِنْ خَرْدَلٍ)"من" بيانيّة لـ "حبّة"، أي: هي خردلٌ، وهو: حَبُّ شجر معروف، قاله المجد رحمه الله
(1)
، وقوله:(مِنْ إِيمَانٍ") متعلِّق بحال من "مثقال"؛ لتخصّصه بالإضافة، وتقدّم النفي عليه، كما قال في "الخلاصة":
وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الحَالِ إِنْ
…
لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ
مِنْ بَعْدِ نَفْى أَوْ مُضَاهِيهِ كَلَا
…
يَبْغِ امْرُؤ عَلَى امْرِئٍ مُسْتَسْهِلَا
أي: حال كونه كائنًا من إيمان، قال القاري رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد منه نفي أصل الإيمان، أو كماله. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "من إيمان" قد يُفهم منه أن المراد بالأمانة في الحديث الإيمان، وليس كذلك، بل ذَكَرَ ذلك لكونها لازمة الإيمان. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: لعلّه إنما حملهم على تفسير الأمانة في قوله: "إن الأمانة نزلت
…
إلخ" بالإيمان؛ لقوله آخرًا: "وما في قلبه حبّة خردل من إيمان"، فهلّا حملوها على حقيقتها؛ لقوله: "ويُصبح الناس يتبايعون، ولا يكاد أحدٌ يؤدّي الأمانة"، فيكون وضع الإيمان آخرًا موضعها؛ تفخيمًا لشأنها، وحثًّا على أدائها، قال صلى الله عليه وسلم: "لا دين لمن لا أمانة له"
(3)
. انتهى
(4)
.
قال القاريّ رحمه الله بعد نقله كلام الطيبيّ: إنما حملهم عليه ما ذُكر آخرًا، وما صُدّر أَوّلًا من قوله:"نَزَلت في جِذْر قلوب الرجال"، فإن نزول الأمانة بمعنى الإيمان هو المناسب لأصل قلوب المؤمنين، ثم يعلمون إيقانه بتتبّع الكتاب والسنّة، وأما الأمانة فهي جزئيّة من كلّيّة ما يَتعلّق بالإيمان والقرآن، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه لا اختلاف بين من
(1)
"القاموس المحيط" ض 893.
(2)
"الفتح" 11/ 342 "كتاب الرقاق" رقم الحديث (6497).
(3)
تقدّم أنه حديث صحيح بلفظ: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له"، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3403 - 3404.
حمل الأمانة عل ظاهر معناها التي هي العهود، وبين مَن حملها على الإيمان؛ لأن الإيمان الحقيقيّ مستلزم للأمانة التي هي العهود، وكذلك الأمانة مستلزمة له؛ لأن العهود شامل لما بين العباد وبين ربّهم، ولما يجري بينهم، والحديث - وإن كان ظاهرًا في معنى الأمانة التي هي العهد، فإن حُذيفة رضي الله عنه إنما ساقه لبيان فقد الأمانة من الأمة، ورفعها عنهم، فقوله: "وُيصبح الناس يتبايعون
…
إلخ"، وقوله: "وما أبالي أيّكم بايعت
…
إلخ"، وقوله: "في كنت لأبايع إلَّا فلانًا وفلانًا"، كلّ هذا ظاهر في معناها الحقيقيّ - لكنه لا ينفي شموله للعهد الذي بين العباد وبين ربهم، فيكون الخلاف في هذا لفظيًّا.
والحاصل أن الأمانة هي كلّ العهود التي بين العباد وبين ربهم، وفيما بينهم، فدخل فيها الإيمان دخولًا أوّليًّا، ولذلك قال في الأخير:"وما في قلبه مثال حبّة من خردل من إيمان"؛ إشارةً إلى فقدها كلّيّةً، فتنبّه لذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.
(وَلَقَدْ أتى عَلَيَّ زَمَانٌ) يشير حُذيفة رضي الله عنه بهذا إلى أن حال الأمانة أَخَذَ في النقص من ذلك الزمان، وكانت وفاته رضي الله عنه في أول سنة ست وثلاثين، بعد قتل عثمان لمه بقليل، فأدرك بعض الزمن الذي وقع فيه التغير، فأشار إليه، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَمَما) نافية (أُبَالِي) أي لا أهتمّ، قال الفيّومي رحمه الله: قولهم: لا أباليه، ولا أبالي به: أي لا أهتمّ به، ولا أكترث له، ولم أُبال، ولم أُبَلْ؛ للتخفيف، كما حَذَفوا الياء من المصدر، فقالوا: لا أباليه بَالَةً، والأصل: باليةٌ، مثلُ عافاه مُعافاةً وعافية، قالوا: ولا تُستعمل إلَّا مع الجحد، والأصل فيه قولهم: تَبَالَى القومُ: إذا تبادروا إلى الماء القليل، فاستقَوْا، فمعنى لا أبالي: لا أُبادرُ إهمالًا له، وقال أبو زيد: ما باليتُ به مُبالاةً، والاسم الْبِلاءُ، وزانُ كتاب، وهو الهمّ الذي تُحدّث به نفسك. انتهى
(2)
.
(أيَّكُمْ)"أيَّ" استفهاميّة مفعول مقدّم وجوبًا لـ (بَايَعْتُ؟) أي: أيَّ شخص بايعت، مسلمًا كان أو غير مسلم.
(1)
13/ 44.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 62.
وقوله: (بايعت) يعني: البيع والشراء، لا المبايعة؛ لأن اليهوديّ والنصرانيّ لا يُبايع بيعة الإسلام، ولا بيعة الإمامة، وإنما يعني: أن الأمانة قد رُفعت من الناس، فقلّ من يُؤمن على البيع والشراء، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى المبايعة هنا البيع والشراء المعروفان، ومراده أني كنت أعلم أن الأمانة لَمْ ترتفع، وأن في الناس وفاءً بالعهود، فكنت أُقْدِم على مبايعة مَن اتَفَقَ، غيرَ باحث عن حاله؛ وُثوقًا بالناس وأمانتهم، فإنه إن كان مسلمًا فدِينه، وأمانته تمنعه من الخيانة، وتحمله على أداء الأمانة، وإن كان كافرًا فساعيه، وهو الوالي عليه، كان أيضًا يقوم بالأمانة في ولايته، فَيَستخرج حقّي منه، وأما اليومَ فقد ذهبت الأمانة، فما بقي لي وُثوقٌ بمن أبايعه، ولا بالساعي في أدائهما الأمانة، في أبايع إلَّا فلانًا وفلانًا، يعني: أفرادًا من الناس أعرفهم، وأثق بهم.
قال صاحب "التحرير"، والقاضي عياض رحمهما الله تعالى: وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها، من المعاقدة، والتحالف في أمر الدين، قالا: وهذا خطأ ممن قاله، وفي هذا الحديث مواضع تبطل قولَهُ، منها:"قوله: ولئن كان نصرانيًّا، أو يهوديًّا"، ومعلوم أن النصرانيّ واليهوديّ لا يُعاقَد على شيء من أمور الدين. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": مراده المبايعة في السِّلَع ونحوها، لا المبايعة بالخلافة، ولا الإمارة.
وقد اشتد إنكار أبي عبيد وغيره على مَن حَمَل المبايعة هنا على الخلافة، وهو واضح، ووقع في عبارته أن حُذيفة رضي الله عنه كان لا يَرْضَى بأحد بعد عمر رضي الله عنه، يعني: في الخلافة، وهي مبالغة، وإلا فقد كان عثمان رضي الله عنه ولَّاه على المدائن، وقد قُتِل عثمان، وهو عليها، وبايع لعليّ رضي الله عنه، وحَرَّضَ على المبايعة له، والقيام في نصره، ومات في أوائل خلافته.
والمراد أنه لوثوقه بوجود الأمانة في الناس أَوّلًا، كان يُقْدِم على مبايعة
(1)
"المفهم" 1/ 357.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 170.
مَن اتَّفَقَ من غير بَحْث عن حاله، فلما بدأ التغير في الناس، وظهرت الخيانة، صار لا يبايع إلَّا مَنْ يَعْرِف حاله.
ثم أجاب عن إيرادٍ مُقَدَّر، كأنّ قائلًا قال له: لَمْ تزل الخيانة موجودةً؛ لأن الوقت الذي أشرتَ إليه، كان أهل الكفر فيه موجودين، وهم أهل الخيانة.
فأجاب بأنه وإن كان الأمر كذلك، لكنه كان يَثِقُ بالمؤمن لذاته، وبالكافر لوجود ساعيه، وهو الحاكم الذي يحكم عليه، وكانوا لا يستعملون في كلّ عَمَلٍ قَلَّ أو جَلَّ إلَّا المسلم، فكان واثقًا بإنصافه، وتخليص حقِّه من الكافر إن خانه، بخلاف الوقت الأخير الذي أشار إليه، فإنه صار لا يبايع إلَّا أفرادًا من الناس يَثِقُ بهم.
وقال ابن العربيّ سبحانه وتعالى: قال حذيفة رضي الله عنه هذا القول لَمّا تغيرت الأحوال التي كان يَعرفها على عهد النبوة والخليفتين، فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكَنَى عن الإيمان بالأمانة، وعَمّا يخالف أحكامه بالخيانة. انتهى، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(لَئِنْ) اللام هي اللام الموطّئة للقسم، و"إن" شرطيّة، وجوابها محذوف؛ لتأخّرها، ودلالة جواب القسم عليه، وإلى هذا أشار ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ
…
جَوَابَ مَا أَخَّرْتَ فَهْوَ مُلْتَزَمْ
(كَانَ) الذي أبايعه (مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَّهُ عَلَى دِينُهُ) إذ الإيمان يدعو إلى أداء الأمانة؛ امتثالًا لقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} الآية [النساء: 58](وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَوْ يَهُودِيًّا، لَيَرُدَّنَّهُ عَلَيَّ سَاعِيهِ) أي: الوالي عليه؛ لأنهم في ذلك الوقت لا يولّون إلَّا من كان مستقيمًا في دينه، قادرًا على إيصال كلّ ذي حقّ إلى حقّه، وردع أهل الفساد والبغي عن ظلمهم.
وقال في "الفتح": قوله: "ساعيه" أي: واليه الذي أُقيم عليه لِيُنصِف منه، وأكثر ما يُستعمل الساعي في وُلاة الصدقة، وَيحتمل أن يراد به الذي يتولّى قبض الجزية. انتهى
(2)
.
(1)
راجع: 13/ 44.
(2)
"الفتح" 11/ 342.
قال الجامع عفا الله عنه: حمله على متولّي قبض الجزية في هذا الحديث بعيدٌ، فالصواب المعنى الأول، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(وَأَمَّا الْيَوْمَ) أي: في الوقت الذي يتحدّث به بهذا الحديث (فَمَا كُنْتُ لِأُبايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا) أي: أشخاصًا معيّنين يَثِق بهم وبدينهم وأماناتهم، وقال في "الفتح": يحتمل أن يكون ذَكَره بهذا اللفظ، ويَحتمل أن يكون سمَّى اثنين من المشهورين بالأمانة إذ ذاك، فأبهمهما الراوي، والمعنى: لستُ أَثِقُ بأحد أئتَمِنه على بيع، ولا شراء إلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[67/ 374 و 375](143)، و (البخاريّ) في "الرّقَاق"(6497)، و"الفتن"(7089)، و"الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7276)، و (الترمذيّ) في "الفِتَن"(2179)، و (ابن ماجة) في "الفتن"(4053)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(424)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 383)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(141 و 142)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(366)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6762)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 12)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه بيان رفع الأمانة عن القلوب، وهي التكاليف والعهود التي كلّف الله عز وجل عباده بها، فهي شاملة للإيمان، وهذا وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم حيث إنهم آمنوا، ثم تعلموا الكتاب والسنّة، ثم عملوا بهما؛ لأن هذا الإيمان يكون أرسخ، وأعمق،
(1)
"الفتح" 11/ 342 "كتاب الرقاق" رقم (6497).
وألزم للقلب، بخلاف العكس، ولذلك ذمّ الله تعالى الأعراب حيث قال:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية [الحجرات: 14]، فالامتثال الظاهريّ إذا لَمْ يسبقه الاعتقاد الباطنيّ لَمْ يُعتبر.
3 -
(ومنها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم برفع الأمانة، فوقع كما أخبر به.
4 -
(ومنها): سرعة تقلّب القلوب بسبب كثرة وقوع الفتن، حيث إن الرجل ينام، فيقوم، فلا يجد قلبه على حاله قبل النوم، بل يتغيّر - سبحان من يقلّب القلوب والأبصار. ولهذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُكثر من الدعاء بثبات قلبه على الإيمان، فقد أخرج الترمذيّ بسند صحيح، عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: "يا مقلّب القلوب، ثَبّتْ قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، آمَنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال:"نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يُقَلِّبها كيف يشاء".
5 -
(ومنها): بيان فضل قرن الصحابة رضي الله عنهم على من بعدهم، حيث كانت الأمانة كاملة فيهم.
6 -
(ومنها): استعمال التشبيه في التعليم؛ لزيادة الإيضاح.
7 -
(ومنها): بيان أن فضل الإنسان في كمال أمانته، لا في كمال قوّته، وشجاعته، وحسن تدبيره في الأمور الدنيويّة، فإن هذه لا اعتبار لها إلَّا مع قوّة الإيمان وكماله.
8 -
(ومنها): أن حسن الوفاء بالعهد، وحسن التعامل مع الناس يدلّ على كون الإنسان أمينًا، وأن الخيانة تنافي الإيمان؛ لأنَّها من صفات المنافق، كما سبق حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَلّةٌ منهن، كانت فيه خُلَّة من نفاق، حتى يَدَعَها، إذا حَدّث كَذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا وَعَد أخلف، وإذا خاصم فجر"، متَّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[375]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَوَكِيعٌ، (ع) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ جَمِيعًا، عَنِ الْأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقة حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مُرابطًا، ثقةٌ مأمون 81، (ت 187) وقيل: سنة (191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
وإسحاق: هو ابن راهويهْ تقدّم في الباب الماضي، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (جَمِيعًا عَنِ الْأَعْمَشِ) يعني: أن الثلاثة، وهم: عبد الله بن نُمير، ووكيع، وعيسي، كلهم رووه عن الأعمش.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ) أي: بإسناد الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حُذيفة رضي الله عنه، ومتنه مثل متنه.
[تنبيه]: أما طريق وكيع، فقد ساقها المصنّف في الحديث الماضي، وأما طريق عبد الله بن نُمير، فساقها الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"(1/ 52)، فقال:
(141)
حدثنا الحسن بن علي بن عفان، قال: ثنا عبد الله بن نُمير، قال: ثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة، قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، فرأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أن الأمانة تنزل في جِذْر قلوب الرجال، ونزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدَّثنا
عن رفعها - يعني: الأمانة - فينام الرجل النومة، فتُقبَض الأمانة من قلبه، فيَظَلّ أثرها كأثر الوَكْت، ثم ينام النومة، فتُنْزَع الأمانة من قلبه، فَيَظَلّ أثرها كأنها المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك، فَنَفِطَ، فتراه مُنتبِرًا، وليس فيه شيء، ولقد كنت وما أبالي أيَّكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا، لَيَرُدّنَه عليّ دينه، وإن كان نصرانيًّا ليردنه عليّ ساعيه، وأما اليوم فإني لَمْ أكن لأبايع منكم إلَّا فلانًا وفلانًا، فيصبح الناس يتبايعون، وما يكاد أحدهم يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، وحتى يقال للرجل: ما أجلده، وما أظرفه، وأعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". انتهى.
وأما طريق عيسى بن يونس، فساقها الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"(15/ 164)، فقال:
(6762)
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حُذيفة، قال: حَدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، فرأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر، حدثنا أنّ الأمانة نَزَلت في جِذْر قلوب الرجال، ونَزَل القرآن، فعلموا من القرآن، وعَلِمُوا من السنة، ثم حدّثنا عن رفعها، قال: ينام الرجال نومة، فتُقْبض الأمانة من قلبه، فيبقى أثرُها مثل أَثَر الوَكْت، ثم ينام الرجل نومةً، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيبقى أثرها مثل أثر المَجْل، كجمر دحرجته على رجلك، فتراه مُنتبرًا، وليس فيه شيء، فيُصبح الناس يتبايعون، ولا يكاد أحدٌ يُؤدّي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، وحتى يقال للرجل: ما أجلده، وأطرفه
(1)
، وأعقله، وليس في قلبه مثقال حبة خردل من خير، ولقد أتى عليّ زمان، وما أُبالي أيَّكم بايعته، لئن كان مؤمنًا ليردنَّه عليّ دينُه، ولئن كان يهوديًّا أو نصرانيًّا ليردنَّه عليّ ساعيه، فأما اليوم في كنت أبايع إلَّا فلانًا وفلانًا. انتهى، الله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
هكذا النسخة "أطرفه" بالطاء المهملة، خلافًا لبقيّة الروايات؛ فليُحرّر، والله أعلم.
68 - (بَابُ عَرْضِ الْفِتَنِ عَلَى الْقُلُوبِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[376]
(144) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ - يَعْنِي: سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ - عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِه، قَالُوا: أَجَلْ، قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّدَقَةُ، وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أنا، قَالَ: أَنْتَ للهِ أَبُوكَ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوب، كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبِ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْن، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ، مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ، مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"، قَالَ حُذَيْفَةُ: وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ، قَالَ عُمَرُ: أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ؟ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ، قُلْتُ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ، أَوْ يَمُوتُ، حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ. قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ، مَا أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؟ قَالَ: شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا؟ قَالَ: مَنْكُوسًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ) الأزديّ الأحمر الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [8](ت 190)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
2 -
(سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ) أبو مالك الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود (140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
3 -
(رِبْعِيّ) بن حِرَاش العَبْسيّ، أبو مريم الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
وشيخ المصنّف، والصحابيّ تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه التحديث، والعنعنة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى سعد بن طارق، فعلّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "يعني: سليمان بن حيّان"، وذلك أن شيخه ابن نمير لَمْ يذكر شيخه باسمه، وإنما ذكره بكنيته، فأراد المصنّف أن يبيّنه لمن يُحدِّثهم، فزاد كلمة "يعني"؛ فصلًا بين كلامه وكلام شيخه، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصفِ مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوغ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ "أَنَّ"
…
أَوْ بِـ "هُو" أنها إِذَا أتَمَّهُ أَوَّلَه
أَجِزْهُ فِي البَاقِي لَدَى الجُمْهُورِ
…
وَالفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ المَذْكُورِ
وقد تقدمت إحالة هذا غير مرّة، وإنما أعدّته؛ تذكيرًا؛ لطول العهد به.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم: سعد، عن رِبعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ رِبْعِيٍّ) - بكسر الراء، وسكون الموحدة - ابن حِرَاش - بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء، آخره شين معجمة -.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه المصنّف هنا من طريق أبي خالد الأحمر، عن رِبْعيّ، وتابعه مروان بن معاوية، ونعيم بن أبي هند في الروايتين التاليتين، وأخرجه البخاريّ من طريق الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، وتابعه جامع بن شدّاد، عن أبي وائل.
[فإن قلت]: كيف اختار المصنّف رحمه الله رواية أبي خالد الأحمر، وأحال غيرها عليها، مع أن غيره أحفظ منه؟.
[قلت]: لعله اختارها لكونها مسموعة له، أو نحو ذلك، والله تعالى أعلم.
(عَنْ حُذَيْفْةَ) بن اليمان رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، وفي رواية مروان بن معاوية التالية: "لَمّا قَدِم حُذيفة من عند عمر، جلس، فحدّثنا، فقال: إن أمير المؤمنين أمسِ لَمّا جلس سأل أصحابه، أيّكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن
…
"، وفي رواية نُعيم بن أبي هند، الآتية: "أن عمر قال: من يُحدّثنا؟ أو قال: أيّكم يحدّثنا؟ وفيهم حُذيفة
…
إلخ".
(فَقَالَ) أي: عمر رضي الله عنه (أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي الرواية الآتية في "الفتن" من طريق الأعمش، عن شقيق، عن حُذيفة قال:"كنا عند عمر، فقال: أيّكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة كما قال؟ "(يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟) - بكسر، ففتح -: جمع فتنة، قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء، والامتحان، والاختبار، قال القاضي عياض رحمه الله: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كَشَفَه الاختبارُ عن سوء، قال أبو زيد: فُتِن الرجلُ يُفْتَن فُتُونًا: إذا وَقَع في الفتنة، وتَحَوّل من حال حسنة إلى سيئة.
(فَقَالَ قَوْمٌ) هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية الآتية في "الفتن" المذكورة: "قال: أنا، قال: إنك لجريء، وكيف قال؟
…
"، ولفظ البخاريّ: "أنا أحفظ كما قال، قال: هاتِ إنك لجريء".
ويمكن الجمع بأنه شارك بعض الناس حذيفة في كونه سمعه منه صلى الله عليه وسلم، ولكن حذيفة رضي الله عنه تولّى الجواب، والله تعالى أعلم.
(نَحْنُ سَمِعْنَاهُ) صلى الله عليه وسلم يذكر الفتنة (فَقَالَ) عمر رضي الله عنه، وظاهر هذه الرواية أن عمر رضي الله عنه سمع هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم "، كما سمعه حُذيفة رضي الله عنه (لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ) أي: تقصدون بالفتنة التي سمعتموها منه صلى الله عليه وسلم "(فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ) ولفظ رواية الأعمش المذكورة: "فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، يكفّرها الصيام، والصلاة
…
".
قال القرطبيّ رحمه الله: الأهل، والمال، والولد أمورٌ يُمتَحَن الإنسان بها،
ويُخْتَبَر عندها، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} الآية [التغابن: 15]؛ أي: مِحنةٌ تُمتَحنون بها حتى يظهر منكم ما هو خفيّ عمن يُشكل عليه أمركم. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: فتنةُ الرجل في أهله وماله وولده ضُرُوب من فَرْط محبته لهم، وشُحّه عليهم، وشُغْله بهم عن كثير من الخير، كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"الولدُ مَجْبَنةٌ مَبْخَلة"
(2)
، أو لتفريطه في القيام بما يَلزم من حقوقهم، وتأديبهم، وتعليمهم، فإنه راع لهم ومسؤول عنهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كلّكم راع، ومسؤولٌ عن رعيّته"، متّفقٌ عليه، وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا، فهذه كلُّها فِتَنٌ تقتضي المحاسبةَ، ومنها ذنوب يُرْجَى تكفيرها بالحسنات، كما قال تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية [هود: 114]. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(3)
.
(قَالُوا: أَجَلْ) كنَعَم وزنًا ومعنًى، قال المجد رحمه الله: أَجَلْ: جوابٌ كنَعَم، إلَّا أنه أحسن منه في التصديق، ونَعَم أحسن منه في الاستفهام. انتهى
(4)
.
(قَالَ) عمر رضي الله عنه (تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ، وَالصِّيَامُ، وَالصَّدَقَةُ) ولفظ الأعمش الآتية في "الفتن": "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: فتنة الرجل في أهله، وماله، ونفسه، وولده، وجاره، تكفّرها الصيام، والصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
قال في "الفتح": قال بعض الشرَّاح: يَحتَمِلُ أن يكون كلُّ واحدة من الصلاة وما معها مكفِّرةً للمذكورات كلِّها، لا لكل واحدة منها، وأن يكون من باب اللَّفّ والنشر بأن الصلاة مثلًا مكفِّرة للفتنة في الأهل، والصوم في الولد
…
إلخ.
قال: والمراد بالفتنة ما يَعْرِض للإنسان مع مَن ذُكِر من البشر، أو الالتهاء بهم، أو أن يأتي لأجلهم بما لا يَحِلّ له، أو يُخِلّ بما يجب عليه.
(1)
"المفهم" 1/ 357 - 358.
(2)
حديث صحيح أخرجه ابن ماجة في "سننه" رقم (1259).
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 565 - 567.
(4)
"القاموس المحيط" ص 864.
واستَشْكَلَ ابنُ أبي جمرة وقوع التكفير بالمذكورات للوقوع في المحرمات، والإخلال بالواجب؛ لأن الطاعات لا تُسقِط ذلك، فإن حُمِل على الوقوع في المكروه، والإخلال بالمستحبّ، لَمْ يناسب إطلاق التكفير.
والجواب التزام الأول، وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرةً، فهي التي فيها النزاع، وأما الصغائر فلا نزاع أنَّها تُكَفَّر؛ {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31].
وقال الزين ابن المُنَيِّر رحمه الله: الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهن أو عليهن في القسمة والإيثار، حتى في أولادهنّ، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهنّ، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة، أو بحبسه عن إخراج حقّ الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعي إلى الولد، وإيثاره على كلّ أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسَد، والمفاخرة، والمزاحمة في الحقوق، وإهمال التعاقد.
ثم قال: وأسباب الفتنة بمن ذُكِر منحصرة فيما ذَكرتُ من الأمثلة.
وأما تخصيص الصلاة، وما ذُكر معها بالتكفير، دون سائر العبادات، ففيه إشارةٌ إلى تعظيم قدرها، لا نَفْيُ أنّ غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير.
ثم إن التكفير المذكور يَحْتَمِل أن يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة، ويَحْتَمِل أن يقع بالموازنة، والأول أظهر، والله تعالى أعلم.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: خَصَّ الرجل بالذكر لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم، ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نَبَّهَ بها على ما عداها، والضابط أن كُلَّ ما يَشْغَل صاحبه عن الله، فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تَخْتَصّ بما ذُكِر، بل نَبَّه به على ما عداها، فذَكَر من عبادة الأفعال الصلاةَ والصيامَ، ومن عبادة المال الصدقةَ، ومن عبادة الأقوال الأمرَ بالمعروف. انتهى
(1)
.
قال عمر رضي الله عنه: "ليس هذا أريد"(وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الَّتي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟) وفي رواية الأعمش: "إنما أريد التي تموج كموج
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 700 "كتاب المناقب" حديث رقم (3586).
البحر"، أي: تضطرب، وَيدْفَع بعضها بعضًا، وكلُّ شيء اضطرب، فقد ماج، ومنه قوله تعالى:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} الآية [الكهف: 99]، وشبّهها بموج البحر؛ لشدة عظمها، وكثرة شيوعها
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "تموج كموج البحر": أي: تضطرب اضطرابَ البحر عند هَيَجَانه، وكَنَى بذلك: عن شِدّة المخاصمة، وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة والمقاتلة. انتهى.
(قَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ) بقطع الهمزة المفتوحة، قال جمهور أهل اللغة: سَكَت، وأسكت لغتان، بمعنى صَمَتَ، وقال الأصمعيّ: سكت القوم: صَمَتُوا، وأسكتوا: أطرقوا، قال الهرويّ: ويكون سكت بمعنى سكن، ومنه قوله تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} الآية [الأعراف: 154]، وبمعنى انقطع، تقول العرب: جرى الوادي ثلاثًا، ثم سكت؛ أي: انقطع، ويقال: هو السكوتُ، والسُّكَاتُ، وسَكَتَ يَسكُتُ سَكْتًا وسُكُوتًا وسُكَاتًا.
وإنما سكت القوم؛ لأنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة، وإنما حفظوا النوع الأول
(2)
.
قال حذيفة رضي الله عنه (فَقُلْتُ: أَنَا) مبتدأ حُذف خبره لدلالة السؤال عليه، أي: أنا أحفظها (قَالَ: أَنْتَ) مبتدأ محذوف الخبر أيضًا مع أداة الاستفهام، أي: أأنت تحفظها، والاستفهام تعجّبيّ، وقوله:(لِلَّهِ أَبُوكَ؟) كلمةُ مَدْحٍ، تَعْتاد العرب الثناء بها، فإن الإضافة إلى العظيم تشريف، ولهذا يقال: بيتُ الله، وناقةُ الله، قال صاحب "التحرير": فإذا وُجِدَ من الولد ما يُحْمَد، قيل له: لله أبوك، حيث أتى بمثلك. انتهى.
وفي رواية الأعمش، عن شقيق الآتية في "الفتن":"قال: فقلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين؟ إنَّ بينك وبينها بابًا مُغلقًا"، أي: لا يَخرُج منها شيء في حياتك.
قال ابن الْمُنَيِّر: آثر حذيفة رضي الله عنه الحرصَ على حفظ السرّ، ولم يُصَرِّح
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 567 - 568، و"المفهم" 1/ 358، و"شرح النوويّ" 2/ 171.
(2)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 568، و"المفهم" 1/ 358، و"شرح النوويّ" 2/ 171.
لعمر بما سأل عنه، وإنما كَنَى عنه كنايةً، وكأنه كان مأذونًا له في مثل ذلك.
وقال النوويّ: يَحْتَمِل أن يكون حذيفة عَلِم أن عمر يُقْتَل، ولكنَّه كَرِهَ أن يخاطبه بالقتل؛ لأن عمر كان يَعْلَم أنه الباب، فأَتَى بعبارة يَحصُل بها المقصود بغير تصريح بالقتل. انتهى.
قال الحافظ: وكأنهْ مَثَّلَ الفتن بدار، ومَثَّل حياةَ عمر بباب لها مُغْلَقٍ، ومَثَّل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودةً فهي الباب المغلَقُ، لا يَخرُج مما هو داخل تلك الدار شيءٌ، فإذا مات فَقَد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار. انتهى
(1)
.
(قَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ) فعلٌ، ونائب فاعله (عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ) أي: تَلْصَقُ الفتن بعَرْض القلوب، أي: جانبها، كما يَلْصَقُ الحصير بجنب النائم، ويؤثّر فيه شدّةُ التصاقه به.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أي: توضع عليها، وتُبْسط كما يُبْسط الحصير، وقيل: هو من عَرْض الْجُنْد بين يدي السلطان لإظهارهم، واختيار أحوالهم. انتهى
(2)
.
وقوله: (عُودًا عُودًا) قال ابن الأثير رحمه الله: هكذا الرواية بالفتح؛ أي: مرّةً بعد مرّة، ورُوي بالضمّ، وهو واحد العِيدان، يعني: ما يُنسج به الحَصِير من طاقاته، ورُوي بالفتح مع ذال معجمة، كأنه استعاذ من الفتن. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذان الحرفان مما اختُلِف في ضبطه على ثلاثة أوجه:
[أظهرها وأشهرها]: عُودًا بضم العين، وبالدال المهملة.
[والثاني]: بفتح العين، وبالدال المهملة أيضًا.
[والثالث]: بفتح العين، وبالذال المعجمة، ولم يذكر صاحب "التحرير" غير الأول.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كالحصير عُودًا عُودًا" قُيِّد ثلاث تقييدات،
(1)
"الفتح" 6/ 701 "كتاب المناقب"(3586).
(2)
"النهاية" 3/ 215.
(3)
"النهاية" 3/ 317 - 318.
قيّده القاضي الشهيد
(1)
بفتح العين المهملة، والذال المعجمة، وقيّده أبو بحر سفيان بن العاصي بضمّ العين، ودال مهملة، واختار أبو الحسين بن سراج فتح العين والدال المهملة.
فمعنى التقييد الأول: سؤال الإعاذة، كما يقال: غَفْرًا غَفْرًا، أي: اللهمّ اغفر، اللهمّ اغفر.
وأما التقييد الثاني: فمعناه أن الفِتَنَ تتوالى واحدةً بعد أخرى، كنسج الحصير عُودًا بإزاء عود، وشطبةً بإزاء شطبة
(2)
، أو كما يُناوِلُ مهيّئ القُضبان للناسج عُودًا بعد عُود.
وأما التقييد الثالث: فمعناه قريبٌ من هذا، يعني: أن الفتنة كلّما مضت عادت، كما يفعل ناسج الحصير، كلّما فَرَغَ من موضع شطبة، أو عُود عاد إلى مثله، والمعنى الثاني أمكن، وأليق بالتشبيه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: كذا روينا هذا الحرف عن القاضي الشهيد بفتح العين والذال المعجمة في الأمّ، وضبطناه على ابن العاصي وغيره "عُودًا عُودًا" بضمّ العين، ودال مهملة، ووقع عند بعضهم "عَوْدًا عَوْدًا" بفتح العين، وبالدال المهملة أيضًا، وهو اختيار شيخنا أبي الحسن بن سِرَاج من جميع وجوه رواياته، قال لي: ومعنى "تُعْرَضُ" أي: كأنها تَلْصَق بِعَرْض القلوب، أي: جانبها، كما يَلْصَقُ الحصير بجنب النائم، ويُؤَثِّر فيه شدّةُ لَصْقها به، قال: ومعنى "عَوْدًا عَوْدًا": أي: تُعادُ وتُكَرَّر عليه شيئًا بعد شيء، قال: ومن رواه بالذال المعجمة، فمعناه سؤال الإعاذة منها، كما يقال: غَفْرًا غَفْرًا، وغُفْرَانَك، وبذلك انتصب، أي: نسألك أن تُعيذنا من ذلك، وأن تَغْفِر لنا.
قال القاضي: وأما غيره ممن باحثناه من شيوخنا، وكاشفناه عن هذا،
(1)
هو أبو عليّ الحسين بن محمد الصدفيّ.
(2)
"الشَّطْبَة" بفتح، فسكون: سَعَفَةُ النخل الخضراء، وجمعها شَطْبٌ، مثل: تمرة وتمر. اهـ. "المصباح" 1/ 312.
(3)
"المفهم" 1/ 358 - 359.
وهو الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان، فقال: معناه تُعْرَضُ على القلوب، أي: تُظْهَرُ لها فتنة بعد أخرى.
وقوله: "كالحصير": أي: كما يُنْسَج الحصير عُودًا عُودًا، وشَطْبَةً بعد أخرى.
قال القاضي: وعلى هذا تترجَّح روايةُ ضم العين، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب يَحتاج إلى مُنَقّ للقُضْبان لأخذ الشَّطْب، وهو قُشُورُها، ولِحَاؤُها التي تُصنع منه، ومُصْلِحٍ لها، ثم يمكنها الناسجُ الحصير، ويَعْرِضها واحدًا واحدًا، كلما صنع واحدةً، ونسجها ناوله أخرى، قال قيس بن الخطيم الأنصاريّ [من الطويل]:
تَرَى قِصَدَ المُرّان تُلْقِي كَأَنَّهَا
…
تَذَرُّعُ خِرْصَانٍ بِأَيْدِي الشَّوَاطِبِ
(1)
والخِرْصَانُ القُضْبان.
فشَبَّهَ عَرْضَ الفِتَن على القلوب واحدة بعد أخرى بِعَرْض شَطْب الحصير على صانعها قضيبًا قضيبًا، وشَطْبَةً شَطْبةً، وهو معنى قوله:"عُودًا عُودًا"، وهو معنى الحديث عندي، وهو الذي يدلّ عليه سياق لفظه، وصحة تشبيهه.
وقال الهَرَويّ: معناه أنها تُحيط بالقلوب، يُقال: حَصَرَ به القومُ، أي: أطافوا به، وقال الليث: حَصِير الجنب عِرْقٌ يَمتدّ مُعترضًا على جنب الدابّة إلى ناحية بطنها، شَبّهها به، قال: وقيل: إنه أراد عَرْضَ السَّجْن، والحَصِير السَّجْنُ، قال الله عز وجل:{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء: 8]، ومُراده عَرْضُ أهل السجن على قيّمه. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب الأقوال عندي وأوضحها ضبطًا ومعنًى هو الذي رجحه عياض، وأشار إليه القرطبيّ رحمهما الله تعالى، وهو أنه بضمّ العين، والمراد تشبيه عَرْضِ الفِتَن على القلوب واحدة بعد أخرى
(1)
قِصَدُ المرّان: هي أغصان شجر الرماح، والشواطب جمع شاطبة، وهي المرأة التي تشطب الجريد؛ أي تشقّقه لتعمل منه الحُصُر، و"الخُرصان" جمع خرص: الجريد من النخل، انظر ما كتبه في هامش:"الإكمال" 1/ 571.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 569 - 572.
بعَرْض عُود الحصير على صانعها قضيبًا قضيبًا، والله تعالى أعلم.
(فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا) أي: دخلت فيه دُخولًا تامًّا، وأُلزمها، وحَلَّت منه محلَّ الشراب، ومنه قوله تعالى:{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} الآية [البقرة: 93]، أي: حبّ العجل وأشربوا في قلوبهم العجل، ومنه قولهم: ثوبٌ مُشْرَبٌ بحمرة، أي: خالطته الحمرة مخالطةً لا انفكاك لها (نُكِتَ) بالبناء للمفعول؛ أي: نُقِطَ فيه (فِيهِ نُكْتَةٌ) أي: نُقْطَةٌ (سَوْدَاءُ) قال في "القاموس": "النُّكتة بالضمّ: النُّقْطة، جمعه نِكَاتٌ، كبِرَامٍ، وشِبْهُ الوَسَخِ في المِرآة. انتهى
(1)
. وقال في "المصباح": النُّكْتةُ في الشيء؛ كالنقطة، والجمع نُكَتٌ ونِكَاتٌ، مثلُ بُرْمة وبُرَم وبِرَامٍ، ونُكَاتٌ. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى نُكِتَ نُكْتَةٌ: نُقِطَ نُقْطة، وهي بالتاء المثنّاة في آخره، قال ابن دُرَيد وغيره: كلُّ نُقْطَة في شيء بخلاف لونه، فهو نَكْتٌ. انتهى.
ومعنى أنكرها: ردها، والله اعلم.
(وَأَيُّ قَلْب أَنْكَرَهَا) أي: ردّ تلك الفتنة المعروضة عليه، ولم يَقبلها (نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ) الضمير للقلوب، أي: حتى تصير قلوب الناس في ذلك الوقت (عَلَى قَلْبَيْنِ) أي: منقسمةً على قسمين: قسم قلبٌ (عَلَى أَبْيَضَ) أي: قلب أبيض، فحَذَفَ الموصوف؛ للعلم به، وأقام الصفة مُقامه (مِثْلِ الصَّفَا) بالجرّ صفة لـ "أبيض"، وليس تشبيهه بالصَّفَا من جهة بياضه، ولكن من جهة صلابته وشدّته على عقد الإيمان، وسلامته من الخَلَل، وأن الفِتَن لم تَلْصَق به، ولم تؤثر فيه كالصفا، وهو الحجر الأملس الذي لا يَعْلَق به شيء بخلاف الآخر الذي شبّهه بالْكُوز الخاوي؛ لأنه فارغٌ من الإيمان والأمانة، كما قيل في قوله تعالى:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]، قيل: لا تَعِي خيرًا. انتهى
(3)
.
(فَلَا تَضُرُّهُ) أي: القلب الموصوف بما ذُكر (فِتْنَةٌ) وقوله: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) أراد به التأبيد، أي: إن ذلك القلب لا تصيبه فتنة، ولا
(1)
"القاموس المحيط" ص 149.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 624.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 573، و"المفهم" 1/ 359.
تضرّه أبد الآبدين (وَ) القلب (الْآخَرُ) قلبٌ (أَسْوَدُ، مُرْبَادًّا) منصوب على الحال، قال القرطبيّ رحمه الله: قُيِّد ثلاثَ تقييدات: "مُرْبَادّ" مُفْعَالٌّ، من اربادّ، مثلُ مُصْفَارّ، من اصفَارّ، وهو رواية الخُشنيّ، عن الطبريّ، و"مُرْبَدٌّ" مثلُ مُسْوَدّ، ومُحْمَرّ، من اربدّ، واسوَدّ، واحمَرّ، وهو تقييد أبي مَرْوان بن سراج، و"مُرْبَئِدّ" بالهمز، قيَّده العُذريّ، وكأنه من اربأَدّ لغة، وقال بعض اللغويين: احمرّ الشيءُ، فإذا قَوِيَ قيل: احْمَارّ، فإذا زاد قيل: احمأرّ بالهمز، فعلى هذا تكون تلك الروايات صوابًا كلُّها.
قال أبو عبيد، عن أبي عمرو، وغيره: الربدة: لونٌ بين السواد والغبرة، وقال ابن دُريد: الربدة: الكُدْرةُ، وقال الحربيّ: هي لون النَّعَام، بعضه أسود، وبعضه أبيض، ومنه اربدّ لونه: إذا تغيّر، ودخله سوادٌ، وإنما سُمّي النعام ربدًا؛ لأن أعالي ريشها إلى السواد، وقال نفطويه: المُرْبدّ الملمّع بسواد وبياض، ومنه تربّد لونه؛ أي: تلوّن، فصار كلون الرماد. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله: "مُرْبادًّا"، فكذا هو في روايتنا، وأصول بلادنا، وهو منصوب على الحال، وذكر القاضي عياض رحمه الله خلافًا في ضبطه، وأن منهم مَن ضَبَطه كما ذكرناه، ومنهم مَن رواه "مُرْبَئِدّ" بهمزة مكسورة بعد الباء، قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا، وأصله أن لا يُهْمَز، ويكون مُرْبَدّ مثل مُسْوَدّ، ومُحْمَرّ، وكذا ذكره أبو عبيد، والهرويّ، وصححه بعض شيوخنا، عن أبي مروان بن سراج؛ لأنه من ارْبَدّ إلا على لغة مَن قال: احْمَأَرّ بهمزة بعد الميم؛ لالتقاء الساكنين، فيقال: ارْبَأَدّ، ومُرْبَئِدّ، والدال مشدّدة على القولين، وسيأتي تفسيره. انتهى
(2)
.
(كَالْكُوزِ) بضمّ الكاف: إناء بعروة يُشرب فيه الماء، جمعه كِيزَان
(3)
(مُجَخِّيًا) بميم مضمومة، ثم جيم مفتوحة، ثم خاء معجمة مكسورة، معناه: مائلًا، كذا قاله الهرويّ وغيره، وفسره الراوي في الكتاب بقوله:"منكوسًا"، وهو قريب من معنى المائل.
(1)
"المفهم" 1/ 359 - 360.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 173.
(3)
راجع: "المعجم الوسيط" 2/ 804.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "المُجَخّي": المائلُ عن الاستقامة والاعتدال، فشَبَّهَ القلب الذي لا يَعِي خيرًا بالكوز المائل الذي لا يَثْبُتُ فيه شيءٌ. انتهى
(1)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: قال لي ابن سراج: ليس قوله: "كالكوز مُجَخِّيًا" تشبيهًا لما تقدم من سواده، بل هو وصف آخرُ من أوصافه، بأنه قُلِبَ ونُكِّس حتى لا يَعْلَق به خيرٌ، ولا حِكْمة، ومَثَّله بالكوز المُجَخِّي، وبَيَّنه بقوله:"لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".
وقال أبو عبيد: "المُجخّي": المائل، ولا أحسبه أراد بميله إلا أنه مُنْخَرِقُ الأسفل، شبّه به القلب الذي لا يعي خيرًا، كما لا يثبتُ الماء في الكُوز المنخرق.
وتعقّب القاضي عياض كلام أبي عبيد هذا، فقال: إذا كان مقلوبًا منكوسًا لم يثبُت فيه شيء، وإن لم يكن منخرقًا. انتهى
(2)
. وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم.
(لَا يَعْرِفُ) بالبناء للفاعل، وفاعله ضمير القلب الموصوف بما ذُكر (مَعْرُوفًا) أي: أمرًا عُرِف بالشرع حسنُهُ وثوابه (وَلَا يُنْكِرُ) بالبناء للفاعل أيضًا (مُنْكَرًا) أي: ما أُنكر في الشرع، ونُهي عنه (إِلا مَا أُشْرِبَ) بالبناء للمفعول، وقوله:(مِنْ هَوَاهُ") بيان لـ"ما"، أي: ما تهواه نفسه بغير إذن شرعيّ، كما قال عز وجل:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50].
وقال صاحب "التحرير": معنى الحديث أن الرجل إذا تَبعَ هواه، وارتكَبَ المعاصي دَخَلَ قَلْبَهُ بكل معصية يتعاطاها ظلمةٌ، وإذا صار كذلك افْتُتِنَ، وزال عنه نور الإسلام، والقلبُ مثلُ الكوز، فإذا انكَبّ انصَبّ ما فيه، ولم يَدْخُله شيء بعد ذلك. انتهى
(3)
.
(1)
"النهاية" 1/ 242.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 575.
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 173.
(قَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه (وَحَدَّثْتُهُ) أي: عمرَ رضي الله عنه (أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا) أي: الفنتة (بَابًا مُغْلَقًا) معناه أنّ تلك الفِتَن لا يَخرُج شيءٌ منها في حياتك.
وفي رواية للبخاريّ: "يا أمير المؤمنين لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابًا مُغْلقًا".
قال في "الفتح": وكأنه مثّل الفِتَنَ بدار، ومَثَّل حياةَ عمر رضي الله عنه بباب لها مُغلَق، ومثّل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودةً فهي الباب المُغلَق لا يخرُج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار. انتهى
(1)
.
(يُوشِكُ) بضمّ الياء، وكسر الشين، أي: يَقرُبُ (أَنْ يُكْسَرَ) بالبناء للمفعول (قَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (أَكَسْرًا) مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي: أيُكسَر كسرًا، فإن المكسور لا يُمكن إعادته، بخلاف المفتوح، ولأن الكسر لا يكون غالبًا إلا عن إكراه، وغَلَبةٍ، وخلاف عادة.
وفي رواية الأعمش المذكورة: "قال: يُفتح الباب، أو فَيُكسَرُ الباب أم يُفتح؟ قال: قلت: لا، بل يُكسر، قال: ذلك أحرى أن لا يُغلق أبدًا"، ولفظ البخاريّ في "الصيام":"ذاك أجدر أن لا يُغلق إلى يوم القيامة".
قال ابن بطال رحمه الله: إنما قال ذلك؛ لأن العادة أن الغَلْق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يُتَصَوَّر غلقه حتى يُجْبَر. انتهى.
قيل: "ويحتمل أن يكون كَنَى عن الموت بالفتح، وعن القتل بالكسر"
(2)
.
(لَا أَبَا لَكَ؟) قال صاحب "التحرير": هذه كلمة تَذْكُرُها العرب للحثّ على الشيء، ومعناها أن الإنسان إذا كان له أبٌ، وحَزَبَهُ أَمْرٌ، ووَقَع في شدّة عاونه أبوه، ورفع عنه بعضَ الكَلّ، فلا يَحتاج من الجِدّ والاهتمام إلى ما يَحتاج إليه حالةَ الانفراد، وعدم الأب المعاون، فإذا قيل: لا أبا لك، فمعناه: جِدَّ في هذا الأمر، وشَمِّر، وتَأَهَّبْ تَأَهُّبَ مَن ليس له مُعاوِن. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 6/ 701 "كتاب المناقب"(3586).
(2)
راجع: 6/ 701 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3586).
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 173.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أكسرًا لا أبا لك" استعظامٌ من عمر رضي الله عنه؛ لِكَسْر ذلك الباب، وخوفٌ منه ألا ينجبر؛ لأن الكسر لا يكون إلا عن إكراه وغَلَبة، فكأنّ الباب المغلق عن دخول الفتن على الإسلام عمر رضي الله عنه، وكسرُهُ قتلُهُ.
واللامُ في "لا أبا لك" مُقحمة، وكذلك في قولهم:"لا يَدَيْ لفلان بهذا الأمر"، ولا تُريد العربُ بهذا الكلام نفيَ الأبوّة حقيقة، وإنما هو كلامٌ جرى على ألسنتهم كالمثل، ولقد أبدع البديعُ حيث قال في هذا المعنى:
وَقَدْ يُوحِشُ اللَّفْظُ وَكُلُّهُ وُدٌّ
…
وَيُكْرَهُ الشَّيءُ وَمَا مِنْ فِعْلِهِ بُدُّ
هذه العرب تقول: "لا أبا لك" للشيء إذا أهمّ، و"قاتله الله"، ولا يُريدون به الذمّ، و"ويلُ أمه" للأمر إذا تمّ، والإلباب
(1)
في هذا الباب أن يُنظر إلى القول وقائله، فإن كان وليًّا، فهو الولاء، وإن خَشُنَ، وإن كان عدوًّا فهو البلاء، وإن حَسُن. انتهى
(2)
.
(فَلَوْ أَنَّهُ) أي: ذلك الباب (فُتِحَ) بالبناء للمفعول (لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ) إنما قال عمر رضي الله عنه ذلك اعتمادًا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة، ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة.
قال حذيفة رضي الله عنه (قُلْتُ: لَا) أي: لا يُفتح (بَلْ يُكْسَرُ، وَحَدَّثْتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ) هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما جاء مُبَيَّنًا في الصحيح (يُقْتَلُ) بالبناء للمفعول (أَوْ يَمُوتُ) قال ابن الْمُنيّر رحمه الله: آثر حذيفة رضي الله عنه الحرص على حفظ السرّ، ولم يُصرّح لعمر رضي الله عنه بما سأل عنه، وإنما كَنَى عنه كنايةً، وكأنه كان مأذونًا له في مثل ذلك.
وقال النوويّ رحمه الله: يحتمل أن يكون حذيفة رضي الله عنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم هكذا على الشكّ، والمراد به الإبهام على حذيفة وغيره، ويحتمل أن يكون حذيفة رضي الله عنه عَلِمَ أنه يُقْتَل، ولكنه كَرِه أن يخاطب عمر رضي الله عنه بالقتل، فإن عمر رضي الله عنه كان يَعْلَم أنه هو الباب كما جاء مُبَيَّنًا في "الصحيح" أن عمر كان يَعْلَم مَنِ الباب، كما يعلم أن قبل غد الليلةَ، فأتى حذيفةُ رضي الله عنه بكلام يَحْصُل
(1)
أي اللزوم والثبات.
(2)
"المفهم" 1/ 361.
منه الغرض، مع أنه ليس إخبارًا لعمر بأنه يُقْتَل. انتهى
(1)
.
(حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأغَالِيطِ) أي: حدّثته حديثًا، فهو مفعول مطلق لمقدّر، و"الأغاليط": بالفتح جمع أُغلُوطة، وهي التي يُغالَط بها، فمعناه حَدَّثته حديثًا صدقًا مُحَقَّقًا، ليس هو من صُحُف الكتابيين، ولا من اجتهاد ذي رأي، بل من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحاصل أن الحائل بين الفتن والإسلام عمر رضي الله عنه، وهو الباب، فما دام حَيًّا لا تدخل الفِتَنُ، فإذا مات دخلت الفِتَن، وكذا كان، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: قوله: "ليس بالأغاليط" قال ابن دُريد: "المَغَاليط": الكَلِم التي يُغالط بها، واحدها مَغْلَطَةٌ، وأُغْلُوطةٌ، وجمعها أَغَاليطُ، ومعناه: حدّثته حديثًا صِدْقًا، ليس فيه غَلَطٌ لقائله، ولا سامعه، كما بيّنه بقوله:"إن عمر كان يعلم مَنِ الباب"، يعني: أنه كان عنده، وعند عمر من قِبَل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس من رأيه، وحديثه، ولا من صُحُف الكتابيين حيثُ تُتَصَوَّر الأغاليط.
وقال الداوديّ: معناه: ليس بالصغير الأمر، ولا اليسير الرزيّة، قال عياضٌ: والصواب الأول. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قد وافق حذيفةَ رضي الله عنه على معنى روايته هذه أبو ذرّ رضي الله عنه، فروى الطبراني بإسناد رجاله ثقات، أنه لَقِي عمر رضي الله عنه، فأخذ بيده، فغمزها، فقال له أبو ذر: أَرْسِل يدي يا قُفْل الفتنة
…
الحديث، وفيه أن أبا ذرّ قال:"لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم"، وأشار إلى عمر رضي الله عنه، ورَوَى البزار من حديث قُدامة بن مظعون، عن أخيه عثمان، أنه قال لعمر: يا غَلَقَ الفتنة، فسأله عن ذلك، فقال: مررتَ، ونحن جلوس عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة بابٌ شديدُ الغلق ما عاش"، ذكره في "الفتح"
(4)
.
[تنبيه آخر]: زاد في رواية الأعمش، عن شقيق الآتية في "الفتن" في
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 173.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 175.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 579.
(4)
راجع: 6/ 701 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3586).
آخره: "قال: فقلنا لحذيفة: هل كان عمر يَعْلَمُ من الباب؟ قال: نعم، كما يَعلَم أنّ دون غدٍ الليلةَ
(1)
، إني حدّثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهِبنا
(2)
أن نسأل حذيفة من الباب؟، فقلنا لمسروق
(3)
: سَلْهُ، فسأله، فقال: عمر"
(4)
. انتهى.
قال ابن بطَّال رحمه الله: إنما عَلِمَ عمر رضي الله عنه أنه الباب؛ لأنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على حراء، وأبو بكر، وعثمان، فَرَجَفَ، فقال صلى الله عليه وسلم:"اثْبُتْ، فإنما عليك نبيّ، وصِدِّيقٌ، وشهيدان"
(5)
، أو فَهِمَ ذلك من قول حذيفة رضي الله عنه:"بل يُكْسَر". انتهى.
قال الحافظ بعد كلام ابن بطّال هذا، ما نصّه: والذي يظهر أن عمر رضي الله عنه عَلِمَ الباب بالنص، كما قدمت عن عثمان بن مظعون، وأبي ذرّ، فلعل حذيفة حَضَرَ ذلك، وقد أخرج البخاريّ في "كتاب بدء الخلق" حديث عمر رضي الله عنه "أنه سمع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّث عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم"، وأخرج في "كتاب المناقب" عن حُذيفة رضي الله عنه أنه قال: أنا أعلم الناس بكل فتنة، هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وفيه أنه سمع ذلك معه من النبيّ جماعة ماتوا قبله.
[فإن قيل]: إذا كان عمر رضي الله عنه عارفًا بذلك، فلمَ يَشُكّ فيه حتى سأل عنه؟.
(1)
أي أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد. اهـ. "فتح" 6/ 702.
(2)
بكسر الهاء: أي خِفْنا.
(3)
هو ابن الأجدع من كبار التابعين، وكان من أخصّاء أصحاب ابن مسعود، وحذيفة، وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم، ودَلَّ ذلك على حسن تأدبهم مع كبارهم. انتهى. "فتح" 6/ 702.
(4)
قال الكرمانيّ رضي الله عنه: تقدم قوله: "إن بين الفتنة وبين عمر بابًا"، فكيف يُفَسِّر الباب بعد ذلك أنه عمر؟.
والجواب: إن في الأول تجوزًا، والمراد: بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر، وبين الفتنة بدنُهُ؛ لأن البدن غير النفس. انتهى.
(5)
أخرجه البخاريّ في "صحيحه" برقم (3678).
[فالجواب]: أن ذلك يقع مثله عند شدّة الخوف، أو لعله خَشِيَ أن يكون نَسِيَ، فسأل من يُذَكِّره، وهذا هو المعتمد. انتهى ما في "الفتح" ببعض تصرّف
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(قَالَ أَبُو خَالِدٍ) سليمان بن حيّان الأحمر رحمه الله (فَقُلْتُ لِسَعْدٍ) أي: ابن طارق، شيخه في هذا الحديث (يَا أَبَا مَالِكٍ) كنية سعد بن طارق، كما يأتي في السند التالي (مَا) استفهاميّة، أي: أيُّ معنى لقوله: (أَسْوَدُ مُرْبَادًّا؟، قَالَ) سعد (شِدَّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ) خبر لمحذوف، أي: هو شدّةُ
…
إلخ.
قال القاضي عياض رحمه الله كان بعض شيوخنا يقول: إنه تصحيفٌ، وهو قول القاضي أبي الوليد الكنانيّ، قال: أَرَى أن صوابه شِبْهُ البياض في سواد، وذلك أنّ شِدّة البياض في سواد لا يُسَمَّى رُبْدَةً
(2)
، وإنما يقال لها: بَلَقٌ إذا كان في الجسم، وحَوَرٌ إذا كان في العين، والرُّبْدة إنما هو شيءٌ من بياض يسير، كلون أكثر النَّعَام، ومنه قيل للنعامة: رَبْدَاء، فصوابه شِبْه البياض، لا شِدّةُ البياض.
قال أبو عبيد، عن أبي عمرو وغيره:"الرُّبْدَةُ": لونٌ بين السواد والغبرة، وقال ابن دُرَيد:"الرُّبْدة": لون أَكْدَرُ، وقال غيره: هي أن يختلط السواد بكدرة، وقال الحربيّ: لونُ النعام بعضه أسود، وبعضه أبيض، ومنه ارْبَدَّ لونه إذا تَغَيَّر، ودخله سواد، وإنما سُمّي النعام أربد؛ لأن أعالي ريشه إلى السواد، وقال نِفْطويه: المُرْبَدُّ: المُلَمَّعُ بسواد وبياض، ومنه تَرَبَّدَ لونه؛ أي: تَلَوَّن، فصار كلون الرماد. انتهى
(3)
.
(قَالَ) أبو خالد (قُلْتُ) لسعد (فَمَا الْكُوزُ مُجَخِّيًا؟) أي: فما معنى قوله: "كالكُوز مجخّيًا؟ "(قَالَ) سعد (مَنْكُوسًا) أي: مقلوبًا، وقد تقدّم تفسير بعض أهل اللغة له بالمائل، ولا تنافي بينهما؛ لأن المنكوس مائل عن الاستقامة،
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 702 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3586).
(2)
"الرُّبْدة" وِزانُ غُرْفة: لون يختلط سواده بكُدرة، قاله في "المصباح" 1/ 215.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 575 - 576.
فهو قريبٌ من معناه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[68/ 376 و 377 و 378](144)، وكرره في "الفتن"، و (البخاريّ) في "الصلاة"(525)، و"الزكاة"(1435)، و"الصيام"(1895)، و"علامات النبوّة"(3586)، و"الفِتَن"(7096)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2258)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(327)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3955)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(408)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20752)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 15 و (الحميديّ) في "مسنده"(447)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 386 - 401 - 405)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5966)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3024)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4218)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(143 و 144 و 145).
ثم قال: قال أبو عوانة: يقال: إن تفسير مربد: شدّة البياض في السواد، وتفسير الكوز مجخّيًا قال: منكوسًا. انتهى
(1)
.
و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(367 و 368 و 369).
ثم قال: "المائج": المضطرب، ويموج؛ أي: يضطرب، و"المجَخّي": المائل، يعني: لا يعي شيئًا، ولا يستقرّ فيه الخير، كما لا يستقرّ الماء في الكُوز المُجَخَّى، والمُرْبَدُّ: لون بين الغبرة والسواد، وهو لون النعام. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تعظيم أمر الفِتَن، وأنها تُعرض على القلوب، فتفسدها،
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 57.
(2)
"مستخرج أبي نُعيم" 1/ 211.
حتى يظلم، وإذا كان كذلك يكون مضادًّا للإيمان؛ لأنه نور، فلا يدخل في قلب لا يقبله، وهذا هو وجه المطابقة في ذكره في كتاب الإيمان؛ إذ معظم الفتن تنافي الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان انقسام القلب إلى قسمين:
قلبٌ يقبل الفتن، وتتمكّن منه، فتفسده، فلا يمكن أن يعرف معروفًا، ولا يُنكر منكرًا، بل هو متّبع لهواه والشيطان.
وقلب، لا مجال للفتن فيه أصلًا، بل يطردها، ولا يجعل لها مدخلًا فيه، فهذا قلب شرحه الله تعالى للإسلام، وأدخل فيه النور، وقد أشار الله تعالى إلى هذين القسمين في كتابه حيث قال عز وجل:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)} [الزمر: 22].
3 -
(ومنها): أن فيه علَمًا من أعلام النبوّة، ومعجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عما يقع بعد موته من الفتن الكبرى، وأنها لا تكون ما دام عمر حيًّا، فكان كما قال.
4 -
(ومنها): بيان فضل عمر رضي الله عنه، وأنه كان مِغلاقًا للفتن، فلم يرَ الناس الفتنة العمياء إلا بعد موته رضي الله عنه.
5 -
(ومنها): بيان أن عمر رضي الله عنه يموت مقتولًا ظلمًا، فكان كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث مات شهيدًا، قتله أبو لؤلؤة المجوسيّ غلام المغيرة بن شعبة رضي الله عنه يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة، وقيل: لثلاث سنة (23 هـ) وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقيل غير ذلك.
6 -
(ومنها): بيان فضل حُذيفة رضي الله عنه حيث كان موضع سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعلمه بالفتن التي تأتي في أمته بعده، فقد أخرج مسلم في "صحيحه" عنه رضي الله عنه أنه قال:"والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ..... "
(1)
(1)
سيأتي في "الفتن" برقم (2891).
7 -
(ومنها): بيان أن القلب الذي تدخل فيه الفتن لا يمكن أن يقبل الحقّ؛ إذ هو ضدّه، وإنما يُطيع هواه.
8 -
(ومنها): بيان فضل إنكار الفتن، واجتنابها؛ لئلا تؤثّر في القلب، وتصدّه عن قبول الحقّ، واتباع السنّة.
9 -
(ومنها): جواز إطلاق العامّ، وإرادة الخاصّ، فإن عمر رضي الله عنه سأل عن الفتن العامّة، وأراد الفتنة الخاصّة.
10 -
(ومنها): أن الأهل، والأولاد، والنفس، والجار، فتنة؛ لأنها توقع في الذنوب، وارتكاب ما لا يحلّ للإنسان بسببهم.
11 -
(ومنها): أن هذه الفتن تكفّرها الصلاة، والصيام، والصدقة، ونحوها من الحسنات، كما قال عز وجل:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
12 -
(ومنها): أن الفتنة الكبرى إذا وقعت ظلّ باب الشرّ مفتوحًا بين المسلمين، فلا يُغلَق أبدًا.
13 -
(ومنها): تذاكر الولاة مع العلماء أمور دينهم للتبصّر بالعواقب، وأخذ الحَذَر والحِيطَة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[377]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ جَلَسَ، فَحَدَّثَنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْس، لَمَّا جَلَسْتُ إِلَيْه، سَأَلَ أَصْحَابَهُ، أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتَنِ؟، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ لِقَوْلِهِ: "مُرْبَادًّا مُجَخَّيًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، ثقةٌ، كان يلازم ابن عيينة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) هو: مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثم دمشق، ثقة حافظٌ، كان يُدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
والباقون تقدّموا في السند الماضي، و"أبو مالك الأشجعيّ": هو سعد بن طارق، المذكور في السند الماضي.
قَوله: (فَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ) قال النوويّ رحمه الله: المراد بقوله: "أَمْسِ" الزمان الماضي، لا أمسِ يومه، وهو اليوم الذي يلي يوم تحديثه؛ لأن مراده لَمّا قَدِم حذيفة الكوفةَ في انصرافه من المدينة، من عند عمر رضي الله عنهما.
[تنبيه]: في "أَمْسِ" ثلاث لغات، قال الجوهريّ:"أَمْس" اسم حُرِّك آخره؛ لالتقاء الساكنين، واختلف العرب فيه، فأكثرهم يَبنيه على الكسر معرفةً، ومنهم من يُعربه معرفةً، وكلهم يُعربه إذا دخلت عليه الألف واللام، أو صَيَّره نكرةً، أو أضافهُ، تقول: مضى الأمسُ المباركُ، ومضى أمسُنَا، وكلُّ غَدٍ صائر أمسًا، وقال سيبويه: جاء في الشعر: "مذ أمسَ" بالفتح، هذا كلام الجوهريّ.
وقال الأزهريّ: قال الفراء: ومن العرب من يَخفِض الأمس، وإن أدخل عليه الألف واللام.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: خلاصة القول في "أَمس" أنه يُبنى على الكسر، وشرط بنائه خلوّه من "أل"، والإضافة، والتصغير، والتكسير، وأن يُراد به معيَّنٌ، وهو اليوم الذي يليه يومك خاصّةً، أو اليوم المعهود، وإن بَعُدَ على ما استظهره الشنوانيّ، فيكون كالمُحلَّى بـ "أل"، أما المنوّن، فيعمّ كلَّ أمسٍ، فإذا اجتمعت هذه الشروط بُني على الكسر مطلقًا عند الحجازيين؛ لتضمّنه معنى "أل"؛ إذ هو معرفةٌ بغير أداةٍ ظاهرةٍ، بدليل وصفه بالمعرفة في قولهم:"أمسِ الدابرُ لا يعود"، وأما بنو تميم، فبعضهم يُعربه كما لا ينصرف مطلقًا؛ لشبه العلميّة والعدل عن "الأمس" بـ "أل"، وعليها قوله:
لَقَدْ رَأَيْتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا
وأكثرهم يُعربه كذلك في الرفع فقط؛ لشرفه، ويبنيه على الكسر في غيره؛ عملًا بالموجِبين، وحُكي فيه أيضًا البناء على الكسر منوّنًا، وإعرابها منصرفًا مطلقًا، فهذه خمس لغات كلُّها في غير الظرف.
فأما الظرف مع استيفاء الشروط، كـ"فعلته أمسِ"، فمبنيّ إجماعًا، نقله ابن هشام في "التوضيح"، وإن نوزع في حكاية الإجماع بنقل الزجّاج جواز كونه كـ"سَحَر" ظرفًا.
وإن فقد شرطًا منها أُعرب إجماعًا، ظرفًا كان، أو غيره؛ لفوات شِبْه الحرف في عدم الشرط الأخير، ولمعارضته بخواصّ الأسماء في غيره.
وأما قوله [من الطويل]:
وَإِنِّي وَقَفْتُ الْيَوْمَ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ
…
بِبَابِكَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ تَغْرُبُ
على رواية كسره، فخُرّج على زيادة "أل"، أو أنه عطفٌ على توهُّم أنه قال: وقفتُ في اليوم، والأمس، فيكون معربًا.
والفرق بين العدل والتضمين أن الأول يجوز فيه ذكرُ "أل"، والثاني يؤدّي معناها مع طرحها، وامتناع ذكرها، ذكره الخضريّ رحمه الله في "حاشيته"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (سَأَل أَصْحَابَهُ) أي: جلساءه الذين أحاطوا به.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الضمير لمروان الفزاريّ، أي: ساق مروان الحديث.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ) هو: سليمان بن حيّان الأحمر.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ) أي: مروان (تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ) أي: سعد بن طارق (لِقَوْلِهِ: مُرْبَادًّا مُجَخِّيًا) يعني: أن مروان وإن شارك أبا خالد الأحمر في رواية هذا الحديث عن سعد بن طارق، لكنه خالفه بنقص بعضه، وهو التفسير المذكور.
[تنبيه]: رواية مروان الفزاريّ المذكورة لم أجد من أخرجها غير المصنّف رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عَقِيل على الخلاصة" 1/ 42.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[378]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، وَعُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، قَالُوا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هَنْدٍ، عَنْ رِبْعِيَّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ يُحَدِّثُنَا، أَوْ قَالَ: أيُّكُمْ يُحَدَّثُنَا، وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ، مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيط، وَقَالَ: يَعْني: أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الزَّمِنُ، أبو موسى العنَزيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَمْرُو بْنُ عَلِيّ) بن بَحْر بن كَنِيز الفلّاس الصيرفيّ الباهليّ، أبو حفص البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 249)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 38.
3 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَم
(1)
الْعَمِّيُّ)
(2)
أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11](م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
5 -
(سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ) هو: سليمان بن طَرْخان، أبو المعتمر البصريّ، ثقة عابدٌ [4](ت 143)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
6 -
(نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) واسمه: النعمان بن أشيم الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [4].
رَوَى عن أبيه، وله صحبةٌ، ونُبَيط بن شَرِيط، ورِبْعيّ بن حِرَاش،
(1)
بضم الميم، وفتح الراء، بصيغة اسم المفعول.
(2)
بفتح العين المهملة، وتشديد الميم: نسبة إلى عمّ، بطن من تميم، قاله في "لبّ اللباب" 2/ 122.
وسُوَيد بن غَفَلة، وأبي وائل، وأبي حازم الأشجعيّ، وابن سمرة بن جُنْدَب.
ورَوَى عنه ابن عمه، أبو مالك، سعد بن طارق الأشجيّ، وسَلَمة بن نُبَيط، وسليمان التيميّ، ومغيرة بن مِقْسَم، وزياد بن خَيْثَمة، والزُّبير ذبن الخِرِّيت، وشعبة، وشيبان النحويّ، وغيرهم.
قال أبو حاتم: صالح الحديث، صدوقٌ، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم الرازيّ: قيل لسفيان الثوريّ: ما لك لم تَسْمَع من نعيم بن أبي هند؟ قال: كان يتناول عليًّا رضي الله عنه، وقال ابن سعد: تُوُفي في ولاية خالد الْقَسْريّ، وكان ثقةً، وله أحاديث، وقال العجليّ: كوفيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال عمرو بن عليّ: مات سنة عشر ومائة.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط، هذا الحديث برقم (144)، وحديث (1560): "تجاوزوا عن عبدي
…
"، و (2797): "لو دنا منّي لاختطفته الملائكة
…
"، و (2935): "لأنا بما مع الدجّال أعلم منه
…
".
والباقيان تقدّما في الماضي.
وقوله: (مَنْ يُحَدِّثُنَا)"من" استفهاميّة.
وقوله: (وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ) جملة في محلّ نصب على الحال، أي: والحال أن حذيفة رضي الله عنه كائنٌ مع القوم الذين سألهم عمر رضي الله عنه.
وقوله: (قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا) مبتدأ حُذف خبره، أي: أنا أُحدّثكم، أو أنا أحفظه، كما تفيده الرواية التي قبلها.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) الضمير لنعيم بن أبي هند.
وقوله: (كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ) أي: سعد بن طارق الأشجعيّ.
وقوله: (وَقَالَ) أي: نعيم (فِي الْحَدِيثِ: قَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ) يعني: أن نُعيمًا زاد في روايته على رواية مروان الفزاريّ قوله: "قال حذيفة
…
إلخ"، وقد تقدّمت في رواية أبي خالد الأحمر.
وقوله: (وَقَالَ: يَعْنِي: أَنَّهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ضمير "قال" لنعيم أيضًا، والظاهر العناية منه، ويحتمل أن يكون من غيره.
[تنبيه]: رواية نُعيم بن أبي هند التي أشار إليها المصنّف، قد ساقها الحافظ أبو نُعيم، في "مستخرجه"، فقال رحمه الله (1/ 211):
(369)
حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى، ثنا أبو حفص، وثنا ابن الطهرانيّ، ثنا يحيى بن حكيم، قالوا: ثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان التيميّ، عن نعيم بن أبي هند، عن رِبْعيّ، عن حذيفة، أن عمر قال: مَن يُحَدِّثنا، أو مَن أَمِينكم يحدثنا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا، أيّ فتنة تَعني يا أمير المؤمنين؟ قال: فتنة الرجل في نفسه وأهله وماله، قال: لا، تكفّرها الصلاة والصدقة، ولكن الفتنة التي تموج، أو تمور كما يمور، أو كما يموج البحر، فقال: وما عليك يا أمير المؤمنين؟ إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، لا يُفْضِي إليك منها شيء، حتى يُدَقّ البابُ، فقال عمر: دَقًّا لا أبا لك؟ إنه لو كان إنما يُفتَح كان عسى أن يُغْلَق، فقال حذيفة: إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: يعني: فإنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال في بعض ذلك:"يُعْرَضُ للناس فتنةٌ، فمن أُشْرِبها كانت في قلبه نكتةٌ سوداءُ، ومن أنكرها كانت في قلبه نكتةٌ بيضاءُ، حتى يكون الناس، أو تكون القلوب فيها قلبين: قلب أبيض كالصَّفَا، لا تَضُرُّه فتنة أبدًا، وقلبٌ أسودُ مُرْبَدٌّ، مثل الكُوز مُجَخِّيًا، لا يَعْرِف حَقًّا، أو قال: معروفًا، ولا ينكر منكرًا"، لفظ يحيى بن حكيم.
[تنبيه آخر]: وقع في سند أبي نُعيم المذكور زيادة شعبة بين ابن أبي عديّ، وبين سليمان التيميّ، وليس ذلك عند مسلم، ولم يتعرّض أحد للتنبيه على هذا، لا الحافظان: المزيّ، وابن حجر، في "تحفة الأشراف"، و"النكت الظراف"، ولا غيرهما، والظاهر أنه غلط، فليُحرّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(69) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ الإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا، وَأَنَّهَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ)
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[379]
(145) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ جَمِيعًا، عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ، يَعْنِي: ابْنَ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) بن الزِّبْرقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِمُ [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(يَزِيدَ بْنَ كَيْسَانَ) اليَشْكُريّ، أبو إسماعيل، أو أبو المُنَين الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ [6]، (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت على رأس المائة)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة، من صيغ الأداء.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخيه، فالأول ما أخرج له أبو داود، والثاني ما أخرج له البخاريّ، وأبو داود، ويزيد بن كيسان ما أخرج له البخاريّ إلا في "الأدب المفرد"، كما أسلفته قريبًا.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه، فمكيّان، والصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن أبا حازم ممن أكثر الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد لازمه خمس سنين.
5 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا) قال النوويّ رحمه الله: كذا ضبطناه "بدأ" بالهمز، من الابتداء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كذا روايته بهمز بدأ، وفيه نظرٌ، وذلك أن بدأ مهموزًا متعدّ إلى مفعول، كقوله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} [الأنبياء: 104]، قال صاحب "الأفعال": يقال: بدأ الله الخلق بدءًا، وأبدأهم: خَلَقهم، و"بدأ" في الحديث، لا يقتضي مفعولًا، فظهر الإشكال، ويرتفعُ الإشكال بان يُحمَل "بدأ" الذي في الحديث على طرأ، فيكون لازمًا، كما قد اتّفق للعرب في كثير من الأفعال، يتعدّى حملًا على صيغة، ولا يتعدّى حملًا على أخرى، كما قالوا: رجع زيد، ورجعته، وفَغَرَ فاه، وفَغَرَ فُوهُ، وهو كثير، وقد سمعتُ من بعض أشياخي إنكار الهمزة، وزعم أنه "بدا" بمعنى ظهر، غير مهموز، وهذا فيه بُعْدٌ من جهة الرواية والمعنى، فأما الرواية بالهمزة، فصحيحةُ النقل عمن يُعتمد على علمه وضبطه، وأما المعنى فبعيدٌ عن مقصود الحديث، فإن مقصوده أن الإسلام نشأ في أول أمره في آحاد من الناس وقِلّةٍ، ثم انتشر وظهر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيلحقه من الضعف والاختلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلّةٍ كابتدائه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الصواب أن "بدأ" لازمًا مستعمل فصيحٌ، منقول عن أهل اللغة، قال الفيّوميّ رحمه الله:"بدأ الشيءُ": حَدَثَ، وابتدأته: أحدثته، وقال قبل ذلك: وبدأ الله الخلقَ، وابتدأهم بالألف: خلقهم. انتهى
(3)
.
وأصل الغربة: البُعْدُ، كما قال [من الطويل]:
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 176.
(2)
"المفهم" 1/ 362.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 40.
فَلَا تَحْرِمِينِي نَائِلًا عَنْ جَنَابَةٍ
…
فَإِنِّي امرُؤٌ وَسْطَ الْعُبَابِ غَرِيبُ
ويَحتَمِلُ أن يُراد بالحديث المهاجرين؛ إذ هم الذين تغرّبوا عن أوطانهم فرارًا بأديانهم، فيكون معناه أن آخر الزمان تشتدّ فيه المحنُ على المسلمين، فيَفِرّون بأديانهم، ويغتربون عن أوطانهم، كما فَعَل المهاجرون، وقد ورد في الحديث: قيل: يا رسول الله مَنِ الغُرباء؟ قال: "هم النزّاع من القبائل"
(1)
؛ إشارة إلى هذا المعنى - والله أعلم - ولذلك قال الهرويّ: أراد بذلك المهاجرين، والنُّزّاع، وهو جمع نَزِيع، أو نازع، وهو الذي نَزَعَ عن أهله وعشيرته، وبَعُدَ عن ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا إلخ" روى ابن أبي أويس عن مالك أن معناه في المدينة، وأن الإسلام بدأ بها غريبًا، ويعود إليها.
وظاهر الحديث العمومُ، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلّة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والاختلال حتى لا يبقى أيضًا إلا في آحاد وقلّة غريبًا كما بدأ.
وأصل الغربة البعد، وبه سمّي النفيُ تغريبًا لذلك، وورد تفسير الغريب في الحديث قال:"وهم النُّزّاع من القبائل". انتهى كلام القاضي رحمه الله
(3)
.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: يريد أن الإسلام لَمّا بدأ في أول الوَهْلة نَهَضَ بإقامته، والذّبّ عنه أُناس قليلون من أشياع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونُزّاع القبائل، فشرّدوهم عن البلاد، ونَفَوهم عن عُقْر الديار، يُصبح أحدهم معتزلًا مهجورًا، ويَبيتُ مُنتبذًا وحدانًا كالغُرَباء، ثم يعود آخرًا إلى ما كان عليه، لا يكاد يوجد من القليلين إلا الأفراد.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" 1/ 398، وابن ماجه في "سننه" (3988) بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء"، قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "النُّزّاع من القبائل".
(2)
"المفهم" 1/ 362 - 363.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 579 - 581.
وَيحْتَمِلُ أن تكون المماثلة بين الحالة الأولى، والحالة الأخيرة لقلّة من كانوا يتديّنون به في الأول، وقلّة من كانوا يعملون به في الآخر، فطوبى للغرباء المتمسّكين بحبله المتشبّثين بذيله. انتهى.
وقال الطيبي رحمه الله: لا يخلو إما أن يُستعار الإسلام للمسلمين، فالغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وإما أن يجري الإسلام على الحقيقة، فالكلام فيه على التشبيه، والوحدة والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلّته، فعلى هذا قوله:"غريبًا" إما حالٌ، أي: بدأ الإسلام مشابهًا للغرباء، أو مفعولًا مطلقًا، أي: الإسلام ظهر ظهور الغرباء حين بدأ فريدًا وحيدًا، لا مأوى له، حتى تبوّأ دار الإسلام أعني طيبة، فطوبى له، وطاب عيشًا، ثم أتمّ الله نوره، فانبثّ في الآفاق، فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، فيعود في آخر الأمر وحيدًا فريدًا شريدًا إلى طيبة، كما بدأ، فطوبى له، ولَهَفِي عليه
(1)
، كما ورد:"إن الإيمان ليأرِزُ إلى المدينة، كما تأرِز الحيّة إلى جحرها"، متّفقٌ عليه، فعلى هذا "طوبى" ترشيح الاستعارة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
(وَسَيَعُودُ) أي: الإسلام (كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا) الكاف صفة لمصدر محذوف، و"ما" اسم موصول، أو مصدريّة، والتقدير: وسيعود عودًا مثل بدئه الذي بدأ به من الغربة، أي: القلّة؛ لقلّة أهله في الناس.
(فَطُوبَى)"طُوبَى": فُعْلَى من الطِّيب، قاله الفرّاء، قال: وإنما جاءت الواو؛ لضمة الطاء، قال: وفيها لغتان: تقول العرب: طُوباك، وطوبى لك، وسيأتي اختلاف العلماء في معناه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(لِلْغُرَبَاءِ) أي: للذين يغتربون عن أوطانهم، وذويهم، وعشيرتهم فرَارًا بدينهم، وطلبًا لمرضاة ربّهم سبحانه وتعالى، وقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم فسّرهم بأنهم النُّزّاع من القبائل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
لَهِفَ كفَرِحَ: حَزِنَ وتحسّر. اهـ. "ق" ص 769.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 626.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[69/ 379](145)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3986)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(298)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(370)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(11/ 307)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): غُربة الإسلام بعد انتشاره واشتهاره، وقد سبق أن الإسلام والإيمان إذا افترقا اجتمعا، وإذا اجتمعا افترقا، فما هنا من الأول، فغربة الإسلام هو غربة الإيمان، وهذا هو وجه المطابقة في ذكره هنا، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أن فيه علمًا مش أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع بعده، فوقع كما أخبر به، قال سبحانه وتعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4].
فلقد أوذي الصحابة رضي الله عنهم بسبب إسلامهم، وقد كان الكفّار كما وصفهم عز وجل بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)} [المطففين: 29 - 32]، ولقد وقع المتمسّك بدينه في هذا العصر العصيب على حال الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، فما أكثر من يسمّى بمحمد وأحمد، وينتسب إلى الإسلام، وليس من أهله، بل هو من أهل النفاق والشقاق، أو من ضعفاء الإيمان، ديدنهم دين المجرمين الأولين، يلمزون ويغمزون الملتزمين بالسنّة، ويرونهم متخلّفين، وجامدين، وأصبحت شعائر السنّة بينهم غريبة، فالسنيّ عندهم لئيم، والبدعيّ والخرافيّ بينهم كريم، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، فأيّ غربة أشدّ من هذه الغربة؟، وأيّ مصيبة يصاب بها أهل الإسلام أكثر من هذا؟، الخير فيهم مهجور، والسنّيّ بينهم مدحور، ولسان الحقّ عندهم كليل، والداعي إلى السنة ذليل، يختفي فيهم الموحّد، ويتطاول بينهم الملحد، فطوبى لمن تمسّك بالإسلام الحقّ في مثل هذا المجتمع، وهجر الخرافات والبدع.
أخرج الإمام الترمذيّ رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه، كالقابض على الجمر"
(1)
.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، تباركت ربنا وتعاليت.
3 -
(ومنها): فضل من هجر أوطانه وعشيرته؛ لأجل الإسلام، فإن له الجنة، كما وعد الله تعالى في هذا الحديث، وفي قوله عز وجل:{وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} [النساء: 100]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى "طوبى":
(اعلم): أنه اختَلَف المفسرون في معنى "طُوبى" من قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29].
قال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: فَرَحٌ، وقُرّة عين، وقال عكرمة: نِعْمَ مالهم، وقال الضحاك: غِبْطَةٌ لهم، وقال إبراهيم النخعيّ: خيرٌ لهم، وقال قتادة: هي كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك، أي: أَصَبْتَ خيرًا، وقال في رواية:{طُوبَى لَهُمْ} : حُسْنَى لهم، {وَحُسْنُ مَآبٍ}؛ أي: مَرْجِع.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذه الأقوال شيءٌ واحدٌ، لا منافاة بينها.
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما:{طُوبَى لَهُمْ} قال: هي أرض الجنة بالحبشية، وقال سعيد بن مَسْجُوح
(2)
: {طُوبَى} واسم الجنة بالهندية، وكذا
(1)
صحيح أخرجه الترمذيّ برقم (2186)، وصححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. انظر:"السلسلة الصحيحة" 2/ 645.
(2)
وقيل: ابن مشجوج، وقيل: ابن مسجوع، هكذا جاء مختلفًا في المخطوطة عند ابن جرير، أفاده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، في نسخته 16/ 436 رقم الحديث (20376) وأثبت ابن مشجوج، وقال: لم أجد له ذكرًا في كتب الرجال.
رَوَى السُّدّيّ، عن عكرمة:{طُوبَى لَهُمْ} هي الجنة، وبه قال مجاهد، وقال العَوْفيّ، عن ابن عباس: لَمّا خلق الله الجنة، وفَرَغ منها قال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)} [الرعد: 29]، وذلك حين أعجبته
(1)
.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حُميد، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن شهر بن حوشب، قال:{طُوبَى} شجرة في الجنة، كلُّ شجر الجنة من أغصانها، من وراء سور الجنة
(2)
.
وهكذا رُوي عن أبي هريرة، وابن عباس، ومُغيث بن سُمَيّ، وأبي إسحاق السبيعي، وغير واحد من السلف: أن طوبى شجرة في الجنة، في كل دار منها غُصن منها.
وذَكَر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غَرَسها بيده من حبة لؤلؤة، وأمرها أن تَمْتَدّ، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة، من عسل، وخمر، وماء، ولبن.
وقد قال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، أن دَرّاجًا أبا السمح، حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدريّ، مرفوعًا:"طوبى شجرة في الجنة، مسيرة مئة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها"
(3)
.
وأخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلًا قال: يا رسول الله طوبى لمن رآك، وآمن بك، قال:"طوبى لمن رآني، وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي، ولم يرني"، قال له رجل: وما طوبى؟ قال: "شجرة في الجنة، مسيرتها مئة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها"
(4)
.
(1)
العوفيّ، ضعيف.
(2)
شيخ ابن جرير محمد بن حُميد الرازيّ: حافظ ضعيف.
(3)
سنده ضعيف؛ لضعف درّاج، ولا سيّما في أبي الهيثم، إلا أنه صحيح بشواهده، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 4/ 639 رقم (1985).
(4)
في سنده درّاج عن أبي الهيثم، وهو ضعيف كما سبق قبله، لكنه صحيح بشواهده، انظر:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 3/ 244 - 246 رقم (1241).
وأخرج الشيخان عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مئة عام، لا يقطعها"، قال: فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزُّرَقيّ، فقال: حدثني أبو سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة شجرة، يسير الراكب الجواد المُضمِر السريع مائة عام ما يقطعها".
وفي "صحيح البخاريّ" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30] قال: "في الجنة شجرةٌ يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها".
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، اقرأوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} .
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "طوبى شجرة في الجنة، يقول الله لها: تَفَتّقي لعبدي عما شاء، فتفتق له عن الخيل بسروجها ولُجُمها، وعن الإبل بأزمتها، وعما شاء من الكسوة"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال في الحقيقة ليس بينها تعارض، بل هي من تنوّع العبارات، واللفظ محتمل لكلّها، فحمله على جميعها هو الأولى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[380]
(146) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَالْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ، قَالَا: حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ، عَنْ أَبِيه، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْن، كمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا").
(1)
في سنده شهر بن حوشب؛ مختلف فيه، والصحيح أنه حسن الحديث، راجع هذه الآثار في:"تفسير ابن جرير" 16/ 436، و"تفسير ابن كثير" 8/ 141 - 148 طبعة مؤسسة قرطبة للطبع والنشر.
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ زاهدٌ [11](245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الْأَعْرَجُ) بن إبراهيم، أبو العبّاس البغداديّ، أصله من خُرَاسان، ثقةٌ
(1)
[11](255)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.
3 -
(شَبَابَةُ بن سَوَّارٍ)
(2)
الفَزَاريّ مولاهم، أبو عمرو المدائنيّ، أصله من خُرَاسان، قيل: اسمه مَرْوان، حكاه ابن عديّ، ثقة حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 254) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
4 -
(عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيُّ) هو: عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب العمريّ المدنيّ، ثقة [7](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.
5 -
(أَبُوهُ) هو: محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.
6 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب العَدويّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما المدنيّ (ت 73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله وله فيه شيخان قرن بينهما، وفيه التحديث، والعنعنة.
(1)
قال في "التقريب": صدوقٌ، والظاهر أنه ثقةٌ، فقد روى عنه جماعة، وأخرج له الشيخان، ووثقه النسائيّ، وابن حبّان، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(2)
قوله: "شَبَابة بن سَوّار" بالشين المعجمة المفتوحة، وبالباء الموحدة المكررة، و"سَوّار" بتشديد الواو، وشبابة لقب، واسمه مروان، وقد تقدم بيان ذلك كله في "شرح المقدّمة" برقم 6/ 40.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، فما أخرج لهما ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من عاصم.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، عن جدّه.
5 -
(ومنها): أن فيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، والمشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ) تقدّم شرح هذه الجملة في الحديث الماضي (وَهُوَ) أي: الإسلام، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي بعد هذا: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة
…
" (يَارِزُ) بياء مثناة من تحتُ، بعدها همزة، ثم راء مكسورة، ثم زاي معجمة، هذا هو المشهور، وحكاه صاحب "المطالع" "مطالع الأنوار" عن أكثر الرُّواة، قال: وقال أبو الحسين بن سراج: لَيْأرُز بضم الراء، وحَكَى القابسيّ فتحَ الراء، ومعناه: يَنضمّ ويجتمع، هذا هو المشهور عند أهل اللغة والغريب، وقيل في معناه غير هذا مما لا يظهر، قاله النوويّ
(1)
.
وقال أبو عبيد: معنى قوله: "ليأرز"؛ أي: ينضمّ، ويجتمع بعضه إلى بعض، كما تنضمّ الحيّة إلى جحرها
(2)
، وقال ابن دُريد: أَرَزَ الشيءُ يَأْرِزُ: إذا ثبت في الأرض، وشجرة آرزٌ، وأَرِزَةٌ
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يقتضيه صنيع الجوهريّ في "الصحاح"، وابن منظور في "لسان العرب" أن "يَأْرِزُ" من باب ضرب، ولكن المجد في "القاموس" ذكر التثليث، حيث قال: أَرَزَ يَأْرِزُ، مثلّثة الراء أُرُوزًا: انقبض، وتجمّع، وثَبَت، فهو آرِزٌ، وأَرُوزٌ. انتهى.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 177.
(2)
انظر: "المعلم" 1/ 321.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 581 - 582.
لكن تعقّبه المحشّي، فقال: قوله مثلّثة الراء، الصواب إسقاطه، والاقتصار على ذكر المضارع المفيد كسر الراء، كما في حديث:"إن الإيمان ليأرِزُ إلى المدينة"، ضبطه الرواةُ قاطبةً بكسر الراء، وكذلك ضبطه أهل الغريب. اهـ.
لكن أجاب الشارح عنه بأنه إذا كان المراد بالتثليث كونه من حدّ ضَرَبَ، وعَلِمَ، ونَصَرَ، فلا مانع، ولا يَرِدُ عليه أنه ليس في عينه، أو لامه حرف حلقيّ؛ لأن هذا إنما يُشتَرط فيما يكون من باب مَنَعَ، كما هو ظاهرٌ. انتهى
(1)
.
قال الجامع: الذي يظهر لي أن ردّ المحشّي ضبط التثليث وجيهٌ؛ لأن المجد لم يعزُ التثليث إلى أحد من أهل اللغة، ولم يتعرّض أصحاب المعاجم، والغريب لذكره، ولم يأتِ الشارح في جوابه بما يُثبت نقله عن أهل اللغة، فكونه من باب ضرب هو الظاهر، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
وذكر في "اللسان" أن الأَرْزَ أن تَدخُل الحيّة جُحْرها على ذنبها، فآخرُ ما يَبْقَى منها رأسُها، فيدخُلُ بعدُ، قال: وكذلك الإسلامُ خرج من المدينة، فهو يَنْكُصُ إليها حتى يكون آخره نُكُوصًا كما كان أوّله خروجًا، وإنما تَأْرِزُ الحيّةُ على هذه الصفة إذا كانت خائفة، وإذا كانت آمنة، فهي تبدأ برأسها، فتُدخله، وهذا هو الانحجار. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله عند قوله: "ليأرِزُ إلى المدينة": أي: ينضمُّ، وينقبض، يقال: أَرَزَ يَأْرِزُ أَرْزًا، وأُرُوزًا، ومنه الأَرُوزُ للبخيل، سُمّي به؛ لأنه ينقبض إذا سُئل، والمَرْزَأُ: المَلْجَأُ أيضًا.
قيل: يحتمل أن يكون هذا إخبارًا منه صلى الله عليه وسلم عما كان في ابتداء الهجرة، ويحتمل أنه أخبر عن آخر الزمان حين يقلّ الإسلام، فينضمّ إلى المدينة، فيبقى فيها، شَبَّهَ الإيمانَ، وفرارَ الناس من آفات المخالفين، والتجائهم إلى المدينة،
(1)
راجع: "القاموس المحيط"، وما كُتِب في هامشه ص 452.
(2)
"لسان العرب" 5/ 305 - 306.
بانضمام الحيّة في جحرها، ولعلّ هذه الدابّة أشدّ فرارًا، وانضمامًا من غيرها، فشَبَّهَ بها بمجرّد هذا المعنى، فإن المماثلة يكفي في اعتبارها بعض الأوصاف. انتهى
(1)
.
(بَيْنَ الْمَسْجدَيْنِ) أي: مسجدي مكة والمدينة، قال القرطبيّ رحمه الله: وهو إشارة إلى أن مبدأ الإيمان كان بمكة، وظهوره بالمدينة. انتهى
(2)
. (كمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَما") بضمّ الجيم، وسكون الحاء المهملة، جمع جِحَرَةٌ، بكسر، ففتح، مثلُ عِنَبَة وعِنَب، وهو للحيّة، والضبّ، واليَربوع، يقال: انجحر الضبّ على انفعل: أوى إلى جُحْرِه، أفاده في "المصباح"
(3)
.
وقال المجد: الجُحْرُ بالضمّ: كلُّ شيء تَحتفره الهوامّ والسباع لأنفسها؛ كالجُحْران، جمعه جِحَرَةٌ، وأَجْحَارٌ. انتهى
(4)
.
والمعنى أنه كما تنتشر الحيّة من جُحرها في طلب ما تعيش به، فإذا راعها شيءٌ، رجعت إلى جحرها كذلك الإيمان انتشر من المدينة حتى وصل إلى جميع أقطار الأرض، ثم في آخر الزمان يرجع إليها، وتكون معقله، كما كان في الأول، ويفرّ إليها كلّ مؤمن فرارًا من آفات المخالفين.
وقال في "الفتح": وكلّ مؤمن له من نفسه سائق إلى المدينة؛ لمحبّته في النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيشمل ذلك جميع الأزمنة؛ لأنه في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم للتعلّم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين، وتابعيهم للاقتداء بهديهم، ومن بعد ذلك للصلاة في مسجده، وزيارة قبره صلى الله عليه وسلم
(5)
، والتبرّك بمشاهدة آثاره، وآثار أصحابه.
وقال الداوديّ: كان هذا في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، والقرن الذي كان منهم، والذين يلونهم، والذين يلونهم خاصّةً. انتهى
(6)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 627.
(2)
"المفهم" 1/ 364.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 91.
(4)
"القاموس المحيط" ص 326.
(5)
كان في "الفتح": "ومن بعد ذلك لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، والصلاة في مسجده
…
" إلخ، وما هنا هو الموافق لحديث: "لا تُشدّ الرحال
…
" إلخ كما سبق بيانه، فتنبّه.
(6)
راجع: "الفتح" 3/ 112 "كتاب فضائل المدينة" رقم (1876).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[69/ 380](146)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(296 و 297)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(372)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3727)، و (البزّار) في "مسنده"(1182)، و (القُضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1054).
[تنبيه]: في الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما سيأتي بعد هذا، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه عند أحمد في "مسنده"(1/ 184)، وعبد الرحمن بن سنّة عنده أيضًا (4/ 73 - 74) بمثل حديث ابن عمر الآتي للمصنّف، وعن عمرو بن عوف بن زيد بن مِلْحَة عن الترمذيّ (2630) بلفظ:"إن الدين ليأرِزُ إلى الحجاز، كما تأرز الحيّة إلى جُحْرها"، وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ صحيح.
قال الجامع عفا الله عنه: تصحيح الترمذيّ رحمه الله لهذا الحديث فيه نظر لا يخفى؛ لأن سنده ضعيف جدًّا؛ لأن فيه كثير بن عبد الله بن عوف ضعيفٌ جدًّا، بل كذّبه الشافعيّ، وأبو داود، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان غربة الإسلام، وقلّة العاملين به، والناصرين له.
2 -
(ومنها): بيان خلوّ الأرض منه إلا بين المسجدين الشريفين.
3 -
(ومنها): بيان فضل الحرمين الشريفين، حيث يبقيان معقلًا للإسلام، وحصنًا حصينًا له، ولأهله في آخر الزمان، كما كانا كذلك في أوله، وإلى هذا يشير إخبارُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أَنّ رُعْب الدجّال لا يدخلهما.
فقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ رضي الله عنه قال:"ليس من بَلَدٍ إلا سيطؤه الدجال، إلا مكة والمدينة، ليس له من نِقَابها نقب إلا عليه الملائكة، صافِّين يَحْرُسونها، ثم تَرْجُف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات، فَيُخْرِجُ الله كلَّ كافر ومنافق".
4 -
(ومنها): أن في الحديث الثاني مدح المدينة النبويّة، أن الإيمان سيأرِز إليها آخرًا كما كانت موئلًا له أولًا؛ إذ كان في أوّل الإسلام كلّ من خَلُص إيمانه، وصحّ إسلامه أتى إليها إما مُهاجِرًا مستوطنًا لها، وإما متشوِّقًا لرؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومتعلّمًا منه، ومتقرّبًا إلى الله تعالى بلقياه، ثم بعده هكذا في زمان الخلفاء، وأخذ سيرة العدل منهم، والاقتداء بجمهور الصحابة فيها، ثم بمن بعدهم من علمائها الذين كانوا سُرُج الوقت، وأئمة الهدى، وأخذ السنن المنتشرة بها عنهم، فكان كلّ ثابت الإيمان، ومنشرح الصدر به يرحل إليها، ويَفِدُ عليها، ثم بعدُ في كلّ وقت، وإلى زماننا هذا؛ للصلاة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث رغّب النبيّ صلى الله عليه وسلم في شدّ الرحال إليها، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدريّ صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".
ثم لزيارة قبره الشريف
(1)
، زيارةً شرعيّة، لا بدعيّة.
ولرجاء الموت فيها، لعلّ الله تعالى يوفّقه لذلك؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رغّب في ذلك، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع أن يموت بالمدينة، فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها"، وفي لفظ لأحمد:"من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل، فإني أشفع لمن مات بها".
وبالجملة فقصدها على هذه النيّة الحسنة، والشوق الصادق، يدلّ على صدق إيمانه، وصحّة يقينه، والله تعالى أعلم بالصواب.
5 -
(ومنها): مدح الغرباء الذين يغتربون عن أوطانهم، وعشائرهم طلبًا
(1)
أما السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم فقد وقع فيه خلاف، فالأولى أن لا يسافر إلا بقصد الصلاة في مسجده، ثم يتوجّه لزيارة قبره بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، ولا يسافر بقصد الزيارة فقط، كما يفعله كثير من الناس؛ لأنه خلاف الحديث المذكور، فتنبّه لذلك، ولا تكن أسير التقليد، وسنعود إليه في موضعه - إن شاء الله تعالى -.
للإسلام، وأهله، فيجتمعون في مكان يمكنهم إظهار شعائر الإسلام فيه، ولا يُبالون بما أقبل من الدنيا، وما أدبر منها، وإنما همّهم إظهار الإسلام، والدعوة إليه، والذبّ عنه، ومقاطعة أهل البدع والخرافات، طوبى لهم، ثم طوبى لهم، ثم طوبى لهم.
6 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه حجةٌ على صحّة مذهب مالك في تمسّكه بعمل أهل المدينة، وكونه حجة شرعيّة، وقال أبو مصعب الزُّبيريّ في معنى الحديث: إنما المراد بالمدينة أهل المدينة، وأنه تنبيه على صحّة مذهبهم، وسلامتهم من البِدَعِ المحدثات، واقتدائهم بالسنن، والإيمان مجتمع عندهم، وعند من سلك سبيلهم. انتهى
(1)
.
وتعقّب ذلك الحافظ بأن هذا إن سُلّم اختَصّ بعصر النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وأما بعد ظهور الفِتن، وانتشار الصحابة في البلدان، ولا سيّما في أواخر المائة الثانية، وهَلُمّ جرًّا فهو بالمشاهدة بخلاف ذلك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بحجيّة عمل أهل المدينة يحتاج إلى تفصيل، وقد حقّقه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تحقيقًا لا تجده عند غيره من المحقّقين، فقال ما ملخّصه:
التحقيق في مسألة إجماع أهل المدينة أن منه ما هو متّفق عليه بين المسلمين، ومنه ما هو قول جمهور أئمة المسلمين، ومنه ما لا يقول به إلا بعضهم، وذلك أن إجماعهم على أربع مراتب:
[الأولى]: ما يجري مَجرى النقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، مثلُ نقلهم لمقدار الصاع والمدّ، وكترك صدقة الخضروات والأحباس، فهذا مما هو حجة باتّفاق العلماء، أما الشافعيّ وأحمد، وأصحابهما فهذا حجة عندهم بلا نزاع، كما هو عند مالك، وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. قال أبو يوسف، وهو أجلّ
(1)
"المفهم" 1/ 364.
(2)
"الفتح" 3/ 112 "كتاب فضائل المدينة" حديث (1876).
أصحاب أبي حنيفة رحمهما الله لَمّا اجتمع بمالك، وسأله عن الصاع والمدّ، فأمر مالك أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له إسنادها عن أسلافهم، فقال: أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: لا، قال: فأنا حررت هذه الصيعان، فوجدتها خمسة أرطال وثلث بأرطالكم يا أهل العراق، وسأله عن صدقة الخضروات، فقال: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، وسأله عن الأحباس، فقال: هذا حبس فلان، وهذا حبس فلان، يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف في كل منها: قد رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجت. فقد نقل أبو يوسف أن مثل هذا النقل حجة عند صاحبه أبي حنيفة كما هو حجة عند غيره، لكن أبو حنيفة لم يبلغه هذا النقل كما لم يبلغ غيره من الأئمة كثير من الأحاديث.
[المرتبة الثانية]: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فهذا حجة في مذهب مالك، وهو المنصوص عليه عن الشافعيّ، قال في رواية يونس بن عبد الأعلى: إذا رأيت قدماء أهل المدينة على شيء فلا تتوقّف في قلبك ريبًا إنه الحقّ، وكذا ظاهر مذهب أحمد أن ما سنَّه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتّباعها، وقال أحمد: كلُّ بيعة كانت في المدينة فهي خلافة نبوّة، ومعلوم أن بيعة أبي بكر وعمر وعثمان كانت بالمدينة، وكذلك بيعة عليّ كانت بالمدينة، ثم خرج منها، وبعد ذلك لم يُعقد بالمدينة بيعة، وقد ثبت في الحديث الصحيح حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة". وفي "السنن" من حديث سفينة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلافة النبوّة ثلاثون سنة، ثم تصير مُلْكًا عَضُوضًا". والمحكيّ عن أبي حنيفة يقتضي أن قول الخلفاء الراشدين حجة، وما يُعلم لأهل المدينة عملٌ قديم على عهد الخلفاء الراشدين مخالف لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
[المرتبة الثالثة]: إذا تعارض في المسألة دليلان، كحديثين، وقياسين
جُهِل أيّهما أرجح، وأحدهما يَعْمَلُ به أهل المدينة، ففيه نزاع، فمذهب مالك والشافعيّ أنه يُرجّح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يُرجّح به، ولأصحاب أحمد وجهان: أحدهما - وهو قول القاضي أبي يعلى وابن عَقيل -: أنه لا يرجَّحُ به، والثاني - وهو قول أبي الخطاب وغيره -: أنه يُرَجَّحُ به، قيل: هذا هو المنصوص عن أحمد، ومن كلامه قال: إذا رأى
(1)
أهل المدينة حديثًا، وعمِلوا به فهو الغاية، وكان يفتي على مذهب أهل المدينة، ويُقدّمه على مذهب أهل العراق تقريرًا كثيرًا، وكان يدلّ المستفتي على مذهب أهل الحديث، أهل المدينة، وكان أحمد يَكره أن يردّ على أهل المدينة كما يرُدّ على أهل الرأي، ويقول: إنهم اتبعوا الآثار. فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح بأقوال أهل المدينة.
[المرتبة الرابعة]: هي العمل المتأخّر بالمدينة، فهذا هل هو حجة شرعيّة يجب اتباعه أم لا؟ فالذي عليه أئمة الناس أنه ليس بحجة شرعيّة، هذا مذهب الشافعيّ، وأحمد، وأبي حنيفة، وغيرهم، وهو قول المحققين من أصحاب مالك، كما ذكر ذلك الفاضل عبد الوهّاب في كتابه "أصول الفقه" وغيره، ذكر أن هذا ليس إجماعًا، ولا حجةً عند المحقّقين من أصحاب مالك، وربما جعله حجة بعض أهل المغرب من أصحابه، وليس معه للأئمة نصّ، ولا دليلٌ، بل هم أهل التقليد. قال: ولم أرَ في كلام مالك ما يوجب جعلَ هذا حجةً، وهو في "الموطأ" إنما يذكر الأصل المجمع عليه عندهم، فهو يحكي مذهبهم، وتارة يقول: الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا
…
وإذا تبيّن أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور الأئمة عُلم بذلك أن قولهم أصحّ أقوال أهل الأمصار روايةً ورأيًا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة، وتارة حجة قويّة، وتارةً مرجّحًا للدليل، إذ ليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين. انتهى ملخّص كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(2)
، وهو تفصيل نفيس، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا النسخة، والظاهر أن الصواب "روى"، فليُحرّر.
(2)
"مجموع الفتاوى" 20/ 303 - 310.
وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطيّ رحمه الله ما معناه: أن الصحيح عن مالك أن إجماع أهل المدينة المعتبر له شرطان:
[أحدهما]: أن يكون فيما لا مجال للرأي فيه.
[الثاني]: أن يكون من الصحابة أو التابعين لا غير ذلك؛ لأن قول الصحابيّ فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع، فأَلْحَقَ مالك التابعين من أهل المدينة فيما لا اجتهاد فيه؛ لتعلّمهم ذلك عن الصحابة.
أما في المسائل الاجتهاديّة، فأهل المدينة؛ فالصحيح عن مالك أنهم كغيرهم من الأمة، وحُكي عنه الإطلاق، وعلى القول بالإطلاق يتوجّه عليه اعتراض المؤلف - يعني: ابن قُدامة في روضة الناظر - بأنهم بعض من الأمة كغيرهم. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب.
وقد نظمت التفصيل المذكور في "التحفة المرضيّة" في الأصول بقولي:
وَاشْتَرَطُوا كَوْنَهُ قَولَ الكُلِّ
…
فَلَيْسَ إِجْمَاعٌ بقَولِ الجُلِّ
فَمِنْ هُنَا إِجْمَاعُ أَهْلِ طَيْبَةِ
…
يَحْتَاجُ تَفْصِيلًا بِدُونِ مِرْيَةِ
كَمَا ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدْ قَسَّمَهُ
…
أَرْبَعَةً فَهَاكَ مَا رَسَّمَهُ
أَوَّلُهَا مَا صَارَ مِثْلَ النَّقْلِ عَنْ
…
نَبِيِّنَا كَالصَّاعِ حُجَّةً قَمَنْ
وَثَانِهَا عَمَلُهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
…
يُقْتَلَ عُثْمَانُ فَحُجَّةٌ تُسَنْ
أَعْنِي لَدَى الجُمْهُورِ إِذْ ذَا سُنَّةُ
…
الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ حُجَّةُ
وَلَيْسَ يُعْلَمُ لَهُمْ مُخَالَفَهْ
…
لِسُنَّةِ الرَّسُولِ يَا ذَا المَعْرِفَهْ
ثَالِثُهَا إِنْ حُجَجٌ تَعَارَضَتْ
…
عَمَلُهُمْ لِبَعْضِهَا هَلْ رَجَّحَتْ؟
فَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَجَّحَا
…
بِهِ وَنُعْمَانٌ إِبَاءً أَوْضَحَا
أَصْحَابُ أَحْمَدَ لَهُمْ وَجْهَانِ
…
كَلَامُهُ يَمِيلُ لِلرُّجْحَانِ
رَابِعُهَا عَمَلُهُمْ مُؤَخَّرَا
…
فَفِي احْتِجَاجِنَا بِهِ خُلْفٌ جَرَى
فَأَحْمَدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو
…
حَنِيفَةٍ وَغَيْرُهُمْ قَدْ رَغِبُوا
(1)
"مذكّرة الشيخ الشنقيطيّ" رحمه الله ص 154.
عَنْهُ كَذَا لَدَى المُحَقِّقِينَ مِنْ
…
أَصْحَابِ مَالِكٍ هَوَ الرَّأْيُ القَمِنْ
وَبَعْضُ أَهْلِ الغَرْبِ مِنْ أَصْحَابِهِ
…
جَعَلَهُ الحُجَّةَ لَا تَعْبَأْ بِهِ
إِذْ لَيْسَ نَصُّ مَالِكٍ وَلَا دَلِيلْ
…
أَيَّدَهُ بَلْ مَحْضُ تَقْلِيدِ ذَلِيلْ
فَقَوْلُ أَهْلِ طَيْبَةٍ لِذَا يُرَى
…
أَصَحَّ أَقَوَالٍ لَدَى القَوْمِ جَرَى
فَتَارَةً بِالْقَطْع حُجَّةً أَتَى
…
وَتَارَةً ذَا قُوَّةٍ قَدْ ثَبَتَا
وَتَارَةً مُرَجِّحًا لِمَا يَدُلْ
…
مُلَخَّصُ التَّفْصِيلِ هَذَا قَدْ كَمُلْ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[381]
(147) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بِنِ عُمَرَ، (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنا أَبِي، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَة، كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة المذكور قبل باب.
2 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفيّ المذكور في الباب الماضي.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الهمدانيّ الكوفيّ المذكور قبل باب.
4 -
(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
5 -
(عُبَيْدِ اللهِ بِنِ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطّاب العُمريّ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت سنة بضع 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
6 -
(خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن خُبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقة [4](132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(حَفْصُ بْنُ عَاصِمٍ) بن عمر بن الخطّاب العُمريّ المدنيّ، ثقة [3]، (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
8 -
(أبو هريرة) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
وقوله: (عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) قال في "الفتح": هو بالخاء المعجمة، مصغّرًا، وكذا رواه أكثر أصحاب عبيد الله، وخُبيب هو خال عُبيد الله المذكور، وقد رَوَى عنه بهذا الإسناد عدّة أحاديث.
قال الجامع: قد تقدّم في المقدّمة الحديث الثامن بهذا الإسناد
(1)
.
قال: وفي رواية يحيى بن سُليم، عن عُبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أخرجه ابن حبّان، والبزّار، وقال البزّار: إن يحيى بن سُليم أخطأ فيه، قال الحافظ: وهو كما قال، وهو ضعيفٌ في عُبيد الله بن عمر. انتهى.
[تنبيه آخر]: قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث ما نصّه: قال أبو حاتم: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان لَيأرِزُ إلى المدينة"، يريد به أهل الإيمان، وذلك أن المدينة خَشِنَةٌ قفرىٌ، ذات بسابس، ودكادك، منع الله جلّ وعلا عنها طلب اللذّات في الأعين والأنفس، وقدّر فيها أقواتها لمن طلب اللهَ والدارَ الآخرةَ، فلا يَرْكن إليها إلا كلُّ مشمِّرٍ عن هذه الفانية الزائلة، ولا قَطَنها إلا كلُّ مُنقلع بكليّته إلى الآخرة الدائمة. انتهى كلامه رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن حبّان رحمه الله بحسب ما شاهده في عصره، أما في الوقت الذي نحن فيه، فالأمر بالعكس، فقد فتح الله
(1)
قال الإمام مسلم رحمه الله: وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبريّ، حدثنا أبي، (ح) وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ، قالا: حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بالمرء كذبًا أن يُحَدِّث بكل ما سمع".
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عليّ بن حفص، حدثنا شعبة، عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك.
على أهل مكة والمدينة، بل وعلى عموم أهل الحجاز، حيث أقام هذه الدولة السعيدة، الدولة السعوديّة المباركة، وفتح عليهم بركات الأرض، فقاموا بخدمة الحرمين الشريفين خدمة لا مثيل لها، وبذلوا كلّ الجهود في جلب الخيرات، وكلّ المستلذّات إليهما، ومهّدوا سبيل الأمن والراحة لأهلهما، فالناس الآن يتنافسون في زيارة الحرمين الشريفين بكلّ سرور، وبكلّ حبور؛ لِمَا ينالونه من صنوف الخيرات، وأنواع البركات، فأهل الإيمان ينالون من أنواع العلوم والعبادات ما تقرّ به أعينهم، وأهل الدنيا ينالون من الرفاهية، وتنزيه النفس والبدن بأصناف ما يناسب أهواءهم، فسبحان من قلّب الأمور، وصنّف الدهور، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[69/ 381](147)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1876)، و (ابن ماجه) في "الحجّ"(3111)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 181)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 286 - 422 - و 496)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3728)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(295)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(371)، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(70) - (بَابُ ذَهَابِ الإِيمَانِ آخِرَ الزَّمَانِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[382]
(148) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م دس ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصّفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [10](ت 219)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
3 -
(حَمَّادٌ) بن سلمة بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(ثَابِثٌ) بن أسلم البنانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع وعشرين ومائة)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
5 -
(أنس) بن مالك بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ الخادم الصحابيّ الشهير رضي الله عنه (ت 2 أو 93) وقد جاوز مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وحماد بن سلمة، وإن كُتِب له في "التهذيب"، والتقريب" علامة التعليق للبخاريّ، إلا أن الأصحّ أنه روى له أيضًا حديثًا واحدًا في "كتاب الرقاق".
3 -
(ومنها): أنه وإن اشتبه حماد بن سلمة بحمّاد بن زيد؛ لاشتراكهما في الطبقة، والشيوخ، والرواة، إلا أنه هنا هو ابن سلمة بدليل أن الراوي عنه عفّان؛ لأنه يُميَّز بينهما بالرواة، كما أشار إلى ذلك السيوطيّ في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَتَارَةً فِي اسْمٍ فَقَطْ ثُمَّ السِّمَهْ
…
حَمَّادُ لابْنِ زَيْدِ وَابْنِ سَلَمَهْ
فَإِنْ أَتَى عَنِ ابْنِ حَرْبٍ مُهْمَلَا
…
أَوْ عَارِمٍ فَهْوَ ابْنُ زَيْدٍ جُعِلَا
أَوْ هُدْبَةٍ أَوِ التَّبُوذَكِيِّ أَوْ
…
حَجَّاجٍ أَوْ عَفَّانَ فَالثَّانِ رَأَوْا
فـ "ابنُ حرب": هو سليمان، و"عارمٌ": هو محمد بن الفضل السدوسيّ،
و"هدبة" هو ابن خالد، و"التبوذكيّ": هو موسى بن إسماعيل، و"حجّاج": هو منهال، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
5 -
(ومنها): أن حماد بن سلمة من أثبت الناس في ثابت، وثابتٌ من ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، يقال: إنه لزمه أربعين سنة.
6 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه ذو مناقبَ جمّة، أشهرها أنه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ودعا له بالبركة في المال والأهل.
فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، فأتته بتمر وسمن، قال:"أعيدوا سمنكم في سقائه، وتمركم في وعائه، فإني صائم"، ثم قام إلى ناحية من البيت، فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سليم وأهل بيتها، فقالت أم سليم: يا رسول الله، إن لي خُوَيِّصةً، قال:"ما هي؟ "، قالت: خادمك أنس، فما ترك خير آخرة ولا دنيا، إلا دعا لي به، قال:"اللهم ارزقه مالًا وولدًا، وبارك له فيه"، فإني لمن أكثر الأنصار مالًا، وحدثتني ابنتي أُمَينة أنه دُفِن لصلبي مَقْدَم حجَّاج البصرةَ بضع وعشرون ومائة.
وأخرج مسلم، عن أنس رضي الله عنه أن أمه قالت: يا رسول الله، خادمك أنس، ادعُ الله له، فقال:"اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته"، وفي رواية: فقال: "اللهم أكثر ماله وولده"، قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي، لَيَتَعَادون على نحو المائة اليوم.
وأخرج عنه أيضًا قال: مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت أمي أم سليم صوته، فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله، أنيسٌ، فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة.
وهو من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعمّرين، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ" بالرفع مكرّرًا، وهو مبتدأ خبره محذوفٌ؛ أي: الله ربيّ،
وفي الرواية التالية: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله"، قال النوويّ رحمه الله: هو برفع اسم الله تعالى، وقد يَغْلَطُ فيه بعض الناس، فلا يرفعه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا غلّط النوويّ من لم يرفع لفظ "الله الله"، وقد عارضه القرطبيّ، حيث صوّب النصب، واستبعد الرفع، ودونك نصّه، قال:"اللهَ اللهَ" كذا صوابه بالنصب، وكذلك قيّدناه عن محقّقي من لقيناه، ووجهه أن هذا مثلُ قول العرب:"الأسدَ الأسدَ"، و"الجدارَ الجدارَ"، إذا حذّروا من الأسد المفترس، والجدار المائل، فهو منصوب بفعل مُضمر، كأنهم قالوا: احذر الأسد المفترس، لكنّهم التزموا إضماره هنا لتكرار الاسم، ونصبه، كما قال الشاعر [من الطويل]:
أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ
…
كَسَاعٍ إِلَى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ
فإن أفردوا ذَكَرُوا الفعل، فقالوا: اتّق الأسدَ، واحذر الجدارَ، واحفظ أخاك.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى ما ذُكر، وغيره من أحكام التحذير والإغراء أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، فقال:
"إِيَّاكَ وَالشَّرَّ" وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
وَدُونَ عَطْفٍ ذَا لِـ"إِيَّا" انْسُبْ وَمَا
…
سِوَاهُ سَتْرُ فِعْلِهِ لَنْ يَلْزَمَا
إِلَّا مَعَ العَطْفِ أَوِ التَّكْرَارِ
…
كَـ"الضَّيْغَمَ الضَّيْغَمَ يَا ذَا السَّارِي"
وَشَذَّ "إِيَّايَ" وَ"إِيَّاهُ" أَشَذْ
…
وَعَنْ سَبِيلِ القَصْدِ مَنْ قَاسَ انْتَبَذْ
وَكَمُحَذَّرٍ بِلَا "إِيَّا" اجْعَلَا
…
مُغْرًى بِهِ فِي كُلِّ مَا قَدْ فُصَّلَا
قال القرطبيّ: وقيّده بعضهم: "اللهُ اللهُ" بالرفع على الابتداء، وحذف الخبر، وفيه بُعْدٌ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن العمدة في ذلك صحة الرواية، وظاهر كلام القرطبيّ ثبوت النصب رواية، وكلام النوويّ يفيد ثبوت الرفع كذلك، فإذا ثبتت الرواية بهما، فالوجهان صحيحان دون أيّ استبعاد لهما، فأما النصب فعلى الوجه الذي ذكره القرطبيّ، وهو النصب على التحذير؛ أي:
(1)
"المفهم" 1/ 364 - 365.
اتّقوا اللهَ، وأما الرفع فعلى أنه خبر لمحذوف، أي: اللهُ ربّي، أو نحو ذلك، والتكرار للتأكيد.
وأما ما ذكره بعض الشارحين من أن لفظ الجلالة الأولُ مبتدأ، والثاني خبره، فبُعده مما لا يخفى على بصير.
ومعنى الحديث: أن القيامة لا تقوم على من يقول: "الله الله"، والمراد به: لا إله إلا الله، كما جاء مفسّرًا في الرواية الأخرى، وأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، وقد تقدّم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث ريحًا من اليمن، ألين من الحرير، فلا تَدَعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبة"، وفي رواية:"مثقال ذَرّة من إيمان إلا قبضته"، وتقدّم الجمع بينه وبين حديث:"لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، وفي رواية:"حتى تقوم الساعة" بأن المراد بإتيان الساعة إتيان علاماتها، ومقدّماتها.
والحاصل أن هذه الطائفة هي التي تقاتل الدجّال، وتجتمع بعيسى عليه السلام، ثم لا تزال على هذه الصفة التي وصفها به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يَبعث الله تعالى تلك الريح، فيقبضهم، وذلك عند قُربِ الساعة بعد أن ظهرت أشراطها، ووقعت علاماتها.
[تنبيه]: (اعلم): أن الروايات كلَّها متّفقةٌ على أن الحديث بلفظ: "الله الله"، مكرّرًا في الروايتين، قال النوويّ رحمه الله: وهكذا هو في جميع الأصول، وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: وفي رواية ابن أبي جعفر
(1)
يقول: "لا إله إلا الله". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا اللفظ الذي عزاه القاضي عياض إلى ابن أبي جعفر في رواية مسلم وقع في رواية أحمد في "مسنده"(13421) قال رحمه الله: حدثنا عَفّان، حدثنا حماد، أخبرنا ثابتٌ، عن أنس، قال: قال
(1)
هو: عبد الله بن أبي جعفر الخُشَنيّ، شيخ القاضي عياض، وقد قرأ عليه "صحيح مسلم".
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 178.
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: لا إله إلا الله".
ووقع أيضًا عند ابن حبّان في "صحيحه"(6848) من طريق معمر، عن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: لا إله إلا الله"، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: جرت مناظرة بين عبد الله بن عمرو، وبين عقبة بن عامر في حديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق"، أخرجها المصنّف في "كتاب الإمارة"، من طريق عبد الرحمن بن شِماسة المَهْريّ، قال: كنت عند مَسْلَمة بن مُخَلَّد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال عبد الله:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر من أهل الجاهلية، لا يَدْعُون الله بشيء إلا رَدَّه عليهم"، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأَمّا أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوّهم، لا يضرُّهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"
(1)
.
فقال عبد الله: أَجَلْ، ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مَسُّها مَسُّ الحرير، فلا تترك نفسًا في قلبه مثقالُ حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث أخرجه الحاكم في "مستدركه"(4/ 456)، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهذا من غفلته رحمه الله، فقد، أخرجه المصنّف سندًا ومتنًا، ومن الغريب أن الذهبيّ سكت عليه، بل قال بعدما ساقه موافقًا ما نصّه: صحيح؛ فتنبّه.
ومن الغريب أيضًا أن الحافظ عزا هذا الحديث في "الفتح"
(2)
إلى "المستدرك" مع أن المصنّف أخرجه، فكان الأولى أن يعزوَه إليه؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
سيأتي للمصنّف رحمه الله في "كتاب الإمارة" برقم (1924).
(2)
راجع: "الفتح" 14/ 583 - 585 "كتاب الفتن".
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[70/ 382 و 383](148)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2207)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20847)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 107 - 162 - 268)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3526)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6848 و 6849)، و (الحاكم) في "مستدركه"(4/ 494 - 495)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(293 و 294)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(373 و 374)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4284)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(3/ 82)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ذهاب الإيمان عن أهل الأرض آخر الزمان، وذلك بعد وقوع طلوع الشمس من مغربها، حين لا ينفع نفسًا إيمانُها، لم تكن آمنت من قبلُ، كما بيّنه الله عز وجل في قوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
2 -
(ومنها): بيان فضل المؤمنين، حيث إن الله سبحانه وتعالى أكرمهم، ولم يُهنهم بإقامة الساعة عليهم، وهم أحياء، بل أكرمهم ببعث ريح ليّنة تقبض أرواحهم، فتريحهم من تعب الدنيا، وشدائدها، وأهوال القيامة، وفزعها، فأبعدهم عن ما يحزنهم، أو يُهمهم، كما وعدهم بذلك حيث قال:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)} [الأنبياء: 103].
3 -
(ومنها): بيان فضل ذكر الله تعالى، حيث لا تقوم الساعة وفي الأرض من يذكر الله تعالى.
4 -
(ومنها): أنه وردت أحاديث كثيرة بمعنى هذا الحديث في "الصحيحين" وفي غيرهما.
(فمنها): الحديث الماضي في مناظرة عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر رضي الله عنهما عند المصنّف رحمه الله.
(ومنها): ما أخرجه المصنّف أيضًا في "كتاب الفتن" من حديث النّوّاس بن سِمْعان رضي الله عنه الطويل، وفيه:"إذ بَعَثَ الله ريحًا طيبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتَقْبِض رُوح كل مؤمن، وكل مسلم، ويبقى شرار الناس، يتهارجون فيها تَهارُج الحُمُر، فعليهم تقوم الساعة"
(1)
.
و (منها): ما أخرجه البخاريّ من طريق الزبير بن عَدِيّ، قال: أتينا أنس بن مالك، فشكونا إليه ما نَلْقَى من الحجَّاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرّ منه، حتى تَلْقَوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم
(2)
.
(ومنها): ما أخرجه أيضًا من حديث مِرْدَاس الأسلميّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصالحون، الأولَ فالأولَ، ويبقى حُفَالة كحَفَالة الشعير - أو التمر
(3)
- لا يباليهم الله بَالَةً".
(ومنها): ما أخرجه أيضًا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "مِن شِرَار الناس مَن تُدْركهم الساعة، وهم أحياء"
(4)
.
(المسألة الرابعة): أنه مما ينبغي له التنبّه ما استنبطه بعض جَهَلَة الصوفيّة من هذا الحديث، وهو مشروعيّة الذكر بلفظ "الله" مفردًا، بل جعله أفضل من الذكر بـ "لا إله إلا الله"، بل أغرب من هذا أن بعضهم يرى الذكر بلفظ "هو" مفردًا أيضًا، وكلّ هذا خلاف ما شرعه الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، فيكون من البدع المنكرة، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّ "لا إله إلا الله أفضل الذكر"، فقد أخرج الترمذيّ، وابن ماجه، عن جابر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله"، وهو حديث حسن
(5)
، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضًا غير هذا من أنواع الذكر، فينبغي التقيّد بما ثبت
(1)
سيأتي للمصنّف - إن شاء الله تعالى - في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" برقم (2937).
(2)
أخرجه البخاريّ في "كتاب الفتن" برقم (7068).
(3)
الحُفَالة: هو ما يتساقط من قشور الشعير، أو التمر.
(4)
أخرجه البخاريّ في "الفتن"(7067).
(5)
حديث حسن، أخرجه الترمذيّ برقم (3305)، وابن ماجه برقم (3790).
عنه صلى الله عليه وسلم؛ إذ من المعلوم أن العبادة توقيفيّة، فما لم يَرِد الشرع به، فهو بدعة وضلالة، والذكر بلفظ "الله" مفردًا، أو بـ "هو" كذلك مما لم يُشْرَع في الكتاب، ولا في السنّة، ولا هو مأثورٌ عن السلف، وأيضًا إن الذكر ثناء، وهو لا يكون إلا بجملة تامّة يحسُن السكوت عليها، مثل:"لا إله إلا الله"، و"الله أكبر"، و"سبحان الله"، و"الحمد لله"، و"لا حول ولا قوّة إلا بالله"، وأما الاسم المفرد، فلا يحسن السكوت عليه؛ إذ ليس جملة تامّة، ولا كلامًا مفيدًا، كما هو معلوم عن أهل العلم بالعربيّة.
وبالجملة إن مثل هذا الذكر من محدثات الأمور التي حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم منها أمته، فقد أخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه بسند صحيح من حديث الِعرْباض بن سارية رضي الله عنه الطويل، وفيه:"فإنه مَن يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
وفي رواية عند النسائيّ بسند صحيح زيادة: "وكلّ ضلالة في النار".
والحاصل أن من قال بمشروعيّة الذكر بالاسم المفرد، أو بـ "هو"، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى، وضلّ، وأضلّ، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللهم جنّبنا البدَع، وارزقنا التمسّك بالسنّة، أحينا عليها، وأمتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها أحياءً وأمواتًا، آمين آمين آمين، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أولَ الكتاب قال:
[383]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ، يَقُولُ: اللهُ اللهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسِّيّ، أبو محمد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ، عمي في آخره، فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18. وشرحُ الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(71) - (بَابُ جَوَازِ الاسْتِسْرَارِ بِالإِيمَانِ لِلْخَائِفِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجّاج -رحمه الله تعالى- المذكور أول الكتاب قال:
[384]
(149) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الْإسْلَامَ؟ "، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أَتَخَافُ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةٍ إِلَى السَّبْعِمِائَةٍ؟ قَالَ: (إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا"، قَالَ: فَابْتُلِيْنَا، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لَا يُصَلِّي إِلَّا سِرًّا).
رجال هذا الإسناد: سبعة، كلّهم تقدّموا قريبًا:
و"أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، و"أَبُو كُرَيْبٍ" هو: محمد بن العلاء، أحد مشايخ الستّة بلا واسطة، و"أَبُو مُعَاوِيةَ" هو: محمد بن خازم الضرير، و"الأَعْمَش" هو: سليمان بن مِهْران، و"شَقِيق": هو ابن سلمة أبو وائل التابعيّ المخضرم، والسند مسلسلٌ بالكوفيين، وسبق بقيّة لطائفه قريبًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَحْصُوا لِي) معناه: عُدّوا لي، ومنه قوله تعالى:{وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28]، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وفي رواية البخاريّ:"اكتبوا لي"، والإحصاء أعمّ من الكتابة، وقد يُفسّر "أحصوا" بـ "اكتبوا"، قاله في "الفتح"
(2)
، (كَمْ يَلْفِظُ الإسْلَامَ؟ ") أي: كم شخصًا يتكلّم بكلمة الإسلام؟ قال القرطبيّ رحمه الله: وأصل اللفظ: الرَّمْيُ، ومنه: لَفَظَه البحر، أي: رماه، وعدّاه بنفسه لما حذف الباء في رواية، وفي أخرى بثبوت الباء؛ لأنه محمول على تكلّم المتعدّي بحرف الجرّ، فكأنه قال: عُدّوا لي كم يتكلّم بالإسلام. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "كم يَلْفِظ الإسلام؟ " هو بفتح الياء المثنّاة من تحتُ، والإسلام منصوبٌ، مفعولُ "يَلْفِظُ" بإسقاط. حرف الجرّ، أي: يَلْفِظ بالإسلام، ومعناه: كم عَدَدُ مَن يتلفظ بكلمة الإسلام؟، و"كم" هنا استفهامية، ومُفَسّرها محذوف، وتقديره: كم شخصًا يَلفِظ بالإسلام؟.
وفي بعض الأصول: "تَلَفَّظَ؟ " بتاء مثناة من فوقُ، وفتح اللام، والفاء المشددة، وفي بعض الروايات للبخاريّ وغيره:"اكتُبُوا مَن يَلْفِظُ بالإسلام"، فكتبنا، وفي رواية النسائيّ وغيره:"أَحْصُوا لي من كان يَلْفِظ بالإسلام؟ "، وفي رواية أبي يعلى الموصليّ:"أَحْصُوا كُلَّ مَن تَلَفَّظَ بالإسلام". انتهى
(4)
.
(قَالَ) حذيفة رضي الله عنه (فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، أتخَافُ عَلَيْنَا)، الهمزة للاستفهام التعجبيّ، وفي رواية البخاريّ:"فقلنا: نخاف" بالنون، وحذف أداة الاستفهام، وقوله:(وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السِّتِّمِائَةٍ إِلَى السَّبْعِمِائَةٍ؟)
(5)
جملةٌ اسميّةٌ في محلّ نصب على الحال من ضمير "علينا".
ومرادهم بهذا تبشير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنهم قالوا له: أتخاف علينا ظهور العدوّ،
(1)
"المفهم" 1/ 365.
(2)
"الفتح" 6/ 206 "كتاب الجهاد والسير" رقم (3060).
(3)
"المفهم" 1/ 365.
(4)
"شرح النوويّ" 2/ 179.
(5)
سيأتي الكلام على تعريف الجزأين في قوله: "ما بين الستمائة، والسبعمائة" في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وقد كثر عددنا، وقَوِيت شوكتنا، وقد نصرنا الله تعالى، ونحن في قلّة وضعف؟.
ووقع في رواية البخاريّ من طريق الثوريّ، عن الأعمش:"فكتبنا له ألفًا وخمسَمائة رجل، فقلنا: نَخَافُ، ونحن ألف وخمسُمائة؟ "، وفي رواية للبخاريّ أيضًا مَن طريق أبي حمزة السّكّريّ، عن الأعمش:"فوجدناهم خمسَمائة".
قال في "الفتح" ما حاصله: خالف الثوريَّ أبو حمزة، عن الأعمش في هذا الحديث بهذا السند، فقال:"خمسمائة"، ولم يذكر الألف، وخالفه أيضًا أبو معاوية، فقال:"ما بين ستمائة إلى سبعمائة".
قال: وطريق أبي معاوية هذه وصلها مسلم، وأحمد، والنسائيّ، وابن ماجه، وكأن رواية الثوريّ رَجَحَت عند البخاريّ، فلذلك اعتمدَهَا؛ لكونه أحفظهم مطلقًا، وزاد عليهم، وزيادة الثقة الحافظ مقدَّمةٌ، وأبو معاوية وإن كان أحفظَ أصحاب الأعمش بخصوصه، ولذلك اقتصر مسلمٌ على روايته، لكنه لم يَجْزِم بالعدد - أي حيث عبّر بلفظ: ما بين ستمائة، إلى سبعمائة - فقَدَّم البخاري روايةَ الثوريّ؛ لزيادتها بالنسبة لرواية الاثنين، ولجزمها بالنسبة لرواية أبي معاوية.
وأما ما ذكره الإسماعيليّ أن يحيى بن سعيد الأُمَويّ، وأبا بكر بن عَيّاش وافقا أبا حمزة في قوله:"خمسمائة"، فتتعارض الأكثرية والأحفظية، فلا يخفى بُعْدُ ذلك الترجيح بالزيادة، وبهذا يَظْهَر رُجحان نظر البخاريّ على غيره.
وسَلَك الداوديّ الشارحُ طريق الجمع، فقال: لعلهم كَتَبُوا مَرّات في مواطن، وجَمَعَ بعضهم بأن المراد بالألف وخمسمائة جميعُ مَن أسلم من رجل وامرأة وعبد وصبيّ، وبما بين الستمائة إلى السبعمائة الرجال خاصّةً، وبالخمسمائة المقاتلة خاصّةً، وهو أحسن من الجمع الأَوّل، وإن كان بعضهم أبطله بقوله في الرواية الأولى:"ألفًا وخمسمائة رجل"؛ لإمكان أن يكون الراوي أراد بقوله: "رجل" نفس.
وجَمَع بعضهم
(1)
بأن المراد بالخمسمائة المقاتلة من أهل المدينة خاصّةً،
(1)
هذا البعض هو النووي رحمه الله. قال في شرحه (2/ 179) بعد ذكر اختلاف الروايات ما نصّه:
وقد يقال: وجه الجمع بين هذه الالفاظ أن يكون قولهم: "ألف وخمسمائة" المراد به النساء والصبيان والرجال، ويكون قولهم:"ستمائة إلى سبعمائة" الرجال خاصّةً، =
وبما بين الستمائة إلى السبعمائة، هم ومَن ليس بمقاتل، وبالألف وخمسمائة، هم ومَن حولهم من أهل القرى والبوادي.
قال الحافظ: ويخدُش في وجوه هذه الاحتمالات كلِّها اتّحاد مخرج الحديث، ومداره على الأعمش بسنده، واختلاف أصحابه عليه في العدد المذكور، والله تعالى أعلم. انتهى كلامه
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله الحافظ رحمه الله من خَدْشِ فذه الاحتمالات قويّ جدًّا، فإذًا يكون الجواب الصحيح أن يُسلَكَ مسلك الترجيح فقط، وهو أن رواية الثوريّ أولى بالاعتماد عليها، كما هو صنيع الإمام البخاريّ رحمه الله، كما بيّن ذلك الحافظ رحمه الله في كلامه السابق، والله تعالى أعلم بالصواب.
(قَالَ) رحمه الله مُحذِّرًا لهم من الزَّهْوِ والإعجاب بالكثرة، إذ النصر ليس بالكثرة، وإنما هو من عند الله تعالى، كما قال عز وجل:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، وقال تعالى:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)} [التوبة: 25].
("إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلَّكُمْ)"لعل" هنا للاستفهام، على مذهب الكوفيين، ولهذا عُلّق بها الفعل، أي "تدرون"، كما في قوله تعالى:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1]،، وقوله:{وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)} [عبس: 3]
(2)
، ومعناها هنا الإشفاق، وهي في كلام الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم
= ويكون "خمسمائة" المراد به المقاتلون، ولكن هذا الجواب باطلٌ برواية البخاريّ في أواخر "كتاب السير" في "باب كتابة الإمام الناس" قال فيها:"فكتبنا له ألفًا وخمسمائة رجل".
والجواب الصحيح - إن شاء الله تعالى - أن يقال: لعلهم أرادوا بقولهم: "ما بين الستمائة إلى السبعمائة" رجال المدينة خاصًّة، وبقولهم:"فكتبنا له ألفًا وخمسمائة" هم مع المسلمين حولهم. انتهى.
(1)
"الفتح" 6/ 206 - 207 "كتاب الجهاد" رقم (3060).
(2)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 288 تحقيق محمد محيى الدين.
للتحقيق (أَنْ تُبْتَلَوْا") بضمّ أوله، وفتح ثالثه، ورابعه، أما فتح ثالثه، فلكونه مبنيًّا للمفعول، وفتح رابعه، وهو اللام، فلأجل وقوع الإعلال فيه؛ إذ أصله:"أن تُبتَلَوُوا" بضم الواو الأولى، فقُلبت ألفًا؛ لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها، ثم حُذفت لالتقاء الساكنين: وهما الواوان، فبقي ما قبلها مفتوحًا؛ لعدم كونه قبلها تقديرًا.
ولفظ أبي عوانة، وأبي نُعيم:"لعلّكم تُبْتَلَون" بحذف "أن"، قال في "الفتح": وكأنّ ذلك وقع عند تَرَقُّب ما يُخاف منه، ولعله كان عند خروجهم إلى أُحد أو غيرها، ثم رأيت في شرح ابن التين الجزم بأن ذلك كان عند حَفْر الخندق، وحَكَى الداوديّ احتمالَ أنّ ذلك وقع لَمّا كانوا بالحديبية؛ لأنه قد اختُلِف في عددهم، هل كانوا ألفًا وخمسمائة، أو ألفًا وأربعمائة، أو غير ذلك؟ مما سيأتي في مكانه. انتهى
(1)
.
(قَالَ) حُذيفة رضي الله عنه (فَابْتُلِيْنَا) بالبناء للمفعول، ولفظ البخاريّ:"فلقد رأيتُنَا ابتُلِينا"(حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ مِنَّا لَا يُصَلِّي إِلا سِرًّا) أي: فتحقّق ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحصل الابتلاء بالفتن التي تموج كموج البحر، وامتُحنوا حتى كان الرجل منهم يُخفي صلاته عن الآخرين، ويُصلّي سرًّا، خوفًا وفَرَقًا.
قال النوويّ رحمه الله: لعله كان في بعض الفتن التي جَرَت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يُخفِي نفسه، ويصلي سرًّا؛ مخافةً من الظهور، والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وأما قول حذيفة رضي الله عنه: "فابتُلِينا
…
إلخ" فيُشبِه أن يكون أشار بذلك إلى ما وقع في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه من ولاية بعض أمراء الكوفة، كالوليد بن عقبة، حيث كان يؤخر الصلاةَ، أو لا يُقيمها على وجهها، وكان بعض الوَرِعِين يُصلي وحده سرًّا، ثم يصلي معه خشيةً من وقوع الفتنة، وقيل: كان ذلك حين أتمّ عثمانُ الصلاة في السفر، وكان بعضهم يَقصر سرًّا وحده؛ خشيةَ الإنكار عليه.
ووَهِمَ مَن قال: إن ذلك كان أيامَ قتل عثمان؛ لأن حذيفة رضي الله عنه لم يحضر
(1)
"الفتح" 6/ 206.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 179 - 180.
ذلك، وفي ذلك عَلَمٌ من أعلام النبوة، من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، وقد وَقَع أشد من ذلك بعد حذيفة رضي الله عنه في زمن الحجَّاج وغيره. انتهى
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "فابتُلينا
…
إلخ" يعني: بذلك - والله أعلم - ما جرى لهم في أوّل الإسلام بمكّة حين كان المشركون يؤذونهم، ويمنعونهم من إظهار صلاتهم حتى كانوا يُصلّون سرًّا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ في توجيه معنى هذا الحديث مما لا يخفى بطلانه، يُبطله قوله:"فابتُلينا"؛ إذ معناه: بعدما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لعلكم أن تُبْتَلَوْا"، ويُبطله أيضًا قوله:"أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ "، وفي رواية الثوريّ:"ونحن ألف وخمسمائة"، وهذا كلّه لا يكون قطعًا في أول الإسلام، وإنما هو بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "أحصوا لي
…
إلخ".
والحاصل أن هذا الابتلاء إنما وقع بعد ذلك، والذي يظهر أن المراد ما وقع في خلافة عثمان رضي الله عنه من بعض ولاة أمراء بني أميّة، كما سبق في كلام الحافظ رحمه الله، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[71/ 384](149)، و (البخاريّ) في "الجهاد والسير"(3060)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4029)، و (النسائيّ) في "السير" من "الكبرى"(8875)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 69)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 384)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6273)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(299 و 300)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(375)، و (ابن
(1)
"الفتح" 6/ 206 "كتاب الجهاد" رقم (3060).
(2)
"المفهم" 1/ 365.
منده) في "الإيمان"(452 و 453)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 363)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2744)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بين جواز الاستسرار بالإيمان للخائف على نفسه.
2 -
(ومنها): مشروعية كتابة دواوين الجيوش، وقد يتعين ذلك عند الاحتياج إلى تمييز من يَصْلَح للمقاتلة عمن لا يصلح.
3 -
(ومنها): أن فيه وقوعَ العقوبة على الإعجاب بالكثرة، فقد قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتخاف علينا"، ونحن بهذا العدد الكثير؟، فوقع الابتلاء، وهو نظير قوله تعالى:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
4 -
(ومنها): أن فيه علَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما سيقع بعده، فوقع كما أخبر به، فقد قال حذيفة رضي الله عنه:"فابتُلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلّي إلا سرًّا".
5 -
(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشدّة رأفته بأصحابه خاصةً، وبأمته عامّة، فكان يحذّرهم ويُخبرهم بما سيحصل لهم من الابتلاء والامتحان حتى يستعدّوا لذلك بالصبر، والتوكّل على الله - سبحانة وتعالي -، فظهر بهذا مصداق قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
6 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله ترجم في "كتاب الجهاد" من "صحيحه"، فقال:"باب كتابة الإمام الناس"، فقال ابن المُنَيِّر رحمه الله: موضعُ الترجمة من الفقه أن لا يُتَخَيَّل أن كتابة الجيش، وإحصاء عدده، يكون ذريعة لارتفاع البركة، بل الكتابةُ المأمورُ بها لمصلحة دينية، والمؤاخذة التي وقعت في حنين، كانت من جهة الإعجاب. انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان القاعدة النحويّة في تعريف العدد:
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 207 "كتاب الجهاد".
(اعلم): أنه وقع في هذا الحديث قوله: "مَا بَيْنَ السِّتّمِائَةٍ إِلَى السَّبْعِمِائَةٍ"، فقال النوويّ رحمه الله: كذا وقع في مسلم، وهو مشكل من جهة العربية، وله وجه، وهو أن يكون "مائة" في الموضعين منصوبًا على التمييز، على قول بعض أهل العربية
(1)
، وقيل: إن "مائة" في الموضعين مجرورة، على أن تكون الألف واللام زائدتين، فلا اعتداد بدخولهما.
قال: ووقع في "صحيح البخاريّ": "ما بين ستمائة إلى سبعمائة"، وهذا ظاهرٌ، لا إشكال فيه من جهة العربية
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وجه الإشكال الذي أشار إليه النوويّ رحمه الله أن القاعدة النحويّة في العدد أنه إذا كان العدد مضافًا، وأردت تعريفه، عَرَّفتَ الآخرَ، وهو المضاف إليه، فيصير الأول مضافًا إلى معرفة، فتقول: ثلاثة الأثواب، ومائة الدرهم، وألفُ الدينار، ومنه قول الشاعر [من البسيط]:
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ
…
فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأَشْبَارِ
وقول الآخر [من الطويل]:
وَهَلْ يَرْجِعُ التَّسْلِيمَ أَوْ يَكْشِفُ العَنَا
…
ثَلَاثُ الأَثَافِي وَالدِّيَارُ البَلَاقِعُ
وأجاز الكوفيّون "الثلاثة الأثوابِ"؛ تشبيهًا بـ "الحسنِ الوجهِ"، قال الزمخشريّ: وذلك بمعزل عند أصحابنا - يعني: البصريين - عن القياس، واستعمال الفصحاء.
وإذا كان العدد مركّبًا ألحقتَ حرف التعريف بالأول، فتقول: الأحد عشر درهمًا، والاثنتا عشرة جاريةً، ولم تُلحقه بالثاني؛ لأنه بمنزلة بعض الاسم، وأجاز ذلك الأخفش، والكوفيّون، فقالوا: الأحد العشر درهمًا، والاثنتا العشرة جاريةً؛ لأنهما في الحقيقة اسمان، والعطف مرادٌ فيهما، ولذلك بُنيا، ويدلُّ عليه إجازتهم ثلاثة عشر، وأربعة عشر؛ إذ تاء التأنيث لا تقع حشوًا، فلولا ملاحظة العطف لَمَا جاز ذلك.
ولا يجوز الأحدَ العشرَ الدرهمَ؛ لأن التمييز واجب التنكير؛ نعم يجوز عند الكوفيين، وقد استعمل ذلك بعضُ الكُتّاب.
(1)
هو مذهب الكوفيين.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 179.
وإذا كان معطوفًا عرّفتَ الاسمين معًا، فتقول: الأحد والعشرون درهمًا؛ لأن حرف العطف فَصَلَ بينهما.
(واعلم): أن في تعريف المضاف قد يكون المعرَّف إلى جانب الأول، كما تقدّم، وقد يكون بينهما اسم واحدٌ، نحو خمسمائة الألف، وقد يكون بينهما اسمان، نحو خمسمائة ألف الدينار، وقد يكون بينهما ثلاثة أسماء، نحو خمسمائة ألف دينار الرجل، وقد يكون بينهما أربعة أسماء، نحو خمسمائة ألف دينار غلام الرجل، وعلى هذا.
ولو قلتَ: عشرون ألف رجل امتَنَعَ تعريف المضاف إليه؛ لأن المضاف منصوب على التمييز، فلو عرّفتَ المضاف إليه صار المضاف معرفةً بإضافته إليه، والتمييز واجب التنكير؛ نعم يجوز ذلك عند الكوفيين، ولو قلتَ: خمسة آلاف دينار جاز تعريف المضاف إليه، نحو خمسمائة آلاف الدينار، وكذلك حكم المائة؛ لأن مميِّزها يجوز تعريفه كما عَرَفتَ، ولا تعرّف الآلاف؛ لإضافتها إلى ما بعدها، سواء أُضيفت لمعرفة، أو نكرة؛ لأن "أل" لا تدخل على المضاف في مثل ذلك، وأما ما وقع في "صحيح البخاريّ" في "باب الكفالة في القرض والديون":"ثم قَدِمَ الذي كان أسلفه، وأتى بالألف دينار"، فأوّله الدمامينيّ بتقدير مضاف، مُبدَل من المُعَرَّف؛ أي بالألف ألف دينار، قال: ولا يقال: "أل" زائدة؛ لأن ذلك لا يَنقاس.
وقد نظم العلامة الأجهوريّ رحمه الله حاصل هذه المسألة، فقال:
وَعَدَدٌ تُرِيدُ أَنْ تُعَرِّفَا
…
فَـ "أَلْ" بِجُزْأَيْهِ صِلَنْ إِنْ عُطِفَا
وَإِنْ يَكُنْ مُرَكَّبًا فَالأَوَّلُ
…
وَفِي المُضَافِ عَكْسُ هَذَا يُفْعَلُ
وَخَالَفَ الكُوفِيُّ فِي هَذَيْنِ
…
فَفِيهِمَا قَدْ عَرَّفَ الجُزْأَيْنِ
(1)
(1)
كان نصّ بيت الأجهوريّ هكذا:
وَخَالَفَ الكُوفِي فِي الأَخِيرِ
…
فَعَرَّفَ الجُزْأَيْنِ يَا سَمِيرِي
فغيّره الصبّان؛ لأن المراد بالأخير غيرُ الأول، فيشمل الثاني، وهو المركّب؛ لأن الكوفيّ خالف فيه أيضًا، فكان الأحسن أن يقول بدل الأخير:
وَخَالَفَ الْكُوفِيُّ فِي هَذَيْنِ
…
إلخ.
ذكر هذا التحقيق العلامة أبو الحسن الأشمونيّ في شرحه "على خلاصة" ابن مالك، ومحشّيه العلامة محمد بن عليّ الصبّان رحمهما الله تعالى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(72) - (بَابُ تَأَلُّفِ قَلْبِ مَنْ يُخَافُ عَلَى إِيمَانِهِ؛ لِضَعْفِه، وَالنَّهْيِ عَنِ الْقَطْعِ بِالإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ)
وبالسند المتّصل إلى الإِمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[385]
(150) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْمًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَعْطِ فُلَانًا، فَإِنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "أَؤ مُسْلِمٌ"، أقُولُهَا ثَلَاثًا، وَيُرَدِّدُهَا عَلَيَّ ثَلَاثًا: "أَوْ مُسْلِمٌ"، ثُمَّ قَالَ: "إِنِّي لَأُعْطي الرَّجُلَ، وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ؛ مَخَافَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ فِي النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجة، من كبار [8](ت 198)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
3 -
(الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم الإمام الحجة المشهور، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقة [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
(1)
"شرح الأشمونيّ على الخلاصة" مع حاشية الصبّان عليه 1/ 186 - 188.
5 -
(أَبُوهُ) هو: سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه (55)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له البخاريّ، وأبو داود.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، والباقيان مكيّان.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن صحابيّه أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، وهو آخرهم موتًا، مات بالعقيق، ثم نُقل إلى المدينة، فدفن بها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قول المصنّف رحمه الله: "حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدّثنا سفيان، عن الزهريّ
…
إلخ.
قال أبو عليّ الغسانيّ: قال الحافظ أبو مسعود الدمشقيّ: هذا الحديث إنما يرويه سفيان بن عيينة، عن معمر، عن الزهريّ، قاله الحميديّ، وسعيد بن عبد الرحمن، ومحمد بن الصبّاح الجَرْجَرائيّ، كلّهم عن سفيان، عن معمر، عن الزهريّ، بإسناده سواء.
وهذا هو المحفوظ عن سفيان، حدّثناه حاتم بن محمد، قال: نا أحمد بن إبراهيم بن فِراس، قال: أنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم الدَّيْبُليّ، قال: نا سعيد بن عبد الرحمن، قال: نا سفيان، عن معمر، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه، قال: "قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْمًا
…
" الحديث.
وكذلك قال عليّ بن عمر
(1)
في كتاب "الاستدراكات" في هذا الإسناد. انتهى
(2)
.
(1)
يعني الدارقطنيّ.
(2)
"تقييد المهمل" 3/ 782.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا الذي قاله هؤلاء في هذا الإسناد، قد يقال: لا ينبغي أن يوافقوا عليه؛ لأنه يَحْتَمِلُ أن سفيان سمعه من الزهريّ مرًّة، وسمعه من معمر، عن الزهريّ مرًّة، فرواه على الوجهين، فلا يقدح أحدهما في الآخر، ولكن انضمت أمورٌ اقتَضَت ما ذكروه، منها: أن سفيان مُدَلِّسٌ، وقد قال:"عن".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الوجه مما لا يخفى ضعفه؛ لأنه وإن وُصف بالتدليس، لكنه لا يُدلّس إلا عن تقة، حتى ادّعى ابن حبّان بأن ذلك خاصّ به، وإنما القدح الصحيح هو مخالفته جماهير الرواة، كما بيّنه بقوله: ومنها: أن أكثر أصحابه رووه عن معمر، وقد يجاب عن هذا بما قدمناه، من أن مسلمًا رحمه الله لا يروي عن مُدَلّسٍ قال:"عن" إلا أن يثبت أنه سمعه ممن عَنْعَنَ عنه، وكيف كان فهذا الكلام في الإسناد لا يُؤثِّر في المتن، فإنه صحيح على كل تقدير مُتَّصِلٌ، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": ورواه مسلم عن محمد بن يحيى بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، ووقع فيه وَهَمٌ منه، أو من شيخه؛ لأن معظم الروايات في الجوامع، والمسانيد، عن ابن عيينة، عن معمر، عن الزهريّ بزيادة معمر بينهما، وكذا حدّث به ابن أبي عمر، شيخُ مسلم في "مسنده" عن ابن عيينة، وكذا أخرجه أبو نعيم في "مستخرجه" من طريقه.
وزعم أبو مسعود في "الأطراف" أن الوَهَم من ابن أبي عمر، وهو محتمل لأن يكون الوهم صدر منه لَمّا حَدّث به مسلمًا، لكن لم يتعين الوهم في جهته.
وحمله الشيخ محيي الدين على أن ابن عيينة حَدّث به مرَّةً بإسقاط معمر، ومرًّة بإثباته، وفيه بُعْدٌ؛ لأن الروايات قد تضافرت عن ابن عيينة بإثبات معمر، ولم يوجد بإسقاطه إلا عند مسلم، والموجود في مسند شيخه بلا إسقاط، كما قدمناه، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتابي "تغليق التعليق". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما عزاه إلى النوويّ من حمله على المرتين، فيه
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 182.
(2)
"الفتح" 1/ 102 - 103.
نظر لا يخفى؛ لأنه لم يذكر هذا اعتمادًا عليه، بل إنما ذكره في مَعْرِض الردّ والاستبعاد، كما سبقت عبارته قريبًا، فتأملها بإمعان.
وخلاصة القول أن سند المصنّف فيه سقطٌ، والظاهر أن السهو منه، وأما كونه من شيخه ابن أبي عمر، وإن ذكروه احتمالًا، إلا أنه يُبْعِده ثبوته في "مسنده" على الصواب، والله تعالى أعلم بالصواب.
وقوله: ("أَوْ مُسْلِمٌ") هكذا في هذه الرواية بالرفع على أنه خبر لمحذوف؛ أي: هو مسلم، و"أو" بسكون الواو بمعنى "بل".
وقوله: (أَنْ يَكُبَّهُ اللهُ) بفتح حرف المضارعة، مضارع كبّه، يقال: أكبّ الرجلُ، وكبّه الله، وهذا بناء غريب، جاء على خلاف العادة؛ إذ هي أن يكون الثلاثيّ لازمًا، والرباعيّ متعدّيًا، وهنا بالعكس، فالثلاثيّ متعدّ، والرباعيّ لازم.
وتمام شرح الحديث، ومسائله ستأتي في الحديث التالي، وإنما أخرتها إليه؛ لكونه أتمّ سياقًا مما هنا، فكان الشرح أليق به، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[386]
(
…
) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّه، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيه، سَعْدٍ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا، وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ مَن لَمْ يُعْطِه، وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَالله، إِنَي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا"، قَالَ: فَسَكَتُ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟، فَوَاللهِ إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا"، قَالَ: فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟، فَوَاللهِ إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ؛ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) المذكور قبل باب.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6](ت 152) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
والباقون تقدّموا قبله، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، فهو أنزل من السند السابق.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، ويعقوب، فمدنيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أنه مسلسل بأربعة كلهم زهريون، فابن أخي الزهريّ، فمن فوقه كلهم زهريون، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رَوَى هذا الحديثَ ابنُ وهب، ورِشْدِين بن سعد جميعًا، عن يونس، عن الزهري بسند آخر، قال:"عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه"، أخرجه ابن أبي حاتم، ونقل عن أبيه أنه خطأ من راويه، وهو الوليد بن مسلم عنهما، أفاده في "الفتح" أيضًا، يعني: أن الصواب: "عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، عن أبيه"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدٍ) بن أبي وقّاص رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا)"الرَّهْطُ": عدد من الرجال، من ثلاثة إلى عشرة، قال القزاز: وربما جاوزوا
ذلك قليلًا، ولا واحد له من لفظه، ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته، وللإسماعيلي من طريق ابن أبي ذئب:"أنه جاءه رهطٌ، فسألوه، فأعطاهم، فَتَرَك رجلًا منهم".
وانتصاب "رَهطًا" على أنه مفعول أول لـ "أعطى"، ومفعوله الثاني محذوف؛ لأن باب "أعطى" يجوز فيه حذف المفعولين، كقوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} [الليل: 5]، وحذف الأول كقوله تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، أي حتى يُعطوكم الجزية، وحذف الثاني كقوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، أي يعطيك ما يُرضيك.
وقال العينيّ رحمه الله: فيه حذف المفعول الثاني من باب أعطيت في الموضعين: الأول في قوله: "أعطى رهطًا"، والثاني في قوله:"إني لأعطي الرجل"؛ تنبيهًا على التعميم بأيّ شيء كان، أو جعل المتعدّي إلى اثنين كالمتعدّي إلى واحد، والمعنى إيجاد هذه الحقيقة؛ يعني: إيجاد الإعطاء، والفائدة فيهما قصد المبالغة. انتهى
(1)
.
(وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ) جملة في محلّ نصب على الحال، وفيه تجريدٌ؛ لأن الظاهر أن يقول: وأنا جالسٌ، قاله في "الفتح".
وقال العينيّ: فيه وجهان:
الأول: أن يكون فيه التفاتٌ على قول صاحب "المفتاح"
(2)
من التكلّم الذي هو مقتضى المقام إلى الغيبة، وأما على قول غيره، فليس فيه التفاتٌ؛ لأنهم يشترطون أن يكون الالتفات من التكلّم والخطاب والغيبة محقّقًا، وصاحب "المفتاح" لم يشترط ذلك، بل قال: الالتفات أعمّ من أن يكون محقّقًا أو مقدَّرًا.
(1)
"عمدة القاري" 1/ 309.
(2)
هو يوسف بن أبي بكر بن محمد بن عليّ السكّاكيّ الخُوارزميّ الحنفيّ، أبو يعقوب سراج الدين، وُلد سنة (555 هـ)، وتوفّي سنة (626 هـ) مولده ووفاته بخوارزم. راجع:"هديّة العارفين" 6/ 553، "معجم الأعلام" ص 962.
والوجه الثاني: أن يكون من باب التجريد، وهو أن يُجرِّد من نفسه شخصًا، ويُخبِر عنه، وذلك أن القياس في قوله:"وسعد جالسٌ" أن يقول: وأنا جالسٌ، ولكنه جرّد من نفسه ذلك، وأخبر عنه بقوله:"وسعد جالسٌ"، وهو من مُحسّنات الكلام، من الضروب المعنويّة الراجعة إلى وظيفة البلاغة. انتهى
(1)
.
(قَالَ سَعْدٌ) أي: ابن أبي وقّاص رضي الله عنه (فَتَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ) أي: أولئك الرهط (مَنْ لَمْ يُعْطِهِ)"من" اسم موصول مفعول "ترك"(وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ) فيه التفاتٌ، إذ الظاهر أن يقول: إليه؛ لقوله: "وسعدٌ جالسٌ"، ولم يقل: وأنا جالسٌ، وهو التفاتٌ من الغيبة إلى التكلّم.
وفي رواية صالح بن كيسان الآتية بعده: "أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا، وأنا جالسٌ فيهم"، فساقه بلا تجريد، ولا التفات، وزاد فيه: "فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساررته
…
"، وهذه الزيادة عند البخاريّ أيضًا في "كتاب الزكاة"، وغَفَلَ بعضهم، فعزاها إلى مسلم فقط، والرجل المتروك اسمه جُعَيل بن سُرَاقة الضَّمْريّ، سمَّاه الواقديّ في "المغازي"، قاله في "الفتح"
(2)
.
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) أَيْ: أَيُّ سبب لعُدُولك عنه إلى غيره؟، قال العينيّ رحمه الله: كلمة "ما" للاستفهام، واللام تتعلّق بمحذوف، وكذلك كلمة "عن"، وهو "حَصَلَ" في اللام، و"أعرضتَ"، ونحوه في "عن". انتهى
(3)
.
ولفظ "فلان" كناية عن اسم أُبْهِم بعد أن ذُكِرَ (فَوَ اللهِ) فيه القسم في الإخبار على سبيل التأكيد (إِنِّي لَأُرَاهُ مُؤْمِنًا) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية بضمّ همزة "أُراه"، بمعنى أظنّه.
وهو مِن حلف سعد على ما ظنّه، فكانت هذه اليمين لاغيةً، ولذلك لم يُنكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أمره بكفّارة عنها، فكان فيه دليلٌ على جواز الحَلِف
(1)
"عمدة القاري" 1/ 309.
(2)
"الفتح" 1/ 100 "كتاب الإيمان" رقم (27)
(3)
"عمدة القاري" 1/ 307.
على الظنّ، وأنها هي اللاغية، وهو قول مالك، والجمهور. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" قوله: "لأراه" وَقَعَ في روايتنا من طريق أبي ذرّ وغيره بضم الهمزة هنا، وفي "الزكاة"، وكذا هو في رواية الإسماعيلي وغيره
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الهمزة، أي: لأعلمه، ولا يجوز ضمها، فيصيرَ بمعنى أظنه؛ لأنه قال بعد ذلك:"غَلَبِني ما أعلم منه"، ولأنه راجع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات، ولو لم يكن جازمًا باعتقاده لَمَا كرّر المراجعة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قول النووي هذا نظر لا يخفى، أما استدلاله على تعيّن الفتح بقوله:"لأعلمه"، فالجواب عنه أنه لا دلالة فيه عليه؛ لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب، ومنه قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10].
سَلَّمنا، لكن لا يلزم من إطلاق العلم أن لا تكون مقدماته ظنيةً، فيكون نظريًّا، لا يقينيًّا، وهو الممكن هنا.
وأما استدلاله عليه بتكرار مراجعته، فلا مانع أيضًا من أن يكرّر ذلك؛ بناءً على ما غلب على ظنّه
(3)
.
والحاصل أن ضمّ الهمزة هنا متعيّنٌ؛ لثبوت الرواية به، كما نصّ عليه القرطبيّ في كلامه السابق، وسبق في كلام الحافظ بالنسبة للبخاريّ أيضًا، وأما الفتح، فإن ثبتت الروايةُ به، فوجهه واضح، وإلا فما صحّت به الرواية هو المتّبَعُ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا")"أَوْ" هنا للإضراب، بمعنى "بل"، قال القرطبي رحمه الله: الرواية بسكون الواو، وقد غَلِطَ مَن فَتَحها، وأحال المعنى؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِد استفهامه، وإنما أشار له إلى القسم الآخر المختصّ بالظاهر الذي يُمكن أن يُدرَكَ، فجاء بـ "أو" التي للتقسيم والتنويع. انتهى
(4)
.
(1)
"المفهم" 1/ 367.
(2)
"الفتح" 1/ 100 - 101.
(3)
هكذا تعفب الحافظ على النوويّ ببعض ما ذكرته، وللعينيّ كعادته اعتراضٌ عليه، لا جدوى فيه لمن تأمله، فعليك بالإنصاف، ودع اللجاج والاعتساف.
(4)
"المفهم" 1/ 366.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلمًا"، فليس فيه إنكارُ كونه مؤمنًا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان، وأن لفظة الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلومٌ بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن، لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد زَعَم صاحب "التحرير" أن في هذا الحديث إشارةً إلى أن الرجل لم يكن مؤمنًا، وليس كما زَعَمَ، بل فيه إشارة إلى إيمانه، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في جوابه سعد:"إني لأُعطي الرجلَ، وغيره أحبُّ إليّ منه"، ومعناه: أُعطي مَن أخاف عليه؛ لضعف إيمانه أن يَكْفُر، وأَدَعُ غيره، ممن هو أَحَبُّ إليّ منه؛ لما أعلمه من طمأنينة قلبه، وصلابة إيمانه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فقال: أَوْ مسلمًا" هو بإسكان الواو، لا بفتحها، فقيل: هي للتنويع، وقال بعضهم: هي للتشريك، وأنه أمره أن يقولهما معًا؛ لأنه أحوط، ويَرُدُّ هذا رواية النسائيّ في "المجتبى"
(2)
، وابنِ الأعرابيّ في "معجمه" في هذا الحديث:"فقال: لا تقل: مؤمنٌ، وقل: مسلمٌ"، وفي لفظ:"بل قل: مسلم"، فوضح أنها للإضراب، وليس معناه الإنكار، بل المعنى أن إطلاق المسلم على من لم يُخْتَبَر حالُه الخِبْرَةَ الباطنةَ أولى من إطلاق المؤمن؛ لأن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، قاله الشيخ محيي الدين مُلَخَّصًا.
وتعقّبه الكرمانيّ بأنه يلزم منه أن لا يكون الحديث دالًّا على ما عُقِدَ له الباب
(3)
، ولا يكون لردّ الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد فائدةٌ.
قال الحافظ: وهو تعقُّبٌ مردودٌ، وقد بَيّنّا وجه المطابقة بين الحديث والترجمة قبلُ
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 181 - 182.
(2)
أخرجه النسائيّ في "المجتبى" برقم (4995).
(3)
يعني الباب الذي عقده الإمام البخاريّ رحمه الله بقوله: "باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة
…
" إلخ.
(4)
والجواب ما قاله: ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرةٌ من حيث إن المسلم يُطلق على من أظهر الإسلام، وإن لم يُعلم باطنه، فلا يكون مؤمنًا؛ لأنه ممن لم يصدُق عليه الحقيقة الشرعيّة، وأما اللغويّة فحاصلة. انتهى. "الفتح" 1/ 100.
وللعينيّ مناقشة لهذه المناسبة على عادته المستمرّة في ردّ توجيه الحافظ؛ تكديرًا، لا تحريرًا، فتنبّه.
قال: ومُحَصَّل القصة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يُوسع العطاء لمن أظهر الإسلام؛ تَألُّفًا، فلما أعطى الرهط، وهم من المؤلفة، وتَرَكَ جُعَيلًا، وهو من المهاجرين، مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد في أمره؛ لأنه كان يَرَى أن جُعيلًا أحقُّ منهم؛ لِمَا اختبره منه دونهم، ولهذا راجع فيه أكثر من مَرَّة، فأرشده النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمرين
[أحدهما]: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك، وحِرْمان جُعيل، مع كونه أحبَّ إليه ممن أَعْطَى؛ لأنه لو تَرَك إعطاء المؤلَّف لم يُؤمَن ارتداده، فيكون من أهل النار.
[ثانيهما]: إرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن، دون الثناء بالأمر الظاهر، فوَضَحَ بهذا فائدةُ رَدِّ الرسول صلى الله عليه وسلم على سعد، وأنه لا يَستَلزم محضَ الإنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشُورة بالأَوْلى، والآخر على طريق الاعتذار.
[فإن قيل]: كيف لم تُقْبَل شهادة سعد لجعيل بالإيمان، ولو شهد لي بالعدالة لقُبِل منه، وهي تستلزم الإيمان؟
[فالجواب]: أن كلام سعد لم يَخْرُج مخرجَ الشهادة، وإنما خَرَج مَخْرَج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقش في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة، لَمَا استلزمت المشورةُ عليه بالأمر الأَوْلَى رَدَّ شهادته، بل السياق يُرْشِد إلى أنه قَبِلَ قولَه فيه، بدليل أنه اعتذر إليه.
قال: ورَوَينا في "مسند محمد بن هارون الرُّويانيّ" وغيره بإسناد صحيح إلى أبي سالم الجَيْشانيّ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"كيف تَرَى جُعَيلًا؟ "، قال: قلت: كشكله من الناس؛ يعني: المهاجرين، قال:"فكيف تَرَى فلانًا؟ "، قال: قلت: سيّدٌ من سادات الناس، قال:"فجُعيل خيرٌ من ملء الأرض من فلان"، قال: قلت: ففلان هكذا، وأنت تصنع به ما تصنع؟ قال:"إنه رأس قومه، فأنا أتأَلَّفُهم به"، فهذه منزلةُ جُعيل المذكور عند النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تَرَى، فظَهَرت بهذا الحكمةُ في حِرْمانه، وإعطاء غيره، وأن ذلك لمصلحة التأليف، كما قررناه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(1)
"الفتح" 1/ 101 "كتاب الإيمان" رقم (27).
(قَالَ) سعد رضي الله عنه (فَسَكَتُّ قَلِيلًا) نُصب على أنه صفة لمصدر محذوف: أي سُكوتًا قليلًا (ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ)"ما" موصولة في محلّ رفع على الفاعليّة بـ "غلبني"(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟) أيْ: أيُّ شيء ثبت لك معرضًا عن إعطاء فلان؛ أي: وهو جُعيل المذكور (فَوَاللهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا"، قَالَ) سعد رضي الله عنه (فَسَكَتُّ قَلِيلًا، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟، فَوَالله، إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمًا، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ) فيه حذف المفعول الثاني؛ للتعميم، أَيْ: أَيَّ عَطاء كان (وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، أو المفعول، وفي رواية للبخاريّ:"وغيرُه أعجب إليّ"، وذكر في "الفتح"، أن رواية أكثر الرواة بلفظ "أحبّ"، قال: ووقع عند الإسماعيلي بعد قوله: "أحبّ إليّ منه": "وما أُعطيه إلا مخافةَ أن يكبه الله
…
إلخ"، ولأبي داود من طريق معمر: "إني أعطي رجالًا، وأَدَعُ مَن هو أحب إليّ منهم، لا أُعطيه شيئًا؛ مخافةَ أن يُكَبُّوا في النار على وجوههم".
(خَشْيَةَ) منصوب على أنه مفعول لأجله لـ "أُعطي"؛ أي: لأجل خشية أن يكبّه الله في النار، فـ "خشيةَ" مضاف إلى (أَنْ يُكَبَّ) و"أن" مصدريّة، و"يُكبّ" بالبناء للمفعول (فِي النَّارِ) متعلّق بـ "يُكبّ"، وكذا قوله:(عَلَى وَجْهِهِ") قال العينيّ رحمه الله: "خشية" مضاف إلى ما بعده، "وأن" مصدريّة، والتقدير لأجل خشية كبّ الله إياه في النار.
قال: وفيه من باب الكناية، وهو في قوله:"خشية أن يكبّه الله"؛ لأن الكبّ في النار لازم الكفر، فأطلق اللازم، وأراد الملزوم، وهو كناية، وليس بمجاز.
[فإن قلت]: الكبّ قد يكون للمعصية، فلا يستلزم الكفر.
[قلت]: المراد من الكبّ كبٌّ مخصوص، لا يكون إلا للكافر، وإلا فلا تصحّ الكناية.
وإنما قلنا: إن المراد كبٌّ مخصوص؛ لأن معنى قوله: "خشية أن يكبّه الله في النار" مخافةً من كفره الذي يؤدّيه إلى كبّ الله إياه في النار، والضمير في "يَكُبّه" للرجل في قوله:"إني لأعطي الرجل"، أي: أتألّف قلبه بالإعطاء؛
مخافةً من كفره إذا لم يُعطَ، والتقدير: أنا أُعطي مَن في إيمانه ضعفٌ؛ لأني أخشى عليه لو لم أعطِه أن يَعرِض له اعتقادٌ يَكفُرُ به، فيَكُبّه الله تعالى في النار، كأنه أشار إلى المؤلّفة، أو إلى مَن إذا مُنِع نَسَبَ الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البخل، وأما مَن قَوِيَ إيمانه فهو أحبّ إليّ، فأَكِلُه إلى إيمانه، ولا أخشى عليه رُجوعًا عن دينه، ولا سوء اعتقاده، ولا ضرر له فيما يحصُل له من الدنيا. انتهى
(1)
.
[تنبيهان]:
(الأول): قال في "الفتح": قوله: "أن يكبه الله" هو بفتح أوله، وضمّ الكاف، يقال: أكب الرجل: إذا أَطْرَق، وكبه غيره: إذا قَلَبه، وهذا على خلاف القياس؛ لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة، وهذا زيدت عليه الهمزة فقَصُرَ، وقد ذكر البخاريّ هذا في "كتاب الزكاة"، فقال: يقال: أكب الرجلُ إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل، قلت: كَبّه، وكببته، وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة، منها: أنسل رِيش الطائر، ونسلته، وأنزفتِ البئرُ ونزفتها، وحَكَى ابن الأعرابي في المتعدي كَبّه، وأكبّه معًا. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وقد جاء قسم تَعَدَّى ثلاثيه، وقَصُر رباعيه، عكسَ المتعارَف، نحو أجفل الطائرُ، وجفلته، وأقشع الغيمُ، وقَشَعتهُ الريحُ، وأنسل ريشُ الطائر؛ أي: سقط، ونَسَلته، وأَمْرَت الناقةُ: دَرَّ لبنها، ومريتها، وأظأرتِ الناقةُ: إذا عَطَفَت على بَوِّها
(3)
، وظأرتها ظَارًا: عَطْفْتُها، وأعرض الشيءُ: إذا ظهر، وعَرَضته: أظهرته، وأنقع العطشُ: سَكَن، ونقعه الماء: سَكَّنه، وأخاض النهرُ، وخضته، وأحجم زيد عن الأمر: وَقَفَ عنه، وحَجَمْتُهُ، وأكب على وجهه، وكببته، وأصرم النخلُ والزرعُ، وصرمته؛ أي: قطعته، وأمخض اللبنُ، ومخضته، وأثلثوا: إذا صاروا بأنفسهم ثلاثةً، وثَلَثْتُهُم: صِرْتُ ثالثهم، وكذلك إلى العشرة، وأبشر الرجلُ بمولود: سُرَّ به، وبَشَرته، واسم الفاعل من الثلاثيّ
(1)
"عمدة القاري" 1/ 309 - 310.
(2)
"الفتح" 1/ 102.
(3)
قال في "القاموس" ص 1138: "الْبَوُّ": ولد الناقة، وجِلْد الحُوَار يُحْشَى ثُمَامًا، أو تِبْنًا، فيُقَرَّبُ من أمّ الفَصِيل، فتَعطِفُ عليه، فتُدرّ، والرماد، والأحمقُ. انتهى.
والرباعيّ على قياس البابين، وريش منسول، من الثلاثي، ومُنسِلٌ اسم فاعل من الرباعيّ؛ أي: مُنقَلِع.
وأفهم كلام بعضهم أن ذلك على معنيين، فقولهم: أنسل الريشُ، وأخاض النهرُ ونحوه، معناه: حان له أن يكون كذلك، فلا يكون مثل: قام زيدٌ، وأقمته، وقد نَصُّوا في مواضع على معنى ذلك. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت هذه القاعدة المخالفة للقياس، فقلت:
اعْلَمْ بِأَنَّ أَظْأَرَتْ وَأَقْشَعَا
…
أَخَاضَ أَعْرَضَ أَمْرَتْ أَنْقَعَا
وَأَبْشَرَتْ وَأَصْرَمَتْ وَأَنْسَلَا
…
وَأَمْخَضَتْ وَأَحْجَمَتْ وَأَجْفَلَا
وَأَثْلَثُوا صَارُوا ثَلَاثَةَ إِلَى
…
عَشَرَةٍ كَذَا أَكَبَّ نُقِلَا
فَهَذه قَدْ خَالَفَتْ قِيَاسَ مَا
…
أَتَى عَنِ العُرْب طَرِيقًا مُحْكَمَا
إِذِ الثُّلَاثِيُّ لَدَيْهِمُ لَزِمْ
…
أَمَّا التَّعَدِّيَ لِلرُّبَاعِيِّ عُلِمْ
وَهَكَذَا صَرَّحَ فِي "المِصْبَاحِ"
…
قَرَبْتُ كَي تَحْفَظَهَا يَا صَاحِ
(التنبيه الثاني): أنه روى هذا الحديث أحمد، والحميديّ، وغيرهما عن عبد الرزّاق، عن معمر، وفيه من الزيادة: قال الزهري: "فَنَرَى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل".
وقد استُشكل هذا بالنظر، إلى حديث سؤال جبريل، فإن ظاهره يخالفه، ويمكن أن يكون مراد الزهري أن المرء يُحكم بإسلامه، ويُسَمّى مسلمًا، إذا تلفظ بالكلمة؛ أي: كلمة الشهادة، وأنه لا يسمى مؤمنًا إلا بالعمل، والعمل يشمل عمل القلب والجوارح، وعمل الجوارح يدل على صدقه، وأما الإسلام المذكور في حديث جبريل عليه السلام، فهو الشرعي الكامل، المراد بقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، ذكره في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 687.
(2)
"الفتح" 1/ 103.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[72/ 385 و 386 و 387 و 388](150) وكرّره في "الزكاة"، و (البخاريّ) في "الإيمان"(27) و"الزكاة"(1478)، و (أبو داود) في "السنّة"(4683)، و (النسائيّ) في "الإيمان"(8/ 103 - 104)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(198)، و (الحميديّ) في "مسنده"(67 و 68 و 69)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(11/ 31)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 167 - 182)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(163)، و (ابن منده) في "الإيمان"(161 و 162)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(376 و 377 و 378 و 379)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة تألّف قلوب من يُخاف على إيمانه؛ لضعفه.
2 -
(ومنها): النهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع.
3 -
(ومنها): بيان الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد تقدم تحقيق ذلك في المسائل المذكورة في أوائل "كتاب الإيمان".
4 -
(ومنها): أن فيه دلالةً لمذهب أهل الحقّ في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافًا للكرَّامِيَّة، وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهرٌ يردّه إجماع المسلمين، والنصوص في إكفار المنافقين.
5 -
(ومنها): مشروعيّة الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما يعتقد الشافع جوازه.
6 -
(ومنها): مراجعة المشفوع إليه في الأمر، إذا لم يؤدّ إلى مفسدة.
7 -
(ومنها): تنبيه المفضول الفاضلَ على ما يراه مصلحةً، ويظنُّ أنه ذَهِلَ عنه.
8 -
(ومنها): أن الإسرار بالنصيحة أولى من الإعلان، كما يأتي في
الرواية التالية: "فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساررته"، وقد يتعين إذا جَرّ الإعلان إلى مفسدة.
9 -
(ومنها): أن الفاضل لا يَقبَل ما يشار عليه به مطلقًا، بل يتأمله، فإن لم تظهر مصلحته لم يعمل به.
10 -
(ومنها): أن من أشير عليه بما يعتقده المشير مصلحةً لا يُنكَر عليه، بل يُبَيَّن له وجه الصواب.
11 -
(ومنها): الاعتذار إلى الشافع، إذا كانت المصلحة في ترك إجابته، وأن لا عيب على الشافع إذا رُدّت شفاعته لذلك.
12 -
(ومنها): الأمر بالتثبت، وترك القطع بما لا يُعلَم القطع فيه.
13 -
(ومنها): أن الإمام يَصْرِف المال في مصالح المسلمين، الأهمّ، فالأهمّ، وإن خفي وجه ذلك على بعض الرعيّة.
14 -
(ومنها): أنه لا يُقطَع لأحد بالجنة على التعيين إلا مَن ثَبَتَ فيه نصٌّ، كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمعٌ عليه عند أهل السنة، هكذا قال النوويّ رحمه الله.
وتعقّبه الحافظ، ودونك نصّه: وفيه ترك القطع بالإيمان الكامل لمن لم يُنَصّ عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحًا، وإن تَعَرَّض له بعض الشارحين، نعم هو كذلك فيمن لم يثبت فيه النصّ. انتهى.
15 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله استنبط منه استحباب ترك الإلحاح في السؤال، ووجه ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ضرب بيده بين عُنُق سعد رضي الله عنه وكتفه لَمّا ألحّ عليه بالمراجعة، ثم قال له:"أقتالًا أي سعدُ"، فدلّ على استحباب ترك الإلحاح في السؤال.
16 -
(ومنها): أن القرطبيّ استنبط منه جواز الحلف على غلبة الظن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما نهاه عن الحلف، قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه أقسم على وجدان الظنّ، وهو كذلك، ولم يُقْسِم على الأمر المظنون كما ظُنَّ. انتهى.
17 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصحّ دليل
على الفرق بين الإسلام والإيمان، وأن الإيمان باطنٌ، ومِن عمل القلب، والإسلام ظاهرٌ، ومن عمل الجوارح، لكن لا يكون مؤمنٌ إلا مسلمًا، وقد يكون مسلمٌ غير مؤمن، ولفظ هذا الحديث يدلّ عليه
(1)
.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: هذا الحديث ظاهره يوجب الفرق بين الإسلام والإيمان، فيقال له: مسلم؛ أي: مستسلم، ولا يقال له: مؤمن، وهذا معنى الحديث، قال الله تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] أي: استسلمنا، وقد يتفقان في استواء الظاهر والباطن، فيقال للمسلم: مؤمن، وللمؤمن: مسلم
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم تحقيق ذلك مستوفًى في المسائل المذكورة في أول "كتاب الإيمان"، فراجعه، تستفد.
18 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياضٌ أيضًا: فيه حجة لقول من يُجيز إطلاق: "أنا مؤمن" دون استثناء، وردّ على من أَبَى ذلك، وهي مسألة اختُلف فيها من زمان الصحابة رضي الله عنهم إلى هلُمّ جرًّا، وكلّ قول إذا حُقّق كان له وجهٌ، وفي طرفٍ لا يُنافي القول الآخر، فمن لم يستثنِ أخبر عن حكم نفسه في الحال، وأما المآل فإلى العالم به، ومن استثنى أشار إلى غيب ما سبق له في اللوح المحفوظ، وإلى التوسعة في القولين ذهب من السلف الأوزاعيّ وغيره، وهو قول أهل التحقيق؛ نظرًا إلى ما قلناه، ورفعًا للخلاف. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تقدّم أيضًا تحقيق هذه المسألة مستوفًى في المسائل المذكورة في أول "كتاب الإيمان"، فراجعه، تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[387]
(
…
) - (حَدَّثنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيِّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 588.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 224.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 589.
شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَني عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ، أنَّهُ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطًا، وَأنا جَالِسٌ فِيهِمْ
…
بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّه، وَزَادَ: "فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ الله، فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ
…
").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَانِيّ) نزيل مكّة، أبو عليّ الخَلال، ثقة حافظ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ المذكور قبل بابين.
3 -
(أَبُو يعقوب) هو: إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ بن إبراهيم عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة حجة [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِح) بن كيسان المدنيّ، أبو محمد، أو أبو الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيه [4](ت بعد 130، وقيل: 140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: صالح، عن الزهريّ، عن عامر بن سعد، ورواية صالح عن الزهريّ من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن صالحًا أكبر من الزهريّ.
قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الزكاة" من "صحيحه" بعد إخراجه حديث الباب من طريق صالح، عن ابن شهاب، ما نصّه: قال أبو عبد الله: صالح بن كيسان أكبر من الزهريّ، وقد أدرك ابن عمر. انتهى.
قال في "الفتح": يعني في السنّ، ومثلُ هذا جاء عن أحمد، وابن معين، وقال عليّ بن المديني: كان أسنّ من الزهريّ، فإن مولده - يعني: الزهريّ - سنة خمسين، وقيل: بعدها، ومات سنة ثلاث وعشرين ومائة، وقيل: سنة أربع، وأما صالح بن كيسان فمات سنة أربعين ومائة، وقيل: قبلها، وذكر الحاكم في مقدار عمره سِنًّا تعقبوه عليه.
وقوله: "أدرك ابن عمر" يعني: أدرك السماع منه، وأما الزهري فمختلَف
في لُقِيِّه له، والصحيح أنه لم يَلْقَه، وإنما يروي عن ابنه سالم عنه. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَاب، عَنْ عَمِّهِ) يعني: أن رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب الزهريّ مثل رواية ابَن أخي ابن شهاب، عن عمّه.
وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير صالح، أي: زاد صالح في روايته على رواية ابن أخي ابن شهاب قوله: (فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ الله، فَسَارَرْتُهُ) أي: كلّمته سرًّا.
[تنبيه]: رواية صالح التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب الزكاة" من "صحيحه"، فقال:
(1478)
حدثنا محمد بن غُرَير الزهريّ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عامر بن سعد، عن أبيه، قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطًا، وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلًا، لم يعطِه، وهو أعجبهم إليّ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساررته، فقلت: ما لك عن فلان؟، والله إني لأراه مؤمنًا، قال:"أو مسلمًا"، قال: فسكتّ قليلًا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، قال:"أو مسلمًا"، قال: فسكت قليلًا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يا رسول الله، ما لك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنًا، قال:"أو مسلمًا"، يعني فقال:"إني لأعطي الرجل، وغيره أحب إلي منه، خشيةَ أن يُكَبَّ في النار على وجهه"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[388]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا الْحَسَنُ الْحُلْوَانيُّ، حَدَّثنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سَعْدٍ، يُحَدِّثُ هَذَا، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي، ثُمَّ قَالَ: "أَقِتَالًا، أَيْ سَعْدُ؟ إِنِّي لَأُعْطي الرَّجُلَ").
(1)
"الفتح" 3/ 399 - 400 "كتاب الزكاة" رقم (1478).
رجال هذا الإسناد: سبعة، كلهم تقدّموا في السند الماضي، غير اثنين، هما:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن سعد بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو محمد المدنيّ، ثقة حجة [4].
رَوَى عن أنس، وأبيه محمد، وعمَّيْهِ: عامر ومصعب، وحمزة بن المغيرة، وحميد بن عبد الرحمن، وجماعة.
ورَوَى عنه الزهريّ، وهو من أقرانه، وابنه أبو بكر بن إسماعيل، وصالح بن كيسان، وعبد الله بن جعفر المخزوميّ، وسليمان بن بلال، وابن عيينة، وابن جريج، ومالك، وغيرهم.
ذكره معاوية بن صالح، عن يحيى بن معين في تابعي أهل المدينة ومحدثيهم، وقال ابن سعد: ثقة، وله أحاديث، وقال ابن عيينة: كان إسماعيل بن محمد من أرفع هؤلاء، وقال ابن المديني: من كبار رجال ابن عيينة، وهو قديم لم يلقَه شعبة، ولا الثوريّ، وقال ابن معين: ثقة حجة، وقال العجليّ، وأبو حاتم، والنسائيّ، وابن خِرَاش: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال عمرو بن علي وغيره: مات سنة (134).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط: هذا برقم (150)، وأعاده في "الزكاة"، وحديث (274): "قد أصبتم، يغبطهم أن صلوا
…
"، و (582): "يسلّم عن يمينه، وعن يساره
…
"، و (966): "الحدوا لي لحدًا
…
"، و (1352): "مكث المهاجر بمكة بعد
…
"، و (1364): "معاذ الله أن أردّ شيئًا
…
".
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ) بن أبي وقّاص القرشيّ الزهريّ، أبو القاسم المدنيّ، نزيل الكوفة، كان يُلقّب: ظلّ الشيطان؛ لقصره، ثقة [3].
أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورَوَى عن أبيه، وعثمان، وأبي الدرداء.
ورَوَى عنه ابناه: إسماعيل، وإبراهيم، وأبو إسحاق السبيعيّ، ويونس بن جبير، ويوسف بن الحكم الثقفي، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وإسماعيل بن أبي خالد، وخالد بن أبي مالك، وأبو ظَبْيان، حُصَين بن جندب، وغيرهم.
قال الزبير بن بكار: قتله الحجَّاج، وقال العجليّ: تابعيٌّ ثقةٌ، وقال ابن
سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، ليست بالكثيرة، وكان قد خَرَج مع ابن الأشعث، وشَهِدَ دَيْرَ الجماجم، فأُتِي به الحجَّاج فقتله، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط: هذا برقم (150)، وأعاده في "الزكاة"، و (1086): "الشهر هكذا، وهكذا
…
"، وأعاده بعده، و (2258): "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا
…
"، و (2397): "ما لقيك الشيطان قط سالكًا فجًّا
…
".
وقوله: (ثُمَّ قَالَ: "أَقِتَالًا) الهمزة للاستفهام الإنكاريّ، و"قتالًا" بالتاء من القتل، وهو مفعول مطلق لعامل محذوف، أي: أتقاتلني قتالًا.
وفي رواية البخاريّ: "ثم قال: أَقْبِلْ أي سعد"، أمر من الإقبال، أو القبول، قاله في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: قوله: "أقتالًا" بالتاء المثنّاة من فوقُ، هكذا النسخ، ووقع في "الفتح" ما نصّه: ووقع عند مسلم: "إقبالًا أي سعد" على أنه مصدر، أي: أتقابلني إقبالًا بهذه المعارضة. انتهى، وهذا الذي قاله لم يقع في النسخ التي بين أيدينا؛ إذ كلها بالتاء، لا بالموحّدة، والله أعلم.
وقوله: (أَيْ سَعْدُ)"أي" حرف نداء، أي يا سعد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(73) - (بَابُ زِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِتَظَاهُرِ الأَدِلَّةِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى المذكور أول الكتاب قال:
[389]
(151) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب،
(1)
"الفتح" 3/ 401 "كتاب الزكاة" رقم (1478).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، قَالَ: وَيرْحَمُ اللهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ، لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حَرْملة بن عمران التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقة حافظٌ فقيه عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأمويّ مولاهم، أبو يزيد الأيليّ، ثقة ثبت، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المذكور في الباب الماضي.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ
(1)
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقة فقيه مكثرٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ)
(2)
بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ المدنيّ، ثقة ثبتٌ فقيه فاضلٌ، من كبار [3](ت بعد 90)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
(1)
اسمه عبد الله على المشهور، وقيل: اسمه إسماعيل، وقل: لا يعرف اسمه، قاله النوويّ في "شرحه" 2/ 185.
(2)
المسيِّب: والد سعيد بفتح الياء على المشهور الذي قاله الجمهور، ومنهم من يكسرها، وهو قول أهل المدينة، وهو الأولى، كما قدّمناه في شرح المقدّمة.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فتفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ويونس، وإن كان أيليًّا إلا أنه نزل مصر، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالفقهاء، فكلهم فقهاء أجلّاء.
5 -
(ومنها): أن فيه اثنين من الفقهاء السبعة، وهما: سعيد، وأبو سلمة.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيين.
7 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ) وفي رواية الطبريّ، من طريق عمرو بن الحارث، عن يونس، عن الزهريّ، أخبرني أبو سلمة وسعيد، كذا قال يونس بن يزيد، عن الزهريّ، ورواه مالك عن الزهري، فقال: إن سعيد بن المسيِّب، وأبا عُبيدة أخبراه عن أبي هريرة، ومن هذا الطريق أخرجه أيضًا عند البخاريّ، وتابع مالكًا أبو أويس، عن الزهريّ، أخرجه أبو عوانة من طريقه، ورجح ذلك عند النسائيّ، فاقتصر عليه، وكأنّ البخاريّ جَنَحَ إلى تصحيح الطريقين، فأخرجهما معًا، وهو نظر صحيح؛ لأن الزهريّ صاحب حديث، وهو معروف بالرواية عن هؤلاء، فلعله سمعه منهم جميعًا، ثم هو من الأحاديث التي حَدَّث بها مالك خارج "الموطأ"، واشتهر أن جويرية تفرّد به عنه، ولكن تابعه سعيد بن داود، عن مالك، أخرجه الدارقطنيّ في "غرائبه" من طريقه، أفاده في "الفتح"
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ) الضمير له صلى الله عليه وسلم، ولأمته (أَحَق بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": سقط لفظ "الشك" من بعض الروايات، و"الشكّ" في الأصل: هو التوقّف بين الأمرين من غير ترجيح النفي أو الإثبات، أي: من غير مزيّة لأحد الأمرين على الآخر.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 473 - 474 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3372).
[تنبيه]: اختَلَفَ العلماء في معنى "نحن أحقّ بالشك من إبراهيم" على أقوال كثيرة، قال الحاقظ أبو عوانة في "مسنده" بعد إخراجه، ما نصّه: سمعت أبا حاتم الرازيّ يقول: يعني نحن أحقّ بالمسألة، وسمعتُ القاضي إسماعيل يقول: كان يعلم بقلبه أن الله يحيي الموتى، ولكنه أحبّ أن يرى معاينة. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث، ما نصّه: قال أبو حاتم: قوله: "نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم" لم يُرد به إحياء الموتى، إنما أراد به في استجابة الدعاء له، وذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ولم يتيقّن أنه يُستجاب له فيه، يريد في دعائه، وسؤاله ربَّه عمّا سأل، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم" به في الدعاء؛ لأنا إذا دعونا، ربّما يُستجاب لنا، وربّما لا يُستجاب، ومحصول هذا الكلام أنه لفظةُ إخبار، مرادها التعليم للمخاطب له. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله في "شرحه": اختلف العلماء في معنى "نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم" على أقوال كثيرة، أحسنُها وأصحُّها ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزنيّ، صاحب الشافعيّ، وجماعات من العلماء:
قال: معناه: إن الشك مستحيل في حق إبراهيم عليه السلام، فإن الشك في إحياء الموتى، لو كان متطرقًا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحقّ به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشكّ، فاعلموا أن إبراهيم، لم يشكّ.
وإنما خَصّ إبراهيم؛ لكون الآية قد يَسْبِق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشكّ.
وإنما رَجَّح إبراهيمَ على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعًا وأدبًا، أو قبل أن يَعْلَم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم.
قال صاحب "التحرير": قال جماعة من العلماء: لَمّا نزل قول الله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260] قالت طائفة: شَكَّ إبراهيم، ولم يَشُكَّ نبيّنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"نحن أحقّ بالشك منه"، فذكر نحو ما قدمته، ثم قال: ويقع لي فيه معنيان:
(1)
راجع: "مسند أبي عوانة" 1/ 78 - 79 رقم (232).
(2)
راجع: "الإحسان" 14/ 89 - 90 رقم (6208).
[أحدهما]: أنه خَرَج مخرج العادة في الخطاب، فإن مَن أراد المدافعة عن إنسان، قال للمتكلم فيه: ما كنتَ قائلًا لفلان، أو فاعلًا معه من مكروه، فقله لي، وافعله معي، ومقصوده: لا تقل ذلك فيه.
[والثاني]: أن معناه أن هذا الذي تظنونه شكًّا أنا أولى به، فإنه ليس بشكّ، وإنما هو طلب لمزيد اليقين. وقيل غير هذا من الأقوال، فنقتصر على هذه؛ لكونها أصحها وأوضحها، والله أعلم.
وقال في "الفتح": اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحقّ بالشك"، فقال بعضهم: معناه نحن أشدُّ اشتياقًا إلى رؤية ذلك من إبراهيم.
وقيل: معناه إذا لم نَشُكّ نحن، فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي: لو كان الشكّ متطرقًا إلى الأنبياء، لكنت أنا أحقّ به منهم، وقد علمتم أني لم أشُكّ، فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم، أو مِنْ قَبْلِ أن يُعْلِمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه عند مسلم أن رجلًا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية، قال:"ذاك إبراهيم". وقيل: إن سبب هذا الحديث أن الآية لَمّا نَزَلت قال بعض الناس: شكّ إبراهيم، ولم يشك نبيّنا، فبلغه ذلك، فقال:"نحن أحقّ بالشك من إبراهيم"، وأراد ما جَرَت به العادة في المخاطبة، لمن أراد أن يَدْفَع عن آخر شيئًا، قال: مهما أردت أن تقوله لفلان، فقله لي، ومقصوده: لا تقل ذلك.
وقيل: أراد بقوله: "نحن" أمته الذين يجوز عليهم الشك، وإخراجه هو منه بدلالة العصمة. وقيل: معناه: هذا الذي تَرَون أنه شكٌّ أنا أولى به؛ لأنه ليس بشكّ، إنما هو طلب لمزيد البيان.
وحَكَى بعض علماء العربية أن أفعل ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين، نحو قوله تعالى:{أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} الآية [الدخان: 37]، أي: لا خير في الفريقين، ونحوُ قول القائل: الشيطان خير من فلان، أي: لا خير فيهما، فعلى هذا، فمعنى قوله:"نحن أحق بالشك من إبراهيم": لا شكَّ عندنا جميعًا.
وقال ابن عطية: ترجم الطبري في تفسيره، فقال: وقال آخرون: شكّ إبراهيم في القدرة، وذكر أثر ابن عباس وعطاء، قال ابن عطية: ومَحْمِل قول
ابن عباس عندي أنها أرجى آية؛ لِمَا فيها من الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا، أو لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال، ولا يحتاج إلى تنقير وبحث، قال: ومَحْمِل قول عطاء: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يَدْخُل قلوب الناس، أي: من طلب المعاينة.
قال: وأما الحديث فمبنيٌّ على نفي الشك، والمراد بالشك فيه الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح، وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحدهما على الآخر، فهو منفيّ عن الخليل قطعًا؛ لأنه يَبْعُد وقوعه ممن رَسَخَ الإيمان في قلبه، فكيف بمن بلغ رتبة النبوة؟ قال: وأيضًا فإن السؤال لَمّا وَقَع بـ "كيف" دَلّ على حال شيء موجود مُقَرَّر عند السائل والمسئول، كما تقول: كيف علم فلان؟، فـ "كيف" في الآية سؤال عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرَّرٌ.
وقال ابن الجوزيّ: إنما صار أحقّ من إبراهيم؛ لِمَا عانى من تكذيب قومه، وردّهم عليه، وتعجبهم من أمر البعث، فقال: أنا أحقّ أن أسأل ما سأل إبراهيم؛ لعظيم ما جَرَى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يترجّح عندي من هذه الأقوال قول من قال: إن هذا الكلام من باب الدفاع عن إبراهيم عليه السلام، فهو كقول القائل عند مدافعته عن شخص دفاعًا شديدًا: مهما أردت أن تقوله لفلان، فقله لي، ومقصوده بذلك: لا تقل هذا فيه، فإنه بريء غاية البراءة، والله تعالى أعلم بالصواب.
(إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]"كيف" اسم استفهام، سؤال عن الحال، والجملة في محلّ نصب مفعول ثانٍ لـ"أرني".
[تنبيه]: ذكر العلماء رحمهم الله تعالى في سبب سؤال إبراهيم؛ هذا السؤال أوجهًا، أظهرها أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدةً بعد العلم بها استدلالًا، فإن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة، بخلاف
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 474 - 475 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3372).
علم المعاينة، فإنه ضروريّ، وهذا مذهب الإمام أبي منصور الأزهريّ وغيره.
والثاني: أراد اختبار منزلته عند ربه في إجابة دعائه، وعلى هذا قالوا: معنى قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة: 260] أي: تُصَدِّق بعِظَم منزلتك عندي، واصطفائك وخُلَّتك.
والثالث: سأل زيادة يقين، وإن لم يكن الأول شكًّا، فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن بين العِلْمَين تفاوتًا، قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: سأل كشف غطاء العيان؛ ليزداد بنور اليقين تمكنًا.
الرابع: أنه لما احتَجَّ على المشركين بأن ربه سبحانه وتعالى يحيي ويميت، طلب ذلك منه سبحانه وتعالى؛ ليظهر دليله عيانًا. وقيل أقوال أُخَرُ كثيرة ليست بظاهرة.
قال الإمام أبو الحسن الواحديّ رحمه الله: اختلفوا في سبب سؤاله، فالأكثرون على أنه رأى جِيفَةً بساحل البحر، يتناولها السباع، والطير، ودوابُّ البحر، فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يُحييه ربه، ولم يكن شاكًّا في إحياء الموتى، ولكن أحبّ رؤية ذلك، كما أن المؤمنين يحبُّون أن يروا النبيّ صلى الله عليه وسلم، والجنة، ويحبون رؤية الله تعالى، مع الإيمان بكل ذلك، وزوال الشكوك عنه، ذكر ذلك كله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": واختلف السلف في المراد بالشك هنا، فحمله بعضهم على ظاهره، وقال: كان ذلك قبل النبوة، وحمله أيضًا الطبريّ على ظاهره، وجعل سببه حصول وسوسة الشيطان، لكنها لم تَسْتَقِرَّ، ولا زلزلت الإيمان الثابت.
واستند في ذلك إلى ما أخرجه هو، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والحاكم، من طريق عبد العزيز الماجشون، عن محمد بن المنكدر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: أرجى آية في القرآن هذه الآية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، قال ابن عباس: هذا لِمَا يَعْرِض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله من إبراهيم؛ بأن قال:{بَلَى} . ومن طريق معمر، عن قتادة، عن ابن عباس، نحوه، ومن طريق عليّ بن زيد،
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 183 - 184.
عن سعيد بن المسيِّب، عن ابن عباس، نحوه، وهذه طُرُقٌ يَشُدُّ بعضها بعضًا.
وإلى ذلك جَنَحَ عطاءٌ، فرَوَى ابن أبي حاتم، من طريق ابن جريج: سألت عطاء عن هذه الآية، قال: دَخَلَ قلب إبراهيم؛ بعضُ ما يدخل قلوب الناس، فقال ذلك، ورَوَى الطبري من طريق سعيد، عن قتادة، قال: ذُكِر لنا أن إبراهيم أَتَى على دابة، تَوَزَّعتها الدوابُّ والسباع، ومن طريق حَجّاج، عن ابن جريج، قال: بلغني أن إبراهيم أَتَى على جيفة حمار، عليه السباع والطير، فعَجِبَ، وقال: رب لقد علمتُ لتجمعنَّها، ولكن رب أرني كيف تحيي الموتى.
وذهب آخرون إلى تأويل ذلك، فرَوَى الطبريّ، وابن أبي حاتم، من طريق السُّدّيّ، قال: لَمّا اتخذ الله إبراهيم خليلًا، استأذنه ملك الموت أن يُبَشِّره، فأَذِن له، فذكر قصةً معه في كيفية قبض روح الكافر والمؤمن، قال: فقام إبراهيم يدعو ربه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] حتى أعلمَ أني خليلك.
ورَوَى ابن أبي حاتم، من طريق أبي العَوّام، عن أبي سعيد، قال: ليطمئن قلبي بالخُلَّة، ومن طريق قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير، قال: ليطمئن قلبي أني خليلك، ومن طريق الضحاك عن ابن عباس: لأعلم أنك أجبت دعائي، ومن طريق عليّ بن أبي طلحة عنه: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وإلى هذا الأخير جَنَحَ القاضي أبو بكر الباقلاني.
وحكى ابن التين عن الداوديّ الشارح أنه قال: طَلَب إبراهيم ذلك؛ لتذهب عنه شدّة الخوف، قال ابن التين: وليس ذلك بالبَيِّن.
وقيل: كان سبب ذلك أن نُمرود لَمّا قال له: ما ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت، فذكر ما قَصَّ الله، مما جَرَى بينهما، فسأل إبراهيم بعد ذلك ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى من غير شكّ منه في القدرة، ولكن أحبَّ ذلك، واشتاق إليه، فأراد أن يطمئن قلبه بحصول ما أراده، أخرجه الطبري عن ابن إسحاق.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: المراد ليطمئن قلبي أنهم يعلمون أنك تحيي الموتى.
وقيل: معناه أقدرني على إحياء الموتى، فتأدَّب في السؤال.
وقال ابن الحصار: إنما سأل أن يُحيي الله الموتى على يديه، فلهذا قيل له في الجواب:{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة: 260].
وحَكَى ابنُ التين عن بعض من لا تحصيل عنده أنه أراد بقوله: {قَلْبِي} رجلًا صالحًا، كان يَصحبه، سأله عن ذلك.
وأبعدُ منه ما حكاه القرطبيّ المفسر عن بعض الصوفية، أنه سأل من ربه أن يريه كيف يحيي القلوب.
وقيل: أراد طمأنينة النفس بكثرة الأدلة.
وقيل: محبة المراجعة في السؤال. انتهى
(1)
.
({قَالَ}) عز وجل ({أَوَلَمْ تُؤْمِنْ}) الهمزة للاستفهام التقريريّ
(2)
، ووجهه أنه طلب الكيفية، وهو مشعر بالتصديق بالإحياء، قاله في "الفتح"
(3)
، وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: الهمزة في قوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} همزة إثبات، كقول جرير [من الوافر]:
أَلَسْتمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا
…
وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
(4)
ومفعول "تؤمن" محذوفٌ، أي: أَوَ لم تؤمن بالإحياء؟ أو: أوَ لم تؤمن بكفيّته؟
({قَالَ}) إبراهيم عليه السلام ({بَلَى}) هي حرف جواب تختصّ بالنفي، وتفيد إبطاله، أي أنا مؤمن، وأجرى النحويّون النفي مع التقريريّ مجرى النفي المجرّد في ردّه بـ "بلى"، ولذلك رُوي ابن عبّاس رضي الله عنه وغيره في تفسير قول عز وجل:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} الآية [الأعراف: 172]: لو قالوا: نعم لكفروا، ووجهه أن "نعم" تصديق للخبر بنفي أو إيجاب
(5)
.
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]) علّة لمحذوف، تقديره: ولكن أطلُب الرؤيا ليطمئن قلبي، أي: ليزيد سكونًا بالمشاهدة المنضمة إلى اعتقاد القلب؛ لأن تظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وكأنه قال: أنا مصدِّق، ولكن للعيان لطيف
(1)
"الفتح" 6/ 474 - 475.
(2)
الاستفهام التقريريّ هو: حمل المخاطب على الإقرار بمضمون الجملة إثباتًا أو نفيًا، والمعنى هنا: أَقِرّ بأنك مؤمن. اهـ. "فتح المنعم" 1/ 480.
(3)
"الفتح" 6/ 475.
(4)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 184.
(5)
"فتح المنعم" 1/ 480.
معنى، وقال عياض: لم يشكّ إبراهيم بأن الله يحيي الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته.
ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين، وإن لم يكن في الأول شكّ؛ لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها، فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَيَرْحَمُ اللهُ لُوطًا) جملة خبريّة لفظًا، إنشائيّة معنًى؛ لأن المراد بها الدعاء له بالرحمة.
و"لوط" عليه السلام من المرسلين، ذكر الله سبحانه وتعالى قصّته في قوله:{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133)} الآيات [الصافات: 133]، وغيرها من الآيات.
يقال: إنه لوط بن هاران بن تارخ، وهو ابن أخي إبراهيم عليه السلام، وقد قَصّ الله تعالى قصته مع قومه في "الأعراف"، و"هود"، و"الشعراء"، و"النمل"، و"الصافات"، وغيرها.
وفي رواية البخاريّ: "يغفر الله للوط، إِنْ كان لَيأوِي إلى ركن شديد".
وحاصل قصّته أن قومه؛ ابتدعوا وطء الذكور، فدعاهم لوط عليه السلام إلى التوحيد، وإلى الإقلاع عن الفاحشة، فأصَرُّوا على الامتناع، ولم يتفق أن يساعده منهم أحدٌ، وكانت مدائنهم تُسَمَّى سَدُوم، وهي بغور زغر، من البلاد الشامية، فلما أراد الله إهلاكهم، بَعَثَ جبريل وميكائيل وإسرافيل إلى إبراهيم، فاستضافوه، فكان ما قَصّ الله في سورة هود، ثم توجهوا إلى لوط، فاستضافوه، فخاف عليهم من قومه، وأراد أن يُخْفِي عليهم خبرهم، فنَمَّت عليهم امرأته، فجاءوا إليه، وعاتبوه على كتمانه أمرهم، وظَنُّوا أنهم ظَفِرُوا بهم، فأهلكهم الله على يد جبريل، فقَلَبَ مدائنهم، بعد أن خرج عنهم لوط بأهل بيته، إلا امرأته، فإنها تأخرت مع قومها، أو خَرَجت مع لوط، فأدركها العذاب، فقلب جبريل المدائن بطرف جناحه، فصار عاليها سافلها، وصار مكانها بُحَيرة منتنة، لا يُنتَفَع بمائها، ولا بشيء مما حولها.
(لَقَدْ كانَ يَأْوِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: أوى إلى منزله يأوي، من باب ضَرَبَ أُويًّا: أقام، وربّما عُدِّي بنفسه، فقيل: أوى منزلَهُ، والمَأْوَى - بفتح
الواو - لكلّ حيوان مسكنه، وسُمع مَأْوِي الإبل بالكسر شاذًّا، ولا نظير له في المعتلّ، وبالفتح على القياس، قاله الفيّوميّ
(1)
. (إِلَي رُكْنٍ شَدِيدٍ) قال ابن الأثير رحمه الله: أي: إلى الله تعالى الذي هو أشدّ الأركان وأقواها، وإنما ترحّم عليه؛ لسهوه حين ضاق صدره من قومه حتى قال:{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أراد عزَّ العشيرة الذين يُستند إليهم كما يُستنَدُ إلى الركن من الحائط. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالركن الشديد هو الله - سبحانه تعالى -، فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها، ومعنى الحديث - والله أعلم - أن: لوطًا عليه السلام لَمّا خاف على أضيافه، ولم يكن له عَشِيرة تمنعهم من الظالمين، ضاق ذَرْعُهُ، واشتد حزنه عليهم، فغلب ذلك عليه، فقال في تلك الحال: لو أن لي بكم قوةً في الدفع بنفسي، أو آوي إلى عشيرة تمنع، لمنعتكم، وقصد لوط عليه السلام إظهار العذر عند أضيافه، وأنه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريقٍ ما لفعله، وأنه بَذَلَ وسعه في إكرامهم، والمدافعة عنهم، ولم يكن ذلك إعراضًا منه؛ عن الاعتماد على الله تعالى، وإنما هو لِمَا ذكرناه، من تطييب قلوب الأضياف.
ويجوز أن يكون نسي الالتجاء إلى الله تعالى في حمايتهم، ويجوز أن يكون التجأ فيما بينه وبين الله تعالى، وأظهر للأضياف التألمّ، وضيق الصدر، والله أعلم. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} : أي: إلى الله - سبحانة وتعالي -، يشير صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى:{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)} [هود: 80]، ويقال: إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه؛ لأنهم من سَدُوم، وهي من الشام، وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق، فلما هاجر إبراهيم إلى الشام، هاجر معه لوط، فبعث الله لوطًا إلى أهل سدوم، فقال: لو أن لي مَنَعَةً، وأقاربَ، وعشيرةً، لكنت أستنصر بهم عليكم؛ ليدفعوا عن ضِيفاني، ولهذا جاء في بعض طرق هذا الحديث، كما أخرجه أحمد من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 32.
(2)
"النهاية" 2/ 260.
(3)
"شرح النووي" 2/ 185.
"قال لوطٌ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] قال: فإنه كان يأوي إلى ركن شديدٍ، ولكنه عَنَى عشيرته، فما بَعَثَ الله نبيًّا إلا في ذِرْوَة من قومه"، زاد ابن مردويه، من هذا الوجه:"ألم تر إلى قول قوم شعيب: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91]؟ ".
وقيل: معنى قوله: "لقد كان يأوي إلى ركن شديد" أي: إلى عشيرته، لكنه لم يأوِ إليهم، وأوى إلى الله. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: والأول أظهر؛ لما بيّناه، وقال النووي رحمه الله: يجوز أنه لَمّا اندَهَشَ بحال الأضياف، قال ذلك، أو أنه التجأ إلى الله في باطنه، وأظهر هذا القول للأضياف؛ اعتذارًا، وَسُمّيَت العشيرةُ ركنًا؟؛ لأن الركن يُستَنَد إليه، ويُمْتَنَع به، فشبّههم بالركن من الجبل؛ لشدّتهم، ومنْعَتهم.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله النوويّ رحمه الله أقرب التوجيهات لهذه الآية الكريمة.
وحاصله أن لوطًا؛ قال هذا الكلام من باب إظهار العذر لأضيافه في عدم معاقبة قومه لَمّا أرادوا بهم سوءًا، فهو في الحقيقة آوٍ إلى ربه في كلّ حال، ولكنه أراد إظهار ضعف مقاومته لقومه لَمّا أرادوا الاعتداء على أضيافه؛ لعدم عشيرته الذين يستنصر بهم عادةً إذا نابه مثل هذا الاعتداء، فأظهر للأضياف ذلك العذر حتى يَعذِرُوه، والله تعالى أعلم بالصواب.
(ولو لبثت) بكسر الموحّدة، يقال: لَبِث بالمكان لَبَثًا، من باب تَعِبَ، وجاء في المصدر السكون للتخفيف، واللَّبْثَةُ بالفتح: المرّة، وبالكسر: الهيئة والنوع، والاسمُ: اللُّبْثُ بالضمّ، واللَّبَاثُ بالفتح، وتَلَبَّثَ بمعناه، وَيتَعَدَّى بالهمز والتضعيف، فيقال: ألبثته، ولَبَّثته، قاله الفيّوميّ
(1)
. (فِي السِّجْنِ) - بكسر، فسكون - أي: الحبس، والجمع سُجُون، مثلُ حِمْلٍ وحُمُول، قاله الفيّوميّ
(2)
، ويحتمل أن يكون المراد به مكان الحبس، قال المجد:"السِّجْنُ" بالكسر: المَحْبِسُ. انتهى
(3)
. (طُولَ لَبْثِ) بفتحتين، أو بفتح اللام، وضمّها،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 547 - 548.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 267.
(3)
"القاموس المحيط " ص 1085.
وسكون الموحّدة، و"طُولَ" منصوب على أنه مفعول مطلق لـ"لَبْثت" (يُوسُفَ؛ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيِ) أي: لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن، ولَمَا قَدَّمتُ طلب البراءة، فوصفه بشدة الصبر، حيث لم يبادر بالخروج، وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تواضعًا، والتواضع لا يَحُطُّ مرتبة الكبير، بل يزيده رِفْعَةً وجلالًا.
وقيل: هو من جنس قوله: "لا تُفَضِّلوني على يونس"، وقد قيل: إنه قاله قبل أن يَعْلَم أنه أفضل من الجميع
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو لبثتُ في السجن
…
" إلخ فهو ثناء على يوسف عليه السلام، وبيان لصبره، وتأنِّيه، والمراد بالداعي: رسول الملِكِ الذي أخبر الله - سبحانة وتعالي - أنه قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} [يوسف: 50]، فلم يَخرج يوسف عليه السلام مبادرًا إلى الراحة، ومفارقةً للسجن الطويل، بل تثبّت، وتوقّر، وراسل الملك في كشف أمره الذي سُجِن بسببه، ولتَظْهَر براءته عند الملك وغيره، ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه، ولا خَجَلَ من يوسف ولا غيره، فبَيَّن نبيُّنا صلى الله عليه وسلم فضيلةَ يوسفَ؛ في هذا، وقُوَّة نفسه في الخير، وكمال صبره، وحسن نظره، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن نفسه، ما قاله تواضعًا، وإيثارًا للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف عليه السلام، والله تعالى أعلم. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[73/ 389 و 390 و 391](151)، وفي "الفضائل"(151)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3372 و 3387)، و"التفسير"(4537 و 4694)، و"التعبير"(6992)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4026)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 322 - 326 - 350)، و (النسائيّ) في
(1)
"الفتح" 6/ 475 - 476 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3372).
"التفسير" من "الكبرى"(11050 و 11253)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(230 و 231)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(380 و 381 و 382 و 11050 و 11253)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6206 و 6207 و 6208)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(5974)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(63)، و"معالم التنزيل"(1/ 247 - 248)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(326)، و (ابن منده) في "الإيمان"(369 و 370 و 371)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 507)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة؛ إذ العيان يفيد من المعرفة ما لا يفيده الاستدلال، فإبراهيم؛ طلب عين اليقين بعد أن تحقّق له علم اليقين، فإن العلم ثلاث مراتب:
1 -
علم اليقين، وهو ما يحصل بالاستدلال.
2 -
وعين اليقين، وهو ما يحصل بالمعاينة والمشاهدة.
3 -
وحقّ اليقين، وهو ما يحصل باللقاء والملامسة.
فمثلًا من رأى شخصًا من بعيد، فشهد عنده عدول لا يشكّ فيهم بأنه فلان، فقد حصل له علم اليقين، فإذا اقترب منه، وشاهده، وكلّمه، فقد حصل له عين اليقين، فإذا سلم عليه، وصافحه بيده، فقد حصل له حقّ اليقين، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): بيان زيادة الإيمان ونقصه.
3 -
(ومنها): مشروعيّة الدفاع عن المسلم؛ فإن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - دافع عن تطرّق الشكّ إلى إبراهيم عليه السلام، حيث إن بعضهم قال: شكّ إبراهيم، ولم يشكّ نبينا صلى الله عليه وسلم، على ما قيل.
4 -
(ومنها): إظهار وصف فضل أهل الفضل للناس، فإن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - وصف يوسف عليه السلام بالصبر والأناة، حيث لم يبادر بالخروج من السجن الطويل، بل قال لرسول الملك:{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50].
5 -
(ومنها): بيان تواضع النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، وهضم نفسه، حيث قال: "لأجبت
الداعي"، فإن هذا إنما قاله تواضعًا، لا أنه كان فيه مبادرة وعَجَلة لو كان مكان يوسف عليه السلام، والتواضع لا يصغّر كبيرًا، ولا يَضَعُ رفيعًا، ولا يُبطل لذي حقّ حقًّا، بل يوجب لصاحبه فضلًا، ويُكسبه جلالة وقدرًا.
6 -
(ومنها): أنه إذا اتُّهم المسلمُ بشيءٍ ما، ثم ظهرت براءته منه، ينبغي له أن يُظهِر للناس تلك البراءة، كما طلب يوسف عليه السلام ذلك، وفضّله على راحة نفسه بالخروج من السجن مع مشقّته، ولكنه فضّل إظهار نزاهته لدى جماهير الناس؛ لأنه قد أشيع بينهم اتّهامه بما هو بريء منه، فأراد؛ أن يعلم الجميع براءته، كما وقر في نفوسهم ضدّها، فهكذا ينبغي للعبد أن يبرّئ ساحته، ويزيل الشكوك من قلوب الناس؛ اقتداءً بهذا النبيّ الكريم عليه السلام، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[390]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي بِهِ - إِنْ شَاءَ اللهُ - عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِي، حَدَّثَنَا جُويرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّب، وَأَبَا عُبَيْدٍ، أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيّ، وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذه الْآيةَ حَتى جَازَهَا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة - أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
[تنبيه]: قوله: (وَحَدَّثَني بِهِ - إِنْ شَاءَ اللهُ -
…
إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هذا مما قد يُنكِره على مسلم من لا علم عنده، ولا خِبْرَة لديه؛ لكون مسلم رحمه الله قال:"وحدثني به، إن شاء الله تعالى"، فيقول: كيف يحتجّ بشيء يَشُكّ فيه؟ وهذا خَيَالٌ باطلٌ من قائله؛ فإن مسلمًا رحمه الله، لم يَحْتَجَّ بهذا الإسناد، وإنما ذَكَره متابعةً واستشهادًا، وقد قَدَّمنا أنهم يَحتملون في المتابعات والشواهد، ما لا
يحتملون في الأصول، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ، وسيأتي أن الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" شارك المصنّف في روايته عن شيخ المصنّف عبد الله بن محمد بن أسماء هذا، دون شكّ، فالحديث عنه ثابتٌ صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
2 -
(جُويرِيَةُ) بن أسماء بن عُبيد بن مُخَارق الضُّبَعيّ، ويقال: مِخْرَاق، أبو مُخارق، ويقال: أبو أسماء البصريّ، صدوقٌ [7].
رَوَى عن أبيه، ونافع، والزهريّ، وبُدَيح مولى عبد الله بن جعفر، ومالك بن أنس، وهو من أقرانه، وغيرهم.
ورَوَى عنه حَبّان بن هلال، وحجاج بن منهال، وابن أخته سعيد بن عامر الضُّبَعيّ، وابن أخيه عبد الله بن محمد بن أسماء، وأبو عبد الرحمن المقرئ، وأبو سلمة، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، ومسدد، وأبو الوليد، وغيرهم.
قال ابن معين: ليس به بأس، وقال أحمد: ثقة، ليس به بأس، وقال أبو حاتم: صالح، وقال ابن سعد: كان صاحب علم كثير، وذكره ابن المدينيّ في الطبقة السابعة من أصحاب نافع.
وأَرَّخَ البخاريُّ وغيره، وفاته سنة (173) وكذلك ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
3 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
4 -
(أَبُو عُبَيْدٍ) سعد بن عبيد الزهريّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر، ويقال: مولى عبد الرحمن بن عوف، ثقة [2].
رَوَى عن عمر، وعثمان، وعليّ، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
ورَوَى عنه الزهريّ، فقال: كان من القرَّاء، وأهل الفقه، وسعيد بن خالد القارظيّ، وقال ابن حبان في "الثقات": كان من فقهاء أهل المدينة، وقال
الطبريّ: مُجْمَع على ثقته، وقال مسلم في "الكنى": كان ثقةً، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وله أحاديث، ونقل ابن خلفون توثيقه عن الذُّهْليّ، وابنِ البَرْقيّ: وقال ابن البَرْقيّ في رجال "الموطأ": أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَثْبُت له عنه رواية.
قال ابن سعد: تُوُفّي بالمدينة سنة (98).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط: هذا (151) وأعاده في "الفضائل"، و (1042): "لأن يحتزم أحدكم حزمة
…
"، و (1137): "إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما
…
"، و (1969): "نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم
…
"، وأعاده بعده، و (2735): "يستجاب لأحدكم ما لم يَعجَل
…
"، وأعاده بعده، و (2816): "لن يُدخل أحدًا منكم عملُه الجنّة
…
".
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ
…
إلخ) يعني: أن مالكًا حدّث عن الزهريّ بسنده المذكور بمثل المتن الذي رواه يونس، عن الزهريّ.
وقوله: (وَفي حَدِيثِ مَالِكٍ: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]) يعني: أن مالكًا ذكر في روايته قوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، ولم يذكر {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي} [البقرة: 260]،
…
إلخ هذا ظاهر معنى كلامه، لكن سيأتي الحديث من روايه النسائيّ بطريقين، وفيهما أنه قرأ الآية من قوله:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، ولعلّ المصنّف وقع له هكذا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذه الْآيَةَ) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون لمن دونه، وفاعل "قرأ" ضمير النبيّ - صلي الله عليه وسلم -، والله تعالى أعلم.
وقوله: (حَتَّى جَازَهَا) أي: فرغ من قراءتها، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: رواية مالك التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا، ساقها النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى"(6/ 305)، فقال:
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 186.
(11050)
أنا عمرو بن منصور، نا عبد الله بن محمد، نا جويرية، عن مالك بن أنس، عن الزهريّ، أن سعيد بن المسيّب، وأبا عبيد أخبراه، عن أبي هريرة، أن النبيّ - صلي الله عليه وسلم - قال:"رَحِمَ الله إبراهيم، نحن أحقّ بالشك منه، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، فذَكَر الآية، ويرحم الله لوطًا، كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثتُ في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبته".
وقال أيضًا (6/ 368):
(11253)
أنا العباس بن عبد العظيم، نا عبد الله بن محمد، أنا جويرية بن أسماء، عن مالك بن أنس، عن الزهريّ، أن سعيد بن المسيِّب، وأبا عبيد أخبراه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"رَحِمَ الله إبراهيم، نحن أحقّ بالشك منه، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] "، وقال:"يرحم الله لوطًا، كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبته".
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ساق النسائيّ رواية مالك مطوّلًا، ولكن الظاهر أنها ليست الرواية التي أحال عليها المصنّف؛ لمخالفتها؛ إذ قال: بمثل حديث يونس، ورواية النسائيّ بمعناها، لا بلفظها.
وقد ساق البخاريّ روايته مختصرة، فقال في "كتاب أحاديث الأنبياء":
(3387)
حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، هو ابن أخي جويرية، حدثنا جويرية بن أسماء، عن مالك، عن الزهريّ، أن سعيد بن المسيّب، وأبا عبيد أخبراه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم أتاني الداعي لأجبته".
وكذلك ساقه مختصرًا في "كتاب التعبير"، فقال:
(6992)
حدثنا عبد الله، حدثنا جويرية، عن مالك، عن الزهريّ، أن سعيد بن المسيِّب، وأبا عبيد أخبراه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم أتاني الداعي لأجبته".
فقال في "الفتح" في شرح الحديث الثاني: قوله: "لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم أتاني الداعي لأجبته" كذا أورده مختصرًا، وقد تقدم في ترجمة يوسف من أحاديث الأنبياء من هذا الوجه، وزاد فيه قصة لوط، قال: وأخرجه النسائي في "التفسير" من هذا الوجه، وزاد في أوله: "نحن أحقّ بالشك من إبراهيم
…
" الحديث.
وأخرجه مسلم من هذا الوجه، لكن قال: مثل حديث يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة بطوله، ومن طريق أبي أويس، عن الزهريّ، مثل مالك.
وأخرجه الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من طريق جويرية بطوله، أخرجوه كلهم من رواية عبد الله بن محمد بن أسماء، عن عمه جويرية بن أسماء، وذكر أن أحمد بن سعيد بن أبي مريم رواه عنه، فقال:"عن أبي سلمة"، بدل "أبي عبيدة"، ووَهِمَ فيه، فإن المحفوظ عن مالك:"وأبي عبيد"، لا "أبو سلمة"، وكذلك أخرجه من طريق سعيد بن داود، عن مالك، أن ابن شهاب حدّثه أن سعيدًا، وأبا عبيد أخبراه به.
قال: وقد وقع في بعض طرقه بأبسط من سياقه، فأخرج عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، رفعه:"لقد عَجِبتُ من يوسف، وكرمه، وصبره، حتى سئل عن البقرات العِجَاف والسّمَان، ولو كنت مكانه ما أجبته، حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عَجِبتُ منه حين أتاه الرسول، يعني: ليَخْرُج إلى الملك، فقال: ارجع إلى ربك، ولو كنت مكانه، ولبثت في السجن ما لبثَ، لأسرعت الإجابة، ولبادرت الباب، ولَمَا ابتغيتُ العذر"، وهذا مرسل، وقد وصله الطبريّ، من طريق إبراهيم بن يزيد الخُوزيّ
(1)
- بضم المعجمة والزاي - عن عمرو بن دينار، بذكر ابن عباس فيه، فذكره، وزاد:"ولولا الكلمة التي قالها، لما لبث في السجن ما لبث". انتهى
(2)
. والله تعالى
(1)
إبراهيم بن يزيد الخُوزيّ، أبو إسماعيل المكي، مولى بني أميّة، متروك الحديث، من السابعة، مات سنة (151)، قاله في "التقريب" ص 24.
(2)
راجع: "الفتح" 12/ 399 "كتاب التعبير" رقم (6992).
أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[391]
(
…
) - (حَدَّثَنَاه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، يَعْنِي: ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنا أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ، بِإِسْنَادِه، وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذهِ الْآيَةَ، حَتَّى أنجَزَهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو أُويْسٍ) هو: عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو أويس المدنيّ، ابن عمّ مالك، وصِهْره على أخته، صدوق يَهِمُ [7].
رَوَى عن الزهريّ، وابن المنكدر، وعبد الله بن دينار، وربيعة، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، والعلاء بن عبد الرحمن، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: أبو بكر، وإسماعيل، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، ومُعَلَّى بن منصور، ويونس بن محمد، والنضر بن محمد، وحسين بن محمد المروذيّ، وغيرهم.
قال أبو داود، عن أحمد: ليس به بأس، أو قال: ثقةٌ، قَدِمَ ها هنا، وزعموا
(1)
أن سماعه وسماع مالك كان شيئا واحدًا، وقال حنبل، عن أحمد: صالح، وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: صالح، ولكن حديثه ليس بذاك الجائز، وقال معاوية بن صالح، عن ابن معين: ليس بقويّ، وقال مرة: أبو أويس، وابنه ضعيفان، وقال عثمان بن سعيد، عن ابن معين: أبو أويس، وفُليح ما أقربهما، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: أبو أويس مثل فُليح، فيه ضعف، وقال مرّة عنه: صدوق، وليس بحجة، وقال إبراهيم بن الجنيد، عن ابن معين: ضعيف، وقال ابن المدينيّ: كان عند أصحابنا ضعيفًا، وقال
(1)
وذكر هذه الحكاية البزار بلفظ: كان يقال: إن سماعه من الزهريّ شبيهٌ بسماع مالك. انتهى. "تهذيب التهذيب" 2/ 367.
عمرو بن علي: فيه ضعف، وهو عندهم من أهل الصدق، وقال يعقوب بن شيبة: صدوقٌ صالح الحديث، وإلى الضعف ما هو، وقال البخاريّ: ما رَوَى من أصل كتابه فهو أصحّ، وقال النسائيّ: مدنيّ ليس بالقويّ، وقال أبو داود: صالح الحديث، وقال أبو زرعة: صالحٌ صدوقٌ، كأنه لين، وقال أبو حاتم: يُكتَب حديثه، ولا يُحْتَجّ به، وليس بالقويّ، وقال ابن عديّ: يُكْتَب حديثه، وقال الدارقطنيّ: في بعض حديثه عن الزهري شيء، وقال ابن أبي خيثمة في "تاريخه" عن ابن معين: ابن أبي أويس، وأبوه يسرقان الحديث، وقال ابن عديّ: في أحاديثه ما يَصِحّ، ويوافقه الثقات عليه، ومنها ما لا يوافقه عليه أحد، وقال الحاكم أبو أحمد: يُخَالَف في بعض حديثه، وقال الخليليّ: منهم مَن رَضِي حفظَهُ، ومنهم مَن يُضَعِّفه، وهو مقارَب الأمر، وقال ابن عبد البرّ: لا يَحكي عنه أحدٌ حرجة في دينه وأمانته، وإنما عابوه بسوء حفظه، وأنه يُخالَف في بعض حديثه، وقال الحاكم أبو عبد الله: قد نُسِب إلى كثرة الوهم، ومَحَلُّهُ عند الأئمة محلُّ مَن يُحْتَمَل عنه الوَهْمُ، ويُذكَر عنه الصحيح.
وقال ابن قانع: مات سنة تسع وستين ومائة، وكذا حكاه القَرّاب في "تاريخه" بإسناده عن البخاريّ، وكذا ذكره البخاريّ في "التاريخ الأوسط" مقرونًا بنافع بن عمر الجُمَحيّ.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا (151)، و (395) حديث: "قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين
…
".
والباقون تقدَّموا قريبًا، فعبد بن حميد، ويعقوب بن إبراهيم تقدّما في الباب الماضي، والزهريّ في السند الماضي.
وقوله: (كَرِوَايَةِ مَالِكٍ، بِإِسْنَادِهِ) يعني: أن رواية أبي أويس مثل رواية مالك السابقة، غير أنه قال بدل قول مالك:"ثم قرأ هذه الآية حتى جازها": (وَقَالَ: ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، حَتَّى أنجَزَهَا)، ومعنى "أنجزها": أتمّ قراءتها.
[تنبيه]: رواية أبي أويس هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله، ساقها الحافظ ابن منده في "كتاب الإيمان"(1/ 486)، فقال:
(371)
أنبأ أحمد بن محمد بن إبراهيم، ثنا محمد بن النعمان بن بشير، ثنا ابن أبي أويس (ح) وأنبأ حسان بن محمد، ومحمد بن يعقوب، قالا: ثنا
محمد بن إسحاق الثَّقَفيّ، ثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهريّ، ثنا عمِّي، يعقوب بن إبراهيم قالا: ثنا أبو أويس، عن ابن شهاب الزهريّ، أن سعيد بن المسيِّب، وأبا عبيد أخبراه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يرحم الله إبراهيم، نحن أحقّ بالشك منه، قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] "، ثم قرأ هذه الآية حتى أنجزها، ثم قال:"رحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت"، لفظ ابن أبي أويس. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(74) - (بَابُ بَيَانِ كَوْنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ هُوَ الْمُعْجِزَةَ الْكُبْرَى، وَكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكثَرَ الأنبِيَاءِ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[392]
(152) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنَ الأنبِيَاء، مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتيتُ وَحْيًا، أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أكثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(لَيْث) هو: ابن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبت فقية إمام مشهور [7](175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(سَعِيدُ بْن أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ، تغيّر قبل موته بأربع سنين [3](ت في حدود 120) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(أَبُوهُ) هو: كيسان، أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، مولى أمّ شَرِيك، ويقال: هو الذي يقال له: صاحب العباء، ثقة ثبتٌ [2].
رَوَى عن عمر، وعلي، وعبد الله بن سلام، وأسامة بن زيد، وأبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وأبي هريرة، وأبي شريح الخزاعي، وأبي سعيد الخدري، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن وديعة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه سعيد، وابن ابنه عبد الله بن سعيد، وعمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، وأبو الغصن، ثابت بن قيس، وعبد الملك بن نوفل بن مُساحق، وأبو صخر، حميد بن زياد.
ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة. وقال الواقدي: كان ثقة كثير الحديث، توفي سنة مائة. وقال ابن سعد: توفي في خلافة الوليد بن عبد الملك. وقال النسائي: لا بأس به. وقال إبراهيم الحربي: كان ينزل المقابر، فسمِّي بذلك. وقيل: إن عمر جعله على حَفْرِ القبور، فسمّي المقبري، وجعل نُعيمًا على إجمار المسجد، فسمّي المجمر. قال الحافظ: هذا بعيد من الصواب، وما أظن نعيمًا أدرك عمر.
وقال البخاري في "صحيحه": قال إسماعيل بن أبي أويس: إنما سُمِّي المقبري؛ لأنه كان ينزل ناحية المقابر، وزعم الطحاوي في "بيان المشكل" أنه مات سنة خمس وعشرين ومائة، وهو وَهَمٌ منه، فإن ذلك تاريخ وفاة ابنه سعيد، وحاول الطحاوي بذلك إنكار سماعه من أبي رافع، ومن الحسن بن علي، ولا إنكار في ذلك؛ لأن البخاري قد جزم بأن أبا سعيد سمع من عمر، ولو صح ما قال الطحاوي، لكان عمر أبي سعيد أكثر من مائة وعشر سنين، وهذا لم يقله أحد، وقد صرح أبو داود في روايته لحديث أبي سعيد، عن أبي رافع بالسماع.
وفرّق ابن حبان في "الثقات" بين كيسان صاحب العباء الذي رَوَى عن عمر، وعنه أبو صخر، وبين كيسان مولى أم شريك، يكنّى أبا سعيد، وهو المعروف بالمقبري؛ لأن منزله كان بالقرب من المقابر، فالله أعلم.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبَغْلانيّ، وليث، فمصريّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، سعيد، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن أبا سعيد هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وقد عرفت جملة ما روى له المصنّف آنفًا.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ (عَنْ أَبِيهِ) هو أبو سعيد المقبريّ، كيسان، وقد سمع سعيد المقبريّ الكثير من أبي هريرة رضي الله عنه، وسمع من أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووقع الأمران في "الصحيحين"، وهو دالّ على تثبت سعيد، وتحرّيه
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ("مَا) نافية (مِنَ الْأَنْبِيَاءِ) بيان مقدّم لـ "نبيّ"، فهو متعلّق بحال مقدّر، أي حال كونه كائنًا من الأنبياء (مِنْ نَبِيٍّ) "من" زائدة كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرْ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرْ"
والمراد به النبيّ الذي أوحي إليه بتبليغ الرسالة؛ لأنه الذي يدعو للإيمان، فقوله:"نبيّ" مبتد (خبره جملة قوله: (إِلَّا قَدْ أُعْطِيَ) بالبناء للمفعول (مِنَ الْآيَاتِ) أي: المعجزات الخوارق للعادات، وهو دالّ على أن النبي لا بدَّ له من معجزة، تقتضي إيمان مَن شاهدها بصدقه، ولا يضرّه مَن أَصَرّ على
(1)
"الفتح" 8/ 621.
المعاندة، فقوله:"من الآيات" إعرابه كإعراب "من الأنبياء"، فهو بيان مقدّم لـ "ما" من قوله:(مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ)"ما" موصولةٌ وقَعت مفعولًا ثانيًا لـ "أُعطِي"، والأول هو النائب عن الفاعل، وهو ضمير "نبيّ"، و"مثلُهُ" مبتدأ، و"آمن" خبره، و"المثلُ" يُطْلَق ويراد به عين الشيء، وما يساويه، والمعنى: أنّ كلَّ نبي أُعطِي آية أو أكثرَ، مِن شأن مَن يشاهدها من البشر أن يؤمن به؛ لأجلها، و"عليه" بمعنى اللام، أو الباءِ الموحدة، والنكتةُ بها تضمّنها معنى الغلبة؛ أي: يُؤمن بذلك مغلوبًا عليه، بحيث لا يستطيع دفعه عن نفسه، لكن قد يَجْحَدُ فيعاند، كما قال الله تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية [النمل: 14].
وقال الطيبيّ رحمه الله: الراجعُ إلى الموصول ضمير المجرور في "عليه"، وهو حال، أي: مغلوبًا عليه في التحدِّي، والمراد بالآيات المعجزات، وموقع المثل مَوْقِعُهُ من قوله:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38] أي: على صفته، من البيان، وعلوّ الطبقة في البلاغة.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" من "صحيحه" قوله: "ما مثلُهُ أُومن، أو آمن عليه البشر"، فقال في "الفتح":"أو" شكّ من الراوي، فالأولى بضمّ الهمزة، وسكون الواو، وكسر الميم من الأمن، والثانية بالمدّ، وفتح الميم، من الإيمان، وحَكَى ابن قرقول أن في رواية القابسيّ:"أَمِن" بفتح الهمزة، وكسر الميم بغير مدّ، من الأمان، وصوّبها ابنُ التين، فلم يُصِب. انتهى
(1)
.
(وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ) بحذف العائد، ومثله كثير في الاستعمال، كقوله تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} [المدثر: 11]، وقوله:{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41] وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
..........................
…
وَالحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ
…
بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
(1)
"الفتح" 13/ 262 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" رقم (7274).
وفي رواية البخاريّ: "أوتيته" بذكر العائد (وَحْيًا) منصوب على أنه خبر "كان"، وجملة قوله:(أَوْحَى اللهُ إِليَّ) في محلّ نصب صفة لـ "وحيًا"، والعائد محذوف، وقد ذُكر في رواية البخاري، ولفظه:"أوحاه الله إليّ".
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في معناه: أي الذي اختَصَصتُ به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر، أن يُعارِضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزةً عند كثير من العلماء والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: اختُلف في معنى هذا الكلام على أقوال:
[أحدها]: أن كل نبيّ أعطي من المعجزات ما كان مثله من كان قبله من الأنبياء، فآمن به البشر، وأما معجزتي العظيمة الظاهرة، فهي القرآن الذي لم يُعطَ أحد مثله، فلهذا قال:"أنا أكثرهم تابعًا".
[والثاني]: معناه: أن الذي أوتيته لا يَتطرق إليه تخييل بسحر وشُبْهة، بخلاف معجزة غيري، فإنه قد يُخَيِّل الساحر بشيء، مما يقارب صورتها، كما خَيَّلت السحرة في صورة عصا موسى عليه السلام، والخيال قد يَرُوج على بعض العوام، والفرق بين المعجزة والسحر والتخييل يَحتاج إلى فكر ونظر، وقد يُخطئ الناظر، فيعتقدهما سواء.
[والثالث]: معناه: أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، ولم يشاهدها إلا من حضرها بحضرتهم، ومعجزة نبيّنا صلى الله عليه وسلم القرآن المستمرّ إلى يوم القيامة، مع خرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، وعجز الجنِّ والإنس عن أن يأتوا بسورة من مثله، مجتمعين أو متفرقين، في جميع الأعصار، مع اعتنائهم بمعارضته، فلم يَقدِروا، وهيم أفصح القرون مع غير ذلك من وجوه إعجازه المعروفة. انتهى كلام النوويّ عليه السلام
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال في الحقيقة لا اختلاف بينها، فأوضحها هو الأول، والقولان بعده بيان وتفصيل لوجه عظمة القرآن، وعدم إعطاء الأولين مثله، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 316.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 188.
وقال في "الفتح"
(1)
: قوله: "وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ"؛ أي: إن معجزتي التي تحدّيت بها الوحيُ الذي أُنزِل عليّ، وهو القرآن؛ لِمَا اشتَمَلَ عليه من الإعجاز الواضح، وليس المراد حصر معجزاته فيه، ولا أنه لم يُؤْتَ من المعجزات ما أُؤيي مَن تقدمه، بل المراد أن القرآن هو المعجزة العظمى التي اختَصَّ بها دون غيره؛ لأن كل نبي أُعْطِيَ معجزةً خاصة به، لم يُعْطَها بعينها غيره، تَحَدَّى بها قومَهُ، وكانت معجزةُ كلَّ نبيّ تقع مُنَاسِبَةً لحال قومه، كما كان السحر فاشيًا عند فرعون فجاءه موسى عليه السلام بالعصا على صورة ما يَصْنَعُ السحرةُ، لكنها تَلَقَّفَتْ ما صَنَعُوا، ولم يَقع ذلك بعينه لغيره، وكذلك إحياء عيسى عليه السلام الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لكون الأطباء والحكماء، كانوا في ذلك الزمان في غاية الظهور، فأتاهم من جنس عملهم، بما لم تَصِل قدرتهم إليه، ولهذا لَمّا كان العرب الذي بُعِثَ فيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغاية من البلاغة، جاءهم بالقرآن الذي تحدّاهم أن يأتوا بسورة مثله، فلم يَقْدِروا على ذلك.
وقيل: المراد أن القرآن ليس له مِثْلٌ، لا صورةً ولا حقيقةً، بخلاف غيره من المعجزات، فإنها لا تخلو عن مثل.
وقيل: المراد أن كلَّ نبي أُعطِيَ من المعجزات ما كان مثله من كان قبله صورةً أو حقيقةً، والقرآن لم يُؤتَ أحد قبله مثله، فلهذا أردفه بقوله:"فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا".
وقيل: المراد أن الذي أوتيته لا يَتَطَرَّق إليه تَخْييلٌ، وإنما هو كلامٌ معجزٌ لا يقدر أحد أن يأتي بما يتخيَّل من التشبيه به، بخلاف غيره، فإنه قد يقع في معجزاتهم ما يَقْدِر الساحر أن يُخَيِّل شِبْهه، فيَحتاج مَن يميز بينهما إلى نظر، والنظر عُرْضة للخطأ، فقد يُخطئ الناظر، فيَظُنّ تساويهما.
(1)
وقال في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" في شرح هذا الحديث: ومعنى الحصر في قوله: "إنما كان الذي أوتيته" أن القرآن أعظم المعجزات، وأفيدها، وأدومها؛ لاشتماله على الدعوة، والحجة، ودوام الانتفاع به الى آخر الدهر، فلما كان لا شيءَ يقاربه، فضلًا عن أن يساويه، كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع. انتهى. "الفتح"(13/ 262) رقم (7274).
وقيل: المراد أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يُشاهدها إلا مَن حَضَرها، ومعجزةُ القرآن مستمرَّة إلى يوم القيامة، وخرقُهُ العادةَ في أسلوبه، وبلاغته بيّنة لكلّ من يأتي إلى يوم القيامة، إلى ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، فلا يَمُرُّ عصر من الأعصار إلا ويظهر فيه شيء مما أَخبر به أنه سيكون، يَدُلُّ على صدقه صلى الله عليه وسلم، وصحة نبوّته، وتجدّد الإيمان في قلوب أمته، قال الحافظ رحمه الله: وهذا أقوى المحتملات، وتكميلُهُ في الذي بعده.
وقيل: المعنى أن المعجزات الماضية، كانت حسية تُشاهَد بالأبصار، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزةُ القرآن تُشاهد بالبصيرة، فيكون مَن يتبعه لأجلها أكثر؛ لأن الذي يُشاهَد بعين الرأس يَنقرض بانقراض مشاهِده، والذي يُشاهَد بعين العقل باقٍ، يشاهده كلُّ من جاء بعد الأول مستمرًّا.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكره لهذه الأقوال ما نصُّهُ: ويمكن نظم هذه الأقوال كلِّها في كلام واحدٍ، فإن مُحَصَّلها لا ينافي بعضُه بعضًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد أشرت آنفًا أنه لا اختلاف في الحقيقة بين هذه الأقوال، بل بعضها تفصيل وتكميل لبعضها، فكلّها توضيحٌ وبيانٌ لعظمة معجزة القرآن الذي أوتيه نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وفُضّل به على غيره من الأنبياء، وتفصيل لكيفيّة تلك العظمة، وتحقيق لها، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ") رَتَّبَ هذا الكلام على ما تقدم، من معجزة القرآن المستمرّة؛ لكثرة فائدته، وعموم نفعه؛ لاشتماله على الدعوة والحجة، والإخبار بما سيكون، فَعَمَّ نفعه مَن حَضر ومن غاب، ومن وُجد ومن سيوجد، فحسن ترتيب الرَّجْوَى المذكورة على ذلك، وهذه الرَّجْوَى قد تحققت، فإنه أكثر الأنبياء تبعًا، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة":
أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ حَقًّا تَبَعَا
…
يَرَى وَرَاءَهُ كَقُدَّامٍ مَعَا
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"الفتح" 6/ 622 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4981).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[74/ 392](152)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(44981)، وفي "الاعتصام بالكتاب والسنّة"(7274)، و (النسائيّ) في "فضائل القرآن"(7977)، و"التفسير" من "الكبرى"(11129)، و (أحمد)(2/ 341 - 451)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(383)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون القرآن دليلًا قويًّا، وطريقًا سويًّا هَدى الله تعالى به الناس إلى الإيمان، وهذا هو وجه المطابقة لإيراد الحديث في "كتاب الإيمان".
2 -
(ومنها): بيان كون القرآن هو المعجزة الكبرى لنبيّنا صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): أن القرآن أفضل الكتب المنزّلة على الأنبياء عليه السلام، حيث جعله الله تعالى مهيمنًا على الكتُب كلِّها، كما قال عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48]، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى {مهيمنًا} قال: مؤتمنًا عليه، ورُوي عن عكرمة، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني: أنه الأمين، وروي عن ابن عباس أيضًا قال: المهيمن: الأمين على كل كتاب قبله، وكذلك عن الحسن قال: مُصَدِّقًا بهذه الكتب، وأمينًا عليها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: بعد ذكر هذه الأقوال في معنى "المهيمن": فالسلف كلهم متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، ومعلوم أن المهيمن على الشيء أعلى منه مرتبةً، ومن أسماء الله تعالى "المهيمن"، ويسمى الحاكم على الناس القائم بأمورهم: المهيمن، قال المبرِّد، والجوهريّ، وغيرهما: المهيمن في اللغة: المؤتمن، وقال الخليل: الرقيب الحافظ، وقال الخطابي: المهيمن: الشهيد، قال: وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له، وأنشدوا [من الطويل]:
أَلَا إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ
…
مُهَيْمِنُهُ التَّالِيهِ فِي الْعُرْفِ وَالنُّكْرِ
يريد: القائم على الناس بالرعاية لهم.
قال: وهكذ القرآن فإنه قَرَّرَ ما في الكتب المتقدمة، من الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلًا، وبَيَّن الأدلة والبراهين على ذلك، وقرّر نبوّة الأنبياء كلِّهم، ورسالة المرسلين، وقرّر الشرائع الكلية التي بُعِث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبَيَّن عقوبات الله لهم، ونَصْرَه لأهل الكتب المتبعين لها، وبَيَّنَ ما حُرّف منها، وبُدِّل، وما فَعَله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبيّن أيضًا ما كتموه، مما أمر الله ببيانه، وكلَّ ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حُرّف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقرَّه الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريّات.
وكذلك معنى الشهادة والحكم يتضمن إثبات ما أثبته الله، من صدق، ومحكم، وإبطال ما أبطله من كَذِب، ومنسوخٍ، وليس الإنجيل مع التوراة ولا الزبور بهذه المثابة، بل هي متبعة لشريعة التوراة إلا يسيرًا نسخه الله بالإنجيل، بخلاف القرآن.
ثم إنه معجز في نفسه لا يقدر الخلائق أن يأتوا بمثله، ففيه دعوة الرسول، وهو آية الرسول صلى الله عليه وسلم، وبرهانه على صدقه ونبوته، وفيه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو نفسه برهان على ما جاء به.
وفيه أيضًا من ضرب الأمثال، وبيان الآيات على تفضيل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ما لو جُمِع إليه علوم جميع العلماء، لم يكن ما عندهم إلا بعض ما في القرآن، ومَن تَأَمَّل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين، والعلوم الإلهية، وأمور المعاد، والنبوات، والأخلاق، والسياسات، والعبادات، وسائر ما فيه كمالُ النفوس وصلاحها، وسعادتها، ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات، ومن أهل الرأي، كالمتفلسفة وغيرهم، إلا بعض ما جاء به القرآن.
ولهذا لم تَحتَج الأمة مع رسولها صلى الله عليه وسلم وكتابها إلى نبي آخر، وكتاب آخر،
فضلًا عن أن تحتاج إلى شيء لا يَستقل بنفسه غيره، سواء كان من علم المُحَدَّثين والملْهَمِين، أو من علم أرباب النظر والقياس، الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إنه في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمرُ"، فعَلَّقَ ذلك تعليقًا في أمته، مع جزمه به فيمن تقدم؛ لأن الأمم قبلنا كانوا محتاجين إلى المحدَّثين، كما كانوا محتاجين إلى نبيٍّ بعد نبيٍّ، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأغناهم الله برسولهم صلى الله عليه وسلم وكتابهم عن كل ما سواه، حتى إن المُحَدَّثَ منهم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما يؤخذ منه ما وافق الكتاب والسنة، وإذا حُدِّثَ شيئًا في قلبه لم يكن له أن يَقْبَله حتى يَعْرِضه على الكتاب والسنة، وكذلك لا يقبله إلا إن وافق الكتاب والسنة، وهذا باب واسع في فضائل القرآن على ما سواه. انتهى المقصود من كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
4 -
(ومنها): بيان إثبات المعجزات لكلّ الأنبياء السابقين حتى تهتديَ أممهم إلى تصديقهم، والإيمان بما جاءوا به، ولا يضرّهم من أصرّ بالمعاندة.
5 -
(ومنها): بيان انقراض معجزات الأنبياء السابقين، وأما معجزة نبيّنا صلى الله عليه وسلم فباقية إلى قيام الساعة.
6 -
(ومنها): أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا" فيه عَلَمٌ من أعلام النبوة، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم بهذا في زمن قِلّة المسلمين، ثم مَنَّ الله تعالى، وفتح على المسلمين البلاد، وبارك فيهم، حتى انتهى الأمر، واتَّسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة، ولله الحمد على هذه النعمة، وسائر نعمه التي لا تُحْصَى.
وقد جاء بيان هذه الكثرة التي أشار إليها في هذا الحديث، فيما أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في قبة، فقال:"أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قلنا: نعم، قال:"أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " قلنا: نعم، قال: "أترضون أن تكونوا شطر أهل
(1)
"مجموع الفتاوى" 17/ 43 - 46.
الجنة؟ " قلنا: نعم، قال: "والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك، إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر"، لفظ البخاريّ رحمه الله.
ولفظ مسلم: عن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة، نحوًا من أربعين رجلًا، فقال:"أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ " قال: قلنا: نعم، فقال:"أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ " فقلنا: نعم، فقال:"والذي نفسي بيده، إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذاك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك، إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر".
وأخرج الترمذيّ رحمه الله عن عمرانَ بنِ حُصين رضي الله عنهما حديثًا طويلًا، وفيه: ثمّ قال: "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة"، فكبَّروا، ثم قال:"إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة"، فكبَّروا، ثم قال:"إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة"، فكبَّروا، قال: لا أدري قال: "الثلثين" أم لا؟ قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرج الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، والدارميّ بإسناد صحيح عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صفّ، منهم ثمانون من هذه الأمة"، وقال عفانُ مرةً:"أنتم منهم ثمانون صفًّا"
(1)
.
وأخرج الإمام أحمد أيضًا في "مسنده"(8719) بسند فيه ضعف، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 13، 14] شَقّ ذلك على المسلمين، فنزلت:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 39، 40]، فقال:"أنتم ثلث أهل الجنة، بل أنتم نصف أهل الجنة، وتُقاسمونهم النصف الباقي".
7 -
(ومنها): أن فيه بيان كون نبيّنا صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعًا يوم القيامة
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، والدارميّ بسند صحيح.
بسبب بقاء المعجزة التي أوتيها، وهي القرآن العظيم الذي أوحاه إليه العليم الحكيم في جميع الأعصار والأمصار، فصار في كلّ عصر ومصر جمّ غفير يهتدون به، ويؤمنون به، قال عز وجل:{قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران: 73].
8 -
(ومنها): أن القرآن معجزة تحدّى بها النبيّ صلى الله عليه وسلم العرب، فعجزوا عن الإتيان بمثله، بل لو اجتمع الإنس والجنّ لا يأتون بمثله، كما قال عز وجل:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، قال ابن تيميّة رحمه الله: وهذا التحدّي والتعجيز ثابتٌ في لفظه، ونظمه، ومعناه. انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): أن الإمام البخاريّ رحمه الله أورده في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة" من "صحيحه" بعد حديث: "بُعِثتُ بجوامع الكلم"، فقيل: يؤخذ من صنيعه هذا أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن، قال الحافظ رحمه الله: وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله:"بُعثت بجوامع الكلم" لا شك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن؟.
وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)} [البقرة: 179]، وقوله:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)} [النور: 52].
ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة رضي الله عنها: "كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ"، وحديث:"كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل"، متفق عليهما، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" متّفق عليه، وحديث المقدام رضي الله عنه: "ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه
…
" الحديث، أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان، والحاكم، وغير ذلك مما يكثر بالتتبع.
قال: وإنما يُسَلَّم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تَقِلّ مخارج الحديث، وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 33/ 42 - 43.
إذا كثرت قَلَّ أن تتفق ألفاظه؛ لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى، بحسب ما يظهر لأحدهم أنه وافٍ به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا لا يكتبون، ويطول الزمان، فيتعلق المعنى بالذهن، فيرتسم فيه، ولا يستحضر اللفظ، فيحدث بالمعنى؛ لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه إنه لم يُوفِ بالمعنى. انتهى
(1)
.
10 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياضّ رحمه الله: ووجه آخر - أي: من الأوجه التي ذُكرت في توجيه الحديث - على أحد المذهبين في القول بالصّرفة، وأن المعارضة كانت من جنس قوّة البشر، لكنهم لم يقدروا عليها على أحد قولي الأشعريّ، وصُرِفوا عنها، أو من قدرة البشر، فمُنعوا منها، على قول المعتزلة، فعدولهم عن المعارضة لأحد الوجهين المتقدّمين، ورضاهم بالقتل والجَلاء، ونكولهم عن ذلك، وهو من مقدورهم، أو من جنس مقدورهم أبين في الدلالة من غيرها، من الأمور التي تَختلج في الظنون الكاذبة، ويُموّه فيها المُلْحِد بالشُّبَه المخيَّلة؛ إذ العجز عن المقدور أوقع في النفوس، وأوضح في الدلالة من إبداء الغريب، والمجيء بما لم يُعهَد عند هؤلاء، وإليه نحا أبو المعالي الجُوينيّ في بعض كتبه. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالصرفة، وإن رجحه القاضي هنا، وكذا في كتابه "الشفا"
(3)
، إلا أنه قول مرجوح قد أبطله المحقّقون
(4)
، وسيأتي تمام البحث فيه قريبًا - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): قد جَمَع بعضهم إعجاز القرآن في أربعة أشياء:
[أحدها]: حُسْنُ تأليفه، والتئام كلمه مع الإيجاز والبلاغة.
[ثانيها]: صورة سياقه، وأسلوبه المخالف لأساليب كلام أهل البلاغة من العرب نظمًا ونثرًا، حتى حارت فيه عقولهم، ولم يهتدوا إلى الإتيان بشيء
(1)
"الفتح" 13/ 262 "كتاب الاعتصام" رقم (7274).
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 604.
(3)
راجع: "الشفا" 1/ 267.
(4)
راجع ما كتبه محقق: "إكمال الإكمال" 1/ 653.
مثله، مع توفر دواعيهم على تحصيل ذلك، وتقريعه لهم على العجز عنه.
[ثالثها]: ما اشتَمَل عليه من الإخبار عما مَضَى من أحوال الأمم السالفة، والشرائع الداثرة، مما كان لا يَعْلَم منه بعضه إلا النادرُ من أهل الكتاب.
[رابعها]: الإخبار بما سيأتي من الكوائن التي وقع بعضها في العصر النبويّ، وبعضها بعده، ومن غير هذه الأربعة آياتٌ وردت بتعجيز قوم في قضايا أنهم لا يفعلونها، فعجزوا عنها مع توفر دواعيهم على تكذيبه؛ كتمنّي اليهود الموت.
ومنها: الروعة التي تَحصُل لسماعه.
ومنها: أن قارئه لا يَمَلّ من ترداده، وسامعه لا يَمُجّه، ولا يزداد بكثرة التكرار إلا طَرَاوةً ولذاذةً.
ومنها: أنه آية باقية لا تُعْدَم ما بقيت الدنيا.
ومنها: جمعه لعلوم ومعارف، لا تنقضي عجائبها، ولا تنتهي فوائدها.
انتهى مُلَخَّصًا من كلام عياض وغيره
(1)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23]:
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة، بعد أن قَرَّر أنه لا إله إلا هو، فقال مخاطبًا للكافرين:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} من مثل ما جاء به، إن زعمتم أنه من عند غير الله، فعارضوه بمثل ما جاء به، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله، فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس:{شُهَدَاءَكُمْ} أعوانكم، وقال السُّدّيّ، عن أبي مالك: شركاءكم؛ أي: قومًا آخرين، يساعدونكم على ذلك، أي: استعينوا بآلهتكم في ذلك، يُمِدّونكم، وينصرونكم، وقال مجاهد:{وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} قال: ناس يشهدون به، يعني: حكام الفصحاء، وقد تحداهم الله تعالى بهذا
(1)
راجع: "إكمال المعلم" 1/ 600 - 604، و"فتح الباري" 8/ 622 "كتاب فضائل القرآن" رقم (4981).
في غير موضع من القرآن، فقال في "سورة القصص":{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)} [القصص: 49]، وقال في "سورة سبحان":{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، وقال في "سورة هود":{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)} [هود: 13]، وقال في "سورة يونس":{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} [يونس: 37 - 38].
وكلُّ هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضًا في المدينة، فقال في هذه الآية
(1)
: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] أي: شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)} [البقرة: 23] يعني: من مثل القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، واختاره ابن جرير الطبريّ، والزمخشريّ، والرازيّ، ونقله عن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن البصريّ، وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه، من أحسنها أنه تحدّاهم كلَّهم متفرقين ومجتمعين، سواء في ذلك أمّيّهم وكتابيّهم، وذلك أكمل في التحدّي، وأشمل من أن يَتَحَدَّى آحادهم الأمّيين، ممن لا يَكْتُب، ولا يعاني شيئًا من العلوم، وبدليل قوله تعالى:{فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود: 13]، وقوله:{لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88].
وقال بعضهم: من مثل محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: من رجل أميٍّ مثلِهِ.
والصحيح الأول؛ لأن التحدِّي عامٌّ لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم، وقد تحدّاهم بهذا في مكة والمدينة مرّات عديدة، مع شدة عداوتهم له، وبغضهم لدينه، ومع هذا عَجَزُوا عن ذلك، ولهذا قال تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24]، و"لن" لنفي التأبيد في المستقبل، أي: ولن تفعلوا أبدًا، وهذه أيضًا معجزة أخرى، وهو أنه أخبر خبرًا جازمًا قاطعًا غير خائف، ولا مُشْفِق أن هذا القرآن لا يعارَض بمثله أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وكذلك وَقَع الأمر لم
(1)
يعني في آية البقرة المذكورة أول الكلام.
يُعارَض من لدنه إلى زمننا هذا، ولا يُمْكِن، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد، والقرآن كلام الله، خالق كلِّ شيء، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟!.
قال: ومن تدبر القرآن وَجَد فيه من وجوه الإعجاز فنونًا ظاهرةً، وخَفِيّةً، من حيث اللفظ، ومن جهة المعنى، قال الله تعالى:{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} [هود: 1]، فأُحكمت ألفاظه، وفُصّلت معانيه، أو بالعكس على الخلاف، فكل من لفظه ومعناه فصيحٌ، لا يُحَاذَى، ولا يُدَانَى، فقد أَخْبَرَ عن مغيباتٍ ماضيةٍ، ووقعت طِبْقَ ما أَخبر سواءً بسواء، وأَمَرَ بكل خير، ونَهَى عن كل شرّ، كما قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الإخبار، وعدلًا في الأحكام، فكلُّهُ حقٌّ وصدقٌ وعدلٌ وهُدًى، ليس فيه مجازفةٌ، ولا كذب، ولا افتراء، كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم، من الأكاذيب والمجازفات، التي لا يحسن شعرهم إلا بها، كما قيل في الشعر: إن أعذبه أكذبه.
وتَجِد القصيدة الطويلة المديدة، قد استُعْمِل غالبها في وصف النساء، أو الخيل، أو الخمر، أو في مدح شخص معين، أو فرس، أو ناقة، أو حرب، أو كائنة، أو مخافة، أو سبع، أو شيء من المشاهدات المتعينة، التي لا تفيد شيئًا إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي، أو الدقيق، أو إبرازه إلى الشيء الواضح، ثم تجد له فيه بيتًا أو بيتين، أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هَذرٌ لا طائل تحته.
وأما القرآن فجميعه فصيحٌ، في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلًا وإجمالًا، ممن فَهِمَ كلام العرب، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة، سواء كانت مبسوطة، أو وجيزةً، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكررت حَلا وعَلا، لا يَخْلُقُ عن كثرة الردّ، ولا يَمَلُّ منه العلماء، وإن أَخَذَ في الوعيد والتهديد، جاء منه ما تَقْشَعِرُّ منه الجبال الصُّمّ الراسيات، فما ظنّك بالقلوب الفاهمات؟ وإن وَعَدَ أتى بما يَفتح القلوب والآذان، ويسوق إلى دار السلام، ومجاورة عرش الرحمن، كما قال في الترغيب:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]، وقال:{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)} [الزخرف: 71]، وقال في الترهيب: {أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)} [الإسراء: 68]، وقال:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)} [الملك: 16 - 17]، وقال في الزجر:{فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40]، وقال في الوعظ:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)} [الشعراء: 205 - 207].
ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة.
وإن جاءت الآيات في الأحكام، والأوامر، والنواهي، اشتملت على الأمر بكل معروف، حَسَنٍ نافعٍ طيب محبوب، والنهي عن كل قبيحٍ رذيلٍ دنيء، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف: إذا سَمِعت الله تعالى يقول في القرآن: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 15] فأرعها سمعك، فإنها خير يأمر به، أو شَرٌّ ينهى عنه، ولهذا قال تعالى:{يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وإن جاءت الآيات في وصف المعاد، وما فيه من الأهوال، وفي وصف الجنة والنار، وما أعدَّ الله فيهما لأوليائه وأعدائه، من النعيم، والجحيم، والملاذّ، والعذاب الأليم، بَشَّرت به، وحَذَّرت، وأنذرت، ودَعَت إلى فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، وزَهَّدت في الدنيا، ورَغَبت في الأخرى، وثَبَّتَت على الطريقة المثلى، وهَدَت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رِجْس الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي من الأنبياء، إلا قد أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة"، لفظ مسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أتيتُ وحيًا" أي: الذي اختَصَصتُ به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر، أن يُعارِضوه، بخلاف غيره من الكتب الإلهية، فإنها ليست معجزةً عند كثير من العلماء، والله أعلم.
وله صلى الله عليه وسلم من الآيات الدالة على نبوته، وصدقه فيما جاء به، ما لا يَدخُل تحت حصر، ولله الحمد والمنّة.
وقد قَرَّر بعض المتكلمين الإعجازَ بطريقٍ يَشْمَلُ قولَ أهل السنة، وقول المعتزلة في الصَّرْفَة، فقال: إن كان هذا القرآن معجزًا في نفسه، لا يستطيع البشر الإتيان بمثله، ولا في قُوَاهم معارَضتُهُ، فقد حَصَلَ المُدَّعَى، وهو المطلوب، وإن كان في إمكانهم معارضته بمثله، ولم يَفعلوا ذلك مع شِدَّة عداوتهم له، كان ذلك دليلًا على أنه من عند الله؛ لصرفه إياهم عن معارضته، مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة، وإن لم تكن مَرْضيَّةً؛ لأن القرآن في نفسه معجزٌ، لا يستطيع البشر معارضته، كما قررنا، إلا أنها تَصْلَح على سبيل التنزل، والمجادلة، والمنافحة عن الحقّ، وبهذه الطريقة أجاب الرازيّ في تفسيره عن سؤاله في السور القصار، كالعصر، وإنا أعطيناك الكوثر. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: معنى القول بالصرْفَة في إعجاز القرآن أن الله عز وجل قد سَلَبَ العرب القدرة على معارضة القرآن، ومنعهم منها، وعطّلهم عنها، وزهّدهم فيها، على حين أن القرآن الكريم لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشريّة، وأنه كان في مقدورهم معارضته، لولا أن منعهم الله منها.
وهذا القول منسوب إلى المعتزلة عامّةً، ونُقل فيه كلام عدد منهم من متقدّمي مشايخهم، منهم إبراهيم النظّام، وهشام القُوطيّ، وعبّاد بن سليمان، وبه قال المرتضى من الشيعة، وأبو إسحاق الإسفرايينيّ من أهل السنّة، وهو أحد قولي الأشعريّ في هذه المسألة.
والقول بالصرفة في إعجاز القرآن قولٌ فاسدٌ باطلٌ من وجوه كثيرة، وهو مردودٌ عند عامّة أهل السنّة، وقد بالغ المصنّفون في إعجاز القرآن في ردّه، وبيان بطلانه وفساده.
قال الخطّابيّ: إن دلالة الآية تشهد بخلافه، وهي قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88]، فأشار بذلك إلى أن طريقه التكلّف والاجتهاد، وسبيله التأهّب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة، فدلّ على أن المراد غيرها.
وقال الزركشيّ في "البرهان": وهو قولٌ فاسدٌ، بدليل قوله تعالى: {قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الإسراء: 88] الآية، فإنه يدلّ على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سُلِبوا القدرة لم يَبقَ فائدة لاجتماعهم؛ لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يُحتفل بذكره، هذا مع أن الإجماع منعقدٌ على إضافة الإعجاز إلى القرآن.
وأيضًا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر، وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدّي، وخلوّ القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرقٌ لإجماع الأمة، فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العُظْمَى، ولا معجزة له باقيةٌ سوى القرآن، وخلوّه من الإعجاز يُبطل كونه معجزةً.
هذا، على أن القول بالصرفة؛ يعني: أن الإعجاز ليس في القرآن نفسه، وإنما هو في منع الله تعالى لهم من معارضته، فلم يتضمّن فضيلةً في نفسه على غيره، وهذا باطلٌ.
وقد اتّفق عامّة أهل السنّة على أن القرآن معجز في نفسه، وأن إعجازه ثابتٌ في لفظه، ونظمه، ومعناه، وبيانه، وأسلوبه، وغير ذلك مما يحتمله لفظ الإعجاز
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(75)(بَابُ وُجُوبِ الإيمَانِ بِرِسَالَة نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَمِيعِ النَّاس، وَنَسْخِ الْمِلَلِ بِمِلَّتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[393]
(153) - (حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا
(2)
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنَّ أَبَا يُونُسَ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
(1)
راجع لهذا البحث: "إعجاز القرآن" للباقلانيّ 1/ 40 - 44، و"الإتقان" للسيوطيّ 2/ 118، و"البرهان" للزركشيّ 2/ 94، و"بيان إعجاز القرآن" للخطابيّ ص 22، وما كتبه محقّق "إكمال المعلم" في هامشه 1/ 602.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا ابن وهب".
قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِه، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ، مِنْ هَذِهِ الْأمّة، يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِه، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى) بن موسى بن مَيْسَرة بن حَفْص بن حَيّان الصَّدَفيّ، أبو موسى المصريّ، ثقة، من صغار [10].
رَوَى عن ابن عيينة، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأبي ضَمْرة، والشافعي، وأشهب، وأيوب بن سُويد الرملي، ومَعْن بن عيسى القزاز، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابنه أحمد بن يونس، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وأبو زُرْعة، وأبو حاتم، وأبو بكر بن خزيمة، وأبو محمد بن أبي حاتم، وأبو عوانة الإسفراييني، وأبو جعفر الطحاوي، وآخرون.
قال أبو حاتم: سمعت أبا الطاهر بنَ السَّرْح يَحُثُّ عليه، ويُعَظِّم شأنه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يوثقه، ويرفع من شأنه. وقال النسائي: ثقة. وقال علي بن الحسن بن قُديد: كان يحفظ الحديث. وقال الطحاوي: كان ذا عقل، حدثني علي بن عَمْرو بن خالد الحراني، سمعت أبي يقول: قال لي الشافعيّ: يا أبا الحسن انظر إلى هذا الباب، فنظرت إليه، فقال: ما يدخل منه أحد أعقل من يونس بن عبد الأعلى، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الحافظ: وكان إمامًا في القراءات، قرأ على وَرْشٍ وغيره وقرأ عليه ابن جرير الطبري وجماعة.
وقال أبو عمر الكِنْديّ: كان فقيرًا شديد التَّقَشُّف، مقبولًا عند القضاة.
قال يحيى بن حسان: يونسكم هذا من أركان الإسلام. قال أبو عمر: كان يُسْتَسْقَى بدعائه. وقال مسلمة بن قاسم: كان حافظًا.
وقد أنكروا عليه تفرده بروايته عن الشافعي حديث: "لا مَهْدِيّ إلا عيسى"، أخرجه ابن ماجه عنه، وكذا الذهبيّ يَدَّعِي أن يونس دَلَّسَه، ويستند في ذلك أن أبا الطاهر رواه عن يونس، فقال: حُدِّثتُ عن الشافعي، لكن رواه ابن منده في "فوائده" من طريق الحسن بن يوسف الطرائفي، وأبي الطاهر المذكور
كلاهما عن يونس: أنا الشافعي. ورواه يوسف الميانجي عن ابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وزكرياء الساجي، وغير واحد، عن يونس: ثنا الشافعي.
وذكر حفيده عبد الرحمن بن أحمد بن يونس أن دَعْوَتَهُم في الصَّدِف، وليسوا من أنفسهم ولا مواليهم، قد تُوُفّي غداة الاثنين ليومين مَضَيَا من ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة.
تفرّد به المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرو) بن الحارث بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيه حافظٌ [7](ت قديمًا قبل 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(أَبُو يُونُسَ) هو: سُليم بن جُبير الدَّوْسيّ، مولى أبي هريرة المصريّ، ثقة [3](ت 123)(بخ م د ت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه، فتفرّد به هو والنسائيّ، وابن ماجه، وغير أبي يونس، فتفرّد به هو وأبو داود، والترمذيّ، وأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد".
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وأخبرني عمرو بن الحارث" بواو العطف، قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "وأخبرني عمرو" هو بالواو في أول "وأخبرني"، وهي واو حسنة، فيها دقيقة نفيسة، وفائدة لطيفة، وذلك أن يونس سمع من ابن وهب أحاديث، من جملتها هذا الحديث، وليس هو أولها، فقال ابن وهب في روايته الحديث الأول: أخبرني عمرو بكذا، ثم قال: وأخبرني عمرو بكذا، وأخبرني عمرو بكذا، إلى آخر تلك الأحاديث، فإذا رَوَى يونس
عن ابن وهب غير الحديث الأول، فينبغي أن يقول: قال ابن وهب: وأخبرني عمرو، فيأتي بالواو؛ لأنه سمعه هكذا، ولو حذفها لجاز، ولكن الأولى الإتيان بها؛ ليكون راويًا كما سمع. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن يونس بن عبد الأعلى هذا أول محلّ ذكره في هذا الكتاب، وقد عرفت ما أخرج له المصنّف من الأحاديث فيه آنفًا.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، كما تقدّم قريبًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ) وهو الله سبحانه وتعالى الذي بيده كلّ شيء، وفيه من المحسّنات البديعيّة التجريد على قول الجمهور، وعلى قول السكّاكيّ فيه التفاتٌ؛ إذ مقتضى المقام أن يقول: والذي نفسي بيده، وقد سبق قبل باب نحو هذا في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في قوله:"وسعدٌ جالسٌ".
[تنبيه]: قال القاري في "المرقاة" في شرح قوله: "بيده" ما نصّه: أي كائنة بنعمته، وحاصلة بقدرته، وثابتة بإرادته، ووجه استعارة اليد للقدرة أن أكثر ما يظهر سلطانها في أيدينا، وهي من المتشابهات، ومذهب السلف فيها تفويض علمه إلى الله تعالى، مع التنزيه عن ظاهره، وهو أسلم؛ حذرًا من أن يُعيَّن له غير مراد له تعالى، ويؤيّده وقف الجمهور على الجلالة في قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، وعدّوه وقفًا لازمًا، وهو ما في وصله إيهام معنى فاسد، ومن ثمّ قال أبو حنيفة رحمه الله: تأويل اليد بالقدرة يؤدّي إلى تعطيل ما أثبته تعالى لنفسه، وإنما الذي ينبغي الإيمان بما ذكره الله تعالى من ذلك ونحوه على ما أراده، ولا يُشتغل بتأويله، فنقول: له يدٌ على ما أراده لا كيد المخلوقين، ومذهب الخلف فيها تأويله بما يليق بجلال الله تعالى، وتنزيهه عن الجسم والجهة، ولوازمها؛ بناءً على أن الوقف على {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء: 162]، وكان ابن عبّاس يقول: أنا أعلم تأويله، وأنا من الراسخين في
العلم، قيل: وهذا أعلم، وأحكم؛ أي: يحتاج إلى مزيد علم وحكمة حتى يطابق التأويل سياق ذلك النصّ، وليس المعنى أن مذهب الخلف أكثر علمًا، فالمذهبان متّفقان على التنزيه، وإنما الخلاف في أن الأولى ماذا؟ أهو التفويض، أو التأويل؟، ويمكن حمل الخلاف على اختلاف الزمان، فكان التفويض في زمان السلف أولى؛ لسلامة صدورهم، وعدم ظهور البدع في زمانهم، والتأويل في زمان الخلف أولى؛ لكثرة العوامّ، وأخذهم بما يتبادر إلى الأفهام، وغلوّ المبتدعة بين الأنام، والله أعلم بالمرام. انتهى كلام القاري
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: في كلام القاري هذا نظر من وجوه:
[الأول]: ليته لم يخُض فيما لم يخُض فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وهو إمامه، فإنه حنفيّ المذهب، لا يخالف الإمام في المسائل الفرعيّة، ولا قِيد شبر، فلماذا خالف مذهبه في إثبات الصفات على ما وردت، وعدم تأويلها؛ لأنه يؤدّي إلى التعطيل، وقد نقله لنا، وأعلمنا بما لم نعلمه من مذهبه من قبلُ، فكان حقّه أن يقلّده في هذا كما يقلّده في الفروع.
[الثاني]: أن مقارنته بين مذهب السلف والخلف، وتصويبه لهما معًا غير صحيح؛ لأن مذهب الخلف يؤدّي إلى محذور، وهو القول على الله تعالى بلا علم، وهو محرّم بنصّ كتاب الله تعالى، حيث قال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
وقد أشار القاري في كلامه إلى هذا المحذور، حيث قال: وهو أسلم؛ حذرًا من أن يُعيّن له غير مراد له تعالى، فالمؤوّل ليس عنده علم بأن ما أول به هو مراد الله تعالى، فهو داخل في الآية المذكورة بلا شكّ.
[الثالث]: قوله: ويمكن حمله على اختلاف الزمان
…
إلخ، غير صحيح أيضًا؛ لأن اختلاف الزمان لا يقتضي تغيير الدين الذي جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أكمل الله سبحانه وتعالى الدين بقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فلا يشرع أمر جديد بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"المرقاة شرح المشكاة" 1/ 150 - 151.
بل ما كان دينًا في وقته فهو الدين إلى يوم القيامة، وما ليس دينًا في ذلك الوقت، فليس بدين أبدًا.
والحاصل أن مذهب السلف، وهو إثبات الصفات التي جاءت في نصّ كتاب الله عز وجل، والسنة الصحيحة، كاليد في هذا الحديث، والوجه، والقدم، والعين، والضحك، والفرح، والعجب، وغير ذلك، كما أثبتها الله تعالى لنفسه، وأثبتها له النبيّ صلى الله عليه وسلم، على الوجه الذي يليق بجلاله، هو الحقّ الذي لا مرية فيه، وما عداه مما اقتحمه الخلف، وتعسّفوا فيه، فهو مذهب باطل، فتمسّك بهدي السلف، تنجُ من التلف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(لَا يَسْمَعُ بِي) قال الطيبيّ رحمه الله: الباء يُحتمل أن تكون زائدة؛ أي: لا يسمعني، فقد جاء: سمعتك، وسمعت فلانًا، ويحتمل أن تكون بمعنى "من" يقال: سمعتُ من فلان، فتكون الباء كما في قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6]، قال المظهر: وفيه نظرٌ؛ لأن المعنى لا يساعد عليه، فإنّ سمعني، وسمع مني يقتضيان كلامًا وقولًا، من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس المعنى عليه، قال: والأظهر أن يضمّن "يسمع" معنى "يُخْبَرُ"، فيتعدّى بالباء، كقوله تعالى:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]، أي: ما أُخْبِرنا سماعًا، وهو آكد؛ لأن الإخبار أعمّ من أن يكون سماعًا، أو غير سماع، فالمعنى: ما أُخبِر أحد برسالتي، أو ببعثتي، ولم يؤمن إلا كان من أصحاب النار. انتهى
(1)
.
وقوله: "بي" فيه التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ إذ الظاهر أن يقول: "به"، وهذا مما لا خلاف فيه بين السكّاكيّ وغيره.
وقوله: (أَحَدٌ) بالرفع على الفاعليّة بـ "يسمع"، قال الطيبيّ رحمه الله:"أحدٌ" إذا استُعمل في النفي يكون لاستغراق جنس العقلاء، ويتناول القليل والكثير، والذكر والأنثى، كما في قوله تعالى:{فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)} [الحاقة: 47]، وقوله:{لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]، وتقول:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 447 - 448.
ما في الدار أحدٌ؛ أي: لا واحد، ولا اثنان، فصاعدًا، لا مجتمعين، ولا متفرّقين. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنْ هَذ الْأمَّةِ) صفة لـ "أحد"، وأصل الأمّة: الجماعة، وتضاف للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فيُراد بها أحيانًا أمة الإجابة؛ أي: المسلمون، كحديث:"شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"
(2)
، وأحيانًا يراد به أمة الدعوة، أي: كلُّ من أُرسل إليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو المراد هنا، فالإشارة إلى أمة الدعوة الموجودين في عهده صلى الله عليه وسلم، ومن سيوجد إلى يوم القيامة؛ لعموم دعوته للجميع، كما قال عز وجل:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19].
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأمة" في أصل اللغة: الجماعة من الحيوان، قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى:{وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، ثم قد استُعمل في محامل شتّى، والمراد به في هذا الحديث كلّ من أُرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولَزِمته حجّته، سواءٌ صدّقه، أو لم يُصدّقه، ولذلك دخل فيه اليهوديّ والنصرانيّ، لكن هذا على مساق حديث مسلم هذا، فإنه قال فيه:"لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهوديّ، ولا نصرانيّ"، بغير واو العطف، فإنه يكون بدلًا من "الأمّة"، وقد رَوَى هذا الحديثَ عبد بن حميد
(3)
، وقال:"لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهوديّ، ولا نصرانيّ"، فحينئذ لا يدخل اليهوديّ، ولا النصرانيّ في الأمة المذكورة، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
(1)
"الكاشف" 2/ 448.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(12745)، وأبو داود في "سننه"(4739)، والترمذيّ في "جامعه"(2359 و 2360).
(3)
بل هو عند الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"(27420)، ولفظه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهوديّ، ولا نصرانيّ، ومات ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار". وهو أيضًا بهذا اللفظ في "مسند أبي عوانة" 1/ 97 رقم (307).
(4)
"المفهم" 1/ 368.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "من" في قوله: "من هذه الأمة" إما للبيان، أو للتبعيض، وعلى التقديرين هو مرفوع المحلّ.
فعلى أن تكون للتبعيض معناه: لا يسمع بي أحدٌ، وهو بعض هذه الأمة، يهوديّ، والإشارة بـ "هذه" إلى ما في الذهن، و"الأمة" بيان له، و"الأمة" حينئذ أمة الدعوة.
وعلى أن تكون للبيان، ولفظة "هذه" تكون إشارةً إلى أمة اليهود والنصارى خاصّةً، جرّد من الأمة اليهود والنصارى، وهو كقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]، فسّره صاحب "الكشّاف" بالوجهين.
وقال الطيبيّ أيضًا: قال الشارحون: "الأمة" جمعٌ لهم جامعٌ من دين، أو زمان، أو مكان، أو غير ذلك، فإنه مجملٌ يُطلق تارةً، ويراد به كلُّ من كان هو مبعوثًا إليهم، آمن به، أو لم يؤمن، ويُسَمَّون أمة الدعوة، ويُطلق تارةً أخرى، ويراد به المؤمنون به، والمذعنون له، وهم أمة الإجابة، والمعنى الأول هو المراد هنا بدليل قوله:"ولم يؤمن بي"، واللام فيها للاستغراق، أو الجنس، أو العهد، والمراد بها أهل الكتاب، ويَعضد الأخير توصيف الأحد باليهود والنصارى، وفي تخصيص ذكر اليهودي والنصرانيّ، وهما من أهل الكتاب إشعارٌ بأن حال المعطّلة، وعَبَدة الأوثان، وأضرابهم آكد، وهم أولى بدخول النار.
وتلخيص المعنى أن كلّ واحد من هذه الأمة إذا يسمع بي، وتبيّن له صدقي، ثم لا يؤمن برسالتي، ولم يُصدّق بمقالتي، كان من أصحاب النار، سواء الموجود، ومن سيوجد. انتهى كلام الطيبيّ ببعض تصرّف
(1)
.
(يَهُودِيٌّ) عطف بيان، أو بدل بعض من كلّ من "أحدٌ"، قال الفيّوميّ رحمه الله: هاد الرجل هَوْدًا: إذا رجع، فهو هائدٌ، والجمع هُودٌ، مثلُ بازلٍ وبُزُلٌ، وسُمّي بالجمع، وبالمضارع، وفي التنزيل:{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة: 135]، ويقال: هو يَهُودُ غير منصرفٍ؛ للعلميّة،
(1)
"المصدر السابق".
ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التنوين؛ لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنسبة إليه يَهُوديّ، وقيل: اليَهُوديّ: نسبة إلى يهودا بن يعقوب عليه السلام، هكذا أوردَ الصَّغَانيّ يَهُودا في باب المهملة. انتهى
(1)
.
(وَلَا نَصْرَانِيٌّ) عطف على "يهوديّ" بإعادة "لا" النافية، وهو فصيح، وقال الطيبيّ رحمه الله:
[فإن قلت]: كيف عُطف "ولا نصرانيّ" على "يهودي"، وهو مُثبت، والكلام الفصيح في العطف بـ "لا" أن تكرّر لفظة "لا"، كما في قوله عز وجل:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)} [القيامة: 31]؟.
[قلت]: "يهوديّ" في حيّز النفي؛ لكونه فاعلًا للفعل المنفيّ؛ كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] انتهى كلام الطيبيّ
(2)
.
وخصّ اليهود والنصارى بالذكر تنبيهًا على غيرهما؛ لأنهما أهل كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابًا، فغيرهم ممن لا كتاب له يكون من بابٍ أولى.
(ثُمَّ يَمُوتُ) قال التوربشتيّ رحمه الله: لفظ "ثمّ" موضوع للتراخي، فهو دالّ على أن الإيمان بما أُرسل به نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم مهما صَدَر من الكافر، وحصَل منه، فإنه ينفعه، ويُمحى عنه ما سلف في كفره، وإن تراخى ذلك الإيمان عن أول سماعه لمبعثه، وتقدير الاستثناء: لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ثم لم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، فيكون له حالٌ من الأحوال إلا أَنْ كان من أصحاب النار.
قال الطيبيّ - بعد ذكر كلام التوربشتيّ هذا -: أقول: والوجه أن يقال: إن "ثُمّ" للاستبعاد، كما قوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]؛ يعني: أنه ليس أحدٌ أظلم ممن بُيّنت له آياتُ الله الظاهرة والباطنة، ودلائله القاهرة، فعرفها، ثم أنكرها؛ أي: بعيد ذلك عن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 642.
(2)
"الكاشف" 2/ 449.
العاقل، كما تقول: وجدتَ مثل تلك الفُرْصة، ثم لم تنتهزها! فالمعنى: ما أبعد لذي العقل أن يسمع بي يهوديّ، ونصرانيّ بعد انتظارهما بعثتي، واستفتاحهما الكفرة بنصرتي، ثم لَمّا بُعثتُ لم يؤمن بي، فعلى هذا التقدير يختصّ الحديث بأهل الكتاب، ولا يحتاج إلى التكلّف في نسبته إلى غيرهم، كما عليه كلام الشارحين.
[فإن قلت]: في الحديث السماع، والإيمان كلاهما منفيّان، فيلزم على هذا أن يكون من لم يسمع، ولم يؤمن من أصحاب النار، وهو خلاف قوله عز وجل:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فكان من حقّ الظاهر أن يقول: يسمع، ولا يؤمن بي.
[أجيب]: بأن "ثمّ" للاستبعاد، فرجع حاصل معنى الاستثناء إلى قولنا: لا يحصل بهذا الاستبعاد المذكور في حقّ يهوديّ، ونصرانيّ، فيكون له حال من الأحوال إلا أن كان من أهل النار، فالمنفيّ سماعٌ لم يترتّب عليه الإيمان؛ لأنه هو المستبعد، وفُهم منه أن السماع الذي يترتّب عليه الإيمان يكون حكمه بالعكس.
ونظيره قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات: 2] في أحد وجهيه، وهو أن يكون الفعل المعلَّل منهيًّا، لا أن يكون الفعل المنهيّ معلّلًا، فاعرف، قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
التعبيربـ "ثم" التي للتراخي، والمُهلة فيه إشعار بأن الإيمان ينفع، ولو بعد مدّة من البلاغ، ويحتمل أن يكون لاستبعاد أن يقع الموت بدون إيمان بعد السماع به، فهو كقوله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} [السجدة: 22]، (وَلَمْ يُؤْمِنْ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "يموت"(بالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، وقوله:"بالذي" متعلّق بـ "يؤمن"(إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَاب النَّارِ") أي: ممن يدخلها، ويلازمها؛ لكونه ممن حكم الله سبحانه وتعالى عليهم بالتأبيد، حيث قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 449 - 450.
وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائلُ تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[75/ 393](153)، و (أحمد) في "مسنده"(27420 و 27301)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(307 و 308)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(384)، و (ابن منده) في "الإيمان"(401)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب الإيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الناس، بل على جميع الثقلين، ممن بلغتهم الدعوة، وفهموها، فرسالته عامّة جميع الأزمنة، والأمكنة، والأمم، وقد أخرج الشيخان في "الصحيحين" حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيت خمسًا، لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرُّعْب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فَلْيُصَلّ، وأُحِلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس كافّةً، وأُعطيت الشفاعة".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"فُضّلتُ على الأنبياء بستّ: أُعطيت جوامع الكلم، ونُصرت بالرُّعْب، وأُحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأُرسلت إلى الخلق كافّةً، وخُتِم بي النبيون".
2 -
(ومنها): نسخ جميع الملل برسالة نبيّنا صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذكر اليهود والنصارى للتنبيه على من سواهما من الأمم التي تدّعي دينًا، سواء كان سماويًّا أم لا.
3 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن من لم تبلغه دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا أمره، لا عقاب عليه، ولا مؤاخذة، وهذا كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فمن لم تبلغه دعوته صلى الله عليه وسلم، ولا معجزته، فكأنه لم يُبعث إليه رسول.
وقال النوويّ رحمه الله: وفي مفهومه: دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام، فهو معذور، وهذا جارٍ على ما تقدّم في الأصول أنه لا حكم قبل ورُود الشرع على الصحيح. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليلٌ على أن من في أطراف الأرض، وجزائر البحر المنقطعة، ممن لم تبلغه دعوة الإسلام، ولا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الحَرَجَ عنه في عدم الإيمان به ساقطٌ؛ لقوله:"لا يسمع بي"؛ إذ طريق معرفته، والإيمان به صلى الله عليه وسلم مشاهدة معجزته، وصدقه أيام حياته، أو صحّةُ النقل بذلك، والخبرُ من لم يشاهده، أو جاء بعده، بخلاف الإيمان بالله تعالى، وتوحيده الذي يوصل إليه بمجرد النظر الصحيح، ودليل العقل السليم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: بخلاف الإيمان بالله
…
إلخ فيه نظر؛ إذ الفرق بين الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبين الإيمان بالله تعالى من لم تبلغه الدعوة مخالف لظاهر النصّ، فمن أين له وجوب الإيمان بالله تعالى على من لم تبلغه الدعوة؟، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): أن من لم يؤمن برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم كافر يدخل النار، خالدًا مخلّدًا أبدًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم فيمن لم تبلغهم الدعوة:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله ما ملخّصه:
قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى قديمًا وحديثًا في الوِلْدان الذين ماتوا، وهم صغار، وآباؤهم كفار، ماذا حكمهم؟ وكذا المجنون، والأصمّ، والشيخ الخَرِفُ، ومن مات في الفترة، ولم تبلغه دعوة، وقد وَرَدَ في شأنهم أحاديث
…
فذكر منها حديث الأسود بن سَرِيع رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد رحمه الله (424): حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا معاذ بن
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 188.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 604.
هشام، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سَرِيع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أربعة يَحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ، لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هَرِمٌ، ورجل مات في فترة، فأما الأصمّ، فيقول: رب قد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق، فيقول: رب قد جاء الإسلام، والصبيان يَحذفوني بالبعر، وأما الهَرِم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم لَيُطِيعنّه، فَيُرسل إليهم أن ادخلُوا النار، فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"
(1)
.
وأخرج أيضًا بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في آخره:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يُسْحَب إليها"
(2)
.
وكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن معاذ بن هشام، ورواه البيهقي في "كتاب الاعتقاد" من حديث حنبل بن إسحاق، عن علي بن عبد الله المديني به، وقال: هذا إسناد صحيح، وكذا رواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعة كلهم يُدلي على الله بحجة
…
"، فذكر نحوه، ورواه ابن جرير من حديث معمر، عن همام، عن أبي هريرة .. فذكره موقوفًا، ثم قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وكذا رواه معمر، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، موقوفًا.
ثم ذكر أحاديث كثيرة بهذا المعنى، ومعظمها متكلّم فيها.
ثم قال: فمن العلماء: من ذهب إلى الوقوف فيهم؛ لِمَا أخرجه أحمد عن حسناء بنت معاوية، من بني صُرَيم، قالت: حدثني عمي، قال: قلت: يا
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 24) وهو حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح، كما قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 7/ 218 - 219.
(2)
صحيحٌ أيضًا أخرجه أحمد (4/ 24).
رسول الله، من في الجنة؟ قال:"النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة"، وحسناء مجهولة، لم يروِ عنها إلا عوفٌ الأعرابي.
ومنهم: من جزم لهم بالجنة؛ لحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في "صحيح البخاري" أنه صلى الله عليه وسلم قال في جملة ذلك المنام، حين مَرّ على ذلك الشيخ، تحت الشجرة، وحوله ولدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين، وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:"نعم، وأولاد المشركين".
ومنهم: من جزم لهم بالنار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هم مع آبائهم"، متّفقٌ عليه، لكن هذا في أحكام الدنيا؛ لأنه سئل عن أهل بيت يُبَيِّتُون، فقال:"هم منهم"، وفي لفظ:"هم من آبائهم"
(1)
.
ومنهم: من ذهب إلى أنهم يُمْتَحَنون يوم القيامة في العَرَصات، فمن أطاع دخل الجنة، وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة، ومَن عَصَى دخل النار، داخرًا، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة.
قال ابن كثير: وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها، وقد صَرَّحت به الأحاديث المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض، وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن، عليّ بن إسماعيل الأشعريّ، عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقيّ، في "كتاب الاعتقاد"، وكذلك غيره، من محققي العلماء والحفاظ والنقاد، وقد ذَكَر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَريّ بعدما تقدم من أحاديث الامتحان، ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قويةً، ولا تقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرونها؛ لأن الآخرة دار جزاء، وليست بدار عمل، ولا ابتلاء، فكيف يُكَلَّفُون دخول النار، وليس ذلك في وسع المخلوقين، والله لا يُكَلِّف نفسًا إلا وسعها.
(1)
فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة رضي الله عنهم قال: سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الذراريّ، من المشركين، يُبَيِّتُون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال:"هم منهم"، لفظ مسلم.
والجواب عما قال: إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيحٌ، كما قد نَصَّ على ذلك كثير من أئمة العلماء، ومنها ما هو حَسَنٌ، ومنها ما هو ضعيفٌ، يتقوى بالصحيح والحسن، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلةً متعاضدةً على هذا النمط، أفادت الحجة عند الناظر فيها.
وأما قوله: "إن الدار الآخرة دار جزاء"، فلا شك أنها دار جزاء، ولا ينافي التكليف في عرصاتها، قبل دخول الجنة أو النار، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعريّ، عن مذهب أهل السنة والجماعة، من امتحان الأطفال، وقد قال تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42]، وقد ثبت في الصحاح، وغيرها: أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة، وأن المنافق لا يستطيع ذلك، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقًا واحدًا، كلما أراد السجود خَرَّ لقفاه، وفي "الصحيحين" في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه، أن لا يسأل غير ما هو فيه، ويتكرر ذلك مرارًا، ويقول الله تعالى: يا ابن آدم ما أغدرك" ثم يأذن له في دخول الجنة، متّفقٌ عليه.
وأما قوله: "فكيف يُكَلّفهم الله دخول النار، وليس ذلك في وسعهم؟ "، فليس هذا بمانع من صحة الحديث، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط، وهو جسرٌ على جهنم أحدُّ من السيف، وأدَقُّ من الشعرة، وَيمُرّ المؤمنون عليه، بحسب أعمالهم؛ كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، ومنهم الساعي، ومنهم الماشي، ومنهم من يَحْبُو حبوًا، ومنهم المكدوس على وجهه في النار، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا، بل هذا أطَمّ وأعظم.
وأيضًا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار، فإنه يكون عليه بردًا وسلامًا، فهذا نظير ذلك.
وأيضًا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم، فقَتَل بعضهم بعضًا، حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفًا، يقتل الرجل أباه وأخاه، وهم في عَمَاية أرسلها الله عليهم، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم
العجل، وهذا أيضا شاقّ على النفوس جدًّا، لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور، والله أعلم. انتهى المقصود من كلام ابن كثير رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من التحقيق أن أرجح الأقوال في أطفال المشركين، والمجنون، والأصمّ، والشيخ الخَرِف، ومن لم تبلغهم الدعوة هو القول بامتحانهم؛ لصحة الدليل بذلك، ولا سيّما حديث الأسود بن سَرِيع، وما عداه من الأخبار، وإن تُكلّم فيها، إلا أنها بمجموعها تفيدُ الحجة، وسنعود إلى تكميل البحث في هذا في الموضع المناسب له - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(76) - (بَابُ ذِكْر مَنْ يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[394]
(154) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا
(2)
هُشَيْمٌ، عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيّ، عَنِ الشَّعْبِيّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، سَأَلَ
(3)
الشَّعْبِيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، إِنَّ مَنْ قِبَلَنَا، مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ: إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَهُوَ كَالرَّاكِبِ بَدَنتهُ، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: حَدَّثَني أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى، عَنْ أَبِيه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"ثَلَاَثة يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب، آمَنَ بِنَبِيِّه، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَآمنَ بِه، وَاتَّبَعَهُ، وَصَدَّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ؛ وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَدَّى حَقَّ اللهِ تَعَالَى، وَحَقَّ سَيِّدِه، فَلَهُ أَجْرَانِ؛ وَرَجُلٌ، كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ، فَغَذَّاهَا، فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا، ثُمَّ أَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ"، ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانيِّ: خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ).
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 8/ 445 - 462 في تفسير "سورة الإسراء".
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا هُشيم".
(3)
وفي نسخة: "يسأل الشعبيّ".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبت إمامٌ [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(هُشَيْم) بن بَشير بن القاسم بن دينار السّلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم
(1)
الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](183)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(صَالِحُ بْنُ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيُّ) هو: صالح بن صالح بن حَيّ، وقيل: صالح بن صالح بن مُسلمَ بن حَيّ، أبو حيان الثوريّ الهمدانيّ الكوفيّ، وقد يُنسب إلى جدّ أبيه حَيّ، وحَيٌّ لقبُ حيان، فيقال: صالح بن حيّ، وصالح بن حيّان، ثقةٌ [6].
رَوَى عن الشعبيّ، وسلمة بن كُهيل، وسِمَاك بن حرب، وعاصم الأحول، وعون بن عبد الله بن عتبة، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: الحسنُ، وعليّ، وشعبة، والسفيانان، وهشيم، ويحيى بن أبي زائدة، وابن المبارك، وعبد الرحمن المحاربي، وأبو خالد الأحمر، وغيرهم.
قال ابن عيينة: كان خيرًا من ابنيه، وقال حرب، عن أحمد: ثقة ثقة، وقال ابن معين، والنسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: كان ثقة، رَوَى عن الشعبيّ أحاديث يسيرة، وما نعرف عنه في المذهب إلا خيرًا، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال ابن خلفون في "الثقات": مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وهو ثقةٌ، قاله ابن نُمَير وغيره، قال الحافظ: كذا نقلته من خطّ مغلطاي. انتهى.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب هذا الحديث فقط.
4 -
(الشَّعْبِيُّ) هو: عامر بن شَرَاحيل الهَمْدانيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيه فاضلٌ مشهور [3](ت بعد 100) عن (80) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى) الكوفيّ قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3] (ت 104) وقيل: غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
(1)
بمعجمتين.
6 -
(أَبُوه) هو: عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه مات سنة (50)، وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، من صالح، وشيخه نيسابوريّ، وهُشيمٌ واسطيّ.
4 -
(ومنها): أن صالح بن صالح هذا ليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث، كما أسلفته آنفًا.
5 -
(ومنها): أن فيه قولَه: "الهَمْدانيّ"، بفتح الهاء، وسكون الميم، فدالٍ مهملةٍ: نسبة إلى قبيلة باليمن، وأما الهَمَذانيّ بفتحتين، وذال معجمة، فنسبة إلى بلدة في العجم، بناها هَمَذَان بن الفَلُّوج بن سام بن نوح، وغالب العلماء المتقدّمين، ينسبون إلى الأول، وغالب المتأخرين يُنسبون إلى الثاني، وإليه أشار السيوطيّ في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَللْقَبِيلِ نِسْبَةُ الهَمْدَانِي
…
وَبَلَدٍ أَعْجِمْ بِلَا إِسْكَانِ
فِي القُدَمَاءِ ذَاكَ غَالِبٌ وَذَا
…
فِي الآخِرِينَ فَهْوَ أَصْلٌ يُحْتَذَى
وفيه قوله: "الشَّعْبِيّ" بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة: نسبة إلى شعب، بطنٌ من هَمْدان، وقيل: من حِمْيَر
(1)
.
6 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الشعبيّ، عن أبي بُردة، وهو من رواية الأقران، وفيه رواية الابن عن أبيه: أبو بُردة عن أبي موسى رضي الله عنه.
7 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا الإسناد لطيفةٌ، يتكرر مثلها، وقد تقدم بيانها، وهو أنه قال: "عن صالح، عن الشعبيّ، قال: رأيت
(1)
"لب اللباب" 2/ 55.
رجلًا سأل الشعبيّ"، وهذا الكلام ليس منتظمًا في الظاهر، ولكن تقديره: حدثنا صالحٌ، عن الشعبيّ، قال: رأيت رجلًا سأل الشعبيّ بحديث، وقصةٍ طويلةٍ، قال فيها صالح: رأيت رجلًا سأل الشعبيّ. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله أيضًا: أما هُشيم، فبضمّ الهاء، وهو مدلّسٌ، وقد قال: عن صالح، وقد قدّمنا أن مثل هذا إذا كان في الصحيح محمول على أن هُشيمًا ثبت سماعه لهذا الحديث من صالح. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكر الإمام الدراميّ رحمه الله في "مسنده" تصريح هشيم بسماعه من صالح بن صالح، فقال بعد أن أخرجه من طريق عمرو بن عون عن هُشيم ما نصّه: قال هُشيم: أفادوني بالبصرة، فأتيته فسألته عنه. انتهى. فهذا صريح بأنه سمعه منه.
وأيضًا لم ينفرد به بل تابعه عليه عبدة بن سليمان، وسفيان بن عيينة، وشعبة، ثلاثتهم عن صالح بن صالح، كما يأتي في السند التالي، فزالت تهمة التدليس، والحمد لله، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ) بفتح، فسكون، وللبخاريّ:"حدثنا صالح بن حيّان"، قال في "الفتح": هو صالح بن صالح بن مُسلم بن حيّان، نُسِب إلى جد أبيه، وهو بفتح المهملة، وتشديد الياء التحتانية، ولقبه حَيّ، وهو أشهر به من اسمه، وكذا من يُنْسَب إليه، يقال للواحد منهم غالبًا: فلان ابن حيّ، كصالح بن حَيّ هذا، وهو ثقة مشهور، وفي طبقته راوٍ آخر كوفيّ أيضًا، يقال له: صالح بن حَيّان القُرَسيّ، لكنه ضعيف، وقد وَهِمَ مَن زَعَم أن البخاري أخرج له، فإنه إنما أخرج لصالح بن حَيّ، وهذا الحديث معروف بروايته عن السعبيّ، دون القرشيّ، وقد أخرجه البخاري من حديثه، من طُرُق، منها في "الجهاد" من طريق ابن عيينة، قال: حدثنا صالح بن حَيّ، أبو حَيَّان، قال: سمعت الشعبيّ، وأصرح من ذلك، أنه أخرج الحديث المذكور في
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 187.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 187.
"كتاب الأدب المفرد" بالإسناد الذي أخرجه هنا، فقال: صالح بن حَيّ. انتهى
(1)
.
(عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شَرَاحيل (قَالَ) الفاعل ضمير صالح، لا ضمير الشعبيّ، كما أسلفناه في اللطائف، والمعنى: حدّثنا صالح بقصّة عن الشعبيّ، قال فيها صالح:(رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ) بضمّ الخاء المعجمة، وتخفيف الراء: بلادٌ مشهورة بالعجم، والنسبة إليها خُراسانيّ، قال سيبويه: وهو أجود، وخُرَاسنِيّ بحذف الألف الثانية، مع كسر السين، وخُرَسَنيّ بحذف الألفين، وخُرَسيّ بحذف الألفين والنون، وخُراسيّ، ذكره في "القاموس" وشرحه
(2)
.
(سَأَلَ) وفي نسخة: "يسأل"(الشَّعْبِيَّ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو) كنية الشعبيّ رحمه الله (إِنَّ مَنْ قِبَلَنَا)"مَن" اسم موصول بمعنى الذين، و"قِبَلنا" بكسر القاف، وفتح الموحّدة؛ أي: عندنا، يقال: لي قِبَله كذا بكسر، ففتح؛ أي: عنده
(3)
؛ أي: إن الذين يعيشون عندنا (مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ) بيان لـ "مَنْ"، متعلّق بحال مقدّر (يَقُولُونَ فِي الرَّجُلِ) أي: في شأن الرجل (إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، فَهُوَ كَالرَّاكِب بَدَنَتَهُ) أي: هديّته التي يُهديها إلى الحرم، فـ "البَدَنة" بفتحتين: هي الناقة، أَو البقرة، أو البعير، قال الأزهريّ: ولا تقع البدنة على الشاة، وقال بعض أهل اللغة: البَدَنة: هي الإبل خاصّة، ويدلّ عليه قوله تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، سُمّيت بذلك؛ لِعِظم بدنها، جمعها بَدَنات، مثلُ قصبة، وقَصبَات، وبُدُنٌ بضمتين، وبإسكان الدال تخفيفًا
(4)
.
والمعنى: أن الذي يُعتق أمته، ثم يتزوّجها مثل الذي يُهدي إلى الحرم بدنةً، ثم يركبها؛ أي: فكما لا يجوز ركوبها إلا للضرورة؛ لِمَا أخرجه المصنّف رحمه الله عن الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سُئل عن ركوب الهدي، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها بالمعروف، إذا أُلجئت إليها،
(1)
"الفتح" 1/ 229 "كتاب الإيمان" رقم (97).
(2)
راجع: "تاج العروس شرح القاموس" 4/ 137.
(3)
راجع: "القاموس المحيط" ص 942.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 39 - 40.
حتى تجد ظهرًا"، كذلك لا يجوز أن يتزوّج أمته التي أعتقها؛ لأنه يكون رجوعًا، وهذا قياس فاسد؛ لمعارضته النصّ المذكور في هذا الحديث.
(فَقَالَ الشَّعْبِيُّ) ردًّا لهذا القياس الفاسد (حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَى) تقدّم الخلاف في اسمه (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلَاَثَةٌ) مبتدأٌ، سوّغ الابتداء به، وإن كان نكرةً، المضاف إليه، أو الوصف المقدّران؛ أي: ثلاثة رجال، أو ثلاثة من الرجال، وخبره جملة قوله:(يُؤْتَوْنَ) بالبناء للمفعول؛ أي: يؤتى كلّ واحد منهم (أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رَجُلٌ) بدل تفصيل من "ثلاثة"، أو بدل كلّ، إن نُظر إلى المجموع، وحكم المرأة الكتابية في ذلك حكم الرجل، كما هو مُطّرِدٌ في جُلّ الأحكام، حيث يدخلْنَ مع الرجال بالتبعية، إلا ما خَصّه الدليل، قاله في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: لا مفهوم للعدد المذكور، فقد وردت نصوص أخرى تدلّ على الزيادة على الثلاثة، سنوردها في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) صفة لـ "رجلٌ"، قال الطيبيّ رحمه الله: قال الشارحون: المراد بأهل الكتاب نصرانيّ تنصّر قبل المبعث، أو بلوغ الدعوة إليه، وظهور المعجزة لديه، ويهوديّ تهوّد قبل ذلك، إن لم تُجعل النصرانيّة ناسخة لليهوديّة؛ إذ لا ثواب لغيره على دينه، فيُضاعفَ باستحقاقه ثواب الإيمان، ويدلّ على ذلك أنه وقع في رواية للبخاريّ رحمه الله بدل قوله:"آمن بنبيّه": "آمن بعيسى عليه السلام".
ويحتمل إجراؤه على عمومه؛ إذ لا يبعُدُ أن يكون طَرَيَانُ الإيمان به سببًا لقبول تلك الأعمال والأديان، وإن كانت منسوخة، كما ورد في الحديث أن مبرّات الكفّار وحسناتهم مقبولةٌ بعد إسلامهم.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الأولى، والله تعالى أعلم.
[فإن قلت]: أيُّ فائدة في ذكر "آمن بنبيّه"، وقد عُلِم ذلك من قوله:"من أهل الكتاب"؟.
(1)
"الفتح" 1/ 231.
[أُجيب]: بأنه للإشعار بعلّيّة الأجر، أي: سبب الأجرين الإيمان بالنبيين. انتهى كلام الطيبيّ بتصرّف
(1)
.
وقال في "الفتح": لفظ "الكتاب" عامّ، ومعناه خاصّ؛ أي: المُنَزَّل من عند الله تعالى، والمراد به التوراة والإنجيل، كما تظاهرت به نصوص الكتاب والسنة، حيث يُطْلَقُ أهلُ الكتاب، وقيل: المراد به هنا الإنجيل خاصّة، إن قلنا: إن النصرانية ناسخة لليهودية، كذا قرره جماعة، ولا يُحتاج إلى اشتراط النسخ؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام، كان قد أُرسل إلى بني إسرائيل بلا خلاف، فمَن أجابه منهم نُسِب إليه، ومَن كذَّبه منهم، واستَمَرّ على يهوديته، لم يكن مؤمنًا، فلا يتناوله الخبر؛ لأن شرطه أن يكون مؤمنًا بنبيّه.
نعم مَن دخل في اليهودية من غير بني إسرائيل، أو لم يكن بحضرة عيسى عليه السلام، فلم تبلغه دعوته، يَصْدُق عليه أنه يهوديّ مؤمن؛ إذ هو مؤمن بنبيه موسى عليه السلام، ولم يُكَذِّب نبيًّا آخر بعده، فمن أدرك بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ممن كان بهذه المثابة، وآمن به، لا يُشكل أنه يدخل في الخبر المذكور، ومن هذا القبيل العرب الذين كانوا باليمن وغيرها، ممن دخل منهم في اليهودية، ولم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لكونه أُرسل إلى بني إسرائيل خاصّةً.
نعم الإشكال في اليهود الذين كانوا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَت أن الآية الموافِقَة لهذا الحديث، وهي قوله تعالى:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص: 54] نزلت في طائفة آمنوا منهم، كعبد الله بن سلام وغيره، ففي الطبرانيّ، من حديث رفاعة القُرَظِيّ قال: نزلت هذه الآيات فيّ، وفيمن آمن معي، وروى الطبرانيّ بإسناد صحيح، عن عليّ بن رفاعة القُرَظيّ قال: خرج عشرة من أهل الكتاب، منهم أبي رفاعةُ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فآمنوا به، فأُوذُوا، فنزلت:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)} [القصص: 52]، فهؤلاء من بني إسرائيل، ولم يؤمنوا بعيسى، بل استَمَرُّوا على اليهودية، إلى أن آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثَبَت أنهم يُؤْتَون أجرهم مرتين.
قال الطيبيّ: فيحتمل إجراء الحديث على عمومه؛ إذ لا يَبْعُد أن يكون
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 450.
طَرَيَان الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم سببًا لقبول تلك الأديان، وإن كانت منسوخةً. انتهى.
قال: ويمكن أن يقال في حقّ هؤلاء الذين كانوا بالمدينة: إنه لم تبلغهم دعوة عيسى عليه السلام؛ لأنها لم تنتشر في أكثر البلاد، فاستمرّوا على يهوديتهم مؤمنين بنبيهم موسى؛ إلى أن جاء الإسلام، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبهذا يرتفع الإشكال - إن شاء الله تعالى -.
[فوائد]:
(الأولى): وَقَع في شرح ابن التين وغيره أن الآية المذكورة نَزَلت في كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، وهو صوابٌ في عبد الله، خطأٌ في كعب؛ لأن كعبًا ليست له صحبةٌ، ولم يُسْلِم إلا في عهد عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه، والذي في تفسير الطبري وغيره، عن قتادة، أنها نزلت في عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسيّ، وهذا مستقيم؛ لأن عبد الله كان يهوديًّا، فأسلم، وسلمان كان نصرانيًّا، فأسلم، وهما صحابيان مشهوران.
(الثانية): قال القرطبيّ: الكتابيّ الذي يُضَاعَف أجره مرتين، هو الذي كان على الحق في شرعه عقدًا وفعلًا إلى أن آمن بنبينا صلى الله عليه وسلم، فيؤجر على اتّباع الحق الأول والثاني، وأما من اعتقد الإلهيّة لغير الله تعالى، كما تعتقده النصارى اليوم، أو من لم يكن على حقّ في ذلك الشرع الذي ينتمي إليه، فإذا أسلم جَبّ الإسلام ما كان عليه من الفساد والغلط، ولم يكن له حقّ يؤجر عليه إلا الإسلام خاصّةً. انتهى
(1)
.
ويُشكِل عليه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَتَب إلى هِرَقْل: "أَسْلِم تَسْلَم، ويؤتِك الله أجرك مرتين"، وهِرَقْلُ كان ممن دخل في النصرانية بعد التبديل، فالحقّ أنه لا يشترط كونه استقامته على الشرع الذي ينتمي إليه؛ لأن حديث الباب، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لهرقل:"يؤتك الله أجرك مرتين" لم يكن إلا بعد تمسّك أهل الكتابين بما بُدّل وغيّر منه، فتوجيه الطيبيّ فيما سبق بأن طريان الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان سببًا لقبول تلك الأديان المحرّفة، وما ذلك على الله بعزيز، وهو نظير قوله عز وجل:
(1)
"المفهم" 1/ 369.
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)} [الأنفال: 38]، والله تعالى أعلم.
(الثالثة): قال أبو عبد الملك البُونيّ وغيره: إن الحديث لا يتناول اليهود البتة، وليس بمستقيم كما قررناه، وقال الداوديّ، ومن تبعه: إنه يحتمل أن يَتناول جميعَ الأمم فيما فعلوه من خير، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه:"أسلمت على ما أسلفت من خير".
قال الحافظ: وهو مُتَعَقَّبٌ؛ لأن الحديث مُقَيَّد بأهل الكتاب، فلا يتناول غيرهم إلا بقياس الخير على الإيمان، وأيضًا فالنكتة في قوله:"آمن بنبيه" الإشعار بعلّية الأجر؛ أي: أن سبب الأجرين الإيمان بالنبيين، والكفار ليسوا كذلك.
ويمكن أن يقال: الفرق بين أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، أن أهل الكتاب يَعرفون محمدًا صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى:{يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157]، فمن آمن به، واتبعه منهم، كان له فضلٌ على غيره، وكذا من كَذَبه منهم، كان وِزْره أشدّ من وزر غيره، وقد وَرَد مثلُ ذلك في حقّ نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لكون الوحي كان ينزل في بيوتهن.
[فإن قيل]: فَلِمَ لم يُذكرن في هذا الحديث، فيكون العدد أربعة؟.
[أجيب]: بأن قضيتهن خاصّةٌ بهنّ، مقصورة عليهنّ، والثلاثة المذكورة في الحديث مستمرة إلى يوم القيامة، هكذا قال البلقينّي رحمه الله، قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى أن قضية مؤمن أهل الكتاب مستمرّ، وقد ادَّعَى الكرماني اختصاصَ ذلك بمن آمن في عهد البعثة، وعَلَّل ذلك بأن نبيهم بعد البعثة، إنما هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم باعتبار عموم بعثته. انتهى.
وقضيته أن ذلك أيضًا لا يتمّ من كان في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن خصَّه بمن لم تبلغه الدعوة، فلا فرق في ذلك بين عهده صلى الله عليه وسلم وبعده، فما قاله البلقينيّ أظهر، والمراد بنسبتهم إلى غير نبيّنا صلى الله عليه وسلم إنما هو باعتبار ما كانوا عليه قبل ذلك.
وأما ما قَوَّى به الكرماني دعواه بكون السياق مختلفًا، حيث قيل في مؤمن أهل الكتاب:"رجل" بالتنكير، وفي العبد بالتعريف، وحيث زيدت فيه
"إذا" الدالة على معنى الاستقبال، فأشعر ذلك بأن الأجرين لمؤمن أهل الكتاب، لا يقع في الاستقبال بخلاف العبد. انتهى، وهو غير مستقيم؛ لأنه مَشَى فيه مع ظاهر اللفظ، وليس مُتَّفَقًا عليه بين الرواة، بل هو عند البخاريّ وغيره مختلفٌ، فقد عَبَّرَ في ترجمة عيسى عليه السلام بإذا في الثلاثة
(1)
، وعبّر في "النكاح" بقوله:"أَيُّما رجل" في المواضع الثلائة
(2)
، وهي صريحة في التعميم، وأما الاختلاف بالتعريف والتنكير، فلا أثر له هنا؛ لأن المعرَّف بلام الجنس مؤدّاه مؤدى النكرة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حققه الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ، وللعينيّ تعقّب عليه على عادته المستمرّة، تركته لكونه تعسّفًا ظاهرًا من تأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(آمَنَ بِنَبِيِّه، وَأَدْرَكَ النَّبِيَّ) محمدًا (صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(فَآمَنَ بِه، وَاتَّبَعَهُ، وَصَدَّقَهُ) يحتمل أن تكون ثلاثتها مترادفات في المعنى المراد؛ للتأكيد، ويحتمل أن يكون من الإيمان به: التصديق برسالته، ومن اتباعه: لزوم العمل بشريعته، ومن تصديقه: تصديقه في كلّ ما جاء به من الأحكام.
وقوله: (فَلَهُ أَجْرَانِ) كرّره؛ لطول الكلام، وللاهتمام به، على حدّ قول الحماسيّ [من الطويل]:
وَإِنَّ امْرَأً دَامَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ
…
عَلَى مِثْلِ هَذَا إِنَّهُ لَكَرِيمُ
(وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ)، ومثل العبد الأمة، كما سبق في الرجل والمرأة، وإنما
(1)
ولفظه في "كتاب أحاديث الأنبياء"(3446): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أدّب الرجل أمته، فأحسن تأديبها، وعلّمها، فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، كان له أجران، وإذا آمن بعيسى، ثم آمن بي، فله أجران، والعبد إذا اتقى ربه، وأطاع مواليه، فله أجران".
(2)
لفظه في "كتاب النكاح"(5083): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيّما رجل كانت عنده وليدة، فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيّه، وآمن بي، فله أجران، وأيّما مملوك، أَدَّى حق مواليه، وحق ربه، فله أجران
…
".
(3)
"الفتح" 1/ 230 - 231.
وَصَفَه بالمملوك؛ لأن جميع الناس عباد الله تعالى، فأراد تمييزه بكونه مملوكًا للناس (أَدَّى حَقَّ اللهِ تَعَالَى) أي: مثل الصلاة، والصوم (وَحَقَّ سَيِّدِهِ) أي: مثل خدمته، ولفظ البخاريّ:"وحقّ مواليه"(فَلَهُ أَجْرَانِ) قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله تعالى:
[إن قلت]: يُفهم من هذا أنه يؤجر على العمل الواحد مرّتين، مع أنه لا يؤجر على كلّ عمل إلا مرّة واحدة؛ لأنه يأتي بعملين مختلفين: عبادة الله، والنصح لسيّده، فيؤجر على كلّ من العملين مرّةً، وكذا كلّ آتٍ بطاعتين يؤجر على كلّ واحدة أجرها، ولا خصوصيّة للعبد بذلك.
[قلت]: يحتمل وجهين:
(أحدهما): أنه لما كان جنس العمل مختلفًا؛ لأن أحدهما طاعة الله، والآخر طاعة مخلوق، خصّه بحصول أجره مرّتين؛ لأنه يحصل له الثواب على عمل لا يأتي في حقّ غيره، بخلاف من لا يأتي في حقّه إلا طاعةٌ خاصّةٌ، فإنه يحصل أجره مرّةً واحدةً، أي: على كلّ عمل أجر، وأعماله من جنس واحد، لكن تظهر مشاركة المطيع لأميره، والمرأة لزوجها، والولد لوالده له في ذلك.
(ثانيهما): يمكن أن يكون في العمل الواحد طاعة الله، وطاعة سيّده، فيحصل له على العمل الواحد الأجر مرّتين؛ لامتثاله بذلك أمر الله، وأمر سيّده المأمور بطاعته، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله تعالى: معنى هذا الحديث عندي أن العبد لَمّا اجتمع عليه أمران واجبان: طاعة ربّه في العبادات، وطاعة سيّده في المعروف، فقام بهما جميعًا كان له ضعف أجر الحرّ المطيع لربّه مثل طاعته؛ لأنه قد ساواه في طاعة الله، وَفَضَلَ عليه بطاعة من أمره الله بطاعته.
قال: ومن هنا أقول: إن مَن اجتمع عليه فرضان، فأدّاهما أفضلُ ممن ليس عليه إلا فرض واحد، فأدّاه، كمن وجب عليه صلاةٌ وزكاةٌ، فقام بهما، فهو أفضل ممن وجبت عليه صلاةٌ فقط.
ومقتضاه أن من اجتمعت عليه فروضٌ، فلم يؤدِّ منها شيئًا، كان عصيانه
(1)
"طرح التثريب" 6/ 226.
أكثر من عصيان من لم يجب عليه إلا بعضها. انتهى ملخّصًا.
قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر أن مزيد الفضل للعبد الموصوف بالصفة لِمَا يدخل عليه من مشقّة الرقّ، وإلا فلو كان التضعيف بسبب اختلاف جهة العمل، لم يختصّ العبد بذلك.
وقال ابن التين: المراد أن كلّ عمل يعمله يُضاعف له. قال: وقيل: سبب التضعيف أنه زاد لسيّده نُصحًا، وفي عبادة ربّه إحسانًا، فكان له أجر الواجبين، وأجر الزيادة عليهما.
قال: والظاهر خلاف هذا، وأنه بَيَّنَ ذلك لئلّا يُظَنّ أنه غير مأجور على العبادة. انتهى. قال الحافظ: وما ادّعى أنه الظاهر لا ينافي ما نقله قبل ذلك.
[فإن قيل]: يلزم أن يكون أجر المماليك ضعف أجر السادات.
[أجاب الكرمانيّ]: بأنه لا محذور في ذلك، أو يكون أجره مضاعفًا من هذه الجهة، وقد يكون للسيّد جهاتٌ أخرى يستحقّ بها أضعاف أجر العبد، أو المراد ترجيح العبد المؤدّي للحقّين على العبد المؤدّي لأحدهما. انتهى.
ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر مختصًّا بالعمل الذي يتّحد فيه طاعة الله، وطاعة السيّد، فيعمل عملأ واحدًا، ويؤجر عليه أجرين بالاعتبارين، وأما العمل المختلف الجهة، فلا اختصاص له بتضعيف الأجر فيه على غيره من الأحرار، ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما سبق في كلام ابن عبد البرّ رحمه الله هو المعنى الأشبه بظاهر النصّ.
وحاصله أن العبد لَمّا توجّه إليه واجبان: طاعة ربّه، وطاعة سيّده، فقام بهما جميعًا، كان له أجره بهما، وهذا لا يوجد في الحرّ، ولا في العبد الذي يُخلّ بأحد الواجبين، والله تعالى أعلم.
(وَرَجُلٌ، كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ) وفي رواية البخاريّ: "كانت عنده وَليدة"، وهي في الأصل ما وُلد من الإماء في ملك الرجل، ثم أُطلق على كلّ أمة (فَغَذَاهَا) أي: أطعمها (فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا) بأن يُطعمها قبل أن تجوع، فلا يؤخّر طعامها عن
(1)
"فتح" 5/ 483 - 484 "كتاب العتق" رقم الحديث (2546).
وقت حاجتها، أو المراد جنس الطعام، بأن يكون من أحسن طعامه، وهو الذي يخصّ به نفسه، فهو بمعنى الحديث الآخر:"فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس"، متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله في "شرحه": قوله: "فغَذَاهَا، فأحسن غذاءها"، أما الأول فبتخفيف الذال، وأما الثاني، فبالمدّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه بتخفيف الذال ليس متعيّنًا إلا إذا صحّت الرواية به، ولم يُشِر النوويّ إلى ذلك، فيمكن أن يشدّد للمبالغة، قال الفيّوميّ رحمه الله: والغِذَاءُ مثلُ كتاب: ما يُغتذى به من الطعام والشراب، فيقال: غَذَا الطعام الصبيَّ يغذوه، من باب علا: إذا نَجَعَ فيه، وكفاه، وغَذَوته باللبن أغذوه أيضًا، فاغتذى به، وغذّيته بالتثقيل، مبالغةٌ، فتغذّى. انتهى
(2)
.
فدلّ على أن التثقيل فيه جائز، اللهم إلا أن يُدّعى صحة الرواية، كما أشرت إليه آنفًا، فيتعيّن، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ أَدَّبَهَا) من التأديب، والأدبُ: حُسن الأحوال في القيام والقعود، وحسن الأخلاق، وقيل: التخلّق با لأخلاق الحميدة (فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا) أي: أدّبها من غير تعنيف، ولا ضرب، بل بالرفق واللطف.
زاد في رواية البخاريّ: "وعلّمها، فأحسن تعليمها" أي: علّمها من أحكام الشريعة ما يجب عليها، "فأحسن تعليمها" أي: علّمها بالرفق، وحسن الخلق.
[فإن قلت]: أليس التأديب داخلًا تحت التعليم؟.
[قلتُ]: لا يدخل؛ إذ التأديب يتعلّق بالمروءات، والتعليم يتعلّق بالشرعيّات، أعني أن الأول عرفيّ، والثاني شرعيّ؛ أو الأول دنيويّ، والثاني دينيّ. قاله العينيّ رحمه الله
(3)
.
(ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَتَزَوَّجَهَا) وللبخاريّ: "فتزوّجها" بالفاء (فَلَهُ أَجْرَانِ") أعاده؛ لما سبق آنفًا.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 188.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 444.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 182.
قال الطيبيّ رحمه الله:
[فإن قلت]: فيه إشكال، وهو أنه ينبغي أن يكون له أربعة أجور: أحدها بتأديبها، والثاني بتعليمها، والثالث بإعتاقها، والرابع بتزوّجها، فَلِمَ قال:"فله أجران؟ "، ولم يقل: له أربعة أجور؟.
أجاب المظهر رحمه الله بأن المراد الأجرين له ها هنا بالإعتاق والتزوّج، لأن التأديب والتعليم موجبان للأجر في الأجنبيّ، والأولاد، وجميع الناس، فلم يكن مختصًّا بالإماء.
قال الطيبيّ رحمه الله: موجب الأجرين إعتاقها، وتزوّجها فحسبُ، والتأديب والتعليم موجبان لاستئهالها للإعتاق والتزوّج؛ لأن تزوّج المرأة المؤدَّبة المعلَّمة أكثر بركةً، وأقرب إلى أن تُعين زوجها على دينه، والشاهد لفظ "ثمَّ"؛ لكونها تفيد أن الإعتاق والتزوُّج أفضل وأعلى رتبةً من التأديب والتعليم، والأولى أن يقال: إن التأديب بالعنف لا يوجب الأجر، كما أن الوطء بدون العتق لا يُثبت الأجر؛ لحصوله قبل ذلك؛ لقوله في رواية البخاريّ:"كانت عنده أمة يطؤها"، كأنه قيل: يؤدّبها تأديبًا حسنًا، ويطؤها وَطْئًا جميلًا.
وأما الفاء في "فأحسن" فللترتيب أيضًا، لكنها دون "ثُمّ"، كما في قولك: الأمثل فالأمثل، والأفضل فالأفضل؛ يعني: التأديب والتعليم بالرفق أحسن، وأفضل منه بالعنف. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: وجه اقتران هذا الحديث بالحديث السابق - أعني حديث: "والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يسمع
…
" الحديث - مثل وجه اقتران ثواب نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعقابهنّ في المضاعفة، في قوله تعالى:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 30 - 31].
فينبغي أن يُنزّل الحديث الأول على أن أهل الكتاب أولى الناس بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بسبب معرفتهم به؛ لأنه مكتوب عندهم في التوارة والإنجيل، كما قال عز وجل:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 451.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} الآية [الأعراف: 157]، فإذا كفروا به استوجبوا من العذاب ضعف عذاب الناس، والعكس إذا آمنوا، فدلّ على هذا المعنى هذا الحديثُ، وعلى استحقاق ضعف العذاب قوله في الحديث السابق:"إلا كان من أصحاب النار"؛ لأنه في قوّة أنه من الجهنّميين، فهو من أسلوب قولك: فلان من العلماء؛ أي: له مساهمة معهم في العلم، وأن الوصف كاللقب المشهور له، أفاده الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ لِلْخُرَاسَانِيِّ) السائل له (خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيءٍ) أي: عوض من الأمور الدنيوية، وإلا فالأجر الأخرويّ حاصل له، ما أخلص نيّته في نشر العلم (فَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَرْحَلُ) بالبناء للمفعول، يقال: رَحَل عن البلد، من باب مَنَعَ رَحِيلًا: إذا انتقل منها، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: رَحّلته
(2)
. (فِيمَا دُونَ هَذَا) أي: في أقلّ مما سألته، فالإشارة إلى المسؤول، وفي رواية للبخاريّ:"يُرْكَب فيما دونها"، أي: يُرْحَل لأجل ما هو أهون منها، والضمير عائد على المسألة (إِلَى الْمَدِينَةِ) أي: النبوية؛ إذ هي عَلَم بالغلبة عليها، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "العَقَبَهْ"
وكان ذلك في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، ثم تفرَّق الصحابة في البلاد، بعد فتوح الأمصار، وسكنوها، فاكتفى أهلُ كل بلد بعلمائه، إلا من طلب التوسع في العلم، فرحَلَ فيه.
قال الحافظ رحمه الله: واستدلال ابن بطال وغيره من المالكية، على تخصيص العلم بالمدينة، فيه نظرٌ؛ لِمَا قررناه، وإنما قال الشعبي ذلك تحريضًا للسامع؛ ليكون ذلك أَدْعَى لحفظه، وأجلب لحرصه. انتهى. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 451.
(2)
راجع: "القاموس" ص 905، و"المصباح المنير" 1/ 222.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث؛
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[76/ 394 و 395](154)، وأعاده المصنف في "النكاح" مختصرًا بلفظ:"من كانت له جارية، فأحسن إليها، ثم أعتقها، وتزوّجها، كان له أجران"، و (البخاريّ) في "العلم"(97)، و"العتق"(2544 و 2547)، و"الجهاد"(3011)، و"أحاديث الأنبياء"(3446)، و"النكاح"(5083)، و (أبو داود) في "العتق"(2053)، و (الترمذيّ) في "النكاح"(1116)، و (النسائيّ) في "النكاح"(5502)، و (ابن ماجه) في "النكاح"(1956)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(501 و 502)، و (الحميديّ) في "مسنده"(768)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 - 398 - 402 - 405 - 414 - 415)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 154 - 155)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(302 و 303 و 304 و 305 و 306)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(385 و 386 و 387)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(227)، و (ابن منده) في "الإيمان"(395 و 396 و 398 و 399 و 400)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 394 - 395 - 396)، و (الطبراني) في "المعجم الصغير"(1/ 44)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 128)، و (البغويّ) في "شرح السنة"(25 و 26)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن هؤلاء الثلاثة يؤتون أجرًا مضاعفًا؛ لكون عملهم مضاعفًا.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة من آمن من أهل الكتاب بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأن لي أجرين؛ لإيمانه بنبيّه، وإيمانه بنبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا هو وجه المطابقة لإيراده في كتاب الإيمان.
3 -
(ومنها): بيان فضيلة العبد المملوك القائم بحقوق الله تعالى، وحقوق سيّده.
4 -
(ومنها): ترغيب العبد المملوك في طاعة ربه، وطاعة سيّده.
5 -
(ومنها): أن وضع المقدار في الدنيا قد يكون سببًا في رفع الدرجات في الآخرة.
6 -
(ومنها): حرص الشارع في عتق العبيد، والترغيب فيه.
7 -
(ومنها): الحثّ على الإحسان للمملوك في تحسين غذائه، وفي تأديبه، وتعليمه.
8 -
(ومنها): بيان فضيلة من أعتق أمته، وتزوّجها، وليس هذا من الرجوع في الصدقة في شيء، بل هو محض إحسان إليها بعد إحسان.
9 -
(ومنها): بيان جواز نكاح الرجل جاريته التي أعتقها، وفيه ردّ على مَن كَرِه ذلك، كما ذُكر في قصّة الخراسانيّ من أن أهل خراسان يكرهون ذلك، ويشبّهونه بركوب البدنة.
وأخرج الطبرانيّ بإسناد رجاله ثقات عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يقول ذلك. وأخرج سعيد بن منصور، عن ابن عمر رضي الله عنهما مثله، وعند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه أنه سُئل عنه؟، فقال:"إذا أعتق أمته لله، فلا يعود فيها"، ومن طريق سعيد بن المسيّب، وإبراهيم النخعيّ أنهما كرها ذلك، وأخرج أيضًا من طريق عطاء والحسن أنهما كانا لا يريان بذلك بأسًا، ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الصواب أنه لا كراهة في ذلك، ويُعتذر عن هؤلاء الذين كَرِهُوا ذلك بأنهم لم يبلغهم النصّ الذي في حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه المذكور في الباب، فإنه نصّ لا يقبل النزاع، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): أنه يدلّ على مزيد فضل من أعتق أمته، ثم تزوّجها، سواءٌ أعتقها ابتداءً لله، أو لسبب.
11 -
(ومنها): ما كان عليه السلف من الرحلة في طلب العلم، وقد عقد الإمام البخاريّ في "صحيحه""باب الرحلة في طلب العلم"، ورحل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهم في حديث واحد، ثم أخرج خروج موسى صلى الله عليه وسلم في طلب الخضر عليه السلام.
(1)
"فتح" 10/ 159 "كتاب النكاح".
وقد أخرج الدارميّ بسند صحيح، عن بُسْر بن عبيد الله - وهو بضم الموحدة، وسكون المهملة - قال: إن كنتُ لأركبُ إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد، وعن أبي العالية قال: كنا نَسمَع الحديث عن الصحابة، فلا نَرْضَى حتى نركب إليهم، فنسمعه منهم.
12 -
(ومنها): أنه ينبغي للعالم أن يحثّ طلابه على الرحلة في طلب العلم، فالشعبيّ من كبار التابعين، وقد قال للسائل: قد كان يرحل فيما دون ذلك إلى المدينة؛ ليحثّه على ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المزجع والمآب.
(المسألة الرابعة): أنه لا مفهوم للعدد في قوله: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين"، فقد ثبت في النصوص الأخرى زيادة على ذلك:
1 -
(فمنها): ما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه، وهو عليه شاقّ له أجران"، لفظ مسلم.
2 -
(ومنها): ما أخرجه الشيخان أيضًا عن زينب امرأة ابن مسعود رضي الله عنها في التي تتصدّق على قريبها: "لها أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة".
3 -
(ومنها): ما أخرجاه أيضًا من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه في الحاكم إذا أصاب، له أجران.
5 -
(ومنها): ما أخرجه الطبرانيّ من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، رفعه: "أربعة يؤتون أجرهم مرّتين
…
"، فذكر الثلاثة المذكورين هنا، وزاد: أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
6 -
(ومنها): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ سنّة حسنة، فعُمِل بها كان له أجرها، ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئًا
…
"
(1)
.
7 -
(ومنها): ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "من
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(18404)، والترمذيّ (586).
دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا
…
".
8 -
(ومنها): ما أخرجه مسلم أيضًا، من حديث أبي مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"من دلّ على خير، فله مثل أجر فاعله".
9 -
(ومنها): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه في الذي تيمّم، ثم وجد الماء، فأعاد الصلاة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لك الأجر مرّتين"، حديث صحيحٌ، أخرجه أبو داود، وغيره.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: وقد يحصل بمزيد التتبّع أكثر من ذلك، وكلّ هذا دالّ على أنه لا مفهوم للعدد المذكور في حديث أبي موسى رضي الله عنه. انتهى
(1)
. وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[395]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثنَا شُعْبَةُ، كلُّهُمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ، بِهَذَا الإسْنَاد، نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](ت 235)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العَدنيّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
(1)
"فتح" 10/ 158 - 159 "كتاب النكاح" رقم (5083).
4 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة بن أبي عمران الهلاليّ مولاهم، أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ إمام مشهور، رأس الطبقة [8](ت 198) عن (91) سنة (ع) تقدم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 383.
5 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
6 -
(أَبُوه) هو: معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العَنبريّ، أبو المثنّى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(شُعْبَةُ) بن الحجَّاج الإمام الحجة الناقد البصير الواسطيّ، ثم البصريّ [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
وقوله: (كلُّهم) أي الثلاثة: عبدة، وسفيان بن عيينة، وشعبة عن صالح بن صالح
…
إلخ.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد صالح بن صالح، عن الشعبيّ
…
إلخ.
وقوله: (نَحْوَهُ) أي: أحاديث هؤلاء الثلاثة، نحو حديث هُشيم.
[تنبيه]: أما طريق عبدة بن سلمان، عن صالح، فساقها الإمام ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(1956)
حدثنا عبد الله بن سعيد، أبو سعيد الأشجّ، حدثنا عبدة بن سليمان، عن صالح بن صالح بن حيّ، عن الشعبيّ، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له جاريةٌ، فأدّبها فأحسن أدبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران، وأيّما رجل من أهل الكتاب، آمن بنبيّه، وآمن بمحمد، فله أجران، وأيّما عبد مملوكٍ أَدَّى حق الله عليه، وحق مواليه، فله أجران"، قال صالح: قال الشعبيّ: قد أعطَيْتُكَها بغير شيء، إن كان الراكب ليركب فيما دونها إلى المدينة.
وأما طريق سفيان بن عيينة، فساقها الحافظ ابن منده في "الإيمان"(1/ 505)، فقال:
(397)
أنبأ خيثمة بن سليمان، ثنا أبو يحيى بن أبي مسرة، ثنا عبد الله بن الزبير، (ح) وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا إبراهيم بن أبي طالب، ثنا محمد بن يحيى، قال: ثنا سفيان بن عيينة، ثنا صالح بن صالح بن حيّ، قال: جاء رجل
إلى الشعبيّ، وأنا عنده، فقال: يا أبا عمرو، إن ناسًا عندنا بخراسان، يقولون: إذا أعتق الرجل أمته، ثم تزوجها، فهو كالراكب بدنته، فقال الشعبيّ: حدثنا أبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل من أهل الكتاب، كان مؤمنًا قبل أن يبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فله أجران، ورجلٌ كانت له جاريةٌ، فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها، فله أجران، وعبدٌ أطاع الله، وأدَّى حق سيده، فله أجران"، خُذْها بغير شيء، فلقد كان الرجل يَرْحَل في أدنى منها إلى المدينة. انتهى.
وأما طريق شعبة، فساقها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"(1/ 96)، فقال:(302) حدثنا يونس بن حبيب، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن صالح بن صالح، عن الشعبيّ، قال: حدثني أبو بردة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل كانت له أمةٌ، فأدّبها فأحسن أدبها، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها، فتزوجها، ورجل من أهل الكتاب، آمن بنبيه، ثم أدرك النبيّ، فآمن به، وعبدٌ أدَّى حق الله، وحق مواليه"، فقال الشعبيّ للرجل: قُمْ، فقد كان يُرْحَل إلى المدينة فيما دون هذا. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(77) - (بَابُ نُزُولِ عِيْسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام حَاكِمًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[396]
(155) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ
ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ، حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) المذكور قبل بابين.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد المذكور أيضًا قبل بابين.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المذكور قريبًا.
5 -
(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد المشهور المذكور قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه المذكور قبل باب، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيخه محمد بن رُمح، فتفرّد به هو، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وقتيبة، وإن كان من بَغْلان، وهي قرية من قرى بلخ، إلا أنه دخل مصر.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ: ابن شهاب، عن ابن المسيِّبِ.
5 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، على بعض الأقوال، كما أشار السيوطيّ رحمه الله إلى الخلاف في ذلك في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ
…
سَعِيدٍ أوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنْ
عَنْ أَعْرَجٍ وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا
…
أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَى
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) سعيد (بنِ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن الأولى كسر الياء المشدّدة؛ لأنه قول أهل المدينة، وهم أعلم به، وإنما فتحه أهل الكوفة، ويُروى عن سعيد أنه كان يكره الفتح (أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه الحلف في الخبر؛ مبالغة في تأكيده، وقد سبق الكلام في إثبات اليد لله سبحانه وتعالى، وبطلان تأويل من أوّله بالقدرة، فلا تنسَ (لَيُوشِكَنَّ) بفتح اللام؛ لأنها لام القسم، و"يوشكنّ" بضمّ أوله، وكسر ثالثه، مِن أوشك، بمعنى قرُب، أي: لَيَقْرُبَنّ، أي: لا بُدّ من ذلك سَريعًا (أَنْ يَنْزِلَ) "أن" هي المصدريّة، ودخولها في خبر "أوشك" هو الغالب، كما قال في "الخلاصة":
وَأَلْزَمُوا "اخْلَوْلَقَ""أَنْ" مِثْلَ "حَرَى"
…
وَبَعْدَ "أَوْشَكَ" انْتِفَا "أَنْ" نَزُرَا
(فِيكُمُ) أي: في هذه الأمة، وإن كان خطابًا لبعضها، ممن لا يُدرِك نزوله (ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم) بالرفع على الفاعليّة لـ"ينزل"، أو على أنه اسم "ليوشكنّ" على الخلاف في ذلك، سيأتي تحقيقه في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(حَكَمًا مُقْسِطًا) منصوب على الحال من فاعل "ينزل"؛ أي: يَنزل حال كونه حاكمًا عادلًا بهذه الشريعة، لا ينزل نَبيًّا برسالة مستقلة، وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حُكّام هذه الأمة.
و"المقسط": العادل، يقال: أقسط يُقسط إقساطًا، فهو مُقْسِط: إذا عَدَلَ، ومنه قوله عز وجل:{وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، وقوله تعالى:{ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} الآية [البقرة: 282]، ومنه حديث:"إذا حكموا عَدَلوا، وإذا قَسَموا أقسطوا"
(1)
.
والقِسْطُ بكسر القاف، وسكون السين: العدل، ومنه قوله تعالى:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29]، أي: بالعدل، فهو كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} الآية [النحل: 90]، وقال تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)} [آل عمران: 18].
وقال ابن قتيبة: وسُمّي الميزان القسط؛ لأن القسط العدل، وبالميزان يقع
(1)
حديث حسن، أخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 396) بسند حسن.
العدل في القسمة، قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية [الأنبياء: 47].
وقال الفيّوميّ: وقَسَطَ يَقسِطُ قَسْطًا، بفتح القاف، من باب ضرب، وقُسُوطًا: فهو قاسط: إذا جار، وعدل، فهو من الأضداد، قاله ابن القطّاع
(1)
، فمن المعنى الأول قوله تعالى:{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15]، ومن المعنى الثاني، قوله:{قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] الآية.
وقال في "الفتح": معنى قوله: "حَكَمًا": أنه يَنزل حاكمًا بهذه الشريعة، فإن هذه الشريعة باقيةٌ لا تُنسخ، بل يكون عيسى حاكمًا من حُكّام هذه الأمة. انتهى.
وفي أحمد في "مسنده" من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أقرؤوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم السلامَ"، وعنده من حديث عائشة رضي الله عنها:"ويمكث عيسى في الأرض أربعين سنةً"، وللطبراني من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه:"ينزل عيسى ابن مريم مُصَدِّقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم على ملته"
(2)
.
(فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ) بنصب "يكسرَ" عطفًا على "يَنْزِلَ"، ويحتمل الرفع على الاستئناف، أي: فهو يكسر الصليب؛ أي: يُبطل أمره، ويُسقط حكمه، كما يقال: كَسَرَ حجته
(3)
، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: يكسره حقيقةً، ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه. انتهى.
قال القاضي عياضٌ رحمه الله: فيه دليلٌ على تغيير آلات الباطل وكسرها، ودليلٌ على تغيير ما نسبته النصارى إلى شرعهم، وترك إقرارهم على شيء منه، وأنه يأتي ملتزمًا لشريعتنا. انتهى
(4)
.
(وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ) بالنصب أيضًا؛ ويحتمل الرفع، كما مرّ آنفًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: هو: فِنْعِيلٌ، حيوانٌ خبيثٌ، ويقال: إنه حُرّم على لسان كلّ نبيّ، والجمع خنازير. انتهى
(5)
.
_________
(1)
"المصباح المنير" 2/ 503.
(2)
"الفتح" 6/ 567.
(3)
"إكمال المعلم" 1/ 608 - 609.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 608.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 168.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: فيه دليلٌ على قتلها إذا وُجدت ببلاد الكفر، أو بأيدي من أسلم من أهل الذمّة، وقيل: تسرح. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فيكسرَ الصليب، ويقتل الخنزير"؛ أي: يبطل دين النصرانية، بأن يكسر الصليب حقيقةً، ويبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه، ويستفاد منه تحريم اقتناء الخنزير، وتحريم أكله، وأنه نجس؛ لأن الشيء المنتفع به لا يشرع إتلافه.
ووقع للطبراني في "الأوسط" من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير والقِرْدَ"، زاد فيه:"القرد"، وإسناده لا بأس به، وعلى هذا فلا يصح الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير؛ لأن القرد ليس بنجس العين اتفاقًا. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقتل عيسى عليه السلام للخنزير، وكسره الصليب يدلّ على أن شيئًا من ذلك لم يُسوِّغه لهم، وأن ذلك لا يُقرّ إذا تُمُكّن من تغييره وإزالته، وقيل: معنى قوله: "وَيكسر الصليب" أي: يُبطل أمره، ويكسر حكمه، كما يقال: كسر حجته. انتهى
(3)
.
(وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ) بالنصب أيضًا، ويحتمل الرفع، كما مرّ أيضًا، و"الجِزْية" بكسر الجيم، وسكون الزاي: ما يؤخذ من أهل الذمّة، جمع جِزًى، مثلُ سِدْرَة وسِدَر
(4)
، وفي رواية البخاريّ:"ويَضَعَ الحربَ".
قال النوويّ رحمه الله: الصواب في معناه أنه لا يَقبلها، ولا يَقْبَل من الكفار إلا الإسلام، ومَن بذل منهم الجزية، لم يَكُفَّ عنه بها، بل لا يَقْبَل إلا الإسلام أو القتل، هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابيّ وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى.
وحَكَى القاضي عياض رحمه الله عن بعض العلماء معنى هذا، ثم قال: وقد يكون فيض المال هنا من وضع الجزية، وهو ضربها على جميع الكفرة، فإنه لا يقاتله أحدٌ، فتضعُ الحرب أوزارها، وانقياد جميع الناس له إما بالإسلام، وإما
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 608.
(2)
"الفتح" 6/ 567.
(3)
"المفهم" 1/ 370.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 100.
بإلقاء يد، فيَضَعَ عليه الجزية ويضربها. هكذا ذكر القاضي عياضٌ، وتعقّبه النوويّ، فقال: وليس بمقبول، والصواب ما قدمناه، وهو أنه لا يَقْبَل منه إلا الإسلام.
فعلى هذا قد يقال: هذا خلاف حكم الشرع اليوم، فإن الكتابيّ إذا بَذَل الجزية وجب قبولها، ولم يجز قتله، ولا إكراهه على الإسلام.
وجوابه أن هذا الحكم ليس بمستمرّ إلى يوم القيامة، بل هو مقيّد بما قبل عيسى عليه السلام، وقد أخبرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى عليه السلام يحكم بشرعنا، فدَلَّ على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت، هو شرع نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فيضع الجزيةَ" قيل: يُسقطها، فلا يقبلها من أحد، وذلك لكثرة الأموال؛ إذ تقيء الأرض أفلاذ كَبِدها، فلا يكون في أخذها منفعة للمسلمين، فلا يُقبَل من أحد إلا الإيمان، وقيل: يضربها على كلّ صنف من الكفّار؛ إذ قد أذعن الكلّ له، فإما بالإسلام، وإما بأن ألقوا بأيديهم، والتأويل الأولى أولى؛ لقوله بعد هذا:"ولتُتْرَكنّ القلاص، فلا يُسعى عليها"؛ أي: لا تُطلب زكاتها، كما جاء في الحديث الآخر، و"القلاص" جمع قَلُوص، وهي من الإبل كالفتاة من النساء، والحَدَث من الرجال، وهذا كقوله تعالى:{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4]، أي: زُهد فيها، وتُركت، وإن كانت أحبّ الأموال إليهم الآن. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقالى في "الفتح": المعنى أن الدين يصير واحدًا، فلا يبقى أحدٌ من أهل الذمة يؤدي الجزية، وقيل: معناه أن المالى يَكثُر حتى لا يبقى من يمكن صرف مال الجزية له، فتُترَك الجزية؛ استغناءً عنها.
وقال عياضٌ: يحتمل أن يكون المراد بوضع الجزية تقريرها على الكفّار من غير محاباة، ويكون كثرة المال بسبب ذلك.
وتعقّبه النوويّ، وقال: الصواب أن عيسى لا يَقبَل إلا الإسلام.
(1)
"المفهم" 1/ 370.
قال الحافظ: ويؤيده أن عند أحمد من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه:"وتكون الدعوى واحدة".
قال النوويّ: ومعنى وضع عيسى عليه السلام الجزية مع أنها مشروعة في هذه الشريعة، أن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى عليه السلام؛ لِمَا دَلّ عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية، بل نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ بقوله هذا.
وقال ابن بطال رحمه الله: وإنما قَبِلناها قبل نزول عيسى عليه السلام للحاجة إلى المال، بخلاف زمن عيسى عليه السلام، فإنه لا يُحتاج فيه إلى المال، فإن المال في زمنه يَكُثر حتى لا يقبله أحد.
ويحتمل أن يقال: إن مشروعية قبولها من اليهود والنصارى لِمَا في أيديهم من شبهة الكتاب، وتعلُّقهم بشرع قديم بزعمهم، فإذا نزل عيسى عليه السلام زالت الشبهة بحصول معاينته، فيصيرون كعبدة الأوثان في انقطاع حجتهم، وانكشاف أمرهم، فناسب أن يعاملوا معاملتهم في عدم قبول الجزية منهم، هكذا ذكره بعض مشايخنا احتمالًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَيَفِيضَ الْمَالُ) بالنصب، ويحتمل الرفع، كما ذكرنا فيما سبق، وهو بفتح الياء، وكسر ثانيه، وبالضاد المعجمة؛ أي: يكثر، يقال: فاض السيل فيضًا، من باب باع: إذا كثُر، وسال من شَفَةِ الوادي، وأفاض بالألف لغة فيه، وفاض الإناء فيضًا: إذا امتلأ، وأفاضه صاحبه، وفاض الخير: إذا كثُر، وأفاضه الله: كثّره
(2)
.
والمعنى هنا: أنه يكثر المالُ، وتنزل البركات، وتكثر الخيرات بسبب العدل، وعدم التظالم، وتَقِيء الأرض أفلاذ كبدها، كما جاء في الحديث الآخر، وتَقِلُّ أيضًا الرَّغَبَات لِقِصَر الآمال، وعلمهم بقرب الساعة، فإن عيسى عليه السلام عَلَمٌ من أعلام الساعة
(3)
، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} الآية [الزخرف: 61]، والله تعالى أعلم.
(حَتى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ") وفي رواية عطاء بن ميناء الآتية بعد هذا: "ولَيَدْعُوَنَّ
(1)
"الفتح" 6/ 567 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3448 - 3449).
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 485.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 190 - 191.
إلى المال، فلا يقبله أحدٌ"، وسبب عدم القبول كثرته، وقلّة رغبات الناس إليه؛ لعلمهم بقرب الساعة، كما قرّرناه آنفًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[77/ 396 و 397 و 398 و 399 و 400 و 401](155)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2222)، و"المظالم"(2476)، و"أحاديث الأنبياء"(3448)، و (الترمذيّ) في "الفِتَن"(2233)، و (ابن ماجه) في "الفِتَن"(4078)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20840)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 144)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 240 - 493 - 494 - 537)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1097)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجَعْديّات"(2973)، و (ابن منده) في "الإيمان"(407 و 408 و 409 و 410 و 411 و 412)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6816 و 6818)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(309 و 310 و 311 و 312 و 313 و 314 و 315 و 316)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(388 و 389 و 390 و 391 و 392 و 393 و 394 و 395)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(103 و 104 و 405)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 380 - 381)، و (أبو محمد البغويّ) في "شرح السنّة"(4275 و 4276)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائد أحاديث الباب
(1)
:
1 -
(منها): بيان نزول عيسى ابن مريم عليه السلام عند قرب الساعة.
2 -
(ومنها): أن نزوله من علامات الساعة.
3 -
(ومنها): أنه سينشر العدل بين الأمة، ويرفع الظلم.
(1)
هذه الفوائد ليست مقصورة على الحديث المشروح الآن، وإنما هي فوائد لجميع الروايات المذكورة في هذا الباب؛ حتى تكون مجموعة في محلّ واحد، ويسهل الاستفادة منها، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه سيُبطل اليهوديّة والنصرانيّة بكسر الصليب، وقتل الخنزير.
5 -
(ومنها): أنه سيبطل الجزية، على ما هو الراجح في معنى "ويضع الجزية"، فلا يقبل من أحد من الكفّار إلا الإسلام فقط، وهذا هو الذي يدلّ عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد:"وتكون الدعوى واحدة"، كما سبق بيانه.
6 -
(ومنها): بيان أن عيسى عليه السلام سينزل على أنه فرد من أمة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يأتي بشرع جديد، وإنما يأتي حاكمًا بهذه الشريعة المباركة، بالقرآن والسنّة، وهذا معنى قوله:"وإمامكم منكم"، كما سيأتي.
7 -
(ومنها): أن عيسى عليه السلام سيصلّي مأمومًا خلف رجل من هذه الأمة.
8 -
(ومنها): ما قاله النوويّ وغيره: أن فيه دليلًا على تغيير المنكرات، وآلات الباطل، وقتلُ الخنزير من هذا القبيل، وفيه دليل للمختار من مذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر، أو غيرها، وتَمَكّنا من قتله قتلناه، وإبطالٌ لقول مَن شَذَّ من العلماء، فقال: يُترَك إذا لم يكن فيه ضَرَاوة. انتهى
(1)
.
9 -
(ومنها): أن من كسر صليبًا، أو نحوه من آلات الباطل لا يَضْمَن؛ لأنه فَعَلَ مأمورًا به؛ إذ أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأن عيسى عليه السلام سيفعله، وهو مقرّر لشريعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا لم تُقَرَّ عليه النصارى.
10 -
(ومنها): أن في قتل عيسى عليه السلام للخنزير توبيخًا عظيمًا للنصارى الذين يدّعون أنهم على طريقته، ثم يستحلّون أكل الخنزير، ويبالغون في محبّته.
11 -
(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف، مبالغةً في تأكيد الخبر.
12 -
(ومنها): كثرة المال وفيضانه في آخر الزمان، وزهد الناس فيه، فيُهملون النفيس منه، وذلك لكثرته، وعدم الحاجة إليه؛ إذ تنزل البركات، وتتوالى الخيرات، وتُخرج الأرض أفلاذ كَبِدها، وتقلّ رغبات الناس في اقتناء المال؛ لعلمهم بقرب الساعة.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 190.
13 -
(ومنها): أن الناس سيتقرّبون إلى الله تعالى، ويتوجّهون إلى عبادته، ويحرصون عليها، حتى تكون السجدة الواحدة أحبّ إليهم من الدنيا وما فيها.
14 -
(ومنها): أن العداوة، والبغضاء، والشحناء، والتحاسد ستزول؛ لاشتغال الناس بأمر الآخرة، وإعراضهم عن شهوات الدنيا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف النحاة في إعراب قوله صلى الله عليه وسلم: "ليُوشكنّ أن يَنْزِل فيكم ابن مريم عليه السلام":
(اعلم): أنه اختلاف في هذا الإعراب على قولين:
وحاصل المسألة أن "أوشك" تُستعمل ناقصةً، وتامّةً، ومثلها "عسى"، و"اخلولق"، فأما كونها ناقصةً، "فكقولك": أوشك زيد أن يقوم؛ فـ"زيد" اسمها، و"أن يقوم" خبرها، وأما التامّة، فهي المسندة إلى "أَنْ" والفعل، نحو: أوشك أن يقوم؛ فـ"أن يقوم" في تأويل المصدر فاعل "أوشك"، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
بَعْدَ "عَسَى""اخْلَوْلَقَ""أَوْشَكْ" قَدْ يَرِدْ
…
غِنًى بِـ"أَنْ يَفْعَلَ" عَنْ ثَانٍ فُقِدْ
هذا إذا لم يَلِ الفعلَ الذي بعد "أن" اسمٌ ظاهرٌ يصحّ رفعه به، فإن وَليَهُ، كهذا الحديث، وكقولك: عسى أن يقوم زيد؛ فذهب الأستاذ أبو عليّ الشلوبين إلى أنه يجب أن يكون الظاهر مرفوعًا بالفعل الذي بعد "أن"، فـ"أن" وما بعدها فاعل لـ"أوشك"، وهي تامّة، ولا خبر لها، وذهب المبرِّد، والسِّيرافيّ، والفارسيّ إلى تجويز ما ذكره الشلُوبينُ، وتجويز وجه آخر، وهو أن يكون ما بعد الفعل الذي بعد "أن" مرفوعًا بـ"أوشك"، اسمًا لها، و"أن" والفحل في موضع نصبٍ بـ"أوشك"، وتقدَّم على الاسم، والفعلُ الذي بعد "أن" فاعله ضمير يعود على فاعل "أوشك"، وجاز عوده عليه، وإن تأخّر؛ لأنه مقدّمٌ رتبةً.
وتظهر فائدة هذا الخلاف في التثنية، والجمع، والتأنيث، فتقول على مذهب غير الشلُوبين: عسى أن يقوما الزيدان، وعسى أن يقوموا الزيدون، وعسى أن يقمن الهندات، فتأتي بضميرٍ في الفعل؛ لأن الظاهر ليس مرفوعًا به، بل هو مرفوعٌ بـ"عسى".
وعلى رأي الشلوبين يجب أن تقول: عسى أن يقوم الزيدان، وعسى أن يقوم الزيدون، وعسى أن تقوم الهندات، فلا تأتي في الفعل بضميرٍ؛ لأنه رفع الظاهر الذي بعده
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): قال العلماء: الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء عليهم السلام، الرّدُّ على اليهود في زعمهم أنهم قتلوه، فَبَيَّن الله تعالى كذبهم، وأنه الذي يقتلهم، أو نزوله لدنُوّ أجله؛ لِيُدْفَن في الأرض؛ إذ ليس لمخلوق من التراب أن يموت في غيرها، وقيل: إنه دعا الله لَمّا رأى صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، أن يجعله منهم، فاستجاب الله دعاءه، وأبقاه حتى يَنْزِل في آخر الزمان، مُجَدِّدًا لأمر الإسلام، فيوافق خروج الدجال فيقتله، والأول أَوْجَهُ.
ورَوَى مسلم في "صحيحه" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في مدة إقامة عيسى عليه السلام بالأرض بعد نزوله أنها سبع سنين، ورَوَى نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عيسى عليه السلام إذ ذاك يتزوج في الأرض، ويقيم بها تسع عشرة سنة، وبإسناد فيه مبهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه يقيم بها أربعين سنة.
ورَوَى أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح، من طريق عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة رضي الله عنه مثله مرفوعًا، وفي هذا الحديث:"يَنْزِل عيسى عليه ثوبان مُمَصَّران، فَيَدُق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهْلِك الله في زمانه الملل كلها، إلا الإسلام، وتقع الأَمَنَةُ في الأرض، حتى تَرْتَعَ الأسود مع الإبل، وتَلْعَب الصبيان بالحيات"، وقال في آخره:"ثم يُتَوَفَّى، فيُصلّي عليه المسلمون".
ورَوَى أحمد، ومسلم من طريق حنظلة بن علي الأسلميّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مريم بِفَجِّ الرَّوْحَاء حاجًّا أو معتمرًا، أو لَيَثْنِيَنّهما".
وفي رواية لأحمد من طريق حنظلة أيضًا عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب،
(1)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 183 - 184.
وتُجمع له الصَّلاة، ويعطي المال حتى لا يُقبَل، ويَضع الخراج، وينزل الرَّوْحاء، فيحجُّ منها، أو يعتمر، أو يجمعهما"، قال: وتلا أبو هريرة: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء: 159]، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري. هذا كله حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو شيء قاله أبو هريرة
(1)
.
(المسألة السادسة): اختُلف في موت عيسى عليه السلام قبل رفعه، والأصل فيه قوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} الآية [آل عمران: 55]، فقيل: على ظاهره، وعلى هذا، فإذا نزل إلى الأرض، ومضت المدة المقدَّرة له، يموت ثانيًا، وقيل: معنى قوله: {مُتَوَفِّيكَ} من الأرض، فعلى هذا لا يموت إلا في آخر الزمان
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول الأخير هو الأرجح عندي، كما رجَّحه الإمام أبو جعفر الطبريّ رحمه الله في "تفسيره" بعد حكاية الأقوال المذكورة في الآية، حيث قال: قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحّة عندنا قول من قال: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ؛ لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدّة ذكرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت، فيُصلّي عليه المسلمون، ويَدفنونه. انتهى المقصود من كلام ابن جرير رحمه الله
(3)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ والله، تعالى أعلم.
[تنبيه]: واختُلِف أيضًا في عمره حين رُفِع فقيل: ابن ثلاث وثلاثين، وقيل: مائة وعشرين، ذكره في "الفتح"
(4)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
حديثٌ صحيحٌ، أخرجه أحمد في "مسنده"(7562).
(2)
"الفتح" 6/ 569 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3449).
(3)
"تفسير ابن جرير" 6/ 458 "تفسير سورة آل عمران".
(4)
"الفتح" 6/ 569 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3449).
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[397]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَاه عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، (ح) وَحَدَّثَنِيهِ
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، (ح) وَحَدَّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ:"إِمَامًا مُقْسِطًا، وَحَكَمًا عَدْلًا"، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ:"حَكَمًا عَادِلًا"، وَلَمْ يَذْكُرْ:"إِمَامًا مُقْسِطًا"، وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ:"حَكَمًا مُقْسِطًا"، كَمَا قَالَ اللَّيْثُ، وَفِي حَدِيثِهِ مِنَ الزِّيَادَةِ: "وَحَتَّى
(2)
تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا"، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية [النساء: 159]).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر، كلهم تقدّموا قريبًا، غير:
1 -
(عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ) بن نصر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ المعروف بالنِّرْسيّ - بفتح النون، وسكون الراء، وبالمهملة - ثقةٌ، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) أي: بإسناد ابن شهاب الزهريّ المذكور في السند الماضي.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ: "إِمَامًا مُقْسِطًا، وَحَكَمًا عَدْلًا") يعني: أن لفظ رواية سفيان بن عيينة: "إِمَامًا مُقْسِطًا، وَحَكَمًا عَدْلًا" بدل قول الليث: "حكمًا مُقسطًا".
وقوله: (وَحَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا) أي: أنهم حينئذ لا يتقربون إلى الله إلا بالعبادة، لا بالتصدق بالمال، وقيل: معناه أن الناس يرغبون عن الدنيا، حتى تكون السجدة الواحدة أحبَّ إليهم من الدنيا وما
(1)
وفي نسخة: "وأخبرنا حرملة".
(2)
وفي نسخة: "حتى تكون" بحذف الواو.
فيها، وقد رَوَى ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة، عن الزهريّ، بهذا الإسناد، في هذا الحديث:"حتى تكون السجدة واحدةً لله رب العالمين"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها" معناه - والله أعلم -: أن الناس تكثر رغبتهم في الصلاة، وسائر الطاعات؛ لقصر آمالهم، وعلمهم بقرب القيامة، وقلّة رغبتهم في الدنيا؛ لعدم الحاجة إليها، وهذا هو الظاهر من معنى الحديث، وقال القاضي عياض رحمه الله: معناه أن أجرها خير لمصلّيها من صدقته بالدنيا، وما فيها؛ لفيض المال حينئذ، وهوانه، وقلة الشُّحّ، وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد، قال: والسجدة هي السجدة بعينها، أو تكون عبارة عن الصلاة، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية [النساء: 159]).
قال في "الفتح": قوله: "ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران: 199] الآية، هو موصول بالإسناد المذكور، قال ابن الجوزي رحمه الله: إنما تلا أبو هريرة رضي الله عنه هذه الآية، للإشارة إلى مناسبتها لقوله: "حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها"، فإنه يشير بذلك إلى صلاح الناس، وشدة إيمانهم، وإقبالهم على الخير، فهم لذلك يؤثرون الركعة الواحدة على جميع الدنيا، والسجدة تُطلق، ويراد بها الركعة.
وقال القرطبيّ: معنى الحديث: أن الصلاة حينئذ تكون أفضل من الصدقة؛ لكثرة المال إذ ذاك، وعدم الانتفاع به، حتى لا يقبله أحد، وأهل الحجاز يسمّون الركعة سجدة. انتهى
(3)
.
وقوله في الآية: {وَإِنْ} بمعنى "ما"، أي: لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، إذا نزل عيسى إلا آمن به، وهذا مصير من أبي هريرة رضي الله عنه إلى أن الضمير في قوله:{إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} ، وكذلك في قوله:{قَبْلَ مَوْتِهِ} يعود على عيسى عليه السلام، أي إلا ليؤمن بعيسى قبل موت عيسى،
(1)
"الفتح" 6/ 568 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3449).
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 191.
(3)
"المفهم" 1/ 371.
وبهذا جزم ابن عباس رضي الله عنهما، فيما رواه ابن جرير، من طريق سعيد بن جبير عنه، بإسناد صحيح، ومن طريق أبي رجاء، عن الحسن، قال: قبل موت عيسى، واللهِ إنه الآن لَحَيٌّ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون، ونقله عن أكثر أهل العلم، ورجحه ابن جرير وغيره.
ونَقَلَ أهل التفسير في ذلك أقوالًا أُخَرَ، وأن الضمير في قوله:{بِهِ} يعود لله تعالى، أو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي {مَوْتِهِ} يعود على الكتابيّ على القولين، وقيل: على عيسى عليه السلام.
وروى ابن جرير من طريق عكرمة، عن ابن عباس: لا يموت يهوديّ، ولا نصرانيّ حتى يؤمن بعيسى، فقال له عكرمة: أرأيت إن خَرّ من بيت، أو احترق، أو أكله السبع، قال: لا يموت حتى يُحَرِّك شفتيه بالإيمان بعيسى، وفي إسناده خُصَيف، وفيه ضعفٌ.
ورَجَّحَ جماعة هذا المذهب بقراءة أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه: {إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أي: أهل الكتاب.
وقال النوويّ رحمه الله: فيه دلالة ظاهرة على أن مذهب أبي هريرة رضي الله عنه في الآية، أن الضمير في {مَوْتِهِ} يعود على عيسى عليه السلام ومعناها: وما من أهل الكتاب يكون في زمن عيسى عليه السلام إلا من آمن به، وعلم أنه عبد الله، وابن أمَتِه، وهذا مذهب جماعة من المفسرين، وذهب كثيرون، أو الأكثرون إلى أن الضمير يعود على الكتابيّ، ومعناها: وما من أهل الكتاب أحدٌ يحضره الموت إلا آمن عند الموت قبل خروج روحه بعيسى عليه السلام وأنه عبد الله، وابن أمَتِه، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان؛ لأنه في حضرة الموت، وحالة النزع، وتلك الحالة لا حُكْم لما يُفْعَل، أو يقال فيها، فلا يصح فيها إسلام، ولا كفر، ولا وصيةٌ، ولا بيعٌ، ولا عتقٌ، ولا غير ذلك من الأقوال؛ لقول الله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} الآية [النساء: 18]، قال: وهذا المذهب أظهر، فإن الأول يَخُصّ الكتابيّ، وظاهر القرآن عمومه لكل كتابيّ في زمن عيسى، وقبل نزوله، ويؤيد هذا قراءةُ مَن قرأ:(قبل موتهم).
وقيل: إن الهاء في {بِهِ} يعود على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والهاء في {مَوْتِهِ} تعود على الكتابيّ، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن جرير رحمه الله بعد ذكر الأقوال في هذا: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول، وهو أنه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام.
قال الحافظ ابن كثير بعد نقل كلام ابن جرير هذا، ما نصّه: ولا شكّ أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى عليه السلام وصَلْبه، وتسليم مَن سَلَّم لهم من النصارى الجَهَلة ذلك، فأخبر الله تعالى أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شُبِّه لهم، فقتلوا الشَّبَه، وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه، وإنه باقٍ حيّ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مَسِيح الضلالة، ويَكْسِر الصليب، ويقتل الخنزير، ويَضَع الجزية، يعني: لا يقبلها من أحد، من أهل الأديان، بل لا يَقبل إلا الإسلام، أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة، أنه يؤمن به جميعُ أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلَّف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]، أي: قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود، ومن وافقهم من النصارى، أنه قُتِل، وصُلِب، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159]؛ أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء، وبعد نزوله إلى الأرض.
فأما من فَسَّر هذه الآية بأن المعنى أن كُلَّ كتابيّ لا يموت حتى يؤمن بعيسى، أو بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - فهذا هو الواقع، وذلك أن كُلَّ أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلًا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانًا نافعًا له، إذا كان قد شاهد المَلَك، كما قال تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} الآية [النساء: 18]، وقال تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآيتين [غافر: 84 - 85].
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 191 - 192.
وهذا يدل على ضَعْف ما احتجّ به ابن جرير في ردّ هذا القول، حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كلُّ من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بالمسيح عليه السلام، ممن كَفَر بهما يكون على دينهما، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه؛ لأنه قد أَخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته.
فهذا ليس بجيد؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه، أنه يصير بذلك مسلمًا، ألا ترى قول ابن عباس: ولو تَرَدَّى من شاهق، أو ضُرِب بسيف، أو افترسه سبع، فإنه لا بد أنه يؤمن بعيسى؟ فالإيمان به في مثل هذه الحال ليس بنافع، ولا ينقل صاحبه عن كفره؛ لِمَا قدمناه، والله أعلم.
ومن تأمل هذا جَيّدًا، وأمعن النظر اتَّضَحَ له أن هذا وإن كان هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا، بل المراد بها ما ذكرناه، من تقرير وجود عيسى عليه السلام، وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة؛ لِيُكَذِّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى، الذين تباينت أقوالهم فيه، وتصادمت، وتعاكست، وتناقضت، وخَلَت عن الحقّ، ففَرَّطَ هؤلاء اليهود، وأفرط هؤلاء النصارى، تَنَقَّصَهُ اليهودُ بما رموه به وأمه، من العظائم، وأطراه النصارى، بحيث ادَّعَوا فيه ما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية، تعالى الله عما يقول هؤلاء وهؤلاء عُلُوًّا كبيرًا وتنزه، وتقدَّس، لا إله إلا هو. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: طريق ابن عيينة التي أحالها المصنّف رحمه الله هنا ساقها الحافظ أبو نُعيم في "مستخرجه"(1/ 219)، فقال:
(390)
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، ثنا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، (ح) حدثنا فاروق بن عبد الكبير، نا أبو مسلم الكشيّ، ثنا إبراهيم بن بشار، (ح) وحدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، ثنا عبد الأعلى بن حماد النَّرْسيّ، قالوا: أنا سفيان بن عيينة، نا الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن ينزل فيكم ابنُ مريم حكمًا، وإمامًا مقسطًا، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، حتى لا يقبله أحدٌ"، لفظ الحميديّ.
وأخرجها الإمام ابن ماجه رحمه الله أيضًا في "سننه"، فقال:
(4068)
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى ابن مريم، حكمًا مقسطًا، وإمامًا عدلًا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد". وطريق صالح أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3448)
حدثنا إسحاق، أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، أن سعيد بن المسيِّب، سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم، حكمًا عدلًا، فيكسرَ الصليب، ويقتل الخنزيرَ ويضع الجزية، ويفيض المال، حتى لا يقبله أحدٌ، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها" ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)} [النساء: 159].
وأما طريق يُونُسَ، فلم أجدها إلا عند المصنّف، وأبي نُعيم في "مستخرجه" 1/ 219 (389) بالإحالة كإحالة المصنّف، وكذا عند ابن منده في "الإيمان" 1/ 514 (411) بالإحالة أيضًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[398]
(
…
) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ لَيَنْزِلَنَّ ابْنُ مَرْيَمَ، حَكَمًا عَادِلًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ، فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا، وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ، وَالتَّبَاغُضُ، وَالتَّحَاسُدُ، وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَال، فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) المقبريّ المدنيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَطَاءُ بْنُ مِينَاءَ) - بكسر الميم، بعدها ياء مثناة، من تحتُ ساكنةٌ، ثم نون، ثم ألف ممدودة، هذا هو المشهور، وقال صاحب "المطالع": يُمَدُّ، ويُقْصَرُ - المدنيّ، وقيل: البصريّ، مولى ابن أبي ذُبَاب الدَّوْسيّ، قيل: يُكنى أبا معاذ، صدوقٌ [3].
رَوَى عن أبي هريرة، وعنه سعيد المقبريّ، وعمرو بن دينار، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب، وأيوب بن موسى، وإسماعيل بن أمية، وأبو معاذ الخراسانيّ.
قال ابن جريج، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن مِيناء، وزعم أنه كان من أصلح الناس، وقال ابن عيينة: عطاء بن مِيناء من المعروفين، من أصحاب أبي هريرة، وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مكة، وقال: كان قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب خمسة أحاديث فقط، هذا برقم (155)، وحديث (578): "سجدنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقّت
…
"، و (1511): "نهى عن بيعتين: الملامسة، والمنابذة
…
"، و (2679): "لا يقولنّ أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت
…
"، و (2751): "لَمّا قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه
…
".
وله عند البخاريّ حديث واحد: "نهى عن صيامين، وبيعتين
…
"، وعند أبي داود، والترمذيّ، وابن ماجه حديث في سجود التلاوة. انتهى
(1)
.
والباقون تقدّموا أول الباب.
وقوله: (وَلَتُتْرَكَنَّ الْقِلَاصُ) ببناء الفعل للمفعول، و"القلاص" بكسر القاف: جمع قَلُوص بفتح، فضمّ، وهي من الإبل بمنزلة الجارية من النساء، وهي الشابّة، والحَدَثِ من الرجال، ويُجمع أيضًا على قُلُص بضمّتين، وقلائص
(2)
.
ومعنى تركها: أن يُزهَد فيها، ولا يُرغَب في اقتنائها؛ لكثرة الأموال، وقلة الآمال، وعدم الحاجة، والعلم بقرب القيامة، وإنما ذُكِرت القلاص؛
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 110.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 513.
لكونها أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب، وهو شبيه بمعنى قول الله عز وجل:{وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)} [التكوير: 4].
وقوله: (فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا) بالبناء للمفعول أيضًا: أي: لا يُعْتَنَى بها؛ أي: يتساهل أهلها فيها، ولا يعتنون بها، هذا هو الظاهر.
وقال القاضي عياض، وصاحب "المطالع" - رحمهما الله تعالى -: معنى "لا يُسْعَى عليها"؛ أي: لا تُطْلَب زكاتها؛ إذ لا يوجد مَن يقبلها، قال النوويّ رحمه الله: وهذا تأويل باطلٌ من وجوه كثيرة، تُفْهَم من هذا الحديث وغيره، بل الصواب ما قَدَّمناه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال المظهر: معنى "ولَتُتْرَكنّ القلاص" يعني: لَيَتركنّ عيسى عليه السلام إبل الصدقة، ولا يأمر أحدًا أن يسعى عليها، ويأخذها؛ لأنه لا يجد من يقبلها؛ لاستغناء الناس، والمراد بالسعي العمل. انتهى.
وقال الطيبيّ: ويجوز أن يكون ذلك كناية عن ترك التجارات، والضرب في الأرض لطلب المال، وتحصيل ما يُحتاج إليه؛ لاستغنائهم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: المعنى الأخير هو الصواب، كما سبق عن النوويّ رحمه الله؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَلَتَذْهَبَنَّ الشَّحْنَاءُ) هي العداوة، والتشاحن تفاعلٌ منه، قال التوربشتيّ رحمه الله: إنما تذهب الشحناء والتباغض، والتحاسد يومئذ؛ لأن جميع الخلق يكونون على ملّة واحدة، وهي الإسلام، وأعلى أسباب التباغض، وأكثرها هو اختلاف الأديان. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أي مع زهدهم في الدنيا، وقلّة رغبتهم فيها بسبب قرب الساعة، فإن أكثر العداوة إنما هو التشاحّ في الدنيا، والتنافس فيها، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَالتَّبَاغُضُ) بمعنى العداوة أيضًا.
وقوله: (وَالتَّحَاسُدُ) أي: حسد بعضهم بعضًا، وهو أن يتمنّى زوال نعمة الله عن أخيه المسلم، وهو حرام، وأما الغِبطة، فهي أن يتمنّى مثل حال
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 192.
(2)
"الكاشف" 2/ 3480.
أخيه، من غير أن تزول عنه، قال القرطبيّ: وهو التنافس أيضًا. انتهى
(1)
.
وهو حسن إذا كان في الأمور الدينيّة، فقد أخرج الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلّط على هَلَكَته في الحقّ، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها".
فالمراد بالحسد هنا هو الغِبطة، والله تعالى أعلم.
(وَلَيَدْعُوَنَّ إِلَى الْمَالِ) بضمّ العين، وفتح الواو، وتشديد النون، والفاعل ضمير ابن مريم عليه السلام، يعني: أن عيسى عليه السلام يدعو الناس إلى المال، ليأخذوه.
[تنبيه]: ضبط "وليَدعُونّ" بما ذكر هو الذي ذكره النوويّ، ووقع في هامش بعض النسخ:"ولَيُدْعَوُنّ إلى المال" بالبناء للمفعول، فإن صحّ، فيكون نائب فاعله ضميرًا يعود إلى مقدّر، أي: وليُدعَى الناسُ
…
إلخ، والله تعالى أعلم.
(فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ) لما قدّمناه من كثرة المال، وقِصَر الآمال، وعدم الحاجة، وقلّة الرغبة؛ للعلم بقرب الساعة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[399]
(
…
) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَاَرِيّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُوَل اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ، إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ستة، كلهم تقدّموا قبل حديث، غير:
1 -
(نَافِعٍ، مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ) هو: نافع بن عباس - بموحّدة، ومهملة - ويقال: ابن عَيّاش - بتحتانيّة، ومعجمة - الأقرع، أبو محمد، مولى
(1)
"المفهم" 1/ 370 - 371.
أبي قتادة، قيل له ذلك: للزومه إياه، ويقال: مولى عَقِيلة الغفارية، ويقال: إنهما اثنان، ثقة [3].
رَوَى عن أبي قتادة، وأبي هريرة.
ورَوى عنه سالم، أبو النضر، وعُمر بن كثير بن فُليح، وأُسيد بن أَبي أسيد البراد، وصالح بن كيسان، والزهريّ.
قال النسائيّ: نافع مولى أبي قتادة، ثقة، وقال ابن حبان في "الثقات": نافع مولى عَقِيلة بنت طَلْق الغفارية، وهو الذي يقال له: نافع مولى أبي قتادة، نُسِب إليه، ولم يكن مولاه.
قال الحافظ: يؤيد قول ابن حبان ما وقع عند أحمد من طريق مُغَفَّل بن إبراهيم، سمعت رجلًا يقال له: مولى أبي قتادة، ولم يكن مولاه، يُحَدِّث عن أبي قتادة، فدكر حديث الحمار الوحشي، وفي رواية ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي سلمة، أن نافعًا الأقرع، مولى بني غِفَار حَدَّثه، أن أبا قتادة حدثه
…
فذكر هذا الحديث، وقال ابن سعد في الطبقة الثانية: كان قليل الحديث، وقال ابن شاهين في "الثقات": قال أحمد بن حنبل: معروف.
أخرج له الجماعة
(1)
، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (155) وأعاده بعده مرتين، وحديث (1196):"هو حلال، فكلوه"، وأعاده بعده، و (1751): "من قتل قتيلًا، له عليه بينة، فله سلبه
…
".
ويونس: هو ابن يزيد الأيليّ.
وقوله: (كَيْفَ أَنْتُمْ، إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟) يعني: أن الإمام الذي يصلي بالناس وقت نزول عيسى عليه السلام من هذه الأمة، وهو المهديّ، وقال أبو ذر الهرويّ: حدثنا الجَوْزقيّ، عن بعض المتقدمين، قال: معنى قوله: "وإمامكم منكم"؛ يعني: أنه يَحكم بالقرآن، لا بالإنجيل، وقال
(1)
قال في "الفتح" 6/ 569: وليس له عن أبي هريرة في "الصحيح" سوى هذا الحديث الواحد. انتهى. وكذا في "صحيح مسلم" ليس له عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا هذا الحديث.
ابن التين: معنى قوله: "وإمامكم منكم" أن الشريعة المحمدية متصلة إلى يوم القيامة، وأن في كل قرن طائفةً من أهل العلم.
قال الحافظ: وهذا والذي قبله لا يبيّن كون عيسى، إذا نزل يكون إمامًا أو مأمومًا، وعلى تقدير أن يكون عيسى إمامًا، فمعناه أنه يصير معكم بالجماعة من هذه الأمة.
قال الجامع عفا الله عنه: كون عيسى عليه السلام مأمومًا هو الصواب؛ لما بُيّن في الروايات الأخرى، كما سيأتي، ولا ينافي هذا ما سيأتي من تفسير ابن أبي ذئب له بان معناه: فأمّكم بكتاب ربّكم؛ لأن المراد أن عيسى عليه السلام يحكم بين الناس بالقرآن، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ: المعنى: يؤمكم عيسى حال كونه في دينكم، ويَعْكُر عليه قوله في حديث جابر الآتي بلفظ:"فيقول أميرهم: تعالَ صَلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراءُ؛ تكرمةً لهذه الأمة".
فالأولى حمل إمامته على أن الإمامة السياسة، والحكم بما في القرآن، وسنّة نبيّنا صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن تكون الصلاة التي لا يتقدّم فيها عيسى عليه السلامي صلاة الصبح التي نزل فيها، كما تبيّنه رواية ابن ماجه، بلفظ: "فبينما إمامهم قد تقدَّم، يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبحَ، فرجع ذلك الإمام يَنكُص، يمشي القهقرى؛ ليتقدم عيسى، يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم، فصلّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم
…
".
فظاهر هذه الرواية يدلّ على أن امتناع عيسى عليه السلام في تلك الصلاة التي أُقيمت لذلك الإمام خاصّة، فأما سائر الصلوات التي بعد ذلك يمكن أن يصلّي فيها عيسى عليه السلام إمامًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[400]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّه، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ
الْأَنْصَارِيّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ، إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَأَمَّكُمْ؟ ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون السمين البغداديّ، مروزيّ الأصل، صدوقٌ، فاضلٌ [10](ت 235)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقة فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوق له أوهام [6](ت 152)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وأمَّكم) وفي نسخة: "فأمكم" بالفاء؛ أي: قادكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون المعنى: صلى بكم إمامًا، والأول أولى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[401]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا
(1)
زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كَيْفَ أَنْتُمْ، إِذَا نَزَلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ، فَأَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟ "، فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ: إِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَنَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:"وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ"، قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: تَدْرِي مَا "أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟ " قُلْتُ: تُخْبِرُنِي، قَالَ: فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تبارك وتعالى، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم).
(1)
وفي نسخة: "وحدثني".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد الحَرَشيّ، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِم) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقةٌ، كثير التدليس والتسوية [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القرشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7](ت 158)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
والباقون تقدّموا قبله.
وقوله: (فَقُلْتُ لِابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) القائل هو الوليد بن مسلم.
وقوله: (إِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثنَا) هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الإمام الفقيه الحجة المشهور المتوفّى سنة (157 هـ)، تقدّم في "المقدمة" 5/ 28.
وقوله: (تَدْرِي مَا "أَمَّكُمْ مِنْكُمْ؟ ") بتقدير أداة الاستفهام؛ أي أتدري، أي: هل تعلم ما معنى قوله: "أمّكم منكم؟ ".
وقوله: (فَأَمَّكُمْ بِكِتَابِ رَبِّكُمْ تبارك وتعالى، وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم) يعني: قادكم، وساسكم بكتاب الله العظيم، وسنّة نبيّه الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
[تنبيه]: رواية الأوزاعيّ المشار إليها هنا، أخرجها الحافظ ابن منده في "الإيمان"(1/ 515)، فقال:
(413)
أنبأ خيثمة بن سليمان، ومحمد بن يعقوب، قالا: ثنا العباس بن الوليد بن مزيد، قال: أخبرني أبي، (ح) وأنبأ الحسن بن مروان، ثنا إبراهيم بن أبي سفيان، ثنا محمد بن يوسف الفريابيّ، (ح) وأنبأ محمد بن يعقوب، ثنا بحر بن نصر، ثنا بشر بن بكر، قالوا: ثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعيّ، قال: أخبرني الزهريّ، عن نافع، مولى أبي قتادة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كيف أنتم إذا نزل فيكم ابنُ مريم، وإمامكم منكم؟ ". انتهى.
ثم قال: رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعيّ، وابن أبي ذئب.
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[402]
(156) - (حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، قَالُوا: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ - وَهُوَ ابْنُ مُحَمَّدٍ - عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْر، أَنهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي، يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" - قَالَ -: "فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ، صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ؛ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ) بن الوليد بن قيس السَّكُونيّ الكِنْديّ، أبو هَمّام بن أبي بدر الكوفيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ
(2)
[10].
رَوَى عن ابن عيينة، وابن أبي زائدة، والوليد بن مسلم، وبَقِيَّة، وحجَّاج بن محمد، وابن وهب، وعلي بن مُسْهِر، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وأبوه أبو بدر، وإبراهيم الحربيّ، وموسى بن هارون، وابن أبي الدنيا، وعمران بن إبراهيم أبو الآذان الحافظ، وأبو بكر بن أبي خيثمة، والقاسم بن زكريا، وغيرهم.
قال أحمد بن محمد بن صدقة: سمعت أحمد يُسأل عنه، فقال: اكتبوا عنه، وقال ابن مُحْرِز: سألت ابن معين عنه، فقال: لا بأس به، ليس هو ممن يَكْذِب، وقال الغلابيّ: سمعت ابن معين يقول: عند أبي هَمّام ستة آلاف حديث عن الثقات، وما سمعته يقول فيه سُوءًا قطّ، وكان يقول: ليس له
(1)
راجع: "كتاب الإيمان" لابن منده رحمه الله 1/ 515 رقم (413).
(2)
قال في "التقريب": ثقةٌ، والظاهر أنه صدوق؛ لما يظهر لمن تأمل ما قاله الأئمة في ترجمته الآتية، والله تعالى أعلم.
بَخْتٌ
(1)
، وقال العجليّ: رأيته يأخذ الحديث أخذًا رديئًا، وقال صالح جَزَرَة: تكلموا فيه، سئل عنه ابنُ معين، فقال: ليس له بَخْتٌ مثل أبيه، وقال أبو حاتم: شيخٌ صدوقٌ، يُكتب حديثه، ولا يُحتَجّ به، وهو أحب إلي من أبي هشام الرِّفَاعيّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الإسماعيليّ: تكلم فيه أحمد بن حنبل لَمّا رَوَى عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، حديث: "فيما سقت السماء العشر
…
" الحديث، وقال البَرْقانيّ: فقلت للإسماعيليّ: لِمَ تَكَلَّم فيه؟ قال: لأنه قال: هذا الحديثُ لم يروه عن ابن وهب إلا الكبار، وقال أبو عليّ النحويّ: سألت أبا كريب عن أبي هَمّام، فقال: ما له؟ قلت: يُحَدِّث عن ابن المبارك وغيره، قال: هو أقدم سماعًا مني، كان يَمُرُّ بنا، ونحن نلعب، وهو يكتب الحديث، وما جئت إلى مُحدِّث بالكوفة إلا قال: ما زال يَختلف السَّكُوني إليّ، ما أخرجوا إلي كتابًا إلا وفيه فرَغ أبو همام، فرغ أبو همام، وأما يحيى بن حمزة، فإنني جئت إلى دمشق، فسألت عن أبي هَمّام، فقالوا: قد كان ههنا مقيمًا، وسمع من يحيى بن حمزة، وخرج، قلت: فابن وهب؟ قال: أما حديث ابن وهب، فإنه خَرَجَ من عندنا إلى مصر حتى نسيناه، ثم قَدِمَ، وجَعَل يذكر من فضائله، وقال العجليّ، ومسلمة بن قاسم: لا بأس به.
قال البخاريّ: مات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وفيها أَرّخه غير واحد، وقيل: مات سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة تسع وثلاثين، والأول أصح.
رَوَى عنه المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب تسعة
(2)
أحاديث، فقط، هذا (156)، وحديث (948): "ما من رجل
(1)
"البَخْتُ" بفتح، فسكون: الجَدُّ، قاله في "القاموس"، وفي "المصباح":"البَخْتُ": الحظّ وزنًا ومعنًى. انتهى.
(2)
وقال في "تهذيب التهذيب": وقال في "الزهرة": رَوَى عنه مسلم ثلاثة أحاديث. انتهى، وهو غلط؛ لما ذكرناه من برنامج الحديث من أنه روى عنه تسعة أحاديث، فتنبّه.
مسلم يموت، فيقوم على جنازته
…
"، و (981): "فيما سقت الأنهار والغيم
…
"، و (1684): "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار، فصاعدًا"، و (1916): "الطاعون شهادة لكلّ مسلم"، و (1929): "إذا أرسلت كلبك، فاذكر اسم الله
…
"، و (2065): "الذي يشرب في آنية الفضّة
…
"، و (2305): "ألا إني فَرَطٌ لكم على الحوض
…
"، و (2459): "قيل لي: أنت منهم".
2 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان الحمّال البَزّاز، أبو موسى البغداديّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجَّاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجَّاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
4 -
(حَجَّاجٌ بْنُ مُحَمَّدٍ) المصّيصيّ الأعور، أبو محمد الترمذيّ الأصل، نزيل بغداد، ثم المِصيصة، ثقةٌ ثبتٌ، اختلط في آخره، لَمّا قَدِمَ بغداد [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
5 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فاضلٌ، يدلّس ويُرسل [6](ت 150)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
6 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
7 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما مات بعد السبعين، وهو (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة شيوخ، قَرَن بينهم.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، إلا شيوخه الثلاثة، فالوليد لم يروِ عنه البخاريّ، والنسائيّ، وهارون لم يروِ عنه البخاريّ، وحجَّاج تفرّد به هو وأبو داود فقط، كما أسلفناه آنفًا.
3 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجٍ) أنه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ السَّلَميَّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا تَزَالُ) هي من الأفعال التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر واسمها، قوله:(طَائِفَةٌ مِنْ أَمَّتِي) قال الفيّوميّ رحمه الله: الطائفة: الفرقة من الناس، والطائفة: القطعة من الشيء، والطائفة من الناس الجماعة، وأقلّها ثلاثة، وربّما أُطلقت على الواحد والاثنين. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الطائفة الجماعة، وهم الذين قال الله تعالى في حقهم:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181]. والطائفة في الأصل: هي القطعة من الشيء، يقال: طائفة من كذا؛ أي: قطعة منه، وهي من الناس الجماعة. قال مجاهد: هم من الواحد إلى الألف، وكذلك قال النخعيّ. وقال عطاء: أقلّه رجلان، فصاعدًا. وقال الزهريّ: ثلاثة فصاعدًا. والطائفة هي الفرقة التي يُمكن أن تكون حلقة، وكأنها الجماعة الحافّة حول الشيء، أقلّها ثلاثة، أو أربعة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (مِنْ أُمَّتِي) المراد أمة الإجابة (يُقَاتِلُونَ) حذف المفعول للتعميم؛ أي: جميع أعداء الإسلام (عَلَى الْحَقِّ) متعلّق بحال مقدَّر؛ أي: حال كونهم كائنين على الحقّ، أي: الثابت من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (ظَاهِرِينَ) حال من الواو أيضًا، أي: حال كونهم غالبين أعداءهم، أو من خالفهم، أو المراد بالظهور أنهم غير مستترين، بل مشهورون، والأول أولى؛ لِمَا أخرجه المصنّف من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة".
وقوله: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ") متعلّق بـ"لا تزال"، أو بـ"يُقاتلون"؛ أي: إلى أن يقرب يوم القيامة، وذلك بإتيان العلامة، وهي الريح التي تقبض روح كلّ مؤمن ومؤمنة؛ لِمَا أخرجه المصنّف رحمه الله عن عبد الرحمن بن شِمَاسة المَهْريّ، أنه قال: كنت عند مَسْلَمَةَ بن مُخَلَّد، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال
(1)
"المفهم" 3/ 761.
عبد الله: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شَرٌّ من أهل الجاهليّة، لا يَدْعُون الله بشيء، إلا ردّه عليهم، فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر، فقال له مسلمة: يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله، فقال عقبة: هو أعلم، وأما أنا فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تزال عصابة من أمتي، يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد الله: أَجَلْ: "ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك، مَسُّها مَسُّ الحرير، فلا تترك نفسًا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، عليهم تقوم الساعة".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم)"ابن" هنا لا تحذف همزة الوصل منها؛ لأنها مضافة إلى أم لعيسى، لا إلى أب له، ومن شرط حذفها كون ما تُضاف إليه أبًا للأول، نحو قولك: محمد بن عبد الله (فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ) هو المهديّ (تَعَالَ) بفتح اللام، فعل أمر من تعالى يتعالى، يقال: تعالى يَتَعالى تعَاليًا: إذا ارتفع، وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل، فيقول: تَعَالَ، ثم كَثُرَ في كلامهم حتى استُعمل بمعنى هَلُمَّ مطلقًا، سواء كان موضع المدعوّ أعلى أو أسفل، أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنًى خاصّ، ثم استُعمِل في معنى عامّ، وتتّصل به الضمائر باقيًا على فتحه، فيقال: تعالَوْا، تعالَيَا، تعالَيْن، وربّما ضُمّت اللام مع جمع المذكّر السالم، وكُسِرت مع المؤنّثة، وبه قرأ الحسن البصريّ في قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] الآية؛ لمجانسة الواو
(1)
؛ أي: أقبل إلينا، وقوله:(صَلِّ لَنَا) بدل من "تَعَالَ" بدل فعل من فعل، كما في تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)} [الفرقان: 68 - 69]، فـ {يُضَاعَفْ} بدلٌ من {يَلْقَ} ، أُعرب بإعرابه، وهو الجزم، ومنه قول الشاعر [من الرجز]:
إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا
…
تُؤْخَذَ كُرْهًا أَوْ تَجِيءَ طَائِعًا
فـ"تؤخَذَ" بدل من "تبايعا"، ولذا نُصب، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
(1)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 427.
وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ كَـ"مَنْ
…
يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ"
(فَيَقُولُ) عيسى عليه السلام (لَا) أي: لا آتيكم لأصلّي بكم، وقوله:(إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ) جملة تعليليّة لعدم صلاته بهم؛ أي: لأن بعض هذه الأمة أُمراء على بعضها، والأمير هو الأحقّ بأن يصلّي بها، وقوله:(تَكْرِمَةَ اللهِ) منصوب على أنه مفعول من أجله، كما قال في "الخلاصة":
يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ المَصْدَرُ إِنْ
…
أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ"جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"
وفي رواية أبي عوانة: "لتكرمة الله هذه الأمة" باللام.
وقوله: (هَذِهِ الْأُمَّةَ") منصوب على أنه مفعول به لـ"تكرمة"؛ إذ هو مصدر يعمل عمل فعله، كما قال في "الخلاصة":
بِفِعْلِهِ المَصْدَرَ أَلْحِقْ فِي العَمَلْ
…
مُضَافًا أَوْ مُجَرَّدًا أَوْ مَعَ "أَلْ"
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ "أَلْ" أَوْ "مَا" يَحُلْ
…
مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
والمعنى: إن بعضكم أمراء على بعضٍ؛ لأجل تكرمة الله تعالى إياكم، فلا ينبغي لغيركم أن يكون إمامًا لكم.
وفي رواية أحمد من حديث جابر رضي الله عنه في قصة الدجال، ونزول عيسى عليه السلام:"وإذا هم بعيسى، فيقال: تقدم يا روح الله، فيقول: ليتقدم إمامكم، فليُصَلِّ بكم"، ولابن ماجه في حديث أبي أمامة الطويل في الدجال قال: "وإمامهم رجل صالحٌ، فبينما إمامهم قد تقدَّم، يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبحَ، فرجع ذلك الإمام يَنكُص، يمشي القهقرى؛ ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقدم، فصلّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم
…
".
وقال أبو الحسن الأُبَّديّ في مناقب الشافعي رحمه الله: تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلي خلفه، ذكر ذلك رَدًّا للحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وفيه:"ولا مَهْدِيَّ إلا عيسى".
وقال ابن الجوزي رحمه الله: لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في النفس إشكال، ولَقِيل: أتراه تقدم نائبًا أو مبتدئًا شرعًا؟ فصلى مأمومًا؛ لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجهُ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نَبِيَّ بعدي"، وفي صلاة عيسى عليه السلام خلف رجل من هذه الأمة، مع كونه في آخر الزمان، وقرب قيام الساعة دلالةٌ للصحيح من
الأقوال: أن الأرض لا تخلو عن قائم لله بحجة، انتهى
(1)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[77/ 402](156)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 384 - 385)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(317)، و (ابن منده) في "الإيمان"(418)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2078)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6819)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان نزول عيسى عليه السلام، وحكمه بشريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان قيام هذه الأمة على شريعة نبيّها صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة.
3 -
(ومنها): بيان فضل اتّباع سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك أن هؤلاء الطائفة ما حصل لهم ذلك النصر، والثبات على مقاومة العدوّ، وإبادته إلا بسبب اتّباعهم سنته صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): أن فيه بيان فضل هذه الأمّة، حيث إن الله عز وجل أجارها عن الاتّفاق على الضلال، فلا تزال جماعة مؤمنة بربّها أيَّ إيمان، متّبعة لسنة نبيّها صلى الله عليه وسلم، لا يغيّرها حوادث الزمان، ولا مضايقة أهل المكان، ولا يبدّل أحوالها تعاقب الملوين، واختلاف الجديدين، بل تبقى صابرةً صامدة على الحقّ، لا تبالي بتآمر جميع الخلق، فسبحان من اصطفى خيار عباده لنيل صَفْوِ وداده.
5 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على صحّة الإجماع؛ لأن الأمة إذا أجمعت على شيء، فقد دخلت فيهم هذه الطائفة المختصة بهذا الفخر العظيم، فكلّ
(1)
"الفتح" 6/ 569 - 570 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3449).
الأمّة مُحِقّ، فإجماعهم حقّ، ويفيد هذا المعنى قوله عز وجل:{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)} [الأعراف: 181]، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله تعالى: وهو أصح ما استُدِلَّ به من الحديث على كون الإجماع حجةً، وأما حديث:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"، فضعيف
(2)
. انتهى
(3)
.
6 -
(ومنها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنّ هذا الوصف ما زال - بحمد الله تعالى - من زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال - بفضل الله تعالى - حتى يأتي أمر الله المذكور في الحديث
(4)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بهذه الطائفة:
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: قد اختلف العلماء في من هذه الطائفة؟، وأين هم؟، فقال عليّ ابن المدينيّ: هم العرب، واستدلّ برواية من روى:"وهم أهل الغرب"، وفسّر "الغرب" بالدلو العظيمة. وقيل: أراد بالغرب أهل القوّة، والشدّة، والحدّ، وغرب كلّ شيء حدّه. وقيل: أراد به غرب الأرض، وهو ظاهر حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه وقال فيه:"لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ في المغرب حتى تقوم الساعة"، ورواه عبد بن حميد، وقال فيه: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحقّ حتى تقوم الساعة، أو يأتي
(1)
"المفهم" 3/ 764 "كتاب الجهاد".
(2)
هذا الحديث ضعيف، رواه ابن ماجه في "سننه" برقم (3950)، وابن أبي عاصم في "السنّة" رقم (84)، وعبد بن حميد في "المنتخب من المسند" 133، واللالكائيّ في "أصول أهل السنة" 1/ 105 - 653 عن معان بن رفاعة السلاميّ، عن أبي خلف الأعمى، عن أنس مرفوعًا، وهو إسناد واهٍ بمرّة، إذ أبو خلف الأعمى متروك، ورماه ابن معين بالكذب. وقال الدارقطنيّ في "الأفراد": تفرّد بهذا الحديث. ومعان بن رفاعة ليّن الحديث. وأخرجه أبو نُعيم في "أخبار أصبهان" 2/ 208 وهو ضعيف أيضًا فيه عللٌ، قد أجاد الشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى في "السلسلة الضعيفة" 6/ 436 رقم (2896)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(3)
"شرح مسلم" 13/ 67.
(4)
"شرح مسلم" 13/ 67.
أمر اللهُ". ورواه بقيّ بن مَخْلَد في "مُسنده" كذلك: "لا يزال أهل المغرب كذلك".
قال القرطبيّ: وهذه الروايات تدلّ على بطلان التأويلات المتقدّمة، وعلى أن المراد به أهل المغرب في الأرض، لكن أول المغرب بالنسبة إلى المدينة مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو الشام، وآخره حيث تنقطع الأرض من المغرب الأقصى، وما بينهما، كلّ ذلك يُقال عليه: مغرب، فهل أراد المغرب كلّه، أو أوّله؟ كلُّ ذلك محتملٌ، لا جَرَم قال معاذٌ رضي الله عنه في الحديث الآخر:"هم أهل الشام"، ورواه الطبريّ، وقال: هم ببيت المقدس. وقال أبو بكر الطرطوشيّ في رسالة بعث بها إلى أقصى المغرب بعد أن أورد حديثًا في هذا المعنى قال: - والله تعالى أعلم - هل أرادكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أراد بذلك جملةَ أهل المغرب لما هم عليه من التمسّك بالسنّة والجماعة، وطهارتهم من البِدَع والإحداث في الدين، والاقتفاء لآثار من مضى من السلف الصالح؟. والله تعالى أعلم. انتهى ما ذكره القرطبيّ
(1)
.
وقال في "الفتح": قال صاحب "المشارق" في قوله: "لا يزال أهل الغرب" يعني الرواية التي في بعض طرق مسلم، وهي - بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء -: ذكر يعقوب بن شيبة عن علي ابن المديني قال: المراد بالغرب الدلو؛ أي: العَرَب - بفتح المهملتين - لأنهم أصحابها، لا يستقي بها أحد غيرهم، لكن في حديث معاذ:"وهم أهل الشام"، فالظاهر أن المراد بالغرب البلد؛ لأن الشام غربي الحجاز، كذا قال، وليس بواضح. ووقع في بعض طرق الحديث "المغرب" - بفتح الميم، وسكون المعجمة - وهذا يَرُدّ تأويل الغرب بالعرب، لكن يحتمل أن يكون بعض رواته نقله بالمعنى الذي فهمه، أن المراد الإقليم، لا صفة بعض أهله. وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والاجتهاد في الجهاد، يقال: في لسانه غَرْب - بفتح، ثم سكون - أي: حِدّة. ووقع في حديث أبي أمامة عند أحمد: "أنهم ببيت المقدس"، وأضاف "بيت" إلى "المقدس". وللطبراني من حديث النهدي نحوه، وفي حديث أبي هريرة في
(1)
"المفهم" 3/ 763 - 764.
"الأوسط" للطبراني: "يقاتلون على أبواب دمشق، وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين إلى يوم القيامة".
ويمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس، وهي شامية، ويسقون بالدلو، وتكون لهم قوة في جهاد العدو، وحِدَّة وجِدٌّ. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما هذه الطائفة فقال البخاريّ: هم أهل العلم، وقال أحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟. قال القاضي عياض: إنما أراد أحمد أهل السنة والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث
(2)
.
وقال في "الفتح": قال النووي: يجوز أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع، وبصير بالحرب، وفقيه، ومحدث، ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد، وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أَوّلًا فأوّلًا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. انتهى ملخصًا مع زيادة فيه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصواب في المراد بالطائفة المذكورة هم الجماعة الذين يقومون بنصرة الدين، والذبّ عن حريمه، واتّباع السنّة، وقمع البدعة، فيشمل كلّ من كان متّصفًا بما ذُكر من علماء الحديث، والمفسّرين، والفقهاء، والأمراء، والسلاطين، والشجعان، القائمين بما ذكر، والله تعالى أعلم.
قال
(3)
: ونظير ما نَبّهَ عليه - يعني: النووي في كلامه السابق - ما حَمَل
(1)
"الفتح" 15/ 229 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة".
(2)
"شرح مسلم" 13/ 66 - 67 "كتاب الجهاد".
(3)
أي صاحب "الفتح".
عليه بعضُ الأئمة حديث: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو مُتَّجِهٌ، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعَى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى، باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعيّ، وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل، فعلى هذا كُلُّ من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وهو بحثٌ نفيسٌ جِدًّا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: "حتى تقوم الساعة"، وحديث مسلم:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق".
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: هذا الحديث وما أشبهه، ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض، حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف، ويعود غريبًا كما بدأ، ثم ذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق
…
" الحديث، قال: فتبيّن في هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى، وأن الطائفة التي تبقى على الحق، تكون ببيت المقدس إلى أن تقوم الساعة، قال: فبهذا تأتلف الأخبار. وتعقّبه الحافظ رحمه الله تعالى، قائلًا: ليس فيما احتج به تصريح إلى بقاء أولئك إلى قيام الساعة، وإنما فيه حتى يأتي أمر الله، فيحتمل أن يكون المراد بأمر الله، ما ذُكر من قبض مَن بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت المقدس أن آخرهم من كان مع عيسى عليه السلام، ثم إذا
(1)
"الفتح" 15/ 229 - 230.
بعث الله الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن لم يبقَ إلا شرار الناس.
وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام، وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك، إذا انقطع تناثر الخَرَز بسرعة، وهو عند أحمد، وفي مرسل أبي العالية:"الآيات كلها في ستة أشهر". وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "في ثمانية أشهر"، وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إلى بيان الزمان الذي يقع فيه ذلك، ولفظه:"لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبَد اللات والعزى"، وفيه:"يبعث الله ريحًا طيبة، فتوفَّى كل من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وعنده في حديث عبد الله بن عمرو رفعه: "يخرج الدجال في أمتي
…
" الحديث، وفيه: "فيبعث الله عيسى ابن مريم، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد، في قلبه مثقال حبة من خير"، أو "إيمان، إلا قبضته"، وفيه: "فيبقى شرار الناس في خِفَّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم ينفخ في الصور".
فظهر بذلك أن المراد بأمر الله في حديث: "لا تزال طائفة" وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا شيئًا يسيرًا، ويؤيده حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، رفعه:"لا تزال طائفة من أمتي، يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال"، أخرجه أبو داود، والحاكم، قال: ويؤخذ منه صحة ما تأولته، فإن الذين يقاتلون الدجال، يكونون بعد قتله مع عيسى، ثم يُرسَل عليهم الريح الطيبة، فلا يبقى بعدهم إلا الشرار، كما تقدم
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا في موضع آخر ما خلاصته: إن المراد بأمر الله هبوب تلك الريح، وبقيام الساعة ساعتهم، والمراد بالذين يكونون ببيت
(1)
"الفتح" 14/ 583 - 585 "كتاب الفتن".
المقدس هم الذين يحصرهم الدجال إذا خرج، فينزل عيسى إليهم، فيقتل الدجال، ويَظهر الدين في زمن عيسى، ثم بعد موت عيسى تهب الريح المذكورة، فهذا هو المعتمد في الجمع - والعلم عند الله تعالى -. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأرجح في المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تقوم الساعة"، وبقوله:"حتى يأتي أمر اللهُ"، علامة الساعة التي هي هبوب الريح المذكورة، فلا يوجد بعده نفس مؤمنة، بل يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وبهذا يحصل الجمع بين حديث الباب، وحديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(78) - (بَابُ بَيَانِ الزَّمَانِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ الإِيمَانُ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[403]
(157) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاء، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، فَيَوْمَئِذٍ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الآية [الأنعام: 158] ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المَقَابريّ البغداديّ، ثقةٌ [10](234)(عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
(1)
"الفتح" 15/ 228 "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة".
2 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السَّعديّ المروزيّ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق المدنيّ القارئ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الحُرَقيّ، أبو شِبْلٍ المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5](ت سنة بضع 130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الرحمن بن يعقوب الجُهنيّ الحُرَقيّ مولاهم المدنيّ، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقيان تقدّما في الباب الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماستات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيوخه الثلاثة، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه قوله: "يعنون ابن جعفر"، وقوله:"وهو ابن عبد الرحمن"، وقد تقدّم البحث عنه غير مرّة، وخلاصته أن مشايخه لم ينسبوا إسماعيل، والعلاء إلى أبويهما، فأراد أن يوضّح ذلك لطلابه، فزاد كلمة "يعنون"، وكلمة "وهو" فصلًا بين ما نقله، وبين ما زاده من عنده، فتبصّر.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء، عن أبيه.
5 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ، حَتَّى تَطْلُعَ) بضمّ اللام مضارع طَلَع بفتحها، يقال: طَلَعَ يَطْلُعُ طُلُوعًا، من باب قَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا، ومَطْلَعًا بفتح اللام، وكسرها، وكلُّ ما بدا لك من عُلوّ، فقد طَلَعَ عليك، وطَلَعتُ الجبلَ طُلُوعًا يتعدَّى بنفسه؛ أي: عَلَوته، وطَلَعْتُ فيه: رَقِيته،
قاله الفيّوميّ
(1)
، وقال المجد: طَلَعَ الكوكب، والشمس طُلُوعًا وَمَطْلَعًا ومَطْلِعًا: ظَهَرَ، كاطَّلَعَ. انتهى
(2)
. (الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) - بفتح الميم، وكسر الراء -: أي: محلّ غروبها، وقد وقع تفسير كيفيّة طلوعها في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الآتي في قوله: "أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟
…
" الحديث.
[تنبيه]: هذا الحديث مختصر من الحديث الذي ساقه الإمام البخاريّ رحمه الله في أواخر "كتاب الفتن" بطوله، فقال:
(7121)
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة، حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مَقْتَلَةٌ عظيمةٌ، دعوتهما واحدة، وحتى يُبْعَث دجالون، كذابون، قريب من ثلاثين، كلُّهم يَزْعُمُ أنه رسول الله، وحتى يُقبَض العلم، وتَكثُر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفِتَن، وَيكْثُر الهَرْج - وهو القتل - وحتى يكثر فيكم المال، فيَفِيضَ حتى يُهِمَّ ربُّ المال من يَقْبَل صدقته، وحتى يَعْرِضه عليه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أَرَبَ لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يَمُرَّ الرجلُ بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تَطلُع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس، يعني: آمنوا أجمعون، فذلك حين: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، ولَتَقُومنّ الساعةُ، وقد نَشَرَ الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يَطوِيانه، ولتقومنَّ الساعةُ، وقد انصرف الرجل بلبن لِقْحَته، فلا يَطْعمه، ولتقومن الساعة، وهو يَلِيط حوضه، فلا يَسْقِي فيه، ولتقومنّ الساعةُ، وقد رَفَع أُكْلته إلى فيه، فلا يَطْعمها".
وقال الطيبيّ رحمه الله: الآيات أماراتٌ للساعة، إما على قربها، وإما على حصولها، فمن الأول الدجال، ونزول عيسى، ويأجوج ومأجوج، والخسف، ومن الثاني الدخان، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والنار التي تحشر الناس، وحديث الباب يُؤذِن بذلك؛ لأنه جَعَل في طلوعها من المغرب
(1)
"المصباح المنير" 2/ 375.
(2)
"القاموس المحيط" ص 669.
غايةً؛ لعدم قيام الساعة، فيقتضي أنها إذا طَلَعَت كذلك انتفى عدم القيام، فثبت القيام، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) وفي رواية أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ في "التفسير":"فإذا رآها الناس آمَنَ مَن عليها"، أي: على الأرض من الناس (فَيَوْمَئِذٍ) وفي رواية للبخاري: "فذاك حين"({لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الآية [الأنعام: 158]) قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: معنى الآية: لا ينفع كافرًا لم يكن آمن قبل الطلوع إيمانٌ بعد الطلوع، ولا ينفع مؤمنًا لم يكن عَمِل صالحًا قبل الطلوع عَمَلٌ صالحٌ بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان، والعمل الصالح حينئذ حكمُ مَن آمن، أو عَمِل عند الغَرْغَرَة، وذلك لا يفيد شيئًا، كما قال تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر: 85]، وكما ثبت في الحديث الصحيح:"تُقبَل توبةُ العبد ما لم يبلغ الغرغرة"
(2)
.
وقال ابن عطية وغيره ما حاصله: معنى الآية أن الكافر لا ينفعه إيمانه بعد طلوع الشمس من المغرب، وكذلك العاصي لا تنفعه توبته، ومن لم يعمل صالحًا من قبلُ، ولو كان مؤمنًا لا ينفعه العمل بعد طلوعها من المغرب.
وقال القاضي عياض رحمه الله: المعنى لا تنفع توبةٌ بعد ذلك، بل يُختم على عمل كلِّ أحد بالحالة التي هو عليها.
والحكمة في ذلك أن هذا أولُ ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلويّ، فإذا شوهد ذلك حصل الإيمان الضروريّ بالمعاينة، وارتفع الإيمان بالغيب، فهو كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فالمشاهدة لطلوع الشممس من المغرب مثله.
وقال القرطبيّ في "التذكرة" بعد أن ذكر هذا: فعلى هذا، فتوبة من شاهد
(1)
"الفتح" 11/ 360 "كتاب الرقاق" رقم (6506).
(2)
حديث حسنٌ، أخرجه أحمد (5885)، والترمذيّ (3460)، وابن ماجه (4243)، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا بلفظ:"إن الله يقبل توبة العبد، ما لم يُغَرْغِر"، وقال الترمذيّ: حديث حسنٌ غريب.
ذلك، أو كان كالمشاهد له مردودةٌ، فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن ينسى هذا الأمر، أو ينقطع تواتره، ويصير الخبر عنه آحادًا، فمن أسلم حينئذ، أو تاب قُبِل منه، وأَيَّد ذلك بأنه رُوي أن الشمس والقمر يُكْسَيان الضوء بعد ذلك، ويطلعان، ويغربان من المشرق، كما كانا قبل ذلك.
قال: وذكر أبو الليث السمرقنديّ في "تفسيره" عن عمران بن حُصين قال: إنما لا يُقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع، لأنه يكون حينئذ صيحة، فيهلك بها كثير من الناس، فمن أسلم، أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل في "الفتح"
(1)
هذا القول عن القرطبيّ، وسكت عليه، وعندي أنه محلّ نظر، فأين الدليل على قبول التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها؟، وما ذكره من طلوعهما وغروبهما بعد ذلك كعادتهما ليس فيه دلالة على القبول المزعوم، وما ذكره أبو الليث عن عمران بن حصين رضي الله عنهما يحتاج إلى ثبوته، فتبصر، والله تعالى أعلم.
وقال ابن عطية رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على أن المراد بالبعض في قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] طلوعُ الشمس من المغرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، وأسند الطبريّ عن ابن مسعود، أن المراد بالبعض إحدى ثلاث: هذه، أو خروج الدابة، أو الدجال، قال: وفيه نظرٌ؛ لأن نزول عيسى ابن مريم، يَعْقُبُ خروج الدجال، وعيسى لا يَقْبَل إلا الإيمان، فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يُقْبَل الإيمان ولا التوبة. انتهى.
لكن يأتي عند المصنّف في الحديث التالي من طريق أبي حازم، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"ثلاثٌ إذا خَرَجن لم ينفع نفسًا إيمانها، لم تكن آمنت من قبل: طلوعُ الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض".
قيل: فلعل حصول ذلك يكون متتابعًا، بحيث تَبْقى النسبة إلى الأول منها مجازية، وهذا بعيدٌ؛ لان مُدّة لَبث الدجال إلى أن يقتله عيسى، ثم لبث عيسى، وخروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك سابق على طلوع الشمس من
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 361 "كتاب الرقاق" رقم (6506).
المغرب، فالأرجح أن خروج الدجال أولُ الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلويّ، وينتهي ذلك بقيام الساعة، قاله الحافظ رحمه الله، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[78/ 403 و 404](157)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4635 و 4636)، و"الرقاق"(6506)، و"الفتن"(7121)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4312)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11177)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4068)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 231 - 313 - 350 - 398 - 530)، و (ابن جرير الطبريّ) في "تفسيره"(14204 و 14209)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6838)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(318 و 319)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(396 و 401 و 402 و 403)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4243 و 4244)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الزمن الذي لا يُقبَلُ فيه الإيمان، وهذا هو وجه مطابقة ذكره في "كتاب الإيمان".
2 -
(ومنها): إثبات قيام الساعة، وأنه شيء لا بدّ من وقوعه.
3 -
(ومنها): إثبات علامات وأمارات لوقوع الساعة.
4 -
(ومنها): إثبات طلوع الشمس من مغربها، مخالفة لعادتها، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: وهو على ظاهره عند أهل الفقه والحديث والمتكلّمين من
أهل السنّة، خلافًا لمن تأوله من المبتدعة والباطنيّة، وهو أحد أشراط الساعة المنتظرة. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): أن ذلك طلوعها علامة غلق باب التوبة، فبعد ذلك لا ينفع الكافر أن يؤمن، ولا العاصي أن يتوب.
6 -
(ومنها): بيان أن توبة العبد مقبولة قبل ذلك، وإن عمل ما عمل من كبائر الذنوب.
7 -
(ومنها): بيان سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، حيث أمهل العصاة أمدًا طويلًا، فمن أراد منهم أن يرجع إليه قبله، فلا ينبغي للعبد أن يستعظم ذنوبه، ويقع في اليأس، فإن الله تعالى لا يعظُم عليه شيء، {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في أول علامات الساعة:
(اعلم): أنهم اختلفوا في ذلك؛ لاختلاف الآثار الواردة فيه، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: اختُلف في أول الآيات، فقيل: أولها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابّة، من رواية عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أول الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحًى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على إثرها قريبًا"، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"أولُ أشراط الساعة نارٌ تحشُر الناس، تخرُج من اليمن"، وفي حديث حذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه:"آخر ذلك النار". انتهى
(2)
.
وقد لخّص الحافظ رحمه الله في "الفتح" تلك الآثار، وجمع بين أشتاتها، فأجاد وأفاد رحمه الله، ودونك خلاصته:
قال رحمه الله: الذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أولُ الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلويّ، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 615.
(2)
المصدر السابق 1/ 616 - 617.
الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من المغرب، وقد أخرج مسلم أيضًا من طريق أبي زرعة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، رفعه:"أولُ الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحًى، فأيُّهُما خرجت قبل الأخرى، فالأخرى منها قريب"
(1)
.
وفي الحديث قصة لمروان بن الحكم، وأنه كان يقول: أولُ الآيات خروج الدجال، فأنكر عليه عبد الله بن عمرو.
قال الحافظ: ولكلام مروان مَحْمِلٌ يُعْرَف مما ذكرته.
وقال الحاكم أبو عبد الله رحمه الله: الذي يظهر أن طلوع الشمس يَسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم، أو الذي يقرب منه.
قال الحافظ: والحكمة في ذلك أن عند طلوع الشمس من المغرب يُغْلَق بابُ التوبة، فتخرج الدابة تُمَيِّز المؤمن من الكافر؛ تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة.
وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تَحْشُر الناس كما ثبت في حديث أنس رضي الله عنه في مسائل عبد الله بن سلام، ففيه:"وأما أوّلُ أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب"
(2)
.
(1)
سيأتي في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" برقم (2941).
(2)
هو: ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:(4480) حدثنا عبد الله بن منير، سمع عبد الله بن بكر، حدثنا حميد، عن أنس، قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أرض يَختَرِف، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني سائلك عن ثلاث، لا يعلمهنّ إلا نبيٌّ، فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما يَنزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال:"أخبرني بهنّ جبريل آنفًا"، قال: جبريل؟ قال: "نعم"، قال: ذاك عدوّ اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية:" {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، أما أول أشراط الساعة، فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة، فزيادة كبد حوت، وإذا سَبَقَ ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت"، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله؛ يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْتٌ، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني، فجاءت =
وذكر الميانشيّ عن عبد الله بن عمرو رفعه، قال: يبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومائة سنة.
قال الحافظ: رفع هذا لا يثبت، وقد أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" بسند جيّد عن عبد الله بن عمرو موقوفًا، وقد ورد عنه ما يعارضه، فأخرج أحمد، ونعيم بن حماد من وجه آخر، عن عبد الله بن عمرو، رفعه:"الآيات خَرَزَات منظومات في سلك، إذا انقطع السلك تَبعَ بعضها بعضًا"، وأخرج الطبراني من وجه آخر عن عبد الله بن عمرو، رفعه: "إذا طلع الشمس من مغربها خَرَّ إبليس ساجدًا، ينادي: إلهي مُرْني أن أسجد لمن شئت
…
" الحديث، وأخرج نعيم نحوه، عن أبي هريرة، والحسن، وقتادة، بأسانيد مختلفة.
وعند ابن عساكر، من حديث حُذيفةَ بنِ أَسِيد الغفاريّ، رفعه:"بين يدي الساعة عشر آيات، كالنّظم في الخيط، إذا سقط منها واحدة توالت"، وعن أبي العالية:"بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر، يتتابعن كتتابع الخَرَزات في النظام".
ويمكن الجواب عن حديث عبد الله بن عمرو بأن المدّة، ولو كانت كما قال: عشرين ومائة سنة، لكنها تَمُرّ مرورًا سريعًا كمقدار مرور عشرين ومائة شهر من قبل ذلك، أو دون ذلك، كما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر
…
" الحديث، وفيه: "واليوم كاحتراق السَّعَفَة".
وأما حديث عمران، فلا أصل له، وقد سبقه إلى هذا الاحتمال البيهقيّ في "البعث والنشور"، فقال في "باب خروج يأجوج ومأجوج":(فصل) ذَكَرَ الحَلِيميّ أن أول الآيات الدجال، ثم نزول عيسى؛ لأن طلوع الشمس من
= اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ " قالوا: خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا، وابن سيدنا، قال:"أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام؟ " فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرُّنا، وابن شرِّنا، وانتقصوه، قال: فهذا الذي كنتُ أخاف يا رسول الله.
المغرب، لو كان قبل نزول عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم في زمانه، ولكنه ينفعهم؛ إذ لو لم ينفعهم لَمَا صار الدين واحدًا بإسلام من أسلم منهم.
قال البيهقيّ: وهو كلام صحيح، لو لم يعارض الحديث الصحيح المذكور:"إن أول الآيات طلوع الشمس من المغرب"، وفي حديث عبد الله بن عمرو:"طلوع الشمس، أو خروج الدابة"، وفي حديث أبي حازم، عن أبي هريرة الجزم بهما، وبالدجال في عدم نفع الإيمان.
قال البيهقيّ: إن كان في علم الله أن طلوع الشمس سابقٌ احتَمَل أن يكون المراد نفي النفع عن أنفس القرن الذين شاهدوا ذلك، فإذا انقرضوا، وتطاول الزمان، وعاد بعضهم إلى الكفر، عاد تكليفه الإيمانَ بالغيب، وكذا في قصة الدجال، لا ينفع إيمانُ من آمن بعيسى عند مشاهدة الدجال، وينفعه بعد انقراضه، وإن كان في علم الله طلوع الشمس بعد نزول عيسى، احتَمَلَ أن يكون المراد بالآيات في حديث عبد الله بن عمرو آيات أخرى غير الدجال، ونزول عيسى؛ إذ ليس في الخبر نَصّ على أنه يتقدم عيسى.
قال الحافظ: وهذا الثاني هو المعتمد، والأخبار الصحيحة تخالفه، ففي "صحيح مسلم" من رواية محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، رفعه:"مَن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها، تاب الله عليه"، فمفهومه أن من تاب بعد ذلك، لم تقبل، ولأبي داود، والنسائيّ من حديث معاوية، رفعه:"لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"، وسنده جيّد، وللطبراني عن عبد الله بن سلام نحوه، وأخرج أحمد، والطبريّ، والطبرانيّ، من طريق مالك بن يُخَامِر - بضم التحتانية، بعدها خاء معجمة، وبكسر الميم - وعن معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو، رفعوه:"لا تزال التوبة مقبولةً، حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طَبَعَ الله على كلِّ قلبٍ بما فيه، وكُفِيَ الناس العملَ"، وأخرج أحمد، والدارميّ، وعبد بن حميد في "تفسيره" كلهم من طريق أبي هند، عن معاوية، رفعه:"لا تنقطع التوبة، حتى تطلع الشمس من مغربها"، وأخرج الطبريّ بسند جيِّد من طريق أبي الشَّعْثاء، عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفًا: التوبة مفروضة ما لم تطلع الشمس من مغربها. وفي حديث صفوان بن عَسّال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن بالمغرب بابًا
مفتوحًا للتوبة، مسيرة سبعين سنةً، لا يُغْلَق حتى تطلع الشمس من نحوه"، أخرجه الترمذيّ، وقال: حسن صحيح، وأخرجه أيضًا النسائيّ، وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وفي حديث ابن عباس نحوه عند ابن مردويه، وفيه: "فإذا طلعت الشمس من مغربها، رُدّ المصراعان، فيلتئم ما بينهما، فإذا أُغلق ذلك الباب، لم تُقبَل بعد ذلك توبةٌ، ولا تنفع حسنةٌ، إلا من كان يعمل الخير قبل ذلك، فإنه يُجرَى لهم ما كان قبل ذلك"، وفيه: فقال أُبي بن كعب: "فكيف بالشمس، والناس بعد ذلك؟ قال: تُكسَى الشمس الضوءَ، وتطلع كما كانت تطلع، وتقبل الناس على الدنيا، فلو نُتِج رجلٌ مُهْرًا لم يركبه حتى تقوم الساعة".
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند نعيم بن حماد، في "كتاب الفتن"، وعبد الرزاق في "تفسيره"، عن وهب بن جابر الخَيْوَانيّ - بالخاء المعجمة - قال: كنا عند عبد الله بن عمرو، فذكر قصّةً، قال: ثم أنشأ يحدثنا، قال:"إن الشمس إذا غَرَبت سَلَّمَت وسجدت، واستأذنت في الطلوع، فيؤذن لها، حتى إذا كان ذات ليلة، فلا يؤذن لها، وتُحْبَس ما شاء الله تعالى، ثم يقال لها: اطلُعي من حيث غربت، قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ"، وأخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" عن عبد الرزاق كذلك، ومن طريق أخرى، وزاد فيها قصة المتهجدين، وأنهم هم الذين يستنكرون بطء طلوع الشمس، وأخرج أيضًا من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال:"تأتي ليلة قدرُ ثلاث ليالٍ، لا يعرفها إلا المتهجدون، يقوم فيقرأ حزبه، ثم ينام، ثم يقوم فيقرأ، ثم ينام، ثم يقوم، فعندها يموج الناس بعضهم في بعض، حتى إذا صَلَّوُا الفجر، وجلسوا، فاذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها، فَيَضِجُّ الناس ضجّة واحدةً، حتى إذا توسطت السماء رجعت"، وعند البيهقي في "البعث والنشور" من حديث ابن مسعود نحوه:"فينادي الرجل جاره: يا فلان ما شأن الليلة؟ لقد نِمْتُ حتى شَبِعتُ وصليت حتى أعييت"، وعند نعيم بن حماد، من وجه آخر، عن عبد الله بن عمرو، قال: "لا يلبثون بعد يأجوج ومأجوج، إلا قليلًا حتى تطلع الشمس من مغربها، فيناديهم منادٍ: يا أيها الذين آمنوا قد قُبِل منكم، ويا أيها الذين كفروا قد أُغلق عنكم باب
التوبة، وجَفَّت الأقلام، وطُويت الصُّحُف"، ومن طريق يزيد بن شُريح، وكثير بن مُرّة: "إذا طَلَعت الشمس من المغرب، يطبع على القلوب بما فيها، وترتفع الحفظة، وتؤمر الملائكة أن لا يكتبوا عملًا"، وأخرج عبد بن حميد، والطبريّ بسند صحيح، من طريق عامر الشعبيّ، عن عائشة: "إذا خرجت أول الآيات طُرِحت الأقلام، وطُويت الصحف، وخَلَصت الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال"، وهو وإن كان موقوفًا، فحكمه الرفع، ومن طريق العَوْفيّ، عن ابن عباس نحوه، ومن طريق ابن مسعود قالا: "الآية التي يُختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها".
فهذه آثار يشُدُّ بعضها بعضًا متفقة على أن الشمس إذا طلعت من المغرب أُغلق باب التوبة، ولم يُفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة، ويؤخذ منها أن طلوع الشمس من مغربها، أوَّلُ الإنذار بقيام الساعة.
وفي ذلك رَدٌّ على أصحاب الهيئة، ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفَلَكيّات بسيطة، لا يَختلف مقتضياتها، ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه، قال الكرمانيّ: وقواعدهم منقوضة، ومقدماتهم ممنوعة، وعلى تقدير تسليمها، فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي مُعَدَّل النهار، بحيث يصير المشرق مغربًا وبالعكس.
واستَدَلّ صاحب "الكشاف" بهذه الآية للمعتزلة، فقال: قوله: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] صفة لقوله: {نَفْسًا} [الأعراف: 42]، وقوله:{أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] عطف على {أَمَنَةً} [الأنفال: 11]، والمعنى أن أشراط الساعة إذا جاءت، وهي آيات مُلجِئة للإيمان، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ من غير مقدمة إيمانها قبل ظهور الآيات، أو مقدمة إيمانها تقديم عمل صالح، فلم يُفَرِّق كما ترى بين النفس الكافرة، وبين النفس التي آمنت في وقته، ولم تكتسب خيرًا لِيُعْلَم أن قوله:{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: 4] جمع بين قرينتين، لا ينبغي أن تنفك إحداهما عن الأخرى، حتى يفوز صاحبها ويسعد، وإلا فالشقوة والهلاك.
قال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية أنه إذا أتى
بعض الآيات، لا ينفع نفسًا كافرةً إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك، ولا ينفع نفسًا سبق إيمانها، ولم تكسب فيه خيرًا، فقد عَلَّق نفي نفع الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير، ومفهومه أنه ينفع الإيمان السابق وحده، وكذا السابق ومعه الخير، ومفهوم الصفة قويّ، فيُسْتَدَل بالآية لمذهب أهل السنة، ويكون فيه قلبُ دليل المعتزلة دليلًا عليهم.
وأجاب ابن المُنَيِّر في" الانتصاف"، فقال: هذا الكلام من البلاغة يُلَقَّبُ اللَّفّ، وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا، لم تكن مؤمنة قبلُ إيمانُها بعدُ، ولا نفسًا لم تكسب خيرًا قبلُ ما تكتسبه من الخير بعدُ؛ فَلَفَّ الكلامين، فجعلهما كلامًا واحدًا؛ إيجازًا، وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحقّ، فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود، فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدُلّ له.
وقال ابن الحاجب في "أماليه": الإيمان قبل مجيء الآية نافع، ولو لم يكن عمل صالحٌ غيره، ومعنى الآية: لا ينفع نفسًا إيمانها، ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها، فاختُصِرَ للعلم.
ونَقَلَ الطيبيّ كلام الأئمة في ذلك، ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير، وابن الحاجب، وبَسْطُهُ: أن الله تعالى لَقا خاطب المعاندين بقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} [الأنعام: 155] علّل الإنزال بقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)} [الأنعام: 156]؛ إزالةً للعذر، وإلزامًا للحجة، وعَقّبه بقوله:{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} الآية [الأنعام: 157]؛ تبكيتًا لهم، وتقريرًا لما سبق من طلب الاتباع، ثم قال:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} الآية [الأنعام: 157]، أي: أنه أَنزل هذا الكتاب المنير كاشفًا لكل رَيْب، وهاديًا إلى الطريق المستقيم، ورحمةً من الله للخلق؛ ليجعلوه زادًا لمعًادهم فيما يقدمونه من الإيمان، والعمل الصالح، فجَعَلُوا شكرَ النعمة أن كَذَّبوا بها، ومُنِعُوا من الانتفاع بها، ثم قال:{هَلْ يَنْظُرُونَ} [الأنعام: 158] الآية، أي ما ينتظر هؤلاء المكذِّبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا
بنزول الملائكة بالعقاب الذي يَستأصل شأفتهم، كما جَرَى لمن مَضَى من الأمم قبلهم، أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفُرْصة السابقة، فلا ينفعهم شيءٌ، مما كان ينفعهم من قبلُ من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها، ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ، إذا لم تكن آمنت من قبلُ أو كسبت في إيمانها خيرا من قبلُ، ففي الآية لَفّ، لكن حُذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر.
ونظيرُهُ قوله تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 172]، قال: فهذا الذي عناه ابن المُنَيِّر بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له: اللَفّ، والمعنى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك إيمانُها من بعد ذلك، ولا ينفع نفسًا كانت مؤمنةً، لكن لم تعمل في إيمانها عملًا صالحًا قبل ذلك ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك، قال: وبهذا التقرير يَظْهَر مذهب أهل السنة، فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتسابُ الخير؛ أي: لإغلاق باب التوبة، ورفع الصّحُف والحفظة، وإن كان ما سَبَقَ قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.
ثم قال الطيبيّ: وقد ظَفِرتُ بفضل الله بعد هذا التقرير على آية أخرى تُشبه هذه الآية، وتُناسب هذا التقرير معنىً ولفظًا من غير إفراط ولا تفريط، وهي قوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} الآية [الأعراف: 52 - 53]، فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع، وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلًا والله تعالى أعلم. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله مُلَخّصًا
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 360 - 364 "كتاب الرقاق" رقم (6506).
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[404]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كِلَاهُمَا، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبي زُرْعَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهمدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظ فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(وَأَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء بن كُرَيب الهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظ [10](ت 247)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(جَرِير) بن عبد الحميد بن قُرْط الضّبّيّ، أبو عبد الله الكوفيّ نزيل الريّ، وقاضيها، ثقةٌ صحيح الكتاب [8](ت 188)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان الضبّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالتشيّع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
5 -
(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرمة الضبّيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
6 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البَجَليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل غير ذلك، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (كِلَاهُمَا) أي: كلا ابن فُضيل، وجرير.
[تنبيه]: رواية أبي زرعة هذه أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "التفسير" من "صحيحه"، فقال:
(4635)
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا عمارة، حدثنا أبو زرعة، حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن مَن عليها، فذاك
حين: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158] "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح)(وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ذَكوَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ) بن الوليد الجُعْفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ سنّيّ [7](ت 160) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ ذَكْوَانَ) القرشيّ، أبو عبد الرحمن المعروف بأبي الزناد المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 130)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ) هو: عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان تقدّما قريبًا.
[تنبيه]: رواية الأعرج هذه أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:
(6506)
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، حدثنا أبو الزناد، عن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، فرآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حين: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158]، ولتَقُومنَّ الساعةُ، وقد نَشَرَ الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يَطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصَرَف الرجل بلبن لِقْحَته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يَلِيط حوضه، فلا يَسقِي فيه، ولتقومنّ الساعةُ، وقد رَفَع أحدكم أكلته إلى فيه، فلا يَطْعَمُهَا"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[
…
] (
…
) - (ح) (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ
(1)
، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ العَلَاءِ
(2)
، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، أبو عبد الله، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمَّام الصنعانيّ الحميريّ مولاهم، أبو بكر، ثقةٌ حافظ، مصنّف، عمي فتغيّر، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبت فاضل، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) بن كامل الأبناويّ، أبو عتبة الصنعانيّ، أخو وهب، ثقةٌ [4](132)(ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
وقوله: (بمثل حديث العلاء
…
إلخ) يعني: أن رواية معمر، عن همّام مثل رواية العلاء عن أبيه
…
إلخ.
[تنبيه]: رواية معمر عن همّام التي أحالها المصنّف هنا، أخرجها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" أيضًا، فقال:
(4636)
حدثني إسحاق، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همّام، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة، حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت، ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] " ثم قرأ الآية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
وفي نسخة: "وأخبرنا محمد بن رافع، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر
…
" إلخ.
(2)
وفي نسخة: "مثل حديث العلاء".
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[405]
(158) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، (ح) وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزرَقُ، جَمِيعًا عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ، (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، وَاللَّفْظُ لَهُ، حَدَّثنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبيِ حَازِمٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ، إِذَا خَرَجْنَ، {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]: طُلُوعُ الشمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزرَقُ) الواسطيّ، ثقةٌ [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.
2 -
(وَكِيع) بن الجرّاح بن مَلِيح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ، حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 196) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(فُضَيْلِ بْنِ غزْوَانَ) - بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي - ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، من كبار [7].
رَوَى عن أبي حازم الأشجعيّ، وسالم بن عبد الله بن عمر، ونافع مولى ابن عمر، وأبي إسحاق السبيعي، وعكرمة، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، وغيرهم.
وروى عنه ابنه محمد، والثوريّ، وابن المبارك، والقطان، ووكيع، وجرير، وحفص بن غياث، وعبد الله بن نمير، والفضل بن موسى السِّينانيّ، وإسحاق بن يوسف الأزرق، وأبو أسامة، ويعلى بن عُبيد، وآخرون.
قال أحمد، وابن معين: ثقةٌ، ووثقه محمد بن عبد الله بن عمار، ويعقوب بن سفيان، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: حدثنا أبي، حدثنا ابن فضيل، عن أبيه، قال: كنا نَجلِس أنا وابن شُبْرُمة، والقعقاع بن يزيد، والحارث العُكْليّ نتذاكر الفقه، فربّما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر،
وذكر الخالديّ الشاعر أنه قُتِل في أيام المنصور
(1)
، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (16) حديثًا.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
والباقون تقدّموا قريبًا.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، فإن معظمهم كوفيّون، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه أبا حازم ممن لازم أبا هريرة خمس سنين.
4 -
(ومنها): أن فيه كتابة (ح) إشارة إلى التحويل، وقد مرّ البحث فيها غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه قوله: "واللفظ له" يعني: أن لفظ الحديث المذكور هنا لفظ محمد بن العلاء، وأما شيخاه أبو بكر، وزهير، فروياه بالمعنى.
6 -
(ومنها): أن فيه أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثٌ) ذكّر العدد على تقدير ثلاثُ آيات، وللترمذيّ:"ثلاثة" بالتاء على تقدير ثلاثة أشياء، أو أمور (إِذَا خَرَجْنَ) أي: ظهرن في الدنيا وشاهدهنّ الناس {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا} أي: كافرةً {إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ} نفسًا مؤمنة لم تكن {كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]) أي: في حال كونها مؤمنة لم تعمل عملًا صالحًا غير الإيمان (طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) بدل تفصيل من "ثلاث"، أو بدل كلّ إن اعتُبر مع ما بعده، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: أحدها طلوع الشمس من
(1)
وقال في "التقريب": مات بعد سنة أربعين؛ أي ومائة.
موضع غروبها (وَالدَّجَّالُ) هكذا الرواية عند المصنّف، وغيره، ووقع في "مسند أحمد":"والدخان" بالخاء المعجمة، وآخره نون.
و"الدجّال" بفتح الدال، وتشديد الجيم، هو: الكذّاب، قال ثعلبٌ: الدّجّال: هو المُمَوِّه، يقال: سيفٌ مُدَجَّلٌ: إذا طُلِي بذهب، وقال ابن دُريد: كلُّ شيء غَطَّيتَهُ: فقد دَجَّلْتَهُ، واشتقاق الدّجّال من هذا؛ لأنه يُغطيّ الأرض بالجمع الكثير، وجمعه دجّالون، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقال في "الفتح": "الدَّجّال": فَعّالٌ بفتح أوله، والتشديد من الدَّجْل، وهو التغطية، وسُمِّي الكذّاب دجّالًا؛ لأنه يُغَطّي الحقَّ بباطله، ويقال: دَجَلَ البعيرَ بالقَطِران: إذا غَطّاه، والإناءَ بالذهب: إذا طلاه، وقال ثعلب: الدجّال: المُمَوِّه، سيف مُدَجَّلٌ: إذا طُلِي، وقال ابن دُريد: سُمّي دجّالًا؛ لأنه يُغَطِّي الحقَّ بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض، يقال: دَجَلَ مُخَفَّفًا ومُشَدَّدًا: إذا فَعَلَ ذلك، وقيل: بل قيل ذلك؛ لأنه يُغَطِّي الأرض، فرجع إلى الأول.
وقال القرطبيّ في "التذكرة": اختُلِفَ في تسميته دجّالًا على عشرة أقوال.
وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة، والرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(وَدَابَّةُ الْأَرْضِ") أُضيفت إلى الأرض مع أن الأصل في الدابّة ما تَدِبُّ على الأرض؛ للإشارة إلى أن خَلْقها ليس بطريق التوالد كبقيّة الدواب المعروفة، بل بالخروج من الأرض على هيئتها المكتملة، وسيأتي البحث فيها في المسألة الخامسة - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا تفرّد به المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا في "الإيمان"[78/ 405](158)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3072)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 178)، و (أحمد) في
(1)
"المصباح المنير" 1/ 189 - 190.
"مسنده"(9752)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6170 و 6172)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(318)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(396)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1023)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(8/ 103)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(ص 213)، وفوائده تقدّمت في الحديث الماضي، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في ذكر ما قيل في الدجّال:
(اعلم): أن مما يُحتاج إليه في أمر الدجال: أصله، وهل هو ابنُ صيّاد، أو غيره؟، وعلى الثاني فهل كان موجودًا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لا؟ ومتى يَخرُج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما الذي يَدَّعيه؟ وما الذي يَظْهَر عند خروجه من الخوارق، حتى تَكْثُر أتباعه؟ ومتى يَهلِك؟ ومن يقتله؟.
فأما الأول؛ فقد ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه أنه كان يَحْلِف أن ابن صيّاد هو الدجّال.
وأما الثاني؛ فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداريّ الذي أخرجه مسلم أنه كان موجودًا في العهد النبوي، وأنه محبوس في بعض الجزائر.
وأما الثالث؛ ففي حديث النّوّاس عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية.
وأما سبب خروجه، فأخرج مسلم في حديث ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم أنه يخرج من غَضبَة يَغْضَبها.
وأما من أين يَخرُج؟ فمن قِبَل المشرق جزمًا، ثم جاء في رواية أنه يَخرُج من خراسان، أخرج ذلك أحمد، والحاكم، من حديث أبي بكر، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان، أخرجها مسلم.
وأما صفته، فقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه رجل جسيمٌ أحمر جعد الرأس، أعور العين، كأن عينه عِنَبة طافية، أقرب الناس شبهًا به ابن قَطَن، رجل من خُزاعة، وإن بين عينيه مكتوب كافر.
وأما الذي يَدَّعيه، فإنه يخرج أوّلًا، فيَدَّعي الإيمان والصلاح، ثم يَدّعي النبوة، ثم يدعى الإلهية، كما أخرج الطبرانيّ، من طريق سليمان بن شهاب،
قال: نَزَل عليّ عبدُ الله، وكان صحابيًّا، فحدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدجال ليس به خَفَاءٌ، يجيء من قِبَل المشرق، فيدعو إلى الدين، فيُتَّبَعُ، ويَظهَر، فلا يزال حتى يَقْدَم الكوفة، فيُظهِر الدين، ويعمل به فيُتَّبَعُ، وَيحُثّ على ذلك، ثم يَدَّعي أنه نبي، فيَفْزَع من ذلك كلُّ ذي لُبّ، ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا الله، فتُغْشَى عينه، وتقطع أذنه، ويُكتب بين عينيه كافرٌ، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق، في قلبه مثقالُ حبة من خردل من إيمان"، وسنده ضعيف.
(المسألة الرابعة): أنه اشتَهَرَ السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن، مع ما ذُكر عنه من الشرّ، وعظم الفتنة به، وتحذير الأنبياء منه، والأمرِ بالاستعاذة منه حتى في الصلاة.
[وأجيب بأجوبة]:
(أحدها): أنه ذُكِر في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية [الأنعام: 158]، فقد أخرج مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"ثلاثٌ إذا خَرَجن لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ، أو كسبت في إيمانها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض"، وأخرجه الترمذيّ أيضًا، وصححه.
(الثاني): قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى ابن مريم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية [النساء: 159]، وفي قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} الآية [الزخرف: 61]، وصَحّ أنه الذي يقتل الدجال، فاكتُفِي بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يُلَقَّب بالمسيح، كعيسى عليه السلام، لكن الدجال مَسِيح الضلالة، وعيسى عليه السلام مسيح الهدى.
(الثالث): أنه تُرِك ذكره احتقارًا.
وتُعُقِّب بذكر يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم بأشدّ من الفتنة بالدجال.
وأجاب البلقيني بأنه اعتَبَر كلَّ من ذُكر في القرآن من المفسدين، فوجَدَ كلَّ من ذُكر إنما هم ممن مضى، وانقضى أمره، وأما من لم يجئ بعدُ، فلم يُذكَر منهم أحدٌ. انتهى.
وتُعُقّب بأنه ينتقض بيأجوج ومأجوج.
وقد وقع في "تفسير البغويّ" أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الآية [غافر: 57]، وأن المراد بالناس هنا الدجال، من إطلاق الكلّ على البعض، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تَكَفَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيانه والعلم عند الله تعالى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأجوبة كلها ليست مُقنعة، فالأولى أن نَكِلَ علمه في عدم ذكره في القرآن إلى العليم الخبير، فالله تعالى أعلم.
وأما ما يظهر على يده من الخوارق، فقد ثبت في الصحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن معه ماءً ونارًا، فناره ماء بارد، وماؤه نار"، وأخرج نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من طريق كعب الأحبار، قال:"يتوجه الدجال، فينزل عند باب دمشق الشرقيّ، ثم يُلتَمَس، فلا يُقْدَر عليه، ثم يُرَى عند المياه التي عند نهر الكسوة، ثم يُطلب فلا يدرى أين توجه؟ ثم يظهر بالمشرق، فيُعطَى الخلافة، ثم يُظْهِر السحر، ثم يدعي النبوة، فتتفرق الناس عنه، فيأتي النهر فيأمره أن يسيل إليه فيسيل، ثم يأمره أن يرجع فيرجع، ثم يأمره أن ييبس فييبس، ويأمر جبل طور وجبل زيتا أن ينتطحا فينتطحا، ويأمر الريح أن تثير سحابًا من البحر، فتمطر الأرض، ويخوض البحر في يوم ثلاث خوضات، فلا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر، فتبلغ قعره، فيخرج من الحيتان ما يريد"
(1)
.
وفي حديث هشام بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال"، أخرجه الحاكم، وعند الحاكم من طريق قتادة، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أَسِيد رفعه: "أنه يخرج - يعني: الدجال - في نقص من الدنيا، وخِفّة من الدين، وسوء ذات بَيْن، فيرد كل منهل، وتُطوَى له الأرض
…
" الحديث.
وأما متى يهلك؟ ومن يقتله؟ فإنه يَهلك بعد ظهوره على الأرض كلها،
(1)
يحتاج إلى النظر في سنده، فالله أعلم بصحته.
إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس، فينزل عيسى عليه السلام فيقتله؛ أخرجه مسلم أيضًا.
وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين من الحلية بسند حسن صحيح إليه قال: "لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل، وسبعة آلاف امرأة"، وهذا لا يقال من قبل الرأي، فيحتمل أن يكون مرفوعًا أرسله، ويحتمل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
، وسيأتي تمام البحث في "كتاب الفتن" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الخامسة): في ذكر بعض ما ورد في دابّة الأرض:
(اعلم): أنه وردت أحاديث في تعيينها، وصفتها، ومن أين تخرج؟:
(فمنها): ما سيأتي للمصنّف في "كتاب الفتن "(2901) من طريق فُرَات القَزّاز، عن أبي الطُّفَيل، عن حُذيفة بن أَسِيد الغِفَاريّ، قال: اطَّلَع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، ونحن نتذاكر، فقال:"ما تذاكرون؟ "، قالوا: نَذْكُرُ الساعة، قال:"إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات"، فذكر "الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تَخرُج من اليمن، تَطْرُد الناس إلى محشرهم"
(2)
.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"(1165) عن طلحة بن عمرو، وجرير بن حازم، فأما طلحة فقال: أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عُمير الليثيّ، أن أبا الطُّفَيل حَدَّثه، عن حُذيفة بن أَسِيد الغِفَاريّ أبي سَرِيحة، وأما جرير فقال: عن عبد الله بن عُبيد، عن رجل من آل عبد الله بن مسعود، وحديث طلحة أَتَمُّهما وأحسن، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، فقال: "لها ثلاث خَرَجَات من الدهر، فتخرج من أقصى البادية، ولا يدخل ذِكرُها القرية
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 97 - 99 "كتاب الفتن" رقم (7122 - 7131).
(2)
وأخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 6 - 7، وأبو داود في "سننه"(4311)، والترمذيّ (2183)، وابن ماجه (4041).
- يعني مكة - ثم تَكْمُن زمانًا طويلًا، ثم تخرج خَرْجةً أخرى دون ذلك، فيعلو ذكرها في أهل البادية، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة -". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمةً، خيرِها وأكرمِها المسجدِ الحرام، لم يَرُعْهم إلا وهي تَرْغُو بين الركن والمقام، تنفُضُ عن رأسها التراب، فارْفَضَّ الناس معها
(1)
شَتّى ومَعًا، وتثبت عصابة من المؤمنين، وعَرَفُوا أنهم لن يُعجِزوا الله، فبدأت بهم، فجَلَّت وجوههم حتى تجعلها كأنها الكوكب الدُّرّيّ، ووَلَّت في الأرض، لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي؛ فيُقبِل عليها، فَتَسِمُهُ في وجهه، ثم تنطلق، ويشترك الناس في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، يُعْرَف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن يقول: يا كافر اقضني حقي، وحتى إنّ الكافر يقول: يا مؤمن اقضني حقّي"، وهو حديث ضعيفٌ
(2)
.
ورواه ابن جرير في "تفسيره "(20/ 14 - 15) من طريقين عن حذيفة بن أَسِيد موقوفًا، والله أعلم.
ورواه من رواية حُذيفة بن اليمان مرفوعًا، وأن ذلك في زمان عيسى ابن مريم، وهو يطوف بالبيت، ولكن إسناده لا يصح، قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله.
(ومنها): ما أخرجه المصنّف أيضًا في "كتاب الفتن"(2941) من طريق
(1)
هكذا لفظ "المسند"، وفي تفسير القرطبيّ:"منها"، وعند ابن كثير:"عنها"، والظاهر أن الصواب إما "منها"، أو "عنها"، فليُحرّر.
(2)
الحديث أخرجه الطيالسيّ بإسنادين، وكلاهما ضعيف؛ لأن في أحدهما طلحة بن عمرو، وهو متروك، وفي الآخر مجهول، وفيه أيضًا اختلاف في الرفع والوقف، ووقفه أصحّ، وقال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" 10/ 152: هكذا رواه مرفوعًا من هذا الوجه بهذا السياق، وفيه غرابة. انتهى. وأخرجه الحاكم 4/ 484 وصححه، وتعقّبه الذهبيّ بضعف طلحة، وأخرجه الحاكم أيضًا 4/ 484 من طريق عبد الأعلى، عن هشام بن حسّان، عن قيس بن سعد، عن أبي الطفيل، عن حُذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه موقوفًا، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ.
والحاصل أن الحديث صحيح موقوفًا، والله تعالى أعلم.
أبي زرعة، عن عبد الله بن عمرو، قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا لم أنسَه بعد؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوّل الآيات خروجًا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحًى، وأَيَّتُهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبًا".
(ومنها): ما أخرجه فيه أيضًا (2947) من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدجال، والدائة، وخاصّةَ أحدكم، وأمر العامة".
(ومنها): ما أخرجه أيضًا (2947) من حديث قتادة، عن الحسن، عن زياد بن رَبَاح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال ستًّا: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم".
(ومنها): ما أخرجه ابن ماجه في "كتاب الفتن " من "سننه"(4056) بإسناد حسن من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن سنان بن سَعْد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، والدجال، أو خاصة أحدكم، وأمر العامة"
(1)
.
(ومنها): ما أخرجه أبو داود الطيالسيّ في "مسنده"(2687) من طريق أوس بن خالد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تخرج دابة الأرض، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليه السلام فتَخْطِم أنف الكافر بالعصا، وتُجَلِّي وجه المؤمن بالخاتم، حتى يجتمع الناس على الخِوَان يُعْرَف المؤمن من الكافر".
وفي سنده علي بن زيد بن جُدْعان، وهو ضعيف.
ورواه أحمد في "مسنده"(7877)، وقال: "فتَخْطِم أنف الكافر بالخاتم،
(1)
سنان بن سعد، ويقال: سعد بن سنان، مختلف فيه، وقال عنه في "التقريب": صدوقٌ، فهو حسن الحديث، لكن الحديث يشهد له ما تقدّم من رواية مسلم، فهو صحيح.
وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخِوَان الواحد ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، وبقول هذا: يا كافر".
وفيه ما في سابقه.
(ومنها): ما أخرجه ابن ماجه أيضًا في "سننه"(4067)، من طريق خالد بن عبيد، عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه رضي الله عنه، قال: ذهب بي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية، قريبٍ من مكة، فإذا أرض يابسة، حولها رَمْلٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تَخرُج الدابة من هذا الموضع"، فإذا فِتْرٌ في شِبْرٍ، قال ابن بريدة: فحججت بعد ذلك بسنين، فأرانا عَصًا له، فإذا هو بعصاي هذه هكذا وهكذا.
وهو حديث ضعيف؛ لأن في سنده خالد بن عبيد متروك الحديث
(1)
.
(ومنها): ما أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة: أن ابن عباس قال: هي دابة ذات زَغَب، لها أربع قوائم، تَخرُج من بعض أودية تهامة
(2)
.
(منها): ما أخرجه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عبد الله بن رجاء، عن فُضيل بن مرزوق، عن عطية، قال: قال عبد اللهِ: "تخرُج الدابة من صَدْعٍ من الصفا، كجَرْيِ الفرس ثلاثة أيام، لم يخرج ثلثها".
وفيه عطية العوفيّ، وهو ضعيف.
وقال محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، قال: سئل عبد الله بن عمرو عن الدابة، فقال: تَخْرُج من تحت صخرة بجياد، والله لو كنت معهم، أو لو شئت لقرعت بعصاي الصخرة التي تخرج الدابة من تحتها، قيل: فتصنع
(1)
قال في "التقريب" ص (89): خالد بن عُبيد العَتَكيّ - بفتح العين المهملة، والمثنّاة - أبو عصام البصريّ، نزيل مَرْوَ متروك الحديث، مع جلالته من الخامسة، وهو من أفراد ابن ماجه. انتهى.
(2)
فيه قتادة، وقد عنعن، وهو مدلّسٌ، ولم يثبُت سماعه من ابن عباس رضي الله عنهما، قال الحاكم في "علوم الحديث": لم يسمع قتادة من صحابيّ غير أنس. ذكره في "تهذيب التهذيب" 3/ 430.
ماذا يا عبد الله بن عمرو؟ قال: تستقبل المشرق، فتصرخ صَرْخَة تُنْفِذُه، ثم تستقبل الشام، فتصرُخ صرخةً تُنْفِذه، ثم تستقبل المغرب، فتصرُخ صرخة تُنفِذه، ثم تستقبل اليمن، فتصرخ صرخة تُنفِذه، ثم تروح من مكة، فتصبح بعُسْفان، قيل: ثم ماذا؛ قال: ثم لا أعلم. رواه ابن أبي حاتم
(1)
.
وعن عبد الله بن عُمَر أنه قال: تخرج الدابة ليلة جمع، رواه ابن أبي حاتم، وفي إسناده ابن البيلماني، وهو ضعيف.
وعن وهب بن منبه أنه حَكَى من كلام عزير رضي الله عنه أنه قال: تخرج من تحت سَدُوم
(2)
دابة تُكلِّم الناس كلّ يسمعها، وتَضَع الحبالى قبل التمام، ويعود الماء العذب أُجاجًا، ويتعادى الأخلاء، وتُخْرَق الحكمة، ويُرفَع العلم، وتُكلِّم الأرضُ التي تليها، وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون، ويتعنّون فيما لا ينالون، ويعملون فيما لا يأكلون. رواه ابن أبي حاتم عنه
(3)
.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن الدابة فيها من كلّ لون، ما بين قرنيها فَرْسخٌ للراكب.
وقال ابن عباس: هي مثل الحَرْبة الضخمة.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إنها دابة لها ريشٌ، وزَغَبٌ، وحافر، وما لها ذنبٌ
(4)
، ولها لِحْيَةٌ، وإنها لتخرج حُضرَ
(5)
الفرس الجواد ثلاثًا، وما خَرَج ثلثها. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه وصف الدابة، فقال: رأسها رأس الثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أَيّل، وعنقها عنق نَعَامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نَمِر، وخاصرتها خاصرة هِرّ، وذنبها ذنب كَبْش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعًا، تخرج معها
(1)
رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره " 9/ 2925، وفيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلّس.
(2)
بفتح السين: مدينة قوم لوط عليه السلام.
(3)
هذا من الإسرائيليّات.
(4)
وفي "البداية والنهاية" لابن كثير 10/ 153: ولها ذنب، فليحرّر.
(5)
"الحُضر" والإحضار: اشتداد الفرس في العدو.
عصا موسى، وخاتم سليمان، فلا يبقى مؤمن إلا نَكَّتت في وجهه بعصا موسى نُكْتَةً بيضاء، فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه، ولا يبقى كافر إلا نَكَّتت في وجهه نكتةً سوداء بخاتم سليمان، فتفشو تلك النكتة حتى يَسْوَدّ بها وجهه، حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق: بكم ذا يا مؤمن؟ بكم ذا يا كافر؟ وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم، فيعرفون مؤمنهم من كافرهم، ثم تقول لهم الدابة: يا فلان أبْشر أنت من أهل الجنة، ويا فلان أنت من أهل النار، فذلك قول الله تعالى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} [النمل: 82].
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أن هذه الدابّة هي دابّة تكلِّم الناس بكلام فصيح، كما أخبر الله تعالى بذلك، وأما ما سبق من هذه الآثار في صفتها، وكيفية خروجها، ومكانه، فلا يصحّ شيء من ذلك؛ لضعف أسانيدها، وكون أكثرها إسرائيليّات، فلا ينبغي الاعتماد عليها.
وأما ما قاله القرطبيّ في "تفسيره " من أن أصحّ الأقوال في تعيين الدابّة أنها فصيل ناقة صالح، واستشهد بما سبق من حديث حذيفة بن أَسِيد المتقدّم وفيه قوله:"وهي ترغو بين الركن والمقام"، قال: والرّغاء إنما هو للإبل، ففيه نظرٌ من وجوه:
(الأول): أن قوله: "والرغاء إنما هو للإبل " غير صحيح؛ لأنه يكون لغيرها أيضًا، قال في "القاموس": رَغَا البعيرُ، والضَّبُعُ، والنَّعَامُ رُغَاءً بالضمّ: صَوّتت، فضَجّت، والصبيّ: بَكَى أشدّ البُكاء. انتهى
(1)
.
(والثاني): أن الحديث ليس فيه تصريح بكونه ولد ناقة صالح عليه السلام.
(والثالث): أن الحديث ضعيف، فلا يصحّ الاحتجاج به.
قال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: وقد اختُلف في صورتها، وفي أيّ موضع تخرُج على أقوال كثيرة، وليس في شيء من ذلك خبرٌ صحيحٌ مرفوع. انتهى
(2)
. وهو كلام نفيسٌ.
(1)
"القاموس المحيط" ص 1160.
(2)
راجع: "المفهم" 7/ 240 "كتاب الفتن".
والحاصل أن تعيين الدابّة، وصفتها، ومكان خروجها مما لا دليل عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال أبو العبّاس القرطبي رحمه الله: قال بعض المتأخّرين من المفسّرين: الأقرب أن تكون هذه الدابّة إنسانًا متكلِّمًا، يناظر أهل البِدَع والكفر، ويُجادلهم لينقطعوا، فيَهلِك من هَلَك عن بيّنة، وَيحيَى من حَيَّ عن بيّنة.
قال القرطبيّ: وإنما كان هذا عند هذا القائل الأقرب؛ لقوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ} [النمل: 82]، وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابّة آيةٌ خاصّة خارقة للعادة، ولا تكون من جملة العشر الآيات المذكورة في الحديث؛ لأن وجود المناظرين والمحتجّين على أهل البدع كثيرٌ، فلا آية خاصّة، فلا ينبغي أن تُذكَر مع العشر، وترتفع خصوصيّة وجودها.
ثم فيه العدولُ عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي يَحتجّ على أهل الأرض باسم الإنسان، أو بالعالم، أو بالإمام إلى أن يُسمَّى بدابّة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء، فالأولى ما قاله أهل التفسير - أي: من كونها دابّة من ذوات الأربع - قال: وأما كيفيّة صفتها وخلقتها، وبماذا يملّمهم، فالله أعلم بذلك. انتهى
(1)
.
وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[406]
(159) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ ابْنُ أيُّوبَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، سَمِعَهُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا:"أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشَّمْسُ؟ " قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "إِن هَذِهِ
(1)
المصدر السابق.
تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْش، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ
(1)
، حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت، فَتَرْجِعُ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْش، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ، حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت، فَتَرْجِعُ، فَتُصْبحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي، لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْش، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي
(2)
، أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِك، فَتُصْبحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أتدْرُونَ
(3)
مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَاكَ حِينَ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ المذكور قبل حديثين.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن راهويه الحنظليّ المروزيّ، أبو محمد، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [10](ت 238)(خ م دت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
3 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ، ثقةٌ حافظ [8](ت 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(يُونُسُ) بن عُبيد بن دينار العَبْديّ، أبو عُبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ ورعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
[تنبيه]: كون يونس ابنَ عُبيد هو الذي صرّح به أبو نعيم في "المستخرج" 1/ 221 (397)، من طريق مؤمّل بن هشام، عن ابن عليّة، وابن حبّان في "صحيحه" 14/ 21 (6153)، من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن إسماعيل بن إبراهيم، وهو ابن عليّة، لكن ابن حبّان قال: هكذا قال إسحاق: "عن يونس بن عُبيد، عن إبراهيم التيميّ"، والمشهور هذا الخبر عن يونس بن خبّاب
(4)
، عن إبراهيم التيميّ. انتهى.
(1)
وفي نسخة: "فلا يزال كذلك".
(2)
وفي نسخة: "ارجعي أصبحي".
(3)
وفي نسخة: "تدرون".
(4)
هو يونس بن خبّاب - بمعجمتين، وموحّدتين - الأسديّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ يُخطئ، ورُمي بالرفض، من الطبقة السادسة، قاله في "التقريب" ص 390.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام ابن حبّان رحمه الله يوهم أن إسحاق تفرّد بقوله: "ابن عُبيد"، وفيه نظر؛ لما ذكرنا من أن مؤمّل بن هشام تابعه عليه عند أبي نعيم، فلم ينفرد به، فتأمل، والله تعالى أعلم.
5 -
(إِبْرَاهيمُ بْنُ يَزِيدَ التَّيْمِيُّ) تيم الرباب، أبو أسماء الكوفيّ العابد، ثقةٌ، يرسلُ، ويُدلّس [5].
رَوَى عن أنس، وأبيه، والحارث بن سُويد، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن عائشة.
ورَوَى عنه بيان بن بشر، والحكم بن عتيبة، وزُبيد بن الحارث، ومسلم البَطِين، ويونس بن عبيد، وجماعة.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: ثقةٌ، مرجئ، قتله الحجَّاج بن يوسف، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال الأعمش: كان إبراهيم إذا سجد تَجيء العصافير، فتَنْقُر ظهره. وقال الكرابيسي: حدّث عن زيد بن وهب قليلًا، أكثرها مُدَلَّسَةٌ، وقال الدارقطني: لم يسمع من حفصة، ولا من عائشة، ولا أدرك زمانهما، وقال أحمد: لم يَلْقَ أبا ذر، وقال ابن حبان في "الثقات": كان عابدًا صابرًا على الجوع الدائم، وقال أبو داود في "كتاب الطهارة" من "سننه": لم يسمع من عائشة، وكذا قال الترمذي، وقال ابن المديني: لم يسمع من علي، ولا من ابن عباس، وقال القطان في رواية إبراهيم التيمي، عن أنس في القبلة للصائم: لا شيء، لم يسمعه، نقله الضياء الحافظ، قال أبو داود: مات ولم يبلغ أربعين سنة، وقال غيره: مات سنة (92)، وقال الواقدي: مات سنة (94).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
6 -
(أبوه) يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي، ثقةٌ [2].
رَوَى عن عمر، وعلي، وأبي ذر، وابن مسعود، وأبي مسعود، وحذيفة، وأبي معمر.
ورَوَى عنه ابنه إبراهيم، وإبرإهيم النخعي، وجَوّاب التيمي، والحكم بن عتيبة، وهمام بن عبد الله التيمي الكوفيون.
قال إسحاق بن منصور، عن يحيى بن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في
"الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً، وكان عَرِيفَ قومه، وله أحاديث، وقال أبو موسى المديني في "الذيل": يقال: إنه أدرك الجاهلية. أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (15) حديثًا.
7 -
(أَبُو ذَرّ) الغفاريّ الصحابيّ الشهير، اسمه جُندب بن جُنادة على الأصحّ، تقدّم إسلامه، وتأخّرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه جمّة، مات سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه، كما مرّ آنفًا.
3 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض: يونس، عن إبراهيم، عن أبيه، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأن كليهما من الطبقة الخامسة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، سَمِعَهُ - فِيمَا أَعْلَمُ - عَنْ أَبِيهِ) هكذا في هذه الرواية عند المصنّف رحمه الله من رواية ابن عليّة، عن يونس قال:"سمعه - فيما أعلم - عن أبيه"، وليس ذلك في رواية خالد الطحان التالية، ولا في رواية الأعمش، عن إبراهيم الآتية أيضًا، والظاهر أن القائل: "سمعه
…
إلخ" هو ابن عليّة، ويحتمل كونه من يونس، ولعله حينما حدّث به ابن عليّة لم يجزم، وجزم حين حدّث به خالدًا الطحّان، والله تعالى أعلم.
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا: "أتدْرُونَ) أي: هل تعلمون (أَيْنَ تَذْهَبُ هَذ الشَّمْسُ؟ " قَالُوا) أي: الصحابة الحاضرون (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (إِنَّ هَذِهِ) أي: الشمس (تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا) بصيغة اسم المفعول، أي: محلّ استقرارها، وقوله:(تَحْتَ الْعَرْشِ) ظرف متعلّق بـ "مستقرّ"، يعني: أنها تمرّ مرًّا سريعًا إلى مكانها تحت العرش، شُبّه مستقَرُّها من فلكها بمستقرّ المسافر إذا قَطَع مسيره من حيث إن في كلٍّ انتهاء
إلى محلّ معيّن (فتَخِرُّ) بكسر الخاء المعجمة، وضمها، من بابي ضرب، وقعد، قال المجد رحمه الله: الخَرّ - أي بالفتح -: السقوط، كالخُرور، أو من عُلْوٍ إلى سُفْل، يَخِرُّ - أي بكسر الخاء -، وَيخُرّ - أي بضمّها - انتهى
(1)
. (سَاجِدَةً) منصوب على الحال، وقال القاضي عياض رحمه الله: قد اختلفت أقاويل المفسّرين في هذا، فقال القُتَبيّ: مُستقرّها: أقصى منازلها في الغروب، لا تُجاوزه، ثم ترجع، ورُوي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قرأ هذا الحرف:"لا مُسْتَقَرّ لها"، أي: إنها جاريةٌ أبدًا، لا تثبتُ في موضع واحد، قال بعض أصحاب المعاني: وعلى جمع القراءتين جريُها بحُسبان، لا مستقرّ لها حتى ترتفع إلى أبعد غاياتها، وجريها تحت العرش، وهو مستقرّها على القراءة الأخرى. انتهى
(2)
.
وقال النووي رحمه الله: هذا مما اختلف المفسّرون فيه، فقال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحديّ: وعلى هذا القول إذا غربت كلَّ يوم استقرّت تحت العرش إلى أن تطلُع من مغربها، وقال قتادة، ومقاتل: معناه: تجري إلى وقتٍ لها، وأجلٍ، لا تتعدّاه، قال الواحديّ: وعلى هذا مستقرّها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا، وهذا اختيار الزجّاج، وقال الكلبيّ: تسير في منازلها إلى آخر مستقرّها الذي لا تتجاوزه، ثم ترجع إلى أول منازلها، واختار ابن قُتيبة هذا القول. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: في معنى قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] قولان: أحدهما أن المراد مُستَقَرّها المكانيّ، وهو تحت العرش، مما يلي الأرض من ذلك الجانب، وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سَقْفُها، وليس بِكُرَة، كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة، وإنما هو قُبَّةٌ، ذات قوائم، تحمله الملائكة، وهو فوق العالم، مما يلي رؤوس الناس، فالشمس إذا كانت في قُبّة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت في فَلَكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت
(1)
"القاموس المحيط" ص 346.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 617 - 618.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 195 - 197.
نصف الليل، صارت أبعد ما تكون إلى العرش، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع، كما جاءت في ذلك الأحاديث.
وقيل: المراد بِمُستقرِّها هو انتهاء سيرها، وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف، وهو أَوْجُها، ثم غاية انخفاضها في الشتاء، وهو الحضيض.
والقول الثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يَبطُل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكَوَّر، وَيَنتهِي هذا العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزمانيّ.
قال قتادة: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] أي: لوقتها لأَجَلٍ لا تعدوه، وقيل: المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مُدَّة لا تزيد عليها، ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها، يُرْوَى هذا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم:"والشمس تجري لا مُسْتَقَرَّ لها"؛ أي: لا قَرَارَ لها، ولا سكون، بل هي سائرة ليلًا ونهارًا، لا تَفْتُر، ولا تَقِفُ، كما قال تبارك وتعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] أي: لا يفتران، ولا يقفان إلى يوم القيامة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله باختصار
(1)
.
وقال في "الفتح": وأما قوله: "تحت العرش" فقيل: هو حين محاذاتها، ولا يخالف هذا قوله تعالى:{وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86]، فإن المراد بها نهاية مُدْرَك البصر إليها حال الغروب، وسجودُها تحت العرش إنما هو بعد الغروب.
قال: وفي الحديث رَدٌّ على من زَعَمَ أن المراد بمستقرّها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع، وذلك أطول يوم في السنة، وقيل: إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا.
وقال الخطابيّ: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارًا لا نحيط به نحن، ويحتمل أن يكون المعنى: أنّ عِلْمَ ما سألت عنه
(2)
من مُستقرِّها تحت العرش في كتاب كُتِب فيه ابتداءُ أمور العالم
(1)
"تفسير ابن كثير" 11/ 361 - 362.
(2)
هذا الكلام قاله الخطابيّ في شرح قول أبي ذرّ رضي الله عنه: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا
…
}، كما سيأتي آخر الباب.
ونهايتها، فيُقطع دورانُ الشصس، وتستقرّ عند ذلك، ويبطل فعلها، وليس في سجودها كلَّ ليلة تحت العرش ما يُعِيق عن دورانها في سيرها.
قال الحافظ: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها، ومقابل الاستقرار المسير الدائم المعبَّرُ عنه بالجَرْي، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى القول بما دلّ عليه ظاهر الحديث من أن معنى مستقرّها، أي: موضع استقرارها تحت العرش هو الحقّ؛ إذ لا يُنكَر أن يكون لها استقرارٌ تحت العرش من حيث لا نُدركه، ولا نشاهده، وإنما أخبرنا عن غيب، فلا نكذّبه، ولا نُكيّفه؛ لأن علمنا لا يُحيط به.
والحاصل أن كون مُستقرّها تحت العرش، وسجودها فيه على ظاهره؛ إذ لا مانع من ذلك، فلا تلتفت إلى الأقوال المخالفة لظواهر النصوص حتى تكون من ذوي الخصوص، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: استدلّ الطحاويّ رحمه الله بهذا الحديث على أن الشمس تغرُب في السماء، وذكر قراءة من قرأ "حامية" يعني: حارّة، {حَمِئَةٍ} من الحمأة والطين، وقال: لا يبعد أن يوجد الطين في السماء، واستشهد بقوله تعالى:{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33)} الآيتين [الذاريات: 33].
وتعقّبه القاضي عياض، فقال: ولا حجة في هذا، فقد جاءت الآثار أن العين الحَمِئة في الأرض، وهو ظاهر في القرآن في قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} الآية [الكهف: 86]، وأما إرسال الحجارة، فيُرسلها الله تعالى من حيث شاء، ويخلقها حيث يشاء. انتهى
(2)
.
(فَلَا تَزَالُ (الشمس (كَذَلِكَ)
(3)
أي: على هذه الحالة، من سجودها تحت العرش، وفي نسخة:"فلا يزال كذلك " بالياء التحتانيّة، أي: لا يزال الأمر على ما ذُكر (حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي) أي: عن السجود (ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ) أي: من المكان الذي جئت منه، وهو مطلعها كلّ يوم (فَتَرْجِعُ) بفتح
(1)
"الفتح" 8/ 403 "كتاب التفسير" رقم (4802 - 4803).
(2)
راجع: "الإكمال" 1/ 618 - 619.
(3)
وفي نسخة: "فلا يزال كذلك".
أوله، وكسر ثالثه، يقال: رجع من سفره، وعن الأمر رَجْعًا، ورُجُوعًا، ورُجْعَى، ومَرْجِعًا، قال ابن السّكِّيت: هو نقيض الذهاب، ويتعدّى بنفسه في اللغة الفُصْحَى، فيقال: رَجَعته عن الشيء، وإليه، ورَجَعتُ الكلامَ وغيره؛ أي: رددتُهُ، وبها جاء القرآن، قال تعالى:{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ} [التوبة: 83] الآية، وهُذَيلٌ تُعدّيه بالألف، قاله الفيّوميّ
(1)
.
(فَتُصْبحُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإصباح، وقوله:(طَالِعَةً) منصوب على أنه خبر "تُصبح"؛ لأنها من أخوات كان، ترفع الاسم، وتنصب الخبر، واسمها ضمير الشمس، وقد ذكرها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
تَرْفَعُ "كَانَ" المُبْتَدَا اسْمًا وَالخَبَرْ
…
تَنْصِبُهُ كـ"كَانَ سَيّدًا عُمَرْ"
كـ"كَانَ""ظَلَّ""بَاتَ""أَضْحَى""أَصْبَحَا"
…
"أَمْسَى" وَ"صَارَ""لَيْسَ""زَالَ""بَرِحَا"
"فَتِئَ" وَ"انْفَكَّ" وَهَذِي الأَرْبَعَهْ
…
لِشِبْهِ نَفْيٍ أَوْ لِنَفْيٍ مُتْبَعَهْ
وَمِثْلُ "كَانَ""دَامَ" مَسْبُوقًا بِـ"مَا"
…
كـ" أَعْطِ مَا دُمْتَ مُصِيبًا دِرْهَمَا"
(مِنْ مَطْلِعِهَا) بكسر اللام، وفتحها، اسم مكان الطلوع، من طَلَعَ يطلُعُ، من باب قعد، أي: محلّ طلوعها، وهو المشرق (ثُمَّ تَجْرِي) أي: تذهب سريعةً (حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ الْعَرْش، فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، وَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ، حَتَّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت، فَتَرْجِعُ، فَتُصْبحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا، ثُمَّ تَجْرِي، لَا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا) أي: لا يجهلون من حال الشمس شيئًا، يقال: نَكِرَ فلانٌ الأمرَ، كفَرِحَ نَكَرًا، محرَّكةً، ونُكْرًا، ونُكُورًا بضمّهما، ونكيرًا، وأنكره، واستنكره، وتناكره: إذا جهله، قاله المجد
(2)
.
(حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَاكَ تَحْتَ الْعَرْش، فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي) وفي نسخة: "ارجعي"(أَصبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ) بفتح أوّله، وكسر ثالثه: أي: محلّ غروبك (فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا"، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُونَ) بهمزة الاستفهام، وفي نسخة:"تدرون" بحذفها، أي: تعلمون؟ (مَتَى ذَاكُمْ؟) أيْ: في أيّ وقت يقع هذا الأمر (ذَاكَ حِينَ: {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] ") قد تقدّم شرح هذه الآية مستوفًى في
(1)
"المصباح المنير" 1/ 220.
(2)
"القاموس المحيط" ص 439.
حديث أبي هرير رضي الله عنه الماضي أول الباب، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"(78/ 406 و 407 و 408 و 409)(159)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4802 و 4803)، و"التوحيد"(7433)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 158)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(320 و 321 و 322 و 323)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(397 و 398 و 399 و 400)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6152 و 6153)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4293)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 393)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(281)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(14204 و 14205 و 14221)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الوقت الذي لا يُقبل فيه الإيمان، وهذا هو وجه المطابقة في إيراده في أبواب الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أطلعه الله سبحانه وتعالى على بعض المغيّبات، فحدّث به أمته حتى تؤمن به، وتستضيء بمعرفته؛ لأن بقدر سعة العرفان يتقوّى إيقان الإنسان.
3 -
(ومنها): بيان بديع صنع الله تعالى، وعظيم حكمته، حيث سخّر الشمس لإضاءة العالم كلّه على الدوام، حيث يستمرّ سيرها ودورها فيه.
4 -
(ومنها): إثبات العرش، وأنه فوق العالم كلّه؛ إذ هو سقفه.
5 -
(ومنها): إثبات سجود الشمس لله تعالى؛ كسائر المخلوقات، كما قال الله عز وجل:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)} [الرعد: 15]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ
عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)} [الحج: 18]، وقال:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)} [النحل: 49].
6 -
(ومنها): شدة حرص النبيّ صلى الله عليه وسلم على تعليم أمته ما ينفعهم، وإن لم يوجّهوا السؤال إليه، حيث قال لهم: "أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟
…
".
7 -
(ومنها): بيان تغيّر الأحوال في آخر الزمان، حيث ينعكس الأمر، فتطلع الشمس من مغربها؛ إيذانًا بزوال هذه الدنيا.
8 -
(ومنها): بيان أن الإيمان والأعمال الصالحة لها وقت محدّد تنفع فيه، فإذا انقضى ذلك الوقت لا تنفع، وهو طلوع الشمس من مغربها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[407]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ اللهِ - عَنْ يُونُسَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمًا: "أتدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذه الشَّمْسُ؟
…
"، بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ)
(1)
.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ) هو: عبد الحميد بن بيان بن زكريّا بن خالد بن أسلم، وقيل: بيان بن أبان، أبو الحسن بن أبي عيسى العطار
(2)
الواسطيّ السُّكَّريّ، صدوقٌ [10].
رَوَى عن أبيه، وهُشيم، وخالد الطحان الواسطيّ، وإسحاق الأزرق، ويزيد بن هارون، ومحمد بن يزيد، وغيرهم.
(1)
وفي نسخة: "بمثل حديث
…
" إلخ.
(2)
هكذا قال الحافظ المزّي، وقال الحافظ: قلت: قال أسلم في "تاريخ واسط": إنه عُطارديّ؛ فيُحرَّر قول المزيّ فيه: العطّار. انتهى. "تهذيب التهذيب" 2/ 473.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأسلم بن سهل، والحسن بن علي العمريّ، وأبو زرعة، وعلي بن عبد الله بن بِشْر، والحسن بن سفيان، ومحمد بن جرير، ومحمد بن محمد بن سليمان الباغَنْديّ، وغيرهم.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلمة: ثنا عنه ابنُ مُبَشَر، وهو ثقةٌ، وقال بَحْشَل: تُوُفّي سنة أربع وأربعين ومائتين.
تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب سبعة أحاديث فقط، هذا (159)، وحديث (389): "إذا أذّن المؤذّن أدبر الشيطان
…
"، و (597): "من سبّح الله في دبر كلّ صلاة
…
"، و (1915): "ما تعُدّون الشهيد فيكم؟
…
"، و (2475): "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت
…
"، و) 2476): "هل أنت مريحي من ذي الخلصة؟
…
"، و (2713): "اللهم رب السموات، وربّ الأرض
…
".
2 -
(خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عبد الرحمن بن يزيد الطّحّان أبو الهَيْثَم، ويقال: أبو محمد المُزَنيّ مولاهم الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8].
رَوَى عن إسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وحميد الطويل، وسليمان التيميّ، وأبي طُوَالة، وابن عون، وخالد الحذّاء، وعمرو بن يحيى بن عُمَارة، ومُطَرِّف بن طَرِيف، وسهيل بن أبي صالح، وداود بن أبي هند، وأبي إسحاق الشيبانيّ، وأبي حيان التيميّ، ويونس بن عبيد، وجماعة.
ورَوَى عنه زيد بن الحُبَاب، وعبد الرحمن بن مهديّ، ووكيع، ويحيى القطان، وعَفّان، وعمرو بن عون، ومُسَدَّد، وسعيد بن منصور، وابنه محمد بن خالد، ومحمد الدُّولابيّ، وإسحاق بن شاهين الواسطيّ، وقتيبة، وآخرون.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان خالد الطحان ثقةً صالحًا في دينه، وهو أحب إلينا من هُشيم، وقال ابن سعد، وأبو زرعة، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: ثقةٌ، صحيح الحديث، وقال الترمذيّ: ثقةٌ حافظ، وقال أبو داود: قال إسحاق الأزرق: ما رأيت أفضل من خالد الطحان، قيل: قد رأيتَ سفيان؟ قال: كان سفيان رجلَ نفسِه، وكان خالد رجلَ عامة، وسئل محمد بن عَمّار عن جرير وخالد: أيهما أثبت؟ فقال: خالد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو زرعة: لم يَسْمَع من الأعمش، حكاه ابن أبي حاتم عنه في "المراسيل".
قال عبد الحميد بن بيان، ويعقوب بن سفيان، وعلي بن عبد الله بن مُبَشِّر: مات سنة (179)، زاد عليّ: وُلِد سنة (110)، وقال خليفة، ومحمد بن سعد: مات سنة (182).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (42) حديثًا.
[تنبيه]: وقع في "التمهيد" لابن عبد البر في ترجمة يحيى بن سعيد في الكلام على حديث البياضيّ في النهي عن الجهر بالقرآن بالليل: رواه خالد الطحّان عن مُطَرِّف، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن عليّ نحوه، وقال: تفرد به خالد، وهو ضعيف، وإسناده كله ليس مما يُحْتَجّ به. انتهى.
وتعقّبه الحافظ رحمه الله، حيث قال بعد ذكر كلامه المذكور: قلت: وهي مجازفة ضعيفة، فإن الكل ثقاث، إلا الحارث، فليس فيهم ممن لا يحتج به غيره. انتهى، وهو تعقّب حسن، والله تعالى أعلم.
والباقون تقدّموا في الحديث الماضي، و"يونس"، هو ابن عُبيد، وقد سبق الكلام فيه.
وقوله: (بمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ) وفي نسخة: "بمثل حديث ابن عليّة"، يعني: أَن رواية خالد الطحّان عن يونس بمعنى حديث إسماعيل ابن عليّة، عنه، لا بلفظه، كما يتبيّن في التنبيه التالي.
[تنبيه]: رواية خالد الطحّان التي أحالها المصنّف هنا على رواية ابن عليّة، قد أخرجها الحافظ أبو عوانة في "مسنده"، حيث قال (1/ 107):
حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا خالد، عن يونس، عن إبراهيم التيميّ، عن أبيه، عن أبي ذرّ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"إنها تَجْرِي لمستقر لها تحت العرش، فتخر ساجدةً، فلا تزال كذلك، حتى يقال لها: ارتفعي، فارجعي من حيث جئت، فتصبح طالعةً في مطلعها، فتجري لا يُنْكِر الناس منها شيئًا، فيقال لها: اطلُعي من مغربك - قال: - فتصبح طالعةً من مغربها"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتدرون أيُّ يوم ذلك؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"ذاك يوم {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} الآية [الأنعام: 158] "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[408]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَأَبِي كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسن، فَلَمَّا غَابَتِ الشَمْسُ، قَالَ:"يَا أَبَا ذَرٍّ، هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ "
(1)
، قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"فَإنَّهَا تَذْهَبُ، فتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُود، فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْت، فتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا"، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ: "وَذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِمُ في حديث غيره، من كبار [9]، (ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(الْأَعْمَشُ) هو: سليمان بن مِهْران الأسديّ، أبو محمد الكوفيّ الحافظ الحجة الثبت [5](ت 147)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أي: النبويّ، فـ "أل" للعهد الذهنيّ.
وقوله: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ) جملة في محلّ نصب على الحال، والرابط الواو، أو الضمير الذي في مُتَعَلَّقِ "جالس"؛ إذ تقديره:"جالسٌ فيه"، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَجُمْلَةُ الحَالِ سِوَى مَا قُدِّمَا
…
بِوَاوٍ أَوْ بِمُضْمَرٍ أَوْ بِهِمَا
وقوله: (أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ ") وفي نسخة: "هذه الشمس؟ ".
قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "فَإِنَّهَا تَذْهَبُ، فَتَسْتَأَذِنُ فِي السُّجُود، فَيُوذَنُ لَهَا، وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا
…
" إلخ؛ "كأنّ" هنا للتحقيق كما هو مذهب الكوفيين والزجاج، كما في قول الشاعر [من الوافر]:
(1)
وفي نسخة: "أين تذهب هذه الشمس
…
" إلخ.
فَأَصبَحَ بَطْنُ مَكَّةَ مُقْشَعِرَّا
…
كَأَنَّ الأَرْضَ لَيْسَ بِهَا هِشَامُ
أي: لأن الأرض؛ إذ لا يكون تشبيهًا؛ لأنه ليس في الأرض حقيقة، قاله ابن هشام رحمه الله في "مغنيه"
(1)
.
وقوله: (قَالَ: ثمَّ قَرَأَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية بما كان يقرأ عبد الله بن مسعود صلى الله عليه وسلم بعده صلى الله عليه وسلم، وقد تقدّم مباحث الحديث مستوفى قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[409]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْأَشَجُّ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]، قَالَ: "مُسْتَقَرَّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ) هو: عبد الله بن سعيد بن حُصين الكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 117، وهو ممن اتّفق الأئمة الستة، أصحاب الأصول بالرواية عنهم بلا واسطة، وقد سبق ذكرهم غير مرّة.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"إسحاق" هو: ابن راهويه، و"وكيع" هو: ابن الجرّاح.
وقوله: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى
…
إلخ) قال في "الفتح" كذا رواه وكيع عن الأعمش مُخْتَصَرًا، وهو بالمعنى، فإن في الرواية الأولى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي استفهمه:"أتدري أين تغرب الشمس؟ "، فقال: الله ورسوله أعلم
…
إلخ انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "مغني اللبيب" 1/ 192 تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
(2)
"الفتح" 8/ 403 "كتاب التفسير" رقم (4802 - 4803).
وقوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]) قال أبو سليمان الخطّابيّ رحمه الله: إن أهل التفسير، وأصحاب المعاني قالوا فيه قولين، قال بعضهم: معناه أي لأجلٍ قُدّر لها؛ يعني: انقطاع مدّة بقاء العالم، وقال بعضهم: مُستقرّها غاية ما تنتهي إليه في صعودها وارتفاعها لأطول يوم في الصيف، ثم تأخذ حتى تنتهي إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " مستقرّها تحت العرش" فلا ننكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا نُدركه، ولا نشاهده، وإنما أخبر عن غيب، فلا نكذّب به، ولا نكيّفه؛ لأن علمنا لا يُحيط به، ويحتمل أن يكون المعنى: أن علمَ ما سألت عنه من مستقرّها تحت العرش في كتاب كُتب فيه مبادئ أمور العالم، ونهاياتها، والوقت الذي تنتهي به مدّتها، فينقطع دوران الشمس، وتستقرّ عند ذلك، فيبطل فعلها، وهو اللوح المحفوظ.
قال الجامع عفا الله عنه: بُعد هذا الاحتمال عن سياق الحديث مما لا يخفى على الفطن؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال الخطابيّ أيضًا: وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش، فلا يُنكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها، وليس في سجودها تحت العرش ما يَعُوقها عن الدأب في سيرها، والتصرّف لما سُخّرت له.
وأما قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} الآية [الكهف: 86]، فهو نهاية مُدرَك البصر إياها حالة الغروب، ومصيرها تحت العرش للسجود إنما هو بعد الغروب، وليس معنى قوله:{تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف: 86] أنها تسقط في تلك العين فتغمُرها، وإنما هو خبر عن الغاية التي بلغها ذو القرنين في مسيره حتى لم يجد وراءها مسلكًا، فوجد الشمس تتدلّى عند غروبها فوق هذه العين، وكذلك يتراءى غروب الشمس لمن كان في البحر، وهو لا يرى الساحل، كأنها تغيب في البحر، والله أعلم.
وقوله سبحانه وتعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} [الرحمن: 5]، وقوله تعالى:{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 96]؛ أي: يجريان بحساب معلوم، وعلى منازل ومقادير لا يُجاوزانها، قال الله سبحانه وتعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)} [يس: 39]، وقيل: حسبان جمع حساب، وقوله سبحانه وتعالى:
{وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [الكهف ت 86]؛ أي: في رأي العين، فمن قرأها {حَامِيَةً} [الغاشية: 4] بلا همز أراد الحارّة، ومن قرأ:{حَمِئَةٍ} بلا ألف مهموزًا أراد عينًا ذات حمأة، يقال: حَمَأْتُ البئرَ: إذا نَزَعْتَ منها الحمأةَ، وأحمأتها: إذا ألقيتَ فيها الحمأة. انتهى، ذكره البغويّ في "شرح السنّة"
(1)
.
وأغرب الألوسيّ في "تفسيره"(23/ 14) حيث قال: إن للشمس نفسًا، كما قيل في الأفلاك، فتنسلخ منها، وتسجد تحت العرش. وهذا منه خوضٌ فيما لا عِلْمَ له به، والواجب أن نُصدّق أنها تسجد تحت العرش، كما ورد في النصّ، ولا يجب علينا معرفة كيفيّة سجودها، ولا يجوز لأحد أن يخوض فيما لا يعلمه، فقد نهى الله تعالى عن ذلك، حيث قال:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء: 36]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(79) - (بَابُ بَدْءِ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم
-)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[410]
(160) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
(2)
يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أنَّهَا قَالَتْ: كانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْم، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا، إِلا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْح، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، يَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ أُوْلَاتِ الْعَدَد، قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِه، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ
(1)
راجع: "شرح السنّة" 15/ 95 - 96.
(2)
وفي نسخة "أخبرنا".
حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ:"مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ
(1)
: "فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ"، قَالَ:"قُلْتُ: مَا أنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ:"فَأَخَذَنِي، فَغَطَّني الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِني الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَني، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَني، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5]؛ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُوني"، فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْع، ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: "أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لا، وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ، قَالَ:"لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"، قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبدًا، وَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَق. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ، حَتَّى أتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ، أَخِي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَآهُ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أنْزِلَ عَلَى مُوسَى عليه السلام، يَا لَيْتَيي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَني أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ "، قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأَتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ
(2)
إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْني يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِر، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م دس ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
(1)
وفي نسخة: "فقال".
(2)
وفي نسخة: "بمثل ما جئت به".
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: أبو بكر، محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زُهْرَة الفقيه، نُسِب إلى جدّ جدّه؛ لشهرته، الزهريّ، نُسِب إلى جدّه الأعلى زُهْرَة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبيّ صلى الله عليه وسلم، اتفقوا على إتقانه وإمامته، من رؤوس [4](ت 125)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 348.
5 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام بن خُوَيلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 94) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
6 -
(عائشة) بنت أبي بكر الصديق، أم المؤمنين رضي الله عنهما (ت 57)(ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، ونصفه الثاني مسلسلٌ بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
5 -
(ومنها): أن فيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وقد تقدّم ذكرهم غير مرة.
6 -
(ومنها): أن عائشة رضي الله عنهما من المكثرين السبعة، كما سبق بيانه في ترجمتها آنفًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ أنه (قَالَ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْر، أَنَّ عَائِشَةَ) رضي الله عنهما (زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالنصب على البدليّة، ويجوز قطعه على تقدير "هي"، ونصبه بتقدير "أعني" (أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) برفع "أولُ" على أنه مبتدأ خبره "الرؤيا
…
إلخ".
[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، فإن عائشة رضي الله عنهما لم تُدرك هذه القضيّة، والقاعدة أن من حكى قصّة لم يدركها يكون منقطعًا، كما قال السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث":
وَكُلُّ مَنْ أَدْرَكَ قِصَّةً رَوَى
…
مُتَّصلٌ وَعيْرُهُ قَطْعًا حَوَى
فيحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنهما سمعتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من بعض الصحابة، وقد سبق في "شرح المقدّمة" أن مرسل الصحابيّ حجة عند جمهور العلماء، إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايينيّ، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحْ
…
كَسَامِعٍ فِي كُفْرِهِ ثُمَّ اتَّضَحْ
إِسْلَامُهُ بَعْدَ وَفَاةٍ وَالَّذِي
…
رَآهُ لَا مُمَيِّزًا لَا تَحْتَ ذِي
وقال الطيبيّ رحمه الله بعد ذكره كلام النوويّ المذكور ما نصّه: أقول: والظاهر أنها سمعت من النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لقولها: قال: "فأخذني، فغطّني"، فيكون قولها:"أولُ ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" حكاية ما تلفّظ به صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} الآية [آل عمران: 12] بالتاء والياء على تأويل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤدّي لفظ ما أوحي إليه، أو معناه، فلا يكون الحديث حينئذ من المراسيل. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" بعد نقل كلام النوويّ من أن هذا من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة لم تدرك هذه القصة
…
إلخ، ما نصّه: وتعقّبه مَن لم يَفْهَم مراده، فقال: إذا كان يجوز أنها سمعتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكيف يَجزِم بأنها من المراسيل؟.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3714.
[والجواب]: أن مرسل الصحابي ما يَرويه من الأمور التي لم يُدرك زمانها، بخلاف الأمور التي يدرك زمانها، فإنها لا يقال: إنها مرسلة، بل يُحْمَل على أنه سمعها، أو حضرها، ولو لم يُصَرِّح بذلك، ولا يختص هذا بمرسل الصحابيّ، بل مرسل التابعي إذا ذَكَر قصة لم يحضرها سُمّيت مرسلةً، ولو جاز في نفس الأمر أن يكون سَمِعها من الصحابي الذي وقعت له تلك القصة، وأما الأمور التي يُدركها فيُحْمَل على أنه سمعها أو حضرها، لكن بشرط أن يكون سالِمًا من التدليس.
قال: ويؤيد أنها سمعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم قولها في أثناء هذا الحديث: "فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئٍ، قال: فأخذني
…
" إلى آخره، فقوله: "قال: فأخذني، فَغَطّني" ظاهر في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرها بذلك، فتُحمَل بقية الحديث عليه. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنَ الْوَحْي) يحتمل أن تكون "من" فيه تبعيضية؛ أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكوَن بيانيةً، ورجحه القَزّاز
(2)
، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال القاضي عياض: وقال أبو عبد الله القزّاز: قوله: "من الوحي"، "من" هنا لإبانة الجنس، كأنه قال: من جنس الوحي، وليست من الوحي، فتكون "من" للتبعيض، ولذلك قال:"في النوم"، ورؤيا الأنبياء في الصحّة كالوحي انتهى.
قال القاضي: قد جاء في الحديث الآخر أنها جزء من أجزاء النبوّة، وقدّمنا أنها من جملة خصالها، والوحي أنواع وضُرُوب، وينطلق على معانٍ، فلا يبعد أن تكون "من" للتبعيض على هذا، وأصله الإعلام، ورؤيا المنام إعلام، وإنذار، وبِشارة انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، وليس مثله، وقد
(1)
"الفتح" 8/ 587 "كتاب التفسير" رقم (4954).
(2)
هو محمد بن جعفر أبو عبد الله التميميّ القيروانيّ، أحد كبار اللغويين، صاحب "الجامع" في اللغة، توفّي سنة (412 هـ). "بغية الوعاة".
(3)
"الفتح" 1/ 31.
(4)
"إكمال المعلم" 1/ 620 - 621.
ثبتٌ في "الصحيحين" قوله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة"، هذا في مطلق الرؤيا، فما بالك في رؤيا الأنبياء؛ وقد صحّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال: رؤيا الأنبياء وحيٌ
(1)
.
والحاصل أن كون "من " للتبعيض هو الحقّ، على أن كونها للجنس أيضًا لا ينافي معنى البعضيّة، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
والمقصود أن أول ما بدئ به صلى الله عليه وسلم في أول المبتدءات من إيجاد الوحي الرؤيا، وأما مطلق ما يَدُلّ على نبوته، فتقدمت له أشياء، مثل تسليم الحجر، كما ثبتٌ في "صحيح مسلم" من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه، وما سمعه من بَحِيرا الراهب، وهو عند الترمذي بإسناد قويّ، عن أبي موسى، ثم ما سمعه عند بناء الكعبة، حيث قيل له:"اشدُد عليك إزارك"، وهو في "صحيح البخاريّ" من حديث جابر رضي الله عنه.
(الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) أي: التي ليس فيها ضِغْثٌ، ولا تلبيس شيطان، ووقع عند البخاريّ من طريق عُقيل عن ابن شهاب بلفظ:"الرؤيا الصالحة"، وكلاهما بمعنًى واحد بالنسبة إلى أمور الآخرة في حقّ الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخصّ، فرؤيا النبيّ كلها صادقة، وقد تكون صالحةً، وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، وأما رؤيا غير الأنبياء فبينهما عموم وخصوص، إن فَسَّرنا الصادقة بأنها التي لا تَحتاج إلى تعبير وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث، فالصالحة أخَصُّ مطلقًا، وقال الإمام نصر بن يعقوب الدِّينَوريّ في "التعبير القادري": الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه، أو ما يُعَبَّر في المنام، أو يُخبِر به ما لا يكذب، والصالحة ما يَسُرّ. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياضٌ رحمه الله: في هذا حكمة من الله تعالى، وتدريج لنبيّه صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد الله به جلّ اسمه؛ لئلا يَفْجَأه الملك، ويأتيه صريح النبوّة بغتةً، فلا يتحمّلها قُوَى البشريّة، فبُدئ بأوائل خصال النبوّة، وتباشير الكرامة،
(1)
انظر: "صحيح الترمذيّ" للشيخ الألبانيّ رحمه الله تعالى رقم (620).
(2)
"الفتح" 12/ 371 "كتاب التعبير" رقم (6982).
من صدق الرؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوء، وسماعِ الصوت، وسلامِ الحجر والشجر عليه بالنبوّة حتى استشعر عظيم ما يُراد به، واستعدَّ لما ينتظره، فلم يأتِه الملك إلا بأمر عنده مقدَّماته، وبِشاراته. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أراد بقوله: ما جاء في الحديث الآخر
…
إلخ ما أخرجه المصنّف رحمه الله في "كتاب الفضائل"(2353) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة يَسمَع الصوت، ويَرَى الضوءَ سبع سنين، ولا يَرَى شيئًا، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا".
وما أخرجه أيضًا فيه (2277) عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة، كان يُسَلِّم عليّ قبل أن أُبْعَثَ، إني لأعرفه الآن".
وما أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 620) عن عليّ رضي الله عنه: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله"، قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يُخرجاه، ووافقه الذهبيّ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فِي النَّوْمِ) لزيادة الإيضاح، أو ليُخْرِج رؤيا العين في اليقظة؛ لجواز إطلاقها مجازًا (فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَرَى رُؤْيَا) بوزن فُعْلى بضمّ، فسكون مقصورًا ممنوعٌ من الصرف؛ لألف التأنيث، قال المجد رحمه الله:"الرؤيا": ما رأيته في منامك، جمعه رُؤًى، كَهُدًى. انتهى
(2)
. وقال العينيّ رحمه الله: "الرؤيا" على وزن فُعْلى، كحُبْلَى، يقال: رأى رؤيا بلا تنوين، وجمعها رُؤًى بالتنوين على وزن دُعًى. انتهى
(3)
. (إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) بنصب "مِثْلَ" على الحال؛ أي: مُشْبِهَةً ضِيَاءَ الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف؛ أي: جاءت مجيئًا مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح ضياؤه، وخُصَّ بالتشبيه؛ لظهوره الواضح الذي لا شك فيه.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: فَلَقُ الصبح، وفَرَقُ الصبح - بفتح
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 619 - 620.
(2)
"القاموس المحيط " ص 1157.
(3)
"عمدة القاري" 1/ 91.
الفاء واللام والراء -: هو ضياؤه، وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البَيِّن. انتهى
(1)
.
وقال القاضي البيضاويّ رحمه الله: شُبّه ما جاءه في اليقظة، ووَجَده في الخارج طِبْقًا لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه، والفَلَق: الصبح، لكنه لَمّا كان مستعمَلًا في هذا المعنى، وفي غيره أُضيف إليه للتخصيص والبيان إضافةَ العامّ إلى الخاصّ، كقولهم: عين الشيء، ونفسه.
قال الطيبيّ رحمه الله: للفلق شأن عظيمٌ، ولذلك جاء وصفًا لله تعالى في قوله سبحانه وتعالى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} [الأنعام: 96]، وأَمَرَ بالاستعاذة بربّ الفلق؛ لأنه يُنبئ عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة، وطلوع تباشير الصبح بظهور سلطان الشمس، وإشراقها الآفاقَ، كما أن الرؤيا الصالحة مبشّرات تنبئ عن وفود أنوار عالم الغيب، وآثار مطالع الهدايات، شُبّه به الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء النبوّة، وتنبيهٌ من تنبيهاتها لمشتركي العقول على ثبوت النبؤة؛ لأن النبيّ إنما سُمّي نبيًّا لأنه يُنبئ عن عالم الغيب الذي لا تستقلّ العقول بإدراكه. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: إنما شَبّهها بفَلَق الصبح دون غيره؛ لأن شمس النبوة كانت الرؤيا مبادي أنوارها، فما زال ذلك النور يَتَّسِع حتى أشرقت الشمس، فَمَن كان باطنه نوريًّا كان في التصديق بَكْريًّا؛ كأبي بكر، ومن كان باطنه مظلمًا، كان في التكذيب خُفّاشًا؛ كأبي جهل، وبقية الناس بين هاتين المنزلتين، كل منهم بقدر ما أُعطي من النور. انتهى
(3)
.
(ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ) ببناء الفعل للمجهول؛ لعدم تَحَقُّق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو للتنبيه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 197.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3714 - 3715.
(3)
راجع: "الفتح" 12/ 371 "كتاب التعبير".
و"الخلاء" بالمدِّ: الخلوة، والسرُّ فيه أن الخلوة فيها فراغ القلب لما يتوجه له، وهي شأن الصالحين، وعباد الله العارفين.
ثم إن التعبير بـ "ثُمَّ" ظاهرٌ في أن الرؤيا الصادقة كانت قبل أن يُحَبَّب إليه الخلاء، ويحتمل أن تكون لترتيب الإخبار، فيكون تحبيب الخلوة سابقًا على الرؤيا الصادقة، والأول أظهر
(1)
.
قال الخطابيّ رحمه الله: إنما حُبّب إليه الخلوة؛ لأن معها فراغَ القلب، وهي معينة على التفكّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويخشع قلبه، ويُجمع همّه، فالمخلص في الخلوة يفتح الله عليه ما يؤنسه في خلوته تعويضًا من الله تعالى إياه عما تركه لأجله، واستنار قلبه بنور الغيب حتى تذهب ظلمة النفس، واختيار الخلوة لسلامة الدين، وتفقّد أحوال النفس، وإخلاص العمل لله تعالى. انتهى
(2)
.
(فَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) الغار: الكهف، والنَقْبُ في الجبل، وجمعه غِيران، والمغار والمغارة بمعنى الغار، وتصغير الغار غُوير
(3)
.
و"حراء": بالمدّ، وكسر أوله، قال في "الفتح": كذا في الرواية، وهو صحيح، وفي رواية الأصيليّ بالفتح والقصر، وقد حُكِي أيضًا، وحُكيَ فيه غير ذلك جوازًا، لا روايةً، وهو جبل معروف بمكة
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما "حِرَاء" فبكسر الحاء المهملة، وتخفيف الراء وبالمد، وهو مصروف، ومذكّر، هذا هو الصحيح، وقال القاضي فيه لغتان: التذكير والتأنيث، والتذكير أكثر، فمن ذَكَّره صَرَفه، ومن أَنَّثه لم يَصرِفه، وأراد البقعة، أو الجهة التي فيها الجبل، قال القاضي: وقال بعضهم فيه: حَرَى بفتح الحاء والقصر، وهذا ليس بشيء، قال أبو عمر الزاهد، صاحب ثعلب، وأبو سليمان الخطابيّ، وغيرهما: أصحابُ الحديث، والعوامُّ يُخطِؤون في حِرَاء في
(1)
"الفتح" 8/ 587 "كتاب التفسير"(4954).
(2)
راجع: "الكاشف" 12/ 3716.
(3)
"شرح النووي" 2/ 198.
(4)
"الفتح" 1/ 31.
ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء، وهي مكسورة، ويكسرون الراء، وهي مفتوحة، ويقصرون الألف، وهي ممدودة.
وحِراءٌ: جبلٌ بينه وبين مكة نحوُ ثلاثة أميال، عن يسار الذاهب من مكة إلى منى. انتهى
(1)
.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: الحكمة في تخصيصه حراء بالتخلي فيه أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة، فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاثة عبادات: الخلوة، والتعبد، والنظر إلى البيت.
وقال الحافظ: وكأنه مما بقي عندهم من أمور الشرع على سنن الاعتكاف، وكانت قريش تفعله كما كانت تصوم عاشوراء، قال: وإنما لم ينازعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره؛ لأن جدّه عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته، وكِبَرِ سِنِّه، فتبعه على ذلك مَن كان يَتَأَلَّه، فكان صلى الله عليه وسلم يخلو بمكان جدّه، وسَلّم له ذلك أعمامه؛ لكرامته عليهم. انتهى
(2)
.
(يَتَحَنَّثُ فِيهِ) هي بمعنى يَتَحَنَّف؛ أي: يتبع الحَنِيفية، وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم، وقد وقع في رواية ابن هشام في "السيرة""يَتَحَنَّفُ" بالفاء، أو التحنث: إلقاء الحِنْث، وهو الإثم، كما قيل: يَتَأَثَّم، وَيتَحَرَّج، ونحوهما، قاله في "الفتح"
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما التَّحَنُّث بالحاء المهملة والنون والثاء المثلّثة، فقد فَسَّره بالتعبد، وهو تفسير صحيح، وأصل الحِنْث الإثم، فمعنى يتحَنَّث: يتجنَّب الحنثَ، فكأنه بعبادته يَمنَع نفسه من الحنث، ومثل يتحنث يتحرَّج، ويتأثَّم؛ أي: يتجنب الحرج والإثم. انتهى
(4)
.
وقوله: (وَهُوَ التَّعَبُّدُ) مُدْرَج في الخبر، وهو من تفسير الزهريّ رحمه الله، كما
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 621 - 622، و"شرح النوويّ" 2/ 198.
(2)
"الفتح" 12/ 371 - 372.
(3)
"الفتح" 1/ 31.
(4)
"شرح النوويّ" 2/ 198.
جزم به الطيبيّ، قال الحافظ رحمه الله: ولم يَذْكُر دليله، نعم في رواية البخاريّ من طريق يونس عنه في "التفسير" ما يدلّ على الإدراج. انتهى.
ولفظه في "التفسير": "قال: والتحنث: التعبد"، قال في "الفتح": هذا ظاهر في الإدراج؛ إذ لو كان من بقية كلام عائشة لجاء فيه: قالت؛ وهو يحتمل أن يكون من كلام عروة، أو من دونه. انتهى
(1)
.
وقوله: (اللَّيَالِيَ) ظرف متعلق بـ "يتحنث"، لا بـ "التعبد"، ومعناه: يتحنث اللياليَ، ولو جُعِل متعلقًا بـ"التعبد" لفَسَدَ المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي، بل يُطْلَق على القليل والكثير، وهذا التفسير اعتراض بين كلام عائشة رضي الله عنها؛ إذ كلامها:"فيتحنّث فيه الليالي أولات العدد"، قاله النوويّ.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أطلق الليالي، وأراد بها الليالي مع أيامهنّ على سبيل التغليب؛ لأنها أنسب للخلوة، ووصف الليالي بقوله:(أوْلَاتِ الْعَدَدِ) لإرادة التقليل، كما قوله تعالى:{دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20]
(2)
.
وقال الكرمانيّ: يحتمل الكثرة؛ إذ الكثير يحتاج إلى العدد، وهو المناسب للمقام.
وتعقّبه الحافظ، فقال: أما كونه المناسبَ فمسلَّم، وأما الأول فلا؛ لأن عادتهم جرت في الكثير أن يُوزَن، وفي القليل أن يُعَدّ، وقد جزم الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة بأن المراد به الكثرة؛ لأن العدد على قسمين، فإذا أطلق أريد به مجموع القلة والكثرة، فكأنها قالت: ليالي كثيرة؛ أي: مجموع قسمي العدد انتهى
(3)
.
وللبخاريّ: "ذوات العدد"، وهو بمعناه، وإنما أبهم العدد لاختلافه، كذا قيل، وهو بالنسبة إلى المُدَد التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عُرِفت مُدَّتها، وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق، قاله في "الفتح"
(4)
.
(1)
"الفتح" 8/ 588.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3716.
(3)
"الفتح" 12/ 372 "كتاب التعبير".
(4)
"الفتح" 1/ 32.
وانتصاب "الليالي" على الظرفية، و"أولات" اسم جمع لا مفرد له من لفظه، بل من معناه، وهو "ذات"، وهو منصوب، وعلامة نصبه كسر التاء؛ لأنه ملحقٌ بجمع المؤنّث السالم، كما قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَا وَأَلِفٍ قَدْ جُمِعَا
…
يُكْسَرُ فِي النَّصْبِ وَفِي الجَرِّ مَعَا
كَذَا "أُوَلَاتُ" وَالَّذِي اسْمًا قَدْ جُعِلْ
…
كـ"أَذْرِعَاتٍ" فِيهِ ذَا أَيْضًا قُبِلْ
(قَبْلَ أَنْ يَرْجعَ) وفي رواية للبخاريّ: "قبل أن يَنْزع"، وهو بوزن "يرجِعَ"، ومعناه (إِلَى أَهْلِهِ) المراد به خديجة وأولاده منها رضي الله عنهن، ويحتمل أن يريد أقاربه، أو أعمّ، وقوله:(وَيَتَزَوَّدُ) عطفٌ على "يتحنّث"؛ أي: يستصحب الزاد معه، والزاد: هو الطعام الذي يستصحبه المسافر في سفره، والجمع أزواد
(1)
. (لِذَلِكَ) أي: لأجل التحنّث في الغار المذكور (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ) رضي الله عنها، وخديجة هي: بنت خُويلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قُصَيّ، تَجتَمِع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في قُصَيّ، وهي من أقرب نسائه صلى الله عليه وسلم إليه في النسب، ولم يتزوج من ذرية قُصَيّ غيرها، إلا أم حبيبة، وتزوجها سنة خمس وعشرين من مولده في قول الجمهور، زَوَّجه إياها أبوها خُويلد، ذكره البيهقيّ من حديث الزهري بإسناده عن عمار بن ياسر، وقيل: عمُّها عمرو بن أسد، وقيل: أخوها عمرو بن خُويلد، ذكره ابن إسحاق، وكانت قبله عند أبي هالة بن النَّبّاش بن زُرَارة التميميّ، حَلِيف بني عبد الدار، واختُلِف في اسم أبي هالة، فقيل: مالك، قاله الزبير، وقيل: زُرَارة، حكاه ابن منده، وقيل: هند، جَزَم به العسكريّ، وقيل: اسمه النّبّاش، جَزَم به أبو عبيد، وابنُهُ هند، رَوَى عنه الحسن بن علي، فقال: حدثني خالي؛ لأنه أخو فاطمة لأمها، ولهند هذا وَلَدٌ اسمه هند، ذكره الدُّولابيّ وغيره، فعلى قول العسكريّ، فهو ممن اشتَرَك مع أبيه وجده في الاسم، ومات أبو هالة في الجاهلية، وكانت خديجة قبله عند عَتِيق بن عائد المخزوميّ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوج خديجة، قد سافر في مالها مُقارِضًا إلى الشام، فرأى منه مَيْسَرة غلامُها ما رَغَّبها في تزوجه، قال الزبير: وكانت خديجة تُدْعَى في الجاهلية الطاهرةَ، وماتت على الصحيح بعد
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 259 - 260.
المبعث بعشر سنين، في شهر رمضان، وقيل: بثمان، وقيل: بسبع، فأقامت معه صلى الله عليه وسلم خمسًا وعشرين على الصحيح، وقال ابن عبد البر: أربعًا وعشرين سنة وأربعة أشهر.
ورَوَى الفاكهيّ في "كتاب مكة" عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب، فاستأذنه أن يتوجه إلى خديجة، فأَذِنَ له، وبَعَثَ بعده جاريةً له، يقال لها: نبعة، فقال لها: انظري ما تقول له خديجة، قالت نبعة: فرأيت عَجَبًا، ما هو إلا أن سَمِعَت به خديجةُ، فخَرَجت إلى الباب، فأخذت بيده، فضمّتها إلى صدرها ونحرها، ثم قالت: بأبي وأمي، والله ما أفعل هذا لشيء، ولكني أرجو أن تكون أنت النبي الذي ستُبْعَث، فإن تكن هو، فاعرف حقي ومنزلتي، وادع الإله الذي يبعثك لي، قالت: فقال لها: "والله لئن كنت أنا هو قد اصطنعت عندي ما لا أُضِيعه أبدًا، وإن يكن غيري، فإن الإله الذي تصنعين هذا لأجله لا يُضِيعك أبدًا". ذكره في "الفتح"
(1)
.
(فَيَتَزَوَّدُ) وفي رواية للبخاريّ في "التعبير": "فتُزوِّده"، أي: خديجة رضي الله عنها، قال في "الفتح": خَصَّ خديجة بالذكر بعد أن عَبَّر بالأهل، إما تفسيرًا بعد إبهام، وإما إشارةً إلى اختصاص التزود بكونه من عندها دون غيرها. انتهى.
(لِمِثْلِهَا) الضمير للّيالي، أو المرة، أو الفَعْلة، أو الخلوة، أو العبادة.
ثم يحتمل أن يكون المراد أنه يتزَوّد، ويخلو أيامًا، ثم يرجع، ويتزوّد، ويخلو أيامًا، ثم يرجع ويتزود، ويخلو أيامًا إلى أن ينقضي الشهر، ويحتمل أن يكون المراد أن يتزود لمثلها إذا حال الحول، وجاء ذلك الشهر الذي جَرَت عادته أن يخلو فيه، وهذا استظهره الحافظ رحمه الله. ويؤخذ منه إعداد الزاد للمختلي، إذا كان بحيث يتعذر عليه تحصيله؛ لبعد مكان اختلائه من البلد مثلًا، وأنّ ذلك لا يَقْدَح في التوكل، وذلك لوقوعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد حصول النبوة له بالرؤيا الصالحة، وإن كان الوحي في اليقظة قد تراخى عن ذلك، قاله في "الفتح"
(2)
.
(1)
"الفتح" 7/ 167 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3821).
(2)
12/ 372، و 8/ 588.
(حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ)"حتى" هنا على بابها من انتهاء الغاية؛ أي: انتهى توجهه لغار حراء بمجيء الملك، فترك ذلك، وقوله:"فَجِئه" - بفتح الفاء، وكسر الجيم، ثم همزة - ويجوز فتح الجيم أيضًا، يقال: فَجِئه بكسر الجيم، وفَجَأه بفتح الجيم والهمزة لغتان مشهورتان، حكاهما الجوهريّ وغيره؛ أي: جاءه الوحي بغتةً، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعًا للوحي، قاله النوويّ
(1)
.
وتعقّبه البلقينيّ، وقال: في إطلاق هذا النفي نظرٌ، فإن الوحي كان جاءه في النوم مرارًا، وأسند ذلك إلى ما ذكره ابن إسحاق عن عُبيد بن عُمير أنه وقع له في المنام نظير ما وقع له في اليقظة، من الغطّ، والأمر بالقراءة، وغير ذلك. انتهى.
وتعقّب الحافظ، فقال: في كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتى يتوقعه نظرٌ، فالأولى ترك الجزم بأحد الأمرين. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله البلقينيّ واضحٌ إن صحّ ما ذكره ابن إسحاق؛ فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (الْحَقُّ) قال الطيبيّ: أي أمر الحق، وهو الوحي، أو رسول الحقّ، وهو جبريل عليه السلام، وقال البلقينيّ: أي الأمر البَيِّن الظاهر، أو المراد: الملك بالحقّ؛ أي: الأمر الذي بُعِث به. انتهى.
وفي رواية البخاريّ من طريق عُقيل، عن الزهريّ:"حتى جاءه الحقّ"، قال في "الفتح": وإن ثَبَتَ من مرسل عبيد بن عمير أنه أُوحي إليه بذلك في المنام أَوّلًا قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عَقِبَ ما تقدم في المنام، وسُمِّي حقًّا؛ لأنه وحي من الله تعالى.
وقد وقع في رواية أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، قالت: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أوّلَ شأنه يَرَى في المنام، وكان أوّلَ ما رأى جبريلَ بأجياد، صَرَخَ جبريلُ: يا محمدُ، فنظر يمينًا وشمالًا، فلم يَرَ شيئًا، فرَفَع بصره، فإذا هو على أُفُق السماء، فقال: يا محمدُ جبريلُ جبريلُ؛ فَهَرَب، فدخل في الناس، فلم يَرَ شيئًا، ثم خَرَج عنهم، فناداه، فهرب، ثم استَعْلَن له جبريل من
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 199.
(2)
"الفتح" 12/ 372.
قِبَل حراء، فذكر قصة إقرائه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، ورَأَى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت، يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود، وابنُ لهيعة ضعيف.
وقد ثبتٌ في "صحيح مسلم" من وجه آخر عن عائشة، مرفوعًا:"لم أَرَهُ - يعني جبريل - على صورته التي خُلِق عليها إلا مرتين".
وبَيَّن أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يُرِيه صورته التي خُلق عليها، والثانية عند المعراج.
وللترمذي من طريق مسروق، عن عائشة:"لم يَرَ محمدٌ جبريلَ في صورته إلا مرتين: مرّةً عند سدرة المنتهى، ومرةً في أجياد"، وهذا يُقَوِّي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرّة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله.
ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيميّ، فرواها محمد بن عبد الأعلى، عن ولده معتمر بن سليمان، عن أبيه، أن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حراء، وأقرأه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، ثم انصرف، فبَقِيَ متردِّدًا، فأتاه من أمامه في صورته، فرأى أمرًا عظيمًا. انتهي
وقوله: (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ) جملة في محلّ نصب على الحال من المفعول؛ أي: حال كون النبيّ صلى الله عليه وسلم كائنًا في كهف جبل حراء.
(فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) هذه الفاء تُسَمَّى التفسيرية، وليست التعقيبية؛ لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي، حتى تُعَقِّب به، بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسَّر به من جهة الإجمال، وغيرُهُ من جهة التفصيل، قاله في "الفتح" في "كتاب الإيمان".
وقال في "كتاب التعبير" - بعد ذكر هذا -: وقال شيخنا البلقينيّ: يحتمل أن تكون للتعقيب، والمعنى بمجيء الحقّ انكشاف الحال عن أمر وَقَع في القلب، فجاءه لذلك عقبه، قال: ويحتمل أن تكون سببية؛ أي: حتى قَضَى بمجيء الوحي، فبسبب ذلك جاءه الملك. قال الحافظ: وهذا أقرب من الذي قبله.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ في "كتاب التعبير" بلفظ: "فجاءه الملك
فيه"، فزاد لفظة "فيه"، قال في "الفتح": يؤخذ منه رفع توهم مَن يظن أن الملك لم يدخل إليه الغارَ، بل كلَّمه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم داخل الغار، والملك على الباب.
قال شيخنا البلقينيّ رحمه الله: الملك المذكور هو جبريل عليه السلام، كما وقع شاهده في كلام ورقة، وكما يجيء في حديث جابر رضي الله عنه أنه الذي جاءه بحراء، قال: واللام في "الملك" لتعريف الماهية، لا للعهد، إلا أن يكون المراد به ما عَهِدَه النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ذلك لَمّا كلمه في صباه، أو اللفظ لعائشة رضي الله عنها، وقَصَدت به ما تَعَهَّده مَن تخاطبه به. انتهى.
وقال الإسماعيليّ رحمه الله: هي عبارة عما عُرِف بعدُ أنه ملك، وإنما الذي في الأصل: فجاءه جَاء، وكان ذلك الجائي ملكًا، فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه يوم أخبر بحقيقة جنسه، وكأن الحامل على ذلك أنه لم يتقدم له معرفة به. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: وقد جاء التصريح بأنه جبريل عليه السلام، فأخرج أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" من طريق أبي عِمْران الجَوْنيّ، عن رجل، عن عائشة رضي الله عنها: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف، هو وخديجة رضي الله عنها، فوافق ذلك رمضان، فخرج يومًا، فسَمِع: السلام عليكم، قال: فظننت أنه من الجنّ، فقال: أبشروا، فإن السلام خير، ثم رأى يومًا آخر جبريل على الشمس، له جناح بالمشرق، وجناح بالمغرب، قال: فَهِبتُ منه
…
" الحديث، وفيه أنه جاءه، فكلَّمه، حتى أَنِسَ به.
وظاهره أن جميع ما وقع له كان، وهو في الغار، لكن وقع في مرسل عُبيد بن عمير:"فأجلسني على دُرْنوك فيه الياقوت واللؤلؤ"، وهو بضم الدال والنون، بينهما راء ساكنة: نوع من البُسُط، له خَمْل.
وفي مرسل الزهريّ: "فأجلسني على مَجْلِسٍ كريم، مُعْجِبٍ".
وأفاد البلقينيّ أن سِنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل في حراء كان أربعين سنة، على المشهور، ثم حكى أقولًا أخرى، قيل: أربعين ويومًا، وقيل: عشرة أيام، وقيل: شهرين، وقيل: وسنتين، وقيل: وثلاثًا، وقيل: وخمسًا، قال: وكان ذلك يوم الاثنين نهارًا، قال: واختُلِف في الشهر، فقيل: شهر رمضان، في سابع عشره، وقيل: سابعه، وقيل: رابع عشريه.
قال الحافظ: ورمضان هو الراجح؛ لما تَقَدَّم من أنه الشهر الذي جاء فيه في حراء، فجاءه الملك، وعلى هذا فيكون سنُّهُ حينئذ أربعين سنة وستة أشهر، وليس ذلك في الأقوال التي حكاها البلقينيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الأقوال ليس عليها دليلٌ يُستند إليه، فالأولى عدم الالتفات إليها، والخوض في مثلها اشتغال بما لا يعني الإنسان، فالله المستعان.
[تنبيه]: إذا عُلِم أنه كان يجاور في غار حراء في شهر رمضان، وأن ابتداء الوحي جاء وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نُبِّئ في شهر رمضان، ويَعْكُر على قول ابن إسحاق أنه بُعِث على رأس الأربعين؛ مع قوله: إنه في الشهر الذي وُلد فيه.
ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أوّلًا في شهر رمضان، وحينئذ نُبِّئ، وأنزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار، وأنزلت عليه {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1، 2]، فيُحمَل قول ابن إسحاق على رأس الأربعين، أي عند المجيء بالرسالة، والله تعالى أعلم
(2)
.
(فَقَالَ) أي: الملك) (اقْرَأْ) يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيُلْقَى إليه، ويحتمل أن يكون على بابه من الطلب، فيُسْتَدَلُّ به على تكليف ما لا يطاق في الحال، وإن قُدِر عليه بعد ذلك، ويحتمل أن تكون صيغة الأمر محذوفة، أي: قل: {اقْرَأْ} ، وإن كان الجواب "ما أنا بقارئ" فعلى ما فُهِم من ظاهر اللفظ، وكأن السرّ في حذفها؛ لئلا يُتَوَهَّم أن لفظ "قل" من القرآن، ويؤخذ منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وأن الأمر على الفور، لكن يمكن أن يجاب بأن الفور فُهِم من القرينة
(3)
.
وقال البلقينيّ: ظاهره أنه لم يتقدم من جبريل شيء قبل هذه الكلمة، ولا السلام، فيَحْتَمِل أن يكون سَلَّمَ، وحُذِف ذكره؛ لأنه معتاد، وقد سَلَّم الملائكة على إبراهيم عليه السلام حين دخلوا عليه، ويَحْتَمِل أن يكون لم يُسَلِّم؛ لأن المقصود
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 373.
(2)
راجع: "الفتح" 8/ 588.
(3)
المصدر السابق 8/ 589.
حينئذ تفخيم الأمر وتهويله، وقد تكون مشروعية ابتداء السلام تتعلق بالبشر، لا من الملائكة، وإن وقع ذلك منهم في بعض الأحيان.
قال الحافظ: والحالة التي سلموا فيها على إبراهيم كانوا في صورة البشر، فلا ترد هنا، ولا يَرِد سلامهم على أهل الجنة؛ لأن أمور الآخرة مغايرة لأمور الدنيا غالبًا.
وقد جاء في رواية الطيالسيّ أن جبريل سَلَّم أوّلًا، ولم يُنقَل أنه سلَّم عند الأمر بالقراءة، والله أعلم
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("مَا أنَا بِقَارِئٍ") قال البلقينيّ رحمه الله: وظاهره أن عائشة رضي الله عنهما سَمِعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يكون من مرسلات الصحابة. انتهى.
وقوله: (مَا إنا بِقَارِئٍ) أي: لا أُحِسن القراءة، فـ "ما" نافية، هذا هو الصواب، وحَكَى القاضي عياض رحمه الله فيها خلافًا بين العلماء، منهم مَن جَعَلها نافيةً، ومنهم من جعلها استفهامية، وضعّفوه بإدخال الباء في الخبر، قال القاضي: ويصحح قول مَن قال: استفهامية، رواية مَن رَوَى:"ما أقرأ؟ "، ويصح أن تكون "ما" في هذه الرواية أيضًا نافية، ذكره النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": "ما" نافية؛ إذ لو كانت استفهامية، لم يَصْلَحْ دخول الباء، وإن حُكِيَ عن الأخفش جوازه، فهو شاذّ، والباء زائدة لتأكيد النفي؛ أي: ما أُحسِن القراءة، فلما قال ذلك ثلاثًا، قيل له:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، أي: لا تقرؤه بقوّتِك، ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يُعَلِّمك كما خلقك، وكما نَزَعَ عنك عَلَق الدم، وغَمْزَ الشيطان في الصغر، وعَلَّمَ أمتك حتى صارت تكتب بالقلم، بعدَ أَنْ كانت أمية. ذكره السهيلي.
وقال غيره: إن هذا التركيب، وهو قوله:"ما أنا بقارئ" يفيد الاختصاص، ورَدّه الطيبيّ بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد، والتقديرُ: لستُ بقارئ البتة.
[فإن قيل]: لم كَرَّر ذلك ثلاثًا؟.
[أجاب أبو شامة] بأن يُحْمَل قوله أوّلًا: "ما أنا بقارئ" على الامتناع،
(1)
"الفتح" 12/ 373.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 199.
وثانيًا على الإخبار بالنفي المحض، وثالثًا على الاستفهام، ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في "مغازيه" عن عروة، أنه قال:"كيف أقرأ؟ "، وفي رواية عُبيد بن عُمير عند ابن إسحاق:"ماذا أقرأ؟ "، وفي مُرسل الزهريّ في "دلائل البيهقيّ":"كيف أقرأ؟ "، وكلُّ ذلك يؤيد أنها استفهامية، والله أعلم
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: قد تقرّر في علم المعاني أن إيلاء الضمير حرف النفي يفيد الاختصاص والحصر، وهو يستدعي أن يكون حكم المخاطب مشوبًا بصواب وخطأ، فيردّ خطؤه إلى الصواب، فأين هذا من جبريل؟.
[قلت]: إنه صلى الله عليه وسلم لَمّا سمع من جبريل: "اقرأ" تصوّر منه صلى الله عليه وسلم أنه اعتقد أن حكمه صلى الله عليه وسلم ليس كحكم سائر الناس في أن حصول القراءة، والتمكّن منها إنما هو بطريق التعلّم، ومدارسة الكتب، فلهذا ردّه بقوله:"ما أنا بقارئ"، أي: حكمي كحكم سائر الناس من أن حصول القراءة إنما هو بالتعلّم، وعدمه بعدمه، فلذلك أخذه، فغطّه مررًا؛ ليُخرجه من حكم سائر الناس، ويستفرغ منه البشريّة، ويُفرغ فيه صفات الملكيّة، فحيئذ يعلم معنى "اقرأ"، ويخاطب بقوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]، ففي المقروء أيضًا إشارة إلى ردّ ما تصوّره صلى الله عليه وسلم من أن القرآن إنما يتيسّر بطريق التعليم فقط، بل إنها كما تحصل من التعليم بواسطة العلم، فقد تحصل بتعليم الله بلا واسطة، فقوله:{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] إشارة إلى العلم التعليميّ، وقوله:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 5] إلى العلم اللدنيّ، ومِصْداقه قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)} [النجم: 4 - 5]. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي) بالغين المعجمة، والطاء المهملة، والغطُّ: حَبْسُ النَّفَس، ومنه غَطّه في الماء، فمعناه: عَصَرَني، وضَمَّني، يقال: غَطّه، وغَتَّه، وضَغَطه، وعَصَرَه، وخَنَقه، وغَمَزه كله بمعنى واحد.
وفي رواية الطبري: "فَغَتَّنِي" بتاء مثناة من فوقُ، وهو بمعنى غطّني،
(1)
"الفتح" 1/ 32 - 33.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3716 - 3717.
ولأبي داود الطيالسيّ في "مسنده" بسند حسن: "فأخذ بِحَلْقي"، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "الغطّ": العصر الشديد والكَبْس، ومنه الغَطّ في الماء: وهو الغوص فيه، قيل: إنما غطّه؛ ليختبر هل يقول من تلقاء نفسه شيئًا؟. انتهى
(2)
.
والحكمة في هذا الغط شَغْلُه عن الالتفات لشيء آخر، أو لإظهار الشدّة والجدّ في الأمر تنبيهًا على ثقل القول الذي سيُلْقَى إليه، فلما ظَهَر أنه صَبَر على ذلك أَلْقَى إليه، وهذا وإن كان بالنسبة إلى علم الله حاصلًا، لكن لعل المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليَخْتَبِر هل يقول من قِبَل نفسه شيئًا؟ فلما لم يأتِ بشيء دَلّ على أنه لا يَقْدِر عليه، وقيل: أراد أن يعلمه أن القراءة ليست من قدرته، ولو أُكرِه عليها، وقيل: الحكمة فيه أن التخييل والوهم والوسوسة، ليست من صفات الجسم، فَلَمّا وَقَع ذلك لجسمه عُلِمَ أنه من أمر الله، وذكر بعضهم أن هذا من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يُنقَل عن أحد من الأنبياء، أنه جَرَى له عند ابتداء الوحي مثل ذلك
(3)
.
(حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) بفتح الجيم وضمها لغتان، وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال، ورفعها، فمعناه على النصب: بَلَغ جبريلُ، أو الغطُّ مني الجهدَ، أي: غاية وُسْعِي، وعلى الرفع: بلغ الجهدُ مني مبلَغه وغايته، وممن ذكر الوجهين في نصب الدال ورفعها صاحب "التحرير" وغيره
(4)
.
واعترض التوربشتيّ رحمه الله وجه النصب، فقال: لا أرى الذي يرويه بنصب الدال إلا قد وَهِمَ فيه، أو جوّزه من طريق الاحتمال، فإنه إذا نُصب عاد المعنى إلى أنه غطه حتى استفرغ قوّته في غطّه، وجهد جهده بحيث لم يَبْقَ فيه مزيد، وهذا قول غير سديد؛ لأن البنية البشريّة لا تستدعي استيفاء القوّة الملكيّة، لا سيّما في مبدأ الأمر، وقد دلّت القضيّة على أنه اشمأزّ من ذلك، وتداخله الرعب. انتهى.
(1)
"الفتح" 1/ 33.
(2)
"الكاشف" 12/ 3717.
(3)
"الفتح" 8/ 589.
(4)
"شرح النووي" 2/ 199.
وتعقّبه الطيبيّ رحمه الله، فقال: لا شكّ أن جبريل في حالة الغطّ لم يكن على صورته الحقيقيّة التي تجلّى بها عند سدرة المنتهى، وعندما رآه مستويًا على الكرسيّ، فيكونُ استفراغ جهده بحسب الصورة التي تجلّى له وغطّه، وإذا صحّت الرواية اضمحلّ الاستبعاد. انتهى
(1)
.
قال الحافظ بعد ذكر ما تقدّم: الترجيح هنا متعين؛ لاتحاد القصة، ورواية الرفع لا إشكال فيها، وهي التي ثبتت عن الأكثر، فتَرجَّحت، وإن كان للأخرى توجيه، وقد رجح البلقينيّ بأن فاعل "بَلَغَ" هو الغَطُّ، والتقدير: بلغ مني الغطُّ جهدَه؛ أي: غايته، فيَرْجِع الرفع والنصب إلى معنى واحد، وهو أولى.
قال البلقينيّ.: وكأنّ الذي حصل له عند تلقي الوحي من الجهد مقدمةٌ لما صار يحصل له من الكرب عند نزول القرآن، كما في حديث ابن عباس:"كان يعالج من التنزيل شدّةً"، وكذا في حديث عائشة، وعمر، ويعلى بن أمية، وغيرهم رضي الله عنهم، وهي حالة يؤخذ فيها عن حال الدنيا من غير موت، فهو مقام بَرْزَخيّ يحصل له عند تلقي الوحي، ولَمّا كان البرزخ العامّ ينكشف فيه للميِّت كثيرٌ من الأحوال خَصَّ الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببرزخ في الحياة يُلْقِي إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار، وقد يقع لكثير في الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطّلاعٌ على كثير من الأسرار، وذلك مُسْتَمَدٌّ من المقام النبويّ، ويشهد له حديث:"رؤيا المؤمن جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة".
[تنبيه]: قال السهيليّ رحمه الله: تأويل الغَطّات الثلاثة على ما في رواية ابن إسحاق أنها كانت في النوم أنه سيقع له ثلاث شدائد، يُبتلى بها، ثم يأتي الفرج، وكذلك كان، فإنه لَقِي ومن تبعه شدّةً أُولى بالشِّعبِ لَمّا حَصَرتهم قريش، وثانية لَمّا خرجوا، وتوعّدوهم بالقتل حتى فَرّوا إلى الحبشة، وثالثة لما هَمّوا بما همّوا به من المكر به، كما قال تعالى:{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال: 30]، فكانت له العاقبة في الشدائد الثلاثة.
وقال البلقينيّ: وهذه المناسبة حسنةٌ، ولا يتعين للنوم، بل تكون بطريق
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3717.
الإشارة في اليقظة، قال: ويمكن أن تكون المناسبة أن الأمر الذي جاءه به ثقيلٌ، من حيث القول، والعمل، والنية، أو من جهةِ التوحيد، والأحكام، والإخبار بالغيب الماضي والآتي، وأشار بالإرسالات الثلاث إلى حصول التيسير، والتسهيل، والتخفيف في الدنيا، والبرزخ، والآخرة عليه وعلى أمته. انتهى
(1)
، وهو بحثٌ مفيد، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ أَرْسَلَنِي) أي: أطلقني بعد الغطّ، قال العلماء: والحكمة في الغطّ شَغْلُه من الالتفات، والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقول له، وكَرَّره ثلاثًا مبالغةً في التنبيه، ففيه أنه ينبغي للمعلّم أن يحتاط في تنبيه المتعلِّم، وأمره بإحضار قلبه، والله أعلم
(2)
.
(فَقَالَ) جبريل عليه السلام (اقْرَأْ"، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ) جبريل (اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي، فَغَطَّنِي الثالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} أي: اقرأ ما أُنزل إليك من القرآن، مفتتحًا باسم ربك، وهو أن تَذْكُر التسمية في ابتداء كلّ سورة، فمحل الباء من {بِاسْمِ رَبِّكَ} النصب على الحال، وقيل: الباء بمعنى "على"؛ أي: اقرأ على اسم ربك، يقال: فَعَل كذا باسم الله، وعلى اسم الله، وعلى هذا فالمقروء محذوف، أي: اقرأ القرآن، وافتتحه باسم الله، وقال قوم:"اسم ربك" هو المقروء، فهو يقول: اقرأ باسم ربك، أي: اسم ربك، والباء زائدة، كقوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20]، وكما قال [من البسيط]:
هُنَّ الحَرَائِرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ
…
سُودُ المَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
أراد لا يقرأن السُّوَرَ، وقيل: معنى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} : أي اذكر اسمه، أَمَرَه أن يبتدئ القراءة باسم الله. انتهى.
({الَّذِي خَلَقَ}) لم يذكر المفعولَ؛ لأن المعنى: الذي حصل منه الخلقُ، واستأثر به، لا خالق سواه، أو تقديره: خلق كلَّ شيء، فيتناول كلَّ مخلوق؛ لأنه
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 374 - 375 "كتاب التعبير" رقم (6982).
(2)
المصدر السابق.
مطلقٌ، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من بعض، قاله النسفيّ
(1)
.
وقوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [العلق: 2]) تخصيصٌ للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله الخلق؛ لشرفه، ولأن التنزيل إليه، ويجوز أن يراد: الذي خلق الإنسان، إلا أنه ذُكر مبهمًا، ثم مفسَّرًا؛ تفخيمًا لخلقه، ودلالةً على عجيب فطرته ({مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]) بفتحتين: جمع عَلَقة، وإنما لم يقل: من عَلَقة؛ لأن الإنسان في معنى الجمع، قاله النسفيّ
(2)
.
وقال القرطبيّ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} يعني: ابن آدم {مِنْ عَلَقٍ} أي: من دَم، وهو: جمعُ عَلَقة، والعَلَقة الدم الجامد، وإذا جَرَى فهو المسفوح، وقال:{مِنْ عَلَقٍ} فذَكَره بلفظ الجمع؛ لأنه أراد بالإنسان الجمع، وكلُّهم خُلِقوا من عَلَق بعد النطفة، والعلقة قِطْعة من دم رَطْبٍ، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَعْلَق لرطوبتها بما تَمُرّ عليه، فإذا جَفَّت لم تكن عَلَقةً، قال الشاعر [من الوافر]:
تَرَكْنَاهُ يَخِرُّ عَلَى يَدَيْهِ
…
يَمُجُّ عَلَيْهِمَا عَلَقَ الوَتِينِ
وخَصَّ الإنسان بالذكر؛ تشريفًا له، وقيل: أراد أن يُبَيِّن قدر نعمته عليه، بأن خلقه من عَلَقة مَهِينة، حتى صار بشرًا سويًّا، وعاقلًا مميزًا.
وقوله تعالى: ({اقْرَأْ} [العلق: 3]) تأكيدٌ، وتَمَّ الكلام، ثم أستأنَفَ، فقال:({وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3]) أي: الذي له الكمال في زيادة كرمه على كلّ كريم، يُنعم على عباده النِّعَم، ويَحْلُم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم، وجحودهم لنعمه. ولمّا لم يكن للإنسان بعد هدايته للإيمان تكريم، مثلُ تكريمه بالفوائد العلميّة نبّه على ذلك حيث قال:{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 4، 5]) أي: علّم الإنسان الخطّ والكتابة بالقلم، وعلّمه ما لا عِلْمَ له به، مما يحتاج إليه في معاشه، ومعاده، ففيه دليلٌ على كمال كرمه سبحانه وتعالى بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضل علم الكتابة؛ لِمَا فيه من المنافع العظيمة التي لا يُحيط بها إلا هو؛ إذ ما دُوِّنت العلوم، ولا قُيِّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله
(1)
"تفسير النسفيّ" 4/ 368.
(2)
المصدر السابق.
المنزّلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله سبحانه وتعالى دليلٌ إلا أمر القلم، والخطّ لكفى.
وسُمِّي قَلَمًا لأنه يُقْلَم، أي: يُقْطَع، ومنه تقليم الظفر، وقال بعض الشعراء المُحْدَثين، يَصِفُ القلم [من الكامل]:
فَكَأَنَّهُ وَالحِبْرُ يَخْضِبُ رَأْسَهُ
…
شَيْخٌ لِوَصْلِ خَرِيدَةٍ يَتَصَنَّعُ
لِمَ لَا أُلَاحِظُهُ بِعَيْنِ جَلَالَةٍ
…
وَبِهِ إِلَى اللهِ الصَّحَائِفُ تُرْفَعُ
(1)
وقوله: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]) قيل: الإنسان هنا آدم عليه السلام علّمه أسماء كل شيء، حسبما جاء به القرآن في قوله تعالى:{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، فلم يَبْقَ شيءٌ إلا وعَلَّم سبحانه وتعالى آدم اسمه بكل لغة، وذَكَره آدمُ للملائكة، كما عَلَّمه، وبذلك ظهر فضله، وتَبَيَّن قدره، وثبتت نبوّته، وقامت حجة الله على الملائكة، وحجتُهُ، وامْتَثَلت الملائكةُ الأمرَ لَمَّا رأت من شرف الحال، ورأت من جلال القدرة، وسمعت من عظيم الأمر، ثم توارثت ذلك ذريته خَلَفًا بعد سلف، وتناقلوه قومًا عن قوم.
وقيل: الإنسان هنا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وعلى هذا فالمراد بـ {عِلْمٍ} المستقبلُ، فإن هذا من أوائل ما نَزَل.
وقيل: هو عامٌّ؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} الآية [النحل: 78]
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا القول الأخير هو الأرجح؛ لأن عموم قوله عز وجل: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} ظاهر فيه، فتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: {اقْرَأْ} أمر بإيجاد القراءة مطلقًا، وهو لا يختصّ بمقروء دون مقروء، وقوله:{بِاسْمِ رَبِّكَ} حال، أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك، قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم اقرأ، وهذا يدل على أن البسملة
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 122.
(2)
راجع: "تفسير القرطبيّ" 20/ 122.
مأمور بقراءتها في ابتداء كلّ قراءة، فيكون مأمورًا بقراءتها في ابتداء هذه السورة أيضًا. انتهى
(1)
.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ} وصفٌ مناسب مشعر بعليّة الحكم بالقراءة، والإطلاق في {خُلِقَ} أوّلًا على منوال يُعطي ويمنع، وجُعل توطئةً لقوله:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ} إيذانًا بأن الإنسان أشرف أنواع المخلوقات، ثم الامتنان عليه بقوله:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} يدلّ على أن العلم أجلّ النعم، وأكثرها فائدة. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} استَدَلَّ به السهيليّ على أن البسملة يؤمر بقراءتها أولَ كل سورة، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون آيةً من كل سورة، كذا قال، وقرّره الطيبيّ، فقال: قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} قَدَّم الفعل الذي هو متعلق الباء، لكون الأمر بالقراءة أهمّ، وقوله:{اقْرَأْ} أمرٌ بإيجاد القراءة مطلقًا، وقوله:{بِاسْمِ رَبِّكَ} حال؛ أي: اقرأ مفتتحًا باسم ربك، وأصح تقاديره: قل: باسم الله، ثم اقرأ، قال: فيؤخذ منه أن البسملة مأمور بها في ابتداء كل قراءة. انتهى.
لكن لا يلزم من ذلك أن تكون مأمورًا بها، فلا تدل على أنها آية من كل سورة، وهو كما قال، لأنها لو كان للزم أن تكون آية قبل كل آية، وليس كذلك.
وأما ما ذكره القاضي عياض، عن أبي الحسن ابن القَصّار من المالكية، أنه قال: في هذه القصة ردّ على الشافعيّ في قوله: إن البسملة آية من كل سورة، قال: لأن هذه أول سورة أنزلت، وليس في أولها البسملة.
فقد تُعُقِّب بأن فيها الأمر بها، وإن تأخر نزولها.
وقال النوويّ: ترتيب آي السور في النزول، لم يكن شرطًا، وقد كانت الآية تَنْزِل، فتوضع في مكان قبل التي نزلت قبلها، ثم تَنزِل الأخرى، فتوضع قبلها إلى أن استقرّ الأمر في آخر عهده صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب.
ولو صحّ ما أخرجه الطبريّ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن جبريل عليه السلام
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3718.
(2)
المرجع السابق.
أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة والبسملة قبل قوله: {اقْرَأْ} لكان أولى في الاحتجاج به، لكن في إسناده ضعف وانقطاع، وكذا حديث أبي ميسرة: "أنّ أول ما أِمر به جبريل قال له: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} [الفاتحة: 1، 2]، هو مرسل، وإن كان رجاله ثقات، والمحفوظ أن أول ما نزَل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك. انتهى
(1)
.
(فَرَجَعَ بِهَا) أي: رجع صلى الله عليه وسلم حال كونه مصاحبًا للآيات
(2)
، التي هي قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] إلى آخر الآيات الخمس (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) بضم الجيم، يقال: رَجَفَ الشيءُ رَجْفًا، من باب نصر، ورَجِيفًا، ورَجَفَانًا بالتحريك: إذا تحرّك، واضطرب، ورَجَفَت الأرض كذلك، ورَجَفَت يده: ارتَعَشَت من مَرَضٍ، أو كِبَرٍ، ورَجَفته الحُمَّى: أرعدته، فهو راجفٌ على غير قياس، وأرجف القوم في الشيء، وبه إرجافًا: أكثروا من الأخبار السيّئة، واختلاق الأقوال الكاذبة حتى يضطرب الناس منها، وعليه قوله تعالى:{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} الآية [الأحزاب: 60]
(3)
.
و"البوادر" - بفتح الباء الموحّدة -: جمع بادرة، قال أهل اللغة والغريب: هي اللحمة التي بين المنكب والعُنُق، تضطرب عند فزع الإنسان
(4)
.
ووقع في رواية عُقيل الآتية: "يَرْجُفُ فؤاده"؛ أي: قلبه
(5)
.
(1)
"الفتح" 8/ 590 "تفسير سورة العلق".
(2)
وزاد في "الفتح": أو بالقصّة، وتعقّبه العينيّ بأنه لا وجه له، وهو كما قال؛ إذ هو تكلّف.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 220.
(4)
قال في "الفتح" 12/ 375: وأما بوادره فالمراد بها اللحمة التي بين المنكب والعنق، جرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع، وعلى ذلك جَرَى الجوهري أن اللحمة المذكورة سُمِّيت بلفظ الجمع، وتعقّبه ابن بَرِّيٍّ، فقال: البوادر جمع بادرة، وهي ما بين المنكب والعنق، يعني: أنه لا يختص بعضو واحد، وهو جيدٌ، فيكون إسناد الرَّجَفان إلى القلب؛ لكونه محله، وإلى البوادر؛ لأنها مَظْهَره، وأما قول الداوديّ: البوادر والفؤاد واحد، فإن أراد أن مُفادهما واحد على ما قررناه، وإلا فهو مردود. انتهى.
(5)
قد تقدّم في شرح حديث: "أهل اليمن أرقّ قلوبًا" بيان الاختلاف في القلب والأفئدة، فراجعه تستفد.
قال البلقينيّ رحمه الله: الحكمة في العدول عن القلب إلى الفؤاد أن الفؤاد وعاء القلب، على ما قاله بعض أهل اللغة، فإذا حصل للوعاء الرَّجَفان حصل لما فيه، فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب. انتهى.
وهذا هو سبب طلبه أن يُدَثَّرَ، ويُزَمَّل؛ أي: يُغطَّى، ويُلَفّ؛ لشدّة ما لحقه من هول الأمر، وشدّة الضغط
(1)
.
والجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "رَجَعَ"، والقاعدة أن الجملة المضارعيّة إذا كانت مثبتة تُربط بالضمير، لا بالواو، كما قال في "الخلاصة":
وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ
…
حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الوَاوِ خَلَتْ
وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا
…
لَهُ المُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدًا
[تنبيه]: الحكمة في أولية هذه الآيات الخمس - أعني {اقْرَأْ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} - كونها قد اشتملت على مقاصد القرآن، ففيها براعة الاستهلال، وهي جديرة أن تُسَمَّى عنوان القرآن؛ لأن عنوان الكتاب يَجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله، وهذا بخلاف الفن البديعيّ المُسَمَّى العنوان، فإنهم عَرَّفوه بأن يأخذ المتكلم في فنّ، فيؤكده بذكر مثال سابق، وبيانُ كونها اشتملت على مقاصد القرآن، أنها تنحصر في علوم التوحيد، والأحكام، والأخبار، وقد اشتملت هذه الآيات على الأمر بالقراءة، والبداءة فيها "ببسم الله"، وفي هذه الإشارة إلى الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الربّ، وإثبات ذاته، وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار، من قوله:{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}
(2)
، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَ: "زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي") هكذا في الروايات مكرّرًا مرّتين، ومعناه: غظوني بالثياب، ولُفّوني بها، وهو من التزميل، وهو التلفيف، والتزمُّل: الالتفاف، وا لاشتمال، ومثله التدثُّر، ويقال للثوب الذي يلي الجسد: دِثَار بالكسر (فَزَمَّلُوهُ، حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) - بفتح،
(1)
"المفهم" 1/ 377.
(2)
راجع: "الفتح" 8/ 589 - 590 "كتاب التفسير"(4954).
فسكون - أي: الفَزَعُ، يقال: راعني الشيءُ رَوْعًا، من باب قال: أفزعني، ورَوَّعني مثله، وراعني جماله: أعجبني، وأما الرُّوع بالضمّ فهو الخاطر، والقلب، يقال: وقَعَ في رُوعي كذا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
، وقال المجد رحمه الله: الرُّوع بالضمّ: القلبُ، أو موضع الفَزَع منه، أو سَوَاده، والذهنُ، والعقلُ. انتهى
(2)
. (ثُمَّ قَالَ لِخَدِيجَةَ) رضي الله عنها ("أَيْ خَدِيجَةُ) أي: يا خديجةُ، فـ "أَيْ" حرف نداء، مثل "يا" تستعمل عند الجمهور للبعيد، أو ما في حكمه، كالنائم، والساهي، ومذهب المبرِّد أنها للقريب، كالهمزة، و"يا" للجمع، ومثله مذهب ابن بَرْهَان، إلا أنه جعل "أي" للمتوسّط، وكلّهم جوّزوا نداء القريب بما للبعيد؛ لتنزيله منزلته
(3)
. (مَا لِي؟ ")"ما" استفهاميّة مبتدأ خبره الجارّ والمجرور، أَيْ: أيّ شيء حصل لي بسبب هذا الأمر؟، قاله استغرابًا لما حصل له، وتعجيبًا لخديجة رضي الله عنها، وجملة "ما لي؟ " مقول "قال"، وقوله:(وَأَخْبَرَهَما الْخَبَرَ) أي: خبر ما رآه، وحصل له من الملَك من الغطّ وغيره، والجملة يحتمل أن تكون معطوفةً على جملة "قال"، ويحتمل أن تكون حالًا من فاعل "قال".
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي") قال في "الفتح": دَلّ هذا، مع قوله:"تَرْجُفُ بَوادره" على انفعالٍ حَصَل له من مجيء الملك، ومن ثَمَّ قال:"زَمِّلوني".
والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولًا: [أولها]: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكِهانة، جاء مُصَرَّحًا به في عِدّة طُرُق، وأبطله أبو بكر بن العربيّ، وحُقَّ له أن يُبْطَل، لكن حمله الإسماعيليّ على أن ذلك حَصَل له قبل حصول العلم الضروريّ له أن الذي جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى.
[ثانيها]: الهاجس، وهو باطل أيضًا؛ لأنه لا يَستَقِرّ، وهذا استَقَرَّ، وحصلت بينهما المراجعة.
[ثالثها]: الموت من شدة الرُّعْب.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 246.
(2)
"القاموس المحيط" ص 651.
(3)
راجع: "حاشية الخضريّ على الخلاصة" 2/ 113.
[رابعها]: المرض، وقد جَزَم به ابن أبي جمرة.
[خامسها]: دوام المرض.
[سادسها]: العجز عن حمل أعباء النبوة.
[سابعها]: العجز عن النظر إلى الملك من الرُّعْب.
[ثامنها]: عدم الصبر على أذى قومه.
[تاسعها]: أن يقتلوه.
[عاشرها]: مفارقة الوطن.
[حادي عشرها]: تكذيبهم إياه.
[ثاني عشرها]: تعييرهم إياه، قال الحافظ رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، وأسلمها من الارتياب الثالث، واللذان بعده، وما عداها فهو مُعْتَرض. انتهى
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ) رضي الله عنها (كَلَّا) قال النوويّ رحمه الله: هي هنا كلمة نفي وإبعاد، وهذا أحد معانيها، وقد تأتي "كلا" بمعنى "حَقًّا"، وبمعنى "ألا" التي للتنبيه، يُسْتَفتَح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام، وقد جمع الإمام أبو بكر بن الأنباريّ أقسامها ومواضعها، في باب من كتابه "الوقف والابتداء". انتهى.
وقال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله: هي مركّبة عند ثعلب من كاف التشبيه، و"لا" النافية، قال: وإنما شُدّدت لامها؛ لتقوية المعنى، ولدفع توهّم بقاء معنى الكلمتين، وعند غيره هي بسيطة، وعند سيبويه والخليل، والمبرّد، والزجّاج، وأكثر البصريين: حرفٌ معناه الرَّدْعُ والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك حتى يُجيزون أبدًا الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت {كَلَّا} في سورة، فاحكم بأنها مكيّةٌ؛ لأن فيها معنى التهديد والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة؛ لأن أكثر العتوّ كان بها، قالوا: وقد تكون حرف جواب بمنزلة "أَيْ"، و"نَعَمْ"، وحَمَلوا عليه قوله تعالى:{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32)} [المدّثّر: 32]، فقالوا: معناه أي والقمر. انتهى كلامه باختصار.
(1)
"الفتح" 1/ 33.
قال شيخنا عبد الباسط المناسيّ رحمه الله في "نظم المغني" مبيّنًا ما ذُكِر في "كلا":
"كَلَّا" مِنَ الكَافِ و"لَا" مُرَكَّبَهْ
…
فِي قَوْلِ ثَعْلَبٍ وَبِالعَكْسِ انْتَبَهْ
سِوَاهُ وَهْيَ حَرْفُ رَدْعٍ أَبَدًا
…
عِنْدَ الخَلِيلِ وَكَثِيرِ مَنْ هُدَى
لِذَا أَجَازُوا الوَقْفَ فِي أَخِيرِهَا
…
وَالابْتِدَا بِمَا أَتَى بِإِثْرِهَا
وَشُدَّ لَامُهَا لأَجْلِ التَّقْوِيَهْ
…
مَعْنًى وَدَفْعِ مَا بِهِ أَتَتْ هِيَهْ
وَفِي الثَّلَاثِينَ مَعَ الثَّلَاثَةِ
…
أَتَى بِهَا كَلَامُ رَبِّ العِزَّةِ
وَكُلُّهَا فِي آخِرِ النِّصْفَيْنِ مِنْ
…
كَلَامِ رَبِّنَا العَزِيزِ يَا فَطِنْ
قَالَ الكِسَائِيُّ: بِمَعْنَى "حَقًّا"
…
وَكَـ "أَلَا" لِبَعْضِهِمْ جَا نُطْقَا
وَالنَّضْرُ وَالفَرَّاءُ فِيهَا أَثْبَتَا
…
مَعْنَى"نَعَمْ" وَ"إِيْ" كَمَا عَنْهُمْ أَتَى
(1)
[تنبيه]: من اللطائف أن هذه الكلمة التي ابتدأت خديجة النطق بها - يعني: كلمة كلا - عَقِب ما ذكر لها النبيّ صلى الله عليه وسلم من القصة التي وقعت له، هي التي وقعت عقب الآيات الخمس، من سورة {اقْرَأْ} في نسق التلاوة، فَجَرَت على لسانها اتفاقًا؛ لأنها لم تكن نزلت بعدُ، وإنما نزلت في قصة أبي جهل، وهذا هو المشهور عند المفسرين، وقد ذهب بعضهم إلى أنها تتعلق بالإنسان المذكور قبلُ؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة، فهي عين الأولى، وقد أُعيد الإنسان هنا كذلك، فكان التقدير: كلا لا يَعلَم الإنسان أن الله هو خلقه، وعَلَّمه {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، قاله في "الفتح"
(2)
.
(أَبْشِرْ) بهمزة القطع، أمرٌ من الإبشار رباعيًّا، ويحتمل أن يكون بهمزة الوصل، مع كسر الشين وفتحها، من بَشِرَ بكسر الشين وفتحها ثلاثيًّا، قال المجد رحمه الله: أَبْشَرَ: فَرِحَ، ومنه أَبْشِر بخير، قال: وبَشَرتُ به، كعَلِمَ، وضَرَبَ: سُرِرْتُ. انتهى
(3)
. وقال الفيّوميّ رحمه الله: بَشِرَ بكذا يَبْشَرُ، مثلُ فَرِحَ يَفْرَحُ وزنًا ومعنًى، وهو الاستبشار أيضًا، والمصدر البُشُور، ويتعذى بالحركة، فيقال:
(1)
راجع: شرحي المسمَّى: "فتح القريب المجيب" على النظم المذكور 1/ 353 - 357.
(2)
"الفتح" 12/ 375.
(3)
"القاموس المحيط" ص 317.
بشرته أبْشُرُهُ بَشْرًا، من باب قتل في لغة تِهَامة، وما والاها، والاسم منه بُشْرٌ بضم الباء، والتعدية بالتثقيل لغة عامّة العرب، وقرأ السبعة باللغتين. انتهى
(1)
.
فقد ثبت بما قاله المجد رحمه الله أن أبشر هنا يجوز فيه ثلاثة أوجه: (أبشر) بقطع الهمزة رباعيًّا، و (ابْشِرْ) بوصل الهمزة مع كسر الشين وفتحها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قول خديجة رضي الله عنها هنا: "أبشر" لم يقع في حديث عائشة رضي الله عنها تعيين المبشر به، ووقع في مرسل عبيد بن عمير:"فقالت: أبشر يا ابن عمّ، واثْبُت، فوالذي نفسي بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة"، وفي "دلائل النبوّة" للبيهقيّ، من طريق أبي مَيْسَرة مرسلًا أنه صلى الله عليه وسلم قَصّ على خديجة ما رأى في المنام، فقالت له: أبشر، فإن الله لن يَصْنَعَ بك إلا خيرًا، ثم أخبرها بما وقع له من شَقِّ البطن وإعادته، فقالت له: أبشر إن هذا والله خير، ثم استَعْلَنَ له جبريل
…
فذكر القِصَّة، فقال لها:"أرأيتكِ الذي كنتُ رأيت في المنام، فإنه جبريل، استَعْلَن لي بأن ربي أرسله إليّ"، وأخبرها بما جاء به، فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرًا، فاقْبَل الذي جاءك من الله، فإنه حَقٌّ، وأبشر فإنك رسول الله حقًّا.
وهذا أصرح ما ورد في أنها رضي الله عنها أوّلُ الآدميين آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم
(2)
.
(فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا) بضم الياء، وبالخاء المعجمة، والزاي المكسورة، ثم الياء الساكنة، كذا هو في رواية يونس وعقيل، والخِزْيُ: الفضيحة، والهوان، وقال معمر في روايته:"يَحْزُنُك" بفتح أوله، وبالحاء المهملة، والزاي المضمومة، والنون، من حَزَنه، ويجوز ضمّ الياء في أوله، وكسر الزاي، من أحزنه، وكلاهما صحيح
(3)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: معنى "يُخزيك" يَفْضحك، ويُهينك، بل يُثَبِّتُك
(1)
"المصباح المنير" 1/ 49.
(2)
"الفتح" 12/ 375 "كتاب التعبير" رقم (6982).
(3)
راجع: "شرح النوويّ" 2/ 201، و"الفتح" 1/ 33.
حتى لا يُنسب إليك كَذِبٌ فيما قُلتَهُ، ولا يُسلّط عليك شيطانٌ بتخبيطه الذي حَذِرْتَهُ.
ومعنى "يَحْزُنُكَ" أي: يوقع ما تخافه من ذلك.
وهذا تأنيسٌ منها للنبيّ صلى الله عليه وسلم إن كان هذا لأوّل ما رأى من المقدّمات والتباشير، وقبل تحقّقه الرسالة، ولقاء الملك، أو يكون بعده لِمَا خَشِي من ضعف جسمه عن حمل ذلك. انتهى كلام القاضي
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول بعيد، يُبعده أن هذا القول
صدر منه صلى الله عليه وسلم بعد تلقّيه الآيات الخمس من جبريل عليه السلام، ورجوعه بها إلى خديجة رضي الله عنها، فالأولى أن تأنيسها له صلى الله عليه وسلم إنما من أجل ما خافه من موتٍ، أو مرض، أو نحو ذلك بسبب شدّة ملاقاة الملك، والله تعالى أعلم.
ووقع عند ابن إسحاق، عن إسماعيل بن أبي حكيم، مرسلًا:"أن خديجة قالت: أي ابن عم، أتستطيع أن تُخبرني بصاحبك إذا جاء؟ قال: "نعم"، فجاءه جبريل، فقال: "يا خديجة هذا جبريل"، قالت: قُمْ، فاجلس على فخذي اليسرى، ثم قالت: هل تراه؟ قال: "نعم"، قالت: فتحوَّلْ إلى اليمنى كذلك، ثم قالت: فتحوّل، فاجلس في حجري كذلك، ثم ألقت خمارها وتحسرت، وهو في حجرها، وقالت: هل تراه؟ قال: "لا"، قالت: اثْبُت، فوالله إف لملك، وما هو بشيطان"، وفي رواية مرسلة عند البيهقي في "الدلائل": أنها ذهبت إلى عَدّاس، وكان نصرانيًّا، فذكرت له خبر جبريل، فقال: هو أمين الله، بينه وبين النبيين، ثم ذهبت إلى ورقة
(2)
.
(وَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) معنى صِلَة الرحم: هو الإحسان إلى الأقارب، على حسب حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام، وغير ذلك، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": ثم استدَلّت على ما أقسمت عليه من نفي ذلك أبدًا بأمر استقرائيّ، وصفته بأصول مكارم الأخلاق؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، أو إلى الأجانب، وإما بالبدن، أو بالمال، وإما على مَن يستقل
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 635.
(2)
"الفتح" 8/ 591.
بأمره، أو مَن لا يستقلّ، وذلك كله مجموع فيما وصفته به. انتهى.
(وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ) بضمّ الدال، من صَدَقَ من باب نصر، قال المجد رحمه الله: الصَّدْقُ بالكسر والفتح: ضدّ الْكَذِب، كالمصدوقة، أو بالفتح مصدر، وبالكسر اسم، صَدَقَ في الحديث، وصَدَقَ فُلانٌ الحَديثَ، والقتالَ. انتهى
(1)
.
فقوله: "الحديث" منصوب على المفعوليّة، وفي رواية هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصّة زيادة:"وتؤدّي الأمانة"
(2)
.
(وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) بفتح الكاف، هو مَن لا يَسْتَقِلّ بأمره، وأصله الثِّقَل، ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} الآية [النحل: 76]، ويدخل في حَمْلِ الكَلِّ الإنفاق على الضعيف، واليتيم، والعيال، وغير ذلك، وهو من الكَلال، وهو الإعياء.
(وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) بفتح التاء، هذا هو الصحيح المشهور، قال القاضي عياض رحمه الله: وروايتنا في هذا عن أكثر شيوخنا "تَكْسِب" بفتح التاء، وعند بعضهم "تُكْسِبُ" بضمها، وبالوجهين قرأنا الحرف على الحافظ أبي الحسين في غير هذا الكتاب، وقال أبو العباس ثعلب، وأبو سليمان الخطابيّ، وجماعات من أهل اللغة: يقال: كسبتُ الرجلَ مالًا، وأكسبته مالًا لغتان، وأنشدوا:
فَأَكْسَبَنِي مَالًا وَأَكْسَبْتُهُ حَمْدًا
وأفصحهما باتفاقهم كسبته بحذف الألف.
ومعنى "تُكسِب المعدومَ" - عند من رواه بالضم -: تَكسب غيرَك المالَ المعدوم؛ أي: تعطيه إياه تبرُّعًا، فحُذِف أحد المفعولين، وقيل: معناه تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، قال القاضي: وهذا أبلغ في المدح، وأشهر في خُلُق نبيّنا صلى الله عليه وسلم قبل النبوّة وبعدها.
وأما رواية الفتح، فقيل: معناها كمعنى الضم، وقيل: معناها تُكسب المال المعدومَ، وتُصِيب منه ما يَعْجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قريش، وقد عُرفوا بـ "قُريش التجّار"، وسُمُّوا
(1)
"القاموس المحيط" ص 810.
(2)
راجع: "الفتح" 1/ 34.
بذلك من التقرّش، وهو التجارة على أحد الأقوال، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم محظوظًا في تجارته، وخبره بذلك مشهور
(1)
.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا القول حكاه القاضي عن ثابت
(2)
، صاحب "الدلائل"، وهو ضعيفٌ، أو غَلَطٌ، وأيّ معنى لهذا القول في هذا الموطن، إلا أنه يُمكن تصحيحه بأن يُضَمّ إليه زيادة، فيكون معناه تَكْسِب المال العظيم الذي يَعْجِز عنه غيرك، ثم تَجود به في وجوه الخير، وأبواب المكارم، كما ذَكَرَتْ مِن حَمْلِ الكَلّ، وصِلَة الرَّحِم، وقِرَى الضيف، والإعانة على نوائب الحقّ، فهذا هو الصواب في هذا الحرف.
وأما صاحب "التحرير": فجعل "المعدوم" عبارة عن الرجل المحتاج المُعْدِم العاجز عن الكسب، وسمَّاه معدومًا؛ لكونه كالمعدوم الميت، حيث لم يتصرف في المعيشة كتصرف غيره، قال: وذكر الخطابيّ أن صوابه المُعْدِم بحذف الواو، قال: وليس كما قال الخطابيّ، بل ما رواه الرُّواة صواب، قال: وقيل: معنى "تَكْسِب المعدومَ"؛ أي: تسعى في طلب عاجز تُنْعِشه، والكسب هو الاستفادة، وهذا الذي قاله صاحب "التحرير"، وإن كان له بعض الاتجاه كما حررت لفظه، فالصحيح المختار ما قدمته. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(3)
.
(وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بفتح التاء، قال أهل اللغة: يقال: قَرَيت الضيفَ أَقْرِيه، من باب رَمَى قِرًى، بكسر القاف مقصورًا، وقَراءً بفتح القاف ممدودًا، ويقال للطعام الذي يُضِيفه به: قِرًى، بكسر القاف مقصورًا، ويقال لفاعله: قَارٍ، مثلُ قَضَى، فهو قَاضٍ.
وقال ابن سِيده: قَرَى الضّيْفَ قِرًى، وقَرَاءً: أضافه، واستقراني،
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 636 - 639.
(2)
هو ثابت بن حزم بن عبد الرحمن السَّرَقُسْطيّ من أهل الأندلس العالم المتفنّن البصير بالحديث والفقه والنحو والغريب، تُوفي سنة (313 هـ)، وكتابه "الدلائل" هو في شرح ما أغفله أبو عبيد، وابن قُتيبة، من غريب الحديث. انظر:"بغية الوعاة" 1/ 480.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 201، و"الفتح" 1/ 33 - 34.
واقتراني، وأدراني: طَلَبَ منّي القِرَى، وإنه لَقَرِيٌّ للضيف، والأنثى قَرِيّةٌ، ويقال أيضًا: إنه لَمِقْرًى للضيف، ومِقْرَاءٌ، والأُنثَى مِقْراةٌ، ومِقْرَاءٌ. انتهى
(1)
.
(وَثُعِينُ) بضم أوله، من الإعانة، (عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) جمع نائبة، وهي الحادثة والنازلة خيرًا أو شرًّا، والإضافة فيه من إضافة الصفة للموصوف، أي: الحقّ ينزل على الشخص، يقال: ناب الأمرُ نَوْبَةً: نَزَلَ، وهي النوائب، والنُّوَبُ.
وإنما قالت: "نوائب الحق"؛ لأن النائبة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشر، قال لبيد [من الطويل]:
نَوَائِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ كِلَاهُمَا
…
فَلَا الخَيْرُ مَمْدُودٌ وَلَا الشَّرُّ لَازِبُ
قال في "الفتح": قولها: "وتعين على نوائب الحقّ" كلمةٌ جامعةٌ لأفراد ما تقدّم ولما لم يتقدم. انتهى.
(فَانْطَلَقَتْ بِهِ) أي: مَضَت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فالباء للمصاحبة (خَدِيجَةُ) رضي الله عنه، وفي مرسل عُبيد بن عُمير: أنها أمرت أبا بكر أن يتوجه معه، فيحتمل أن يكون عند توجيهها، أو مرّة أخرى
(2)
.
(حَتَّى أَتَتْ بِهِ) صلى الله عليه وسلم (وَرَقَةَ) بفتح الراء (بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ) ووقع عند البخاريّ: بلفظ": "ابن عمّ خديجة"، بدون لفظ "وهو"، قال في "الفتح": هو بنصب "ابن"، ويكتب بالألف، وهو بدل من "ورقة"، أو صفةٌ، أو بيانٌ، ولا يجوز جرُّهُ، فإنه يصير صفة لعبد العُزّى، وليس كذلك، ولا كَتْبُهُ بغير ألف؛ لأنه لم يقع بين علمين. انتهى
(3)
.
وقوله: (أَخِي أَبِيهَا) بالجرّ بدل من "عمّ"، وأبوها هو: خُوَيلد بن أسد بن عبد العُزّى.
(وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ) أي: صار نصرانيًّا، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نُفَيل لَمّا كَرِها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها، يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصّر، وكان لَقِيَ مَن بَقِي من الرهبان على دين
(1)
راجع: "عمدة القاري" 1/ 96.
(2)
"الفتح" 8/ 591.
(3)
"الفتح" 1/ 34.
عيسى عليه السلام، ولم يُبَدِّل، ولهذا أخبر بشأن النبيّ صلى الله عليه وسلم والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.
وأما زيد بن عمرو، فقد أخرج البخاريّ رحمه الله قصّته في "كتاب المناقب"
(1)
.
[تنبيه]: قال في "الإصابة"(6/ 474 - 477): ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصَي القرشيّ الأسديّ ابن عمّ خديجة، زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكره الطبريّ، والبغويّ، وابن قانع، وابن السكن، وغيرهم في الصحابة، وأوردوا كلهم من طريق رَوْح بن مُسافر، أحدِ الضعفاء، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن ورقة بن نوفل، قال: قلت:
(1)
(3828) قال موسى: حدثني سالم بن عبد الله، ولا أعلمه إلا تحدث به عن ابن عمر، أن زيد بن عمرو بن نُفيل خرج إلى الشأم، يسأل عن الدين، ويَتّبعه، فلقي عالِمًا من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم، فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، قال زيد: ما أَفِرّ إلا من غضب الله، ولا أَحْمِل من غضب الله شيئًا أبدًا، وأَنَّى أستطيعه؟، فهل تدلني على غيره؟، قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد، فلقي عالِمًا من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله، قال: ما أَفِرّ إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئًا أبدًا، وأَنَّى أستطيع؟ فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم؛ خرج، فلما بَرَزَ رفع يديه، فقال: اللهم إني أَشْهَد أني على دين إبراهيم.
وموسى هو ابن عقبة.
وقال الليث: كتب إليَّ هشام عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نُفيل قائمًا مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يُحيِي المَوْؤودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، أنا أكفيكها مؤونتها، فيأخذها، فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك، دان شئت كفيتك مؤونتها.
يا محمد، كيف يأتيك الذي يأتيك؟ قال:"يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر"، قال ابن عساكر: لم يسمع ابن عباس من ورقة، ولا أعرف أحدًا قال: إنه أسلم، وقد غاير الطبريّ بين صاحب هذا الحديث، وبين ورقة بن نوفل الأسديّ، لكن القصة مغايرة لقصة ورقة التي في "الصحيحين"؛ يعني حديث الباب، وفي آخره:"ولم يَنشَب ورقة أن تُوفّي"، فهذا ظاهره أنه أقرّ بنبوته، ولكنه مات قبل أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام، فيكون مثل بَحِيرا.
وفي إثبات الصحبة له نظر، لكن في زيادات المغازي من رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق، قال يونس بن بُكير، عن يونس بن عمرو - وهو ابن أبي إسحاق السبيعيّ - عن أبيه، عن جدّه، عن أبي مَيْسَرة، واسمه عمرو بن شُرَحبيل، وهو من كبار التابعين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداءً، فقد والله خشيت على نفسي، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة
…
" الحديث، فقال له ورقة: "أبشر، ثم أبشر، فأنا أشهد أنك الذي بَشَّر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك سوف تؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، وإن يدركني ذلك لأجاهدنّ معك"، فلما تُوُفّي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد رأيت القُسّ في الجنة، عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي، وصدقني".
وقد أخرجه البيهقي في "الدلائل" من هذا الوجه، وقال: هذا منقطع.
قال الحافظ: يَعْضِده ما أخرجه الزبير بن بكار، حدثنا عثمان، عن الضحاك بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، قال: كان بلال لجارية من بَنِي جُمَح، وكانوا يعذِّبونه برمضاء مكة، يُلْصِقون ظهره بالرمضاء؛ لكي يُشْرِك، فيقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، فيمر به ورقة، وهو على تلك الحال، فيقول: أحد أحد يا بلال، والله لئن قتلتموه، لأتخذنه حنانًا. وهذا مرسلٌ جَيِّدٌ، يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، حتى أسلم بلال.
والجمع بين هذا وبين حديث عائشة أن يُحْمَل قولها: "ولم يَنْشَب ورقة أن تُوُفّي" أي: قبل أن يشتهر الإسلام، ويؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالجهاد.
لكن يَعْكُر على ذلك ما أخرجه محمد بن عائذ في "المغازي" من طريق عثمان بن عطاء الخراسانيّ، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عباس في قصة ابتداء الوحي، وفيها قصة خديجة مع ورقة بنحو حديث عائشة، وفي آخرها: لئن كان هو، ثم أظهر دعاءه، وأنا حيء لأُبلينّ اللهَ من نفسي في طاعة رسوله، وحسن مؤازرته، فمات ورقة على نصرانيته. كذا قال، لكن هذا لا يُعارض ما سبق؛ لأن عثمان ضعيف.
قال الزبير: كان ورقة قد كَرِه عبادة الأوثان، وطلب الدين في الآفاق، وقرأ الكتب، وكانت خديجة تسأله عن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيقول لها: ما أراه إلا نبيّ هذه الأمة، الذي بَشَّر به موسى وعيسى.
وفي "المغازي" الكبير لابن إسحاق، وساقه الحاكم من طريقه، قال: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة الثقفيّ، وكان راعيه، قال: قال ورقة بن نوفل فيما كانت خديجة ذَكَرت له من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا لِلرِّجَالِ وَصَرْفِ الدَّهْرِ وَالقَدَرِ
الأبيات، وفيها:
هَذِي خَدِيجَةُ تَأْتِينِي لأُخْبِرَهَا
…
وَمَا لَنَا بخَفِيِّ الغَيْبِ مِنْ خَبَرِ
بِأَنَّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ
…
جِبْرِيلُ أَنَّكَ مَبْعُوثٌ إِلَى البَشَرِ
فَقُلْتُ عَلَّ الَّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ
…
لَهُ الإِلَهُ فَرَجِّي الخَيْرَ وَانْتَظِرِي
وأخرج ابن عديّ في "الكامل" من طريق إسماعيل بن مجالد، عن أبيه، عن الشعبيّ، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رأيت ورقة في بُطنان الجنة، عليه السندس".
قال ابن عديّ: تفرد به إسماعيل، عن أبيه.
وأخرجه ابن السكن من طريق يحيى بن سعيد الأمويّ، عن مجالد، لكن لفظه:"رأيت ورقة على نهر من أنهار الجنة، لأنه كان يقول: ديني دين زيد، وإلهي إله زيد".
وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في "تاريخه" من هذا الوجه.
وأخرج البزَّار من طريق أبي معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن
عائشة، قالت:"إن النبيّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عن سبّ ورقة "، وهو في زيادات المغازي ليونس بن بكير، أخرجه عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سابّ أخٌ لورقة رجلًا، فتناول الرجل ورقة، فسبّه، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"هل علمتَ أني رأيت لورقة جنة أو جنتين؟ "، فنَهَى عن سبّه.
وأخرجه البزَّار من طريق أبي أسامة، عن هشام مرسلًا.
وأخرج أحمد من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: أن خديجة سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ورقة بن نوفل، فقال:"قد رأيته، فرأيت عليه ثيابًا بيضًا، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب"، انتهى ما في "الإصابة"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذه الآثار، وإن كان في معظمها مقال، لكن مجموعها يدلّ على كون ورقة بن نوفل ممن آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فالحقّ أنه أول من آمن به من الرجال، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فِي الْجَاهِلِيَّةِ) هو الوقت قبل رسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، سُمُّوا بذلك لِمَا كانوا عليه من فاحش الجهالة، وقد تُطلق الجاهليّة، ويراد بها ما قبل دخول المحكيّ عنه في الإسلام، وله أمثلة كثيرة
(2)
.
(وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِي، وَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ) هكذا هو في "صحيح مسلم" بلفظ: "الكتاب العربيّ، ويكتب بالعربية"، ووقع في أول "صحيح البخاريّ:"يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية"، وكلاهما صحيح، وحاصلهما أنه تَمَكَّن من معرفة دين النصارى، بحيث إنه صار يتصرف في الإنجيل، فيكتب أيّ موضع شاء منه بالعبرانية إن شاء، وبالعربية إن شاء، قاله النوويّ
(3)
.
وقال في "الفتح" عند قوله: "فكان يكتب الكتاب العبرانيّ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية" ما نصّه: وفي رواية يونس، ومعمر:"ويكتب من الإنجيل بالعربية"، ولمسلم:"فكان يكتب الكتاب العربيّ"، والجميع صحيح؛ لأن ورقة
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 474 - 477.
(2)
"الفتح" 12/ 376.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 202 - 203.
تَعَلَّم اللسان العبرانيّ، والكتابة العبرانية، فكان يكتب الكتاب العبراني، كما كان يكتب الكتاب العربيّ؛ لتمكّنه من الكتابين واللسانين، ووقع لبعض الشُّرّاح هنا خَبْطٌ، فلا يُعَرَّج عليه.
وإنما وَصَفَتْهُ بكتابة الإنجيل، دون حفظه؛ لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرًا كتيسّر حفظ القرآن الذي خُصَّت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها:"أَناجِيلها صدورها".
(وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا، قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ) رضي الله عنها (أَيْ) حرف نداء، كما مرّ البحث عنه قريبًا (عَمِّ) هكذا في هذه الرواية، وفي الرواية الآتية:"أي ابن عم"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول، في الأول "عَمّ"، وفي الثاني:"ابن عم"، وكلاهما صحيح، أما الثاني فلأنه ابن عمِّها حقيقةً كما ذكره أوّلًا في الحديث، فإنه ورقة بن نوفل بن أسد، وهي خديجة بنت خُويلد بن أسد، وأما الأول فسمّته عَمًّا مجازًا؛ للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصغير الكبير بـ"يا عمّ"؛ احترامًا له، ورفعًا لمرتبته، ولا يَحصُل هذا الغرض بقولها:"يا ابن عمّ"، انتهى كلام النوويّ
(1)
.
وتعقّب الحافظ كلام النوويّ هذا، وأن قوله:"أي عمّ" وَهَمٌ؛ لأنه وإن كان صحيحًا؛ لجواز إرادة التوقير، لكن القصة لم تتعدد، ومخرجها مُتّحِدٌ، فلا يُحْمَل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعيّن الحمل على الحقيقة، وإنما جَوَّزنا ذلك فيما مضى في العبرانيّ والعربيّ؛ لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج، فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطّردُ في جميع ما أشبهه. انتهى
(2)
.
تعقّب العينيّ كلام الحافظ هذا باحتمال أنها تلفّظت باللفظين، وأن كون القصّة متّحدةً لا ينافي التكلّم باللفظين
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله العينيّ هو الصواب، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 203.
(2)
"الفتح" 1/ 34.
(3)
"عمدة القاري" 1/ 101.
(اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) ذلك لأن والده صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بنَ عبد المطلب، وورقةَ في عدد النسب إلى قُصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسِنِّه.
(قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟) قال في "الفتح": فيه حذفٌ يدُلُّ عليه سياق الكلام، وقد صُرِّح به في "دلائل النبوة" لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شَدّاد في هذه القصة، قال:"فأتت به ورقة ابنَ عمها، فأخبرته بالذي رأى".
وفي رواية ابن منده في "الصحابة" من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن ورقة بن نوفل، قال: قلت: يا محمد، أخبرني عن هذا الذي يأتيك، قال:"يأتيني من السماء جناحاه لؤلؤ، وباطن قدميه أخضر".
(فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ ما رَآه) وفي نسخة: "خبر ما رآى"، بحذف العائد؛ لكونه فضلةً، وهو كثير في استعمالهم، كما قال في "الخلاصة":
.....................
…
وَالحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي
فِي عَائِدٍ مُتَّصلٍ إِنِ انْتَصبْ
…
بِفِعْلٍ أوْ وَصْفٍ كـ"مَنْ نَرْجُو يَهَبْ"
والمعنى: أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ورقة القصّة التي جرت بينه وبين جبريل عليه السلام، كما سبق بيانه.
(فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ) بالنون: صاحب السرّ، كما جزم به البخاريّ في "أحاديث الأنبياء"، وزعم ابن ظفر أن "الناموس": صاحب سر الخير، و"الجاسوس": صاحب سر الشر، قال في "الفتح": والأول هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقد سَوّى بينهما رؤبة بن العجاج أحدُ فصحاء العرب، والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام. انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قال أبو عبيد في "مصنّفه": الناموس جبريل عليه السلام، وقال المُطَرِّز: قال ابن الأعرابيّ: لم يأتِ في الكلام فاعول، لام فعله سين إلا الناموس، والجاسوس، والجاروس، والفاعوس، والبابوس، والداموس، والقاموس، والقابوس، والغاطوس، والفانوس، والجاموس.
فالناموس: صاحب سرّ الخير، والجاسوس: صاحب سرّ الشرّ، والجاروس: الكثير الأكل، والفاعوس: الحيّة، والبابوس: الصبيّ الرضيع.
وقال غيره: وجاء في شعر ابن الأحمر يذكر ولد الناقة [من البسيط]:
حَنَّتْ قَلُوصِي إِلَى بَابُوسِهَا جَزَعًا
…
وَمَا حَنِينُكِ أَمْ مَا أَنْتِ وَالذِّكَرُ
(1)
قال الهرويّ: لم يُعرف في شعر غيره، والحرف غير مهموز، قال: ومنه حديث كعب: "أن عابد بني إسرائيل مَسَحَ رأس الصبيّ، فقال: يا بابوس
…
"
(2)
.
والداموس: القبر، والقاموس: وَسَطُ البحر، والقابوس: الجميل الوجه، والغاطوس: دابّةٌ يُتشاءم بها، والفانوس: النّمّام، والجاموس: ضربٌ من البقر.
قال ابن دُريد في "الجمهرة": جاموس أعجميّ، وقد تكلّمت به العرب، قال رؤبة يصف نفسه بالشدّة [من الرجز]:
لَيْثٌ يَدُق الأَسَدَ الهَمُوسَا
…
وَالأَقْهَبَيْنِ
(3)
الفِيلَ وَالجَامُوسَا
والجاسوس كلمة عربيّة فاعولٌ من تجسّس، وقال غيره: والحاسوس بالحاء غير معجمة، من تحسّس، وهو بمعنى الجاسوس، وفي "صحيح مسلم":"إن هؤلاء الكلمات بلغن قاعوس البحر"
(4)
.
وقال ابن دُريد في "الجمهرة": الكأبوس: هو الذي يقع على الإنسان في نومه، والناموس: موضع الصائد، وناموس الرجل: صاحب سرّه.
قال القاضي: وحكى الحربيّ عن ابن الأعرابيّ: الناموس: الخدّاعة. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(5)
.
(1)
وفي "اللسان":
حَنَتْ قَلُوصِي إِلَى بَابُوسِهَا طَرَبًا
…
فَمَا حَنِينُكَ أَمْ مَا أَنْتِ وَالذِّكَرُ
(2)
أخرجه الشيخان بنحوه.
(3)
الأقهب: الذي في لونه غُبْرة إلى سواد، وقيل: حمرة فيها غُبرة، وقيل: هو الأبيض الأكدر.
(4)
قال النوويّ: ضبطناه بوجهين: أشهرهما ناعوس بالنون والعين، والثاني: قاموس بالقاف والميم، وذكر عياض أن أكثر نسخ مسلم عندهم فيها: قاعوس بالقاف والعين، وروي تاعوس بالتاء والعين. انتهى.
(5)
"إكمال المعلم" 1/ 639 - 643.
قال الجامع عفا الله عنه: نظمت هذه الألفاظ بقولي:
لَمْ يَأْتِ فِي الكَلَامِ فَاعُولٌ إِذَا
…
يَكُونُ لَامُ فِعْلِهِ سِينًا خُذَا
إِلَّا الَّذِي سُمِعَ كَالنَّامُوسِ
…
جَاسُوسَهُمْ أَلْحِقْهُ بِالحَاسُوسِ
فَاعُوسُهُمْ بَابُوسُهُمْ دَامُوسُ
…
قَامُوسُهُمْ قَابُوسُهُمْ غَاطُوسُ
فَانُوسُهُمْ جَارُوسُهُمْ جَامُوسُ
…
قَاعُوسُهُمْ كَذَلِكَ الكَابُوسُ
فَهَذِهِ الأَلْفَاظُ بِالفَاعُولِ
…
مَوْزُونةٌ فَخُذْ بِلَا ذُهُولِ
وقال النوويّ رحمه الله: "الناموس" - بالنون، والسين المهملة - هو جبريل عليه السلام، قال أهل اللغة، وغريب الحديث: الناموس في اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سرّ الشر، ويقال: نَمَستُ السِّرّ - بفتح النون والميم - أَنْمِسه - بكسر الميم - نَمْسًا؛ أي: كتمته، ونَمَسْتُ الرجل، ونامسته: ساررته، واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يُسَمَّى الناموس، واتفقوا على أنه المراد هنا، وقال الهرويّ: وسُمّي جبريل عليه السلام ناموسًا؛ لأن الله تعالى خصّه بالوحي والغيب. انتهى
(1)
.
(الَّذِي أُنْزِلَ) بالبناء للمفعول، وفي رواية للبخاريّ:"نَزَّل الله"، وفي لفظ:"أنزَلَ الله"(عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم) أشار بقوله: "هذا إلى الملك الذي ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في خبره، ونَزَّله مَنْزِلة القريب؛ لقرب ذكره.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم " كذا هو في "الصحيحين" وغيرهما، وهو المشهور، ورَوَيناه في غير الصحيح: "نزل على عيسى صلى الله عليه وسلم، وكلاهما صحيح. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "على موسى"، ولم يقل: على عيسى، مع كونه نصرانيًّا؛ لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى، وكذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو لأن موسى بُعِثَ بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، كذلك وقعت النقمة على يد النبيّ صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة، وهو أبو جهل بن هشام، ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقًا للرسالة؛ لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى، فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوّته.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 203.
وأما ما تَمَحَّل له السهيليّ، من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى، ودعواهم أنه أحد الأقانيم، فهو محالٌ لا يُعَرَّج عليه في حقّ ورقة وأشباهه، ممن لم يدخل في التبديل، ولم يأخذ عمن بَدَّل.
على أنه قد وَرَدَ عند الزبير بن بَكّار من طريق عبد الله بن معاذ الزهريّ في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى، والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف.
نعم في "دلائل النبوة" لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة، عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أوّلًا أتت ابن عمها ورقة، فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنتِ صَدَقْتِني إنه ليأتيه ناموس عيسى، الذي لا يُعَلِّمه بنو إسرائيل أبناءهم، فعلى هذا فكان ورقة يقول تارةً: ناموس عيسى، وتارةً ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم له قال له: ناموس موسى؛ للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا.
(يَا لَيْتَنِي) قال أبو البقاء العكبريّ: المنادى هنا محذوف، تقديره: يا محمد ليتني كنت حيًّا، نحو قوله تعالى:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ} الآية [النساء: 73]، تقديره: يا قوم ليتني، والأصل أن "يا" إذا وليها ما لا يصلح للنداء، كالفعل في نحو:(ألا يا اسجدوا)، والحرف في نحو:"يا ليتني"، والجملة الاسميّة، في نحو قوله [من البسيط]:
يَا لَعْنَةَ الله وَالأَقْوَامِ كُلِّهِمِ
…
وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ
فقيل: هي للنداء، والمنادى محذوف، وقيل: هي لمجرّد التنبيه؛ لئلا يلزم الإجحاف بحذف الجملة كلها.
وقال ابن مالك في "الشواهد": ظنّ أكثر الناس أن "يا" التي تليها "ليت" حرف نداء، والمنادى محذوف، وهو عندي ضعيفٌ؛ لأن قائل "ليتني" قد يكون وحده، فلا يكون معه منادى، كقول مريم:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم: 23]، وكأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادُّعي فيه حذفه مستعملًا فيه ثبوته، كحذف المنادى قبل أمر، أو دعاء، فإنه يجوز حذفه؛ لكثرة ثبوته ثمّ، فمن ثبوته قبل الأمر قوله تعالى:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم: 12]،
وقبل الدعاء: {يَامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [الأعراف: 134]، ومن حذفه قبل الأمر:"ألا يا اسجدوا" في قراءة الكسائيّ؛ أي: يا هؤلاء اسجدوا، وقبل الدعاء قول الشاعر [من الطويل]:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى البِلَى
…
وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ
أي: يا دارُ اسلمي، فحسّن حذف المنادى قبلها اعتياد ثبوته، بخلاف "ليت"، فإن المنادى لم تستعمله العرب قبلها ثابتًا، فادّعاء حذفه باطلٌ، فتعيّن كون "يا" هذه لمجرّد التنبيه، مثلُ "ألا" في نحو قوله [من الطويل]:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
…
بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ
(1)
(فِيهَا) الضمير يعود إلى أيام النبوة ومدتها، أو في أيام الدعوة، وقوله:(جَذَعًا) يعني: شابًّا قويًّا حتى أبالغ في نصرتك، والأصل في الجذَع للدواب، وهو هنا استعارة.
وقوله: "جَذَعًا" هذه هي الرواية المشهورة في "الصحيحين" وغيرهما بالنصب، قال القاضي عياض: ووقع في رواية ابن ماهان: "جَذَعٌ" بالرفع، وكذلك هو في رواية الأصيلي في البخاريّ، وهذه الرواية ظاهرة، وأما النصب فاختَلَفَ العلماء في وجهه، فقال الخطابيّ، والمازريّ وغيرهما: نُصِب على أنه خبر "كان" المحذوفة، تقديره: ليتني أكونُ فيها جَذَعًا، وهذا يجيء على مذهب النحويين الكوفيين، وقال القاضي: الظاهر عندي أنه منصوبٌ على الحال، وخبر "ليت" قوله:"فيها".
قال النوويّ: وهذا الذي اختاره القاضي، هو الصحيح الذي اختاره أهلُ التحقيق والمعرفة من شيوخنا وغيرهم، ممن يعتمد عليه. انتهى.
وقال في "الفتح": قوله: "يا ليتني فيها جذعٌ" كذا في رواية الأصيليّ، وعند الباقين:"يا ليتني فيها جذعًا" بالنصب على أنه خبر "كان" المقدرة، قاله الخطابيّ، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى:{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} الآية [النساء: 171]، وقال ابن بَرِّيّ: التقدير: يا ليتني جُعِلتُ فيه جَذَعًا، وقيل: النصب على الحال، إذا جُعِلَت "فيها" خبر "ليت"، والعامل في الحال ما يَتَعَلَّق
(1)
وللعينيّ اعتراض على كلام ابن مالك هذا تركته لعدم جدواه. انظر: "عمدته" 1/ 106.
به الخبر، من معنى الاستقرار، قاله السهيليّ، وضمير "فيها" يعود على أيام الدعوة.
و"الجَذُع" - بفتح الجيم والذال المعجمة -: هو الصغير من البهائم، كأنه تَمَنَّى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابًّا، ليكون أمكن لنصره، وبهذا يتبين سِرُّ وصفه بكونه كان كبيرًا أعمى.
(يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ) وفي رواية البخاريّ: "إذ يُخرجك قومك"، بـ "إذ"، قال ابن مالك رحمه الله: فيه استعمال "إذ" في المستقبل كـ"إذا"، وهو صحيح وغَفَلَ عنه أكثر النحاة
(1)
، وهو كقوله تعالى:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} الآية [مريم: 39].
قال الحافظ: هكذا ذكره ابن مالك، وأقرّه غير واحد، وتعقّبه شيخنا شيخ الإسلام - يعني: البلقينيّ - بأن النحاة لم يُغْفِلُوه، بل منعوا وروده، وأوّلوا ما ظاهره ذلك، وقالوا في مثل هذا: استَعْمَلَ الصيغة الدالة على المضيّ؛ لتحقق وقوعه، فأنزلوه منزلته، ويُقَوّي ذلك هنا أن في رواية البخاريّ في "التعبير":"حين يخرجك قومك"، وعند التحقيق ما ادّعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم أولى؛ لِمَا ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضيّ؛ تحقيقًا لوقوعه، أو استحضارًا للصورة الآتية في هذه دون تلك، مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودًا محمولًا على حقيقة الحال، لا على تأويل الاستقبال
(2)
.
وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير؛ لأن ورقة تمنى أن يعود شابًّا، وهو مستحيل عادةً، ويظهر لي أن التمني ليس مقصودًا
(1)
تعقّب الطيبيّ قوله: "غفل عنه أكثر النحاة"، فقال: ليس التنبيه عليه من وظيفتهم، بل من وظيفة أهل المعانيّ، إما وضعًا للآتي موضع الماضي قطعًا بوقوعه، كإخبار الله تعالى عن المستقبل، أو استحضارًا للصورة الآتية في مشاهدة السامع تعجّبًا وتعجيبًا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"أوَ مخرجيّ هم؟ "؛ استبعادًا للإخراج، وتعجّبًا منه. راجع:"الكاشف" 12/ 3721.
(2)
وللعينيّ تعقب على كلام الحافظ هذا، فانظره في:"عمدة القاري" 1/ 107.
على بابه، بل المراد من هذا التنبيهُ على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ ") - بفتح الواو، وتشديد الياء المفتوحة - هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيح المشهور تشديدها، وهو مثل قوله تعالى:{بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22]، وهو جمع مُخْرج، فالياء الأولى ياء الجمع، والثانية ضمير المتكلم، وفتحت للتخفيف؛ لئلا يجتمع الكسرة، والياءان بعد كسرتين، قاله النوويّ.
فـ "هم" مبتدأ مؤخرٌ، و"مُخْرِجِيَّ" خبر مقدم، ولا يجوز العكس؛ لأن مخرجيّ نكرة؛ لأنه اسم فاعل، وإضافته لفظيّة، لا تفيد تعريفًا، ولا تخصيصًا، كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ يُشَابِهِ المُضَافُ "يَفْعَلُ"
…
وَصْفًا فَعَنْ تَنْكِيرِهِ لَا يُعْزَلُ
ولو رُوي "مخرجي" مخفّف الياء على أنه مفرد لجاز جعله مبتدأ، وما بعده فاعلٌ سَدَّ مسدّ الخبر؛ لأن مخرجي معتمد على الاستفهام مسند إلى ما بعده؛ لأنه وإن كان ضميرًا، إلا أنه منفصلٌ، والضمير المنفصل يجري مجرى الاسم الظاهر، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
أَمُنْجِزٌ أَنْتُمُ وَعْدًا وَثِقْتُ بِهِ
…
أَمِ اقْتَفَيْتُمْ جَمِيعًا نَهْجَ عُرْقُوبِ
(2)
وإنما استبعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه؛ لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج؛ لما اشتَمَلَ عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها، وقد استَدَلَّ ابنُ الدَّغِنَةِ بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يُخْرَجُ.
قال السهيليّ رحمه الله: يؤخذ منه شدّةُ مفارقة الوطن على النفس، فإنه صلى الله عليه وسلم سمع قول ورقة: إنهم يؤذونه، ويكذّبونه، فلم يَظْهَر منه انزعاج لذلك، فلمّا ذكر له الإخراج تحركت نفسه لذلك؛ لحب الوطن وإِلْفِه، فقال: "أَوَ مُخْرِجِيَّ
(1)
"الفتح" 1/ 35 - 36.
(2)
راجع: "الكاشف" 12/ 3722، وذكر في "القاموس" أن عرقوب هذا هو ابن صخر، أو ابن معبد بن أسد من العمالقة، أكذب أهل زمانه، وذكر له قصّة، فلتراجع: في مادة عرقب ص 106.
هُمْ؟ "، قال: ويؤيد ذلك إدخال الواو بعد ألف الاستفهام، مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، فأَشْعَر بأن الاستفهام على سبيل الإنكار أو التفجع، ويؤكد ذلك أن الوطن المشار إليه حرم الله، وجوار بيته، وبلدة الآباء من عهد إسماعيل عليه السلام. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون انزعاجه كان من جهة خشية فوات ما أَمَّله من إيمان قومه بالله، وإنقاذهم به من وَضَرِ الشرك، وأدناس الجاهلية، ومن عذاب الآخرة، وليَتِمَّ له المراد من إرساله إليهم، ويحتمل أن يكون انزَعَجَ من الأمرين معًا. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قال ابن مالك رحمه الله: الأصل في قوله: "أو مخرجيّ هم؟ " وفي أمثاله تقديم حرف العطف على الهمزة كما تُقدّم على غيرها من أدوات الاستفهام، نحو:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الآية [آل عمران: 101]، ونحو:{أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} الآية [الرعد: 16]، ونحو:{فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)} [التكوير: 26]، فالأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف كما جيء بعده في أخواتها، فيقال في {أَفَتَطْمَعُونَ} [البقرة: 75]، وفي {أَوَكُلَّمَا} [البقرة: 100]: فأتطمعون، وأكلّما؛ لأن أداة الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، وهي معطوفة على ما قبلها من الجُمَل، والعاطف لا يتقدّم عليه جزء مما عُطف، ولكن خُصّت الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيهًا على أنها أصل أدوات الاستفهام، لأن الاستفهام له صدر الكلام، وقد خولف هذا الأصل في غير الهمزة، وأرادوا التنبيه عليه، دكانت الهمزة بذاك أولى؛ لأصالتها في الاستفهام، وقد غفل الزمخشريّ في معظم كلامه في "الكشّاف" عن هذا المعنى، فادّعى أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوف معطوفًا عليها بالعاطف ما بعده، وفي هذا تكلّف، وحذفٌ في موقع لم يثبت فيه الثبوت على ما سبق في "يا ليتني". انتهى.
وتعقّب الطيبيّ كلام ابن مالك هذا، فقال: والجواب أنه لا يجوز فيما نحن فيه أن يُقدّر تقديم حرف العطف على الهمزة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجيّ
(1)
"الفتح" 12/ 376.
هم؟ " جواب ورد على قوله: "إذ يُخرجك قومك" على سبيل الاستبعاد، والتعجُّب، فكيف يستقيم العطف؟ ولأن هذه جملة إنشائيّة، وتلك خبريّة، والحقّ أن الأصل: أمخرجيّ هم؟، فأريدَ مزيد استبعاد وتعجّب، فجيء بحرف العطف على تقدير: أمعاديّ هم، ومخرجيّ هم؟.
وأما إنكار الحذف في مثل هذه المواضع فمستبعد؛ لأن مثل هذا الحذف من حلية البلاغة، لا سيّما وقد شُحن التنزيل بمثله، على أن الحذف المردود هو ما لا دليل عليه، ولا أمارة قائمة عليه، والدليل هنا وجود العاطف، ولا يجوز العطف على المذكور، فيجب أن يقدّر بعد الهمزة ما يوافق المعطوف؛ تقريرًا للاستبعاد، وشدًّا لعضده. انتهى
(1)
.
(قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ) وفي رواية للبخاريّ: "إلا أوذي"، فذكر ورقةُ أن العلة في ذلك مجيئه له بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه عَلِمَ من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم، فتنشأ العداوة من ثَمّ، وفيه دليل على أن المجيب يُقِيم الدليل على ما يُجيب به إذا اقتضاه.
(وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ) أي: وقت إخراجك، أو وقت إظهار الدعوة، أو وقت الجهاد.
فـ "إن" شرطية، والفعل بعدها مجزوم، زاد في رواية للبخاريّ:"حَيًّا"، ولابن إسحاق:"إن أدركت ذلك اليوم"، يعني: يوم الإخراج.
قال الطيبيّ: يريد الزمان الذي أظهر فيه الدعوة، وعاداه قومه فيه، وقصدوا إيذاءه، وإخراجه. انتهى.
(أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) - بفتح الزاي، وبهمزة قبلها -؛ أي: قويًّا بالغًا، مأخوذ من التأزير، بمعنى التقوية، وأصله من الأَزْر، وهو القوّة، وأنكر القزّاز أن يكون في اللغة مُؤَزَّر، من الأزر، وقال أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته، كما قال الأخطل [من البسيط]:
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ
…
عَنِ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3722.
وقال القاضي عياض رحمه الله: كذا جاءت الرواية "مؤزّرًا" قال بعضهم
(1)
: أصله "مُوَازَرًا"؛ لأنه من وازرتُ؛ أي: عاونتُ، ويقال فيه: آزرتُ، قال: ويحتمل أن الألف سقطت أمام الواو على التأويل؛ إذ لا أصل لـ"مؤزّر" في الكلام.
قال القاضي: وقد ظهر لي أنه صحيحٌ على ما جاءت به الرواية، وأنه أولى، وأليق بالمعنى، والمراد نصرًا قويًّا، مأخوذ من الأَزْر، وهو القوّة، ومنه تأزّر النبتُ: إذا اشتدّ وطال، قال الله تعالى:{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]، قيل: قوّتي، وقيل: ظهري، ولو كان على ما ذهب إليه هذا القائل لكان صواب الكلام "مُوَازِرًا" بكسر الزاي، وبعد أن ظهر لي هذا وجدت معناه مُعلّقًا عن بعض المشايخ، ووجدته للخطابيّ، وهو كلام صحيح. انتهى
(2)
.
[تنبيهات]:
[الأول]: زاد في رواية البخاريّ: "ثُمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أَنْ تُوُفِّيَ، وَفَتَرَ الوَحْيُ". قال في "الفتح": قوله: "لم يَنْشَب " - بفتح الشين المعجمة - أي: لم يَلْبَث، وأصل النُّشُوب: التعلَّق؛ أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات، وهذا بخلاف ما في "السيرة" لابن إسحاق أنّ ورقة كان يَمُرُّ ببلال، وهو يُعَذَّب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام، فإن تمسكنا بالترجيح، فما في الصحيح أصحّ، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: "وفَتَرَ الوحيُ" ليست للترتيب، فلعلّ الراوي لم يَحْفَظ لورقة ذكرًا بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاءَ أمره بالنسبة إلى علمه، لا إلى ما هو الواقع، وفتورُ الوحي عبارة عن تأخره مُدَّةً من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وَجَدَهُ من الرَّوْع، وليحصل له التّشَوُّف إلى العَوْد، فقد روى البخاريّ من طريق معمر، عن الزهريّ ما يدُلّ على ذلك.
[الثاني]: ردّ العلامة ابن القيم رحمه الله بهذه الزيادة - أعني قوله: "ثم لم ينشب ورقة أن توفي" - ما وقع في "السيرة النبوية" لابن إسحاق: أن ورقة كان يَمُرّ ببلال، والمشركون يعذبونه، وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ والله يا
(1)
هو القزاز القيروانيّ.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 646 - 647.
بلال
…
إلخ، فقال: هذا وَهَمٌ؛ لأن ورقة قال: "وإن أدركني يومك حيًّا لأنصرنك نصرًا مؤزرًا"، فلو كان حيًّا عند ابتداء الدعوة، لكان أوّل من استجاب، وقام بنصر النبيّ صلى الله عليه وسلم كقيام عمر وحمزة.
وتعقّبه الحافظ، بأن ورقة إنما أراد بقوله:"فإن يدركني يومك حيًّا أنصرك" اليوم الذي يُخرجونك فيه؛ لأنه قال ذلك عند قوله: "أوَ مخرجيّ هم؟ "، وتعذيب بلال كان في أول الدعوة، وبين ذلك وبين إخراج المسلمين من مكة للحبشة، ثم للمدينة مدةٌ متطاولةٌ، والله تعالى أعلم
(1)
.
[الثالث]: وقع في "تاريخ أحمد بن حنبل" عن الشعبي أن مُدّة فترة الوحي، كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحَكَى البيهقيُّ أن مُدّة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده، وهو ربيع الأول، بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين، وهي ما بين نزول:{اقْرَأْ} [العلق: 1]، و {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] عدمُ مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط.
قال الحافظ: ثم راجحت المنقول عن الشعبى من "تاريخ الإمام أحمد"، ولفظه من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبيّ:"أُنزلت عليه النبوة، وهو ابن أربعين سنة، فقُرِن بنبوّته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يُعَلِّمه الكلمةَ والشيءَ، ولم يَنْزِل عليه القرآن على لسانه، فلما مَضَت ثلاث سنين قُرِن بنبوته جبريل، فنَزَل عليه القرآنُ على لسانه عشرين سنة".
وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرًا، عن داود بلفظ:"بُعِث لأربعين، ووُكِل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وُكِل به جبريل"، فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبتَ - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل: ثلاث عشرة، وقيل: عشر، ولا يتعلّق ذلك بقدر مدّة الفترة، والله أعلم.
وقد حَكَى ابن التين هذه القصّة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقديّ هذه الرواية المرسلة، وقال: لم يُقْرَن به من الملائكة إلا جبريل. انتهى.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 592.
ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مُقَدَّم على النافي، إلا إن صَحِبَ النافي دليلُ نفيه فيُقَدَّم، والله أعلم.
وأخذ السُّهَيليّ هذه الرواية، فجَمَع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أنّ مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مَكَثَ عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة أضافهما، وهذا الذي اعتمده السهيليّ من الاحتجاج بمرسل الشعبيّ لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أيامًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
[الرابع]: زاد البخاريّ في "كتاب التعبير"(6982) من رواية معمر عن الزهريّ بعد قوله: "ثم لم يَنْشَب ورقة أن تُوفِّي، وفتر الوحي" ما نصّه: "فترةً حتى حَزِن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حُزْنًا غَدَا منه مرارًا كي يَتَرَّدى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذِرْوَة جبل لكي يُلقي منه نفسه تَبَدَّى له جبريل، فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا، فيسكن لذلك جَأْشُهُ
(2)
، وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل، تبدى له جبريل، فقال له مثل ذلك".
[تنبيه]: زاد أبو عوانة في "مسنده" في آخر هذا الحديث ما نصّه: قال: فأخبرني عروة بن الزبير، قال: وقد كانت خديجة تُوفّيت قبل أن يُفرض من الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أُريتُ لخديجة بيتًا من قَصَبِ لا سَخَبَ فيه، ولا نصب"، وهو قصب اللؤلوء. انتهى، والله تعالى أعلمَ بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 1/ 36 - 37.
(2)
"الجأش": النفس، فيكون قوله:"وتقرّ نفسه" تأكيدًا.
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[79/ 410 و 411 و 412](160)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(3)، و"أحاديث الأنبياء"(3392)، و"التفسير"(4953 و 4955 و 4956 و 4957)، و"التعبير"(6982)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(9719)، و (أبو داود الطيالسيّ) في "مسنده"(1467)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 232 - 233)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(33)، وأبو عوانة في "مسنده"(327)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(405 و 406 و 407)، وفي "دلائل النبوّة"(1/ 275 - 277)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 135 - 136)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 439 - 440)، و (ابن جرير) في "تفسيره"(30/ 161 - 162)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3735)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناسبته لذكره في أبواب الإيمان من حيث إن الإيمان هو التصديق بالجنان، والقول باللسان،
والعمل بالجوارح والأركان بكلّ ما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الرحمن، وذلك لا يكون إلا عن طريق الوحي، فتأمله بالإيقان.
2 -
(ومنها): التصريح من عائشة عنها بأن رؤيا النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة أقسام الوحي، وهو محلّ وفاق.
3 -
(ومنها): مشروعيّة اتّخاذ الزاد، وأنه لا ينافي التوكّل، فقد اتّخذه سيّد المتوكلين صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): الحضّ على التعليم ثلاثًا بما فيه مشقّة، كما فتل النبيّ صلى الله عليه وسلم أذن ابن عبّاس رضي الله عنهما في إدارته إلى جهة اليمين في الصلاة.
5 -
(ومنها): ما استنبطه منه شُريح القاضي رحمه الله أنه لا يُضرب الصبيّ على القرآن إلا ثلاثًا، كما غطّ جبريل عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثًا.
6 -
(ومنها): بيان كمال كرمه سبحانه وتعالى بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم.
7 -
(ومنها): بيان فضل علم الكتابة؛ لما فيه من المنافع العظيمة التي لا تُحصى؛ إذ بها دُوِّنت العلوم، وقُيِّدت الحِكَم، وضُبطت أخبار الأولين، وحُفظت كُتب الله المنزّلة، واستقامت أمور الدين والدنيا.
8 -
(ومنها): بيان أن أول ما نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وبه يقول الجمهور، قال النوويّ رحمه الله: هذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل: أوله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] وليس بشيء. انتهى.
وأما قول جابر رضي الله عنه الآتي: "فأنزل الله تعالى {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} "، فمحمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، وقيل: إن أول ما نزل الفاتحة، وهو قول شاذّ، لا يُلتفت إليه.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهي أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم، فشرّفه وكرّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البريّة آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهنيّ، ولفظيّ، ورسميّ، والرسميّ يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5]، وفي الأثر:"قيّدوا العلم بالكتابة"
(1)
، وفيه أيضًا:"من عَمِلَ بما عَلم رزقه الله عِلم ما لم يعلم"
(2)
. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(3)
.
9 -
(ومنها): أنه استدلّ به بعض من يقول: إن "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ليست من القرآن في أوائل السور؛ لكونها لم تُذكر هنا، وأجاب المثبتون لها بان البسملة لم تنزل أوّلًا، بل نزلت في وقت آخر، كما نزل باقي السور.
وقال السهيليّ رحمه الله: في قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} دليلٌ من الفقه على
(1)
أخرجه ابن عبد البرّ في "جامع العلم وفضله"(395)، وروي موقوفًا ومرفوعًا، وصححه الشيخ الألباني بمجموع طرقه، راجع:"صحيح الجامع" 2/ 816 (4434)، و"السلسلة الصحيحة" رقم (2026).
(2)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(10/ 14 - 15) بنحوه، وحكم الشيخ الألباني بوضعه في "الضعيفة"(422).
(3)
"تفسير ابن كثير" 14/ 398.
وجوب استفتاح القراءة ببسم الله، غير أنه أمر مبهم، لم يتبيّن له بأي اسم من أسمائه يستفتح حتى جاء البيان بعدُ في قوله تعالى:{بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، ثم في قوله:{وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، ثم بعد ذلك كان ينزل جبريل عليه السلام بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مع كلّ سورة، وقد ثبتت في سواد المصحف بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، وحين نزلت "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" سبّحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمد الجبال، ذكره النقّاش.
وتعقّبه العينيّ رحمه الله، فقال: دعوى الوجوب تحتاج إلى دليل، وكذلك دعوى نزول جبريل عليه السلام بـ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مع كلّ سورة، وثبوتها في سواد المصحف لا يدلّ على وجوب قراءتها، وما ذكره النقّاش في "تفسيره" فقد تكلّموا فيه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الحقّ أنه لا دليل على وجوب قراءتها، بل هي على الاستحباب، ومما يدلّ على عدم الوجوب حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه المصنّف: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
…
" وفيه: "فماذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين
…
" الحديث، وما أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وصححه الترمذيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "سورة من القرآن، ثلاثون آية، تشفع لصاحبها حتى يُغفَر له:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] "؛ إذ لم يبدأها بالبسملة.
والحاصل أن قراءة "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" مستحبّ، لا واجب، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): أن من فَزع لا ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فَزَعه، ومن ثَمّ قال الإمام مالك رحمه الله: إن المذعور لا يلزمه بيعٌ، ولا إقرار، ولا غيره.
11 -
(ومنها): أن مكارم الأخلاق، وخصال الخير سبب للسلامة من
(1)
"عمدة القاري" 1/ 114.
مصارع السوء، وأنواع المكاره، فمن كثر خيره، حسُنت عاقبته، ورُجي له سلامة الدين والدنيا.
12 -
(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه؛ لمصلحة، ولا يعارضه ما أخرجه المصنّف من حديث المقداد رضي الله عنه، مرفوعًا:"إذا رأيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب"؛ لأن هذا فيما إذا كان المدح بباطل، أو يؤدّي إلى باطل، كالعجب، ورؤية النفس.
13 -
(ومنها): أنه ينبغي تأنيس من حصلت له مخافة، وتبشيره، وذكر أسباب السلامة له.
14 -
(ومنها): أن فيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها، وجَزَالة رأيها، وقوّة نفسها، وعَظيم فقهها، فقد جمعت في وصفها للنبيّ صلى الله عليه وسلم جميع أنواع أصول المكارم، وأمهاتها؛ لأن الإحسان إما إلى الأقارب، وإما إلى الأجانب، وإما بالبدن، وإما بالمال، وإما على من يستقلّ بأمره، وإما على غيره.
15 -
(ومنها): جواز ذكر الشخص بالعاهة التي فيه، ككونه أعمى، أو أعرج، أو أشلّ، أو نحو ذلك، وأنه لا يكون من الغيبة المحرّمة، لكن بشرط أن لا يقصد تنقيصه، بل لمجرّد التعريف بها، لاشتهاره بها، وإلى هذا أشار في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَذِكْرُهُ بِالوَصفِ أَوْ بِاللَّقَبِ
…
أَوْ حِرْفَةٍ لَا بَأْسَ إِنْ لَمْ يَعِبِ
16 -
(ومنها): أن من نزل به أمرٌ يُستحبّ أن يُطلِع من يَثِقُ بنصحه، وصحّة رأيه.
17 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن المجيب يقيم الدليل على ما يُجيب به إذا اقتضى المقام؛ فإن خديجة رلمحنها أقامت على قولها: "ما يُخزيك الله أبدًا" دليلًا، وهو قولها: "إنك لتصل الرحم
…
إلخ".
18 -
(ومنها): الإرشاد إلى أن صاحب الحاجة يُقَدِّم بين يديه من يعرف بقدره، ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة رضي الله عنها لورقة: اسمع من ابن أخيك، أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أبلغ في التعليم.
19 -
(ومنها): أنه يؤخذ من قوله: "فغطني الثالثة" أن مَن يريد التأكيد في أمر، وإيضاح البيان فيه ينبغي له أن يكرره ثلاثًا، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم "أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا، حتى تُفْهَم عنه، وإذا أتى على قوم، فسَلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثًا".
قال في "الفتح": ولعل الحكمة في تكرير الإقراء الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث: القول، والعمل، والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد، والأحكام، والقَصَص، وفي تكرير الغطّ الإشارة إلى الشدائد الثلاث التي وقدت له، وهي الحصر في الشِّعب، وخروجه في الهجرة، وما وقع له يوم أُحُد، وفي الإرسالات الثلاث إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث المذكورة، في الدنيا، والبرزخ، والآخرة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
[تنبيه]: قد نظم الحافظ أبو الفضل زين الدين العراقيّ رحمه الله قصة بدء الوحي في "ألفيّة السيرة"، فقال:
حَتَّى إِذَا مَا بَلَغَ الرَّسُولُ
…
الأَرْبَعِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ
وَهْوَ بِغَارٍ بِحِرَاءٍ مُخْتَلِي
…
فَجَاءَهُ بِالوَحْي مِنْ عِنْدِ العَلِي
فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ وَكَانَ قَدْ خَلَتْ
…
مِنْ شَهْرِ مَوْلِدٍ ثَمَانٌ إِنْ ثَبَتْ
وَقِيلَ فِي سَابِعِ عِشْرِي رَجَبِ
…
وَقِيلَ بَلْ فِي رَمَضَانَ الطَّيِّبِ
قَالَ اقْرَأْ وَهْوَ فِي المِرَارِ
…
يُجِيبُ نُطْقًا مَا أَنَا بِقَارِي
فَغَطَّهُ ثَلَاثَةً حَتَّى بَلَغْ
…
الجُهْدَ فَاشْتَدَّ لِذَاكَ وَانْصَبَغْ
أَقْرَأَهُ جِبْرِيلُ أَوَّلَ العَلَقْ
…
قَرَأَهُ كَمَا لَهُ بِهَا نَطَقْ
وَكَوْنُ ذَا الأَوَّلَ فَهْوَ الأَشْهَرُ
…
وَقَيلَ بَلْ يَا أَيُّهَا المُدَّثّرُ
وَقِيلَ بَلْ فَاتِحَةُ الكِتَابِ
…
وَالأَوَّلُ الأَقْرَبُ لَلصَّوَابِ
جَاءَ إِلَى خَدِيجَةَ الأَمِينَهْ
…
يَشْكُو لَهَا مَا قَدْ رَآهُ حِينَهْ
فَثَبَّتَتْهُ إِنَّهَا مُوَفَّقَهْ
…
أَوَّلَ مَا قَدْ آمَنَتْ مُصَدِّقَهْ
ثُمَّ أَتَتْ بِهِ تَؤُمُّ وَرَقَهْ
…
قَصَّ عَلَيْهِ مَا رَأَى فَصَدَّقَهْ
(1)
"الفتح" 8/ 589 "كتاب التفسير" رقم (4954).
فَهْوَ الَّذِي آمَنَ بَعْدُ ثَانِيًا
…
وَكَانَ بَرًّا صَادِقًا مُوَافِيَا
(1)
وَالصَّادِقُ المَصْدُوقُ قَالَ إِنَّهْ
…
رَأَى لَهُ تَخْضُخُا
(2)
فِي الجَنَّهْ
أَقَامَ فِي مَكَّةَ بَعْدَ البِعْثَةِ
…
ثَلَاثَ عَشْرَةَ بِغَيْرِ مِرْيَةِ
وَقِيلَ عَشْرًا أَوْ فَخَمْسَ عَشْرَهْ
…
قَوْلَانِ وَهَّمُوهُمَا بِمَرَّهْ
فَكَانَ فِي صَلَاتِهِ يَسْتَقْبِلُ
…
بِمَكَّةَ القُدْسَ وَلَكِنْ يَجْعَلُ
البَيْتَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَيْضًا
…
فِيمَا أَتَى تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضَا
وَبَعْدَ هِجْرَةٍ كَذَا لِلْقُدْسِ
…
عَامًا وَثُلْثًا أَوْ وَنِصْفَ سُدْسِ
وَحُوِّلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ القِبْلَةُ
…
لِكَعْبَةِ اللهِ وَنِعْمَ الجِهَةُ
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم بأيّ عبادة تعبّد النبيّ صلى الله عليه وسلم في حراء؟:
(اعلم): أن الذي يجب القطع به أن نبيّنا صلى الله عليه وسلم لم يكن قبل البعثة على دين قريش، وأهل الشرك، ولا يجوز اعتقاد خلاف هذا، فقد قطع بهذا أئمة الإسلام، قال الإمام أحمد رحمه الله: من زعمه، فقول سوء، وما حُكي عن بعضهم بخلاف هذا فقد أنكروه، قال في "شرح التحرير": الذي يُقطع به أن هذا القول خطأ، وقال ابن عَقِيل: لم يكن قبل البعثة على دين سوى الإسلام، ولا كان على دين قومه قطّ، بل وُلد مؤمنًا نبيًّا صالحًا على ما كتبه الله تعالى، وعَلِمه من حاله وخاتمته لا بدايته. انتهى
(3)
.
ولكن اختَلفوا هل كان صلى الله عليه وسلم قبل البعثة متعبدًا بشرع أم لا؟ على مذاهب؛ فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا قبل البعثة بشريعة آدم عليه السلام؛ لأنها أول الشرائع، وقيل: بشريعة نوح عليه السلام؛ لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13]، وقيل: بشريعة إبراهيم عليه السلام؛ لقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68]، وقوله:{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}
(1)
وفي نسخة الشرح: "مُوَاتِيًا"، وعليه شرحه الشارح.
(2)
أي تحركًا.
(3)
"شرح الكوكب المنير" 4/ 408 - 409.
[النحل: 123]، قال الواحدي: وهذا هو الصحيح، قال ابن القشيري في "المرشد": وعُزِيَ إلى الشافعيّ، قال الأستاذ أبو منصور: وبه نقول، وحكاه صاحب "المصادر" عن أكثر أصحاب أبي حنيفة، وإليه أشار أبو علي الجبائي.
وقيل: كان متعبدًا بشريعة موسى عليه السلام، وقيل: بشريعة عيسى عليه السلام؛ لأنه أقرب الأنبياء، ولأنه الناسخ لما قبله من الشرائع، وبه جزم الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني كما حكاه عنه الواحدي، وقيل: كان على شرع من الشرائع، ولا يقال: كان من أمة نبي من الأنبياء، أو على شرعه، قال ابن القشيري في "المرشد": وإليه كان يميل الأستاذ أبو إسحاق، وقيل: كان متعبدًا بشريعة كل من قبله من الأنبياء إلا ما نُسِخ منها واندرس، حكاه صاحب "الملخص"، وقيل: كان متعبدًا بشرع، ولكن لا نَدرِي بشرع مَن تعبده الله، حكاه ابن القشيري، وقيل غير ذلك من الأقوال التي يُستبشع حكايتها.
واختار النووي في "الروضة" تبعًا لإمام الحرمين، وابن القشيريّ، وإِلْكِيا، والغزالي، والآمدي، وغيرهم الوقفَ؛ إذ ليس فيه دلالة عقل، ولا ثبت فيه نصّ ولا إجماع، قال ابن القشيري في "المرشد" بعد حكاية الاختلاف في ذلك: وكل هذه أقوال متعارضة، وليس فيها دلالة قاطعة، والعقل يُجَوِّز ذلك، لكن، أين السمع فيه؟. انتهى.
وقال إمام الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها فائدة، بل تجري مَجْرَى التواريخ المنقولة، ووافقه المازري، والماوردي، وغيرهما.
قال الشوكانيّ: وهذا صحيح، فانه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الأمة، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها، وفضلها على غيرها من الملل المتقدمة على ملته، قال: وأقرب هذه الأقوال قول من قال: إنه كان متعبدًا بشريعة إبراهيم عليه السلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم كثير البحث عنها، عاملًا بما بلغ إليه منها، كما يُعرَف ذلك من كتب السير، وكما تفيده الآيات القرآنية من أمره صلى الله عليه وسلم بعد البعثة باتباع تلك الملة، فإن ذلك يُشعر بمزيد خصوصية لها، فلو قدّرنا أنه كان على شريعة قبل البعثة لم يكن إلا عليها. انتهى
(1)
.
(1)
"إرشاد الفحول" 2/ 253 - 255.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول بالتوقّف هو الأرجح؛ لعدم حجة مقنعة، وما ذكروه من الأدلّة فإنها متعارضة متساقطة، على أن الخوض في هذه المسألة ونحوها من فضول الكلام، لا ينبغي شغل الوقت به، إلا أنهم خاضوا كما رأيت، فما وسعنا إلا المشاركة في ترجيح ما يظهر حجته، وقد أشرت إلى هذا في "التحفة المرضية"
(1)
، حيثُ قلت:
وَلَمْ يَكُنْ نَبِيُّنَا مُتَّبِعًا
…
دِينَ قُرَيْشٍ قَبْلَ بَعْثٍ فَاقْطَعَا
بَلْ يَعْبُدُ اللهَ وَلَكِنْ مَا ثَبَتْ
…
نَوْعُ العِبَادَةِ فَصَوِّبْ مَنْ سَكَت
والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[411]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَوَاللهِ لَا يُحْزِنُكَ اللهُ أَبَدًا، وَقَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، أبو بكر الحِميريّ مولاهم، ثقةٌ حافظٌ تغيّر بعد أن عمي، وكان يتشيّع [9](ت 211)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَر) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
(1)
"التحفة المرضيّة في نظم المسائل الأصوليّة على مذهب أهل السنة السنيّة"، وهي (3072) بيتًا.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) هكذا هو في الأصول: "وأخبرني عروة" بالواو، وهو صحيح، والقائل:"وأخبرني" هو الزهريّ، وفي هذه الواو فائدة لطيفة، وقد تقدّمت في مواضع، وهي أن معمرًا سمع من الزهريّ أحاديث، قال الزهريّ فيها: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني عروة بكذا
…
إلى آخرها، فإذا أراد معمر رواية غير الأول قال: قال الزهريّ: وأخبرني عروة، فأتى بالواو ليكون راويًا كما سمع، وهذا من الاحتياط والتحقيق، والمحافظة على الألفاظ والتحرّي فيها، أفاده النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند قوله: "قال: قال الزهريّ: فأخبرني عروة" ما نصه: وقع عند مسلم عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق مثله، لكن فيه:"وأخبرني" بالواو، لا بالفاء، وهذه الفاء معقّبة لشيء محذوف، وكذلك الواو عاطفة عليه، وقد بيّنه البيهقيّ في "الدلائل" حيث أخرج الحديث من وجه آخر عن الزهريّ، عن محمد بن النعمان بن بشير مرسلًا، فذكر قصّة بدء الوحي مختصرةً، ونزول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] إلى قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} [العلق: 2]، وقال محمد بن النعمان: فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، قال الزهريّ: فسمعت عروة بن الزبير يقول: قالت عائشة
…
فذكر الحديث مطوّلًا. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ
…
إلخ) الضمير لمعمر، يعني: أن معمرًا ساق الحديث بمثل لفظ يونس المتقدّم.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ
…
إلخ) بنصب "غير" على الاستثناء، كما قال في "الخلاصة":
وَاسْتَثْنِ مَجْرُورًا بِـ "غَيْرٍ" مُعْرَبَا
…
بمَا لِمُسْتَثْنًى بِـ "إِلَّا" وَجَبَا
وقوله: (فَوَاللهِ لَا يُحْزِنُكَ اللهُ أَبَدًا) أَي: أن معمرًا قال بدل قول يونس: "لا يُخزِيك الله أبدًا" بخاء معجمة، وياء تحتانية:"لا يحزنك الله أبدًا" بالحاء المهملة، والنون، وهو بفتح أوله، وضمّ ثالثه، ثلاثيًّا، أو بضمّ أوله، وكسر
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 204.
(2)
"الفتح" 12/ 371 "كتاب التعبير" رقم (6982).
ثالثه رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَزِنَ حَزَنًا، من باب تَعِبَ، والاسم الْحُزْنُ بالضمّ، فهو حَزِينٌ، ويتعدّى في لغة قُريش بالحركة، يقال: حَزَنَني الأمرُ يَحْزُنُني، من باب قَتَلَ، قاله ثَعْلَبٌ، والأزهريّ، وفي لغة تميم بالألف، ومثّلَ الأزهريّ باسم الفاعل والمفعول في اللغتين على بابهما، ومنع أبو زيد استعمال الماضي من الثلاثيّ، فقال: لا يقال: حَزَنَهُ، وإنما يُستعمل المضارع من الثلاثيّ، فيقال: يَحْزُنُهُ. انتهى
(1)
.
و"الخِزْيُ" بكسر، فسكون: الذّل والهَوَانُ
(2)
، وفي "القاموس": خَزِيَ كرَضِيَ خِزْيًا بالكسر، وخَزًى: وَقَعَ في بليّة وشُهْرة، فذلُّ بذلك. انتهى
(3)
.
و"الحُزنُ": بضمّ، فسكون، و"الحَزَنُ" بالتحريك: الهَمّ
(4)
.
وقوله: (وَقَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَي ابْنَ عَمِّ
…
إلخ) يعني: أن معمرًا أيضًا قال في روايته: "أي ابن عمّ" بدل قول يونس: "أي عمّ"، وقد تقدّم أنه قيل: إن قوله: "عمّ" وَهَمٌ، ولكن الصواب أنه لا وَهَمَ، بل له وجه صحيح، كما أسلفت تحقيقه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية معمر هذه التي أحالها المصنّف رحمه الله أخرجها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(24768)
حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهريّ، فذكر حديثًا، ثم قال: قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة، أنها قالت: أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبّب إليه الخلاء، فكان يأتي حراءً، فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد، ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فتزوّده لمثلها، حتى فَجِئه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أنا بقارئ"، قال: "فأخذني، فغطّني، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني، فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 134.
(2)
"المصباح" 1/ 168.
(3)
"القاموس" ص 1151.
(4)
"القاموس" ص 1071.
فأخذني، فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] حتى بلغ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]"، قال: فرجع بها، تَرْجُف بوادره، حتى دخل على خديجة، فقال: "زمّلوني، زملوني"، فزملوه، حتى ذهب عنه الرَّوْعُ، فقال: "يا خديجة، ما لي؟ " فأخبرها الخبر، قال: "وقد خشيت عليّ"، فقالت له: كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقّ، ثم انطلقت به خديجة، حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصَي، وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأً تنصّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربيّ، فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يَكْتُب، وكان شيخًا كبيرًا، قد عَمِي، فقالت خديجة: أي ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة: ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام، يا ليتني فيها جذعًا، أكون حيًّا حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَ مُخْرِجيَّ هم؟ " فقال ورقة: نعم، لم يأتِ رجل قطّ بما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومُك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنشَب ورقة، أن تُوفي، وفتر الوحي فترةً، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا غَدَا منه مرارًا كي يَتَرَدَّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذِرْوَة جبل لكي يُلقي نفسه منه، تَبَدَّى له جبريل عليه السلام، فقال له: يا محمد، إنك رسول الله حقًّا، فيسكن ذلك جَأْشَهُ، وتَقَرّ نفسه عليه الصلاة والسلام، فيرجع: فإذا طالت عليه، وفتر الوحي غَدَا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبَدَّى له جبريل عليه السلام، فقال له مثل ذلك.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا ساق الإمام أحمد رواية معمر، وفيها هذه الزيادة، "ثم لم يَنْشَب ورقة
…
إلخ"، وهو أيضًا كذلك في، "مصنّف عبد الرزاق" 5/ 321 - 323 رقم (9719)، وهكذا ساقه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:
(6982)
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، (ح) وَحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "أول ما بدئ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم .... " بلفظ أحمد وفيه هذه الزيادة، وهكذا ساقه الإمام ابن حبّان في "صحيحه" (33)، وفيه هذه الزيادة أيضًا.
والظاهر أن المصنّف وقعت له رواية معمر هذه مختصرة دون هذه الزيادة، ومما يؤكّد هذا استثناؤه بقوله: "غير أنه قال
…
إلخ"، فإن قوله: "لا يخزيك الله" وقع عند جميعهم بلفظ: "لا يُخزيك الله" بالخاء المعجمة والزاي، إلا أن في "الفتح" أشار إلى أنه وقع في رواية الكشميهني بالحاء المهملة والنون
(1)
، كما قال المصنّف، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[412]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ"، وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْيهِ: "فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا"، وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقة نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
(1)
راجع: "الفتح" 12/ 375 "كتاب التعبير".
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) - بضمّ العين - ابن عَقَيل - بالفتح - الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقة ثبت، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون تقدّموا في السند الماضي.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ
…
إلخ) الضمير لعُقيل، يعني: أن عقيلًا روى هذا الحديث، عن الزهريّ، وساقه بمثل رواية يُونُسَ وَمَعْمَرٍ، عن الزهريّ. وقوله:(وَلَمْ يَذْكُرْ أَوَّلَ حَدِيثِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ: "أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ") يعني: أنه اختصر الحديث من أوله، فحذفه إلى قوله: "فرجَع إلى خديجة
…
إلخ".
وقوله: (وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قَوْلهِ: "فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا") يعني: أن عُقيلًا وافق يونس في قوله: "لا يُخزيك الله" بالخاء، والياء، بدل قول معمر:"لا يَحزنك الله" بالحاء والزاي.
وقوله: (وَذَكَرَ قَوْلَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمّ، اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) يعني: أنه وافق معمرًا في قوله: "أي ابن عمّ
…
إلخ"، مخالفًا لقول يونس: "أي عمّ
…
إلخ"، هكذا قال، لكن التي من رواية أحمد: "قالت: أي عمّ" مثل رواية يونس، والظاهر أن المصنّف وقع له هكذا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية عُقيل التي أحالها المصنّف هنا، ساقها الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(24681)
حدثنا حجاج، أخبرنا ليث بن سعد، قال: حدثني عُقَيل بن خالد، قال: وقال محمد بن مسلم: سمعت عروة بن الزبير، يقول: قالت عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم: فرجع إلى خديجة يَرْجُفُ فؤاده، فدخل، فقال:"زَمِّلُوني، زملوني"، فزُمِّلَ، فلمّا سُرِّي عنه قال:"يا خديجة، لقد أشفقت على نفسي بلاءً، لقد أشفقت على نفسي بلاءً"، قالت خديجة: أبشر، فوالله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصدق الحديث، وتَصِلُ الرحم، وتَحْمِل الكَلَّ، وتَقْرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد، وكان رجلًا قد تنصّر، شيخًا أعمى، يقرأ الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: أي عَمّ، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي، ماذا
ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي رأى من ذلك، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نُزل على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، يا ليتني أكون حيًّا حين يخرجك قومك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أوَ مخرجيَّ هم؟ " قال: نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به قطّ إلا عُودي، وإن يُدْركني يومك أَنْصُرْك نصرًا مؤزرًا. انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع المآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[413]
(161) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي - قَالَ فِي حَدِيثِهِ: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي، سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاء، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدّثّر: 1 - 5] "، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، قَالَ: ثُمَّ تتَابَعَ الْوَحْيُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 423.
2 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حَرَام السَّلَميّ - بفتحتين - الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تُوفّي بعد السبعين، وهو ابن (94)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
والباقون تقدّموا في أول حديث الباب.
ومن لطائف هذا الإسناد أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة من التابعين على بعض الأقوال، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما -
صحابيّ ابن صحابيّ، غزا تسع عشرة غزوةً، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1540) حديثًا، وبقيّة اللطائف تقدّمت في سند أول الباب، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن) بن عوف، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيَّ) رضي الله عنهما (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هذا نوعٌ مما يَتَكَرَّر في الحديث، ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه قال:"عن جابر، وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، ومعلوم أن جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنهما من مشهوري الصحابة، أشَدُّ شهرة، بل هو أحدُ الستة الذين هم أكثر الصحابة روايةً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجوابه أن بعض الرُّواة خاطب به مَن يَتَوَهَّم أنه يَخْفَى عليه كونه صحابيًّا، فبيّنه إزالة للوهم، واستمرّت الرواية به.
[فإن قيل]: فهؤلاء الرُّواة في هذا الإسناد أئمة جِلّةٌ، فكيف يُتَوَّهم خفاء صحبة جابر رضي الله عنه في حقهم؟.
[فالجواب]: أن بيان هذا لبعضهم كان في حالة صغره، قبل تمكّنه ومعرفته، ثم رواه عند كماله كما سمعه.
قال: وهذا الذي ذكرته في جابر يتكرر مثله في كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم، وجوابه كلِّهِ ما ذكرته. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله، بحثٌ نفيسٌ جدًّا، وأما قوله: "من الستة
…
إلخ"، الصواب من السبعة، وهم الذين جمعتهم في قولي:
المُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عَمَرْ
…
فَأَنَسُ فَزَوْجَةُ الهَادِي الأَبَرْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الخُدْرِيُّ فَهْوَ الآخِرُ
(كَانَ يُحَدِّثُ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير جابر رضي الله عنه، وقوله:(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بيان لمعنى "يُحدّث" - قال في "الفتح": وهو من مراسيل
الصحابة كحديث عائشة رضي الله عنها الماضي؛ لأن جابرًا رضي الله عنه، لم يدركه زمان القصّة، فيحتمل أن يكون سمعها من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من صحابيّ آخر حضرها.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر الاحتمال في "الفتح"، لكن صرّح جابر رضي الله عنه في الرواية التالية بأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزال الاحتمال، حيث ثبت سماعه له منه صلى الله عليه وسلم، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَهُوَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (يُحَدِّثُ) جملة في محلّ نصب على الحال من "رسول الله"، وفي رواية للبخاريّ في "بدء الخلق":"ثم فَتَرَ عنّي الوحي فَتْرَةً"(عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) أي عن احتباسه وعدم تتابعه، وتواْليه في النزول، قال في "الفتح": ودلّ قوله: "عن فترة الوحي"، وقوله:"الملك الذي جاءني بحراء" على تأخّر نزول "سورة المدّثّر" عن {اقْرَأْ}
(1)
. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فِي حَدِيثِهِ: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي) تقدّم الكلام في "فبينا" مستوفًى في شرح المقدّمة، وخلاصته: أن أصلها "بين" الظرفيّة، اشبعت فتحتها، فصارت ألفًا، ويقال أيضًا:"بينما"، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتمّ به المعنى، وجاء كثيرًا اقتران جوابهما بـ "إذ"، و"إذا"، وليس لازمًا، تقول: بينا زيد جالسٌ إذ دخل عليه عمرو، أو: إذا دخل عليه، أو: دخل عليه، ومما دخل عليه "إذا" قوله:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
ومما لم يقترن بهما هذا الحديث حيث قال: (سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاء، فَرَفَعْتُ رَأْسِي) وفي رواية البخاريّ: "فرفعت بصري"، ويؤخذ منه جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له البخاريّ في "كتاب الأدب"، ويُستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة؛ لثبوت النهي عنه.
(فَإِذَا الْمَلَكُ)"إذا" هي الفجائيّة، أي: ففاجأني رؤية الملك (الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ) هو جبريل عليه السلام كما تقدّم، وقوله:(جَالِسًا) بالنصب هكذا على الحال، وفي رواية البخاريّ:"جالس" بالرفع، وهو على تقدير مبتدأ، أي: فإذا صاحب الصوت هو الملك الذي جاءني بحراء، وهو جالس (عَلَى كُرْسِيٍّ) - بضم
(1)
"الفتح" 1/ 37.
الكاف، وكسرها -: السرير، جمعه كَراسيّ
(1)
، وفي رواية يحيى بن أبي كثير الآتية:"فإذا هو على العرش في الهواء"، وفي لفظ:"فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض".
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "على كرسيّ" هذا يُفسّر معنى العرش في الرواية الأخرى، وأنه كالكرسيّ والسرير، وليس بعرش الرحمن، قال الله تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23]، قال أهل اللغة: العرش: السرير، وقيل: سرير الملك. انتهى
(2)
.
(بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ") الظرف متعلّق بصفة لـ "كرسيّ"، أي: كائن بينهما (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَجُئِثْتُ) قال النوويّ رحمه الله: رواه مسلم من رواية يونس، وعُقيل، ومعمر، ثم كلهم عن ابن شهاب، وقال في رواية يونس:"فَجُئِثْتُ" - بجيم مضمومة، ثم همزة مكسورة، ثم ثاء مثلّثة ساكنة، ثم تاء الضمير - وقال في رواية عُقيل، ومعمر:"فَجُثِثْتُ" بعد الجيم ثاءان مثلّثتان، هكذا هو الصواب في ضبط رواية الثلاثة، وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه ضُبِط على ثلاثة أوجه: منهم مَن ضبطه بالهمزة في المواضع الثلاثة، ومنهم مَن ضبطه بالثاء في المواضع الثلاثة، قال القاضي: وأكثر الرواة للكتاب على أنه بالهمز في الموضعين الأوّلين، وهما رواية يونس، وعُقيل، وبالثاء في الموضع الثالث، وهي رواية معمر، قال النوويّ: وهذه الأقوال التي نقلها القاضي كلها خطأٌ ظاهرٌ، فإن مسلمًا رحمه الله، قال في رواية عُقيل: ثم ذكر بمثل حديث يونس، غير أنه قال:"فَجُثِثْتُ منه فَرَقًا"، ثم قال مسلم في رواية معمر: إنها نحو حديث يونس، إلا أنه قال:"فجُثِثْت منه"، كما قال عُقَيل، فهذا تصريح من مسلم بأنّ رواية معمر وعُقيل متفقتان في هذه اللفظة، وأنهما مخالفتان لرواية يونس فيها، فبطل بذلك قولُ مَن قال: الثلاثة بالثاء، أو الهمزة وبطل أيضًا قول مَن قال: إن رواية يونس وعُقيل متفقة، ورواية معمر مخالفة لرواية عُقيل، وهذا ظاهر لا خفاء به ولا شكّ فيه.
قال: وقد ذكر صاحب "المطالع" أيضًا رواياتٍ أُخَر باطلة مُصَحَّفَةً، تركتُ حكايتها؛ لظهور بطلانها.
(1)
"القاموس" ص 513.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 652.
قال: وأما معنى هذه اللفظة، فالروايتان بمعنى واحد، أعني: رواية الهمز ورواية الثاء، ومعناها: فَزِعْتُ، ورُعِبْتُ.
وقد جاء في رواية البخاريّ: "فَرُعِبْتُ"، قال أهل اللغة: جُئِثَ الرجلُ: إذا فَزعَ، فهو مَجْؤوثٌ، قال الخليل والكسائيّ: جُئِثَ، وجُثَّ، فهو مجؤوثٌ، ومَجْثُوثٌ، أي: مذعورٌ، فَزعٌ. انتهى
(1)
.
وفي رواية يحيى بن أبي كثير: "فأخذتني رَجْفةٌ شديدةٌ".
(مِنْهُ) أي: من الملك الجالس على الكرسيّ (فَرَقًا) منصوب على أنه مفعول مطلق لـ "جُثِثتُ" من غير لفظه، كقدت جلُوسًا، وهو بفتحتين مصدر فَرِقَ بكسر الراء، من باب تَعِبَ: إذا خاف وفزع
(2)
. (فَرَجَعْتُ) أي: إلى أهله، ففي رواية يحيى: "فأتيت خديجة، فقلت: دثّروني
…
" (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) أمر من التزميل، أي: التلفيف، فهو بمعنى دثّروني، وفي رواية للبخاريّ: "فقلت: دثّروني" (فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] قال العلماء: "المدثر"، و"المزمل"، و"المتلفف"، و"المشتمل" بمعنى واحد، ثم الجمهور على أن معناه: المدثر بثيابه، وحَكَى الماورديّ قولًا عن عكرمة أن معناه: المدثر بالنبوة وأعبائها.
{قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2] أي: خَوِّف أهل مكة وحَذِّرهم العذاب إن لم يُسْلِموا، وقيل: الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة، وقيل: هو دعاؤهم إلى التوحيد؛ لأنه المقصود بها، وقال الفراء: قُمْ، فَصَلّ، وأْمر بالصلاة {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 3] أي: سَيِّدك، ومالكك، ومُصْلِح أمرك فعَظِّمه، وصِفْهُ بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة أو ولد، وقيل: إنهم قالوا: بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} أي: وَصِفْه بأنه أكبر، قال ابن العربي: وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة، فإنه مراد به التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دونه، ولا تَتّخِذ وليًّا غيره، ولا تعبد سواه، ولا تَرَ لغيره فعلًا إلا له، ولا نعمة إلا منه.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 207.
(2)
"المصباح" 2/ 471 و"القاموس" ص 825.
وقد رُوِي أن أبا سفيان قال يوم أُحُد: اعْلُ هُبَلُ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قولوا: الله أعلى وأجل"، وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها، أذانًا، وصلاةً، وذكرًا بقوله: الله أكبر، وحُمِل عليه لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الوارد على الإطلاق في مواردَ، منها قوله:"تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم"
(1)
، والشرع يقتضي بعرفه ما يقتضي بعمومه، ومن موارده أوقات الإهلال بالذبائح لله؛ تخليصًا له من الشرك، وإعلانًا باسمه في النسك، وإفرادًا لِمَا شُرع منه لأمره بالسفك، وهذا اللفظ "الله أكبرُ" هو المتعبَّد به في الصلاة، المنقول عن النبيّ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
[تنبيه]: الفاء في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} دخلت على معنى جواب الجزاء، كما دخلت في {فَأَنْذِرْ} أي: قُمْ، فأنذر، وقُمْ فكبّر ربك، قاله الزجاج، وقال ابن جني: هو كقولك: زيدًا فاضرب، أي: زيدًا اضرب، فالفاء زائدة. انتهى.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: فيه ثمانية أقوال:
[أحدهما]: أن المراد بالثياب العمل.
[الثاني]: القلب.
[الثالث]: النفس.
[الرابع]: الجسم.
[الخامس]: الأهل.
[السادس]: الخُلُق.
[السابع]: الدين.
[الثامن]: الثياب الملبوسات على الظاهر.
فمن ذهب إلى القول الأول قال: تأويل الآية: وعَمَلك فاصلح، قاله مجاهد، وابن زيد، ورَوَى منصور، عن أبي رَزِين قال: يقول: وعملك فأصلح، قال: وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا: إن فلان (خبيث الثياب، وإذا كان حَسَن العمل قالوا: إن فلانًا طاهر الثياب، ونحوه عن السُّدّيّ، ومنه قول الشاعر [من الرجز]:
(1)
حديثٌ صحيح، رواه أبو داود.
(2)
راجع: "تفسير القرطبيّ" 19/ 62.
لَا هُمَّ إِنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ
…
أَوْذَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
(1)
ومن ذهب إلى القول الثاني قال: إن تأويل الآية: وقلبك فطهّر، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ودليله قول امرئ القيس:[من الطويل]:
أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّلِ
…
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْرِي فَأَجْمِلِي
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ
…
فَسُقَي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
أي: قلبي من قلبك، قال الماورديّ: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه: وقلبك فطهِّر من الإثم والمعاصي، قاله ابن عباس وقتادة، والثاني: وقلبك فطَهِّر من الغَدْر، أي: لا تَغْدِر، فتكون دَنِسَ الثياب، وهذا مروي عن ابن عباس، واستشهد بقول غيلان بن سَلَمَة الثقفيّ [من الطويل]:
فَإِنِّي بِحَمْدِ الله لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ
…
لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ
ومن ذهب إلى القول الثالث قال: تأويل الآية: ونفسك فطَهّر، أي: من الذنوب، والعرب تَكْنِي عن النفس بالثياب، قاله ابن عباس، ومنه قول عنترة [من الكامل]:
فَشَكَكْتُ بِالرُّمْحِ الطَّوِيلِ ثِيَابَهُ
…
لَيْسَ الكَرِيمُ عَلَى القَنَا بِمُحَرَّمِ
وقال امرؤ القيس:
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ
وقال [من الطويل]:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ
…
وَأَوْجُهُهُمْ بِيضُ المَسَافِرِ غُرَّانُ
أي: أنفس بني عوف.
ومن ذهب إلى القول الرابع قال: تأويل الآية: وجسمك فطهّر، أي: عن المعاصي الظاهرة، ومما جاء عن العرب في الكناية عن الجسم بالثياب قول ليلى، وذكرت إبلًا [من الطويل]:
رَمَوْهَا بِأَثْيَابٍ خِفَافٍ فَلَا تَرَى
…
لَهَا شَبَهًا إِلَّا النَّعَامَ المُنَفَّرَا
أي رَكِبُوها، فرَمَوها بأنفسهم.
(1)
ومعنى "أوذم الحجّ": أوجبه، ومعنى "ثياب دُسْم": متلطّخة بالذنوب؛ أي: إنه حجّ، وهو متدنّس بالذنوب.
ومن ذهب إلى القول الخامس قال: تأويل الآية: وأهلك فطهّرهم من الخطايا بالوعظ والتأديب، والعرب تسمي الأهل ثوبًا، ولباسًا، وإزارًا، قال الله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187].
قال الماورديّ: ولهم في تأويل الآية وجهان: أحدهما: معناه: ونساءك فطهِّر باختيار المؤمنات العفائف، والثاني: الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر، في الطهر لا في الحيض.
ومن ذهب إلى القول السادس قال: تأويل الآية: وخُلُقك فَحَسِّن، قاله الحسن، والقرظيّ؛ لأن خُلُق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، وقال الشاعر:
وَيَحْيَى لَا يُلَامُ بِسُوءِ خُلْقٍ
…
وَيَحْيَى طَاهِرُ الأَثْوَابِ حُرُّ
أي: حَسَنُ الأخلاق.
ومن ذهب إلى القول السابع قال: تأويل الآية: ودينك فطَهّر، وفي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم قال:"ورأيت الناس، وعليهم ثياب، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب وعليه إزار يجرُّه"، قالوا: يا رسول الله، فما أوَّلت ذلك؟ قال:"الدين"
(1)
.
ورُوي عن مالك بن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] أي: لا تلبسها على غَدْرة، ومنه البيت المتقدّم:
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى
…
البيت.
يعني بطهارة ثيابهم سلامتهم من الدناءات، ويعني بغُرّة وجوههم تنزيهم عن المحرمات، أو جَمَالهم في الخِلقة، أو كليهما، قاله ابن العربيّ.
وقال سفيان بن عيينة: لا تلبس ثيابك على كَذِب، ولا جَوْر، ولا غَدْر، ولا إثم، قاله عكرمة، ومنه قول الشاعر:
(1)
أخرجه الشيخان بلفظ "القميص"، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيت الناس يُعْرَضون عليّ، وعليهم قُمُصٌ، منها ما يبلغ الثُّدِيّ، ومنها ما دون ذلك، وعُرِض عليّ عمر بن الخطاب، وعليه قميص يَجُرُّه"، قالوا: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين".
......
…
أَوْذَمَ جَحًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
أي: قد دَنَّسها بالمعاصي.
ومن ذهب إلى القول الثامن قال: إن المراد بها الثياب الملبوسات، فلهم في تأويله أربعة أوجه:
[أحدهما]: معناه: وثيابك فَأَنْقِ.
[الثاني]: وثيابك فشَمِّر، وقَصِّر، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة، فإذا انجزت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها، قاله الزجاج، وطاوس.
[الثالث]: وثيابك فطهر من النجاسة بالماء، قاله محمد بن سيرين، وابن زيد، والفقهاء.
[الرابع]: لا تلبس ثيابك إلا من كسب حلال؛ لتكون مُطَهَّرة من الحرام، وعن ابن عباس: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طاهر.
قال ابن العربي بعدما ذكر بعض ما تقدّم: ليس بممتنع أن تُحْمَل الآية على عموم المراد، فيها بالحقيقة والمجاز، وإذا حملناها على الثياب المعلومة الطاهرة، فهي تتناول معنيين:
[أحدهما]: تقصير الأذيال؛ لأنها إذا أُرسلت تَدَنَّست.
[والثاني]: غسلها من النجاسة، وهو ظاهر
(1)
.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد ذكر بعض هذه الأقوال: وقال محمد بن سيرين: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]؛ أي: اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يُطَهِّر ثيابه، قال: وهذا القول اختاره ابن جرير، وقد تَشْمَل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تُطْلِق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس [من الطويل]:
أَفَاطِمُ مَهْلًا بَعْضَ هَذَا التَّدَلُّل
…
وَإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ هَجْرِي فَأَجْمِلِي
وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ
…
فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسَلِ
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن أن الأحسن حمل الآية على هذه
(1)
راجع: "تفسير القرطبيّ" 19/ 61 - 66 "تفسير سورة المدّثّر".
المعاني كلّها، كما سبقت الإشارة في كلام ابن العربيّ، وابن كثير؛ لأنها تحتملها، فحملها على الجميع أولى، والله تعالى أعلم.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5] قرأ الأكثرون بكسر الراء، وقرأ حفص بضمها، وفسّره في الكتاب هنا بالأوثان، وكذا قاله جماعات من المفسرين، والرِّجز في اللغة: العذاب، وسُمِّي الشرك وعبادة الأوثان رِجْزًا؛ لأنه سبب العذاب، وقيل: المراد بالرجز في الآية: الشرك، وقيل: الذنب، وقيل: الظلم، ذكر هذه الأقوال كلها النوويّ.
وقال البخاريّ في "صحيحه": يقال: الرجز: العذاب، قال في "الفتح": هو قول أبي عُبيدة. انتهى.
وقال ابن كثير رحمه الله: قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما: والرجز، وهو الأصنام، فاهجر، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهريّ، وابن زيد: إنها الأوثان، وقال إبراهيم والضحاك:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} : أي: اترك المعصية.
وعلى كل تقدير فلا يَلْزم تَلَبُّسه بشيء من ذلك، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 1]، وقال موسى لأخيه هارون:{اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} قال مجاهد، وعكرمة: يعني الأوثان، دليله قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، قاله ابن عباس، وابن زيد، وعن ابن عباس أيضًا: والمآثمَ فاهجر، أي: فاترك، وكذا رَوَى مغيرة عن إبراهيم النخعيّ قال: الرجز: الإثم، وقال قتادة: الرجز: إِسَاف ونائلة، صنمان كانا عند البيت، وقيل: الرجز: العذاب، على تقدير حذف مضاف، والمعنى: وعمل الرجز فاهجر، أو العمل المؤدي إلى العذاب، وأصل الرجز: العذابُ، قال الله تعالى:{لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ} [الأعراف: 134]، وقال تعالى:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 162]، فسُمِّيت الأوثان رجزًا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب.
وقراءة العامة {الرِّجْزُ} بكسر الراء، وقرأ الحسن، وعكرمة، ومجاهد، وابن مُحَيصن، وحفص عن عاصم:{وَالرُّجْزَ} بضم الراء، وهما لغتان، مثل
الذِّكْر والذُّكْر، وقال أبو العالية والربيع: رَوَينا الرجز بالضم: الصنم، وبالكسر: النجاسة والمعصية، وقال الكسائيّ أيضًا: بالضم: الوَثَن، وبالكسر: العذاب
(1)
.
وقوله: (وَهِيَ الْأَوْثَانُ) هذا التفسير من قول أبي سلمة، كما صرّح به في رواية عُقيل التالية، ولفظه:"وقال أبو سلمة: والرجز: الأوثان".
قال في "الفتح": تفسير الأوثان بالرجز تفسير معنًى، أي: اهجُر الرجز، أي العذاب، وهي الأوثان، وقال الكرمانيّ: فسّر المفرد بالجمع؛ لأنه اسم جنس، وعند ابن مردويه من طريق محمد بن كثير، عن معمر، عن الزهريّ في هذا الحديث: و"الرجز" بضم الراء، وهي قراءة حفص عن عاصم، قال أبو عبيدة: هما بمعنى، ويُروى عن مجاهد، والحسن: بالضمّ اسم الصنم، وبالكسر اسم العذاب. انتهى
(2)
.
(قَالَ: ثمَّ تتَابَعَ الْوَحْيُ) أي: استمرّ نزوله، ولفظ عُقيل:"ثمّ حَمِيَ الوحيُ بَعْدُ وتتابع"، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[79/ 413 و 414 و 415 و 416 و 417](161)، و (البخاريّ) في "بدء الوحي"(4)، و"بدء الخلق"(3238)، و"التفسير"(4923 و 4924 و 4925 و 4926 و 4954)، و"الأدب"(6214)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3325)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(34 و 35)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(329 و 335 و 331 و 332 و 333 و 334 و 335)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(408 و 459 و 415 و 411 و 412)، وفي "دلائل النبوّة"(1/ 278)، و (الطبريّ) في "تفسيره "(29/ 90)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 138 - 155 - 156)، والله تعالى أعلم.
(1)
المصدر السابق 19/ 66 - 67.
(2)
"الفتح" 8/ 547 "كتاب التفسير"، "سورة المدّثّر".
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): بيان انقطاع الوحي عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول قوله عز وجل: {اقْرَأْ} .
2 -
(ومنها): جواز تحدّث الإنسان بما حصل له من المِحن بعد زوالها؛ شكرًا لله تعالى.
3 -
(ومنها): بيان أن أوّل ما نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] بعد نزول {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وهذا هو الصواب؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها نصّ صريح في ذلك.
4 -
(ومنها): جواز رفع البصر إلى السماء عند وجود حادث من قبلها، وقد ترجم له البخاريّ في "كتاب الأدب"، ويدل عليه قوله عز وجل:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)} [الغاشية: 17 - 18]، فقد حثّ الله سبحانه وتعالى على النظر إلى السماء، والتفكّر فيها.
وفيه ردّ على من كره ذلك، كما أخرجه الطبريّ عن إبراهيم التيميّ، وعن عطاء السلميّ أنه مكث أربعين سنة لا ينظر إلى السماء تخشّعًا، وهذا تنطّع غير مرضيّ، فإن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه، فقد كان يرفع رأسه إلى السماء كما في هذا الحديث، وكما في رفعه عند قراءته صلى الله عليه وسلم في الليل لآية {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] الآيات، وغير ذلك، ويُعتذر عن عطاء وغيره بأنه لم تصل إليه هذه السنّة، والله تعالى أعلم.
نعم يُستثنى من ذلك رفع البصر إلى السماء في الصلاة؛ لثبوت النهي عنه، فقد أخرج البخاريّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يَرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم"، فاشتَدّ قوله في ذلك حتى قال:"لَيَنْتَهُنّ عن ذلك، أو لَتُخطَفَنّ أبصارهم".
وأخرج المصنّف، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَيَنْتَهِيَنّ أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء، أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارهم".
ورَوَى ابن السنيّ بإسناد ضعيف، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"أُمِرنا أن لا نُتْبع أبصارنا الكواكب إذا انقَضَّت".
5 -
(ومنها): كرامة جبريل عليه السلام حيث يقدر أن يجلس على كرسيّ في الهواء دون أن يكون تحته شيء من الأعمدة ونحوها.
6 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث تحقيقُ العلم بتصوّر الملائكة على صور مختلفة، وإقدار الله تعالى لهم على التركيب في أيّ شكل شاؤوا من صُور بني آدم وغيرها، وأن لهم صُوَرًا في أصل خِلْقتهم مخصوصة بهم، كلّ منهم على ما خُلق عليه وشُكّل. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): بيان كيفيّة معالجة من أصابه فزع، وهو أن يلفّف بالثوب، ويُصبّ عليه ماء بارد، حيث قال صلى الله عليه وسلم في رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة الآتية:"فَدَثَّرُوني، فصبّوا عليّ ماءً باردًا".
8 -
(ومنها): جواز مناداة الشخص بما هو متلبّسٌ به، كأن يكون نائمًا، فيقال له: يا نائم، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]، وقال:{يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} [المزمل: 1]، فقد نادى الكريم سبحانه وتعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم بما تلبّس به، وعَبّر عنه بصفته ملاطفة في الخطاب، ولم يقل: يا محمد، ويا فلان؛ ليستشعر اللِّين والملاطفة من ربه، ومثله قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه؛ إذ نام في المسجد:"قُمْ أبا تراب"، وكان خرج مغاضِبًا لفاطمة رضي الله عنها، فسقط رداؤه، وأصابه ترابه، وقصّته في "الصحيحين"، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه ليلة الخندق:"قُمْ يا نَومان"، وقصته في "صحيح مسلم".
9 -
(ومنها): وجوب القيام بالدعوة إلى الله تعالى، وإنذار المعرضين وتبشير المطيعين.
10 -
(ومنها): وجوب التكبير في الصلاة، كما حَمَل عليه بعض العلماء قوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 3].
11 -
(ومنها): وجوب تطهير الثياب للصلاة، وقد استدلّ الإمام الشافعيّ رحمه الله: وغيره على ذلك بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]، وقال ابن سيرين، وابن زيد: لا تصلّ إلَّا في ثوب طاهر، قال القرطبيّ:
(1)
"إكمال المعلم" 1/ 652.
وليست عند مالك وأهل المدينة بفرض، وكذلك طهارة البدن، ويدل على ذلك الإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالوجوب هو الحقّ، وأما الاستدلال بمسألة الاستجمار، فغير صحيح؛ لأن الشارع جعل الاستجمار طهارة صحيحة، وإن بقي أثر الخارج؛ تخفيفًا على الناس، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
12 -
(ومنها): تقصير الثوب وعدم إرساله تحت الكعبين؛ لأنه أنقى وأتقى، كما صحّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لشابّ من الأنصار، وقد رَآه يمسّ إزاره الأرض: يا ابن أخي ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربّك
(1)
.
وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إِزْرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك ففي النار"
(2)
.
فقد جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب، وتوعد ما تحته بالنار، فما بال رجال يُرسلون أذيالهم، ويطليون ثيابهم، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم، وهذه حالة الكبر، وقائدة العُجب، وأشدّ ما في الأمر أنهم يَعصُون، ويُنَجِّسون، ويلحقون أنفسهم بمن لم يجعل الله معه غيره، ولا ألحق به سواه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا ينظر الله إلى مَن جَرّ ثوبه خيلاء"، ولفظ "الصحيح":"مَن جَرَ إزاره خيلاء، لم ينظر الله إليه يوم القيامة"، قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إن أحد شقي إزاري يسترخي، إلا أن أتعاهد ذلك منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لست ممن يصنعه خيلاء"، فَعَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي، واستثنى الصدّيق، فأراد الأدنياء إلحاق أنفسهم بالرفعاء، وليس ذلك لهم.
(1)
رواه البخاريّ في "صحيحه" في "المناقب" رقم (3700).
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده" بلفظ (11489):"إِزْرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا حرج، - أو لا جُناح - فيما بينه وبين الكعبين، ما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جرَّ إزاره بطرًا لم ينظر الله إليه"، وأصله في "الصحيح".
13 -
(ومنها): وجوب هجر الأوثان، وسائر المعبودات من دون الله تعالى، ووجوب إخلاص التوحيد لله سبحانه وتعالى.
14 -
(ومنها): بيان فضل الله سبحانه وتعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث أفاض عليه وحيه دون انقطاع حتى فارق الدنيا، قال عز وجل:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[414]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَن، يَقُولُ: أَخْبَرَني جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ثُمَّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِّي فَتْرَةً، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي"، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ"، قَالَ: وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: {وَالرُّجْزَ} الْأَوْثَانُ، قَالَ: "ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ بَعْدُ، وَتتَابَعَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة، وكلهم تقدّموا قبل حديث، سوى الصحابيّ، وأبي سلمة، فقد ذكرا في الحديث الماضي.
وقوله: (فَبَيْنَا أنا) وفي نسخة: "فبينما أنا".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ) وفي نسخة: "ثم ذَكَر بمثل
…
إلخ"، والضمير لعُقيل.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا) بضم الجيم، ثم همزة مكسورة، ثم ثاء مثلّثة، مبنيًّا للمفعول، هو بمعنى "جُثِثْتُ" بثاءين؛ أي: فَزِعتُ وخِفْتُ.
وقوله: (حَتَّى هَويتُ إِلَى الْأَرْضِ") - بفتح الهاء، وفتح الواو - بمعنى سقطت، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: هَوَيْتُ إلى الأرض هكذا في الرواية: "هَوَيْتُ"، وهو صحيح، يقال: هَوَى إلى الأرض، وأهوى إليها لغتان؛ أي:
سَقَطَ، وقد غَلِطَ، وجَهِلَ مَن أنكر "هَوَى"، وزَعَم أنه لا يقال: إلا أهوى. انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: هَوَى الشيءُ: سَقَطَ، كأَهْوَى، وانْهَوَى. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: هَوَى يَهْوِي، من باب ضَرَبَ هُوِيًّا بضمّ الهاء، وفتحها، وزاد ابن القُوطيّة: هَوَاءً بالمدّ: سَقَطَ من أعلى إلى أسفل، قاله أبو زيد وغيره، قال الشاعر:
هُوِيَّ الدَّلْوِ أَسْلَمَهَا الرِّشَاءُ
يُروَى بالفتح، والضمّ، واقتصر الأزهريّ على الفتح، وهَوَى يَهْوِي أيضًا هُوِيًّا بالضمّ لا غيرُ: إذا ارتفع، قال الشاعر:
يَهْوِي مَخَارِمَهَا هُوِيَّ الأَجْدَلِ
وقال الآخر:
وَالدَّلْوُ فِي إِصْعَادِهَا عَجْلَى الهُوِي
وَهَوَت العُقَابُ تَهْوِي هَوِيًّا، وهُوِيًّا: انْقَضَّت على صيد أو غيره ما لم تُرِغْهُ، فإذا أراغته قيل: أهْوَت له بالألف، والإراغة ذهاب الصيد هكذا وهكذا، وهي تتبعه، وهَوَى يَهْوِي: مات، وسَقَطَ في مَهْوَاةٍ من شَرَفٍ هَوِيًّا وهُوِيًّا وهَوَاءً بالمدّ. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: هذا الذي سبق من أن ضبط هَوَى بفتح الواو، من باب ضرب إذا لم يكن بمعنى أحبّ، وإلا فهو بكسر الواو، يقال: هَوِيتُ الشيءَ أَهواه، من باب تَعِبَ: إذا أحببته، وعَلِقتَ به، وهو لا يناسب هنا، فما يوجد في بعض نسخ مسلم مضبوطًا بكسر الواو، فهو غلط، إلا أن يُحمل على لغة طيء الذين يقولون: بَقَى يبقَى، وفَنَى يفنَى بفتح العين في الماضي والمضارع، فتنته، والله تعالى أعلم.
وقوله: ("ثُمَّ حَمِيَ بَعْدُ الوحيُ) - بفتح الحاء المهملة، وكسر الميم - و"الوحيُ" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: جاء كثيرًا.
(1)
"شرح النوويّ" ص 207.
(2)
"القاموس" ص 1211.
(3)
"المصباح" 2/ 643.
وقوله: (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، أي: بعد نزول هذه الآية، وهو ظرف متعلّق بـ "حَمِيَ". قال في "الفتح": فيه مطابقة لتعبيره عن تأخّره بالفتور؛ إذ لم ينتهِ إلى انقطاع كليّ، فيوصف بالضدّ، وهو البرد.
وقوله: (وتتابع ") تأكيد معنويّ لـ "حَمِي"، ويحتمل أن يراد بـ "حَمِي": قَوِي، وبـ "تتابع": تكاثر، ووقع في رواية الكشميهني، وأبي الوقت:"وتواتر"، والتواتر: مجيء الشيء يتلو بعضه بعضًا من غير تخلّل
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "ثم حَمِيَ الوحيُ، وتتابع" الكلمتان هما بمعنًى واحد، فأكَّد أحدهما بالآخر، ومعنى حَمِيَ: كثر نزوله، وقوي أمره، وازداد، من قولهم: حَمِيَتِ النارُ والشمسُ؛ أي: قَوِيَتْ حرارتُها، ومنه حَمِيَ الوَطِيسُ؛ أي: قَوِيَ حرّه واشتدّ، ثم استُعير في الحرب - انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية عُقيل هذه التي أحالها المصنّف على رواية يونس، ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3238)
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا الليث، قال: حدثني عُقَيل، عن ابن شهاب، قال: سمعت أبا سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ثم فَتَرَ عني الوحي فَتْرَة، فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرَفَعْتُ بصري قِبَلَ السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسيّ بين السماء والأرض، فجُثِثت
(3)
منه حتى هَوَيْتُ إلى الأرض، فجئْتُ أهلي، فقلت: زَمِّلوني زملوني، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1، 2] إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5] "، قال أبو سلمة: والرجزُ الأوثانُ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"الفتح" 1/ 38.
(2)
"إكمال المعلم" 1/ 652.
(3)
وقع في رواية أبي ذرّ: "فَجُثِثْتُ" بثاءين، وهو الموافق لرواية مسلم، ووقع في رواية غيره:"فَجُئِثتُ" بهمزة، ثم ثاء مثلّثة، ومعلوم لدى المحقّقين أن أبا ذرّ الهرويّ أتقن من روى صحيح البخاريّ، ولذا اعتمد عليها الحافظ في شرحه "فتح الباري"، فينبغي الاعتماد عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[415]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَاد، نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ، وَقَالَ: "فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5]، قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ، وَهِيَ الْأَوْثَانُ، وَقَالَ:"فَجُئِثْتُ مِنْهُ" كَمَا قَالَ عُقَيْلٌ).
رجال هذا الإسناد: أربعة، كلّهم تقدّموا قريبًا.
وقوله: (بِهَذَا الإسْنَادِ) أي: بإسناد الزهريّ الماضي، وهو: عن أبي سلمة، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وقال: (وَقَالَ: "فَأَنْزَلَ اللهُ
…
إلخ) الضمير لمعمر، يعني: أن معمرًا خالف يونس، وذلك أن يونس ساق الآيات كلّها، وأما معمر، فقال: إلى قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} ، وزاد:"قبل أن تُفرض الصلاة".
وقوله: (قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَاةُ) يعني: أن هذه الواقعة كانت قبل أن يَفرض الله تعالى الصلوات الخمس؛ لأن فرضها كان ليلة الإسراء، وذلك بعد البعثة بخمس سنين.
وقال في "الفتح": وكأنه أشار بقوله: "قبل أن تُفرض الصلاة" إلى أن تطهير الثياب كان مأمورًا به قبل أن تُفرض الصلاة. انتهى.
وقوله: (وَهِيَ الْأَوْثَانُ) هذا من قول أبي سلمة رحمه الله، كما صُرّح به في الرواية التي قبله.
وقوله: (فَجُثِثْتُ مِنْهُ) يعني بثاءين مثلثتين، مبنيًّا للمفعول، كما سبق في رواية عُقيل بن خالد التي قبله.
[تنبيه]: رواية معمر هذه التي أحالها المصنّف على رواية يونس ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4925)
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، (ح) وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال الزهري: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما -
قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُحَدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: "فبينا أنا أمشي، إذ سمعت صوتًا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض، فجُثِثت
(1)
منه رعبًا، فرَجَعْت، فقلت: زمّلوني زملوني، فَدَثَّروني، فأنزل الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} [المدثر: 5] "، قبل أن تُفْرَض الصلاة، وهي الأوثان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[416]
(
…
) - (وَحَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِم، حَدَّثنَا
(2)
الْأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]، فَقُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ} ، فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ: أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]، فَقُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ} ، قَالَ جَابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:"جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي، نَزَلْتُ، فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي، فَنُودِيتُ، فَنَظَرْتُ أَمَامِي، وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَنَظَرْتُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَاِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ - يَعْني: جِبْرِيلَ عليه السلام فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 1 - 4] ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
(1)
هكذا وقع في رواية أبي ذرّ: "فَجُثثتُ" بثاءين، وهو الموافق لرواية مسلم، ووقع في رواية غيره:"فجُئِثت" بهمزة، ثم ثاء؛ فَلْيُتَنَبَّه.
(2)
وفي نسخة: "حدّثني".
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العبّاس الدمشقيّ، ثقة، يدلّس تدليس التسوية [8](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
3 -
(الْأَوْزَاعِيُّ) هو: عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عَمرو الفقيه، ثقةٌ ثبت إمام [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(يَحْيَى) بن أبي كثير الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقة ثبتٌ، يدلّس، ويُرسل [5](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(قَالَ) الأوزاعيّ (سَمِعْتُ يَحْيَى) بن أبي كثير (يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف (أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟) هي من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها، كما سبق قريبًا في "بَعْدُ"، أي: في أول الأمر، وفي رواية البخاريّ: أي القرآن أُنزل أول؟. (قَالَ) أبو سلمة: أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] قال يحيى بن أبي كثير: (فَقُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ} أي: بل الأول سورة {اقْرَأْ} ، فـ "أو" بمعنى "بل" الإضرابيّة.
وفي رواية البخاريّ من طريق حرب بن شدّاد، عن يحيى:"فقلت: أُنبئت أنه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وفي رواية أبي داود الطيالسيّ، عن حرب: "قلت: إنه بلغني أنه أول ما نَزَل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ".
قال في "الفتح": ولم يُبَيِّن يحيى بن أبي كثير مَن أنبأه بذلك، ولعله يريد عروة بن الزبير، كما لم يبيّن أبو سلمة مَن أنبأه بذلك، ولعله يريد عائشة، فإن الحديث مشهور عن عروة، عن عائشة كما تقدم من طريق الزهريّ عنه مُطَوَّلًا. انتهى.
(فَقَالَ) أبو سلمة (سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] هذا محمول على أن المراد بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، بدليل قوله:"فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسيّ بين السماء والأرض"، أو مخصوصة بالأمر بالإنذار، لا أن
المراد أنها أولية مطلقة، فيُحمل قول من قال: أول ما نزل {اقْرَأْ} على أنه أراد أولية مطلقة، ومن قال: إنها المدثر أراد بقيد التصريح بالإرسال.
قال الكرمانيّ: استَخْرَج جابر أول ما نزل {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1] باجتهاد، وليس هو من روايته، والصحيح ما وقع في حديث عائشة رضي الله عنها.
وقيل: يحتمل أن تكون الأولية في نزول {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} بقيد السبب، أي: هي أول ما نزل من القرآن بسببٍ مُتَقَدِّمٍ، وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرُّعْب، وأما {اقْرَأْ} فنزلت ابتداءً بغير سبب متقدم، ولا يخفى بُعْدُ هذا الاحتمال، ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: القول بأن أول ما أُنزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} ضعيف، بل باطل، والصواب أن أول ما أنزل على الإطلاق {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] كما صُرِّح به في حديث عائشة رضي الله عنها، وأما {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} فكان نزولها بعد فترة الوحي، كما صُرِّح به في رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه. والدلالة صريحة فيه في مواضع، منها: قوله: "وهو يحدِّث عن فترة الوحي"
…
إلى أن قال: "فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} "، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا الملك الذي جاءني بحراء"، ثم قال:"فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} "، ومنها: قوله: "ثم تتابع الوحي"، يعني: بعد فترته، فالصواب أن أوّلَ ما نَزَل {اقْرَأْ} ، وأن أول ما نَزَل بعد فترة الوحي {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} ، وأما قول من قال من المفسرين: إنّ أول ما نزل الفاتحة، فبطلانه أظهر من أن يُذْكَر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وفي أول سورة نزلت قول آخرُ نُقِل عن عطاء الخراسانيّ قال: "المزمل" نزلت قبل "المدثر"، وعطاءٌ ضعيف، وروايته مُعْضَلَةٌ؛ لأنه لم يثبت لقاؤه لصحابي معين، وظاهر الأحاديث الصحيحة تدلّ على تأخُّر المزمل؛ لأن فيها ذكر قيام الليل وغير ذلك مما تراخى عن ابتداء نزول الوحي، بخلاف المدثر، فإن فيها {قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 2].
(1)
"الفتح" 8/ 546.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 207 - 208.
وعن مجاهد: أول سورة نزلت {ن وَالْقَلَمِ} [القلم: 1]، وأول سورة نزلت بعد الهجرة {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)} [المطففين: 1]، وهذا أيضًا ضعيف.
(فَقُلْتُ: أَوِ {اقْرَأْ}، قَالَ جَابِرٌ) رضي الله عنه (أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا) وفي مرسل عُبيد بن عُمير ما يدلّ على أنه شهر رمضان (فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي) بكسر الجيم مصدر جاور، يقال: جاور جِوَارًا، ومجاورةً، قال في "الخلاصة":
لِفَاعَلَ الفِعَالُ وَالمُفَاعَلَهْ
…
وَغَيْرُ مَا مَرَّ السَّمَاعُ عَادَلَهْ
(نَزَلْتُ) أي: من جبل حراء (فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي) أي: صِرتُ في باطنه (فَنُودِيتُ) أي: ناداني الملك (فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَنَظَرْتُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ، فَرَفَعْتُ رَأسِي) أي: إلى السماء (فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ) وفي رواية على بن المبارك التالية: "فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ"، و"إذا" هي الفُجائيّة، والمراد بالعرش هو الكرسيّ الذي سبق في الرواية الماضية، قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل: سرير الملك، قال الله تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23](فِي الْهَوَاءِ) بالمدّ، ويُكتب بالألف: هو الجَوّ الذي بين السماء والأرض، والهواء: الخالي، قال الله تعالى:{وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]، وقوله:(- يَعْنِي جِبْرِيلَ عليه السلام) هذه العناية من بعض الرواة، ويحتمل أن تكون من جابر رضي الله عنه أو من دونه، والله تعالى أعلم (فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ) بفتح الراء، وسكون الجيم: المرّة من الرّجف، يقال: رَجَفَ الشيءُ رَجْفًا، من باب نصر، ورَجِيفًا، ورَجَفَانًا: إذا تحرّك، واضطرب.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فأخذتني رَجْفة شديدة" هكذا هو في الروايات المشهورة: "رَجْفة" بالراء، قال القاضي: ورواه السمرقنديّ: "وَجْفَة" بالواو، وهما صحيحان، متقاربان، ومعناهما الاضطراب، قال الله تعالى:{قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)} [النازعات: 8]، وقال تعالى:{يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)} [النازعات: 6]، وقال:{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} الآية [المزمل: 14]. انتهى
(1)
.
(فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ) رضي الله عنها (فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي) هو بمعنى زمّلوني، أي: لَفّفوني
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 208.
(فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً) هكذا رواية المصنّف بصيغة الماضي، وفي رواية البخاريّ:"وصُبُّوا عليّ ماءً باردًا"، فيكون معنى ما هنا أنه أمرهم بالصبّ، فصبّوا عليه، وفيه أنه ينبغي أن يُصَبّ على الفَزع الماء؛ ليسكن فَزَعه
(1)
.
(فَأنزَلَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزّمّل: 1 - 4] ") تقدّم شرح الآيات مفصّلًا قريبًا، فلا تنسَ.
[تنبيه]: استشكل في "الفتح" رواية يحيى هذه، فقال: والمشكل من رواية يحيى بن أبي كثير قوله: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قَضَيتُ جواري نزلت، فاستبطنت الوادي، فنوديت
…
إلى أن قال: فرفعت رأسي، فإذا هو على العرش في الهواء - يعني: جبريل - فأتيت خديجة، فقلت: دَثِّروني".
قال: ويزيل الإشكال أحد أمرين: إما أن يكون سقط على يحيى بن أبي كثير وشيخه من القصة مجيء جبريل بحراء بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وسائر ما ذكرته عائشة رضي الله عنها، وإما أن يكون جاور صلى الله عليه وسلم بحراء شهرًا آخر، فقد تقدم أن في مرسل عُبيد بن عُمير عند البيهقيّ أنه كان يجاور في كل سنة شهرًا، وهو رمضان، وكان ذلك في مُدّة فترة الوحي، فعاد إليه جبريل بعد انقضاء جواره. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تخريج الحديث، وفوائده تقدّمت قريبًا، فلا حاجة إلى إعادتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[417]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَك، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ
(3)
: "فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ").
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 208.
(2)
"الفتح" 8/ 546 "كتاب التفسير" رقم (4924).
(3)
وفي نسخة: "قال: فإذا هو".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، أبو موسى البصريّ، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) وهو أحد المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الكتب الستّة بلا واسطة، وقد تقدّم غير مرّة.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس بن لَقِيط العبديّ، أبو محمد، وقيل: أبو عديّ، وقيل: أبو عبد الله البصريّ، قيل: أصله من بخارى، ثقة [9].
رَوَى عن ابن عون، وكَهْمس بن الحسن، وأبي مَعْشر السِّنديّ، ويونس بن يزيد الأيليّ، وإسرائيل بن يونس، ومعاذ بن العلاء، وفُليح بن سليمان، وابن أبي ذئب، وشعبة، وعلي بن المبارك، وداود بن قيس الفراء، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد، وإسحاق، وبُندار، وأبو موسى، وعبد الله بن محمد المُسْنَديّ، وأحمد بن سعيد الدارمي، وإبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب، وحجاج بن الشاعر، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وابن سعد: ثقة، وقال العجليّ: ثقة ثبت في الحديث، وقال أبو حاتم: صدوق، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن قانع: صالح، وقال البخاريّ في "تاريخه": قال عليّ: احتَجّ يحيى بن سعيد بكتاب عثمان بن عمر بحديثين، عن أسامة، عن عطاء، عن جابر:"عرفةُ كلها موقف".
قال عمرو بن علي، وغير واحد: مات سنة (209) في ربيع الأول، وقيل: سنة (7)، وقيل: سنة (8).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
3 -
(عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ) الهُنَائِيُّ - بضم الهاء، وتخفيف النون الممدودة - البصريّ، ثقة، في حديث الكوفيين عنه شيء، من كبار [7].
رَوَى عن عبد العزيز بن صهيب، وأيوب، وهشام بن عروة، ويحيى بن أبي كثير، وحسين المعلم، ومحمد بن واسع، والحسن بن مسلم العبدي، وغيرهم.
وروى عنه وكيع، والقطان، وابن المبارك، وابن علية، ومسلم بن قتيبة، ويحيى بن كثير العنبري، ومحمد بن عباد الهنائي، وهارون الخزاز، وغيرهم.
قال صالح بن أحمد عن أبيه: ثقة، كانت عنده كتبٌ عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض. وقال الدُّوري عن ابن معين: قال بعض البصريين: عَرَض علي بن المبارك على يحيى بن أبي كثير عَرْضًا، وهو ثقة، وليس أحد في يحيى مثل هشام الدستوائي والأوزاعي، وهو بعدهما. وقال يعقوب بن شيبة: علي والأوزاعي ثقتان، والأوزاعي أثبتهما، ورواية الأوزاعي عن الزهري خاصة فيها شيء، ورواية علي عن يحيى بن أبي كثير فيها وَهَاء. وقال ابن المديني: قال يحيى - يعني: القطان -: كان عنده كتاب واحد سمعه من يحيى، والآخر تركه عنده، قيل له: فرواية يحيى بن سعيد عنه؟ قال: لم يسمع منه يحيى إلا ما سمعه من يحيى. قال يعقوب بن شيبة: وسمعت علي بن عبد الله يقول: علي بن المبارك أحب إليَّ من أبان. وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وقال أيضًا: كان عنده كتابان: كتاب سماع، وكتاب إرسال، قلت لعباس العنبري: كيف يُعْرَف كتاب الإرسال؟ قال: الذي عند وكيع عنه، عن عكرمة، من كتاب الإرسال، وكان الناس يكتبون كتاب السماع. وقال النسائي: ليس به بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان ضابطًا متقنًا. وقال ابن عَمّار عن يحيى بن سعيد: أما ما رويناه نحن عنه فما سمع، وأما ما رَوَى الكوفيون عنه، فمن الكتاب الذي لم يسمعه. وقال ابن عديّ: ولعليّ أحاديث، وهو ثَبْتٌ في يحيى، متقدم فيه، وهو عندي لا بأس به. ووثقه ابن المديني، وابن نمير، والعجلي.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث.
[تنبيه]: رواية عليّ بن المبارك هذه التي أحالها المصنّف على رواية الأوزاعيّ ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4922)
حدثنا يحيى
(1)
، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن، عن أول ما نزل من القرآن، قال:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} [المدثر: 1]، قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن
(1)
هو أبو جعفر يحيى بن موسى البلخيّ، المعروف بخَتّ.
ذلك، وقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر: لا أحدثك إلا ما حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"جاورت بحراء، فلما قضيت جِوَاري هَبَطتُ، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئًا، ونظرت أمامي، فلم أرَ شيئًا، ونظرت خلفي، فلم أرَ شيئًا، فرفعت رأسي، فرأيت شيئًا، فأتيت خديجة، فقلت: دَثّروني، وصُبُّوا عليّ ماءً باردًا، قال: فدَثروني، وصَبُّوا عليّ ماءً باردًا، قال: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)} [المدثر: 1 - 3] "، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(80) - (بَابُ الإسْرَاءِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاوَات، وَفَرْضِ الصَّلَوَاتِ)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[418]
(162) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِت الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاق، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَار، وَدُونَ الْبَغْل، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِه، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِس، قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكعَتَيْن، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاء، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أنتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لنا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ويَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا، فَرَحَّبَا
وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي
(1)
إِلَى السَّمَاءِ الثالِثَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْن، فَرَحَّبَ
(2)
وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
(3)
قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِليْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عز وجل {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟
(4)
قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ صلى الله عليه وسلم فَرَحَّبَ
(5)
وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عز وجل، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ
(6)
: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُور، وَإذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْه، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَة، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَال، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى
(7)
، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ
(1)
وفي نسخة: "ثم عرج بنا".
(2)
وفي نسخة: "فرحّب بي".
(3)
وفي نسخة: "قيل: من أنت؟ ".
(4)
وفي نسخة: "فقيل: من هذا؟ ".
(5)
وفي نسخة: "فرحّب بي".
(6)
وفي نسخة: "قال".
(7)
وفي نسخة: "فأوحى إليّ ما أوحى".
عَلَى أمّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ
(1)
التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أمّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أمّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى، وَبَيْنَ مُوسَى عليه السلام حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ
(2)
صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُليّ، صدوق، يَهِمُ، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
[تنبيه]: فَرّوخ - بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة -: اسم عجميّ، ولذا لا ينصرف؛ للعلميّة والعجمة.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابتٍ، وتغيّر حفظه بآخره، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتٌ الْبُنَانِي) هو ثابت بن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4](ت سنة بضع ومائة وعشرين)، وله (86) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
(1)
وفي نسخة: "فسله".
(2)
وفي نسخة: "فتلك خمسون".
[تنبيه]: "البُنانيّ" - بضمّ الموحّدة، ونونين مخفّفين -: منسوب إلى قبيلة معروفة
(1)
.
4 -
(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) بن النضر الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، مات سنة (92 أو 93) وقد جاوز مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد وهو (14) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو، وأبو داود، والنسائيّ، وحماد بن سلمة، قد علّق له البخاريّ، بل قيل: روى عنه حديثًا واحدًا في "كتاب الرقاق".
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريّين، وشيبان أُبُلّيّ - بضمتين، وتشديد اللام - قرية من قرى البصرة.
4 -
(ومنها): أن حماد بن سلمة أثبت من روى عن ثابت، وثابتٌ ألزم أصحاب أنس رضي الله عنه له، فقد قيل: إنه لازمه أربعين سنة.
5 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه، من المكثرين السبعة رضي الله عنهم، فقد روى (2286) حديثًا، وهو ممن نال الكرامة بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خدمه عشر سنين، ودعا له بالبركة، فنال ذلك، وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة، وقد عُمِّر أكثر من مائة سنة رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ) بالبناء للمفعول (بِالْبُرَاقِ) - بضم الباء الموحدة - قال أهل اللغة: "البُرَاق": اسم الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء.
قال الزبيديّ في "مختصر العين"، وصاحب "التحرير": هي دابة كان الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - يركبونها.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 210.
قال النوويّ: وهذا الذي قالاه، من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح.
قال الجامع عفا الله عنه: سيأتي ما يُثبت ذلك من النقل - إن شاء الله تعالى - قريبًا.
قال ابن دُرَيد: اشتقاق البراق من البَرْق - إن شاء الله تعالى - يعني: لسرعته، وقيل: سُمِّي بذلك؛ لشدة صفائه، وتلألئه، وبريقه، وقيل: لكونه أبيض.
وقال القاضي عياض: يحتمل أنه سمِّي بذلك؛ لكونه ذا لونين، يقال: شاة بَرْقاء، إذا كان في خلال صوفها الأبيضِ طاقاتٌ سُودٌ، قال: ووُصف في الحديث بأنه أبيض، وقد يكون من نوع الشاة البَرْقاء، وهي معدودة في البيض، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقال في "الفتح": و"البُرَاق" - بضم الموحدة، وتخفيف الراء -: مشتقّ من البَريق، فقد جاء في لونه أنه أبيض، أو من البَرق؛ لأنه وصفه بسرعة السير، أو من قولهم: شاةٌ بَرْقاء: إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سُودٌ، ولا ينافيه وصفه في الحديث بأن البراق أبيض؛ لأن البرقاء من الغنم معدودة في البياض، ويحتمل أن لا يكون مشتقًّا. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قيل: الحكمة في الإسراء به صلى الله عليه وسلم راكبًا، مع القدرة على طيّ الأرض له إشارة إلى أن ذلك وقع تأنيسًا له بالعادة في مقام خرق العادة؛ لأن العادة جرت بأن الملك إذا استَدْعَى من يختص به يَبْعَث إليه بما يركبه
(3)
.
(وَهُوَ) أي: البراق (دَابَّةٌ أَبْيَضُ) ذكّر وصفه باعتبار كونه مركوبًا، أو نظرًا للفظ البراق.
والحكمة في كونه بهذه الصفة الإشارة إلى أن الركوب كان في سِلْم وأَمْن، لا في حرب وخوف، أو لإظهار المعجزة بوقوع الإسراع الشديد بدابة لا توصف بذلك في العادة.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 210 - 211.
(2)
"الفتح" 7/ 246.
(3)
"الفتح" 7/ 246 "كتاب المناقب" رقم (3888).
(طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَار، وَدُونَ الْبَغْلِ) الظرف متعلّق بصفة بعد الصيم لـ "دابّة"، أو بحال منه (يَضَعُ حَافِرَهُ) واحد حوافر الدابّة، وقد يُستعار للقدم كما في قول الشاعر [من الطويل]:
فَمَا بَرِحَ الوِلْدَانُ حَتَّى رَأَيْتُهُ
…
عَلَى البَكْرِ يَمْرِيهِ بِسَاقٍ وَحَافِرِ
قاله في "الصحاح"
(1)
.
(عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ) أي: عند نهاية نظرها، فـ "الطَّرْفُ" - بفتح، فسكون -: مصدرُ طَرَفَ، يقال: طَرَفَ البَصَرُ طَرْفًا، من باب ضَرَبَ: تحرّك، وطَرْفُ العين: نَظَرُها، ويُطلق على الواحد وغيره؛ لأنه مصدرٌ، قاله الفيّوميّ
(2)
، وفي رواية النسائيّ:"خَطْوُها عند منتهى طَرْفِها"، والخَطْو بالفتح مصدر خطأ يخطو: إذا مشى.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أبي يعلى والبزَّار: "إذا أتى على جبل ارتفعت رجلاه، وإذا هَبَط ارتفعت يداه"، وفي رواية لابن سعد، عن الواقديّ بأسانيده:"له جناحان"، قال الحافظ: ولم أرَها لغيره، وعند الثعلبيّ بسند ضعيف، عن ابن عباس في صفة البراق:"لها خَدّ كخدّ الإنسان، وعَرْف كالفرس، وقوائم كالإبل، وأظلاف وذَنَب كالبقر، وكان صدره ياقوتة حمراء".
قيل: ويؤخذ من ترك تسمية سير البراق طيرانًا أن الله إذا أكرم عبدًا بتسهيل الطريق له، حتى قطع المسافة الطويلة في الزمن اليسير أن لا يَخرُج بذلك عن اسم السفر، وتجري عليه أحكامه.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: خُصَّ البراق بذلك إشارة إلى الاختصاص به؛ لأنه لم يُنقَل أن أحدًا ملكه، بخلاف غير جنسه من الدواب، قال: والقدرة كانت صالحة لأن يصعد بنفسه من غير براق، ولكن ركوب البراق كان زيادةً له في تشريفه؛ لأنه لو صَعِدَ بنفسه لكان في صورة ماشٍ، والراكب أعزّ من الماشي.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَكِبْتُهُ) أي: البراق (حَتَّى أتيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ) فيه لغتان مشهورتان غايةَ الشهرة:
(1)
"صحاح الجوهريّ" 2/ 550.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 371.
[إحداهما]: بفتح الميم، وإسكان القاف، وكسر الدال المخففة.
[والثانية]: بضم الميم، وفتح القاف، والدال المشددة، قال الواحديّ: أما مَن شَدَّده، فمعناه المُطَهَّر، وأما مَن خَفّفه، فقال أبو عليّ الفارسيّ: لا يخلو إما أن يكون مصدرًا أو مكانًا، فان كان مصدرًا، كان كقوله تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] ونحوه من المصادر، وإن كان مكانًا، فمعناه بيت المكان الذي جُعِل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها، وقال الزجاج: البيت المقدَّس: المطَهَّر، وبيت المقدس؛ أي: المكان الذي يُتطهَّر فيه من الذنوب، ويقال فيه أيضًا: إيلياء
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَبَطْتُهُ) بفتح الموحّدة، يقال: رَبَطته رَبْطًا، من بابي ضرب ونَصَرَ: إذا شددته، والرِّباط بالكسر: ما تُربط به القربة وغيرها، والجمع رُبُط، مثلُ كتاب وكُتُبٍ، قاله الفيّوميّ
(2)
. (بِالْحَلْقَةِ) بإسكان اللام، على اللغة الفصيحة المشهورة، وحَكَى الجوهريّ وغيره فتح اللام أيضًا، قال الجوهريّ: حَكَى يونس، عن أبي عمرو بن العلاء حَلَقَة بالفتح، وجمعها حَلَقٌ، وحَلَقَات، وأما على لغة الإسكان، فجمعها حَلَق وحِلَق، بفتح الحاء وكسرها، قاله النوويّ
(3)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "الحَلْقَةُ": كلُّ شيء استدار، كحلقة الحديد والفضّة والذهب، وكذلك هو في الناس، والجمع حِلاق بالكسر على الغالب، وحِلَق بكسر، ففتح، على النادر، كهَضَبة وهِضَب، والحَلَق بفتحتين عند سيبويه اسم للجمع، وليس بجمع؛ لأن فَعْلَةً ليست مما يُكسَّر على فَعَل، أفاده ابن منظور
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَحَلَقةُ الباب بالسكون من حديد وغيره، وحَلَقَةُ القوم: الذين يجتمعون مستديرين، والحَلْقَةُ: السلاح كلُّهُ، والجمع حَلَق بفتحتين على غير قياس، وقال الأصمعيّ: والجمع حِلَق بالكسر، مثلُ قَصْعَةٍ وَقِصَعٍ، وبَدْرَةٍ وبِدَرٍ، وحَكَى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أن الحَلَقَة بالفتح
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 211.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 215.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 211.
(4)
"لسان العرب" 10/ 61.
لغةٌ في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياس، مثلُ قَصَبَةٍ وقَصَبٍ. انتهى
(1)
.
(الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأنبِيَاءُ) كذا هو في الأصول "يَربط به" بضمير المذكر، فأما "يَربط"، فإنه يجوز فيه الأمران؛ لأنه مسند إلى "الأنبياء"، والجمع يجوز تذكيره وتأنيثه، كما قال في "الخلاصة":
وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى السَّالِمِ مِنْ
…
مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مَعْ إِحْدَى اللَّبِنْ
وأما "به" فأعاده على معنى "الحلقة"، وهو الشيء.
قال صاحب "التحرير": المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ) أي: الأقصى (فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكَعَتَيْنِ) أي: تحيّة للمسجد (ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ) أي: ليشرب ما يشاء (فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ) أي: فخيّرني أن آخذ أيّهما شئتُ، فاخترت بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، ففي هذه الرواية اختصار، تبيّنها رواية أبي هريرة رضي الله عنه الآتية بلفظ:"فأُتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل لي: خذ أيهما شئت، فأخذت اللبن، فشربته "(فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ) قال النوويّ رحمه الله: فَسَّرُوا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة، ومعناه - والله أعلم -: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، وجُعِل اللبن علامة؛ لكونه سهلًا طيبًا طاهرأ سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، وأما الخمر، فإنها أمّ الخبائث، وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل، والله تعالى أعلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أصل الفطرة: ابتداء الخلقة، ومنه فَطَرَ ناب البعير إذا ابتدأ خروجه، ومنه قول الأعرابيّ المتحاكم إلى ابن عبّاس رضي الله عنهما في البئر: أنا فَطَرتها، أي: ابتدأت حفرها، وقيل في قوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أي: جِبِلّة الله التي جَبَلَهم عليها، من التهيّؤ لمعرفته، والإقرار به، وقيل: هي ما أُخذ عليهم في ظهر آدم عليه السلام من الاعتراف بربوبيّته، وقيل: الفطرة الإسلام؛ لأنه الذي لقتضيه فطرة العقل ابتداءً، وقد حُمِل على
(1)
"المصباح المنير" 1/ 147.
هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ مولود يولد على الفطرة
…
" الحديث، متّفقٌ عليه، وقد نصّ على هذا في حديث آخر، فقد أخرج المصنّف من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه مرفوعًا، قال: "إني خلقت عبادي حُنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم
…
" الحديث، وكأن معنى هذا الحديث: أنه لَمّا مال إلى ما يُتَناوَل بالجِبِلّة والطبع، وما لا ينشا عنه مفسدة، وهو اللبن، وعَدَلَ عمّا ليس كذلك مما يُتوقَّع منه مفسدةٌ أو من جنسه، وهي إذهاب العقل الموصل للمصالح، صَوَّب الملك فعله ودعا له، كما قال في الرواية الأخرى: "أَصَبْتَ أصاب الله بك".
ويحتمل أن يكون من باب التفاؤل والتشبيه لَمّا كان اللبن أوّل شيء يدخل جوف الصبيّ، ويشقّ أمعاءه، فسُمّي بذلك فطرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: أصل الفطرة في كلام العرب: الخِلْقة، ومنه {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام: 14]؛ أي: خالقهما، وقيل: الفطرة: الا بتداء، وقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]؛ أي: أقم وجهك للدين الذي فطر الله الناس عليه، قبل الْجِبِلّة التي جَبَلهم عليها من التهيّؤ لمعرفة الله تعالى والإقرار به، وقيل: ما أخذ الله عليهم في ظهر آدم عليه السلام من الاعتراف بربوبيّته.
وقيل: معناه الاستقامة؛ لأن الحنيف عند بعضهم المستقيم، وسُمِّي الأحنف على القلب، كما سُمّي اللديغ سَلِيمًا، والحنيفيّة المستقيمة عن الميل لأديان أهل الشرك، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)} [الأنعام: 161]، وكما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} [الروم: 30].
وقيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مولود يولد على الفطرة" متّفقٌ عليه، هذه الأقوال كلّها، وقيل: ما كُتب عليه في بطن أمه، وقيل: الإسلام.
ويحتمل أن المراد بالفطرة في قوله: "اخترتَ الفطرة" بعض هذه المعاني: الإسلام، أو الاستقامة، أو الحنيفيّة، ويكون أيضًا لَمّا كان اللبن كلّه
(1)
"المفهم" 1/ 388.
حلالًا في هذه الشريعة والخمر كلّه حرامًا، فعَدَل عما حُرّم فيها إلى ما أُحلّ فيها، ودلّ ذلك على هدايته لها، وقيل: هو من باب التفاؤل الحسن لَمّا كان اللبن أوّل شيء يدخل جوف الرضيع ويَفتح فمه عليه، سُمّي فِطرةً لشقّه الأمعاء، وما تقدّم أوجَه. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لَمّا كان الخمر كلّه حرامًا" فيه نظر؛ إذ الخمر لم تكن حينئذ محرّمة، اللهم إلا أن يكون المراد أنها ستحرّم، فألهمه الله تعالى ذلك، فأعرض عنها، فيكون من توفيق الله له للهدى، أو نَفَرَ منها لِمَا جَبَلَه الله تعالى عليه من البُعْد عن أسباب الشرّ والفساد، كما نَفَر عنها كثير من عقلاء الجاهليّة لذلك، أو نَفَر منها لكونه لم يَعْتَدْ شربها، فوافق طبعه ما سيقع من تحريمها بعدُ، حفظًا من الله تعالى له ورعايةً، واختار اللبن؛ لكونه مألوفًا له، سهلًا طيّبًا سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ عَرَجَ) بفتح العين والراء، من باب قعد، أي: صَعِدَ، وارتقى (بِنَا) أي: به ومن معه، وهو جبريل عليه السلام، أو عبّر بما هو للجماعة عن نفسه، لأن المقام مقام فخر واعتزاز، وتحدّث بنعمة الله تعالى (إِلَى السَّمَاءِ) أي: الدّنيا، كما جاء في الرواية الأخرى، ومعناه: القربى، وهي الأولى، (فَاسْتَفْتَحَ) أي: طلب فتح الباب، فالمفعول محذوف اختصارًا (جِبْرِيلُ)؛ (فَقِيلَ) أي: قال له خزانها، كما صُرّح به في الرواية الأخرى (مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ) خبر لمبتدأ محذوف، أي: أنا جبريل، قال النوويّ رحمه الله: فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدَقّ الباب ونحوه، فقيل له: من أنت؟ فينبغي أن يقول: زيد مثلًا، إذا كان اسمه زيدًا، ولا يقول: أنا، فقد جاء الحديث بالنهي عنه، ولأنه لا فائدة فيه. انتهى
(2)
.
(قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) خبر لمحذوف أيضًا؛ أي: هو محمد، أو مبتدأ حُذف خبره؛ أي: محمد معي، (قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟) ببناء الفعل للمفعول، قال النوويّ رحمه الله: مراد البوّاب بقوله: "وقد بُعِث إليه؟ " بعثه للإسراء وصعود السموات، وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة،
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 661 - 663.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 212.
فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدّة، فهذا هو الصحيح - والله أعلم - في معناه، ولم يذكر الخطابيّ في "شرح البخاريّ" وجماعة من العلماء غيرَهُ، وإن كان القاضي قد ذكر خلافًا، أو أشار إلى خلاف في أنه استَفْهَمَ عن أصل البعث، أو عما ذكرتُهُ، قال القاضي: وفي هذا أن للسماء أبوابًا حقيقيةً، وحفظةً مُوَكَّلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، والله أعلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وقد بُعث إليه" هو استفهام من الملائكة عن بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وإرساله إلى الخلق، وهذا يدلّ على أنهم لم يكن عندهم علمٌ من وقت إرساله؛ لكونهم مستغرقين بالعبادة، لا يَفترون عنها، وقيل: معناه استفهامهم عن إرسال الله تعالى إليه بالعروج إلى السماء. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول الثاني هو الأظهر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) جبريل عليه السلام (قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ) أي: بالصعود، (فَفُتِحَ لَنَا) بالبناء للمفعول، أي: فتح خازن السماء باب السماء لأجلنا، (فَإِذَا أَنَا)"إذا" هي الفُجائيّة، (بِآدَمَ) أبي البشر؛ (فَرَحَّبَ بِي) أي: قال لي بعد ردّ السلام: مرحبًا بالابن الصالح، والنبيّ الصالح، كما سيأتي في الروايات الأخرى، يقال: رَحّب به ترحيبًا: إذا دعاه إلى الرُّحْب، بالضمّ؛ أي: المكان الواسع، (وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد قوله: "ولنعم المجيءُ جاء"، وأن يكون غيره غيرَ مُبيَّن. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأول مما لا يخفى بُعده فتفطّن، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام) الباب، (فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِابْنَيِ الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا) قال الأزهريّ: قال ابن السّكِّيت: يقال: هما ابنا عَمٍّ، ولا يقال: ابنا خال، ويقال: هما ابنا خالة، ولا يقال: ابنا عمة. انتهى.
(فَرَحَّبَا، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي) وفي نسخة: "بنا" (إِلَى السَّمَاءِ
(1)
"المفهم" 1/ 389.
(2)
"المرقاة" 10/ 167.
الثَّالِثَة، فَاسْتَفْتَحَ) البابَ جِبْرِيلُ؛ (فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ) بنِ يعقوب عليه السلام، (إِذَا هُوَ) بدل من الأول في معنى بدل الاشتمال، قاله القاري
(1)
، (قَدْ أُعْطِيَ) بالبناء للمفعول، (شَطْرَ الْحُسْنِ) أي: نصف حسن الناس، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند البيهقي، وأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن عائذ والطبرانيّ:"فإذا أنا برجل أحسنِ ما خَلَقَ اللهُ، قد فَضَلَ الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب"، وهذا ظاهره أن يوسف؛ كان أحسن من جميع الناس، لكن رَوَى الترمذيّ، من حديث أنس رضي الله عنه:"ما بَعَثَ الله نبيًّا إلا حَسَنَ الوجه، حَسَنَ الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا، وأحسنهم صوتًا"، فعلى هذا فيُحْمَل حديث المعراج على أنّ المراد غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال من الأصوليين: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه.
وأما حديث الباب، فقد حمله ابن المُنَيِّر رحمه الله على أن المراد: أن يوسف أُعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبيّنا صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم
(2)
.
(فَرَحَّبَ) وفي نسخة: "ورحّب بي"، (وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟) وفي نسخة: "فقيل: من هذا؟ "(قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَال: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، قَالَ اللهُ عز وجل: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57] أي: في السماء الرابعة، ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند شرح هذه الآية (3/ 127) ما نصّه:
وقد رَوَى ابن جرير ههنا أثرًا غريبًا عجيبًا، فقال: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن شَمِر بن عطية، عن هلال بن يساف، قال: سأل ابن عباس كعبًا وأنا حاضر، فقال له: ما قول الله عز وجل لإدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} ؟ فقال كعب: أما إدريس، فإن الله أوحى إليه أني أَرْفَع لك كلَّ يوم مثلَ عمل جميع
(1)
"المرقاة" 10/ 167.
(2)
"الفتح" 7/ 251.
بني آدم، فأَحَبّ أن يزداد عملًا، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال له: إن الله أوحى إليّ كذا وكذا، فكَلِّم لي ملك الموت، فليؤخرني حتى أزداد عملًا، فحمله بين جناحيه، حتى صَعِد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة، تلقاهم ملك الموت مُنْحَدِرًا، فكلَّم ملك الموت في الذي كلَّمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ فقال: هو ذا على ظهري، قال ملك الموت: العجب بُعِثتُ، وقيل لي: اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة، وهو في الأرض؟ فقبض روحه هناك، فذلك قول الله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57].
قال ابن كثير: هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: إسناد هذا الأثر ثقات، رجال الصحيح، غير شَمِر بن عطيّة، وهو ثقة وثّقه النسائيّ، وابن سعد، وغيرهما، إلا أنه من الإسرائيليّات، لا سيَّما وقد قال ابن كثير: وفي بعضه نكارة، فالظاهر عدم صحّته، والله تعالى أعلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن ابن عباس، أنه سأل كعبًا
…
فذكر نحو ما تقدَّم، غير أنه قال لذلك الملك: هل لك أن تسأله - يعني: ملك الموت - كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل؟
…
وذكر باقيه، وفيه أنه لَمّا سأله عما بقي من أجله، قال: لا أدري حتى أنظر، فنظر، ثم قال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت جناحه، فإذا هو قد قُبِضَ عليه السلام وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس: أن إدريس كان خَيّاطًا، فكان لا يَغْرِز إبرة إلا قال: سبحان الله، فكان يمسي حين يمسي، وليس في الأرض أحدٌ أفضل عملًا منه، وذكر بقيته كالذي قبله.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد في قوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} قال: إدريس رُفِع لم يمت كما رفع عيسى.
وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} قال: السماء الرابعة، وقال العَوْفي عن ابن عباس:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} قال: رُفِع
إلى السماء السادسة، فمات بها، وهكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال الحسن وغيره في قوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57] قال: الجنة. انتهى ما ذكره ابن كثير رحمه الله.
وقال في "الفتح": واستَشْكَل بعضهم قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} بأن غيره من الأنبياء أرفع مكانًا منه! ثم أجاب بأن المراد أنه لم يُرْفَع إلى السماء مَن هو حي غيره.
وفيه نظر؛ لأن عيسى عليه السلام أيضًا قد رُفع وهو حي على الصحيح، وكون إدريس رُفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قويّة، ثم أورد أثر كعب الذي سبق من رواية الطبريّ، ثم قال: وهذا من الإسرائيليات، والله أعلم بصحته
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه الآثار كلّها لا تستند إلى دليل مرفوع صحيح، فليست حجة مقنعة، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟) وفي نسخة: "فقيل: من هذا؟ "(قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أنا بِهَارُونَ صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ) وفي نسخة: "فرحّب بي"(وَدَعَا لِي بِخَيْر، ثمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحَّبَ، وَدَعَا لِي بِخَيْر، ثُمَّ عَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَة، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قِيل) وفي نسخة: "قال"، (وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْه، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم) حال كونه، (مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي: الذي تعمُره الملائكة بالعبادة، قال القاضي عياضٌ رحمه الله: يُستَدَلّ به على جواز الاستناد إلى القبلة، وتحويل الظهر إليها. انتهى. (وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ) أي: للعبادة فيه، (لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ) أي: لكثرتهم، فلا يستطيعون العودة إليه مرّة
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 432 - 433 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم الحديث (3343).
أخرى، وفيه كثرة الملائكة على سائر المخلوقات، (ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى السِّدْرَةِ الْمُنْتَهَى) هكذا وقع في الأصول "السدرة" بالألف واللام، وفي الروايات بعد هذا:"سدرة المنتهى" بالإضافة، وسيأتي عند المصنّف
(1)
في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها سُمِّيت بذلك؛ لأنه إليها يَنتهي ما يُعرَج به من الأرض فيُقبَض منها، وإليها ينتهي ما يُهبَط به من فوقها فيُقبض منها.
وقال النوويّ رحمه الله: سُمِّيت سدرة المنتهى؛ لأن علم الملائكة ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحدٌ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ رحمه الله: وهذا لا يعارض حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتقدم، لكن حديث ابن مسعود ثابت في "الصحيح"، فهو أولى بالاعتماد، وأورده النووي بصيغة التمريض، فقال: وحُكِي عن ابن مسعود أنها سُمّيت بذلك
…
إلخ هكذا أورده، فأشعر بضعفه عنده، وهو صحيح مرفوع، فكان الأولى له إيراده بالجزم.
وقال القرطبيّ في "المفهم": ظاهر حديث أنس رضي الله عنه أنها في السابعة؛ لقوله بعد ذكر السماء السابعة: "ثم ذَهَب بي إلى السدرة"، وفي حديث ابن مسعود أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شكّ فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبي مرسل، وكل ملك مقرَّب، على ما قال كعب، قال: وما خلفها غيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد.
وقال غيره: إليها منتهى أراوح الشهداء، قال: ولترجح حديث أنس بأنه مرفوع، وحديث ابن مسعود موقوف، قال الحافظ: كذا قال، ولم يُعَرِّج على الجمع بل جزم بالتعارض، قال: ولا يعارض قولُهُ: "إنها في السادسة" ما دلت عليه بقية الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السابعة؛ لأنه يُحمَل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها.
(وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ) بكسر الفاء، وفتح الياء التحتانيّة، بعدها لام،
(1)
سيأتي برقم (173).
جمع فِيلٍ، وفي رواية للبخاريّ:"مثلُ آذان الفُيُول" وهو أيضًا جمع فيل، قال ابن دحية: اختيرت السدرة دون غيرها؛ لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظلّ ممدود، وطعائم لذيذٌ، ورائحة زكيّة، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يَجمع القول والفعل والنيّة، فالظلّ بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النيّة، والرائحة بمنزلة القول. انتهى
(1)
. (وَإِذَا ثَمَرُهَا) وفي رواية: "فإذا نَبِقها" بفتح النون، وكسر الموحّدة وسكونها أيضًا، قال ابن دحية: والأول هو الذي ثبت في أصل الرواية، أي التحريك، و"النَّبِقُ": معروف وهو ثَمَرُ السدر
(2)
، (كَالْقِلَالِ) بكسر القاف، جمع قُلّة بالضمّ، وهي: جَرَّةٌ عظيمة، تَسَعُ قِرْبتين أو أكثر، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وفي الرواية الآتية:"مثلُ قلال هَجَر"، و"هَجَر" بفتحتين بلد بقرب المدينة، لا تنصرف للعلميّة والتأنيث باعتبار البقعة، ويجوز صرفها باعتبار المكان، قال الخطابيّ رحمه الله: يريد أن ثمرها في الكثرة مثل القلال، وكانت معروفةً عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد
الماء الكثير بها في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلتين
…
" الحديث
(3)
، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا غَشِيَهَا) بكسر الشين، من باب تَعِبَ؛ أي: غطّاها، (مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ)"ما" موصولة فاعل "غشيها"، وعبّر بها تفخيمًا وتعظيمًا للأمر، كما في قوله تعالى:{فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]، وقال القرطبيّ: يعني غشيها من جلال الله تعالى وعظيم شأنه وسلطانه، (تَغَيَّرَتْ) أي: انتقلت عن حالها الأول إلى حال أخرى أحسن منها، (فَمَا) نافية، أي: ليس (أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا) بفتح العين، يقال: نَعَتَ الرجلُ صاحبه نَعْتًا، من باب نَفَعَ: إذا وصفه، ونَعَتَ نفسَهُ بالخير: وصفَها به، وانتَعَتَ: اتّصفَ، ونَعُتَ الرجلُ بضمّ العين: إذا كان النعت له خِلْقةً، قاله الفيّوميّ
(4)
، وقوله:(مِنْ حُسْنِهَا) أي: لأجل شدّة حسنها، فهو تعليلٌ لعدم استطاعة نعتها (فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى) وفي نسخة:"فأوحى إليّ ما أوحى"، أي: الذي أوحاه، وأبهمه أيضًا للتفخيم والتغظيم.
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 254 "كتاب المناقب" رقم (3888).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق.
(4)
"المصباح" 2/ 612.
(فَفَرَضَ عَلَيَّ) أي؛ وعلى أمته، ففي الرواية الأخرى:"فقم بها أنت وأمتك"(خَمْسِينَ صَلَاةً، فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ) وفي نسخة: "فَسَله"، (التَّخْفِيفَ، فَإنَّ أُمّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ) أي: اختبرت، يقال: بلاه الله بخير أَو شرّ، يبلوه بَلْوًا، وأبلاه بالألف، وابتلاه ابتلاء: بمعنى امتحنه (بَني إِسْرَائِيلَ، وَخَبَرْتُهُمْ) عطف تفسير لـ "بلوت"(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي) إلى الموضع الذي ناجيته منه أوّلًا، فناجيته فيه ثانيًا، (فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَط عَنِّي خَمْسًا، قَالَ) موسى عليه السلام (إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ أَزَلْ أَرْجعُ بَيْنَ رَبِّي تبارك وتعالى، وَبَيْنَ مُوسَى؛ (حَتَّى قَالَ) سبحانه وتعالى (يَا مُحَمَّدُ) فيه أن الله سبحانه وتعالى كلّم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة بلا واسطة (إِنَّهُنَّ) أي: الصلوات (خَمْسُ صَلَوَاتٍ، كُلَّ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ) إذ الحسنة بعشر أمثالها (فَذَلِكَ خَمْسُونَ) وفي نسخةَ: "فتلك خمسون"(صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ) أي: قصد أن يعمل حسنة (فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ) بالبناء للمفعول (لَهُ حَسَنَةً) منصوب على الحال (فَإنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا) أي: عشر حسنات (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ سَيئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ) أي: من محلّ المناجاة (حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ) موسى (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ) أي: من الخمس (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ") والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان" [80/ 418 و 419 و 420 و 421، (162)، و (البخاريّ) في "صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم "(3570)، و"التفسير"(4964)، و"الأشربة"(5610)، و"الرقاق"(6581)، و"التوحيد"(7517)، وفي "خلق
أفعال العباد" (26 و 69)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 148 - 153 - 286)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده" (1210)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (344)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه" (413)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات الخمس فيها.
2 -
(ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى به نبيّه وحبيبه صلى الله عليه وسلم بالعروج إليه، وتكليمه إياه بلا واسطة.
3 -
(ومنها): أنه صلى الله عليه وسلم عُرج به روحًا وجسدًا، يقظة لا منامًا، على ما هو الحقّ، وسيأتي بيان الخلاف فيه في المسألة التالية - إن شاء الله تعالى -.
4 -
(ومنها): بيان فضل الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث هداه الله تعالى للفطرة، فاختار اللبن.
5 -
(ومنها): بيان أن الخمر خبيثة، وهي أم الخبائث، تُخرج عن الطبيعة وتلقي في الشرّ والضلال.
6 -
(ومنها): إثبات البُراق وبيان صفته، أنه من الدواب المعروفة بهذه الصفة السامية.
7 -
(ومنها): أن في ربطه الأخذَ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يَقْدَح في التوكل، إذا كان الاعتماد على الله تعالى.
8 -
(ومنها): فيه استحباب لقاء أهل الفضل بالبشر، والترحيب، والكلام الحسن، والدعاء لهم، وإن كانوا أفضل من الداعي.
9 -
(ومنها): جواز مدح الإنسان في وجهه، إذا أُمِن عليه الإعجاب وغيره من الفتن.
10 -
(ومنها): إثبات أبواب للسماء حقيقيّة وحفَظَة موكّلين بها.
11 -
(ومنها): مشروعيّة الاستئذان لدخول بيوت الناس.
12 -
(ومنها): أن من آداب الاستئذان، أن يقول إذا قيل له: من أنت؟ أن يقول: محمد، أو أحمد باسمه، ولا يقول: أنا؛ إذ لا فائدة فيه، ولأنه ورد الإنكار فيه، فقد أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم -
في دَيْن كان على أبي، فدققت الباب، فقال:"من ذا؟ " فقلت: أنا، فقال:"أنا أنا! "، كأنه كرهها.
13 -
(ومنها): بيان أن من أدب البوّاب أن لا يسمح لأحد بالدخول إلا بعد أن يتأكّد من إذن صاحب البيت للطارق، ولو كان ذلك صديقًا له.
14 -
(ومنها): أن الملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما أعلمهم الله تعالى به، فإنهم استفهموا جبريل عن بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
15 -
(ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى به هؤلاء الأنبياء، حيث رفعهم إلى السماوات العلى.
16 -
(ومنها): بيان تفاوت مراتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253].
17 -
(ومنها): مشروعيّة تحيّة المسجد بركعتين.
18 -
(ومنها): أن فرض الصلاة ليلة الإسراء، وهو مجمع عليه.
19 -
(ومنها): أن المارّ يُسلِّم على القاعد، وإن كان المارّ أفضل من القاعد.
20 -
(ومنها): فيه جواز الاستناد إلى القبلة بالظَهر وغيره، وهو مأخوذ من استناد إبراهيم إلى البيت المعمور، وهو كالكعبة في أنه قبلة من كل جهة.
21 -
(منها): جواز نسخ الحكم قبل وقوع الفعل.
22 -
(ومنها): استحباب الإكثار من سؤال الله تعالى وتكثير الشفاعة عنده؛ لِمَا وقع منه صلى الله عليه وسلم في إجابته مَشُورة موسى عليه السلام في سؤال التخفيف.
23 -
(ومنها): أن فيه فضيلةَ الاستحياء وبذل النصيحة من يَحتاج إليها، وإن لم يستشر الناصح في ذلك.
24 -
(ومنها): بيان ما أسدى موسى عليه السلام إلى هذه الأمة حيث أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف عليهم عن خمسين صلاةً حتى خمسًا.
25 -
(ومنها): بيان فضل الله تعالى على هذه الأمة حيث خفّف عنها خمسين صلاةً من حيث العدد، وأبقى أجرها كما هي {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
26 -
(ومنها): شدّة رأفة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، حيث سعى في التخفيف عنها عن خمسين صلاة، فظهر به مصداق قوله عز وجل:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في قصّة الإسراء:
(اعلم): أنهم اختَلَفوا في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إنما كان جميع ذلك في المنام، والحقّ الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء، والمحدثين، والمتكلمين، أنه أُسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والآثار الكثيرة التي أوردها المصنّف في هذا الباب، وكذا غيره من المحدّثين، وأهل السير في كتب السنّة واضحة في الدلالة على ذلك من طالعها، وبحث عنها، وتأمّلها حقّ تأمّل، ولا يُعدَل عن ظاهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه فيُحتاجَ إلى تأويل.
وقد جاء في رواية شريك في هذا الحديث في الكتاب أوهام أنكرها عليه العلماء، وقد نَبّه مسلم على ذلك بقوله:"فقدَّم وأخَّر، وزاد ونقَّص".
فمن ذلك قوله: "وذلك قبل أن يُوحَى إليه"، وهو غلطٌ بلا شكّ، فإن الإسراء أقلُّ ما قيل فيه: إنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرًا، وقال الحربيّ: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهريّ: كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين، وقال ابن إسحاق: أُسْرِي به صلى الله عليه وسلم، وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل.
وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق؛ إذ لم يَختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلَّت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف أنها تُوفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس.
ومنها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يُوحَى إليه.
وأما قوله في رواية شريك: "وهو نائم"، وفي الرواية الأخرى:"بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان"، فقد يحتج به مَن يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه؛ إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل
على كونه نائمًا في القصة كلها، هكذا حقّق القاضي عياض رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام عياض هذا: وهذا الذي قاله في رواية شريك، وأن أهل العلم أنكروها قد قاله غيره، وقد ذكر البخاريّ رحمه الله رواية شريك هذه، عن أنس، في "كتاب التوحيد" من "صحيحه"، وأتى بالحديث مُطَوَّلًا.
قال الحافظ عبد الحقّ رحمه الله في كتابه "الجمع بين الصحيحين" بعد ذكر هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ، من رواية شريك بن أبي نَمِر، عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأَتَى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد رَوَى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين، كابن شهاب، وثابت البنانيّ، وقتادة، يعني: عن أنس، فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك، وشريك ليمس بالحافظ عند أهل الحديث، قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعوَّل عليها. انتهى كلام الحافظ عبد الحق رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": وقد اختُلِف في وقت المعراج، فقيل: كان قبل المبعث، وهو شاذّ إلا إن حُمِل على أنه وقع حينئذ في المنام، وذهب الأكثر إلى أنه كان بعد المبعث، ثم اختلفوا، فقيل: قبل الهجرة بسنة، قاله ابن سعد وغيره، وبه جزم النوويّ، وبالغ ابن حزم، فنَقَل الإجماع فيه، وهو مردود، فإن في ذلك اختلافًا كثيرًا، يزيد على عشرة أقوال، منها ما حكاه ابن الجوزيّ أنه كان قبلها بثمانية أشهر، وقيل: بستة أشهر، وحكى هذا الثاني أبو الربيع بن سالم، وحَكَى ابن حزم مقتضى الذي قبله؛ لأنه قال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة، وقيل: بأحد عشر شهرًا، جزم به إبراهيم الحربيّ، حيث قال: كان في ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، ورَجَّحه ابن المنير في "شرح السيرة" لابن عبد البر، وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، حكاه ابن عبد البر، وقيل: قبلها بسنة وثلاثة أشهر، حكاه ابن فارس، وقيل: بسنة وخمسة أشهر، قاله السديّ، وأخرجه من طريقه الطبريّ، والبيهقيّ، فعلى هذا كان في شوال، أو في رمضان، على إلغاء الكسرين منه ومن ربيع الأول، وبه جزم الواقديّ،
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 209 - 210.
وعلى ظاهره ينطبق ما ذكره ابن قتيبة، وحكاه ابن عبد البر أنه كان قبلها بثمانية عشر شهرًا، وعند ابن سعد عن ابن أبي سَبْرة أنه كان في رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرًا، وقيل: كان في رجب، حكاه ابن عبد البر، وجزم به النوويّ في "الروضة"، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير، وحَكَى عياضٌ وتبعه القرطبيّ والنوويّ عن الزهريّ: أنه كان قبل الهجرة بخمس سنين، ورَجّحه عياض ومن تبعه، واحتَجَّ بأنه لا خلاف أن خديجة صَلّت معه بعد فرض الصلاة، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة إما بثلاث؛ أو نحوها، وإما بخمس، ولا خلاف أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء.
قال الحافظ: في جميع ما نفاه من الخلاف نظرٌ؛ أما أوّلًا: فإن العسكريّ حَكَى: أنها ماتت قبل الهجرة بسبع سنين، وقيل: بأربع، وعن ابن الأعرابيّ: أنها ماتت عام الهجرة.
وأما ثانيًا: فإن فرض الصلاة اختُلِف فيه، فقيل: كان من أول البعثة، وكان ركعتين بالغداة وركعتين بالعشيّ، وإنما الذي فرض ليلة الإسراء الصلوات الخمس.
وأما ثالثًا: فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها جَزَمت بأن خديجة رضي الله عنها ماتت قبل أن تُفْرَض الصلاة.
فالمعتمد أن مراد مَن قال: بعد أن فُرضت الصلاة ما فُرض قبل الصلوات الخمس، إن ثَبَت ذلك، ومراد عائشة بقولها: ماتت قبل أن تُفْرَض الصلاة - أي: الخمس - فيُجْمَع بين القولين بذلك، ويلزم منه أنها ماتت قبل الإسراء.
وأما رابعًا: ففي سنة موت خديجة اختلاف آخر، فحَكَى العسكريّ عن الزهريّ: أنها ماتت لسبع مضين من البعثة، وظاهره أن ذلك قبل الهجرة بست سنين، فَرّعَه العسكريّ على قول مَن قال: إن المدة بين البعثة والهجرة كانت عشرًا. انتهى ما ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يميل إليه القلب هو القول بأنه كان قبل
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 242 - 243 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3888).
الهجرة بسنة، كما قال به الأكثرون، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
[تنبيه]: يوجد في هامش بعض النسخ ما نصّه:
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ: حَدَّثَنَا أَبُو العَبَّاسِ المَاسَرْجِسِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِهَذَا الحَدِيثِ. انتهى.
أما "أبو أحمد" فهو: محمد بن عيسى بن محمد الزاهد النيسابوريّ الجُلُوديّ، راوي الكتاب عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن الإمام مسلم، تُوفّي سنة (368 هـ)، وقد تقدّمت ترجمته في تراجم رواة "صحيح مسلم" أوائل شرح المقدّمة
(1)
.
وأما المَاسَرجِسِيّ فهو: الإمام المحدِّث العالم الثقة، أبو العباس، أحمد بن محمد بن الحسين بن عيسى، سِبْطُ الحسن بن عيسى بن مَاسَرْجِس النيسابوريّ.
سَمِع جدّه، وإسحاق بن راهويه، وشيبان بن فَرّوخ، والربيع بن ثَعْلب، ووهب بن بقية، وعمرو بن زُرَارة، وطبقتهم.
وحدّث عنه الحافظ أبو عليّ النيسابوريّ، وأبو إسحاق المزكِّي، وأبو سهل الصُّعْلوكيّ، وأبو أحمد الحاكم، وآخرون.
مات في صفر سنة (313 هـ)، وهو في عشر المائة، وكان من وجوه أهل بلده، وعلمائهم رحمه الله
(2)
.
(فائدة): "المَاسَرْجِسِيّ" - بفتح السين المهملة، وإسكان الراء، وكسر الجيم -: نسبة إلى جدّه مَاسَرْجِس.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما أتى الجُلُوديّ رحمه الله بهذا هنا؛ لأنه قد علا له هذا الحديث برجل، فإنه رواه أوّلًا، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم، عن شيبان بن فَرُّوخ، ثم رواه عن المَاسَرْجِسِيّ، عن شيبان.
(1)
راجع: "شرح المقدّمة" 1/ 63.
(2)
راجع: "سير أعلام النبلاء" 14/ 405.
قال النوويّ رحمه الله: وهذه الفائدة، وهي قوله: "قال الشيخ أبو أحمد
…
إلى آخره" تقع في بعض الأصول في الحاشية، وفي أكثرها في نفس الكتاب، وكلاهما له وجه، فمَن جعلها في الحاشية، فهو الظاهر المختار؛ لكونها ليست من كلام مسلم ولا من كتابه، فلا تُدخَل في نفسه، وإنما هي فائد، فشأنها أن تُكْتَب في الحاشية، ومَن أدخلها في الكتاب، فلكون الكتاب منقولًا عن عبد الغافر الفارسيّ، عن شيخه الجُلُوديّ، وهذه الزيادة من كلام الشيخ الجلوديّ، فنقلها عبد الغافر في نفس الكتاب؛ لكونها من جملة المأخوذ عن الجلوديّ، مع أنه ليس فيه لَبْسٌ، ولا إيهام أنها من أصل مسلم، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[419]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ، حَدثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُتِيتُ، فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَمَ، فَشُرِحَ عَنْ صدْرِي، ثُمَّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُنْزِلْتُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقة، صاحب حديث، من صغار [10](ت سنة بضع 250)(م) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
2 -
(بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ) العَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت بعد 200) وقيل قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القَيسيّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقة [7](ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 215.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أُتِيتُ) بالبناء للمفعول، أي: أتاني الملائكة، (فَانْطَلَقُوا بِي) أي: ذهبوا بي (إِلَى زَمْزَمَ) أي: إلى بئر زمزم، وهو البئر المعروفة في المسجد الحرام بمكة، وهي لا تنصرف؛ للعلميّة والتأنيث، ويقال: ماءٌ زَمْزَمٌ، وزَمْزَامٌ، وزُوَازِمُ، وزُوَزِمُ: إذا كان بين الملح والعَذْب، وقد ذكر بعض اللغويين لها أسماءً كثيرة، منها: مَكْتُومةُ، ومَضْنُونةُ، وشُبَاعَةُ، وسُقيا، والرِّواءُ، ورَكْضة جبريل، وهَزْمَةُ جِبريل، وشِفَاءُ سُقْم، وطَعامُ طُعْم، وحَفِيرةُ عبد المطّلب
(1)
.
وذكر صاحب "تاج العروس" أنه جمع لها من كتب الحديث وكتب اللغة أسماء تنيف على ستّين اسمًا
(2)
.
(فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي) بالبناء للمفعول، أي: شُقّ، كما في الرواية التالية، (ثُمَّ غُسِلَ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُنْزِلْتُ") بالبناء للمفعول أيضًا، قال النوويّ رحمه الله: هو بإسكان اللام، وضمّ التاء هكذا ضبطناه، وكذا هو في جميع الأصول والنُّسَخ. انتهى.
وقال القاضي عياض رحمه الله: كذا رويناه عن جميعهم بضمّ الهمزة، وكسر الزاي، وضمّ التاء، وحَكَى لنا بعض شيوخنا عن القاضي أبي الوليد الوَقَّشِيّ - وكان أكثر اعتنائه بأمثال هذه الألفاظ المشكلة، والجسارة على تقويمها بزعمه وإصلاحها - أن اللفظة وَهَمٌ من الرواة وتصحيفٌ، وصوابها:"ثُمّ تُرِكتُ"، فعَرضتُ هذا على شيخنا أبي الحسين بن سِرَاج الحافظ اللغويّ، فقال لي: هذا تكلّف، و"أُنزلتُ" بمعنى تُرِكتُ في كلام العرب معروفٌ
(3)
، فاتّفقا في المعنى واختلفا في صحّة اللفظ.
قال: ثم ظهر لي أنا بعد ذلك أن "أُنزلتُ" على بابها المستعمل الذي هو ضدّ "رُفِعتُ"، ألا تراه كيف قال في أول الحديث:"انطلقوا بي"؟ أي: رفعوه من مضجعه وحملوه إلى حيث فُعِل به هذا، ثم رُدّ إلى مكانه وأُنزل في مضجعه.
(1)
راجع: "لسان العرب" 12/ 275.
(2)
راجع: "تاج العروس" 8/ 328.
(3)
قال في "المصباح" 2/ 601: ونَزَلتُ عن الحقّ: تركته. انتهى.
قال: ولم أزل أَعُدّ هذا وما قبله أنا وغيري من غرائب المعاني، ودقائق أسرار كشف المشكل إلى أن أوقفني المطالعة عن الجلاء فيه، وإذا اللفظ طرفٌ من الحديث الطويل المتقدّم، وقف عليها الراوي معلِّقًا بقيّة الحديث بما تقدّم، ومُحيلًا عليه، فذكر الإمام أبو بكر الخُوَارَزميّ المعروف بالبَرْقانيّ في "الصحيح" فقال فيه: "ثمّ أُنزلت طستٌ مملوءةٌ حكمةً وإيمانًا، فحُشي بها صدري، ثم عُرِج بي
…
"، وذكر تمام الحديث. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
.
قال النوويّ: ومقتضى رواية البَرْقانيّ أن يُضْبَطَ "أُنْزِلَتْ" بفتح اللام وإسكان التاء، وكذلك ضبطناه في الجمع بين "الصحيحين" للحميديّ، وحَكَى الحميديّ هذه الزيادة المذكورة عن رواية البَرْقانيّ وزاد عليها، وقال: أخرجها البَرْقانيّ بإسناد مسلم، وأشار الحميديّ إلى أن رواية مسلم ناقصة، وأن تمامها ما زاده البَرْقانيّ، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: نصّ الحميديّ رحمه الله في "الجمع": وأخرج مسلم أيضًا طرفًا منه من حديث سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُتيتُ، فانطلقوا بي إلى زمزم، فشُرح عن صدري، ثم غُسل بماء زمزم، ثم أُنزلت"، لم يزد مسلم على هذا فيما رأيناه من نُسَخ كتابه.
وتمامه في كتاب أبي بكر البَرْقَانيّ بهذا الإسناد، قال: "ثم أنزلت طستًا
(2)
من ذهب ممتلئةً إيمانًا وحكمةً، فحشا بها صدري، ثم عَرَج بي الملكُ إلى السماء الدنيا، فاستفتح الملك، فقال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعِث؟ قال: نعم، ففتح، فإذا آدم، فقال: مرحبًا بك من ولد ومرحبًا بك من رسول، ثم عَرَج بي إلى السماء الثانية، واستفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال:
(1)
"إكمال المعلم" 692 - 694.
(2)
هكذا نسخة "الجمع" للحميديّ 2/ 533، والذي عند القاضي عياض في "الإكمال" 2/ 693: "ثم أنزلت طستٌ مملوءة حكمةً وإيمانًا، فحُشي بها صدري، ثم عُرج بي
…
"، وذكر تمام الحديث، والظاهر أن ما في الإكمال هو الصواب، فليُحرّر.
وقد بُعِثَ؟ قال: نعم، قال: ففتح، فإذا عيسى ويحيى، فقالا: مرحَبًا بك من أخٍ ومرحبًا بك من رسول، قال: ثم عَرَجَ بي الملك إلى السماء الثالثة، ثم اسَتفتح، قال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: من معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: نعم، ففتح، فإذا يوسف، قال: مرحبًا بك من أخٍ ومرحبًا بك من رسول، قال: ثم عَرَجَ بي إلى السماء الرابعة، ثم استفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعِثَ؟ قال: نعم، فإذا إدريس في الرابعة، فقال: مرحبًا بك من أخٍ ومرحبًا بك من رسول، قال: ثم عَرَج إلى السماء الخامسة، ثم استفتح، فقالَ: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعِث؟ قال: نعم، قال: ففتح، فإذا هارون، فقال: مرحبًا بك من أخٍ ومرحبًا بك من رسول، ثم عَرَج بي الملك إلى السماء السادسة، ثم استفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعث؛ قال: نعم، ففتح، فإذا موسى، فقال: مرحبًا بك من أخٍ ومرحبًا بك من رسول، ثم عَرَجَ إلى السماء السابعة، ثم استفتح، فقال: من ذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعث؟ قال: نعم، ففتح، فإذا إبراهيم، فقال: مرحبًا بك من ولد ومرحبًا بك من رسول، فانتهيتُ إلى بناء، فقلتُ للملك: ما هذا؟ قال: هذا بناء بناه الله عز وجل للملائكة، يدخل فيه كلَّ يوم سبعون ألف ملك، يقدّسون الله، ويسبّحونه، ولا يعودون فيه، قال: ثم انتهيتُ إلى السدرة، وأنا أعرف أنها سدرة، أعرف ورقها وثمرها، قال: فلمّا غشيها من أمر الله ما غَشِيها، تحرّكت حتى ما يستطيع أحدٌ نعتها، قال: وفُرِض عليّ خمسون صلاةً، فأتيتُ على موسى، قال: بكم أُمرتَ؟ قلت: أُمرتُ بخمسين صلاةً، قال: فإن أمتك لا تُطيق هذا، فارجع إلى ربّك، فاسأله التخفيف، فرجعتُ إلى ربي، فوضع عنّي عشرًا، قال: فما زلت بين ربي وموسى حتى جعلها خمس صلوات، فأَتيتُ على موسى، فقال: ارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف، قال: لا، بل أُسلِّم لربي، فنوديتُ: إني قد كمَّلتُ فريضتي وخفَّفتُ عن عبادي، بكلّ صلاة عشر صلوات". انتهى
(1)
.
(1)
"الجمع بين الصحيحين" 2/ 533 - 534.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الأَولى في توجيه رواية المصنّف هذه حملها على أنها مختصرة من المتن الطويل، وبه يزول الإشكال دون تكلّف وتعسّف، فهي كسائر الروايات التي يوردها المصنّف مختصرة، غاية الأمر أنه لم يُشِر إلى أنها مختصرة، وهذا لا يضرّ فيما قلنا، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(مسألة): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا بهذا الطريق، وأخرجه (أبو نعيم) في "مستخرجه"(414)، و (أبو بكر البَرْقانيّ) كما سبق آنفًا من رواية الحميديّ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[420]
(
…
) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا ثَابِت الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَان، فَأَخَذَهُ، فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِه، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِه، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ، يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي: ظِئْرَهُ - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ، وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْن، قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ).
رجال هذا الإسناد أربعةٌ:
وقد تقدّموا كلهم قبل حديث، وهو (15) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى الأسانيد له، كما سبق غير مرة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام) وقوله: (وَهُوَ يَلْعَبُ) بفتح أوله وثالثه، من باب تَعِبَ، والجملة في محلّ نصب على الحال من المفعول (مَعَ الْغِلْمَانِ) بكسر الغين المعجمة، وسكون اللام: جمع
كثرة لغُلام بالضمّ، وهو الابن الصغير، وجمع القلّة: غِلْمة بكسر فسكون، ويُطلق الغلام على الرجل مجازًا باسم ما كان عليه، كما يقال للصغير: شيخٌ مجازًا باسم ما يؤول إليه، قاله الفيّوميّ
(1)
، (فَأخَذَهُ، فَصَرَعَهُ) أي: ألقاه على الأرض، يقال: صرَعَه يَصْرَعه، كمَنَعه يمنعه: إذا طرحه على الأرض، أفاده المجد
(2)
، (فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ) أي: محلّ قلبه، (فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ) أي: من القلب (عَلَقَةً) بفتحتين أي: قِطعة دم، قال المجد رحمه الله:"العَلَقُ" محرّكةً: الدم عامّةً، أو الشديد الحُمْرة، أو الغليظ، أو الجامد، والقِطْعةُ منه بهاء. انتهى
(3)
. (فَقَالَ) الملك (هَذَا) إشارة إلى العلقة، وذكّره نظرًا للخبر (حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ) أي: نصيبه الذي يستطيع إيصال الوسوسة إليك منه، قال القرطبيّ رحمه الله: وهذه العَلَقةُ المنتزعة عنه، هي القابلة للوساوس والمحرّكة للشهوات، فأُزيل ذلك عنه، وبذلك أعين على شيطانه حتى سلم منه. انتهى
(4)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: ويحتمل أن تكون هذه العَلَقَةُ التي استخرجها من قلبه هي أحد أجزاء القلب المختصّ بها حبّ الدنيا، والنزوع إلى الشهوات التي منها يأتي الشيطان، أو ما يختصَّ بها من عوارض السهو والغفلة، كلُّ ذلك بتدبير العزيز الحكيم، وهي الأبواب التي يأتي منها الشيطان، فطُرِحت عنه، فلا يجد الشيطان إليه سبيلًا، كما طُرح عن يحيى شهوة النساء.
أو تكون تلك العَلَقَة إذا كانت في القلب هي القابلة لوسواس الشيطان، والمحرّكة للنفس بما رَكب الله فيها من القُوَى لما يُوافقه، فأُزيحت عنه صلى الله عليه وسلم ليسلم من دواعيه الخبيثة، ونُقّي القلب وغُسل منها حتى لا يبقى لها أثرٌ في القلب جُملةً. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(5)
.
(ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ) قال النوويّ رحمه الله: "الطَّست" - بفتح الطاء، وإسكان السين المهملتين -: إناء معروف، وهي مؤنثة، وحَكَى القاضي عياض كسر الطاء لغةً، والمشهور الفتح، ويقال فيها: طَسّ - بتشديد السين،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 452.
(2)
"القاموس المحيط" ص 663.
(3)
"القاموس المحيط" ص 819.
(4)
"المفهم" 1/ 382.
(5)
"إكمال المعلم" 2/ 688 - 689.
وحذف التاء - وطَسَّة أيضًا، وجمعها طِسَاس وطُسُوسٌ وطَسّات. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الطَّسْتُ" قال ابن قُتيبة: أصلها طَسٌّ، فأُبدلت من أحد المضعّفين تاء؛ لثِقَل اجتماع المثلين؛ لأنه يقال في الجمع: طِسَاسٌ، مثلُ سَهْمٍ وسِهَام، وفي التصغير: طُسَيسة، وجُمِعت أيضًا على طُسُوس باعتبار الأصل، وعلى طُسُوت باعتبار اللفظ، قال ابن الأنباريّ: قال الفرّاء: كلام العرب طَسّةٌ، وقد يقال: طَسّ بغير هاء، وهي مؤنّثةٌ، وطيّئٌ تقول: طَسْتٌ، كما قالوا في لَصّ: لَصْتٌ، ونُقل عن بعضهم التذكير والتأنيثُ، فيقال: هو الطسّةُ والطّسْتُ، وهي الطّسّةُ والطَّسْتُ، وقال الزجّاج: التأنيث أكثر كلام العرب، وجمعها طَسّات على لفظها، وقال السِّجِسْتانيّ: هي أعجميّةٌ مُعرّبةٌ، ولهذا قال الأزهريّ: هي دَخِيلة في كلام العرب؛ لأن التاء والطاء لا يجتمعان في كلمة عربيّة. انتهى
(2)
.
(بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ) بفتح اللام، وبعدها همزة، على وزن ضَرَبه، وفيه لغة أُخرى لاءمه بالمد، على وزن آذنه، ومعناه: جمعه وألزقه، وضمّ بعضه إلى بعض حتى التأم
(3)
.
قال النوويّ: وليس في هذا ما يوهم جوازَ استعمال إناء الذهب لنا، فإن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، ولأنه كان أوّل الأمر قبل تحريم النبيّ صلى الله عليه وسلم أوانيَ الذهب والفضة. انتهى
(4)
.
(ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ) أي: أعاد الملكُ القلبَ إلى مكانه الأول، والظاهر أن "ثمّ" للترتيب الذكريّ؛ لأن اللأم بعد وضعه في مكانه، والله تعالى أعلم، (وَجَاءَ الْغِلْمَانُ) أي: الذين كانوا يلعبون معه صلى الله عليه وسلم (يَسْعَوْنَ) أي: يُهَرْولون ويُسرعون في مشيهم (إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي: ظِئْرَهُ -) هذه العناية من بعض الرواة، ولم يتبيّن لي من هو؟، أي: أراد بقوله: "إلى أمه" إلى مرضعته، و"الظِّئْرُ" بكسر الظاء المعجمة، بعدها همزة ساكنة: هي المرضعة، ويقال أيضًا لزوج المرضعة: ظِئْرٌ، قاله النوويّ رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 216.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 372.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 686.
(4)
"شرح النوويّ" 2/ 216.
وقال المجد رحمه الله: "الظِّئْرُ" بالكسر: العاطفة على ولد غيرها المرضعةُ له في الناس وغيرهم، للذكر والأنثى، جمعه أَظْؤُرٌ، وأَظْآرٌ، وظُؤُورٌ، وظُؤُورةٌ، وظُؤَارٌ، وظُؤْرَةٌ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الظّئْرُ" بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها: الناقة تَعْطِف على ولد غيرها، ومنه قيل للمرأة الأجنبيّة تَحْضنُ ولد غيرها: ظِئْرٌ، وللرجل الحاضن: ظِئْرٌ أيضًا، والجمع أَظْآرٌ، مثلُ حِمْلٍ وأَحمال، وربّما جُمعت المرأة على ظِئَارٍ بكسر الظاء وضمّها، وظَأَرْتُ أَظأَرُ بفتحتين: اتّخذتُ ظِئْرًا. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: المراد بـ "ظِئْره" هنا هي حليمة السعديّة، مرضعة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي بنت أبي ذؤيب، واسمه عبد الله بن الحارث بن شِجْنة - بكسر المعجمة، وسكون الجيم، بعدها نون - ابن رِزَام - بكسر الراء، بعدها زاي - ابن ناضرة بن سعد بن بكر بن هوازن.
قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: أرضعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورأت له بُرهانًا، تركنا ذكره لشهرته، وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: جاءت حليمة ابنة عبد الله، أم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام إليها وبسط لها رداءه، فجلست عليه، وروى عنها عبد الله بن جعفر، وحديثه عنها بقصّة إرضاعها أخرجه أبو يعلى وابن حبّان في "صحيحه"، وصرّح فيه بالتحديث بين عبد الله بن جعفر وحليمة، قاله في "الإصابة"
(3)
.
(فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا) رحمه الله (قَدْ قُتِلَ) أي: لأنهم رأوا الملك يصرعه، ويشقّ عن قلبه (فَاسْتَقْبَلُوهُ) أي: استقبلت النبيّ صلى الله عليه وسلم أمه ومن معها من أقاربها (وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ) - بالقاف المفتوحة - أي: مُتَغَيّر اللون، قال أهل اللغة: امْتُقِعَ لونه فهو مُمْتَقَعٌ، وانْتُقِعَ فهو مُنْتَقَعٌ، وابْتُقِعَ - بالباء - فهو مُبْتَقَعٌ، فيه ثلاث لغات، والقاف مفتوحة فيهنّ، قال الجوهريّ وغيره: والميم أفصحهنّ، ونَقَل الجوهريّ اللغات الثلاث عن الكسائيّ، قال: ومعناه: تَغَيُّرٌ مِن حُزْنٍ أو فَزَعٍ، وقال
(1)
"القاموس المحيط" ص 390.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 388.
(3)
"الإصابة" 8/ 87.
الهرويّ في "الغريبين" في تفسير هذا الحديث: يقال: انْتُقِعَ لونُهُ، وامْتُقِعَ، وَاهْتُقِعَ، والتُمِعَ، واسْتُنْقِعَ، والتُمِئَ، وانْتُسِفَ، وابْتُسِرَ، والتُهِمَ بمعنى واحد، كلها عن الفرّاء.
وقال الأزهريّ: التُمِغَ - بالغين المعجمة أيضًا - وانْتُشِفَ - بالشين المعجمة أيضًا -.
قال القاضي عياض: وأصل انْتُقِعَ - والله أعلم - من النَّقْعِ وهو التراب، أي: تغيّر وجهه وزال عنه نور الحياء حتى أشبه التراب وكأنما ذُرّ عليه. انتهى
(1)
.
(قَالَ أنَسٌ) رضي الله عنه (وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ) هو بكسر الميم، وإسكان الخاء، وفتح الياء، وهي الإِبْرة.
[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: وهذا الشقّ هو خلاف الشقّ المذكور في حديث أبي ذرّ ومالك بن صعصة رضي الله عنهما، بدليل اختلاف الزمانين والمكانين والحالين، أما الزمانان؛ فالأول في صِغَره والثاني في كِبَره، وأما المكانان؛ فالأول كان ببعض جهات مكة عند مرضعته والثاني عند البيت، وأما الحالان؛ فالأول نُزع من قلبه ما كان يضرّه وغُسِل، وهو إشارة إلى عصمته، والثاني غُسِل، ومُلئ حكمةً وإيمانًا، وهو إشارةٌ إلى التهيّؤ إلى مشاهدته ما شاء الله أن يُشْهِدَه، ولا يُلْتَفت إلى قول من قال: إن ذلك كان مرّةً واحدةً في صغره، وأخذ يُغلّط بعض الرواة الذين رووا أحد الخبرين، فإن الغلط به أَلْيَق والوهم منه أقرب، فإن رُواة الحديثين أئمة مشاهير حُفّاظ، ولا إحالة في شيء مما ذكروه، ولا معارضة بينهما ولا تناقض، فصحّ ما قلناه، وبهذا قال جماعة من العلماء، منهم القاضي المهلَّب بن أبي صفرة في "شرح مختصر صحيح البخاري". انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 687.
(2)
"المفهم" 1/ 382 - 383.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 420]، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 121 - 149 - 288)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1308)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3374)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(342)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(415)، وفي "دلائل النبوّة"(168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6334 و 6336)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(1/ 146)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3708)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عناية الله سبحانه وتعالى بنبيّه صلى الله عليه وسلم حيث أخرج منه حظّ الشيطان حتى لا يتسلّط عليه، قال القرطبيّ رحمه الله: ما دلّ عليه الحديث من الشقّ، والإخراج فهو محمولٌ على ظاهره وحقيقته؛ إذ لا إحالة في متنه عقلًا، ولا يُستبعد من حيث إنّ شقّ الصدر وإخراج القلب موجب للموت، فإن ذلك أمر عاديّ، وكانت جلّ أحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم خارقةً للعادة، إما معجزةً، وإما كرامةً. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قال القاضي عياضٌ رحمه الله: وفي هذه القصّة أدلّ حجة، وأوضح برهان، وأصحّ دليل على مذهب أهل الحقّ من أن الموت والحياة وسائر الأشياء من فعل الله تعالى وخلقه محضًا، ليس يُوجبها سبب، ولا تقتضيها طبيعة، ولا يُشترط لوجودها شرط لا توجد إلا معه البتّة، إلا من حيث أجرى الله العادة حتى إذا شاء خرقها وأنفذ قدرته كيف شاء، وكانت بمجرّد قدرته خلافًا للفلاسفة ومن ضارع مذهبها من المعتزلة، فإن شقّ الجوف، وإخراج الحشوة، وإخراج القلب، وشقّه، ومعاناته، وغسله، وإخراج شيء منه كلّ ذلك مُقتِل في العادة، وسبب يوجد معه الموت لا محالة، وقد اجتمعت هذه كلّها في هذه القصّة، ولم يمت صاحبها؛ إذ لم يُرد الله تعالى موته ولا
(1)
"المفهم" 1/ 382.
قضاه، بل كانت هذه المهالك في حقّ غيره أسبابًا لحياة نفسه، وقوّة روحه، وكمال أمره. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا دليل على جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل، ولا خلاف في جوازه، وكذا يجوز أن ينظر إلى ما فوق سرته وتحت ركبته، إلا أن ينظر بشهوة، فإنه يحرم النظر بشهوة إلى كل آدميّ إلا الزوج لزوجته ومملوكته، وكذا هما إليه، وإلا أن يكون المنظور إليه أمرد حسن الصورة، فإنه يحرم النظر إليه إلى وجهه وسائر بدنه، سواء كان بشهوة أو بغيرها، إلا أن يكون لحاجة البيع والشراء، والتطبيب، والتعليم، ونحوها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله النوويّ في الأمر من تحريم النظر إلى وجهه مطلقًا فيه نظرٌ لا يخفى، فإنه كان في أولاد الصحابة رضي الله عنهم من هو صبيح الوجه، فلم يُنقل تحريم النظر إليهم، ومن ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صرف وجه الفضل بن عباس رضي الله عنهما في حجة الوداع لنظر تلك المرأة إليه ونظره إليها، وكان صبيح الوجه، فلما سئل عن ذلك أجاب بأنه خشي افتتان المرأة به وافتتانه بها، فإنما منع أن تنظر إليه المرأة وينظر إليها، ولم يمنع أحدًا من الرجال أن ينظر إليه، وأمثال ذلك كثيرة.
وهذا إذا لم يكن النظر بشهوة، وأما إذا كان بشهوة، فالمنع لا شك فيه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن حبّان رحمه الله بعد إخراجه لهذا الحديث: شُقّ صدرُ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو صبيّ يَلعب مع الصبيان وأُخرج منه العَلَقة، ولَمّا أراد الله جلّ وعلا الإسراء به، أمر جبريل بشقّ صدره ثانيًا وأخرج قلبه فغسله، ثم أعاده مكانه مرّتين في موضعين، وهما غير متضادّين. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 687 - 688.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 217.
(3)
"صحيح ابن حبان" بنسخة الترتيب 14/ 243.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[421]
(
…
) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَني سُلَيْمَانُ، وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ، قَالَ: حَدَّثَني شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَة، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاَثةُ نَفَرٍ، قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْه، وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
…
وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِي، وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ، ثقَةٌ ثبتٌ عابدٌ حافظٌ [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد أو أبو أيوب، المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
4 -
(شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ) القُرَشيّ، وقيل: الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، صدوقٌ يُخطئ [5].
رَوَى عن أنس، وسعيد بن المسيِّب، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وكريب، وعكرمة، وعطاء بن يسار، وغيرهم.
ورَوَى عنه سعيد المقبريّ وهو أكبر منه، والثوريّ، ومالك، ومحمد بن جعفر بن أبي كثير، وإسماعيل بن جعفر، وسليمان بن بلال، وعبد العزيز الدراورديّ، وغيرهم.
قال ابن معين والنسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن سعد: كان ثقةً، كثير الحديث، وقال ابن عديّ: إذا رَوَى عنه ثقة فلا بأس برواياته، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقة، وقال النسائيّ أيضًا: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أخطأ، وقال ابن الجارود: ليس به بأس، وليس
بالقويّ، وكان يحيى بن سعيد لا يحدِّث عنه، قال الساجيّ: كان يَرَى القدر.
قال الواقديّ: تُوُفّي قبل خروج محمد بن عبد الله بن الحسن بعد سنة أربعين ومائة، وقال ابن عبد البر: مات سنة (144).
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وله في هذا الكتاب (10) أحاديث، والصحابيّ سبق قريبًا.
وقوله: (عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، والإسراء: سير الليل، يقال: سَرَيتُ مَسْرًى وسُرًى، وأسريتُ إسراءً بمعنًى واحد، وبالألف لغة أهل الحجاز، وقد جاء في القرآن، وقال حسّان:
حَيِّ النَّضِيرَ رَبَّةَ الخِدْرِ
…
أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي
وقيل: أسرى: سار من أول الليل، وسرى: سار من آخره، والقول الأول أعرف، ويقال: سَرَينا سَرْيَةً واحدةً، والاسم: السُّرْيةُ بالضمّ والسُّرَى، ويقال: أسراه وأسرى به، مثل أخذ الخطام وأخذ به
(1)
.
وقوله: (أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاَثةُ نَفَرٍ) هم ملائكة، ولم يُعرف تسميتهم، ويحتمل أن يكون منهم ما وقع في رواية ميمون بن سِيَاه، عن أنس عند الطبراني:"فأتاه جبريل وميكائيل، فقالا: أيهم؟ وكانت قريش تنام حول الكعبة، فقالا: أُمِرنا بسيدهم، ثم ذهبا ثم جاءا، وهم ثلاثة، فألقوه فقلبوه لظهره"
(2)
.
وقوله: (قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ) أنكره الخطابيّ، وابنُ حزم، وعبد الحقّ، والقاضي عياض، والنوويّ، وعبارة النوويّ: وقع في رواية شريك - يعني هذه - أوهام، أنكرها العلماء، أحدها: قوله: "قبل أن يوحى إليه"، وهو غلطٌ
(3)
، لم يوافق عليه، وأجمع العلماء أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل الوحي. انتهى، وصرح المذكورون بأن شريكًا تفرد بذلك.
قال الحافظ: وفي دعوى التفرد نظرٌ، فقد وافقه كثير بن خُنيس - بمعجمة،
(1)
"المفهم" 1/ 384.
(2)
راجع: "الفتح" 13/ 488.
(3)
سيأتي الجواب قريبًا بأن ليلة الإسراء ليست ليلة مجيء الملائكة قبل الوحي، وإنما هي ليلة أخرى، كما سيأتي ما يدلّ على ذلك من رواية شريك نفسه، فتنبّه.
ونون، مصغَّرًا - عن أنس، كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيد الأمويّ في "كتاب المغازي" من طريقه. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِضَتِهِ) يعني: أن شريكًا ساق متن الحديث مطوّلًا، وفيه قصة الإسراء بطولها.
وقوله: (وَقَدَّمَ فِيهِ شَيْئًا وَأَخَّرَ، وَزَادَ وَنَقَصَ) إشارة إلى ما وقع لشريك من المخالفات، وقد تكلّم العلماء على هذه المخالفات، ونبّهوا عليها كما أشار إليه المصنّف هنا، وبيّنوا ما فيها من الغلط:
قال عبد الحق في "الجمع بين الصحيحين": زاد فيه - يعني: شريكًا - زيادة مجهولةً، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة، وقد روى الإسراء جماعة من الحفاظ، فلم يأتِ أحدٌ منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ.
وسبق إلى ذلك أبو محمد بن حزم، فيما حكاه الحافظ أبو الفضل بن طاهر في جزء سمّاه "الانتصار لأيامى الأمصار"، فنَقَل فيه عن الحميديّ، عن ابن حزم، قال: لم نجد للبخاريّ ومسلم في كتابيهما شيئًا لا يحتمل مخرجًا إلا حديثين، ثم غلبه في تخريجه الوهم، مع إتقانهما وصحة معرفتهما فذكر هذا الحديث، وقال: فيه ألفاظ معجمة، والآفة من شريك.
من ذلك قوله: "قبل أن يوحى إليه"، وأنه حينئذ فرض عليه الصلاة، قال: وهذا لا خلاف بين أحد من أهل العلم إنما كان قبل الهجرة بسنة، وبعد أن أوحي إليه بنحو اثنتي عشرة سنة.
ثم قوله: "إن الجبار دنا فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى"، وعائشة رضي الله عنها تقول: إن الذي دنى فتدلى جبريل. انتهى.
وقال أبو الفضل بن طاهر: تعليل الحديث بتفرد شريك، ودعوى ابن حزم أن الآفة منه شيء لم يُسْبَق إليه، فإن شريكًا قَبِله أئمة الجرح والتعديل، ووثَّقُوه، ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم، واحتجوا به، ورَوَى عبد الله بن أحمد الدَّوْرَقيّ، وعثمان الدارميّ، وعباس الدُّوريّ عن يحيى بن معين: لا بأس به، وقال ابن عديّ: مشهور من أهل المدينة، حَدَّث عنه مالك
(1)
المصدر السابق.
وغيره من الثقات، وحديثه إذا رَوَى عنه ثقة لا بأس به، إلا أن يَرْوِي عنه ضعيف، قال ابن طاهر: وحديثه هذا رواه عنه ثقةٌ، وهو سليمان بن بلال، قال: وعلى تقدير تسليم تفرده "قبل أن يوحى إليه" لا يقتضي طرح حديثه، فوهم الثقة في موضع من الحديث، لا يُسقط جميع الحديث، ولا سيَّما إذا كان الوَهَم لا يستلزم ارتكاب محذور، ولو تُرِك حديث مَن وَهِم في تاريخ، لتُرك حديث جماعة من أئمة المسلمين، ولعله أراد أن يقول:"بعد أن أوحي إليه"، فقال:"قبل أن يوحى إليه". انتهى.
وقد سبق ابنَ حزم أيضًا إلى الكلام في شريك أبو سليمان الخطابيّ، وقال فيه النسائيّ، وأبو محمد بن الجارود: ليس بالقويّ، وكان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه، نعم، قال محمد بن سعد، وأبو داود: ثقةٌ، فهو مختلف فيه، فإذا تفرّد عُدّ ما ينفرد به شاذًّا، وكذا منكرًا على رأي من يقول: المنكر والشاذّ شيء واحد.
والأَوْلى التزام وُرود المواضع التي خالف فيها غيره، والجواب عنها، إما بدفع تفرّده، وإما بتأويله على وفاق الجماعة.
ومجموع ما خالفت فيه روايةُ شريك غيرَه من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك:
[الأول]: أمكنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في السماوات، وقد أفصح بأنه لم يَضْبِط منازلهم، وقد وافقه الزهريّ في بعض ما ذَكَر.
[الثاني]: كون المعراج قبل البعثة، وقد سبق الجواب عن ذلك، وأجاب بعضهم عن قوله:"قبل أن يوحى" بأن القبلية هنا في أمر مخصوص وليست مطلقةً، واحتَمَلَ أن يكون المعنى قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء والمعراج مثلًا، أي: أن ذلك وقع بغتةً قبل أن يُنذَر به، ويؤيده قوله في حديث الزهريّ:"فُرِجَ سقفُ بيتي".
قِال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذا الجواب - أعني: كون الوحي المنفيّ في شأن الإسراء لا وحي الرسالة - هو الأقرب، فتأمّله، والله تعالى أعلم.
[الثالث]: كونه منامًا، وسيأتي الجواب عنه أيضا بما فيه غنية.
[الرابع]: مخالفته في محل سحدرة المنتهى وأنها فوق السماء السابعة بما لا يعلمه إلا الله، والمشهور أنها في السابعة أو السادسة كما سيأتي أيضًا.
[الخامس]: مخالفته في النهرين، وهما النيل والفرات، وأن عنصرهما في السماء الدنيا، والمشهور روايته أنهما في السماء السابعة وأنهما من تحت سدرة المنتهى.
[السادس]: شقّ الصدر عند الإسراء، وقد وافقته رواية غيره، كما سيأتي في شرح رواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة.
[السابع]: ذكر نهر الكوثر في السماء الدنيا، والمشهور في الحديث أنه في الجنة، كما سيأتي أيضًا.
[الثامن]: نسبة الدنوّ والتدلّي إلى الله عز وجل، والمشهور في الحديث أنه جبريل عليه السلام.
[التاسع]: تصريحه بأن امتناعه صلى الله عليه وسلم من الرجوع إلى سؤال ربه التخفيف كان عند الخامسة، ومقتضى رواية ثابت عن أنس أنه كان بعد التاسعة.
[العاشر]: قوله "فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه"، وقد تقدم ما فيه
(1)
[الحادي عشر]: رجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث أن موسى عليه الصلاة والسلام أمره بالرجوع بعد أن انتهى التخفيف إلى الخمس، فامتنع كما سيأتي.
[الثاني عشر]: زيادة ذكر التَّوْر في الطَّست.
قال الحافظ رحمه الله: فهذه أكثر من عشرة مواضع في هذا الحديث، لم أرَها مجموعة في كلام أحد ممن تقدّم، وقد بيّنت في كل واحد إشكال من استشكله والجواب عنه إن أمكن، وبالله التوفيق.
(1)
أراد بما تقدّم له فيه قوله نقلًا عن الخطابيّ: قال: والمكان لا يُضاف إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقامه الأول الذي قام فيه قبل هبوطه. انتهى.
قال الحافظ: وهذا الأخير متعيّن، وليس في السياق تصريح بإضافة المكان إلى الله تعالى. انتهى. "فتح" 13/ 492 "كتاب التوحيد" رقم (7517).
وقد جزم ابن القيّم في "الهدي" بأن في رواية شريك عشرة أوهام، لكن عدَّ مخالفته لمحالّ الأنبياء أربعة منها، وأنا جعلتها واحدة، فعلى طريقته تزيد العِدّة ثلاثة، وبالله التوفيق. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ وبحث أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب.
[تنبيه]: رواية شريك التي أحالها المصنّف رحمه الله على رواية ثابت قد ساقها الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" مطوّلةً، فقال:
(7517)
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: ليلة أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نَفَرٍ قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيُّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يَرَهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يَرَى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشَقّ جبريل ما بين نَحْره إلى لَبَّته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، حتى أنقى جوفه، ثم أَتَى بطست من ذهب، فيه تَوْر من ذهب، محشوًّا إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره ولَغَاديده - يعني: عروق حلقه - ثم أطبقه، ثم عَرَج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: مَن هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قال: وقد بُعِث؟، قال: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء، لا يَعْلَم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعلمهم، فوَجَدَ في السماء الدنيا آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك آدم، فسَلِّم عليه فسَلَّم عليه ورَدّ عليه آدم، وقال: مرحبًا وأهلًا بابني، نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يَطّردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مَضَى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزَبَرْجَد، فضرب يده، فإذا هو مسكٌ أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عَرَج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى: مَن هذا؟ قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا:
وقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به وأهلًا، ثم عَرَج به إلى السماء الثالثة، وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عَرَج به إلى الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عَرَج به إلى السماء الخامسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عَرَج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كلُّ سماء فيها أنبياء قد سمَّاهم، فأوعيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: ربّ، لم أظُنّ أن يُرْفَع عليّ أحدٌ، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا للجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاةً على أمتك كلَّ يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عَهِدَ إليك ربك؟ قال: عَهِد إليّ خمسين صلاةً كلَّ يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع، فليخفف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل، كأنه يستشيره في ذلك، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا ربِّ خَفّف عنّا، فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات، ثم رجع إلى موسى، فاحتبسه، فلم يزل يُرَدّده موسى إلى ربه، حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس، فقال: يا محمد، والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضَعُفُوا فتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا، فارجع، فليخفف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم، فخفف عنّا، فقال الجبار: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يُبَدَّل القول لديّ كما فرضتُهُ عليك في أم الكتاب، قال: فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خَفَف عنّا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك، فتركوه، ارجع إلى ربك، فليخفف عنك أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا موسى،
قد والله استحييت من ربي، مما اختلفت إليه، قال: فاهبط باسم الله، قال: واستيقظ وهو في مسجد الحرام".
قوله: "فقال أولهم: أيُّهم هو؟ " فيه إشعار بأنه كان نائمًا بين جماعة أقلّهم اثنان، وقد جاء أنه كان نائمًا معه حينئذ حمزة بن عبد المطلب عمه، وجعفر بن أبي طالب ابن عمه.
وقوله: "فلم يرَهم" أي: بعد ذلك "حتى أتوه ليلة أخرى"، ولم يُعَيِّن المدة التي بين المجيئين، فيحمل على أن المجيء الثاني كان بعد أن أُوحي إليه، وحينئذ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدةٌ، فلا فرق في ذلك بين أن تكون تلك المدة ليلة واحدة، أو ليالي كثيرة، أو عدة سنين، وبهذا يرتفع الإشكال عن رواية شريك، ويحصل به الوفاق أن الإسراء كان في اليقظة بعد البعثة وقبل الهجرة، ويسقط تشنيع الخطابيّ وابن حزم وغيرهما بأن شريكًا خالف الإجماع في دعواه أن المعراج كان قبل البعثة، وبالله التوفيق.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حاصل هذا الجواب أن قوله: "قبل أن يوحى إليه" ليس ظرفًا للإسراء، وإنما هي ليلة أخرى، ثم بعد أن أوحي إليه جاؤوه فوقع الإسراء، وهذا تأويل قويّ، فتأمله بإنصاف، والله تعالى أعلم.
قال الحافظ: وأما ما ذكره بعض الشرّاح أنه كان بين الليلتين اللتين أتاه فيهما الملائكة سبع، وقيل: ثمان، وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: ثلاثة عشر، فيُحْمَل على إرادة السنين، لا كما فهمه الشارح المذكور أنها ليال، وبذلك جزم ابن القيِّم في هذا الحديث نفسه.
وأقوى ما يُسْتَدَلُّ به أن المعراج بعد البعثة قوله في هذا الحديث نفسِهِ: إن جبريل قال لبواب السماء إذ قال له: أبُعث؟ قال: نعم، فإنه ظاهر في أن المعراج كان بعد البعثة، فيتعين ما ذكرته من التأويل.
وقوله: "فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام"، فإن حُمِل على ظاهره جاز أن يكون نام بعد أن هَبَط من السماء، فاستيقظ وهو عند المسجد الحرام، وجاز أن يؤَوَّل قوله:"استيقظ" أي: أفاق مما كان فيه، فإنه كان إذا أُوحي إليه يَستغرق فيه، فإذا انتهى رَجَع إلى حالته الأولى، فكَنَى عنه بالاستيقاظ.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه؛ هذا الاحتمال الأخير هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: "ثم أطبقه، ثم عَرَج به إلى السماء الدنيا" إن كانت القصة متعددة فلا إشكال، وإن كانت متحدة، ففي هذا السياق حذف تقديره:"ثم أركبه البراق إلى بيت المقدس، ثم أَتَى بالمعراج"، كما في حديث مالك بن صعصعة:"فغُسِل به قلبي، ثم حُشِي، ثم أعيد، ثم أُتيت بدابة، فحُملت عليه، فانطلق بي جبريل، حتى أتى السماء الدنيا"، وفي سياقه أيضًا حذف تقديره:"حتى أتى بي بيت المقدس، ثم أَتى بالمعراج"، كما في رواية ثابت، عن أنس رفعه:"أُتيت بالبراق، فركبته حتى أتى بي بيت المقدس، فربطته، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين".
وقوله: "فإذا هو في السماء الدنيابنهرين يَطّرِدان"؛ أي: يجريان، وظاهر هذا يخالف حديث مالك بن صعصعة، فإن فيه بعد ذكر سدرة المنتهى:"فإذا في أصلها أربعة أنهار"، وُيجمَع بأن أصل نَبْعهما من تحت سدرة المنتهى، ومَقَرّهما في السماء الدنيا، ومنها ينزلان إلى الأرض.
وقوله: "قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك"، هذا ممَّا يُستَشكَل من رواية شريك، فإن الكوثر في الجنة، والجنة في السماء السابعة، وقد أخرج أحمد من حديث حميد الطويل، عن أنس رفعه:"دخلت الجنة، فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي في مجرى مائه، فإذا مسك أذفر، فقال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله تعالى"، وأصل هذا الحديث عند البخاريّ بنحوه من طريق قتادة، عن أنس، لكن ليس فيه ذكر الجنة، وأخرجه أبو داود، والطبري من طريق سليمان التيميّ، عن قتادة، ولفظه: "لَمّا عُرِج بنبيّ الله صلى الله عليه وسلم عَرَض له في الجنة نهرٌ
…
" الحديث.
ويمكن أن يكون بهذا الموضع شيء محذوف، تقديره: ثم مَضَى به في السماء الدنيا إلى السابعة، فإذا هو بنهر.
وقوله: "كلُّ سماء فيها أنبياء، قد سماهم، فوَعَيت منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة".
كذا في رواية شريك، وفي حديث الزهريّ، عن أنس، عن أبي ذرّ، قال أنس: فذكر أنه وَجَد في السماوات آدم، وإدريس، وموسى، وعيسى، وإبراهيم، ولم يُثْبِت كيف منازلهم، غير أنه وَجَد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. انتهى.
وهذا موافق لرواية شريك في إبراهيم، وهما مخالفان لرواية قتادة، عن أنس، عن مالك بن صعصعة، قال الحافظ: وقد وافق الأكثرون قتادة، وسياقه يدُلّ على رُجحان روايته، فإنه ضَبَط اسم كلِّ نبيّ والسماء التي هو فيها، ووافقه ثابت عن أنس وجماعة، فهو المحتمد، لكن إن قلنا: إن القصة تعددت، فلا ترجيح ولا إشكال.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بتعدّد القصّة غير صحيح؛ لِمَا سيأتي، فالترجيح هو الصحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: "وموسى في السابعة بفضل كلامه لله"، قال الحافظ: وهذا التعليق
(1)
يدُل على أن شريكًا ضَبَط كون موسى في السماء السابعة، وقد قدمنا أن حديث أبي ذر يوافقه، لكن المشهور في الروايات أن الذي في السابعة هو إبراهيم، وأكد ذلك في حديث مالك بن صعصعة، بأنه كان مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، فمع التعدد لا إشكال، ومع الاتحاد فقد جُمِع بأن موسى كان في حالة العروج في السادسة، وإبراهيم في السابعة، على ظاهر حديث مالك بن صعصعة، وعند الهبوط كان موسى في السابعة؛ لأنه لم يُذكَر في القصة أن إبراهيم كلمه في شيء مما يتعلق بما فَرَض الله على أمته من الصلاة كما كلمه موسى، والسماء السابعة هي أوّلُ شيء انتهى إليه حالة الهبوط، فناسب أن يكون موسى بها؛ لأنه هو الذي خاطبه في ذلك كما ثبت في جميع الروايات، ويحتمل أن يكون لقي موسى في السادسة، فأصعد معه إلى السابعة تفضيلًا له على غيره من أجل كلام الله تعالى، وظهرت فائدة ذلك في كلامه فيما يتعلق بأمر أمته في الصلاة، وقد أشار النووي إلى شيء من ذلك، والعلم عند الله تعالى. انتهى.
(1)
يعني قوله: "بفضل كلام الله".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل يردّه قوله في رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند النسائيّ: "فرجعت إلى إبراهيم، فلم يسألني عن شيء، ثم أتيت على موسى، فقال: كم فرض الله عليك
…
"، فإنها ظاهرة بأنه مرّ أوّلًا على إبراهيم؛ لأنه في السماء السابعة، ثم مرّ على موسى في السادسة، فالأولى ترجيح الروايات المشهورة: أن إبراهيم في السابعة، وموسى في السادسة، فتبصّر بإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: "ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى"، كذا وقع في رواية شريك، وهو مما خالف فيه غيره، فإن الجمهور على أن سدرة المنتهى في السابعة، وعند بعضهم في السادسة.
قال الحافظ: ولعل في السياق تقديمًا وتأخيرًا، وكان ذكر سدرة المنتهى قبل:"ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله".
ووقع في رواية ميمون بن سياه عن أنس عند الطبريّ بعد ذكر إبراهيم في السابعة: "فإذا هو بنهر، فذكر أمر الكوثر، قال: ثم خرج إلى سدرة المنتهى" وهذا موافق للجمهور.
ويحتمل أن يكون المراد بما تضمنته هذه الرواية من العلوّ البالغ لسدرة المنتهى صفة أعلاها، وما تقدم صفة أصلها. انتهى.
وقوله: "ودنا الجبار ربُّ العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى"، في رواية ميمون المذكورة:"فدنا ربك عز وجل، فكان قاب قوسين أو أدنى".
قال الخطابيّ: ليس في هذا الكتاب - يعني: صحيح البخاري - حديث أشنع ظاهرًا ولا أشثع مَذَاقًا من هذا الفصل، فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر، وتمييز مكان كل واحد منهما. هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلَّق من فوق إلى أسفل، قال: فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعًا عن غيره، ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قُصاراه إما ردّ الحديث من أصله وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما، وأما من اعتبر أول الحديث بآخره، فإنه يزول عنه الإشكال، فإنه مصرَّح فيهما بأنه كان رؤيا؛
لقوله في أوله: "وهو نائم"، وفي آخره:"استيقظ"، وبعض الرؤيا مَثَلٌ يُضرَب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يُصرَف إليه في مثله، وبعض الرؤيا لا يَحتاج إلى ذلك، بل يأتي كالمشاهدة.
قال الحافظ؛ وهو كما قال، ولا التفات إلى مَن تعقّب كلامه بقوله في الحديث الصحيح:"إن رؤيا الأنبياء وحي"، فلا يَحتاج إلى تعبير؛ لأنه كلام مَن لم يُمْعِن النظر في هذا المحل، فقد ثبت أن بعض مرأى الأنبياء يقبل التعبير، ومن ذلك قول الصحابة رضي الله عنهم له صلى الله عليه وسلم في رؤية القميص: فما أوّلته يا رسول الله؟ قال: "الدين"، وفي رؤية اللبن قال:"العلم" إلى غير ذلك.
لكن جزْم الخطابي بأنه كان في المنام متعَقَّب بما تقدم تقريره قبلُ، ثم قال الخطابيّ مشيرًا إلى رفع الحديث من أصله بأن القصة بطولها: إنما هي حكاية يَحكيها أنس من تلقاء نفسه، لم يعزُها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا نَقَلها عنه، ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي، إما من أنس وإما من شريك، فإنه كثير التفرد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة. انتهى.
وتعقّبه الحافظ وأحسن، فقال: وما نفاه من أنَّ أنسًا لم يُسند هذه القصة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لا تأثير له، فأدنى أمره فيها أن يكون مرسل صحابيّ، فإما أن يكون تلقّاها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أو عن صحابيّ تلقاها عنه، ومثل ما اشتَمَلت عليه لا يقال بالرأي، فيكون لها حكم الرفع، ولو كان لِمَا ذكره تأثير لم يُحمَل حديثُ أحدٍ، رَوَى مثل ذلك على الرفع أصلًا، وهو خلاف عمل المحدثين قاطبة، فالتعليل بذلك مردود.
ثم قال الخطابيّ: إن الذي وَقَع في هذه الرواية من نسبة التدلي للجبار عز وجل مخالف لعامة السلف، والعلماء، وأهل التفسير، مَن تقدم منهم ومَن تأخر، قال: والذي قيل فيه ثلاثة أقوال:
[أحدها]: أنه دَنَا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم، فتدلى، أي: تقرّب منه، وقيل: هو على التقديم والتأخير، أي: تدلى فدنا؛ لأن التدلي بسبب الدنو.
[الثاني]: تدلى له جبريل بعد الانتصاب والارتفاع، حتى رآه متدليًا كما
رآه مرتفعًا، وذلك من آيات الله، حيث أقدره على أن يتدلى في الهواء من غير اعتماد على شيء، ولا تمسك بشيء.
[الثالث]: دنا جبريل فتدلى محمد صلى الله عليه وسلم ساجدًا لربه تعالى شكرًا على ما أعطاه، قال: وقد رُوي هذا الحديثُ عن أنس من غير طريق شريك، فلم تُذكر فيه هذه الألفاظ الشنيعة، وذلك مما يُقَوِّي الظن أنها صادرة من جهة شريك. انتهى.
وقد أخرج الأموي في "مغازيه"، ومن طريقه البيهقي، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13] قال: دنا منه ربه، وهذا سَنَد حسنٌ، وهو شاهد قويٌّ لرواية شريك.
ثم قال الخطابيّ: وفي هذا الحديث لفظة أخرى تفرّد بها شريك أيضًا لم يَذكُرها غيره، وهي قوله:"فعلا به - يعني: جبريل - إلى الجبار تعالى، فقال وهو مكانه: يا رب". قال: والمكان لا يضاف إلى الله تعالى، إنما هو مكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في مقامه الأوّل الذي قام فيه قبل هبوطه. انتهى.
قال الحافظ: وهذا الأخير متعيِّنٌ، وليس في السياق تصريحٌ بإضافة المكان إلى الله تعالى.
وأما ما جزم به من مخالفة السلف والخلف لرواية شريك عن أنس في التدلي، ففيه نظرٌ، فقد ذكرتُ من وافقه، وقد نَقَل القرطبيّ عن ابن عباس أنه قال: دنا الله سبحانه وتعالى، قال: والمعنى دنا أمره وحكمه، وأصل التدلّي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه، قال: وقيل: تدلَّى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جَلَس عليه، ثم دنا محمد من ربه. انتهى.
قال: وقال القاضي عياض في "الشفاء": إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى، أو من الله، ليس دنوّ مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيّه وإكرام له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث:"يَنزل ربنا إلى السماء"، وكذا في حديث:"مَن تقرب مني شبرًا، تقربت منه ذراعًا"، وقال غيره: الدنوّ مجاز عن القرب المعنوي؛ لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى، والتدلّي طلب زيادة القرب، وقاب قوسين بالنسبة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عبارة عن لطف المحلّ وإيضاح
المعرفة، وبالنسبة إلى الله إجابة سؤاله ورفع درجته. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: زيادة الدنوّ في هذا الحديث مما أُنْكِر على شريك، قال الإمام البيهقيّ رحمه الله: في حديث شريك زيادة تفرّد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه، يعني: قوله: "ثم دنا الجبار ربُّ العزة فتدلّى، فكان قاب قوسين أو أدنى" قال: وقول عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل عليه السلام أصحّ.
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" بعد نقل كلام البيهقيّ ما نصّه: وهذا الذي قاله البيهقيّ في هذه المسألة هو الحق، فإن أبا ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ قال:"نورٌ أنَى أراه؟ "، وفي رواية:"رأيتُ نورًا"، أخرجه مسلم رحمه الله.
وقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)} [النجم: 8] إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في "الصحيحين" عن عائشة أم المؤمنين وابن مسعود رضي الله عنهما، وكذلك هو في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولا يُعرف لهم مخالفٌ من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله
(2)
.
والحاصل أن زيادة الدنوّ لا تثبُت في حديث صحيح، فلا حاجة إلى توجيهها؛ لأنه فرع ثبوتها، فلو ثبتت لما توقّفنا في حملها على ظاهرها كسائر الصفات، من الاستواء، والنزول، والقرب، والمجيء، وغير ذلك مما ثبت في النصوص الصحيحة على ما يليق بجلال الله تعالى، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقوله: "عند الخامسة" هذا التنصيص على الخامسة على أنها الأخيرة يخالف رواية ثابت عن أنس أنه وضع عنه في كل مرة خمسًا، وأن المراجعة كانت تسع مرات، ورجوع النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد تقرير الخمس لطلب التخفيف مما وقع من تفردات شريك في هذه القصة، والمحفوظ ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال لموسى في الأخيرة:"استحييت من ربي".
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 490 - 494 "كتاب التوحيد" رقم الحديث (7517).
(2)
"تفسير ابن كثير" 8/ 376 - 377.
وقوله: "فاستيقظ وهو في المسجد الحرام"، قال القرطبيّ: يحتمل أن يكون استيقاظًا من نومة نامها بعد الإسراء؛ لأن إسراءه لم يكن طول ليلته، وإنما كان في بعضها، ويحتمل أن يكون المعنى: أفقت مما كنتُ فيه مما خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18]، فلم يرجع إلى حال بشريته صلى الله عليه وسلم إلا وهو بالمسجد الحرام، وأما قوله في أوله:"بينا أنا نائم"، فمراده في أول القصة، وذلك أنه كان قد ابتدأ نومه، فأتاه الملك فأيقظه، وفي قوله في الرواية الأخرى:"بينا أنا بين النائم واليقظان أتاني الملك" إشارة إلى أنه لم يكن استَحْكَم في نومه. انتهى.
قال الحافظ: وهذا كله ينبني على توحيد القصة، وإلا فمتى حُمِلت على التعدد، بأن كان المعراج مرة في المنام وأخرى في اليقظة فلا يحتاج لذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: القول بالتعدّد ليس بسديد، على ما يأتي بيانه، فالأولى التأويل إن أمكن، أو الترجيح، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[422]
(163) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأنا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَب مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلى السَّمَاء، فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ؛ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ مَعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَاُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَفَتَحَ، قَالَ: فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، قَالَ: فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ
بَكَى، قَالَ: فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِح، قَالَ: قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيه، فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّة، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّار، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ، حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَفَتَحَ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أدهُ قَدْ وَجَدَ آدَمَ؛ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَة، قَالَ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِح، وَالْأخَ الصَّالِح، قَالَ: ثُمَّ مَرَّ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأخَ الصَّالِح، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِح، وَالْأخَ الصَّالِح، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالابْنِ الصَّالِح، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسِ وَأَبَا حَبَّةَ الْأنصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ عَرَجَ بِي، حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقلَامِ"، قَالَ ابْنُ حَزْمِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَفَرَضَ اللهُ عَلَى أمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً"، قَالَ: "فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى عليه السلام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ لِي مُوسَى عليه السلام، فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ، حَتَّى نَأْتِيَ
سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَغَشِيَهَا أَلْوَان لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) - بضمّ التاء وفتحها - المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 243)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المذكور في السند الماضي.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ المذكور قبل باب.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) هو: محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المذكور في الباب الماضي.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير المذكور في السند الماضي.
6 -
(أبو ذرّ) جندب بن جُنادة على الأصحّ، وقيل غير ذلك في اسمه، الصحابيّ الشهير، تقدّم إسلامه وتأخّرت هجرته فلم يشهد بدرًا، مات سنة (32)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فقد تفرّد به هو، والنسائيّ، وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ويونس وإن كان أيليًّا إلا أنه سكن مصر، ونصفه الثاني مسلسل بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
5 -
(ومنها): أن أنسًا رضي الله عنه هو الخادم المشهور، أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
6 -
(ومنها): أن أبا ذرّ رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، كان من أزهد الصحابة، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذرّ"، رواه أحمد والترمذيّ
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد في "مسنده"(6341)، والترمذيّ في "جامعه"(3737).
[تنبيه]: هذا الحديث رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، لكن طرقه في "الصحيحين" تدور على أنس رضي الله عنه مع اختلاف أصحابه عنه، فرواه الزهري عنه، عن أبي ذر كما في هذه الرواية، ورواه قتادة عنه، عن مالك بن صعصعة، كما في الرواية الآتية، ورواه شريك بن أبي نمر، وثابت البناني عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، كما سبقت روايتهما، وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر
(1)
، وقد بيّنّا بعضه، وسنبيّن ما بقي فيما يأتي إن شاء الله تعالى.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جنادة الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 29/ 224، (يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَالَ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي) - بضم الفاء، وبالجيم - أي: فُتِح، والحكمة فيه أن الملك انصَبّ إليه من السماء انصبابة واحدة، ولم يُعَرِّج على شيء سواه مبالغةً في المناجاة، وتنبيهًا على أن الطلب وقع على غير ميعاد.
ويحتمل أن يكون السرّ في ذلك التمهيد لِمَا وقع من شقّ صدره، فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه في الحال كيفيةَ ما سيصنع به لطفًا به وتثبيتًا له، والله تعالى أعلم.
وقال العينيّ رحمه الله: فإن قلت: كان البيت لأم هانئ، فكيف قال: بيتي بإضافته إلى نفسه؟
قلت: إضافته إليه بأدنى ملابسة، وهذا كثير في كلام العرب، كما يقول أحد حاملي الخشبة للآخر: خذ طرَفَك.
فإن قلت: روي أيضًا أنه كان في الحطيم، فكيف الجمع بينهما؟.
قلت: أما على كون العروج مرّتين فظاهرٌ، وأما على كونه مرّة واحدةً، فلعلّه صلى الله عليه وسلم بعد غسل صدره دخل بيت أم هانئ ومنه عُرِج به إلى السماء.
والحكمة في دخول الملائكة من وسط السقف ولم يدخلوا من الباب،
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 548 "كتاب الصلاة"(349).
كون ذلك أوقع صدقًا في القلب فيما جاؤوا به. انتهى
(1)
.
(وَأَنَا بِمَكَّةَ) جملة اسميّة في محلّ نصب على الحال (فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي) هو بفتح الفاء، وبالجيم أيضًا؛ أي: شقَّه، ورجَّح القاضي عياض أنّ شقّ الصدر كان وهو صغير، عند مرضعته حليمة، وتعقّبه السهيلي بأن ذلك وقع مرتين، وهو الصواب، والحكمة في الشق الأول، كان لاستعداده لنزع العلقة التي قيل له عندها: هذا حظ الشيطان منك، والشق الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة، وقد رَوَى الطيالسيّ والحارث في "مسنديهما" من حديث عائشة رضي الله عنهما، أن الشق وقع مرة أخرى عند مجيء جبريل له بالوحي في غار حراء، - والله تعالى أعلم - ومناسبته ظاهرة، ورُوي الشَّقّ أيضًا وهو ابن
(2)
عشر أو نحوها في قصة له مع عبد المطلب، أخرجها أبو نعيم في "الدلائل"، وروى مرة أخرى خامسة ولا تثبت، قاله في "الفتح"
(3)
.
(ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ) تقدّم ضبطه ومعناه قريبًا، وإنما خُص بذلك لأنه آلة الغسل عرفًا، وكان من ذهب لأنه أعلى أواني الجنة، وهو رأس الأثمان، وله خواصّ، منها: أنه لا تأكله النار في حال التعليق، ولا تأكله الأرض ولا تغيّره، وهو أنقى كلّ شيء وأصفاه ويقال في المثل: أنقى من الذهب، وهو بيت الفرح والسرور، وقال الشاعر [من البسيط]:
صَفْرَاءُ لَا تَنْزِلُ الأَحْزَانُ سَاحَتَهَا
…
لَوْ مَسَّهَا حَجَر مَسَّتْهُ سَرَّاءُ
وهو أثقل الأشياء، فيُجعل في الزئبق الذي هو أثقل الأشياء فيَرسُبُ، وهو موافق لثقل الوحي، وهو عزيز، وبه يتمّ الملك.
وقد أبعد من استدَلّ به على جواز تحلية المصحف وغيره بالذهب؛ لأن المستعمِل له الملك، فيحتاج إلى ثبوت كونهم مكلفين بما كُلِّفنا به، ووراء ذلك أنّ ذلك كان على أصل الإباحة؛ لأن تحريم الذهب إنما وقع بالمدينة، كما سيأتي واضحًا في محلّه من "كتاب اللباس" - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 62.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 63.
(3)
"الفتح" 1/ 549.
(مُمْتَلِئٍ) كذا وقع بالتذكير على معنى الإناء، لا على لفظ الطست؛ لأنها مؤنثه.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، وفيه أنه وإن كان التأنيث فيها أكثر، إلا أنه يجوز تذكيرها، فلا حاجة إلى ما ذكره، وقد سبق تحقيقه في شرح الحديث الذي قبل حديث، فارجع إليه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (حِكْمَةً وَإِيمَانًا) بالنصب على التمييز، قال في "الفتح": والمعنى أن الطست جُعِل فيها شيءٌ يحصل به كمال الإيمان والحكمة، فسُمِّيَ حكمةً وإيمانًا مجازًا، أو مُثِّلا له بناءً على جواز تمثيل المعاني، كما يُمَثَّل الموت كبشًا.
قال الجامع عفا الله عنه: الصواب حمل الحديث على ظاهر المعنى، فما الحامل على دعوى المجاز؟، فالحقّ أن الحكمة والإيمان جُعلا في الطست، وأُفرغا في صدر النبيّ صلى الله عليه وسلم، على ظاهر ما دلّ عليه الحديث، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
و"الحكمة": اسم من حَكُم بضمّ عين الفعل؛ أي: صار حكيمًا، وصاحب الحكمة: هو المتقن للأمور، وأما حَكَمَ بفتح عين الفعل، فمعناه: قضى، ومصدره الحُكْم بالضمّ، والحُكْم أيضًا الحكمة بمعنى العلم، والحكيم: العالم
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: الحكمة: عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال من يُحسِنُ دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم، قال: والْحَكَمَة - بفتحتين -: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس وحَنَكِه، تمنعه عن مخالفة راكبه. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الحَكمَة وزان قَصَبَة للدابّة، سُمّيت بذلك لأنها تذلّلها لراكبها حتى تمنعها الجِمَاح ونحوَهُ، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأرذال. انتهى
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 63.
(2)
راجع: "لسان العرب" 12/ 144.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 145.
وقال ابن دريد رحمه الله: كلّ كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى مكرمة، أو نَهَتك عن قبيح فهي: حكمة
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: في تفسير الحكمة أقوال كثيرة مضطربة، صَفَا لنا منها أن الحكمة: العلم المشتمل على المعرفة بالله مع نفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحقّ للعمل به، والكفّ عن ضدّه، والحكيمُ من حاز ذلك. انتهى ملخصًا.
وقد تُطلَق الحكمة على القرآن، وهو مشتمل على ذلك كلِّه، وعلى النبوة كذلك، وقد تُطلَق على العلم فقط، وعلى المعرفة فقط، ونحو ذلك
(2)
.
(فَأفرَغَهَا) قال النوويّ رحمه الله: الضمير للطست، فجاء "ممتلئ" على معناها، وهو الإناء، و"أفرغها" على لفظها، وحَكَى صاحب "التحرير" قولًا أنه يعود على الحكمة، وهذا القول، وإن كان له وجهٌ، فالأظهر ما قدّمناه؛ لأن عوده على الطست يكون تصريحًا بإفراغ الإيمان والحكمة، وعلى قوله يكون إفراغ الإيمان مسكوتًا عنه. انتهى
(3)
. (فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ) أي: أطبق صدره، يقال: أطبقت الشيء: إذا غطيته وجعلته مطبقًا، (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي) قال في "الفتح": استَدَلّ به بعضهم على أن المعراج وقع غير مرّة؛ لكون الإسراء إلى بيت المقدس لم يُذْكَر هنا، ويمكن أن يقال: هو من اختصار الراوي، والإتيان بـ "ثُمّ" المقتضية للتراخي لا ينافي وقوع أمر الإسراء بين الأمرين المذكورين، وهما الإطباق والعروج، بل يشير إليه، وحاصله أن بعض الرواة ذَكَر ما لم يذكره الآخر. انتهى.
قال الجامح عفا الله عنه: كونه من اختصار الراوي هو الأقرب؛ لأن حمله على التعدّد مما لا يخفى بعده، والله تعالى أعلم.
(فَعَرَجَ بِي) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الملك، ووقع عند البخاريّ من رواية الكشميهني:"فعرج به" على الالتفات أو التجريد، و"العُرُوج": الصعود، يقال: عَرَج يَعرُج من باب نصر إذا صَعِدَ، وقال ابن سِيدهْ: عَرَج في
(1)
"عمدة القاري" 3/ 63.
(2)
"الفتح" 1/ 549.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 218.
الشيء وعليه يَعْرُجُ عُرُوجًا: رَقِيَ، وعَرَجَ الشيءُ فهو عَرِيجٌ: ارتفع وعلا، والمعراج: شبه سُلّم، مِفْعال من العروج. انتهى.
(إِلَى السَّمَاءِ) وللبخاريّ: "إلى السماء الدنيا"، (فَلَمَّا جِئْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) فُعْلَى من الدنوّ؛ أي: القريبة من الأرض (افْتَحْ) هذا يدُلّ على أن الباب كان مغلقًا، قال ابن المُنَيِّر: حكمته التحقق أن السماء لم تُفْتَح إلا من أجله، بخلاف ما لو وجده مفتوحًا (قَالَ) أي: الخازن (مَنْ هَذَا؟) مَن استفهاميّة مبتدأ، خبرها اسم الإشارة، ويجوز العكس (قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ) أي: المستأذن هو جبريل عليه السلام، وفيه أن من أدب الاستئذان أن يُسَمِّيَ المستأذن نفسه؛ لئلا يلتبس بغيره (قَالَ) الخازن (هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ) جبريل (نَعَمْ مَعِيَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) الخازن (فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ؟) بتقدير همزة الاستفهام، أي أفأرسل إليه؟.
وفي رواية البخاريّ: "أَأُرْسَل إليه" بهمزتين، أولاهما للاستفهام وهي مفتوحة، والثانية همزة التعدية وهي مضمومة.
واستفهام الخازن هذا يحتمل أن يكون خَفِي عليه أصل إرساله لاشتغاله بعبادته، ويحتمل أن يكون استفهم عن الإرسال إليه للعروج إلى السماء، وهو الأظهر؛ لقوله:"إليه"، ويؤيد الاحتمال الأول قوله في رواية شريك:"أوَ قد بُعِث"، لكنها من المواضع التي تُعُقِّبت كما سبق الكلام عليها، أفاده في "الفتح".
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الاحتمال الأول بعيد، يبعده عدم استفهامه لِمَا قاله جبريل: معي محمد، حيث لم يقل: من محمد؟ فإنه دليل واضح على أَنَّ نبوته صلى الله عليه وسلم معلومة لدى أهل السماء، وإنما الاستفهام: هل هو مأمور الآن بالعروج إلى السماء أم لا؟، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) جبريل (نَعَمْ، فَفَتَحَ) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الخازن (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَلَمَّا عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) قال العينيّ: ضمير الجمع فيه يدلّ على أنهما كان معهما ملائكة آخرون، فكأنهما كلّما تعدّيا سماء تشيّعهما الملائكة إلى أن يصلا إلى سماء أخرى. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله العينيّ فيه نظر؛ لأن "نا" ضمير
للمتكلّم ومعه غيره، سواء كان واحدًا أو أكثر، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يُطلق عليهما "نا"، فلا حاجة إلى وجود غيرهما معهما، وأيضًا تشييع ملائكة كلّ سماء لهما يحتاج إلى دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا) هي الفجائيّة، وتختصّ بالجملة الاسميّة، ولا تحتاج إلى جواب، وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرّد، وزمان عند الزجّاج
(1)
.
(رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ) جمع سَوَاد، كالأزمنة جمع زمان، والسواد: الشخص، وقيل: الجماعات، وسواد الناس: عوامّهم، وكلّ عدد كثير، ويقال: هي الأشخاص من كلّ شيء، قال أبو عبيد: هو شخص كلّ شيء من متاع أو غيره، والجمع أسودة، وأساودة جمع الجمع. انتهى
(2)
. (وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة: بمعنى الجهة، وظرف متعلّق بـ "نظر"(ضَحِكَ) استبشارًا بأهل اليمين حيث إنهم من أهل الجنّة (وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى) حزنًا على أهل الشمال حيث إنهم من أهل النار، وهم من ذريّته (قَالَ: فَقَالَ) أي: ذلك الرجل (مَرْحَبًا) أي: أصبتَ رُحْبًا وسهلًا، فاستأنس ولا تستوحش (بِالنَّبِي الصَّالِح وَالابْنِ الصَّالِحِ) "الصالح": هو القائم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد، وكلَّهم قالوا له:"بالنبيّ الصالح"؛ لشموله سائر الخلال المحمودة الممدوحة من الصدق والأمانة والعَفَاف والفضل، ولم يقل أحد منهم: مرحبًا بالنبيّ الصادق ولا "بالنبيّ الأمين"؛ لِمَا ذكرنا من أن الصلاح شامل لسائر أنواع الخير (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا؟) ظاهره أنه سأل عنه بعد أن قال له آدم عليه السلام: "مَرْحَبًا"، ورواية مالك بن صَعْصَعة بعكس ذلك، وهي المعتمدة، فتُحْمَل هذه عليها؛ إذ ليس في هذه أداة ترتيب
(3)
.
(قَالَ) جبريل عليه السلام (هَذَا آدَمُ صلى الله عليه وسلم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ) بفتح النون والسين المهملة: جمع نَسَمة، وهي الروح، وحَكَى ابن التين أنه رواه بكسر الشين المعجمة، وفتح الياء آخر الحروف، بعدها ميم، وهو
(1)
"عمدة القاري" 3/ 69.
(2)
المصدر السابق 3/ 64.
(3)
"الفتح" 1/ 550.
تصحيف، وظاهره أن أرواح بني آدم من أهل الجنة والنار في السماء، وهو مشكل.
قال القاضي عياض رحمه الله: قد جاء أن أرواح الكفار في سِجِّين، وأن أرواح المؤمنين مُنَعَّمة في الجنة، يعني: فكيف تكون مجتمعة في سماء الدنيا؟.
وأجاب بأنه يَحتَمِل أنها تُعْرَض على آدم أوقاتًا، فصادف وقتُ عرضها مرورَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويدُلّ على أن كونهم في الجنة والنار إنما هو في أوقات دون أوقات قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
واعتُرِض بأن أرواح الكفار لا تُفَتَّحُ لها أبواب السماء، كما هو نَصُّ القرآن.
والجواب عنه ما أبداه هو احتمالًا أن الجنة كانت في جهة يمين آدم، والنار في جهة شماله، وكان يُكْشَف له عنهما. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يقال: إن النَّسَم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعدُ، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومُستَقَرُّها عن يمين آدم وشماله، وقد أُعْلِم بما سيصيرون إليه، فلذلك كان يستبشر إذا نظر إلى مَن عن يمينه، ويَحْزَن إذا نظر إلى مَن عن يساره، بخلاف التي في الأجساد، فليست مرادةً قطعًا، وبخلاف التي انتقلت من الأجساد إلى مستقرِّها من جنة أو نار، فليست مرادةً أيضًا فيما يظهر، وبهذا يندفع الإيراد، ويُعْرَف أن قوله:"نسم بنيه" عام مخصوص، أو أريد به الخصوص.
وأما ما أخرجه ابن إسحاق والبيهقيّ من طريقه في حديث الإسراء: "فإذا أنا بآدم، تُعْرَض عليه أرواح ذريته المؤمنين، فيقول: رُوح طيبة، ونفس طيبة، اجعلوها في عليين، ثم تُعْرَض عليه أرواح ذريته الفُجّار، فيقول: روح خبيثة، ونفس خبيثة، اجعلوها في سِجّين"، وفي حديث أبي هريرة عند الطبرانيّ والبزَّار:"فإذا عن يمينه باب يَخرُج منه ريح طيبة، وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، إذا نظر عن يمينه استبشر، وإذا نظر عن شماله حَزِن"، فهذا لو صَحّ لكان المصير إليه أولى من جميع ما تقدم، ولكن سنده ضعيف، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 1/ 550.
(فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنَّة، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّار، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ) عليه السلام (حَتَّى أتى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ) البابَ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أي: من قوله: "من هذا؟ هل معك أحد؟ أفأرسل إليه؟ "(فَفَتَحَ) الخازن الباب.
(فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (فَدكَرَ) أي: أبو ذرّ رضي الله عنه (أَنَّهُ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَلَمْ يُثْبِتْ) بضم أوله، من الإثبات: أي: لم يُعيِّن أبو ذرّ رضي الله عنه (كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ) أي: منازل هؤلاء الأنبياء عليهم السلام التي تخصّ كلّ واحد منهم (غَيْرَ أنَّهُ ذَكَرَ أنهُ قَدْ وَجَدَ آدَمَ عليه السلام فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) هذا موافق لرواية شريك، عن أنس رضي الله عنه، والثابت في جميع الروايات غير هاتين أنه في السابعة، فإن قلنا بتعدد المعراج، فلا تعارض، وإلا فالأرجح رواية الجماعة؛ لقوله فيها:"إنه رآه مسندًا ظهره إلى البيت المعمور"، وهو في السابعة بلا خلاف، وأما ما جاء عن عليّ رضي الله عنه أنه في السادسة عند شجرة طوبى، فإن ثبت حُمِل على أنه البيت الذي في السادسة بجانب شجرة طوبى؛ لأنه جاء عنه أن في كل سماء بيتًا يُحاذي الكعبة، وكلّ منها معمور بالملائكة، وكذا القول فيما جاء عن الربيع بن أنس وغيره أن البيت المعمور في السماء الدنيا، فإنه محمول على أول بيت يحاذي الكعبة من بيوت السماوات، ويقال: إن اسم البيت المعمور الضُّرَاح، بضم المعجمة، وتخفيف الراء، وآخره حاء مهملة، ويقال: بل هو اسم سماء الدنيا، ولأنه قال هنا: إنه لم يُثْبِت كيف منازلهم؟ فرواية مَن أثبتها أرجح، قاله في "الفتح".
قال الجامع: هذا الذي ذكره من أن في كلّ سماء بيتًا يُحاذي الكعبة يحتاج إلى دليل يَثبتُ به، فما هو؟ والله تعالى أعلم.
(قَالَ) لفظ البخاريّ: "قال أنسٌ"، فقال في "الفتح": ظاهره أن هذه اللفظة لم يسمعها أنسٌ من أبي ذرّ (فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ) ولفظ البخاريّ: "مرّ جبريل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بإدريس"، فالباء الأولى للمصاحبة، والثانية للإلصاق، أو بمعنى "على" (قَالَ) أي: إدريس
(مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا مخالف لِمَا يقوله أهل النسب والتاريخ، من أن إدريس عليه السلام أبٌ من آباء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأنه جَدٌّ أعلى لنوح عليه السلام، وأن نوحًا هو ابن لامك بن مَتُّوشَلَخ بن خَنُوخ، وهو عندهم إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسَرْدها على ما ذكرناه، وإنما يختلفون في ضبط بعضها وصورة لفظه، وجاء جواب الآباء هنا إبراهيم وآدم مرحبًا بالابن الصالح، وقال إدريس: مرحبًا بالأخ الصالح، كما قال موسى، وعيسى، وهارون، ويوسف، ويحيى، وليسوا بآباءٍ صلوات الله وسلامه عليهم، وقد قيل عن إدريس: إنه إلياس، وإنه ليس بجدّ لنوح، فإن إلياس من ذرية إبراهيم، وإنه من المرسلين، وأن أول المرسلين نوح عليه السلام، كما جاء في حديث الشفاعة. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله.
قال النوويّ رحمه الله بعد نقله كلام القاضي هذا: وليس في هذا الحديث ما يمنع كون إدريس أبًا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قوله:"والأخ الصالح" يَحْتَمِل أن يكون قاله تلطُّفًا وتأدُّبًا، وهو أخٌ وإن كان ابنًا، فالأنبياء إخوة، والمؤمنون إخوة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القاضي هو الظاهر، فلو صحّ ما قاله أهل النسب بدليل صحيح، لتكلّفنا لِمَا قاله النوويّ، وإلا فلا داعي إلى التكلّف، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: ثُمَّ مَرَّ) أي: جاوز جبريل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم إدريس (فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأخِ الصَّالِح، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ) جبريل (هَذَا مُوسَى، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى)"ثم" هنا ليست على بابها في الترتيب؛ إذ الروايات الكثيرة متفقة على أن مروره بموسى بعد عيسى، والحمل على التعدّد بعيد، كما لا يخفى (فَقَالَ) عيسى (مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخَ الصَّالِح، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ:
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 220.
هَذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ: ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِح، وَالابْنِ الصَّالِحِ) إنما قال:"والابن الصالح" كما قال آدم عليه السلام؛ لأن لهما أبوّة بخلاف سائر الأنبياء، فإنهم قالوا:"والأخ الصالح"(قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ) عليه السلام.
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ) هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم الأنصاريّ الخزرجيّ، ثم النجّارَيّ المدنيّ القاضي، يقال: اسمه أبو بكر، وكنيته أبو محمد، وقيل: اسمه كنيته، ثقة عابدٌ [5].
رَوَى عن أبيه وأرسل عن جدّه وعبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاريّ، وروى عن خالته عمرة بنت عبد الرحمن، وأبي حبّة البدريّ، وخالدة بنت أنس، ولها صحبة، والسائب بن يزيد، وعباد بن تميم، وسلمان الأغر، وغيرهم.
ورَوَى عنه ابناه: عبد الله، ومحمد، وابن عمه، محمد بن عُمارة بن عمرو بن حزم، وعمرو بن دينار وهو أكبر منه، والزهريّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وغيرهم.
قال ابن سعد: فَوَلَد محمدُ بن عمرو بن حزم: عثمانَ، وأبا بكر الفقيهَ، وأم كلثوم، وأمهم كبشة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة، وقال ابن معين، وابنُ خِرَاش: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عَطّاف بن خالد، عن أمه، عن امرأة أبي بكر بن محمد بن حزم، قالت: ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل، وقال محمد بن علي بن شافع: قالوا لعمر بن عبد العزيز: استَعْمَلت أبا بكر بن حزم غَرَّك بصلاته، فقال: إذا لم يَغُرَّني المصلون، فمَنْ يَغُرُّني؟ قال: وكانت سجدته قد أخذت جبهته وأنفه، وذكره الهيثم بن عديّ في محدثي أهل المدينة، والواقديّ في ثقاتهم، وقال أبو ثابت، عن ابن وهب، عن مالك: لم يكن عندنا أحدٌ بالمدينة عنده من علم القضاء ما كان عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان ولَّاه عمر بن عبد العزيز، وكَتَب إليه أن يكتب له من العلم من عند عمرة بنت عبد الرحمن، والقاسم بن محمد، ولم يكن بالمدينة أنصاريّ أميرٌ غير أبي بكر بن حزم، وكان قاضيًا،
زاد غيره: فسألت ابنه عبد الله بن أبي بكر، عن تلك الكتب، فقال: ضاعت، وقال سعيد بن عُفير عن ابن وهب: قال لي مالك: ما رأيت مثل أبي بكر بن حزم أعظم مُرُوءة، ولا أتمَّ حالًا، ولا رأيت مثل ما أُوتي، وَليَ المدينة والقضاء والموسم.
قال خليفه بن خياط: سنة مائة أقام الحج أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وفيها مات، وقال عمر بن عبد الله التميميّ: تُوُفّي سنة عشر ومائة، وقال الهيثم بن عديّ، وأبو موسى، وابن بكير: مات سنة سبع عشرة ومائة، وقال الواقديّ، وابن المدينيّ، وغيرهما: مات سنة عشرين، زاد الواقديّ: وكان ثقةً كثيرَ الحديث، ويقال عن الهيثم بن عديّ: مات سنة ست وعشرين، وهو خطأ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (18) حديثًا.
(أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ) قال النوويّ رحمه الله: "أبو حَبّة" - بالحاء المهملة، والباء الموحدة - هكذا ضبطناه هنا، وفي ضبطه واسمه اختلاف، فالأصح الذي عليه الأكثرون "حَبّة" - بالباء الموحدة - كما ذكرنا، وقيل:"حَيَّة" بالياء المثنّاة تحتُ، وقيل:"حَنّة" - بالنون - وهذا قول الواقديّ، ورُوي عن ابن شهاب الزهريّ، وقد اختُلِف في اسم أبي حبة، فقيل: عامر، وقيل: مالك، وقيل: ثابت، وهو بدريّ باتفاقهم، واستُشْهِد يوم أحد، وقد جَمَع الإمام أبو الحسن ابن الأثير الجزريّ رحمه الله الأقوال الثلاثة في ضبطه والاختلاف في اسمه في كتابه "معرفة الصحابة رضي الله عنهم "، وبَيّنها بيانًا شافيًا رحمه الله. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله في "التقريب"(ص 1131): أبو حبّة بتشديد الموحدة الأنصاريّ البدريّ، قيل: اسمه عامر بن عمرو، وقيل: ابن عبد عمرو، وقيل: اسمه عمرو، قال ابن إسحاق: استُشهد بأحد، وزعم الواقديّ أن الذي شَهِدَ بدرًا واستُشهِدَ بأحد أبو حَنَّةَ بالنون بدل الموحّدة، والذي يظهر أن أبا حبّة الذي روى حديث الإسراء وحديث {لَمْ يَكُنْ} [الإنسان: 1]، وروى عنه ابن
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 220 - 221.
حزم، وعمّار بن أبي عمّار، وضبطه المحدّثون بالموحّدة غير الذي ذكر أهل المغازي أنه استُشهِد بأحد، واختلفوا هل هو بالموحّدة، أو النون، أو التحتانيّة؟ فإن شيخ عمّار بقي إلى خلافة معاوية لتصريح عمّار بالسماع منه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام الحافظ يقتضي أن رواية أبي بكر بن محمد بن حزم المذكورة هنا متّصلة؛ لأنه تأخّر موته إلى خلافة معاوية رضي الله عنه، واحتجّ على ذلك بما رواه ابن أبي شيبة في "مصنّفه" عن عفّان، عن حماد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن عمّار بن أبي عمّار، سمعت أبا حبّة البدريّ يقول: لَمّا نزلت {لَمْ يَكُنْ} [الإنسان: 1]
…
فذكر الحديث
(2)
، قال: فهذا إن كان محفوظًا يدلّ على تأخّر أبي حبّة إلى أيام معاوية رضي الله عنه. انتهى
(3)
.
لكن الحديث الذي احتجّ به في سنده عليّ بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف فلا يصلح للاحتجاج به، ولذا قال في "الفتح": لكن رواية أبي بكر عن أبي حبّة منقطعة؛ لأنه استُشهد بأُحد قبل مولد أبي بكر بدهر وقبل مولد أبيه محمد أيضًا.
والحاصل أن رواية أبي بكر بن حزم عن أبي حبّة هذه مرسلة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ عَرَجَ بِي) بالبناء للفاعل، أي: صَعِد بي جبريل عليه السلام (حَتَّى ظَهَرْتُ) أي: علوتُ وارتفعتُ، ومنه قوله تعالى:{فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وقوله:{لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]،
(1)
"التقريب" ص 1131 نسخة أبي الأشبال.
(2)
أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:(15427) حدثنا أبو سعيد، مولى بني هاشم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي حبة البدري، قال:"لما نزلت {لَمْ يَكُنْ} قال جبريل عليه السلام: يا محمد إن ربك يأمرك أن تقرئ هذه السورة أُبي بن كعب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا أُبي إن ربي عز وجل أمرني أن أقرئك هذه السورة"، فبكى، وقال: ذُكرت ثمة؟ قال: "نعم".
(3)
راجع: "الإصابة" 7/ 71، و"تهذيب التهذيب" 4/ 508.
والفتح: 28، والصفّ: 9]، وحديث:"والشمسُ في حُجرتها لم تَظْهَر"، وقول النابغة الجعديّ [من الطويل]:
عَلَوْنَا السَّمَاءَ عِفَّةً وَتَكَرُّمَا
…
وَإِنَّا لَنْبْغِي فَوْقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
(لِمُسْتَوًى) بضم الميم وفتح الواو: المَصْعَد، وقيل: المكان المستوي، وقال القاضي عياضٌ رحمه الله:"المستوى" يكون بمعنى العلوّ والمصعد، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] قال: صَعِدَ أمره.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التفسير الذي ذكره القاضي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى "استوى" أخرجه البيهقيّ في "الأسماء والصفات"
(1)
وصرّح بضعفه، وهو كما قال؛ لأنه من رواية محمد بن مروان السدّيّ الصغير، وهو كذَّاب، عن محمد بن السائب الكلبيّ وهو كذّاب أيضًا، عن أبي صالح مولى أم هانئ وهو متروك، بل قيل بتكذيبه أيضًا، كما في "الميزان"
(2)
، وهذا الإسناد معروف عندهم بسلسلة الكذب، كما في "تدريب الراوي"
(3)
، فلا يصلح للاحتجاج به.
والحقّ أن معنى استوى: علا وارتفع، وهو المنقول عن السلف، كما ذكره البخاريّ في "صحيحه" عن أبي العالية وغيره، فالواجب أن نقول: إن الاستواء بمعنى العلوّ ثابت لله تعالى على ما يليق بجلاله، وقد أشبعت الكلام في غير هذا الموضع، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
قال القاضي: وقد يكون المستوى بمعنى موضع متوسّط مما شاء الله تعالى من ملكوته، وقيل في قوله تعالى:{مَكَانًا سُوًى} [طه: 58] أي: متوسّطًا، وقد يكون "مستوى" أي: حيث يظهر عدل الله وحكمه لعباده هناك، ويقال للعدل:"سواء" ممدودًا ومفتوحًا، و"سوى" مكسورًا مقصورًا، وقيل ذلك في قوله تعالى:{كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64]. انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": اللام في "لمستوى" للتعليل، أي: عَلَوْتُ لأجل استعلاء مستوى، أو لأجل رؤيته، أو تكون بمعنى "إلى"، كما قوله تعالى:
(1)
راجع: "الأسماء والصفات" 2/ 310.
(2)
راجع: "ميزان الاعتدال" 1/ 296.
(3)
راجع: "التدريب" 1/ 181.
(4)
"إكمال المعلم" 2/ 694 - 695.
{أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها، ويجوز أن يكون متعلّقًا بالمصدر، أي: ظهرت ظهور المستوى. انتهى
(1)
.
(أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأقلَامِ") - بالصاد المهملة -؛ أي: تصويتها حال الكتابة، قال الخطابيّ: ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى، ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يُكْتَب ويُرْفَع لِمَا أراده من أمره وتدبيره.
(قَالَ ابْنُ حَزْمٍ) أي: عن شيخه (وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) أي: عن أبي ذرّ، كذا جزم به أصحاب الأطراف، ويحتمل أن يكون مرسلًا من جهة ابن حزم، ومن رواية أنس بلا واسطة، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: الظاهر أنه من جملة مقول ابن شهاب، ويحتمل أن يكون تعليقًا من البخاريّ، وليس بين أنس وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أبي ذرّ، ولا بين ابن حزم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ابن عبّاس وأبي حبّة، فهو إما من قبيل المرسل، وإما أنه ترك الواسطة اعتمادًا على ما تقدّم آنفًا، مع أن الظاهر من حال الصحابيّ أنه إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون بدون واسطة، فلعلّ أنسًا سمع هذا البعض من الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباقي سمعه من أبي ذرّ رضي الله عنه. انتهى
(3)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَفَرَضَ اللهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً) وفي رواية ثابت، عن أنس المتقدّمة:"فَرَض الله عليّ خمسين صلاةً، كلَّ يوم وليلة"، ونحوه في رواية مالك بن صعصعة الآتية، فيَحْتَمِل أن يقال: في كل من هذه الرواية، والرواية الأخرى اختصار، أو يقال: ذكر الفرض عليه يَستلزم الفرض على الأمة، وبالعكس، إلا ما يُستَثنى من خصائصه صلى الله عليه وسلم، قاله في "الفتح"
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني هو الصواب، فالحقّ أن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته، وبالعكس، إلا الخصائص، ومما يؤكّد هذا قول موسى؛ للنبيّ صلى الله عليه وسلم في رواية ثابت الماضية التي فيها قوله صلى الله عليه وسلم: "فرض الله
(1)
"عمدة القاري" 3/ 70.
(2)
"الفتح" 1/ 551.
(3)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 66.
(4)
"الفتح" 1/ 551.
عليّ خمسين صلاةً": "ماذا فَرَض ربُّك على أمتك؟ "، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خمسين صلاةً"، أي: فرض عليهم كما فرض عليّ، فتبيّن بهذا أن الفرض على أحدهما يستلزم الآخر، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى عليه السلام: مَاذَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ لِي مُوسَى عليه السلام: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا) وفي رواية مالك بن صعصعة عند البخاريّ: "فوضع عني عشرًا"، ومثله في رواية شريك، وفي رواية ثابت:"فحطّ عني خمسًا".
قال النوويّ رحمه الله: هذا المذكور هنا لا يخالف أنه صلى الله عليه وسلم قال: "حَطّ عني خمسًا
…
" إلى آخره، فالمراد بحط الشطر هنا أنه حَطّ في مرات بمراجعات، وهذا هو الظاهر، وقال القاضي عياض رحمه الله: المراد بالشطر هنا الجزء، وهو الْخَمْس، وليس المراد به النصف، وهذا الذي قاله محتمل، ولكن لا ضرورة إليه، فإن هذا الحديث الثاني مختصر، لم يُذكَر فيه كرّات المراجعة.
واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله، والله أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": ذكر الشطر أعمّ من كونه وقع في دفعة واحدة، وكذا العشر، فكأنه وضع العشر في دفعتين، والشطر في خمس دفعات، أو المراد بالشطر في هذا الحديث البعض، وقد حَقَّقت رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا، وهي زيادة معتمدة، يتعيّن حَمْلُ باقي الروايات عليها.
وأما قول الكرمانيّ: الشطر هو النصف، ففي المراجعة الأولى وَضع خمسًا وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر، يعني: نصف الخمسة والعشرين بجبر الكسر، وفي الثالثة سبعًا، كذا قال، وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكر وضع شيء، إلا أن يقال: حذف ذلك اختصارًا فيتجه، لكن الجمع بين الروايات يأبى هذا الحمل، فالمعتمد ما تقدم.
وأبدى ابن المُنَيِّر هنا نكتةً لطيفةً في قوله صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام لَمّا أمره أن
(1)
"الفتح" 1/ 551 - 552.
يرجع بعد أن صارت خمسًا، فقال:"استحييت من ربي"، قال ابن المنيّر: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم تفرّس من كون التخفيف وقع خمسًا خمسًا أنه لو سأل التخفيف بعد أن صارت خمسًا، لكان سائلًا في رفعها، فلذلك استحيا. انتهى.
ودَلَّت مراجعته صلى الله عليه وسلم لربه في طلب التخفيف تلك المرات كلها، أنه عَلِم أن الأمر في كل مرة لم يكن على سبيل الإلزام، بخلاف المرة الأخيرة، ففيها ما يُشْعِر بذلك، لقوله سبحانه وتعالى:"لا يبدَّل القول لديّ".
ويحتمل أن يكون سبب الاستحياء أن العشرة آخر جمع القلة وأول جمع الكثرة، فخَشِي أن يدخل في الإلحاح في السؤال، لكن الإلحاح في الطلب من الله مطلوب، فكأنه خَشِي من عدم القيام بالشكر، والله أعلم.
قال: وأبدى بعض الشيوخ حكمةً لاختيار موسى؛ تكرير ترداد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لَمّا كان موسى قد سأل الرؤية فمُنِعَ، وعَرَف أنها حصلت لمحمد صلى الله عليه وسلم قَصَد بتكرير رجوعه تكرير رؤيته؛ لِيَرى مَن رأى، كما قيل: لعلّي أراهم أو أرى من رآهم.
قال الحافظ: ويَحتاج إلى ثبوت تجدد الرؤية في كل مرة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي أبداه بعض الشيوخ وأقرّه عليه الحافظ، وإن اعترضه في التكرار ليس بسديد؛ لأن الصحيح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربّه، كما سيأتي للمصنّف أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ رضي الله عنه لما سأله: هل رأيت ربك؟ -: "نور أنَّى أراه"، وفي رواية:"رأيتُ نورًا"، وسيأتي تمام البحث في هذا في بابه قريبًا إن شاء الله تعالى.
وأما طلب موسى تكرار المراجعة فالظاهر - كما قاله بعض المحقّقين - أنه حمله على ذلك رحمته لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والشفقة عليهم، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى عليه السلام، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أمّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبِّي، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ) وفي رواية البخاريّ: "هنّ خمس، وهنّ خمسون"، والمراد هي خمس عددًا باعتبار
(1)
"الفتح" 1/ 552.
الفعل، وخمسون اعتدادًا باعتبار الثواب (لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي: إن هذه الخمس لا تنسخ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ، حَتَّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في الأصول حتى نأتي بالنون في أوله، وفي بعض الأصول:"حتى أَتَى"، وكلاهما صحيح. انتهى.
(فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ") قال النوويّ رحمه الله: أما "الجنابذ" فبالجيم المفتوحة وبعدها نون مفتوحة، ثم ألف، ثم باء موحدة، ثم ذال معجمة، وهي: القِبَاب، واحدتها جُنْبُذة، ووقع في "كتاب الأنبياء"، من "صحيح البخاريّ" كذلك، ووقع في أول "كتاب الصلاة" منه "حَبَائل" بالحاء المهملة، والباء الموحدة، وآخره لام، قال الخطابيّ وغيره؛ هو تصحيف.
وأما "اللؤلؤ"، فمعروف، وفيه أربعة أوجه: بهمزتين وبحذفهما، وبإثبات الأولى دون الثانية وعكسه، والله أعلم.
وقال في "الفتح" في شرح قوله: "حبايل اللؤلؤ": كذا وقع لجميع رواة البخاريّ في هذا الموضع بالحاء المهملة، ثم الموحدة، وبعد الألف تحتانية، ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف، وإنما هو "جَنَابِذ" بالجيم والنون، وبعد الألف موحدة، ثم ذال معجمة، كما وقع عند البخاريّ في "أحاديث الأنبياء" من رواية ابن المبارك وغيره، عن يونس، وكذا عند غيره من الأئمة، قال: ووجدت في نسخة معتمدة من رواية أبي ذرّ في هذا الموضع: "جنابذ" على الصواب، وأظنه من إصلاح بعض الرواة.
وقال ابن حزم في أجوبته على مواضع من البخاريّ: فتشت على هاتين اللفظتين، فلم أجدهما ولا واحدة منهما، ولا وقفت على معناهما. انتهى.
وذكر غيره أن "الجنابذ" شِبْهُ القِبَاب، واحدها جُنْبُذة بالضمّ، وهو ما ارتفع من البناء، فهو فارسيّ معرَّب، وأصله بلسانهم كُنْبَذة بوزنه، لكن الموحدة مفتوحة والكاف ليست خالصة، ويؤيده ما رواه البخاريّ في "التفسير" من طريق شيبان، عن قتادة، عن أنس، قال: لَمَّا عُرِج بالنبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَتيتُ على نَهر
حافتاه قباب اللؤلؤ". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه المصنّف هنا في "الإيمان"[80/ 422](163)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(349)، و"الحجّ"(1636)، و"الأنبياء"(3342)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(354 و 355)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(417 و 418)، و (الدارميّ) في "الردّ على الجهميّة"(ص 34)، والآجرّيّ في "الشريعة"(481 - 482)، و (ابن منده) في "الإيمان"(714)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3754)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(314)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده زيادة على ما سبق، وإن كان بعضها تقدّم:
1 -
(منها): أن فيه دلالة لمذهب أهل السنة والجماعة، أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وأن الجنة في السماء.
2 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن رسول الرجل يقوم مقام إذنه؛ لأن الخازن لم يتوقف عن الفتح له على الوحي إليه بذلك، بل عَمِل بلازم الإرسال إليه، وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أبي رافع مرفوعًا:"إذا دُعي أحدكم، فجاء مع الرسول، فهو إذنه".
3 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: فيه حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله تعالى، من اللوح المحفوظ، وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يَعْلَم كيفيتها، على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك، وصورته، وجنسه، مما لا يعلمه إلا الله تعالى، أو من أطلعه على شيء من ذلك، من ملائكته، ورسله، وما يَتَأوَّل هذا، ويُحيله
(1)
"الفتح" 1/ 552 - 553.
عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان؛ إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد حكمةً من الله تعالى وإظهارًا لما يشاء من غيبه، من يشاء من ملائكته، وسائر خلقه، وإلا فهو غنيّ عن الكَتْب والاستذكار سبحانه وتعالى. انتهى.
4 -
(ومنها): ما قال القاضي رحمه الله أيضًا: في علوّ منزلة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبلوغه حيث بَلَغَ من ملكوت السموات، دليلٌ على علُوّ درجته، وإبانة فضله، وقد ذكر البزَّار خبرًا في الإسراء عن عليّ رضي الله عنه، "وذكر مسير جبريل عليه السلام على البراق، حتى أتى الحجاب، وذكر كلمةً، وقال: خَرَج ملكٌ من وراء الحجاب، فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك بالحقّ إن هذا الملك ما رأيته مُنذ خلقتُ، وإني أقرب الخلق مكانًا"
(1)
، وفي حديث آخر:"فارقني جبريل، وانقطعت عني الأصوات"
(2)
. انتهى كلام القاضي رحمه الله.
5 -
(ومنها): ما قال الحافظ أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، مبيّنًا فوائد أحاديث الباب ومبوّبًا لها، ما معناه: فيه الردّ على الجهميّة، وبيان أن الجنّة مخلوقة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخلها، وأنها فوق السموات، وأن السدرة المنتهى فوقها، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم انتهى إليها، وأنه دنا من ربّ العزّة، وربّ العزّة دنا منه قاب قوسين أو أدنى
(3)
، وأن ما غشي السدرة من الألوان كان من نوره تبارك وتعالى، وأن الكوثر الذي أُعطيه محمد صلى الله عليه وسلم هو مخلوق وموجود، وهو نهرٌ من ماء، ترابه المسك، وصفة الحوض، وماؤه، وأن من بدّل ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمته لم يَرِد حوضه، وأن النيل والفرات أصلهما في السماء، وإثبات صريف
(1)
راجع: "كشف الأستار" 1/ 178 - 179، وهو حديث ضعيف جدًّا؛ لأن في سنده زياد بن المنذر، متروك الحديث.
(2)
عزاه القاضي في "الشفا" 1/ 202 إلى النقاش عن ابن عباس، قال بعضهم: والنقاش صاحب غرائب ومناكير.
(3)
قد تقدّم أن الصحيح كون الضمائر في {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)} لجبريل عليه السلام، لا للربّ، فلا تكن من الغافلين.
الأقلام فوق السماوات السبع، وأن موسى رُفع فوق الأنبياء بكلامه تبارك وتعالى. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه يدلّ على عدم فرضية ما زاد على الصلوات الخمس، كالوتر وغيره، خلافًا من أثبت ذلك.
7 -
(ومنها): جواز دخول النسخ في الإنشاءات، ولو كانت مُؤَكَّدةً، خلافًا لقوم فيما أُكِّد.
8 -
(ومنها): جواز النسخ قبل الفعل، قال ابن بطال وغيره: ألا ترى أنه عز وجل نَسَخَ الخمسين بالخمس قبل أن تُصَلَّى، ثم تفضّل عليهم بأن أكمل لهم الثواب؟.
وتعقّبه ابن المُنَيِّر، فقال: هذا ذكره طوائف من الأصوليين والشُّرّاح، وهو مشكل على مَن أثبت النسخ قبل الفعل، كالأشاعرة، أو منعه كالمعتزلة؛ لكونهم اتفقوا جميعًا على أن النسخ لا يُتَصَوَّر قبل البلاغ، وحديث الإسراء وقع فيه النسخ قبل البلاغ، فهو مشكل عليهم جميعًا، قال: وهذه نكتة مبتكرة.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله ابن المُنيّر وابتكره فيه نظرٌ لا يخفى؛ لأنه إنما نُسخ بعد بلوغه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أحد المكلّفين بلا شكّ، وليس بلازم بلوغ الأمة، فتبصّر بإمعان، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): ما قيل: إنما اخْتَصّ موسى عليه السلام بتنبيه النبيّ صلى الله عليه وسلم على مراجعة ربّه في التخفيف عن أمته، دون غيره ممن لقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؛ لأن أمته أكثر من أمة غيره، ولأن كتابه أكبر الكتب المُنَزَّلة قبل القرآن تشريعًا وأحكامًا، أو لأن أمة موسى عليه السلام كانوا كُلِّفوا من الصلاة ما ثَقُل عليهم، فخاف موسى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وإليه الإشارة بقوله:"فإني بَلَوت بني إسرائيل"، قاله القرطبي رحمه الله.
وأما قول من قال: "إنه أول من لاقاه بعد الهبوط"، محتجًّا بقوله في هذا الحديث:"فرجعت بذلك حتى أمرّ بموسى"، فليس بصحيح؛ لأن حديث مالك بن صعصعة الآتي أقوى من هذا، وفيه أنه لقيه في السماء السادسة بعد إبراهيم عليه السلام، فتنبّه، فإنه دقيق.
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 118.
وأما ما قاله في "الفتح": وإذا جمعنا بينهما بأنه لقيه في الصعود في السادسة، وصَعِد موسى إلى السابعة، فلقيه فيها بعد الهبوط، ارتفع الإشكال، وبَطَل الردُّ المذكور. انتهى.
ففيه نظر؛ إذ يحتاج إثبات هذا الصعود إلى السابعة إلى دليل صحيح، فليس هذا الأمر مما يثبت بالتخمين والاحتمال، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): ما قيل: إن الحكمة في وقوع فرض الصلاة ليلة المعراج، أنه لَمّا قُدِّس ظاهرًا وباطنًا حين غُسل بماء زمزم، وملئ بالإيمان والحكمة، ومن شأن الصلاة أن يتقدمها الطهور ناسب ذلك أن تُفْرَض الصلاة في تلك الحالة، وليَظْهَر شرفه في الملأ الأعلى، ويصلّي بمن سكنه من الأنبياء والملائكة
(1)
، وليناجي ربه، ومن ثَمّ كان المصلي يناجي ربه جلَّ وعلا
(2)
. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في ذكر الأسئلة والأجوبة الواردة على هذا الحديث:
1 -
(منها): ما قيل: إن الإسراء كان ليلًا، فما الحكمة في ذلك؟.
[أجيب] بأوجه:
(الأول): أنه وقت خلوة، واختصاص، ومجالسة للملوك، وهو من أشرف مجالسهم، وهو وقت مناجاة الأحبّة.
(الثاني): أن الله تعالى أكرم جماعة من الأنبياء بأنواع الكرامات ليلًا، قال تعالى في قصّة إبراهيم عليه السلام:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76]، وفي قصة لوط عليه السلام:{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 81، والحجر: 76] وفي قصّة يعقوب عليه السلام: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98] يقال: دعا لهم ليلًا، وقرّب موسى نجيًّا ليلًا، قال تعالى:{إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ} [النمل: 7]، وقال:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وقال له لما أمره بخروجه من مصر ببني إسرائيل: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)}
(1)
هكذا قال في "الفتح"، وفيه نظر، إذ لم يُنقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم في الملإ الأعلى، وإنما صلّى بهم في بيت المقدس، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 1/ 548.
[الدخان: 23]، وأكرم نبيّنا صلى الله عليه وسلم ليلًا بأمور، منها: انشقاق القمر، وإيمان الجنّ به، وخرج إلى الغار ليلًا.
(الثالث): أن الله تعالى قدّم ذكر الليل على النهار في غير ما آية، فقال:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} [الإسراء: 12]، وقال:{وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] وليلة النحر تُغني عن الوقوف نهارًا.
(الرابع): أن الليل أصل، ولهذا كان أولَ الشهور، وسواده يَجمع ضوء البصر، ويُحدّ كليل النظر، ويُستلذّ فيه بالسمر، ويجتلي فيه وجه القمر.
(الخامس): أنه لا ليل إلا وله نهار، وقد يكون نهار بلا ليل، وهو يوم القيامة الذي مقداره خمسون ألف سنة.
(السادس): أن الليل محلّ استجابة الدعاء والغفران والعطاء، كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ينزل ربنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"، متّفقٌ عليه.
وصحّ أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن عَبَسَة رضي الله عنه: "إن أقرب ما يكون الربُّ عز وجل من العبد جوف الليل الآخر
…
" الحديث
(1)
.
[فإن قلت]: ورد في الحديث: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة
…
" الحديث.
[قلت]: هذا بالنسبة إلى الأيام.
(السابع): أن في جملة الليالي ليلة القدر، خير من ألف شهر.
(الثامن): أنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يسافر ليلًا، وحثّ بالسفر فيه، وقال:"عليكم بالدُّلْجَة، فإن الأرض تطوى بالليل"
(2)
.
2 -
(ومنها): ما قيل: ما الحكمة في الإسراء؟.
[أجيب]: بأنه إنما كان للمناجاة، ولهذا كان من غير مواعدة، وهذا أوقع وأعظم، وكان التكليم في موسى عليه السلام عن مواعدة وموافاة، فأين ذلك من هذا؟
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود 3/ 28.
وشتّان ما بين المقامين، وبين من كُلّم على الطور، وبين من دُعي إلى أعلى من البيت المعمور، وبين من سُخّرت له الريح مسيرة شهر، وبين من ارتقى من الفرش إلى العرش في ساعة زمانيّة.
3 -
(ومنها): ما قيل: ما الحكمة في عروج النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا على البراق، مع أن الله تعالى قادر على رفعه في طرفة عين بلا براق؟.
[أجيب]: بأن ذلك للتأنيس بالمعتاد، ولكرامة الراكب عادة على غيره.
قال الجامع عفا الله عنه: لَخّصت هذه الأسئلة وأجوبتها مما كتبه البدر العينيّ رحمه الله في "عمدته"
(1)
، وقد ذكر فيه أسئلة أخرى أكثرها تَكَلُّفَات، وليس عليها دليل، فتركتها، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[423]
(164) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِه، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا عِنْدَ الْبَيْتِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَان، إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاَثةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْن، فَأُتِيتُ، فَانْطُلِقَ بِي، فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا"، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِه، "فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ أُعِيدَ مَكَانَهُ، ثُمَّ حُشِيَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْل، يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِه، فَحُمِلْتُ عَلَيْه، ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أتيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفَتَحَ لَنَا، وَقَالَ: مَرْحَبًا بِه، وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ صلى الله عليه وسلم "، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِه، وَذَكَرَ أَنَّهُ لَقِيَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام،
(1)
راجع: "عمدة القاري" 3/ 72 - 77.
وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، وَفِي الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ، قَالَ:"ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأخِ الصَّالِح، وَالنَّبِيِّ الصَّالِح، فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ هَذَا غُلَامٌ، بَعَثْتَهُ بَعْدِي، يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ كثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي، قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَة، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أنهَار، يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ وَنَهْرَانِ بَاطِنَان، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنَهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَان، فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّة، وَأَمَّا الظَّاهِرَان، فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيه، آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ أُتِيتُ، بِإِنَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالْآخَرُ لَبَن، فَعُرِضَا عَلَيَّ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللهُ بِكَ أمّتُكَ عَلَى الْفِطْرَة، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلَاةً"، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) العَنَزيّ، أبو موسى البصريّ المعروف بالزَّمِن، ثقة ثبتٌ [10](ت 252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْرَان اليشكريّ مولاهم، أبو النّضْر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، لكنه كثير التدليس، واختلط، وهو من أثبت الناس في قتادة [6](156)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ المذكور قبله.
6 -
(مَالِكُ بن صَعْصَعَةَ) مالك بن صعصعة بن وهب بن عدي بن مالك بن
عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النّجّار الأنصاريّ، نسبه ابن سعد، وقيل: إنه من بني مازن بن النّجّار وجزم بذلك البغويّ، فقال: إنه من بني مازن بن النجار، حدَّث أنس بن مالك عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقصة الإسراء، وهو في "الصحيحين" من طريق قتادة، عن أنس، قال البغويّ: سَكَن المدينة، ورَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الإسراء بطوله، رواه عنه أنس، وذَكَر الخطيب في "المبهمات" أنه الذي قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أَكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ "، أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، هذا الحديث فقط، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجاله الجماعة، غير مالك بن صعصعة رضي الله عنه، فما أخرج له أبو داود وابن ماجه.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.
5 -
(ومنها): أن مالك بن صعصعة رضي الله عنه من المقلّين، ليس له في هذه الكتب إلا هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (لَعَلَّهُ قَالَ: عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ) قال أبو عليّ الجيّانيّ الغسّانيّ رحمه الله: هكذا هذا الحديث في رواية أبي العلاء بن ماهان وأبي العبّاس الرازيّ، عن أبي أحمد - يعني: الجُلُوديّ -، وعند غيره: عن أبي أحمد، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، ولم يقل:"لعلّه"، والحديث محفوظ عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة دون شكّ.
قال أبو الحسن - يعني: الدارقطنيّ رحمه الله: لم يروِه عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة غير قتادة. انتهى كلام الغسّانيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"تقييد المهمل، وتمييز المشكل" 3/ 783، و"شرح النوويّ" 2/ 223 - 224.
وقوله: (رَجُلِ مِنْ قَوْمِهِ) بالجرّ بدل من "مالك"، يعني: أن مالك بن صعصعة من قوم أَنس بن مالك؛ لأنه من بني النجّار (قَالَ) أي: مالك بن صعصة رضي الله عنه (قَالَ نَبِي اللهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا) هي "بين" وقد مرّ البحث عنها قريبًا، وقوله:(أَنَا) مبتدأ خبره قوله: (عِنْدَ الْبَيْتِ) أي: الكعبة؛ لأنه صار علمًا عليها بالغلبة، كـ "العقبة" لعقبة أَيْلَة، أو لعقبة مِنى، كما قال في "الخلاصة":
وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالغَلَبَهْ
…
مُضَافٌ أوْ مَصْحُوبُ "أَل" كَـ "العَقَبَهْ"
وعند البخاريّ في "المعراج" من طريق همّام عن قتادة: "بينما أنا في الحطيم، وربما قال: في الحِجْر مضطجعًا".
قال في "الفتح": قوله: "وربما قال: في الحجر" هو شك من قتادة، كما بيّنه أحمد، عن عفان، عن همام، ولفظه:"بينا أنا نائم في الحطيم"، وربما قال قتادة:"في الحجر"، والمراد بالحطيم هنا الحِجر، وأبعد من قال: المراد به ما بين الركن والمقام، أو بين زمزم والحِجْر، وهو وإن كان مُخْتلَفًا في الحطيم، هل هو الحجر أم لا؟ لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تتعدد؛ لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، ووقع في رواية الزهريّ، عن أنس، عن أبي ذرّ الماضية بلفظ:"فُرِج سقف بيتي، وأنا بمكة"، وفي رواية الواقديّ بأسانيده:"إنه أُسري به من شِعْب أبي طالب"، وفي حديث أم هانئ عند الطبرانيّ:"إنه بات في بيتها، قالت: ففقدَتْهُ من الليل، فقال: إن جبريل أتاني".
والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانئ، وبيتها عند شِعْب أبي طالب، ففُرِج سقف بيته، وأضاف البيت إليه؛ لكونه كان يسكنه، فنَزَل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد، فكان به مُضطجِعًا، وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد، فأركبه البراق.
وقد وقع في مرسل الحسن عند ابن إسحاق: "أن جبريل أتاه، فأخرجه إلى المسجد، فأركبه البراق"، وهو يؤيد هذا الجمع.
وقيل: الحكمة في نزوله عليه من السقف الإشارة إلى المبالغة في مفاجأته
بذلك، والتنبيه على أن المراد منه أن يُعْرَج به إلى جهة العلو، قاله في "الفتح"
(1)
.
(بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ) الظرف إما خبر بعد خبر، أو حال من "أنا"، و"اليقظان" بفتح، فسكون: صفة مشبّهة من يَقِظَ يَقَظًا، من باب تَعِبَ، ويَقَظَةً بفتح القاف، ويقاظَةً: خلافُ نام، وكذلك إذا انتبه للأمور، ورجلٌ يقظان، وامرأة يَقْظَى
(2)
.
قال في "الفتح": هو محمول على ابتداء الحال، ثم لَمّا خَرَج به إلى باب المسجد، فأركبه البراق استمَرّ في يقظته، وأما ما وقع في رواية شريك عند البخاريّ في "كتاب التوحيد" في آخر الحديث:"فاستيقظ، وهو في المسجد الحرام"، فإن قلنا بالتعدد، فلا إشكال، وإلا حُمِل على أن المراد بـ "استيقظ": أفاق، أي: أنه أفاق مما كان فيه من شُغْل البال بمشاهدة الملكوت، ورجع إلى العالم الدنيويّ.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بتعدّد المعراج بعيد جدًّا، وإن مال بعضهم إليه، وقد اعترض ابن أبي العزّ رحمه الله، في "شرح العقيدة الطحاويّة" على هذا القول، وعبارته: وقيل: كان الإسراء مرّتين: مرّةً في اليقظة، ومرّةً منامًا، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله:"ثم استيقظتُ" وبين سائر الروايات، وكذلك منهم من قال: بل كان مرّتين، مرّةً قبل الوحي ومرّةً بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرّات، مرّةً قبل الوحي ومرّتين بعده، وكلّما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرّة للتوفيق، وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرّةً واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البرّ.
قال شمس الدين ابن القيّم: يا عجبًا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارًا، كيف ساغ لهم أن يظنّوا أنه كان في كلّ مرّة تُفرَض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردّد بين ربّه وبين موسى عليه السلام حتى تصير خمسًا، فيقول: أأمضيتُ
(1)
"الفتح" 7/ 243 - 234 "كتاب المناقب" رقم الحديث (3888).
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 680 - 681.
فريضتي، وخفّفتُ عن عبادي"، ثم يُعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين، ثم يَحُطّها إلى خمس؟. انتهى
(1)
.
فتحصّل من هذا أن الصواب عدم تعدّد الإسراء والمعراج، وأنه إذا اختلفت علينا الروايات، سلكنا مسلك الترجيح، وعملنا بما دلّت عليه الروايات الكثيرة القويّة لرجحانها، وألغينا الروايات المرجوحة، فتبصّر بالإنصاف، ولا تسلك مسلك ذوي الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(إِذْ سَمِعْتُ قَائِلًا) هو جبريل عليه السلام (يَقُولُ: أَحَدُ الثَّلَاَثةِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ) المراد بالرجلين: حمزة، وجعفر، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم نائمًا بينهما، قاله في "الفتح".
(فَأُتِيتُ) بالبناء للمفعول، والآتي، والذي شقّ النحر، وغَسَل القلبَ، وملأه حكمةً وإيمانًا، هو جبريل عليه السلام، ففي رواية أبي رضي الله عنه السابقة:"فنزل جبريل، ففرج صدري، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب، ممتلئ حكمةً وإيمانًا، فأفرغها في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء"(فَانْطُلِقَ بِي) بالبناء للمفعول أيضًا، الظاهر أن المراد انطلاقه من بيته إلى المسجد (فَأُتِيتُ) بالبناء للمفعول أيضًا (بِطَسْتٍ) تقدّم أنها بفتح أولها وكسره، وبمثناة، وقد تحذف، وهو الأكثر، وإثباتها لغة طيء، وأخطأ من أنكرها، وخُصَّ الطست لكونه أشهر آلات الغسل عرفًا (مِنْ ذَهَبٍ) خُصّ الذهب لكونه أعلى أنواع الأواني الحسية وأصفاها، ولأن فيه خواصَ ليست لغيره، ويظهر لها هنا مناسبات، منها أنه من أوانى الجنة، ومنها أنه لا تأكله النار ولا التراب، ولا يلحقه الصدأ، ومنها أنه أثقل الجواهر، فناسب ثقل الوحي، وقال السُّهيليّ وغيره: إن نُظِر إلى لفظ الذهب نالسب من جهة إذهاب الرجس عنه، ولكونه وقع عند الذهاب إلى ربه، وإن نُظر إلى معناه فلوضاءته، ونقائه، وصفائه، ولثقله، ورسوبته، والوحي ثقيل، قال الله تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)} [المؤمنون: 102]، ولأنه أعزّ الأشياء في الدنيا، والقول هو الكتاب العزيز.
قال: ولعل ذلك كان قبل أن يحرم استعمال الذهب في هذه الشريعة،
(1)
راجع: "شرح العقيدة الطحاويّة" ص 224.
ولا يكفي أن يقال: إن المستعمِل له كان ممن لم يَحْرُم عليه ذلك من الملائكة؛ لأنه لو كان قد حُرِّم عليه استعماله لَنُزِّه أن يستعمله غيره في أمر يتعلق ببدنه المكرم.
ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب، فيُلْحَق بأحكام الآخرة.
قال الجامع: تقدّم أن الأرجح أن يُحمل هذا على أنه كان قبل تحريم استعمال الذهب، والله تعالى أعلم.
(فِيهَا) أي: في تلك الطست؛ لأنها مؤنثة غالبًا، كما سبق بيانه (مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ) يعني: تلك الطست فيها ماء زمزم لغسل قلبه، والظاهر أن هذه الطست غير الطست المملوءة حكمةً وإيمانًا، فتأمل، والله تعالى أعلم.
(فَشُرِحَ) بالبناء للمفعول، أي: شُقّ (صَدْرِي إِلَى كَذَا وَكَذَا"، قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلَّذِي مَعِي: مَا يَعْنى؟) وفي رواية البخاريّ من طريق همام، عن قتادة:"فشقّ ما بين هذه إلى هذه، فقلت للجارود، وهو إلى جنبي: ما يَعنِي به؟ "، فتبيّن أن الذي كان مع قتادة هو الجارود، قال في "الفتح": لم أرَ من نسبه من الرواة، ولعلّه ابن أبي سَبْرَة البصريّ صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثًا غير ذا. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أي: ذلك الذي معه مجيبًا عن سؤاله (إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ) أي: شقّه من فوق بطنه إلى أسفله، وفي رواية البخاريّ في "بدء الخلق":"من النحر إلى مراقّ بطنه"، و"النحر": موضع القلاة من الصدر، و"المراقّ" بفتح الميم، وتشديد القاف: هو ما سَفَلَ من البطن، فما تحته من المواضع التي تَرِقّ جلودها، وفي رواية للبخاريّ أيضًا في "المناقب":"من ثُغْر نَحْره إلى شِعْرَته"، و"الثُّغْرة" بضمّ المثلّثة، وسكون الغين المعجمة: هي الموضع المنخفض الذي بين التَّرْقُوَتين، و"الشِّعْرة" بكسر الشين المعجمة، وسكون العين: شَعْر العانة.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قد استنكر بعضهم وقوع شَقّ صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك،
(1)
"الفتح" 8/ 244.
فقد تواردت الروايات به، وثَبَتَ شقّ الصدر أيضًا عند البعثة، كما أخرجه أبو نعيم في "الدلائل"، ولكل منها حِكْمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس رضي الله عنه:"فأَخرج عَلَقةً، فقال: هذا حَظّ الشيطان منك"، وكان هذا في زمن الطفولية، فنشأ صلى الله عليه وسلم على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وَقَع شقّ الصدر عند البعثة زيادةً في إكرامه لِيَتَلقَّى ما يُوحَى إليه بقلب قويّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وَقَع شقّ الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة.
ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسلِ؛ لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة، كما تقرَّر في شرعه صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن تكون الحكمة في انفراج سقف بيته الإشارة إلى ما سيقع من شقّ صدره، وأنه سيلتئم بغير معالجة يتضرر بها.
وجميع ما ورد من شق الصدر، واستخراج القلب، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة، مما يجب التسليم له، دون التعرض لصرفه عن حقيقته؛ لصلاحية القدرة، فلا يستحيل شيء من ذلك.
قال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": لا يُلتَفَتُ لإنكار الشقّ ليلة الإسراء؛ لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم. انتهى
(1)
.
("فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي) ببناء الفعل للمفعول، وكذا الأفعال بعده (فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ) أي: الذي كان في الطست (ثُمَّ أُعِيدَ) أي: القلب (مَكَانَهُ) أي: في محلّه الأول (ثُمَّ حُشِيَ) أي: مُلئ (إِيمَانًا وَحِكْمَةً) قد تقدّم تفسير الحكمة بما فيه الكفاية، وتقدّم أيضًا أن الصواب في هذا حمله على حقيقته، فيكون المعنى أن الإيمان والحكمة حُشي بهما قلبه صلى الله عليه وسلم على ظاهره، وتجسيدُ المعاني جائزٌ وواقع، فقد أخرج المصنّف رحمه الله عن أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرؤوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فِرْقَان من طير صوافّ، تُحاجّان عن أصحابهما
…
" الحديث.
(1)
"الفتح" 8/ 244 - 245.
وحديث: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيذبح"، متّفق عليه، وكذلك وزن الأعمال، وغير ذلك من أحوال الغيب، فلا حاجة إلى ما تكلّف به بعضهم من التأويلات المتعسّفة، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ أَبْيَضَ، يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ) وصفه بـ "أبيض"، وذكّر الضمير في "له" نظرًا لكونه مركوبًا، للفظ البراق (فَوْقَ الْحِمَار، وَدُونَ الْبَغْلِ) الظرف صفة لـ "دابّة"، والحكمة في كون الدابّة بهذه الصفة الإشارة إلى الإسراع الشديد بدابّة لا توصف بذلك في العادة، أو باعتبار أن الركوب كان في سِلْم وأَمْنٍ، لا في حَرْبٍ وخوف.
(يَقَعُ خَطْوُهُ) بفتح الخاء المعجمة أوّلَهُ: المرة الواحدة، وبضمّها: الفِعْلة (عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ) - بفتح الطاء، وسكون الراء، وبالفاء - أي: نظره، أي: يَضَعُ رجله عند منتهى ما يَرَى بصره، أي: عند آخر ما وقع عليه نظره بعينه (فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ) بالبناء للمفعول (ثُمَّ انْطَلَقْنَا) أي: ذهبت أنا وجبريل، بعد ركوبي على تلك الدابّة، وفي رواية لأبي سعيد في "شرف المصطفى":"فكان الذي أمسك بركابه جبريل، وبزمام البراق ميكائيل"، وفي رواية معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به أُتي بالبراق مُسْرَجًا مُلْجَمًا، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما حَمَلَك على هذا؟ فوالله ما ركبك خلق أكرم على الله منه، قال: فارفضّ عرقًا"، أخرجه الترمذيّ، وقال: حسن غريبٌ، وصححه ابن حبان، وذكر ابن إسحاق، عن قتادة أنه لَمّا شَمَسَ
(1)
وَضَعَ جبريل يده على مَعْرَفَته
(2)
فقال: أما تستحي
…
فذكر نحوه مرسلًا، لم يذكر أنسًا، وفي رواية وَثِيمة عن ابن إسحاق:"فارتَعَشَت، حتى لَصِقَت بالأرض، فاستويتُ عليها"، وللنساليّ وابن مردويه من طريق يزيد بن أبي مالك، عن أنس، نحوه موصولًا، وزاد:"وكانت تُسَخَّر للأنبياء قبله"، ونحوه في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق.
(1)
شمس من بابي قتل وضرب، شُموسًا وشماسًا: استعصى على راكبه. اهـ. "المصباح".
(2)
"المَعْرَفَة" بفتح، فسكون، ففتح: موضع العَرْف من الطير والخيل.
وفيه دلالة على أن البراق كان مُعَدًّا لركوب الأنبياء عليهم السلام خلافًا لمن نَفَى ذلك، كابن دحية، وأوَّل قول جبريل:"فما رَكِبَك أكرم على الله منه"؛ أي: ما ركبك أحدٌ قطُّ، فكيف يركبك أكرم منه؟ وقد جَزَم السهيليٌّ أن البراق استصْعَبَ عليه لبُعد عهده بركوب الأنبياء قبله.
وقال النوويّ: قال الزبيديّ في "مختصر العين"، وتبعه صاحب "التحرير": كان الأنبياء يركبون البراق، قال: وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
قال الحافظ: قد ذكرتُ النقل بذلك، ويؤيده ظاهر قوله:"فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء".
ووقع في "المبتدأ" لابن إسحاق من رواية وَثِيمة في ذكر الإسراء: "فاستَصْعَبت البراق، وكانت الأنبياء تركبها قبلي، وكانت بعيدة العهد بركوبهم، لم تكن رُكِبت في الفترة"، وفي "مغازي ابن عائذ" من طريق الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، قال:"البراق: هي الدابة التي كان يزور إبراهيم عليها إسماعيل"، وفي الطبرانيّ، من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه:"أن جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالبراق، فحمله بين يديه"، وعند أبي يعلى والحاكم، من حديث ابن مسعود رفعه:"أُتيت بالبراق، فركبت خلف جبريل"، وفي حديث حُذيفة عند الترمذيّ، والنسائيّ:"فما زايلا ظهر البراق"، وفي "كتاب مكة" للفاكهيّ والأزرقيّ:"إن إبراهيم كان يحجُّ على البراق"، وفي أوائل "الروض" للسهيليّ:"إن إبراهيم حَمَلَ هاجر علي البراق، لَمّا سار إلى مكة بها وبولدها".
قال الحافظ رحمه الله: فهذه الآثارُ يشدّ بعضها بعضًا، وجاءت آثار أخرى تشهد لذلك، لم أرَ الإطالة بإيرادها.
ومن الأخبار الواهية في صفة البراق: ما ذكره الماورديّ، عن مقاتل، وأورده القرطبيّ في "التذكرة"، ومِن قبله الثعلبيّ، من طريق الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال،: "الموت والحياة جسمان، فالموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات، والحياة فَرَسٌ بلقاء أنثى، وهي التي كان جبريل والأنبياء يركبونها، لا تَمُرّ بشيء، ولا يجد ريحها شيء إلا حَيِيَ.
ومنها: أن البراق لَمّا عاتبه جبريل، قال له معتذرًا: إنه مس الصفراء
اليوم، وأن الصفراء صنم من ذهب، كان عند الكعبة، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ به، فقال: تَبًّا لمن يعبدك من دون الله، وأنه صلى الله عليه وسلم نَهَى زيد بن حارثة أن يمسه بعد ذلك، وكسره يوم فتح مكة.
قال ابن المُنَيِّر: إنما استصعَبَ البراق تَيْهًا وزَهْوًا
(1)
بركوب النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، وأراد جبريل استنطاقه، فلذلك خَجِلَ، وارْفَضَّ عَرَقًا من ذلك، وقريب من ذلك رَجْفَةُ الجبل به، حتى قال له:"اثبُت فإنما عليك نبيّ، وصِدِّيق، وشهيد"، فإنها هِزَّة الطَّرَب لا هزّة الغضب.
ووقع في حديث حذيفة عند أحمد قال: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق، فلم يُزايل ظهره هو وجبريل، حتى انتهيا إلى بيت المقدس".
فهذا لم يُسنده حذيفة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيحتَمِلُ أنه قال عن اجتهاد، ويحتمل أن يكون قوله:"هو وجبريل" يتعلق بمرافقته في السير لا في الركوب.
قال ابن دحية وغيره: معناه: وجبريلُ قائدٌ، أو سائقٌ، أو دليلٌ، قال: وإنما جَزَمنا بذلك؛ لأن قصة المعراج كانت كرامة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا مدخل لغيره فيها.
قال الحافظ: وَيرُدّ التأويل المذكور أن في "صحيح ابن حبان" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن جبريل حمله على البراق رَدِيفًا له، وفي رواية الحارث في "مسنده":"أُتي بالبراق، فركب خلف جبريل، فسار بهما"، فهذا صريح في ركوبه معه، فالله أعلم.
وأيضًا فإن ظاهره أن المعراج وقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم على ظهر البراق إلى أن صَعِدَ السماوات كلها، ووصل إلى ما وصل، ورَجَع وهو على حاله، وفيه نظر لِمَا سأذكره، ولعل حذيفة إنما أشار إلى ما وقع في ليلة الإسراء المجردة التي لم يقع فيها معراج، على ما تقدّم من تقرير الإسراء مرّتين. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن حمل الأحاديث على تعدد الإسراء غير مقبول، بل الحقّ أنه لا تعدّد، وإنما الصواب سلوك مسلك الترجيح بين
(1)
قوله: "تَيْهًا"؛ أي: فخرًا وتكبّرًا، وقوله:"زَهْوًا" عطف تفسير.
الروايات، فما لم يقبل منها الجمع يُنظر فيه، فيُعمل بالأرجح، ويترك المرجوح، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(حَتَّى أتيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) ظاهره أنه استمرّ على البراق حتى عرج إلى السماء، وتمسك به من زعم أن المعراج كان في ليلة غير الإسراء إلى بيت المقدس، فأما العروج ففي غير هذه الرواية من الأخبار أنه لم يكن على البراق، بل رَقِيَ المعراج وهو السّلّم، كما وقع مُصَرَّحًا به في حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق، والبيهقيّ في "الدلائل"، ولفظه: "فإذا أنا بدابة كالبغل، مضطرب الأذنين، يقال له: البراق، وكانت الأنبياء تركبه قبلي، فركبته
…
"، فذكر الحديث، قال: "ثم دخلتُ أنا وجبريل بيت المقدس، فصليتُ ثم أُتيت بالمعراج"، وفي رواية ابن إسحاق: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمّا فرغت مما كان في بيت المقدس، أُتِيَ بالمعراج، فلم أرَ قط شيئًا كان أحسن منه، وهو الذي يَمُدّ إليه الميت عينيه إذا حُضِر، فأصعدني صاحبي فيه، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء
…
" الحديث، وفي رواية كعب: "فوُضِعت له مِرْقاة من فضة ومرقاة من ذهب، حتى عَرَج هو وجبريل"، وفي رواية لأبي سعيد في "شرف المصطفى": "أنه أُتي بالمعراج من جنة الفردوس، وأنه مُنَضَّد باللؤلؤ، وعن يمينه ملائكة، وعن يساره ملائكة".
وأما المحتج بالتعدد فلا حجة له؛ لاحتمال أن يكون التقصير في ذلك الإسراء من الراوي، وقد حَفِظه ثابت، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أُتيت بالبراق"، فوصفه، قال: "فركبته، حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي تَرْبِط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناءين
…
"، فذكر القصة، قال: "ثم عَرَج بي إلى السماء"، وحديث أبي سعيد دالّ على الاتحاد.
قال: وقوله في رواية ثابت: "فربطته بالحلقة" أنكره حذيفة، فرَوَى أحمد، والترمذيّ من حديث حذيفة، قال:"تحدثون أنه ربطه، أَخَافَ أن يفِرَّ منه، وقد سَخَّره له عالم الغيب والشهادة؟ " قال البيهقيّ: المثبت مُقَدَّم على النافي، يعني: مَن أثبت ربط البراق، والصلاة في بيت المقدس، معه زيادة علم على مَن نَفَى ذلك، فهو أولى بالقبول.
ووقع في رواية بريدة عند البزار: "لَمّا كان ليلة أُسري به، فأَتَى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس، فوضع أصبعه فيها، فخرقها، فشدّ بها البراق"، ونحوه للترمذيّ.
وأنكر حذيفة أيضًا في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم صَلَّى في بيت المقدس، واحتجَّ بأنه لو صلى فيه، لكُتِب عليكم الصلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق.
والجواب عنه منعُ التلازم في الصلاة، إن كان أراد بقوله: كُتِب عليكم الفرضَ، وإن أراد التشريع فنلتزمه، وقد شَرَعَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة في بيت المقدس، فقرنه بالمسجد الحرام ومسجده في شَدّ الرحال، وذكر فضيلة الصلاة فيه في غير ما حديثٍ.
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقيّ: "حتى أتيت بيت المقدس، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها"، وفيه:"فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس، فصلى كلُّ واحد منا ركعتين"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه نحوه، وزاد:"ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين من بين قائم، وراكع، وساجد، ثم أقيمت الصلاة، فأممتهم"، وفي رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند ابن أبي حاتم:"فلم أَلْبَث إلا يسيرًا، حتى اجتمع ناس كثير، ثم أَذَّن مؤذن، فأقيصت الصلاة، فقمنا صفوفًا ننتظر مَن يؤمنا، فأخذ بيدي جبريل، فقدَّمني، فصلَّيتُ بهم"، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم:"وحانت الصلاة، فأممتهم"، وفي حديث ابن عباس عند أحمد:"فلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى، قام يصلي، فإذا النبيّون أجمعون يصلون معه"، وفي حديث عمر عند أحمد أيضًا أنه لَمّا دخل بيت المقدس، قال: أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدَّم إلى القبلة، فصلَّى.
قال عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون صَلَّى بالأنبياء جميعًا في بيت المقدس، ثم صعِدَ منهم إلى السماوات مَن ذَكَر أنه صلى الله عليه وسلم رآه، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد أن هَبَطَ من السماء، فهبطوا أيضًا، وقال غيره: رؤيته إياهم في السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى لِمَا ثبت أنه رُفِع بجسده، وقد قيل في إدريس أيضًا ذلك، وأما الذين صلوا معه في بيت المقدس، فيحتمل
الأرواح خاصةً، ويحتمل الأجساد بأرواحها، والأظهر أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا داعي إلى هذه الاحتمالات التي تؤدّي إلى إخراج النصوص الصريحة الواضحة عن ظواهرها، بل الحقّ أنه صلى الله عليه وسلم صلَّى بالأنبياء بأجسادهم وأرواحهم، ثم لَمّا صَعِدَ إلى الملإ الأعلى وجد من ذَكَر أنه وجدهم من الأنبياء كذلك روحًا وجسدًا، فإن هذه الأمور الغيبيّة لا تقاس على الشهادة، بل يجب التسليم لها، فإن الله سبحانه وتعالى يُكرم من يشاء من عباده بما يشاء من الكرامة، ولا سيّما الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهو على ما يشاء قدير، فالواجب أن نصدّق بما صحّ لدينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتكلّف لتأويله بما لا نُحيط به علمًا، بل نقول: إنه صلى الله عليه وسلم مرّ على موسى في قبره، فرآه يصلي في قبره، ثم لَمّا وصل إلى بيت المقدس صلّى وبمن معه من الأنبياء تلك الصلاة، ثم لَمّا عرج إلى السماء وجده في السماء السادسة، فرحّب به ودعا له، فما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحّ لدينا، حقّ وصدق نؤمن به، وإن جحده من أهل الضلالة الذين لا يقبلون إلا ما جوّزه عقلهم المشحون بالهوى، اللهم أرِنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللهم آمين.
وقوله: (السَّمَاءِ الدُّنْيَا) فُعْلَى من الدنوّ، وهو القرب، أي: القريبة إلى الأرض، وفي حديث أبي سعيد في ذكر الأنبياء عند البيهقيّ:"إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة، وعليه ملك، يقال له: إسماعيل، وتحت يده اثنا عشر ألف ملك".
(فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم) أي: طلب فتح باب السماء الدنيا من خازنها (فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟) أي: قال خازنها لجبريل: من هذا الذي يستفتح الباب؟ (قَالَ: جِبْرِيلُ) أي: أنا جبريل (قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟) هذا يُشعِر بأنهم أحسوا معه برفيق، وإلا لكان السؤال بلفظ: أمعك أحد؟ وذلك الإحساس إما بمشاهدة؛ لكون السماء شفافةً، وإما بأمر معنويّ، كزيادة أنوار، أو نحوها مما يُشعر بتجدد أمر يَحْسُن معه السؤال بهذه الصيغة.
(1)
"الفتح" 7/ 248 - 249.
(قَالَ: مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم) أي: معي محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه دليلٌ على أن الاسم أولى في التعريف من الكنية (قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟) أي: أُرسل إليه للعروج، وليس المراد أصل البعث؛ لأن ذلك كان قد اشتَهَر في الملكوت الأعلى، وقيل: سألوا تعجبًا من نعمة الله عليه بذلك أو استبشارًا به، وقد علموا أن بشرًا لا يترقّى هذا الترقي إلا بإذن الله تعالى، وأن جبريل لا يصعد بمن لم يرسل إليه.
وقيل: الحكمة في سؤال الملائكة: "وقد بعث إليه"، أن الله أراد اطلاع نبيه صلى الله عليه وسلم على أنه معروف عند الملأ الأعلى؛ لأنهم قالوا:"أبُعِث إليه"، فدَلّ على أنهم كانوا يعرفون أن ذلك سيقع له، وإلا لكانوا يقولون: ومن محمد؟ مثلًا.
(قَالَ) جبريل (نَعَمْ) بُعِث إليه (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَفَتَحَ لَنَا) بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير الخازن، ويحتمل أن يكون بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير الباب (وَقَالَ) أي: الخازن (مَرْحَبًا بِهِ) أي: أصاب رُحْبًا وسَعَةً، وكَنَى بذلك عن الانشراح، وقال ابن منظور رحمه الله: وقولهمٍ في تحيّة الوارد: "أهلًا ومَرْحبًا"؛ أي: صادفت أهلًا ومرحبًا، أو أتيت سَعَة وأتيتَ أهلًا، فاستأنِس ولا تستوحِشْ، وقال أيضًا: قولهم: "مَرْحَبًا" أي: أتيت، أو لقيتَ رُحْبًا وسَعَةً لا ضِيقًا، وكذلك "سَهْلًا"؛ أي: نزلت بلدًا سهلًا، لا حَزْنًا غَلِيظًا. انتهى بتصرف
(1)
.
[تنبيه]: استنبط ابن المُنَيِّر من قوله: "فقال: مرحبًا" جواز ردّ السلام بغير لفظ السلام.
وتُعُقِّب بأن قول الملك: "مرحبًا به" ليس ردًّا للسلام، فإنه كان قبل أن يفتح الباب، والسياق يرشد إليه، وقد نَبّهَ على ذلك ابن أبي جمرة رحمه الله، ووقع هنا أن جبريل قال له عند كلّ واحد منهم:"سَلِّمْ عليه، قال: فسلَّمت عليه، فردّ عليّ السلام"، وفيه إشارة إلى أنه رآهم قبل ذلك.
(وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ) قيل: المخصوص بالمدح محذوف، وفيه تقديم وتأخير، والتقدير: جاء، فنعم المجيء مجيئه، وقال ابن مالك رحمه الله: في هذا
(1)
"لسان العرب" 1/ 414 - 415.
الكلام شاهدٌ على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة عن الموصوف، في باب "نِعْمَ"؛ لأنها تحتاج إلى فاعل هو "المجيء"، وإلى مخصوص بمعناها، وهو مبتدأٌ مُخْبَرٌ عنه بـ "نِعْمَ " وفاعِلِهَا، فهو في هذا الكلام وشبهه موصول، أو موصوف بـ "جاء"، والتقدير: نعم المجيء الذي جاء، أو: نِعم المجيء مجيء جاءه، وكونه موصولًا أجود؛ لأنه مُخْبَر عنه، والمخبر عنه إذا كان معرفةً أولى من كونه نكرةً. انتهى
(1)
.
والحاصل أن فاعل "نعم" هنا هو "المجيء"؛ لأن فاعلها لا بدّ أن يكون محلًّى بـ "أل"، أو مضافًا إلى المحلّى، ويكون أيضًا ضميرًا مفسَّرًا بالتمييز، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:
فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ
…
"نِعْمَ" وَ"بِئْسَ" رَافِعَانِ اسْمَيْنِ
مُقَارِنَي "أَلْ" أَوْ مُضَافَيْنِ لِمَا
…
قَارَنَهَا كـ "نِعْمَ عُقْبَى الكُرَمَا"
وَيَرْفَعَانِ مُضْمَرًا يُفَسِّرُهْ
…
مُمَيِّزةٌ كـ "نِعْمَ قَوْمًا مَعْشَرُهْ"
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ صلى الله عليه وسلم ") أي: مررنا عليه.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ) الظاهر أن الضمير لسعيد بن أبي عروبة، يعني: أن سعيدًا ساق هذا الحديث مع بيان قصّة عروج النبيّ صلى الله عليه وسلم في السماوات وملاقاته للأنبياء فيها، لكن المصنّف، أو أحد الرواة ممن فوقه اختصره بما أشار إليه بقوله:(وَذَكَرَ أنهُ) صلى الله عليه وسلم (لَقِيَ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى عليهما السلام، وَفِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ، وَفِي الرَّابِعَةِ إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ) وسيأتي الحديث بتمامه من"مسند أبي عوانة" - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّادِسَة، فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَى عليه السلام، فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِح، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ) قيل: اقتصر الأنبياء على وصفه بهذه الصفة، وتواردوا عليها؛ لأن الصلاح صفة تَشْمَل خلال الخير، ولذلك كرّرها كلٌّ منهم عند كلّ صفة، والصالحُ: هو الذي يقوم بما يلزمه من حقوق الله وحقوق العباد، فمن ثم كانت كلمة جامعة لمعاني
(1)
"شواهد التوضيح" ص 110.
الخير، وفي قول آدم عليه السلام:"بالابن الصالح" إشارة إلى افتخاره بأبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ بَكَى، فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ) أي: يا رب (هَذَا غُلَامٌ، بَعَثْتَهُ بَعْدِي، يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي) وفي رواية شريك، عن أنس:"لم أظنّ أحدًا يُرفَع عليّ"، وفي حديث أبي سعيد:"قال موسى: يَزعُم بنو إسرائيل أني أكرم على الله، وهذا أكرم على الله مني"، زاد الأمويّ في روايته:"ولو كان هذا وحده وإن عليّ، ولكن معه أمته، وهم أفضل الأمم عند الله"، وفي رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه:"أنه مرّ بموسى عليه السلام، وهو يَرْفَع صوته، فيقول: أكرمته وفضّلته، فقال جبريل: هذا موسى، قلتُ: ومَن يعاتب؟ قال: يعاتب ربَّه فيك، قلت: ويرفع صوته على ربّه؛ قال: إن الله قد عَرَف له حِدَّته"، وفي حديث ابن مسعود عند الحارث، وأبي يعلى، والبزار:"وسمعت صوتًا وتَذَمُّرًا، فسألت جبريل، فقال: هذا موسى، قلتُ: على من تذمُّرُهُ؟ قال: على ربِّه، قلت: على ربِّه؟ قال: إنه يَعْرِف ذلك منه".
قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حَسَدًا، معاذَ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى، بل كان أَسَفًا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجة، بسبب ما وَقَعَ من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره؛ لأن لكل نبيّ مثلُ أجر كلِّ من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمته في العدد دون من اتبع نبيّنا صلى الله عليه وسلم مع طول مدتهم بالنسبة لهذه الأمة.
وأما قوله: "غلام" فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه؛ إذ أعطى لمن كان في ذلك السنّ ما لم يعطِه أحدًا قبله ممن هو أسنّ منه، وقد وقع من موسى عليه السلام من العناية بهذه الأمة من أمر الصلاة ما لم يقع لغيره، ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند الطبريّ، والبزَّار، قال صلى الله عليه وسلم:"كان موسى أشدهم عليّ حين مَرَرْتُ به، وخيرهم لي حين رَجَعتُ إليه"، وفي حديث أبي سعيدٍ: "فأقبلتُ راجعًا، فمررت بموسى، ونعم الصاحبُ كان لكم، فسألني كم فَرَضَ عليك ربُّك
…
" الحديث.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: إن الله جَعَل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما
جَعَل في قلوب غيرهم؛ لذلك بَكَى رحمةً لأمته، وأما قوله:"هذا الغلام"، فأشار إلى صِغَر سنه بالنسبة إليه.
وقال الخطابي رحمه الله: العرب تسمي الرجل المستجمع السنّ غلامًا ما دامت فيه بقية من القوة. انتهى.
قال الحافظ رحمه الله: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبيّنا عليهما الصلاة والسلام، من استمرار القوّة في الكهولية، وإلى أن دخل في سنّ الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هَرَمٌ، ولا اعترى قوّته نقصٌ، حتى إن الناس في قدومه المدينة كما ثبت من حديث أنس رضي الله عنه لَمّا رأوه مُردفًا أبا بكر أطلقوا عليه اسم الشابّ، وعلى أبي بكر اسم الشيخ، مع كونه في العمر أسنّ من أبي بكر رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
(قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقْنَا، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَة، فَأَتَيْتُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وفي حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه: "فإذا أنا بإبراهيم، خليل الرحمن، مُسْنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، كأحسن الرجال"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبريّ:"فإذا هو برجل أشمط، جالس عند باب الجنة على كرسيّ".
[تنبيه]: اختُلِف في حال الأنبياء عند لُقِيّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء، هل أُسري بأجسادهم لملاقاة النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مُستقرَّةٌ في الأماكن التي لقيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وأرواحهم مشكّلةٌ بشكل أجسادهم، كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل؟ قال الحافظ: واختار الأول بعض شيوخنا، واحتج بما ثبت في مسلم، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"رأيت موسى ليلة أُسري بي قائمًا يصلي في قبره"، فدَلّ على أنه أُسري به لَمّا مر به.
قال الحافظ: قلت: وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض، فلذلك يتمكن من الصلاة وروحه مستقرّة في السماء. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاختلاف يعدّ من فضول الكلام، فكان الأولى للعلماء أن لا يشتغلوا به، بل يمسكوا عنه؛ لعدم فائدة تنبني عليه، ومع ذلك فالأخذ بما دلّت عليه ظواهر النصوص، من أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره يصليّ، ووجده أيضًا مع سائر الأنبياء في بيت المقدس، وفي الملإ الأعلى كلّ ذلك بأجسادهم وأرواحهم هو الحقّ الذي لا ينبغي العدول
عنه؛ إذ لا مانع من ذلك ولا نصّ يصرف عن هذا الظاهر، والله سبحانه وتعالى قادرٌ على كلّ ذلك، وقد ثبت أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم، فكن مع ظواهر النصوص، ولا تعدل عنها إلا إذا وجدت دليلًا يصرفك عنه، اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِنا لما اختُلف فيه من الحقّ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم آمين.
(وَقَالَ) الظاهر أن الضمير لمالك بن صعصعة، ويحتمل أن يكون لمن دونه (فِي الْحَدِيثِ: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ) وسيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أربعة أنهار من الجنة: النيل والفرات، وسيحان وجيحان"، فيحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، والأنهار تخرج من تحتها، فيصح أنها من الجنة، قاله في "الفتح".
(يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا) الضمير لسدرة المنتهى التي اختصر ذكرها، ففي رواية أبي عوانة الآتية: "ثم رُفِعت لنا السدرة المنتهى، فحدَّث نبي الله صلى الله عليه وسلم أن ورقها مثل آذان الفِيَلَة، وأن نَبِقَها مثل قِلال هَجَر، وحَدَّث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار، يخرجن من أصلها: نهران باطنان، ونهران ظاهران
…
".
وقوله: "ثم رفعت لنا السدرة المنتهى"؛ أي: قُرِّبت وظهرت لنا، والرفع إلى الشيء يُطلَق على التقريب منه، وقد قيل في قوله تعالى:{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)} [الواقعة: 34]؛ أي: تقرب لهم، ووقع بيان سبب تسميتها السدرة المنتهى في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي إن شاء الله تعالى.
(نَهْرَانِ ظَاهِرَان، وَنَهْرَانِ بَاطِنَان، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذ الْأَنْهَارُ؟ قَالَ: أمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَان، فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه أن الباطن أجلّ من الظاهر؛ لأن الباطن جُعِل في دار البقاء، والظاهر جُعل في دار الفناء، ومن ثَمَّ كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"(وَأَمَّا الظَّاهِرَان، فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ) وفي رواية شريك: "أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يَطّردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما"، والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري
الجنة، وأراد بالعنصر عنصر امتيازهما بسماء الدنيا، كذا قال ابن دحية.
ووقع في حديث شريك أيضًا: "ومضى به يَرْقَى السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزَبَرْجَد، فضَرَب بيده، فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خَبَأَ لك ربُّك".
ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم، قال:"ثم انطَلَق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خُضْر أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة، يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء، فشَرِبتُ، فإذا هو أحلى من العسل، وأشدّ رائحةً من المسك".
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "فإذا فيها عين تجري، يقال لها: السلسبيل، فينشق منها نهران: أحدهما الكوثر، والآخر يقال له: نهر الرحمة".
قال الحافظ رحمه الله: فيمكن أن يُفَسَّر بهما النهران الباطنان المذكوران في حديث الباب، وكذا رُوي عن مقاتل قال: الباطنان: السلسبيل والكوثر.
وأما الحديث الذي أخرجه مسلم بلفظ: "سيحان، وجيحان، والنيل، والفرات، من أنهار الجنة"، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأما الباطنان المذكوران في حديث الباب، فهما غير سيحون وجيحون، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: "الفُرَاتُ" بالمثناة في الخط، في حالتي الوصل والوقف في القراءات المشهورة، وجاء في قراءة شاذة أنها هاء تأنيث، وشبَّهها أبو المظفر بن الليث بالتابوت والتابوه
(1)
.
(ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: هَذَا الْبَيْتُ
(1)
"الفتح" 7/ 255.
الْمَعْمُورُ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيه، آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ) قال صاحبَ "مطالع الأنوار": ورويناه "آخرَ ما عليهم" برفع الراء، ونصبها، فالنصب على الظرف، والرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم من دخوله، قال: والرفع أوجَهُ، وفي هذا أعظم دليل على كثرة الملائكة - صلوات الله وسلامه عليهم - والله تعالى أعلم
(1)
.
(ثُمَّ أُتِيتُ، بِإِنَاءَيْنِ: أَحَدُهُمَا خَمْرٌ، وَالْآخَرُ لَبَنٌ، فَعُرِضَا عَلَيَّ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقِيلَ: أَصَبْتَ أَصَابَ اللهُ بِكَ، أُمَّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ) قد تقدّم في أول الباب الكلام في هذا الجُمَل، والذي يزاد هنا معنى:"أصبت"، أي: أصبت الفطرة، كما جاء في الرواية المتقدّمة، وتقدَّم بيان معنى الفطرة.
ومعنى "أصاب الله بك"؛ أي: أراد بك الفطرةَ، والخيرَ، والفضلَ، وقد جاء "أصاب" بمعنى "أراد" في قول الله تعالى:{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} [ص: 36]، أي: حيث أراد، اتَّفَق عليه المفسرون وأهل اللغة، كذا نَقَل الواحديّ اتفاق أهل اللغة عليه.
وأما قوله: "أمتُك على الفطرة"، فمعناه: أنهم أَتْبَاعٌ لك، وقد أصبت الفطرة، فهم يكونون عليها، والله تعالى أعلم
(2)
.
ووقع في رواية البخاريّ: "ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها".
قال في "الفتح" مفسّرًا للفطرة: أي دين الإسلام، قال القرطبيّ: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرةً؛ لأنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشُقُّ أمعاءه، والسرّ في ميل النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه دون غيره؛ لكونه كان مألوفًا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقد وقع في هذه الرواية أن إتيانه الآنية كان بعد وصوله إلى سدرة المنتهى، ووقع عند البخاريّ في "الأشربة": من طريق شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُفِعت لي سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار
…
" فذكره، قال: "وأتيت بثلاثة أقداح
…
" الحديث، وهذا موافق لحديث الباب إلا أن شعبة لم يذكر في الإسناد مالك بن صعصعة، وفي
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 225.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 225 - 226.
حديث أبي هريرة عند ابن عائذ في حديث المعراج بعد ذكر إبراهيم قال: "ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مُغَطّاة، فقال جبريل: يا محمد أَلَا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت إحداها، فإذا هو عَسَلٌ، فشربت منه قليلًا، ثم تناولت الآخر، فإذا هو لبنٌ، فشربت منه حتى رويت، فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويتُ، قال: وفّقك الله"، وفي رواية البزَّار من هذا الوجه: أن الثالث كان خمرًا، لكن وقع عنده أن ذلك كان ببيت المقدس، وأن الأول كان ماءً، ولم يذكر العسل، وفي حديث ابن عباس عند أحمد: "فلما أتى المسجد الأقصى قام يصلي، فلما انصرف جيء بقدحين، في أحدهما لبن وفي الآخر عسل، فأخذ اللبن
…
" الحديث.
وقد وقع عند مسلم من طريق ثابت، عن أنس أيضًا: أن إتيانه بالآنية كان ببيت المقدس قبل المعراج، ولفظه:"ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاء جبريل بإناء من خمر، وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل: أخذت الفطرة، ثم عَرَج الى السماء".
وفي حديث شداد بن أوس: "فصليت من المسجد حيث شاء الله، وأخذني من العطش أشدّ ما أخذني، فأُتيت بإناءين، أحدهما لبن، والآخر عسل، فعَدَلت بينهما، ثم هداني الله، فأخذت اللبن، فقال شيخ بين يديّ - يعني: لجبريل -: أخذ صاحبك الفطرة".
وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق في قصة الإسراء: "فصلى بهم - يعني: الأنبياء - ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء، فأخذت اللبن
…
" الحديث، وفي مرسل الحسن عنده نحوه، لكن لم يذكر إناء الماء.
ووقع بيان مكان عَرْض الآنية في رواية سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة عند البخاريّ، ولفظه:"أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به بإيلياء، بإناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غَوَتْ أمتك" وهو عند مسلم، وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عُتبة، عن أنس، عند البيهقيّ: "فعُرض عليه الماء، والخمر، واللبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أصبت الفطرة، ولو شربت
الماء لغَرِقت، وغَرِقت أمتك، ولو شربت الخمر، لغَوَيت وغوت أمتك".
قال الحافظ رحمه الله: ويُجْمَع بين هذا الاختلاف إما بحمل "ثُمّ" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عَرْض الآنية مرتين: مرةً عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع له من العطش، ومرةً عند وصوله إلى سدرة المنتهى ورؤيةِ الأنهار الأربعة.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الأخير هو الأوجه، فتأمل، والله تعالى أعلم.
قال: أما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها، فيُحمَل على أن بعض الرواة ذَكَر ما لم يذكره الآخر، ومجموعها أربعة آنية، فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تَخْرُج من أصل سدرة المنتهى.
ووقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبريّ لَمّا ذَكَر سدرة المنتهى: "يَخرُج أصلها من أنهار من ماء غير آسنٍ، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذةً للشاربين، ومن عسل مصفَّى"، فلعله عُرِض عليه من كل نهر إناءٌ.
وجاء عن كعب
(1)
أن نهر العسل نهر النيل، ونهر اللبن نهر جيحان، ونهر الخمر نهر الفرات، ونهر الماء سيحان، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَي كُلَّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلَاةً") قد تقدّم ما يتعلق بهذا في شرح حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ) الظاهر أن الضمير لسعيد بن أبي عروبة رحمه الله، أي: ذكر تمام قصّة الصلاة، كما سنسوقه من رواية أبي عوانة رحمه الله.
[تنبيه]: قد أخرج الإمام الحافظ أبو عوانة الإسفرائينيّ رحمه الله رواية سعيد بن أبي عروبة هذه التي اختصر المصنّف رحمه الله بعض مواضعها، فقال في "مسنده" (1/ 107):
(337)
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا عبد الوهاب بن عطاء،
(1)
لعله من الإسرائيليّات، والله تعالى أعلم.
قال: ثنا سعيد بن أبي عروبة، (ح) وحدثنا أبو الحسن عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مِهْران، قال: ثنا رَوْح بن عُبادة، قال: أنبا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"بينا أنا عند البيت، بين النائم واليَقْظَان، إذ سمعت قائلًا يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، قال: فأُتيت، فانطُلِق بي، ثم أُتيت بطست من ذهب، فيها من ماء زمزم، فشُرِح صدري إلى كذا وكذا" قال قتادة: قلت للذي معي: ما يَعْنِي؟ قال: قال: إلى أسفل بطني، "فاستُخرج قلبي، فغُسل بماء زمزم، ثم أُعيد مكانه، فحُشي إيمانًا وحكمةً، ثم أُتيت بدابة أبيض، يقال له: البراق، فوق الحمار دون البغل، فحُملت عليه، ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء الدنيا، ثم استفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؛ قال: محمد، قالوا: أَوَ قد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففتُحِ لي، فأتيت على آدم، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم، فسلمتُ عليه، فقال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبيّ الصالح، ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؛ قال: محمد، قيل: أَوَ قد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففُتِح لنا، فأَتيت على يحيى وعيسى، فقلت: يا جبريل من هذان؛ قال: هذان يحيى وعيسى، قال: وأحسبه قال: ابنا الخالة، فسلمت عليهما، فقالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح، ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففُتِح لنا، فأَتيت على يوسف، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح، ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففُتِح لنا، فأَتيت على إدريس، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أخوك إدريس، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح" قال: فكان قتادة يقرأ
عندها {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]. "ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففُتِح لنا، فأَتيت على هارون، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أخوك هارون، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح، ثم انطلقنا، حتى أتينا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أَوَ قد بُعِث إليه؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففُتِح لنا، فأَتيت على موسى، فقلت: يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبيّ الصالح، فلما جاوزته بكى، قيل: وما يبكيك؟ قال: رَبِّ هذا غلام، بعثته بعدي، يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي، ثم انطلقنا، حتى أتينا السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بُعِث؟ قال: نعم، قالوا: مرحبًا به، ولنعم المجيءُ جاء، ففتح لنا، فأَتيت على إبراهيم، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبيّ الصالح، ثم رُفِع لنا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه، آخرَ ما عليهم، ثم رُفعت لنا السدرة المنتهى، فحَدّث نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أنّ ورقها مثلُ آذان الفِيَلة، وأن نَبقَها مثلُ قلال هَجَر، وحَدَّث نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار، يخرجن من أَصلها، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان، فنهران في الجنة، وأما النهران الظاهران، فالنيل والفرات، قال: ثم أُتيت بإنائين: أحدهما لبن، والآخر خمر، فاخترت اللبن، فقيل لي: أصبت أصاب الله بك، وأمتُك على الفطرة، وفُرِضت عليَّ خمسون صلاة في كل يوم، فأَتيت على موسى، فقال: بما أُمرت؟ قلت: فُرضت عليّ خمسون صلاةً كلَّ يوم، قال: إني قد بَلَوْتُ الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك، فسَلْه التخفيف لأمتك، قال: فرجعت إلى ربي، فحَطّ عني خمسًا، ثم أَتيت على موسى، فقال: بما أمرت؟
قلت: حط عني خمسًا، قال: إني قد بَلَوتُ الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك، قال: فرجعت إلى ربي، فحَطَّ عني خمسًا، قال: فما زلت بين موسى وبين ربي، حتى صُيِّرت إلى خمس صلوات في كل يوم، فأَتيت على موسى، فقال: بما أُمرت؟ قلت: صُيِّرت إلى خمس صلوات كل يوم، قال: إني بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك، فسله التخفيف لأمتك، فقلت: لقد رجعت إلى ربي، حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلّم، قال: فنوديت أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت الحسنة بعشرة أمثالها". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): أن حديث مالك بن صَعْصَعَة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 423 و 424](164)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3207)، و"أحاديث الأنبياء"(3393) و (3430)، و"المناقب"(3887)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3346)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(448)، و"الكبرى"(313)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 302 - 305)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 208 - 209 - 210)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(336 و 337 و 338 و 339)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(420)، و (ابن منده) في "الإيمان"(717)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(49)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 387)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3752)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما ذكره الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، وهو تحقيقٌ
(1)
"مسند أبي عوانة" 1/ 107 - 109.
نفيسٌ، يكون فَذْلَكَةً لِمَا سبق من التحقيقات، أسوقه بطوله لنفاسته، قال رحمه الله (1/ 243 - 247):
قال أبو حاتم: الله جل وعلا قادر على ما يشاء، ربما يَعِدُ الشيءَ لوقت معلوم، ثم يقضي كون بعض ذلك الشيء قبل مجيء ذلك الوقت، كوعده إحياء الموتى يوم القيامة، وجعله محدودًا، ثم قَضَى كون مثله في بعض الأحوال، مثل مَن ذكره الله، وجعله الله جل وعلا في كتابه، حيث يقول:{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} الآية [البقرة: 259]، وكإحياء الله جل وعلا لعيسى ابن مريم صلوات الله عليه بعض الأموات، فلما صَحَّ وجود كون هذه الحالة في البشر إذا أراده الله جل وعلا قبل يوم القيامة، لم يُنكَر أن الله جل وعلا أحيا موسى في قبره، حتى مَرّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، وذاك أن قبر موسى بمدين بين المدينة وبين بيت المقدس، فرآه صلى الله عليه وسلم يدعو في قبره؛ إذ الصلاة دعاء
(1)
فلما دخل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس، وأُسري به أُسري بموسى حتى رآه في السماء السادسة، وجرى بينه وبينه من الكلام ما تقدم ذكرنا له، وكذلك رؤيته سائر الأنبياء الذين في خبر مالك بن صعصعة.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم في خبر مالك بن صعصعة: "بينما أنا في الحطيم، إذ أتاني آتٍ، فشقّ ما بين هذه إلى هذه"، فكان ذلك له فضيلة فُضّل بها على غيره، وأنه من معجزات النبوة؛ إذ البشر إذا شُقّ عن موضع القلب منهم ثم استُخْرِج قلوبهم ماتوا.
وقوله: "ثم حُشِي" يريد أن الله جل وعلا حَشَا قلبه اليقين والمعرفة الذي كان استقراره في طست الذهب، فنُقِل إلى قلبه، ثم أُتي بدابة، يقال لها: البراق، فحُمِل عليه من الحطيم أو الحجر، وهما جميعًا في المسجد الحرام، فانطَلَق به جبريل، حتى أتى به على قبر موسى، على حسب ما وصفناه، ثم
(1)
هكذا أوّل ابن حبّان رحمه الله الصلاة بالدعاء هنا، والظاهر أنه أراد الصلاة المعروفة؛ إذ لا داعي للتأويل المذكور، والله تعالى أعلم.
دخل مسجد بيت المقدس، فخَرَق جبريل الصخرة بإصبعه، وشدَّ بها البراق، ثم صَعِد به إلى السماء، ذُكِر شدّ البراق بالصخرة في خبر بريدة، ورؤيته صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره ليسا جميعًا في خبر مالك بن صعصعة، فلما صَعِد به إلى السماء الدنيا، استَفتَحَ جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم، قيل: وقد أُرسِل إليه؛ يريد به: وقد أرسل إليه لِيُسْرَى به إلى السماء، لا أنهم لم يعلموا برسالته إلى ذلك الوقت؛ لأن الإسراء كان بعد نزول الوحي بسبع سنين، فلما فُتِح له، فرأى آدم على حسب ما وصفنا قبلُ، وكذلك رؤيته في السماء الثانية يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، وفي السماء الثالثة يوسف بن يعقوب، وفي السماء الرابعة إدريس، ثم في السماء الخامسة هارون، ثم في السماء السادسة موسى، ثم في السماء السابعة إبراهيم؛ إذ جائز أن الله جل وعلا أحياهم؛ لأن يراهم المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، فيكون ذلك آيةً معجزة يُسْتَدَلّ بها على نبوته على حسب ما أصّلنا قبلُ، ثم رُفع له سدرة المنتهى، فرآها على الحالة التي وَصَفَ، ثم فُرِض عليه خمسون صلاةً، وهذا أمر ابتلاءٌ، أراد الله جل وعلا ابتلاء صفيه محمد صلى الله عليه وسلم حيث فَرَض عليه خمسين صلاةً؛ إذ كان في علم الله السابق أنه لا يَفْرِض على أمته إلا خمس صلوات فقط، فأَمَره بخمسين صلاة أمر ابتلاء، وهذا كما نقول: إن الله جل وعلا قد يأمر بالأمر يريد أن يأتي المأمور به إلى أمره من غير أن يريد وجود كونه، كما أَمَر الله جل وعلا خليله إبراهيم بذبح ابنه، أَمَره بهذا الأمر، أراد به الانتهاء إلى أمره دون وجود كونه، فلما أسلما وتلّه للجبين فداه بالذبح العظيم؛ إذ لو أراد الله جل وعلا كون ما أَمَر لوَجَد ابنه مذبوحًا، فكذلك فَرَض الصلاة خمسين، أراد به الانتهاء إلى أمره دون وجود كونه، فلما رجع إلى موسى، وأخبره أنه أمر بخمسين صلاة كل يوم، ألهم الله موسى أن يسأل محمدًا صلى الله عليه وسلم بسؤال ربِّه التخفيف لأمته، فجعل جل وعلا قول موسى عليه السلام له سببًا لبيان الوجود لصحة ما قلنا: إن الفرض من الله على عباده أراد إتيانه خمسًا لا خمسين، فرَجَع إلى الله جل وعلا، فسأله فوضع عنه عشرًا، وهذا أيضًا أمر ابتلاء، أريد به الانتهاء إليه دون وجود كونه، ثم جَعَل سؤال موسى عليه السلام إياه سببًا لنفاذ قضاء الله جل وعلا في سابق علمه، أن الصلاة تُفْرَض على هذه
الأمة خمسًا لا خمسين، حتى رجع في التخفيف إلى خمس صلوات، ثم ألهم الله جل وعلا صفيه صلى الله عليه وسلم حينئذ حتى قال لموسى: قد سألت ربي حتى استحييتُ لكني أَرْضَى وأُسَلِّم، فلما جاوز ناداه منادٍ: أمضيت فريضتي، أراد به الخمس صلوات، وخففت عن عبادي، يريد: عن عبادي من أمر الابتلاء الذي أمرتهم به من خمسين صلاة التي ذكرناها.
وجملة هذه الأشياء في الإسراء رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجسمه عيانًا، دون أن يكون ذلك رؤيا أو تصويرًا صُوِّرَ له؛ إذ لو كان ليلة الإسراء، وما رأى فيها نومًا دون اليقظة، لاستحال ذلك؛ لأن البشر قد يَرون في المنام السماوات، والملائكة، والأنبياء، والجنة، والنار، وما أشبه هذه الأشياء، فلو كان رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم ما وُصِفَ في ليلة الإسراء في النوم دون اليقظة، لكانت هذه حالة يستوي فيها معه البشر؛ إذ هم يرون في مناماتهم مثلها، واستحال فضله، ولم تكن تلك حالةً معجزةً يُفَضَّل بها على غيره، ضدّ قول من أبطل هذه الأخبار، وأنكر قدرة الله جل وعلا، وإمضاء حكمه لما يحب كما يحب، جلّ ربنا وتعالى عن مثل هذا وأشباهه. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما قال الشيخ أبو حمد بن أبي جمرة رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا بين النائم واليَقْظَان": لو قال صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقظان لأخبر بالحقّ؛ لأن قلبه في النوم واليقظة سواءٌ، وعينه أيضًا لم يكن النوم تمكّن منها، لكنه تحرَّى صلى الله عليه وسلم الصدق في الإخبار بالواقع، فيؤخذ منه أنه لا يُعْدَل عن حقيقة اللفظ للمجاز إلا لضرورة. انتهى.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من التواضع وحسن الخلق، حيث كان نائمًا بين الرجلين.
4 -
(ومنها): بيان جواز نوم جماعة في موضع واحد، لكنه يشترط أن لا يجتمعوا في لِحَافٍ واحد؛ لِمَا ثبت من النهي عن ذلك.
5 -
(ومنها): فضيلة ماء زمزم على جميع المياه، قال ابن أبي جمرة رحمه الله: وإنما لم يُغسَل بماء الجنة لِمَا اجتمع في ماء زمزم من كون أصل مائها من الجنّة، ثم استقرّ في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأرض. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كون ماء زمزم من الجنّة يحتاج إلى دليل، والله تعالى أعلم.
وقال السهيليّ رحمه الله: لَمّا كانت زمزم هَزْمة جبريل روحِ القدس لأمّ إسماعيل جدّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ناسب أن يُغسل بمائها عند دخولى حضرة القدس ومناجاته.
ومن المناسبات المستبعدة قول بعضهم: إن الطست يناسب {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ} [النمل: 1]. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قال النووي في هذا الحديث: إن أصل النيل والفرات من الجنة، وإنهما يَخرُجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شَهِد به ظاهر الخبر، فَلْيُعْتَمَد، وأما قول عياض: إن الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض؛ لكونه قال: إن النيل والفرات يَخرُجان من أصلها، وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض.
ففد تُعُقّب بأن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض.
والحاصل أن أصلهما في الجنة، وهما يخرجان أوّلًا من أصلها، ثم يسيران إلى أن يَستقِرّا في الأرض، ثم ينبعان.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على فضيلة ماء النيل والفرات؛ لكون منبعهما من الجنة، وكذا سيحان وجيحان.
قال القرطبيّ رحمه الله: لعل ترك ذكرهما في حديث الإسراء؛ لكونهما ليسا أصلًا برأسهما، وإنما يَحتَمِل أن يتفرّعا عن النيل والفرات، قال: وقيل: إنما أُطلق على هذه الأنهار أنها من الجنة تشبيهًا لها بأنهار الجنة؛ لِمَا فيها من شدّة العُذُوبة والحسن والبركة، والأولى أولى، والله تعالى أعلم
(2)
.
8 -
(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: فيه أن الحكمة ليس بعد
(1)
"الفتح" 7/ 245.
(2)
راجع: "الفتح" 7/ 255.
الإيمان أجلُّ منها، ولذلك قُرِنت معه، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
9 -
(ومنها): أن هذه القصة، قد اشتَمَلت من خوارق العادة على ما يُدْهِش سامعه فضلًا عمن شاهده، فقد جَرَت العادة بأن مَن شُقّ بطنه، وأُخرج قلبه يموت لا محالةَ، ومع ذلك فلم يؤثِّر في النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ضررًا ولا وجعًا، فضلًا عن غير ذلك.
10 -
(ومنها): ما قال ابن أبي جمرة رحمه الله: الحكمة في شقّ قلبه مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانًا وحكمةً بغير شقّ الزيادة في قوّة اليقين؛ لأنه أُعطي برؤية شقّ بطنه، وعدم تأثّره بذلك ما أَمِنَ معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان أشجع الناس، وأعلاهم حالًا ومقالًا، ولذلك وُصِف بقوله تعالى:{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} [النجم: 17].
[تنبيه]: اختُلِف، هل كان شق صدره صلى الله عليه وسلم وغسله مختصًّا به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء عليه السلام؟ وقد وقع عند الطبراني في قصة تابوت بني إسرائيل أنه كان فيه الطست التي يُغسَل فيها قلوب الأنبياء، وهذا مشعر بالمشاركة، ونظير هذا البحث في ركوبه البراق، قاله في "الفتح"
(1)
، ويحتاج إلى صحّة ما عزاه إلى الطبرانيّ، فإن صحّ فقد ارتفع النزاع، والله تعالى أعلم.
11 -
(ومنها): ما قال القرطبيّ رحمه الله: الحكمة في تخصيص موسى عليه السلام بمراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، لعلها لكون أمة موسى كُلِّفت من الصلوات بما لم يُكلّف به غيرها من الأمم، فثَقُلت عليهم، فأشفق موسى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من مثل ذلك، ويشير إلى ذلك قوله:"إني قد جَرّبت الناس قبلك". انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: يدلّ لقوله: "لكون أمة موسى
…
إلخ" ما جاء في رواية النسائيّ من طريق يزيد بن أبي مالك، عن أنس رضي الله عنه، وفيه: "فإنه فَرَض على بني إسرائيل صلاتين، فما قاموا بهما
…
" الحديث.
وقيل في وجه الحكمة غير ذلك
(2)
، مما لا ينشرح له الصدر، فيكفي هذا، والله تعالى أعلم.
(1)
7/ 255.
(2)
راجع: "الفتح" 7/ 252 "كتاب مناقب الأنصار".
12 -
(ومنها): ما قيل: الحكمة في تخصيص فرض الصلاة بليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا عُرِج به رأى في تلك الليلة تعبُّد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع الله له ولأمته تلك العبادات كلها في كل ركعة يصليها العبد بشرائطها من الطمأنينة والإخلاص، وفي اختصاص فرضيتها بليلة الإسراء إشارة إلى عظيم شأنها، ولذلك اختص فرضها بكونه بغير واسطة، بل بمراجعات تعددت على ما سبق بيانه، والله تعالى أعلم
(1)
.
13 -
(ومنها): أنه قد اختُلِف في الحكمة في اختصاص كل من الأنبياء عليهم السلام بالسماء التي التقاه بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: ليظهر تفاضلهم في الدرجات، وقيل: لمناسبة تتعلق بالحكمة في الاقتصار على هؤلاء دون غيرهم من الأنبياء، فقيل: أُمروا بملاقاته، فمنهم من أدركه في أول وهلة، ومنهم من تأخر فلحق، ومنهم من فاته، وهذا زَيّفه السهيليّ، فأصاب، وقيل: الحكمة في الاقتصار على هؤلاء المذكورين للإشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، فأما آدم فوقع التنبيه بما وقع له من الخروج من الجنة إلى الأرض، بما سيقع للنبيّ صلى الله عليه وسلم من الهجرة إلى المدينة، والجامع بينهما ما حصل لكل منهما من المشقة، وكراهة فراق ما أَلِفَه من الوطن، ثم كان مآل كلّ منهما أن يرجع إلى موطنه الذي أخرج منه، وبعيسى ويحيى على ما وقع له في أول الهجرة من عداوة اليهود، وتماديهم على البغي عليه، وإرادتهم وصول السوء إليه، وبيوسف على ما وقع له من إخوته، من قريش في نصبهم الحرب له، وإرادتهم هلاكه، وكانت العاقبة له، وقد أشار إلى ذلك بقوله لقريش يوم الفتح:"أقول كما قال يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} [يوسف: 92] "، وبإدريس على رَفِيع منزلته عند الله، وبهارون على أن قومه رَجِعوا إلى محبته بعد أن آذوه، وبموسى على ما وقع له من معالجة قومه، وقد أشار إلى ذلك بقوله:"لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فَصَبَر"، وبإبراهيم في استناده إلى البيت المعمور بما خُتِم له صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، من إقامة منسك الحج، وتعظيم البيت، وهذه مناسبات لطيفة أبداها السهيليّ، وأوردها الحافظ في "الفتح" مُنَقَّحةً مُلَخَّصَةً.
(1)
"الفتح" 7/ 256.
قال: وذكر ابن المُنَيِّر رحمه الله في مناسبة لقاء إبراهيم في السماء السابعة معنىً لطيفًا زائدًا، وهو ما اتَّفَقَ له صلى الله عليه وسلم من دخول مكة في السنة السابعة، وطوافه بالبيت، ولم يَتَّفِق له الوصول إليها بعد الهجرة قبل هذه، بل قَصَدَها في السنة السادسة فصَدُّوه عن ذلك.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا؛ لأنه أول الأنبياء، وأول الآباء، وهو أصل، فكان أوّلًا في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية؛ لأنه أقرب الأنبياء عهدًا من محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه يوسف، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة؛ لقوله:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)} [مريم: 57]، والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، وموسى أرفع منه؛ لفضل كلام الله، وإبراهيم؛ لأنه الأب الأخير، فناسب أن يتجدد للنبيّ صلى الله عليه وسلم بِلُقِيِّه أنس، لتوجهه بعده إلى عالم آخر، وأيضًا فمنزلة الخليل تقتضي أن تكون أرفع المنازل، ومنزلة الحبيب أرفع من منزلته، فلذلك ارتفع النبيّ صلى الله عليه وسلم عن منزلة إبراهيم إلى قاب قوسين أو أدنى، والله تعالى أعلم.
14 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن الملائكة أكثر المخلوقات؛ لأنه لا يُعْرَف من جميع العوالم مَن يتجدد من جنسه في كل يوم سبعون ألفًا ما ثَبَت عن الملائكة في هذا الخبر.
15 -
(ومنها): أن قوله: "فنُودِيتُ: أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت الحسنة بعشرة أمثالها" من أقوى ما استُدِلّ به على أن الله سبحانه وتعالى كَلَّم نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بغير واسطة.
16 -
(ومنها): أن التجربة أقوى في تحصيل المطلوب من المعرفة الكثيرة، يستفاد ذلك من قول موسى عليه السلام للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه عالج الناس قبله وجَرّبهم.
17 -
(ومنها): أنه يستفاد منه تحكيم العادة، والتنبيه بالأعلى على الأدنى؛ لأن مَن سَلَفَ من الأمم كانوا أقوى أبدانًا من هذه الأمة، وقد قال موسى عليه السلام في كلامه: إنه عالجهم على أقلَّ من ذلك، فما وافقوه، أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة رحمه الله، قال: ويستفاد منه أن مقام الخلّة مقام الرضا
والتسليم، ومقام التكليم مقام الإدلال والانبساط، ومن ثَمّ استَبَدّ موسى عليه السلام بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بطلب التخفيف دون إبراهيم؛ مع أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم من الاختصاص بإبراهيم أزيد مما له من موسى عليه السلام لمقام الأُبُوّة، ورفعة المنزلة، والاتباع في الملة، وقال غيره: الحكمة في ذلك ما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الحديث مِن سَبقِهِ إلى معالجة قومه في هذه العبادة بعينها، وأنهم خالفوه وعصوه، ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحكمة التي ذكرها غير ابن أبي جمرة مما أشار إليه موسى عليه السلام في نفس الخبر هو الأظهر، لا ما قاله ابن أبي جمرة، فتأمله بالإنصاف، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[424]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: "فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْن، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) البصريّ، سكن اليمن، صدوقٌ وربّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُوهُ) هو: هشام بن أبي عبد الله، واسمه سَنْبَر بوزن جَعْفر الدَّستوائيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، ثبتٌ، رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون تقدّموا في الذي قبله.
(1)
"الفتح" 7/ 258 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3888).
وقوله: (قَالَ) لمعاذ بن هشام.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذَكَر" ضمير هشام الدستوائيّ.
وقوله: (وَزَادَ فِيهِ) أي: زاد هشام على رواية سعيد بن أبي عروبة الماضية قوله: "فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ
…
إلخ".
وقوله: (فَشُقَّ) بالبناء للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير "صدره"، أي: شقّ صدره صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ) بفتح الميم، وتشديد القاف، وهو ما سَفَل من البطن، ورَقَّ من جلده، قال الجوهريّ: لا واحد لها، وقال صاحب "المطالع": واحدها مَرَقّ. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية هشام الدستوائيّ التي أحالها المصنّف على رواية سعيد بن أبي عروبة هنا، أخرجها النسائيّ رحمه الله في "كتاب الصلاة" من "المجتبى"، فقال:
(444)
أخبرنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا هشام الدستوائيّ، قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ أقبل أحد الثلاثة، بين الرجلين، فأُتيت بطست من ذهب، ملآن حكمةً وإيمانًا، فشُق من النحر إلى مَرَاقّ البطن، فغُسِل القلب بماء زمزم، ثم مُلئ حكمة وإيمانًا، ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار، ثم انطلقت مع جبريل عليه السلام، فأتينا السماء الدنيا، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؛ مرحبًا به، ونعم المجيءُ جاء، فأَتيت على آدم عليه السلام، فسلمت عليه، قال: مرحبًا بك، من ابنٍ ونبيّ، ثم أتينا السماء الثانية، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فمثل ذلك، فاتيت على يحيى وعيسى، فسلمت عليهما، فقالا: مرحبًا بك من أخٍ ونبيّ، ثم أتينا السماء الثالثة، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فمثل ذلك، فأتيت على يوسف عليه السلام، فسلمت عليه، قال: مرحبًا بك من أخٍ ونبيّ، ثم أتينا السماء الرابعة، فمثل ذلك، فأتيت على إدريس عليه السلام، فسلمت عليه،
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 226.
فقال: مرحبًا بك، من أخٍ ونبيّ، ثم أتينا السماء الخامسة، فمثل ذلك، فأتيت على هارون عليه السلام، فسلمت عليه، قال: مرحبًا بك، من أخٍ ونبيّ، ثم أتينا السماء السادسة، فمثل ذلك، ثم أتيت على موسى عليه السلام، فسلمت عليه، فقال: مرحبًا بك، من أخٍ ونبيّ، فلما جاوزته بكى، قيل: ما يبكيك؟ قال: يا رب هذا الغلام الذي بعثته بعدي، يدخل من أمته الجنةَ أكثر وأفضل مما يدخل من أمتي، ثم أتينا السماء السابعة، فمثل ذلك، فأتيت على إبراهيم عليه السلام، فسلمت - عليه، فقال: مرحبًا بك، من ابنٍ ونبيّ، ثم رُفع لي البيت المعمور، فسألت جبريل، فقال: هذا البيت المعمور، يصلي فيه كلَّ يوم سبعون ألفَ ملكٍ، فإذا خرجوا منه لم يعودوا فيه، آخرُ ما عليهم، ثم رُفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نَبِقُها مثل قلال هَجَر، وإذا وَرَقها مثل آذان الفِيَلة، وإذا في أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فسألت جبريل، فقال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالفُرات والنيل، ثم فُرضت عليّ خمسون صلاةً، فأتيت على موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: فُرضت عليّ خمسون صلاةً، قال: إني أعلم بالناس منك، إني عالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، فارجع إلى ربك، فاسأله أن يخفف عنك، فرجعت إلى ربي، فسألته أن يخفف عني، فجعلها أربعين، ثم رجعت إلى موسى عليه السلام، فقال: ما صنعت؟ قلت: جعلها أربعين، فقال لي مثل مقالته الأولى، فرجعت إلى ربي عز وجل، فجعلها ثلاثين، فأتيت على موسى عليه السلام، فأخبرته، فقال لي مثل مقالته الأولى، فرجعت إلى ربي، فجعلها عشرين، ثم عشرة، ثم خمسة، فأتيت على موسى عليه السلام، فقال لي مثل مقالته الأولى، فقلت: إني أستحي من ربي عز وجل أن أرجع إليه، فنودي: أن قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزي بالحسنة عشر أمثالها". انتهى، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[425]
(165) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثنَا شعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَة، يَقُولُ:
حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ - قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُسْرِيَ بِه، فَقَالَ:"مُوسَى آدَمُ طُوَالٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَقَالَ: عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ"، وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بن عثمان العبديّ، أبو بكر البصريّ المعروف بـ "بُندار"، ثقةٌ حافظٌ [10](252)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الهُذليّ، أبو عبد الله البصريّ المعروف بـ "غندر"، ثقةٌ، صحيح الكتاب [9](تَ 193)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجَّاج البصريّ الإمام الحجة المشهور [7](ت 160)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 381.
4 -
(أَبُو الْعَالِيَةِ) - رُفيع - بالتصغير - بن مِهْران الرّيَاحيّ - بكسر الراء، والتحتانيّة - مولاهم البصريّ، ثقةٌ كثير الإرسال [2].
أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصَلّى خلف عمر، ورَوَى عن عليّ، وابن مسعود، وأبي موسى، وأبي أيوب، وأُبي بن كعب، وثوبان، وحذيفة، وابن عباس، وابن عمر، ورافع بن خَدِيج، وأبي سعيد، وأبي هريرة، وغيرهم.
ورَوَى عنه خالد الحذّاء، وداود بن أبي هند، ومحمد بن سيرين، ويوسف بن عبد الله بن الحارث، وحفصة بنت سيرين، والربيع بن أنس، وقتادة، ومنصور بن زاذان، وجماعة.
قال ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وقال اللالكائيّ: مجمعٌ على ثقته، وقال قتادة عنه: قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم صلى الله عليه وسلم بعشر سنين، وقال الآجريّ، عن أبي داود: ذهب علم أبي العالية، لم يكن له رُواة، قال ابن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية، وبعده سعيد بن جبير، وبعده السُّدّيّ، وبعده الثوريّ، وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة، وأكثر ما نُقِمَ عليه حديث الضحك في الصلاة، وكلُّ مَن رواه غيره، فإنما مدارهم ورجوعهم إلى أبي العالية، والحديث له، وبه يُعْرَف، ومن أجله تَكَلّموا
فيه، وسائر أحاديثه مستقيمةٌ صالحةٌ، وقال ابن المدينيّ: أبو العالية سمع من عمر، حدّثنا معمر
(1)
، عن هشام، عن حفصة، عن أبي العالية قال: قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات، وقال عليّ أيضًا: سمع من عليّ، وأبي موسى، وابن عباس، وابن عمر، وقال عباس، عن يحيى: لم يسمع من عليّ، وقال أحمد: ثنا حجاج، ثنا شعبة: قد أدرك رُفَيع عليًّا، ولم يسمع منه، وقال النضر بن شُميل، عن شعبة، عن عاصم: قلت لأبي العالية: مَن أكبر من رأيت؟ قال: أبو أيوب، غير أني لم آخذ عنه شيئًا، رواه ابن أبي حاتم في "المراسيل"، وهو عجيب، وقال العجليّ: تابعيٌّ ثقةٌ من كبار التابعين، ويقال: إنه لم يسمع من عليّ، إنما يُرسل عنه، وعن أبي خَلْدة، عنه، قال: رحم الله الحسن، قد سمعت العلم قبل أن يولد، ورَوَى أبو أحمد الحاكم، عن أبي خَلْدة، قال: قلت لأبي العالية: أدركت النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، جئت بعد سنتين أو ثلاث، وقال الشافعي: حديث الرِّيَاحيّ رِيَاح، يعني: في القهقهة.
ذكر الهيثم وغيره أنه مات في ولاية الحجَّاج، وقال أبو خَلْدة: مات سنة تسعين، وقال غيره: سنة (93)، وقال المدائنيّ: سنة (106)، وقال أبو عمر الضرير: مات سنة (111)، والصحيح الأول، وكذا جزم به ابن حبان، ورَوَى البخاريّ وغيره عن أبي خَلْدة أنه تُوُفّي سنة (93).
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ستة أحاديث فقط، هذا (165) وأعاده بعده، وحديث (166): "أي واد هذا؟
…
" وأعاده بعده، وحديث (176): "رآه بفوائده مرّتين"، و (826): "نهى عن الصلاة بعد الفجر
…
"، و (2377): "ما ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس
…
"، و (2730): "لا إله إلا الله العظيم الحليم
…
".
[تنبيه]: "أبو العالية" في الرواة اثنان:
(الأول): هذا المترجم هنا.
(الثاني): أبو العالية البرّاء بتشديد الراء نسبة إلى بري السهام، البصريّ،
(1)
هكذا في "تهذيب التهذيب"، ولعل فيه سقطًا؛ لأن الظاهر أن ابن المدينيّ لم يلقَ معمرًا، فكيف يقول: حدثنا معمر؛ فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
وهو أيضًا يروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، واسمه زياد، وقيل: كُلثوم، وقيل: أُذينة، وقيل: ابن أذينة، ثقةٌ من الطبقة الرابعة، مات في شوّال سنة (90) تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، أحدهما في الصلاة، والآخر في الحجّ، وسيأتي برقم (648) و (1240)، والله تعالى أعلم.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله، الحبر البحر رضي الله عنه توفّي (68)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124، والباقيان تقدّما في السند الماضي.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله كلهم رجال الجماعة.
3 -
(ومنها): أنه مسلسل بالبصريين، وشعبة وإن كان واسطيًّا إلا أنه قد انتقل إلى البصرة واستوطنها، وكذلك ابن عبّاس رضي الله عنهما.
4 -
(ومنها): أن شيخيه من المشايخ التسعة الذين يروي عنهم أصحاب الأصول الستة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة.
5 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: قتادة عن أبي العالية.
6 -
(ومنها): أن ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (1696) حديثًا، دعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمّى الحبر والبحر؛ لسعة علمه، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ) رُفَيع بنَ مِهْران (يَقُولُ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم؛ يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أسْرِيَ بِهِ) أي: وقت الإسراء به، فهو مفعول به لـ "ذَكَر"، وليس ظرفًا له؛ لأن ذكره لم يكن وقت الإسراء، وإنما المراد أنه ذكر يومًا ما حصل له وقت الإسراء به، فافهمه، والله تعالى أعلم. (فَقَالَ: "مُوسَى) بن عمران النبيّ المعروف عليه السلام، وهو مبتدأ خبره قوله:(آدَمُ) أفعل من الأدمة بالضمّ، وهي السُّمْرة.
قال ابن الأثير رحمه الله: "الأُدْمةُ": في الإبل: البياض مع سواد المُقلتين، بعير آدمُ بَيِّنُ الأدْمة، وناقةٌ أَدْماءُ، وهي في الناس: السُّمْرة الشديدة، وقيل: من
أَدْمة الأرض، وهو لونها، وبه سُمّي آدم عليه السلام انتهى
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: الأُدْمة بالضمّ في الإبل: لونٌ مُشْرَبٌ سَوَادًا أو بياضًا، أو هو البياض الواضح، وفي الظباء: لون مُشْربٌ بياضًا، وفينا: السُّمْرةُ، أَدِمَ، كعَلِمَ، وكَرُمَ، فهو آدم، وجمعه: أُدْمٌ، وأُدْمانٌ بضمّهما، وهي أَدماءُ، وشذّ أَدْمانة، وجمعه أُدْم بالضمّ. انتهى
(2)
. (طُوَالٌ) بضم الطاء المهملة، وتخفيف الواو، قال الجوهريّ: الطُّوال بالضمّ: الطَّوِيل، يقال: طَوِيلٌ، وطُوالٌ، فإذا أفرط في الطول قيل: طُوّالٌ بالتشديد. انتهى
(3)
.
وقال ابن منظور: يقال للرجل إذا كان أَهْوَج
(4)
الطُّول: طُوال - بالتخفيف - وطُوّال بتشديدها، وامرأةٌ طُوَالَةٌ، وطُوّالَةٌ
(5)
، وقال أيضًا: والطُّوَال بالضمّ: المُفْرط الطول، وأنشد ابن برّيّ قول الطُّفيل [من الوافر]:
طُوَالُ السَّاعِدَيْنِ يَهُزُّ لَدْنًا
…
يَلُوحُ سِنَانُهُ مِثْلَ الشِّهَابِ
(كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) بشين معجمة مفتوحة، ثم نون، ثم واو، ثم همزة، ثم هاء، وهو حيّ من اليمن يُنسبون إلى شنوءة، وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، ولُقّب شنوءة؛ لشنآن كان بينه وبين أهله، والنسبة إليه شَنُوئيّ بالهمز بعد الواو، وبالهمز بغير واو، وقال الداوديّ: رجال الأزد معروفون بالطول. انتهى
(6)
.
وقال ابن قتيبة في "أدب الكاتب": سُمّوا بذلك من قولك: رجل فيه شَنُوءَةٌ، أي: تَقَزُّزٌ، قال: ويقال: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم تشانؤوا وتباعدوا، وقال الجوهريّ: الشَّنُوءَةُ على فَعُولة: التَّقَزُّزُ، وهو التباعد من الأدناس، ومنه أَزْدُ شنوءةَ، وهم حيّ من اليمن، يُنسَب إليهم شَنَئِيٌّ، قال: قال ابن السِّكِّيت: وربما قالوا: أَزْدُشَنُوَّةَ بالتشديد غيرَ مهموز، ويُنْسَب إليها شَنَوِيٌّ، وقال الراجز:
(1)
"النهاية" 1/ 32.
(2)
"القاموس المحيط" ص 969.
(3)
"الصحاح" 4/ 1431.
(4)
الْهَوَجُ محرّكةً؛ طُولٌ في حُمْق، وطَيش، وتسرعّ. اهـ. "ق" ص 192.
(5)
"لسان العرب" 11/ 411.
(6)
"الفتح" 6/ 494 - 495 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3398 - 3399).
نَحْنُ قُرَيْشٌ وَهُمُ شنُوَّةُ
…
بِنَا قُرَيْشًا خُتِمَ النُّبُوَّةُ
(1)
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (عِيسَى جَعْدٌ) مبتدأ وخبره، يعني: أن عيسى عليه السلام جَعْدٌ؛ أي: مكتنز الجسم، قال النوويّ رحمه الله: وقع في أكثر الروايات في صفته سَبِطُ الرأس، فقال العلماء: المراد بالجعد هنا جُعُودة الجسم، وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر، وأما الجعد في صفة موسى عليه السلام، فسيأتي الكلام عليه في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.
(مَرْبُوعٌ") قال أهل اللغة: هو الرجل بَيْن الرجلين في القامة، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير الحقير، وفيه لغات، ذكرهنّ صاحب "المحكم" وغيره، مَرْبُوع، ومُرْتَبِعٌ، ومُرْتَبَعٌ، - بفتح الباء وكسرها - ورَبْع، ورَبْعَة، ورَبَعَةٌ، الأخيرة بفتح الباء، والمرأة رَبْعَةٌ، ورَبَعَةٌ، نقله النوويّ رحمه الله
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: الرَّبْعُ: الرجل بين الطُّول والقِصَر، كالمَرْبُوع، والرَّبْعَة، ويُحَرَّكُ، والمِرْبَاع، والمُرْتَبع، مبنيًّا للفاعل وللمفعول، وهي رَبْعَةٌ أيضًا، جمعها رَبْعَاتٌ، ومحرَّكةً شاذٌّ؛ لأن فَعْلةً صفةً لا تُحَرَّك عينها في الجمع، وإنما تُحرَّك إذا كانت اسمًا، ولم تكن العين واوًا أو ياءً. انتهى
(3)
.
(وَذَكَرَ) أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (مَالِكًا خَازِنَ جَهَنَّمَ) أعاذنا الله تعالى منها (وَذَكَرَ الدَّجَّالَ) سيأتي قريبًا وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه رجل جَعْد قَطَط، أعور العين اليمنى، كأنها عِنَبةٌ طافية، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 425 و 426](165) و [80/ 427 و 428 و 429](166)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3239)، و"أحاديث
(1)
" الصحاح" 1/ 41.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 226.
(3)
"القاموس المحيط" ص 646.
الأنبياء" (3396)، و (ابن ماجه) في "كتاب المناسك" (2891)، و (أحمد) في "مسنده" (1/ 245 - 259 - 341)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (390 و 391 و 392)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (421 و 422 و 423 و 424 و 425)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه" (2632 و 2633)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): إثبات الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان بعض ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وهو رؤيته الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومالكًا خازن النار عليه السلام، والدجّال الكذاب، أعاذنا الله من فتنته.
3 -
(ومنها): بيان فضل الله تعالى على حبيبه صلى الله عليه وسلم، حيث أسرى به في ليلة واحدة، حتى وصل إلى الملإ الأعلى في سويعة، وشاهد فيها ما أطلعه الله على المغيّبات العلوية والسفليّة من الآيات الكبرى، ثم حفظ ذلك، وحدّث به كأنه يشاهده، وهذا من الفضل الجسيم، كما قاله سبحانه وتعالى:{وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
4 -
(ومنها): جواز نعت الإنسان بما فيه من الأوصاف الخَلْقيّة والخُلُقيّة؛ للتخصيص لا للتنقيص، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[426]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبيِ العَالِيَة، حَدَّثنَا ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم ابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ؛ رَجُلٌ آدَمُ، طُوَالٌ، جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْق، إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاض، سَبِطَ الرَّأْسِ"، وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّار، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ، أَرَاهُنَّ اللهُ إِيَّاهُ: ({فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23]، قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ مُوسَى عليه السلام.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الكِسّيّ، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وعبد لقبٌ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد المؤدِّب، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 257)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب [7](164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
والباقون تقدّموا فيما قبله.
وقوله: (مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عليه السلام قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في بعض الأصول، وسقطت لفظة "مررت" في معظمها، ولا بُدّ منها، فإن حُذفت كانت مرادة. انتهى
(1)
.
وقوله: (جَعْدٌ) صاحب "التحرير" رحمه الله: فيه معنيان:
[أحدهما]: ما تقدّم في عيسى عليه السلام، وهو اكتناز الجسم.
[والثاني]: جُعُودة الشعر، قال: والأول أصحّ؛ لأنه قد جاء في رواية أبي هريرة رضي الله عنه في "الصحيح" أنه رَجِلُ الشعر. انتهى.
قال النوويّ رحمه الله: والمعنيان فيه جائزان، وتكون جُعُودة الشعر على المعنى الثاني ليست جعودة القَطَط، بل معناها أنه بَيْنَ القَطَط والسَّبِط، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
وقوله: (إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ) أي: بينهما.
وقوله: (سَبِطَ الرَّأْسِ) قال النوويّ رحمه الله: "السَّبِطُ" بفتح السين المهملة، والباء الموحّدة، ويجوز كسرها، لغتان مشهورتان، ويجوز إسكان الباء مع كسر السين وفتحها، على التخفيف، كما في كَتِفٍ وبابِه، قال أهل اللغة: الشعرُ السَّبِطُ: هو المُسْتَرْسِلُ، ليس فيه تَكَسُّرٌ، ويقال في الفعل منه: سَبِطَ شعرُهُ - بكسر الباء - يَسْبَطُ - بفتحها - سَبَطًا بفتحها أيضًا. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 227.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 226 - 227.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 227.
وقال المجد رحمه الله: "السَّبْطُ"، ويُحرَّك، وكَكَتِفٍ: نقيض الجَعْد، وقد سَبُطَ، كَكَرُمَ، وفَرِحَ، سَبْطًا، وسُبُوطًا، وسُبُوطَةً، وسَبَاطَةً. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَبِطَ الشعرُ سَبَطًا، من باب تَعِبَ، فهو سَبِطٌ بكسر الباء، وربّما قيل: سَبَط بالفتح وَصْفٌ بالمصدر: إذا كان مُسْتَرْسِلًا، وسَبُطَ سُبُوطَةً، فهو سَبْطٌ، مثلُ سَهُلَ سُهُولةً، فهو سَهْلٌ لغة فيه. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَأُرِيَ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ) قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الهمزة، وكسر الراء، و"مالكًا" بالنصب، ومعناه: أُري النبيّ صلى الله عليه وسلم مالكًا، وقد ثبت في "صحيح البخاريّ" في هذا الحديث:"ورأيت مالكًا"، ووقع في أكثر الأصول:"مالكٌ" بالرفع، وهذا قد يُنْكَر، ويقال: هذا لحنٌ، لا يجوز في العربية، ولكن عنه جواب حَسَنٌ، وهو أن لفظة "مالك" منصوبة، ولكن أُسقطت الألف في الكتابة، وهذا يفعله المحدثون كثيرًا، فيكتبون "سمعتُ أَنَسً" بغير ألف، ويقرأونه بالنصب، وكذلك "مالكً" كتبوه بغير ألف، ويقرأونه بالنصب، فهذا - إن شاء الله تعالى - من أحسن ما يقال فيه، وفيه فوائدُ، يُتَنَبَّهُ بها على غيره. انتهى
(3)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: ({فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23]) قال النوويّ رحمه الله: هذا الاستشهاد بقوله تعالى: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ} هو من استدلال بعض الرواة. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي يظهر لي أنه من كلام ابن عبّاس رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون مرفوعًا، وعليه يكون في قوله: "وأُري مالكًا
…
إلخ" التفات، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسِّرُهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ مُوسَى عليه السلام قال النوويّ رحمه الله: وأما تفسير قتادة فقد وافقه عليه جماعة منهم: مجاهد، والكلبيّ، والسديّ، وعلى مذهبهم معناه: فلا تكن في شكّ من لقائك موسى عليه السلام، وذهب كثيرون من المحققين من المفسرين، وأصحاب المعاني إلى أن معناها:
(1)
"القاموس المحيط"602.
(2)
"المصباح المنبر" 1/ 263 - 264.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 227 - 228.
فلا تكن في شكّ من لقاء موسى الكتاب، وهذا مذهب ابن عباس، ومقاتل، والزجاج، وغيرهم، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: وقول قتادة في آخر الحديث: {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23]؛ أي: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لقي موسى عليه السلام، يعني: ليلة الإسراء، فالهاء على هذا عائدة على موسى عليه السلام، وقال غيره من المفسّرين: الهاء عائدة على الكتاب، أي: فلا تكن في مرية من تلقّي موسى الكتاب الذي أوتي، وعن الحسن: معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب، فأوذي وكُذّب، فلا تكن في مرية أنك ستلقى مثل ما لقيه من الأذى والتكذيب، وقيل: في الآية تقديم وتأخير، يعود إلى الرجوع للآخرة والبعث، وما تقدّم من قوله:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] إلى قوله: {تُرْجَعُونَ} ، واعتَرَضت قصّة موسى بين الكلامين. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول الأخير ضعفه مما لا يخفى؛ إذ فيه إخراج أسلوب الكتاب عن وضعه، فلا ينبغي ذكر مثله إلا للردّ عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[427]
(166) - (حَدَّثنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، قَالَا: حَدَّثنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَق، فَقَالَ:"أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الْأَزْرَق، قَالَ:"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عليه السلام هَابِطًا مِنَ الثَّنِيَّة، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَةِ"، ثُمَّ أَتَى عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى، فَقَالَ:"أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا
(3)
: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ:"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ، عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، وَهُوَ يُلَبِّي".
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 228.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 707 - 708.
(3)
وفي نسخة: "فقالوا".
قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْني لِيفًا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ) هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيبانيّ، أبو عبد الله المَروزيّ، ثم البغداديّ، خَرَجت به أمُّه من مرو وهي حاملٌ، فوَلَدته ببغداد، وبها طلب العلم، ثم طاف البلاد، أحد الأئمة الأعلام، ثقةٌ حافظٌ فقيه، مجتهدٌ، حجة، رأس الطبقة [10].
رَوَى عن بشر بن المفضل، وإسماعيل ابن علية، وسفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، ويحيى بن سعيد القطان، وأبي داود الطيالسيّ، وعبد الله بن نمير، وعبد الرزاق، وعلي بن عيّاش الحمصيّ، والشافعيّ، وغُندر، ومعتمر بن سليمان، وجماعة كثيرين.
ورَوَى عنه البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والباقون مع البخاري أيضًا بواسطة، وأسود بن عامر شاذان، وابن مهديّ، والشافعيّ، وأبو الوليد، وعبد الرزاق، ووكيع، ويحيى بن آدم، ويزيد بن هارون، وهم من شيوخه، وقتيبة، وداود بن عمرو، وخَلَف بن هشام، وهم أكبر منه، وأحمد بن أبي الحواريّ، ويحيى بن معين، وعلي بن المدينيّ، والحسين بن منصور، وزياد بن أيوب، ودُحَيم، وأبو قُدامة السرخسيّ، ومحمد بن رافع، ومحمد بن يحيى بن أبي سُمينة، وهؤلاء من أقرانه، وابناه: عبد الله، وصالح، وتلامذته: أبو بكر الأثرم، وحرب الكرمانيّ، وبَقِيّ بن مَخْلَد، وحنبل بن إسحاق، وشاهين بن السَّميْدَع، والميمونيّ، وغيرهم، وآخر مَن حدَّث عنه أبو القاسم البغويّ.
قال ابن معين: ما رأيت خيرًا من أحمد، ما افتخر علينا بالعربية قطّ، وقال عارم: قلت له يومًا: يا أبا عبد الله بلغني أنك من العرب، فقال: يا أبا النعمان، نحن قومٌ مساكين، وقال صالح: سمعت أبي يقول: وُلدت في سنة (164) في أولها، في ربيع الأول، وقال عبد الله: سمعت أبي يقول: مات هُشيم سنة (183)، وخرجت إلى الكوفة في تلك الأيام، ودخلت البصرة سنة (86)، وقال أيضًا: سمعته يقول: سمعت من علي بن هاشم بن البَرِيد سنة (179) في أول سنة طَلَبْتُ، وهي السنة التي مات فيها مالك، وقال أيضًا:
حججت سنة (87)، وقد مات فُضيل، ورأيت ابن وهب، ولم أكتب عنه، قال: وحججت خمس حِجَجٍ، منها ثلاثُ حِجج راجلًا، أنفقت في إحدى هذه الحجج ثلاثين درهمًا، وقال إبراهيم بن شماس: وكيع بن الجراح، وحفص بن غياث يقولان: ما قَدِم الكوفة مثل ذاك الفتى؛ يعنيان: أحمد، وقال القطان: ما قَدِم عليّ مثل أحمد، وقال فيه مرة: حَبْرٌ من أحبار هذه الأمة، وقال أحمد بن سنان: ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشدّ تعظيمًا منه لأحمد بن حنبل، وقال عبد الرزاق: ما رأيت أفقه منه ولا أورع، وقال أبو عاصم: ما جاءنا من ثمة أحد غيره يحسن الفقه، وقال يحيى بن آدم: أحمد إمامنا، وقال الشافعيّ: خرجت من بغداد، وما خَفَفت بها أفقه، ولا أزهد، ولا أورع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل، وقال عبد الله الخُريبيّ: كان أفضل أهل زمانه، وقال أبو الوليد: ما بالمصرين أحبّ إليّ من أحمد، ولا أرفع قدرًا في نفسي منه، وقال العباس العنبريّ: حجة، وقال ابن المدينيّ: ليس في أصحابنا أحفظ منه، وقال قتيبة: أحمد إمام الدنيا، وقال أبو عبيد: لست أعلم في الإسلام مثله، وقال يحيى بن معين: لو جلسنا مجلسًا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها، وقال العجليّ: ثقةٌ ثبت في الحديث، نَزِهُ النفس، فقيه في الحديث، مُتَّبع الآثار، صاحب سنة وخير، وقال أبو ثور: أحمد شيخنا وإمامنا، وقال العباس بن الوليد بن مَزْيد: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحدًا يحفظ على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا إلا شابٌّ في ناحية المشرق، يعني: أحمد، وقال بشر بن الحارث: أُدْخِل الكير، فخرج ذهبًا أحمر، وقال حجاج بن الشاعر: ما رأت عيناي روحًا في جسد أفضل من أحمد بن حنبل، وقال أحمد الدَّوْرقيّ: من سمعتموه يذكر أحمد بسوء، فاتهموه على الإسلام، وقال أبو زرعة الرازيّ: كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يُدريك؛ قال: أخذت عليه الأبواب، وقال نوح بن حبيب: رأيت أحمد في مسجد الخيف سنة (98) مُستندًا إلى المنارة، فجاءه أصحاب الحديث، فجعل يُعَلِّمهم الفقه والحديث، ويفتي الناس، وقال عبد الله: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة.
فال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكروا هذه القصّة، وما أظنّها تصحّ، فإن أحمد إمام في السنّة لا يخالف هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صلاته، فإنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم -
أنه كان يصليّ هذا المقدار من الصلاة، فتبصّر ولا تتهوّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال هلال بن العلاء: مَنَّ الله على هذه الأمة بأربعة في زمانهم: بالشافعيّ تفقه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأحمد ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس، وبيحيى بن معين نَفَى الكذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي عُبيد فسّر الغريب، وقال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه، فقال: هو إمام، وهو حجة، وقال النسائي: الثقة المأمون أحد الأئمة، وقال ابن ماكولا: كان أعلم الناس بمذاهب الصحابة والتابعين، وقال الخليليّ: كان أفقه أقرانه، وأروعهم، وأكفّهم عن الكلام في المحدثين، إلا في الاضطرار، وقد كان أمسك عن الرواية من وقت الامتحان، فما كان يروي إلا لبنيه في بيته، وقال ابن حبان في "الثقات": كان حافظًا متقنًا فقيهًا ملازمًا للورع الخفيّ، مواظبًا على العبادة الدائمة، أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه ثبت في المحنة، وبَذَل نفسه لله، حتى ضُرِب بالسياط للقتل، فعصمه الله تعالى عن الكفر، وجعله علمًا يُقْتَدَى به، وملجأً يُلْجَأُ إليه، وقال سليمان بن حرب لرجل سأله عن مسألة: سل عنها أحمد، فإنه إمام، وقال محمد بن إبراهيم البُوشَنْجيّ: ما رأيت أجمع في كل شيء من أحمد ولا أعقل، وهو عندي أفضل وأفقه من الثوريّ، وقال ابن سعد: ثقةٌ ثبتٌ صدوقٌ كثير الحديث، وقال أبو الحسن ابن الزاغونيّ: كُشِفَ قبرُ أحمد حين دُفن الشريفُ أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه، فوُجِد كفنه صحيحًا لم يَبْلَ، وجنبه لم يتغير، وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة.
قال عباس الدُّوريّ، ومُطَيَّن، والفضل بن زياد، وغيرهم: مات يوم الجمعة، لثنتي عشرة خَلَت من ربيع الأول سنة (241)، لكن قال الفضل: في ربيع الآخر، وكذلك قال عبد الله بن أحمد، وقيل: حُزِر مَن صلَّى عليه، فكانوا ثمانمائة ألف رجل وستين ألف امرأة، وقيل: أكثر من ذلك، وقال عبد الله: كان أبي يقول: قولوا لأهل البِدَع: بيننا وبينكم الجنائز.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
2 -
(وَسُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم، أبو الحارث البغداديّ، مروزيّ الأصل، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 9/ 2025.
[تنبيه]: من يُسمّى بسُرَيج بالجيم مصغّرًا في الرواة اثنان فقط:
(أحدهما): هذا المترجم هنا.
(الثاني): سُريج بن النعمان بن مروان الجوهريّ، أبو الحسن البغداديّ، خراسانيّ الأصل، ثقةٌ، يَهِم قليلًا، من كبار الطبقة [10](ت 217) من رجال البخاريّ، والأربعة، ولم يروِ عنه المصنّف، والله تعالى أعلم.
3 -
(هُشَيْمُ) بن بَشِير بن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم - بمعجمتين - الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) القُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5](ت 140) وقيل قبلها (حمام 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقيان تقدّما في السند الماضي، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه سُريج، فتفرّد به هو والبخاريّ، والنسائيّ، وداود علّق له البخاريّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فبغداديان، وهشيمًا فواسطيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِوَادِي الْأَزْرَقِ) هو وادٍ خلف أَمَجٍ، بينه وبين مكّةَ ميلٌ واحدٌ، و"أَمَج" بفتح الهمزة والميم، وبالجيم: قرية ذات مزارع هناك، قاله في "الفتح"
(1)
. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم " (أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا) أي: الصحابة الحاضرون السؤالَ (هَذَا وَادِي الْأَزْرَق، قَالَ) صلى الله عليه وسلم " (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى
(1)
"الفتح" 3/ 484 "كتاب الحجّ" رقم (1556).
مُوسَى عليه السلام قال المهلَّب رحمه الله: هذا وَهَمٌ من بعض رواته؛ لأنه لم يَأْتِ أثرٌ ولا خبرٌ أن موسى حيّ وأنه سيحجّ، وإنما أتى ذلك عن عيسى، فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر:"لَيُهِلَّنَّ ابن مريم بفَجّ الرَّوْحَاء". انتهى.
فتعقّبه الحافظ رحمه الله، فقال: وهو تغليطٌ للثقات بمجرد التوهم، فسيأتي في "كتاب اللباس" من البخاريّ بالإسناد المذكور بزيادة ذكر إبراهيم فيه، أفيقال: إن الراوي غَلِطَ، فزاده؟ وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي العالية، عن ابن عباس بلفظ:"كأني أنظر إلى موسى هابطًا من الثنية، واضعًا إصبعيه في أذنيه مارًّا بهذا الوادي، وله جؤارٌ إلى الله بالتلبية"، قاله لما مَرّ بوادي الأزرق، واستفيد منه تسمية الوادي، وهو خَلْفَ أَمَجٍ بينه وبين مكة ميل واحد، قال: وفي هذا الحديث أيضًا ذكر يونس، أفيقال: إن الراوي الآخر غَلِطَ، فزاد يونس؟. انتهى، وهو تعقّبٌ نفيسٌ.
وقال ابن المُنَيِّر في "الحاشية": توهيم المهلَّب للراوي وَهَمٌ منه، وإلا فأيّ فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رُفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل.
قال الحافظ: أراد المهلب بأن عيسى لَمّا ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني أنظر إليه، ولهذا استدلّ المهلب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه:"لَيُهِلَّنّ ابن مريم بالحج"، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقوله: (هَابِطًا) منصوب على الحال، أي: حال كونه نازلًا (مِنَ الثَّنِيَّةِ) هي: العقَبَةُ، أو طريقها، أو الجَبَلُ، أو الطريقة فيه أو إليه، قاله المجد
(2)
.
(وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبيَةِ)"الجُؤَارُ": بضم الجيم، وبالهمزة: رفع الصوت، ومنه قول الله تعالى:{ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]؛ أي: ترفعون أصواتكم، وتستغيثون، يقال: جأر يَجْأَرُ، قال عديّ بن زيد [من الرمل]:
إِنَّنِي وَاللهِ فَاقْبَلْ حَلْفَتِي
…
بِأَبِيلٍ
(3)
كُلَّمَا صَلَّى جَأَرْ
(1)
"الفتح" 3/ 485.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1141.
(3)
"الأبيل": راهب النصارى.
وفيه استحباب رفع الصوت بالتلبية، وقد ورد الأمر به، فقد أخرج الترمذي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ الحج أفضل؟ قال: "العَجّ، والثّجّ"
(1)
، وأخرج أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح، عن خلاد بن السائب الأنصاريّ، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أتاني جبريل عليه السلام، فأمرني أن آمر أصحابي، ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية"، قال الترمذيّ: حديث حسنٌ صحيح، وسيأتي تمام البحث في محلّه من كتاب الحجّ - إن شاء الله تعالى -.
(ثُمَّ أتى) صلى الله عليه وسلم (عَلَى ثَنِيَّةِ هَرْشَى) بفتح الهاء، وسكون الراء، بعدها شين معجمة، مقصورًا: قال ابن الأثير: ثنيّةٌ بين مكة والمدينة، وقيل: جبلٌ قُرب الجحفة. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض: جبلٌ من بلاد تهامة على طريق الشام، والمدينة قريبٌ من الجحفة. انتهى
(3)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ لا قَالُوا: ثَنِيَّةُ هَرْشَى، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى عليه السلام بفتح الميم، وتشديد التاء، مقصورًا، هو اسم أبيه، قال في "الفتح": ووقع في "تفسير عبد الرزاق" أنه اسم أمِّه، وهو مردود بما في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عند البخاريّ: ونسبه إلى أبيه، فهذا أصحّ، قال: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتّصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس. انتهى
(4)
.
(عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ) متعلّق بحال محذوف، أي: حال كونه راكبًا عليها، و"الناقة": الأنثى من الإبل، قال أبو عُبيدة: ولا تُسمّى ناقةً حتى تُجْذِع، والجمع: أَيْنُقٌ بالقلب المكانيّ، بتقديم عين الكلمة على اللام، ونُوقٌ،
(1)
أخرجه الترمذيّ برقم (757) وفي سنده انقطاع؛ لأن عبد الرحمن بن يربوع لم يلقَ أبا بكر رضي الله عنه، لكن صححه الشيخ الألباني رحمه الله، والظاهر أنه لشواهده، والله تعالى أعلم.
(2)
"النهاية" 5/ 260.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 709.
(4)
"الفتح" 6/ 520 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3416).
ونِيَاق
(1)
، وقوله:(جَعْدَةٍ) بالجرّ صفة لـ "ناقة"، ومعناها: المكتنزة اللحم (عَلَيْهِ جُبَّةٌ مِنْ صُوفٍ) جملة في محلّ نصب على الحال أيضًا، و"الجُبّة" بضمّ الجيم، وتشديد الموحّدة: من اللباس معروفة، جمعها جُبَبٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف
(2)
، ويُجمع أيضًا على جِبَاب
(3)
.
و"الصوف بالضمّ: معروفٌ، قاله في "القاموس"، وقال ابن سِيده: الصُّوف للغنم كالشعر للمعز، والوَبَر للإبل، والجمع أصواف، وقد يقال: الصوف للواحدة على تسمية الطائفة باسم الجميع، حكاه سيبويه، ويقال للواحدة: صوفة، وتُصغَّر على صُويفة، قاله في "التاج"
(4)
.
(خِطَامُ نَاقَتِه) مبتدأ خبره قوله: "خُلبة"، و"الخِطام" بكسر الخاء المعجمة، وتخفيف الطاء المهملة، جمعه خُطُمٌ، مثل كتاب وكُتُب: هو الحبل الذي يقاد به البعير، يُجعل على خَطْمه، سُمّي بذلك لأنه يَقَع على خطم البعير، وهو مقدّم الأنف والفم
(5)
، وقال المجد: الخَطْمُ من الدابّة: مقدّم أنفها وفمها، قال: وخَطَمه بالخِطَام: جعله على أنفه، و"الخِطام ككتاب: ذلك المُعلَّقُ به. انتهى
(6)
.
(خُلْبَة) بضمّ الخاء المعجمة، وبالباء الموحّدة بينهما لام، فيها لغتان مشهورتان: الضمّ، والإسكان، حكاهما ابن السِّكّيت، والجوهريّ، وآخرون، وكذلك الخُلُب، والخُلْبُ، وهو الليف، كما فسّره هُشيم هنا.
وقوله: (وَهُوَ يُلَبِّي") جملة في محلّ نصب على الحال أيضًا، فتكون أربعة أحوال، إما مترادفة، أو متداخلة.
وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام، وأنها تتأكد عند الهبوط، كما تتأكد عند الصعود
(7)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 631.
(2)
"المصباح" 1/ 89.
(3)
"القاموس" ص 62.
(4)
"تاج العروس " 6/ 169.
(5)
راجع: "المصباح" 1/ 174.
(6)
"القاموس المحيط" ص 995.
(7)
"الفتح" 3/ 485 "كتاب الحجّ" رقم (1556).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 427 و 428 و 429](166)، و (البخاريّ) في "الحجّ"(1555)، و "أحاديث الأنبياء"(3355)، و"كتاب اللباس"(5913)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 215 - 276 - 296)، أما فوائد الحديث فقد تقدّمت، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر":
(اعلم): أنه قد اختلف أهل التحقيق في معناه على أوجه:
قال القاضي عياض رحمه الله: أكثر الروايات في وصفهم تدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك ليلة أُسري به، وقد وقع ذلك مُبَيَّنًا في رواية أبي العالية، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية ابن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيها ذكر التلبية. قال:
[فان قيل]: كيف يَحُجّون، ويُلَبُّون، وهم أموات، وهم في الدار الآخرة، وليست دار عمل؟.
[فاعلم]: أن للمشايخ، وفيما ظَهَرَ لنا عن هذا أجوبةٌ:
[أحدهما]: أنه على الحقيقة؛ لأن الأنبياء كالشهداء، بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم، فلا يَبْعُد أن يَحُجُّوا ويُصَلّوا، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا؛ كما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى قائمًا في قبره يصلي، فإنهم وإن كانوا قد تُوُفّوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل.
قال القرطبيّ رحمه الله: حُبِّبت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم، لا بما يُلْزَمون به، كما يُلْهَم أهل الجنة الذكر، ويؤيّده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء؛ لقوله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الآية [يونس: 10].
[الوجه الثاني]: أن عمل الآخرة ذكرٌ ودعاءٌ، قال الله تعالى:{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الآية [يونس: 10].
[الوجه الثالث]: أن تكون هذه رؤية منام ليلة الإسراء، أو في بعض ليلة الإسراء، كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما: "بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة
…
"، وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم.
[الوجه الرابع]: أنه صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أحوالهم التي كانت في حياتهم، ومُثِّلُوا له في حال حياتهم كيف كانوا، وكيف حجُّهم وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كأني أنظر إلى موسى، وكأني أنظر إلى عيسى، وكأني أنظر إلى يونس عليهم السلام".
[الوجه الخامس]: أن يكون أَخْبَر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم، وما كان منهم، وإن لم يرَهم رؤية عين. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله بزيادة.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: وعندي أن الجواب الأول هو الأرجح؛ لأن معظم الروايات واضحة فيه، والروايات التي تدلّ على أنه وقع له منامًا لا تنافي هذا، فإنه لا يمتنع أن يقع له ذلك في الحالتين في اليقظة والمنام، فتأمل.
وممّا يوضّح ما قلته، ويقوّي ما رجّحته ما حقّقه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه الله في كتابه النافع، فقد جمع رحمه الله كتابًا لطيفًا في حياة الأنبياء في قبورهم، أورد فيه حديث أنس:"الأنبياء أحياء في قبورهم يُصَلُّون"، أخرجه من طريق يحيى بن أبي كثير، وهو من رجال الصحيح، عن المستلم بن سعيد، وقد وثقه أحمد وابن حبان، عن الحجَّاج الأسود، وهو ابن أبي زياد البصريّ، وقد وثقه أحمد وابن معين، عن ثابت، عنه، وأخرجه أيضًا أبو يعلى في "مسنده" من هذا الوجه، وأخرجه البزّار، لكن وقع عنده عن حجاج الصوّاف، وهو وَهَمٌ، والصواب الحجَّاج الأسود، كما وقع التصريح به في رواية البيهقيّ، وصححه البيهقيّ.
وأخرجه أيضًا من طريق الحسن بن قتيبة، عن المستلم، وكذلك أخرجه البزّار وابن عديّ، والحسن بن قتيبة ضعيف.
وأخرجه البيهقيّ أيضًا من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد فقهاء الكوفة، عن ثابت بلفظ آخر، قال: "إن الأنبياء لا يُترَكون في
قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلّون بين يدي الله، حتى يُنفَخ في الصور"، ومحمد سيئ الحفظ.
وذكر الغزاليّ، ثم الرافعيّ حديثًا مرفوعًا:"أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث، ولا أصلي له"، إلا إن أُخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه، وليس الأخذ بجيد؛ لأن رواية ابن أبي ليلى قابلة للتأويل.
قال البيهقيّ: إن صَحّ فالمراد أنهم لا يُترَكون يصلّون إلا هذا المقدار
(1)
، ثم يكونون مصلين بين يدي الله، قال البيهقيّ: وشاهد الحديث الأول ما ثبت في "صحيح مسلم" من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، رفعه:"مررت بموسى ليلةَ أُسري بي عند الكثيب الأحمر، وهو قائم يصلي في قبره". وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن أنس.
[فإن قيل]: هذا خاصّ بموسى عليه السلام.
[قلنا]: قد وجدنا له شاهدًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه مسلم أيضًا، من طريق عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "لقد رأيتني في الحِجْر، وقريش تسألني عن مسراي
…
" الحديث، وفيه: "وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضَرْبٌ جَعْدٌ، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يصلي، أقرب الناس به شَبَهًا عروة بن مسعود الثقفيّ، وإذا إبراهيم؛ قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم
…
".
قال البيهقيّ: وفي حديث سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقيهم ببيت المقدس، فحضرت الصلاة، فأَمَّهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم، ثم اجتمعوا في بيت المقدس، وفي حديث أبي ذرّ، ومالك بن صعصعة في قصة الإسراء، أنه لقيهم بالسماوات، وطرق ذلك صحيحة، فيحمل على أنه رأى موسى قائمًا يصلي في قبره، ثم عُرِج به هو، ومن ذَكَر من الأنبياء إلى السماوات، فلقيهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة فأمَّهم نبينا صلى الله عليه وسلم، قال:
(1)
هكذا عبارة "الفتح"، وفيها ركاكة؛ فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وصلاتهم في أوقات مختلفة، وفي أماكن مختلفة لا يردّه العقل، وقد ثبت به النقل، فَدَلَّ ذلك على حياتهم.
قال الحافظ رحمه الله بعد نقله عن البيهقيّ رحمه الله ما تقدّم: وإذا ثبت أنهم أحياء من حيث النقل، فإنه يُقَوِّيه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء.
قال: ومن شواهد الحديث ما أخرجه أبو داود، من حديث أبي هريرة رفعه، وقال فيه:"وصَلُّوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، وسنده صحيح، وأخرجه أبو الشيخ في "كتاب الثواب" بسند جيد، بلفظ:"مَن صَلَّى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليّ نائيًا بُلِّغْتُهُ"، وعند أبي داود، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة وغيره، عن أوس بن أوس، رفعه، في فضل يوم الجمعة:"فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ"، قالوا: يا رسول الله، وكيف تُعْرَضُ صلاتنا عليك وقد أَرَمْتَ؟، قال:"إن الله حَرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد اتّضح بما ذكر أن أرجح الأجوبة هو القول بأن الحديث على ظاهر ما دلّ عليه من أن الأنبياء يصلّون ويَحجّون، فما صحّ لدينا من الأدلّة بأنهم يفعلون كذا حملناه على ظاهره، دون أي توقّف، والله تعالى قادر على كلّ شيء، وهم أهل لإكرامهم بما ذُكر، فتأمل بالإنصاف، ولا تسلك سبيل الاعتساف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: ومما يُسْتَشكل على ما تقدم ما أخرجه أبو داود بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"ما من أحد يُسَلِّم عليّ إلا رَدّ الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام"، ورواته ثقات.
ووجه الإشكال فيه أن ظاهره أن عَوْد الروح إلى الجسد يَقتضي انفصالها عنه، وهو الموت.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة:
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 561 - 563 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3447).
[أحدها]: أن المراد بقوله: "رَدّ الله عليّ روحي" أن ردّ روحه كانت سابقةً عقب دفنه، لا أنها تعاد، ثم تُنْزَع، ثم تعاد.
[الثاني]: سَلّمنا، لكن ليس هو نزع موت، بل لا مشقة فيه.
[الثالث]: أن المراد بالروح الملك الموكل بذلك.
[الرابع]: المراد بالروح النطق، فتَجَوَّز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه.
[الخامس]: أنه يَستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سُلِّم عليه، رَجَعَ إليه فهمه؛ ليجيب مَن سَلَّم عليه.
وقد استُشْكِل ذلك من جهة أخرى، وهو أنه يَستلزم استغراق الزمن كله في ذلك؛ لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يُحصَى كثرةً.
وأجيب بأن أمور الآخرة لا تُدْرَك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة، والله تعالى أعلم، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أقرب الأجوبة عندي وأرجحها هو الخامس، وما عداه فلا يخفى ضعفه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[428]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي
(2)
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَة، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:"أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ " فَقَالُوا: وَادِي الْأَزْرَق، فَقَالَ: "كَأَنِّي أنظُرُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ، وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ
(3)
فِي أُذُنَيْه، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللهِ بِالتَّلْبِيَة، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي"، قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا، حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ، فَقَالَ: "أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ "، قَالُوا: هَرْشَى، أَوْ لِفْتٌ،
(1)
"الفتح" 6/ 563.
(2)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(3)
وفي نسخة: "إصبعه في أذنه".
فَقَالَ
(1)
: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ، عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ، خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي، مُلَبِّيًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا، وكذا الباقون، و"داود": هو ابن أبي هند المذكور في السند الماضي.
وقوله: (فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ) يعني: أن أبا العالية ذكر مما ذكر له ابن عبّاس رضي الله عنهما من وصف لون موسى عليه السلام، ووصف شعره، لكن داود بن أبي هند نسي ذلك، وقد حفظه غيره، فقد سبق في رواية قتادة، عن أبي العالية:"رجلٌ آدم، طُوالٌ جعد، كأنه من رجال شنوءة"، ونحوه من رواية مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في الحديث التالي.
وقوله: (وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ) وفي نسخة: "إصبعه في أذنه" بالإفراد، و"الإصبع" فيها عشر لغات: كسر الهمزة، وفتحها، وضمها، مع فتح الباء، وكسرها، وضمها، والعاشرة أُصبُوع، على مثال عُصْفُور.
وفي هذا دليل على استحباب وضع الإصبع في الأذن عند رفع الصوت بالأذان ونحوه، مما يستحب له رفع الصوت.
قال النوويّ رحمه الله: وهذا الاستنباط والاستحباب يجيء على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم: إن شرع من قبلنا شرع لنا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الأرجح أن شرع من قبلنا شرع لنا، كما حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة"، و"شرحها"، فراجعه، تستفد، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَوْ لِفْتٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناها "لِفْتٌ" بكسر اللام، وإسكان الفاء، وبعدها تاء مثناة من فوق، وذكر القاضي، وصاحب "المطالع" فيها ثلاثة أوجه:
[أحدها]: ما ذكرته.
(1)
وفي نسخة: "قال".
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 230.
[والثاني]: فتح اللام، مع إسكان الفاء.
[والثالث]: فتح اللام والفاء جميعًا. انتهى
(1)
.
وعبارة عياض رحمه الله: قوله: ثنيّة هرشى، أو لفت" هَرْشَى بفتح الهاء، وسكون الراء: جبل من بلاد تهامة على طريق الشام والمدينة، قريبٌ من الجُحْفة، و"لفت": موضع بين مكة والمدينة، قاله الكنديّ، سمعنا هذا الحرف من القاضي الشهيد بفتح اللام والفاء، ومن الشيخ أبي بحر هنا بفتح اللام فقط، وسكون الفاء، ومن الحافظ أبي الحسين بكسر اللام، وسكون الفاء، وأنشدنا بعضهم في ذلك [من الطويل]:
مَرَرْنَا بِلَفْتٍ وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا
…
قَلَائِدُ دُرِّ حُلَّ عَنْهَا نِظَامُهَا
وروينا هذا البيت في كتاب مشاهد ابن هشام عن أشياخنا التميميّ، والأسديّ، وابن سراج:
وَلفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجَّ صَلَاحِ
كذا سمعناه بالكسر، وكذا كان في المشاهد عند أبي بحر، وكذا قيّدناه عنه. انتهى كلام عياض رحمه الله
(2)
.
وقوله: (خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ، خُلْبَةٌ) رُوي بتنوين "ليفٍ"، ورُوي بإضافته إلى "خُلْبة"، فمن نَوّن جعل "خلبة" بدلًا، أو عطف بيان، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[429]
(
…
) - (حَدَّثَنى مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: "أمّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْه، إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي").
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 230.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 709 - 711.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطَبَان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [5]
(1)
(ت 150)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
(مُجَاهِدُ) بن جَبْر، أبو الحجَّاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ إمام حجة [3](ت 101) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21. والباقون تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: حديث مجاهد هذا وقع عند البخاريّ عنه عن ابن عمر بدل ابن عبّاس، ونصّه:
(3438)
حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رأيت عيسى، وموسى، وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جَعْدٌ، عَرِيض الصدر، وأما موسى فآدم، جسيمٌ، سَبِطٌ، كأنه من رجال الزط". انتهى.
فتكلّم الحفّاظ فيه، وقالوا: إنه غلطٌ، والصواب:"عن ابن عبّاس رضي الله عنهما".
قال في "الفتح": قوله: "عن ابن عمر" كذا وقع في جميع الروايات التي وقعت لنا من نسخ البخاريّ، وقد تعقبه أبو ذرّ في روايته، فقال: كذا وقع في جميع الروايات المسموعة عن الفِرَبريّ: "مجاهد، عن ابن عمر"، قال: ولا أدري أهكذا حدّث به البخاريّ، أو غَلِط فيه الفربريّ؟ لأني رأيته في جميع الطرق عن محمد بن كثير وغيره عن مجاهد، عن ابن عباس، ثم ساقه بإسناده إلى حنبل بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن كثير، وقال فيه:"ابن عباس"، قال: وكذا رواه عثمان بن سعيد الدارميّ، عن محمد بن كثير، قال: وتابعه نصر بن عليّ، عن أبي أحمد الزبيريّ، عن إسرائيل، وكذا رواه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن إسرائيل. انتهى.
وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" عن الطبرانيّ، عن أحمد بن مسلم الخزاعيّ، عن محمد بن كثير، وقال: رواه البخاريّ، عن محمد بن كثير،
(1)
جعله في "التقريب" من السادسة، والظاهر أنه من الخامسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه؛ فتنبّه.
فقال: مجاهد، عن ابن عمر، ثم ساقه من طريق نصر بن عليّ، عن أبي أحمد الزبيريّ، عن إسرائيل، فقال: ابن عباس. انتهى.
وأخرجه ابن منده في "كتاب الإيمان" من طريق محمد بن أيوب بن الضُّرَيس، وموسى بن سعيد الدندانيّ، كلاهما عن محمد بن كثير، فقال فيه:"ابن عباس"، ثم قال: قال البخاريّ عن محمد بن كثير، عن "ابن عمر"، والصواب عن "ابن عباس".
وقال أبو مسعود في "الأطراف": إنما رواه الناس عن محمد بن كثير، فقال:"مجاهد، عن ابن عباس" ووقع في البخاريّ في سائر النسخ: "مجاهد، عن ابن عمر"، وهو غلطٌ، قال: وقد رواه أصحاب إسرائيل منهم: يحيى بن أبي زائدة، وإسحاق بن منصور، والنضر بن شُميل، وآدم بن أبي إياس، وغيرهم، عن إسرائيل، فقالوا:"ابن عباس"، قال: وكذلك رواه ابن عون، عن مجاهد، عن ابن عباس. انتهى.
ورواية ابن عون تقدمت في ترجمة إبراهيم عليه السلام، ولكن لا ذكر لعيسى عليه السلام فيها، وأخرجها مسلم، عن شيخ البخاريّ فيها، وليس فيها لعيسى ذكرٌ، إنما فيها ذكر إبراهيم وموسى، حسبُ.
وقال محمد بن إسماعيل التيميّ: ويقع في خاطري أن الوهم فيه من غير البخاريّ، فإن الإسماعيليّ أخرجه من طريق نصر بن عليّ، عن أبي أحمد، وقال فيه:"عن ابن عباس"، ولم يُنَبِّه على أن البخاريّ قال فيه:"عن ابن عمر"، فلو كان وقع له كذلك لنَبّه عليه كعادته.
والذي يُرَجِّح أن الحديث لابن عباس لا لابن عمر ما سيأتي من إنكار ابن عمر على من قال: إن عيسى أحمر، وحَلِفِهِ على ذلك، وفي رواية مجاهد هذه:"فأما عيسى فأحمر جَعْدٌ"، فهذا يؤيد أن الحديث لمجاهد، عن ابن عباس، لا عن ابن عمر. انتهى
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ: إِنَّهُ مَكْتُوب بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) قال النوويّ رحمه الله: كذا هو في الأصول، وهو صحيح، قوله:"فقال: إنه مكتوب"؛ أي: قال قائل من
(1)
"الفتح" 6/ 559 "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3438).
الحاضرين، ووقع في "الجمع بين الصحيحين" لعبد الحق في هذا الحديث، من رواية مسلم:"فذكروا الدجال، فقالوا: إنه مكتوب بين عينيه"، هكذا رواه:"فقالوا"، وفي رواية الحميديّ عن "الصحيحين":"وذكروا الدجال بين عينيه كافر"، فحذف لفظة "قال"، و"قالوا"، وهذا كله يصحح ما تقدم. انتهى.
وقوله: (فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ) وفي نسخة: "قال ذلك"، يعني: لم أسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم تكلم بقوله: "إنه مكتوب بين عينيه كافر"، وهذا لا ينافي أن غيره سمعه يقول ذلك، فسيأتي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطّاب، وحذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك رضي الله عنهم أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إنه مكتوب بين عينيه كافر"، وقد ساق المصنف رحمه الله أحاديثهم في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة".
وقوله: (فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك نفسه، فإنه كان أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام.
وقوله: (إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي) هكذا هو في الأصول كلها "إذا" بالألف بعد الذال، وهو صحيح، وقد حكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه أنكر إثبات الألف، وغَلَّط راويه، وغَلَّطه القاضي، وقال: هذا جهل من هذا القائل، وتَعَسُّف، وجَسَارةٌ على التوهم لغير ضرورة، وعدمُ فهم بمعاني الكلام؛ إذ لا فرق بين "إذا" و"إذ" هنا؛ لأنه وَصَفَ حاله حين انحداره فيما مضى.
[تنبيه]: لم يُصَرّح أحدٌ ممن رَوَى هذا الحديث عن ابن عون بذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الإسماعيليّ، ولا شك أنه مراد؛ لأن ذلك لا يقوله ابن عباس مِن قِبَل نفسه، ولا عن غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[430]
(167) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، (ح) وَحَدَّثَنَا
(1)
"الفتح" 3/ 485.
مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِر، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ عَليَّ الْأنبِيَاءُ، فَإِذَا مُوسَى ضَرْب مِنَ الرِّجَال، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْه، فَإِذَا أقرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ
(1)
، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ: "دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثّقَفيّ، أبو رجاء البَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبت [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمى الفَهْميّ مولاهم، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمام مشهورٌ حجةٌ [7](175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) بن المهاجر التُّجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، المكيّ، صدوقٌ يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
5 -
(جَابِر) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات بعد السبعين، وهو (94) سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (16) من رباعيات الكتاب، وهو أعلى أسانيده، كما مرّ غير مرّة، وله فيه شيخان فرّق بينهما.
(1)
وفي نسخة زيادة "صلى الله عليه وسلم".
2 -
(ومنها): أنه إنما فرّق بين شيخيه، ولم يقرُن بينهما؛ للاختلاف بينهما في شيئين:
(الأول): أن قتيبة قال: "حدّثنا"؛ إشارة إلى أنه إنما أخذه سماعًا من لفظ شيخه، ومحمد بن رُمح قال:"أخبرنا"؛ إشارةً إلى أنه إنما سمعه من شيخه بقراءة غيره عليه.
(الثاني): أن قتيبة قال: "ليثٌ" بدون "أل"، وقال ابن رُمح:"الليث" بـ "أل"، وكلاهما جائز؛ لأن "أل" هنا للمح الأصل، يجوز ذكرها وحذفها، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْضُ الأعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا
…
لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا
كَالفَضْلِ وَالحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ
…
فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَّانِ
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخه محمد، فقد تفرّد به هو وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أن هذه الرواية مما يؤمن فيه تدليس أبي الزبير؛ لأنها من رواية الليث عنه، وهو لا يروي عنه إلا ما سمعه من جابر رضي الله عنه، فقد قال سعيد بن أبي مريم: حدّثنا الليث، قال: جئتُ أبا الزبير، فدَفَع لي كتابين، فسألته: أسمعت هذا كلّه عن جابر؟ قال: لا، فيه ما سمعت، وفيه ما لم أسمع، قلت: فأَعْلم لي على ما سمعتَ منه، فاعلم لي على هذا الذي عندي. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت هذا الذي ذكره الليث مع قاعدة رواية شعبة عن شيوخه المدلّسين، كأبي إسحاق السبيعيّ، وقتادة، والأعمش، وكذلك رواية يحيى القطّان عن شيوخه المدلّسين، فقلت:
شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنِ المُدَلِّسِ
…
إِلَّا الَّذِي سَمِعَهُ فَاسْتَأْنِسِ
لِذَا إِذَا رَوَى عَنِ الأَعْمَشِ أَوْ
…
قَتَادَةٍ أَوِ السَّبِيعِي مَا رَوَوْا
مُعَنْعَنًا لَا تَخْشَ تَدْلِيسًا فَقَدْ
…
كَفَاكَهُ هَذَا الإِمَامُ المُعْتَمَدْ
وَهَكَذَا القَطَّانُ لَا يَرْوِي لِمَنْ
…
دَلَّسَ مَا لَيْسَ سَمَاعًا يُؤْتَمَنْ
كَذَاكَ عَنْ أَبِي الزبَيْرِ اللَّيْثُ إِنْ
…
رَوَى فَلَا تَدْلِيسَ تَخْشَ يَا فَطِنْ
فَإِنَّهُ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرَ مَا
…
سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ فَلْتَعْلَمَا
هَذِي فَوَائِدُ عَزِيزَةُ المَنَالْ
…
يَصبُو لَهَا مَنْ هَمُّهُ ضَبْطُ الرِّجَالْ
5 -
(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (1540) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ) بالبناء للمفعول، أي: أُريتُ، يقال: عَرَضَ عليه الشيءَ، من باب ضرب: إذا أراه إيّاه
(1)
. (عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ) الظاهر أن هذا العرض ليلة الإسراء، ويحتمل أن يكون في غيرها، والله تعالى أعلم.
(فَإِذَا) هي الفجائيّة (مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ) بفتح الضاد المعجمة، وإسكان الراء، قال القاضي عياض رحمه الله: هو الرجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقِلّته، وقال القرطبيّ رحمه الله: الضرب من الرجال الذي له جسم بين جسمين، ليس بالضخم، ولا بالضَّئيل، قال طرفة [من الطويل]:
أَنَا الرَّجُلُ الضَّرْبُ الَّذِي تَعْرِفُونَهُ
…
خُشَاشٌ
(2)
كَرَأْسِ الحَيَّةِ المُتَوَقِّدِ
وسيأتي في الرواية التالية بلفظ: "مُضْطَربٌ" وهو الطويل غير الشديد، وهو ضدّ جَعْدِ اللحم، مُكْتَنزه، وقال عياضٌ رحمه الله: لكن يَحْتَمِلُ أن الرواية الأولى أصحّ، يعني رواية "ضَرْبٌ"؛ لقوله في الرواية الأخرى:"حَسِبته قال: مضطرب"، فقد ضَعُفت هذه الرواية للشك، ومخالفة الأخرى التي لا شكّ فيها، وفي الرواية الأخرى:"جَسِيمٌ سَبِطٌ"، وهذا يَرْجِع إلى الطويل، ولا يُتَأَوَّلُ جسيم بمعنى سَمِين؛ لأنه ضِدُّ "ضَرْب"، وهذا إنما جاء في صفة الدجال. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(3)
.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" ص 580.
(2)
في خاء خشاش الحركات الثلاث، وهو اللطيف الرأس، قاله ابن السّكّيت، وقال أبو عبيد: هو الرجل الخفيف، وأيضًا الحيّة، وأيضًا ما يخش به البعير، وهو العُود الذي يُدخَل في أنف البعير عَرْضًا، ويُخرج طرفاه من الجهتين، وفيهما حبل يقاد به، فإذا استصعب جُذِب به، فيؤلمه فينقاد، ومنه الحديث الآتي في آخر الكتاب في خبر الشجرة:"فانقادت عليه كالبعير المخشوش". "شرح الأبيّ" 1/ 322.
(3)
"إكمال المعلم" 2/ 701.
وتعقّبه النوويّ رحمه الله، فقال: وهذا الذي قاله من تضعيف رواية "مُضْطَرب"، وأنها مخالفة لرواية "ضَرْب"، لا يُوَافَقُ عليه، فإنه لا مخالفة بينهما، فقد قال أهل اللغة:"الضرْبُ": هو الرجل الخفيف اللحم، كذا قاله ابن السِّكِّيت في "الإصلاح"، وصا حب "المجمل"، والزبيديّ، والجوهريّ، وآخرون لا يحصون. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو تعّقب حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) تقدّم الكلام على هذه الجملة، وأن المراد تشبيهه بهذه القبيلة في الطول؛ لأنها معروفة به (وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عليه السلام، فَإِذَا) للمفاجأة أيضًا (أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا) أي: مماثلًا، وانتصابه على الحال، قال المجد رحمه الله:"الشِّبْهُ" بالكسر، والتحريك، وكأمير: المِثْلُ، جمعه أشباهٌ، وشابهه، وأشبهه: ماثله. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "الشَّبَهُ" بفتحتين، والشَّبِيه مثلُ كريم، والشِّبْه بالكسر، مثلُ حِمْلٍ: المشابه، وشبَهتُ الشيءَ بالشيء: أقمته مُقامه لصفة جامعة بينهما، وتكون تلك الصفة ذاتيّةً ومعنويّةً، فالذاتيّة كهذا الدرهم كهذا الدرهم، وهذا السواد كهذا السواد، والمعنويّة نحو: زيدٌ كالأسد أو كالحمار، أي: في شدّته وبلادته، وزيد كعمرو، أي: في قوّته، وكَرَمه وشبَهِه، وقد يكون مجازًا، نحو: الغائب كالمعدوم. انتهى
(2)
.
(عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ) بن مُعَتِّب - بالمهملة، والمثناة المشددة - بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف الثقفيّ، وهو عَمُّ والد المغيرة بن شعبة، وأمه سُبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف، أخت آمنة، كان أحد الأكابر من قومه، وقيل: إنه المراد بقوله: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، قال ابن عباس، وعكرمة، ومحمد بن كعب، وقتادة، والسُّدّيّ: المراد بالقريتين: مكة والمدينة
(3)
، وثبت ذكر عروة بن
(1)
"القاموس المحيط" ص 1123.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 303.
(3)
اختلفوا في تعيين الرجل المراد، فعن قتادة: أرادوا الوليد بن المغيرة، من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفيّ من أهل الطائف، وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة، =
مسعود في الحديث الصحيح في قصة الحديبية، وكانت له اليد البيضاء في تقرير الصلح، وهو مُسْتَوْفًى في "صحيح البخاريّ".
وترجمه ابنُ عبد البر بأنه شَهِدَ الحديبية، وهو كذلك، لكن في العرف إذا أُطلق على الصحابي أنه شَهِد غزوة كذا يَتَبادر أن المراد أنه شَهِدها مسلمًا، فلا يقال: شَهِد معاوية بدرًا؛ لأنه لو أُطلق ذلك ظَنّ مَن لا خِبْرة له؛ لكونه عَرَف أنه صحابيّ أنه شَهِدها مع المسلمين، وذكر موسى بن عُتبة
(1)
، عن ابن شهاب، وأبو الأسود، عن عروة، وكذلك ذكره ابن إسحاق يزيد بعضهم على بعض: أن أبا بكر لَمّا صَدَر من الحجّ سنة تسع، قَدِمَ عروة بن مسعود الثقفيّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن إسحاق أنه اتّبَع أثر النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا انصرف من الطائف، فأسلم واستأذنه أن يرجع إلى قومه، فقال: إني أخاف أن يقتلوك، قال: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني، فأَذِن له، فدعاهم إلى الإسلام، ونَصَحَ لهم، فعصوه، وأسمعوه من الأذى، فلما كان من السَحَر قام على غُرْفة له، فَأَذَّن، فرماه رجل من ثقيف بسهم، فقتله، فلما بَلَغَ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَثَلُ عروة مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله، فقتلوه"
(2)
.
واختُلِف في اسم قاتله، فقيل: أوس بن عوف، وقيل: وهب بن جابر، وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فِيّ إلا ما في الشهداء الذين قُتِلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم
(3)
.
= وعُمير بن عروة بن مسعود، وعنه رواية ابن عبد ياليل بدل حبيب، وعن السديّ: الوليد، وكنانة بن عبد عمرو بن عُمير، وعن ابن عباس: الوليد، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفيّ. راجع:"الإصابة" 4/ 406.
(1)
هكذا نسخة "الإصابة" 4/ 407، ولعله "موسى بن عقبة" بالقاف؛ فليُحرّر.
(2)
أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 17/ 148، وابن سعد في "الطبقات" 5/ 370، والحاكم في "المستدرك" 3/ 615، وقال الهيثميّ في "المجمع" 9/ 389: عن عروة بن الزبير
…
الحديث، رواه الطبرانيّ، وروي عن الزهريّ نحوه، وكلاهما مرسل وإسنادهما حسن. انتهى.
(3)
راجع: "الإصابة" 4/ 406 - 408.
(وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْه، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ) لأنه صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بإبراهيم عليه السلام (وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عليه السلام، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دَحْيَةُ) بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ) يعني: شيخه الثاني في هذا السند (دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ) يعني: أنه نسبه إلى أبيه، وأما قتيبة، فلم ينسُبه إليه، بل قال:"دحية" فقط.
وهو دَحْيَةُ بن خَلِيفة بن فَرْوة بن فَضَالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزرج - بفتح المعجمة، وسكون الزاي، ثم جيم - ابن عامر بن بكر بن عامر الأكبر ابن عوف الكلبيّ رضي الله عنه.
صحابيّ مشهورٌ أولُ مشاهده الخندق، وقيل: أُحُدٌ، ولم يشهد بدرًا، وكان يُضْرَب به المثل في حسن الصورة، وكان جبرائيل عليه السلام ينزل على صورته، جاء ذلك من حديث أم سلمة، ومن حديث عائشة رضي الله عنها، ورَوَى النسائيّ بإسناد صحيح، عن يحيى بن معمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"كان جبرائيل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبيّ"، ورَوَى الطبراني من حديث عُفير بن مَعْدان، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبيّ"
(1)
، وكان دحية رجلًا جميلًا.
وروى العجليّ في "تاريخه" عن عَوَانة بن الحَكَم، قال: أجمل الناس مَن كان جبرائيل ينزل على صورته.
قال ابن قتيبة في "غريب الحديث": فأما حديث ابن عباس: كان دحية إذا قَدِم المدينة لم تَبْقَ مُعْصِرٌ
(2)
إلا خرجت، تنظر إليه، فالمعنى بالمُعْصِر: العاتق.
وقال ابن البَرْقيّ: له حديثان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الحافظ رحمه الله: يَجتمع لنا عنه نحو الستة.
وهو رسول النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، فلقيه بِحِمْصَ أول سنة سبع، أو آخر سنة ستّ.
(1)
رواه أحمد في "مسنده" 2/ 107.
(2)
يقال: أعصرت المرأة إذا بلغت شبابها، وأدركت، أو دخلت في الحيض، أو راهقت العشرين، أو ولدت. اهـ. "ق" ص 397.
ومن المنكر ما أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن عباس: أن دحية أسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وقد ردَّه ابن عساكر بأن في إسناده الحسين بن عيسى الحنفيّ، وهو أخو سُلَيم القارئ، وهو صاحب مناكير.
وقد رَوَى الترمذيّ من حديث المغيرة رضي الله عنه: أنّ في حية أهدى إلى النبيّ عليه السلام خفين، فلبسهما، وعند أبي داود من طريق خالد بن يزيد بن معاوية، عن دحية، قال: أُهدي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قُبَاطيّ
(1)
، فأعطاني منها قِبطية.
ورَوَى أحمد من طريق الشعبيّ، عن دحية قال: قلت: يا رسول الله، ألا أحمل لك حمارًا على فرس، فينتج لك بغلًا فتركبها؟ قال:"إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون"
(2)
.
وقال ابن سعد: أخبرنا وكيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم دِحيةَ سَرِيَّةً وحده"، وقد شَهِد دحية اليرموك، وكان على كُرْدُوس، وقد نَزَل دمشق، وسكن المِزَّة، وعاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما
(3)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 430](167)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3649)، وفي "الشمائل"(12)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 334)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(348 و 349)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(426)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6232)، و (ابن منده) في "الإيمان"(729).
(1)
قال في "ق": القبط بالكسر أهل مصر، وإليهم تنسب الثياب القُبطيّة بالضم على غير قياس، وقد تُكسر، جمعه قُبَاطيّ، وقَبَاطيّ. اهـ.
(2)
حديث صحيح، أخرجه أبو داود (2565)، والنسائيّ 6/ 224، وأحمد 1/ 98.
(3)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 321 - 323.
وأما فوائده، فقد تقدّمت قريبًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[431]
(168) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِي عليه السلام: "حِينَ أُسْرِيَ بِي، لَقِيتُ مُوسَى عليه السلام، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ -: مُضْطَرِبٌ، رَجِلُ الرَّأْس، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَبْعَة أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ - يَعْنِي: حَمَّامًا - قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْه، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِه، قَالَ: فَأُتِيتُ بإِنَاءَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا لَبَن وَفِي الْآخَرِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أيَّهُمَا شِئْتَ. فَاَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ، أبو عبد الله النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت هـ 24)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ المذكور قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ المذكور قبل باب.
4 -
(مَعْمَر) بن راشد البصريّ، ثم اليمنيّ المذكور قبل باب أيضًا.
5 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب الإمام المشهور المذكور قبل باب أيضًا.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب المخزوميّ المدنيّ، ثقةٌ ثبث فقية، إمام [3](94)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، مات سنة (59) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، غير شيخيه، كما سبق.
3 -
(ومنها): أن قوله: "وتقاربا في اللفظ" فيه إشارة إلى أنه إذا وقع اختلاف بين المشايخ في الألفاظ مع اتّحاد المعنى لا يضرّ عدم بيان الاختلاف بالتفصيل، بل تكفي الإشارة الإجماليّة، وإن كان الأولى الإفصاح، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَمَنْ رَوَى مَتْنًا عَنَ أشْيَاخٍ وَقَدْ
…
تَوَافَقَا مَعْنًى وَلَفْظٌ مَا اتَّحَدْ
مُقْتَصِرًا بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَلَمْ
…
يُبَيِّنِ اخْتِلَافَهُ فَلَمْ يُلَمْ
أَوْ قَالَ قَدْ تَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ أَوْ
…
وَاتَحَدَ المَعْنَى عَلَى خُلْفٍ حَكَوْا
وَإِنْ يَكُنْ لِلَفْظِهِ يُبَيِّنُ
…
مَعْ قَالَ أَوْ قَالَا فَذَاكَ أَحْسَنُ
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: الزهريّ عن سعيد.
5 -
(ومنها): أن سعيدًا أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، المجموعين في قول بعضهم:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي العِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سلَيْمَانُ خَارِجَهْ
والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أُسْرِيَ بِي)"حين" منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "لَقِيتُ"، و"أُسْرِي بي" بالبناء للمفعول، يقال: سَرَيتُ الليل، وسَرَيتُ به سَرْيًا، والاسم السِّرَايةُ: إذا قطعته بالسير، وأسريت بالألف لغة حجازيّة، ويُستعملان متعدّيين بالباء إلى مفعول، فيقال: سَرَيتُ بِزَيد وأسريتُ به
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 275.
وفي نسخة: "حين أسري به".
(لَقِيتُ مُوسَى عليه السلام بكسر القاف، يقال: لَقِيته أَلقاه، من باب تَعِبَ لُقِيًّا، والأصل على فُعُول، ولُقًى بالضمّ مع القصر، ولقَاءً بالكسر مع المدّ والقصر، وكلُّ شيء استقبل شيئًا، أو صادفه، فقد لَقِيهُ، ومنه لِقَاءُ البيت وهو استقباله
(1)
. (فَنَعَتَهُ) من باب نَفَعَ (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أي: وصف موسى عليه السلام (فَإِذَا) هي الفجائيّة (رَجُلٌ - حَسِبْتُهُ قَالَ -:) القائل: "حسبته" هو عبد الرزاق (مُضْطَرِبٌ) المضطرب: الشديد، وقيل: الخفيف اللحم، وفي رواية للبخاريّ من طريق هشام بن يوسف عن معمر بلفظ:"ضَرْبٌ"، وليس فيه قوله:"حسبته قال"، و"الضَّرْبُ" - بفتح الضاد المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحّدة، - فُسِّر بالنحيف، ولا منافاة بينهما.
وقال ابن التين رحمه الله: هذا الوصف مغاير لقوله بعد هذا: "إنه جسيم" - يعني: في الرواية التي أوردها البخاريّ بعد هذه - وقال: والذي وقع نعته بأنه جسيم إنما هو الدجال، وقال القاضي عياض رَرَحِمَهُ اللهُ: رواية من قال: "ضَرْب" أصح من رواية من قال: "مُضْطَرِبٌ"؛ لما فيها من الشك، قال: وقد وقع في الرواية الأخرى: "جَسِيم"، وهو ضِدّ الضرب، إلا أن يراد بالجسيم الزيادة في الطول.
وقال التيميّ رحمه الله: لعل بعض لفظ هذا الحديث دخل في بعض؛ لأن الجسيم إنما ورد في صفة الدجال، لا في صفة موسى. انتهى.
وأُجيب بأنه لا مانع أن يكون مع كونه خفيف اللحم جسيمًا بالنسبة لطوله، فلو كان غير طويل لاجتمع لحمه، وكان جسيمًا
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر هذه الأقوال ما نصّه: والذي يتعين المصير إليه ما جَوَّزه عياض أن المراد بالجسيم في صفة موسى عليه السلام الزيادة في الطول، ويؤيده قوله في الرواية التي بعد هذه - أي عند البخاريّ -
(3)
: "كأنه من رجال الزُّطّ"، وهم طُوَالٌ غير غِلاظ.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 558.
(2)
راجع: "الفتح" 6/ 559.
(3)
هو: ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، فقال:(3438) حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، أخبرنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: =
ووقع في حديث الإسراء: "رأيت موسى جَعْدًا طُوَالًا"، واستنكره الداوديّ، فقال: لا أراه محفوظًا؛ لأن الطويل لا يوصف بالجَعْد.
وتُعُقِّبَ بأنهما لا يتنافيان، وقال النوويّ: الجُعودة في صفة موسى عليه السلام جعودة الجسم، وهو اكتنازه، واجتماعه، لا جعودة الشعر؛ لأنه جاء أنه كان رَجِلَ الشَّعَر. انتهى.
(رَجِلُ الرَّأسِ) بفتح الراء، وكسر الجيم، وتسكن تخفيفًا: يقال: رَجِلَ الشعرُ رَجَلًا، من باب تَعِبَ، فهو رَجِلٌ بالكسر، وتُسكَّن تخفيفًا؛ أي: ليس شديد الجُعُودة، ولا شديد السُّبُوطة، بل بينهما، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: وشَعَرٌ رَجْلٌ، وكَجَبَلٍ وكَتِفٍ
(2)
: بَينَ السُّبُوطة والجُعُودة، وقد رَجِلَ، كَفَرِحَ. انتهى.
(كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ) أي: في الطول، وهو اسم قبيلة، وقد تقدّم ضبطه وسبب تسميته في الحديث الماضي، فراجعه.
(قَالَ: وَلَقِيتُ عِيسَى) عليه السلام (فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا رَبْعَةٌ) - بفتح الراء، وسكون الموحدة، ويجوز فتحها - وهو المربوع، والمراد أنه ليس بطويل جدًّا، ولا بقصير جدًّا، بل هو وَسَطٌ.
(أَحْمَرُ، كَأَنَّمَا خَرَجَ) وفي نسخة: "كأنه خرج"(مِنْ دِيمَاسٍ) - بكسر الدال المهملة، وسكون التحتانية، وآخره سين مهملة - و"الدِّيمَاس" في اللغة: السَّرَبُ
(3)
، ويُطْلَق أيضًا على الكِنّ، والحَمَّام من جملة الكِنّ، والمراد من ذلك وصفه بصفاء اللون، ونَضَارة الجسم، وكثرة ماء الوجه، حتى كأنه كان في
= قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "رأيت عيسى، وموسى، وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جَعْدٌ، عَرِيض الصدر، وأما موسى، فادم، جسيم، سَبِط، كأنه من رجال الزط". و"الزُّطّ" بضم الزاي، وتشديد الطاء المهملة: جنس من السودان، وقيل: هم نوع من الهنود، وهم طوال الأجسام مع نَحَافة فيها، قاله في "الفتح" 6/ 559.
(1)
"المصباح" 1/ 221.
(2)
"القاموس المحيط" ص 904.
(3)
"السَّرَبُ": بفتحتين: بيت في الأرض لا منفذ له، وهو الوَكْر، جمعه أَسْرابٌ، مثلُ سَبَب وأسباب، فإن كان له منفذٌ إلى موضع آخر، فهو النَّفَقُ. انتهى. "المصباح" 1/ 272.
موضع كِنٍّ، فخَرَج منه وهو عَرْقان، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنهما بعد هذا:"يقطر رأسه ماءً"، وفي لفظ:"ينطُفُ رأسه ماءً"، وهو محتملٍ لأن يراد الحقيقة، وأنه عَرِقَ حتى قَطَر الماءُ من رأسه، ويحتمل أن يكون كناية عن مزيد نَضَارة وجهه، ويؤيده أن في رواية عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند أحمد، وأبي داود:"يقطر رأسه ماءً، وإن لم يُصِبْهُ بَلَلٌ"، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما "الدِّيماس": - فبكسر الدال، وإسكان الياء، والسينُ في آخره مهملة - وفسره الراوي بالحَمّام، والمعروف عند أهل اللغة أن الديماس هو السَّرَبُ، وهو أيضًا الكِنّ.
قال الهرويّ في هذا الحديث: قال بعضهم: الديماس هنا هو الكِنّ، أي: كأنه مُخَدَّرٌ، لم يَرَ شمسًا، قال: وقال بعضهم: المراد به السَّرَب، ومنه دَمَسْتُهُ: إذا دفنته.
وقال الجوهريّ في "صحاحه": في هذا الحديث قوله: "خَرَجَ من دِيماس"، يعني: في نَضَارته، وكثرة ماء وجهه، كأنه خَرَج من كِنٍّ؛ لأنه قال في وصفه:"كأن رأسه يقطر ماءً".
وذَكَر صاحب "المطالع" الأقوال الثلاثة فيه، فقال:"الدِّيماس" قيل: هو السَّرَبُ، وقيل: الحَمَّام، هذا ما يتعلق بالديماس.
وأما "الحَمَّام": فمعروف، وهو مُذَكَّر باتفاق أهل اللغة، وقد نَقَل الأزهريّ في "تهذيب اللغة" تذكيره عن العرب، والله تعالى أعلم.
وأما وصف عيسى - صلوات الله عليه وسلامه - في هذه الرواية، وهي رواية أبي هريرة رضي الله عنه بأنه أحمر، ووصفه في رواية ابن عمر رضي الله عنهما بعدها بأنه آدَمُ، والآدم الأسمر، وقد رَوَى البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أنكر رواية أحمر، وحَلَفَ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقله - يعني: وأنه اشتبه على الراوي - فيجوز أن يُتَأَوَّلَ الأحمر على الآدم، ولا يكون المراد حقيقة الأُدْمَةِ والحمرة، بل ما قاربها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: أشار النوويّ رحمه الله بإنكار ابن عمر رضي الله عنهما
(1)
6/ 558 "كتاب أحاديث الأنبياء".
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 232.
الأحمر إلى ما أخرجه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، وسيأتي ذكره قريبًا - إن شاء الله تعالى -.
وقوله: (يَعْنِي حَمَّامًا) قال في "الفتح": هو تفسير عبد الرزاق، ولم يقع ذلك في رواية هشام بن يوسف. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْه، وَأنا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِه، قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ) وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتي ليلة أُسري به بإيلياء بقدحين
…
" (فِي أَحَدِهِمَا لَبَن، وَفي الْآخَرِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ؟ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، فَشَرِبْتُهُ، فَقَالَ) وفي نسخة: "قال" (هُدِيتَ الْفِطْرَةَ) ببناء الفعل للمفعول، و"الفطرة" مفعول ثان؛ لأنه يتعدّى بنفسه إلى مفعولين، وباللام و"إلى"، يقال: هداه الله الطريقَ، وللطريق، وإلى الطريق، أفاده المجد
(2)
؛ أي: أرشدك الله تعالى إلى الإسلام، ودلّك عليه (أَوْ) للشك من الراوي، أي: أو قال: (أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ) تقدّم الخلاف في معناها، وأن الأرجح هو الإسلام، والاستقامة على الدين الحقّ (أَمَا) بفتح الهمزة وتخفيف الميم، أداة تنبيه واستفتاح، كـ "ألا"(إِنَّكَ) بكسر الهمزة؛ لأنها في محل الاستئناف والابتداء، قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
(لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ) بفتح الغين المعجمة وفتح الواو، يقال: غَوَى غَيًّا، من باب ضرب: انهمك في الجهل، وهو خلاف الرُّشْد، والاسم الغَوَايَةُ بالفتح
(3)
.
وفي رواية البخاريّ من طريق شعيب المذكورة: "ثم أخذ اللبن، فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، ولو أخذت الخمر غَوَت أمتك".
قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله: يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم من الخمر؛ لأنه تفرّس أنها ستحرُمُ؛ لأنها كانت حينئذ مباحة، ولا مانع من افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة في أن أحدهما سيحرُم، والآخر تستمرّ إباحته.
(1)
راجع: "الفتح" 6/ 558.
(2)
راجع: "القاموس" ص 1210.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 457.
ويحتمل أن يكون نَفَرَ منها؛ لكونه لم يَعْتَدْ شربها، فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعدُ؛ حفظًا من الله تعالى له ورِعايةً، واختار اللبن؛ لكونه مألوفًا له، سهلًا طيّبًا طاهرًا، سائغًا للشاربين، سليم العاقبة، بخلاف الخمر في جميع ذلك.
وفي الحديث مشروعيّة الحمد عند حصول ما يُحمَد، ودفع ما يُحذر، فقد قال جبريل عليه السلام لما هدى الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم إلى الفطرة:"الحمد لله الذي هداك للفطرة".
وقوله: "غَوَت أمتك" يحتمل أن يكون أخذه من طريق الفال، أو تقدّم عنده علم بترتّب كلٍّ من الأمرين، وهو أظهر، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقد سبق البحث في هذا كله مستوفًى في شرح حديث الإسراء، فارجع إليه تزدد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[80/ 431](168)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3394 و 3437)، و"التفسير"(4709 و 5576)، و"الأشربة"(5603)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3130)، و (النسائيّ) في "الأشربة"(8/ 312)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(5/ 329)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 282)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(15/ 12)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(347)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(51)، و (ابن منده) في "الإيمان"(728)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 387).
وأما فوائد الحديث، فقد سبق غير مرّة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(1)
10/ 36 "كتاب الأشربة" رقم (5575 - 5578).
(81) - (بَاب فِي ذِكْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام، وَالْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)
وبالسند المتصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[432]
(169) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَة، فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أنتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَال، لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَم، قَدْ رَجَّلَهَا، فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْن، أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْن، يَطُوفُ بِالْبَيْت، فَسَألتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ إِذَا أَنَا
(1)
بِرَجُلٍ، جَعْدٍ، قَطَطٍ، أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأنهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بُكير بن عبد الرحمن التميميّ، أبو زكريّا النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ، إمام [10](ت 226)(خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
2 -
(مَالِك) بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ، إمام دار الهجرة، ثقةٌ ثبت حجة، رأس المتقنين، وكبير المتثبّتين [7](ت 179)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(نَافِعٍ) مولى ابن عمر العدويّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب العدويّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغِر في أحد، وأجيز في الخندق، مات (73)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102، والله تعالى أعلم.
(1)
وفي نسخة: "فإذا أنا".
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو أعلى ما وقع له من الأسانيد وهو (17) من رباعيات الكتاب.
2 -
(ومنها): أن فيه قوله: "قرأت على مالك
…
إلخ" فيه هذه الصيغة التزمها يحيى بن يحيى في روايته عن مالك، وذلك لأن مالكًا رحمه الله يرى القراءة مثل السماع، وينكر على من ينكر ذلك، فقد أخرج الحاكم في "علوم الحديث" من طريق مطرّف، قال: صحبت مالكًا سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ "الموطّأ" على أحد، بل يقرأون عليه، قال: وسمعته يأبى أشدّ الإباء على من يقول: لا يجزيه إلا السماع من لفظ الشيخ، ويقول: كيف لا يجزيك هذا في الحديث، ويُجزيك في القرآن، والقرآن أعظم؟
(1)
.
3 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له أبو داود، وابن ماجه.
4 -
(ومنها): أن هذا الإسناد أصح الأسانيد مطلقًا على ما نقل عن الإمام البخاريّ رحمه الله.
5 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخلها للأخذ عن مالك.
6 -
(ومنها): أن ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، وأحد المشهورين بالفتوى من الصحابة رضي الله عنهم، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي) بفتح الهمزة؛ أي: أرى نفسي، وذكره بلفظ المضارع مبالغةً في استحضار صورة الحال
(2)
. (لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ) البيتُ الحرام زاده الله تعالى تشريفًا، سُمِّي كعبةً لارتفاعه وتَرَبّعه،
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 180 "كتاب العلم"، و"فتح المغيث" للسخاويّ 2/ 169 - 170.
(2)
"الفتح" 6/ 560.
وكلُّ بيت مُرَبَّع عند العرب فهو كعبة، وقيل: سُمِّي كعبة لاستدارته وعُلُوّه، ومنه كُعْبُ الرجل، ومنه كَعَبَ ثَدْيُ المرأة من باب نَصَرَ
(1)
: إذا علا واستدار
(2)
.
وفي الرواية التالية: "أراني الليلة في المنام عند الكعبة"، فصرّح بأنه كان منامًا.
(فَرَأيتُ رَجُلًا آدَمَ) أي: أسمر (كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ) بضمّ الهمزة وسكون الدال، جمع آدم، كما قال في "الخلاصة":
فُعْلٌ لِنَحْوِ أَحْمَرٍ وَحَمْرَا
…
وَفِعْلَةٌ جَمْعًا بِنَقْلٍ يُدْرَى
والإضافة فيه من إضافة الصفة للموصوف، أي: الرجالِ الأُدْمِ.
(لَهُ لِمَّةٌ) بكسر اللام، وتشديد الميم، وجمعها لِمَمٌ كقِرْبَةٍ وقِرَبٍ، قال الجوهريّ: ويُجمع على لِمَام، يعني: بكسر اللام، وهو الشَّعْرُ المُتَدَلِّي الذي جاوز شَحْمَةَ الأذنين، فإذا بَلَغ المنكبين فهو جُمَّةٌ، أي: بضم الجيم، وتشديد الميم، ذكره النوويّ
(3)
.
وفي الرواية التالية: "تضرب لمّته بين منكبيه"، وقال في "الفتح": قوله: "لِمّته" بكسر اللام؛ أي: شعر رأسه، ويقال له: إذا جاوز شحمة الأذنين وألمّ بالمنكبين: لِمّة، وإذا جاوزت المنكبين فهي: جُمّة، وإذا قصرت عنهما فهي: وَفْرَة. انتهى
(4)
.
(كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَم، قَدْ رَجَّلَهَا) جملة في محلّ نصب على الحال، ومعنى "رَجَّلها" بتشديد الجيم: سَرّحها بِمُشْط مع ماء أو غيره.
(فَهِيَ تَقْطُرُ مَاءً) قال القاضي عياض رحمه الله: يحتمل أن يكون على ظاهره، أي: يقطر بالماء الذي رَجّلها به لقرب ترجيله، والى هذا نحا القاضي الباجيّ، قال القاضي عياض: ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارةً عن نَضَارته وحسنه، واستعارةً لجماله
(5)
.
(1)
يقال: كَعَبت المرأةُ تكعُبُ من باب قتل كِعَابةً: نتأ ثديها، فهى كاعبٌ. اهـ. "المصباح" 2/ 535.
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 233، و"القاموس المحيط" ص 121.
(3)
"شرح النوويّ" 2/ 233.
(4)
"الفتح" 6/ 560.
(5)
"إكمال المعلم" 2/ 722.
(مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمهما
(1)
. (أَوْ) للشكّ من الراوي (عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ) جمع عاتقٍ، قال أهل اللغة: هو ما بين المنكب والعُنُق، وفيه لغتان: التذكير والتأنيث، والتذكير أفصح وأشهر، قال صاحب "المحكم": ويُجْمَع العاتق على عواتق كما ذكرنا، وعلى عُتُقٍ وعُتْقٍ بضمّ التاء وسكونها.
(يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) قال القاضي عياض رحمه الله: إن كانت هذه رؤيا عين، فعيسى عليه السلام حَيٌّ لم يمت، يعني: فلا امتناع في طوافه حقيقةً، وإن كان منامًا كما نَبَّهَ عليه ابنُ عمر رضي الله عنهما في روايته، فهو مُحْتَمِلٌ لِمَا تقدم ولتأويل الرؤيا، قال القاضي: وعلى هذا يُحْمَل ما ذُكِر من طواف الدجال بالبيت، وأن ذلك رؤيا؛ إذ قد ورد في "الصحيح" أنه لا يَدْخُل مكة ولا المدينة، مع أنه لم يُذْكَر في رواية مالك طواف الدجال، وقد يقال: إن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو في زمن فتنته
(2)
.
وقال في "الفتح": وغَلِط من استدلّ بهذا الحديث على أن الدجّال يدخل مكة أو المدينة؛ إذ لا يلزم من كون النبيّ صلى الله عليه وسلم رآه في المنام بمكة أنه دخلها حقيقةً، ولو سُلّم أنه رآه في زمانه صلى الله عليه وسلم بمكة، فلا يلزم أن يدخلها بعد ذلك إذا خرج في آخر الزمان.
قال: وقد استُدِلّ على أن ابن صيّاد ليس هو الدجّال بكونه سكن المدينة، ومع ذلك، فكان عمر وجابر رضي الله عنهما يحلفان على أنه الدجّال، كما سيأتي. انتهى
(3)
.
(فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) عليه السلام، واختَلَف العلماءُ في سبب تسمية عيسى عليه السلام مَسِيحًا، قال الواحديّ: ذهب أبو عبيد والليث إلى أن أصله بالعبرانية مَشِيحا، فعربته العرب وغَيَّرت لفظه، كما قالوا: موسى، وأصله موشى أو ميشا بالعبرانية، فلما عَرّبوه غَيّروه، فعلى هذا لا اشتقاق له، قال: وذهب أكثر العلماء إلى أنه مشتقّ، وكذا قال غيره: إنه مشتقّ على قول
(1)
"الفتح" 6/ 5760.
(2)
"إكمال المعلم" 2/ 726 - 727.
(3)
"الفتح" 10/ 370 "كتاب اللباس" رقم (5903).
الجمهور، ثم اختَلَفَ هؤلاء، فحُكِي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأنه لم يَمْسَحْ ذا عَاهَةٍ إلا بَرِئَ، وقال إبراهيم وابن الأعرابيّ: المسيح الصّدّيق، وقيل: لكونه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له، وقيل: لمسح زكريا إياه، وقيل: لمسحه الأرض، أي: قطعها، وقيل: لأنه خَرَج من بطن أمه ممسوحًا بالدهن، وقيل: لأنه مُسِح بالبركة حين وُلد، وقيل: لأن الله تعالى مَسَحَهُ، أي: خلقه خَلْقًا حَسَنًا، وقيل غير ذلك والله أعلم.
(ثُمَّ إِذَا أَنَا
(1)
بِرَجُلٍ، جَعْدٍ) بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، قال الهروي:"الجَعْدُ" في صفات الرجال يكون مدحًا ويكون ذَمًّا، فإذا كان ذمًّا، فله معنيان: أحدهما: القصير المترَدِّد، والآخر: البخيل، يقال: رجل جَعْدُ اليدين، وجَعْدُ الأصابع، أي: بَخِيل، وإذا كان مدحًا، فله أيضًا معنيان: أحدهما أن يكون معناه شديد الخلق، والآخر يكون شَعْرُه جَعْدًا غير سَبِطٍ، فيكون مدحًا؛ لأن السُّبُوطة أكثرها في شعور العجم، قال القاضي: وقال غير الهَرَويّ: الجعد في صفة الدجال ذَمٌّ، وفي صفة عيسى عليه السلام مَدْحٌ. انتهى.
(قَطَطٍ) بفتح القاف والطاء، هذا هو المشهور، قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه بفتح الطاء الأولى وبكسرها، قال: وهو شديد الجُعُودة.
(أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ) رُوي بالهمز، وبغير الهمز، فمن همز معناه: ذَهَبَ ضوؤها، ومن لم يهمز معناه: ناتئة بارزة، ثم إنه جاء هنا "أعور العين اليمنى"، وجاء في رواية أخرى "أعور العين اليسرى"، وقد ذكرهما جميعًا مسلم في آخر الكتاب، وكلاهما صحيح.
قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه عن الأكثر بغير همز، وهو الذي صححه الجمهور، وجزم به الأخفش، ومعناه أنها ناتئة نتوء حبة العِنَب من بين أخواتها، قال: وضبطه بعض الشيوخ بالهمز، وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره، فقد جاء في آخر أنه ممسوح العين مطموسة، وليست جَحْراء ولا ناتئة، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها، وهو يصحح رواية الهمز.
قال الحافظ: والحديث المذكور عند أبي داود يوافقه حديثُ عبادة بن
(1)
وفي نسخة: "فإذا أنا".
الصامت، ولفظه:"رجلٌ قصيرٌ أفحج" بفاء ساكنة، ثم مهملة مفتوحة، ثم جيم من الفَحَج
(1)
، وهو تباعد ما بين الساقين أو الفخذين، وقيل: تداني صدور القدمين، مع تباعد العقبين، وقيل: هو الذي في رجله اعوجاج، وفي الحديث المذكور:"جَعْدٌ أعور مطموس العين، ليست بناتئة" - بنون ومثناة -، ولا جَحْراء - بفتح الجيم، وسكون المهملة، ممدودًا - أي: عميقة، وبتقديم الحاء، أي: ليست مُتَصَلِّبةً.
وفي حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه "ممسوح العين"، وفي حديث سمرة رضي الله عنه مثله، وكلاهما عند الطبرانيّ، ولكن في حديثهما:"أعور العين اليسرى"، ومثله لمسلم من حديث حُذيفة، وهذا بخلاف قوله في حديث الباب:"أعور العين اليمنى"، وقد اتّفقا عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، فيكون أرجح، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، لكن جمع بينهما القاضي عياض، فقال: تُصَحَّح الروايتان معًا، بأن تكون المطموسة والممسوحة هي العوراء الطافئة بالهمز، أي: التي ذهب ضوؤها، وهي العين اليمنى، كما في حديث ابن عمر، وتكون الجاحظة التي كأنها كوكب، وكأنها نُخَاعة هي الطافية بلا همز، وهي العين اليسرى، كما جاء في الرواية الأخرى، وعلى هذا فهو أعور العين اليمنى واليسرى معًا، فكل واحدة منهما عوراء، أي: معيبة، فإن الأعور من كل شيء المعيب، وكلا عيني الدجال معيبة، فإحداهما معيبة بذهاب ضوئها، حتى ذهب إدراكها، والأخرى بنتوئها. انتهى. قال النوويّ: هو في نهاية الحسن.
وقال القرطبيّ
(2)
في "المفهم": حاصل كلام القاضي أن كل واحدة من عيني الدجال عوراء، إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها، والأخرى بأصل خلقها معيبة، لكن يُبْعِد هذا التأويلَ أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الرواية بمثل ما وُصِفَت به الأخرى من العور، فتأمّله.
وأجاب صاحبه القرطبيّ
(3)
في "التذكرة" بأن الذي تأوله القاضي صحيح،
(1)
بفتحتين.
(2)
هو أبو العباس القرطبيّ، صاحب "المفهم".
(3)
هو أبو عبد الله القرطبيّ، صاحب "جامع الأحكام" في التفسير، وهو تلميذ للأول.
فإن المطموسة، وهي التي ليست ناتئة ولا جحراء، هي التي فَقَدت الإدراك، والأخرى وُصِفت بأن عليها ظُفْرة
(1)
غليظة، وهي جِلْدة تُغَشِّي العينَ، وإذا لم تُقْطَع عَمِيت العين، وعلى هذا فالعور فيهما؛ لأن الظُّفْرة مع غلظها تمنع الإدراك أيضًا، فيكون الدجال أعمى أو قريبًا منه، إلا أنه جاء ذكر الظُفْرة في العين اليمنى في حديث سفينة، وجاء في العين الشمال في حديث سمرة، فالله أعلم.
قال الحافظ: وهذا هو الذي أشار إليه شيخه بقوله: إن كل واحدة منهما جاء وصفها بمثل ما وُصِفت الأخرى، ثم قال في "التذكرة": يَحْتَمِل أن تكون كل واحدة منهما عليها ظُفْرة، فإن في حديث حُذيفة أنه ممسوح العين، عليها ظُفْرة غليظة، قال: وإذا كانت الممسوحة عليها ظُفْرة، فالتي ليست كذلك أولى، قال: وقد فُسِّرت الظفرة بأنها لَحْمَة كالعَلَقة.
ووقع في حديث أبي سعيد عند أحمد: "وعينه اليمنى عوراء جاحظةٌ، لا تخفى كأنها نُخاعة في حائط مُجَصَّص، وعينه اليسرى كأنها كوكب دُرّيّ"، فوَصَف عيثيه معًا، ووقع عند أبي يعلى من هذا الوجه:"أعور ذو حَدَقة جاحظة لا تخفى، كأنها كوكب دُرّيّ"، ولعلها أبين؛ لأن المراد بوصفها بالكوكب شدّة اتّقادها، وهذا بخلاف وصفها بالطمس، ووقع في حديث أُبَيّ بن كعب عند أحمد والطبرانيّ:"إحدى عينيه كأنها زُجاجة خضراء"، وهو يوافق وصفها بالكوكب، ووقع في حديث سفينة عند أحمد والطبرانيّ:"أعور عينه اليسرى، بعينه اليمنى ظُفْرة غليظة".
قال الحافظ رحمه الله: والذي يتحصل من مجموع الأخبار أن الصواب في "طافية" أنه بغير همز، فإنها قُيِّدت في رواية الباب بأنها اليمنى، وصَرَّح في حديث عبد الله بن مُغَفَّل وسَمُرة وأبي بكرة بأن عينه اليسرى ممسوحة، والطافية هي البارزة الممسوحة، والعجب ممن يُجَوِّز رواية الهمز في "طافية" وعدمه مع تضاد المعنى في حديث واحد، فلو كان ذلك في حديثين لسهل الأمر.
وأما "الظُّفْرة"، فجائز أن تكون في كلا عينيه؛ لأنه لا يُضَادّ الطمس ولا
(1)
في "القاموس": الظُفْرة - أي بالضمّ -: جُلَيدة تُغَشِّي العين، كالظَّفَرة محركة. اهـ.
النتوء، وتكون التي ذهب ضوؤها هي المطموسة، والمعيبةُ مع بقاء ضوئها هي البارزة، وتشبيهها بالنُّخَاعة في الحائط المجصص في غاية البلاغة، وأما تشبيهها بالزجاجة الخضراء، وبالكوكب الدريّ فلا ينافي ذلك، فإن كثيرًا ممن يَحْدُث له في عينه النتوء يبقى معه الإدراك، فيكون الدجال من هذا القبيل، والله تعالى أعلم.
وقال البيضاوي رحمه الله: الظُّفْرة لَحْمة تَنْبُت عند المَاق، وقيل: جِلْدة تخرج في العين، من الجانب الذي يلي الأنف، ولا يُمنع أن تكون في العين السالمة، بحيث لا تواري الحدَقَة بأسرها، بل تكون على حدتها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ) قال الحافظ: ولم أقف على اسم القائل معيّنًا (هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ") قيل: سُمّي بذلك؛ لأنه ممسوح العين، وقيل: لأنه أعور، والأعور يُسَمَّى مَسِيحًا، وقيل: لمسحه الأرض حين خروجه، وقيل غير ذلك.
قال القاضي رحمه الله: ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى عليه السلام أنه بفتح الميم، وكسر السين، مخففةً، واختُلِف في الدجال، فأكثرهم يقوله مثله، ولا فرق بينهما في اللفظ، ولكن عيسى عليه السلام مَسِيحُ هُدًى، والدجال مَسِيحُ ضلالة، ورواه بعض الرواة مِسِّيح، بكسر الميم والسين المشدَّدة، وقاله غير واحد كذلك إلا أنه بالخاء المعجمة، وقاله بعضهم بكسر الميم، وتخفيف السين، والله أعلم.
وأما تسميته بالدجَّال، فقال القاضي: قال ثعلب: لضربه في الأرض، وقطعه أكثر نواحيها، يقال منه: دَجَلَ، وهذا مثل أحد التأويلات في تسميته مَسِيحًا، وقيل: بل لتمويهه على الناس وتلبيسه، يقال: دجل: إذا مَوّه، وقيل: كلُّ كذّاب دجَّال، وهو من هذا المعنى أو قريب منه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 720.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[81/ 432 و 433 و 434](169)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3440 و 3441)، "اللباس"(5902)، و"التعبير"(6999 و 7026 و 7128)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1811)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 83 - 122 - 126 - 144 - 154)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(385 و 386 و 387 و 388)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(428 و 429 و 430 و 431)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(6231)، و (ابن منده) في "الإيمان"(730 و 733 و 734 و 735 و 736 و 737)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4266)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما منّ الله تعالى على النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أراه ما كان غيبًا، من صفات كلّ من عيسى صلى الله عليه وسلم والدجال اللعين.
2 -
(ومنها): أن رؤيا الأنبياء وحيٌ، فهو كاليقظة، ولذلك أقدم إبراهيم عليه السلام على ذبح ولده به، كما قال عز وجل:{قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102].
3 -
(ومنها): ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة الاهتمام بتعليم أمته ما ينفعها أو يضرّها، حتى تأخذ بأسباب كلّ منهما، وتستعدّ له قبل وقوعه.
4 -
(ومنها): تسمية كلّ من عيسى عليه السلام والدجال بالمسيح، إلا أنه عيسى مسيح البركة، والدجال مسيح اللعنة.
5 -
(ومنها): ما قال ابن العربي رحمه الله: في اختلاف صفات الدجال بما ذُكِر من النقص بيان أنه لا يَدْفَع النقص عن نفسه كيف كان، وأنه محكوم عليه في نفسه.
6 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: قد يحتجّ بهذا الحديث من يُجيز الطواف على الدابّة، وللمحمول بغير عذر؛ لما ذُكر من طواف موسى عليه السلام على مناكب رجلين، ومالك لا يُجيزه إلا لعذر، وجوابه عن طواف النبيّ صلى الله عليه وسلم -
على الراحلة أن ذلك كان لعذر، ففي كتاب أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم ورد مكة وهو يشتكي
…
وساق الحديث، وقد يقال: لأنه كان يُعلّم الناس أمور حجّهم، فركب ليظهر لجميعهم، ولا يخفى عمله عليهم، كما أراهم صلاته على المنبر؛ لئلا يخفى على جميعهم، وقوله صلى الله عليه وسلم:"لتأخذوا عني مناسككم"، أخرجه مسلم، وقال:"صلّوا كما رأيتموني أصلي"، أخرجه البخاريّ.
قال: ويُجاب عنه في قصّة عيسى عليه السلام بأنها منام، كما روي، أو محتملة للمنام، أو أنه ليس في الواجب، أو لعلّه لعذر، أو لأن شرع من قبلنا غير لازم لنا. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بصحّة الطواف راكبًا لعذر أو لغيره هو الحقّ؛ لفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، مع قوله:"لتأخذوا عني مناسككم"، وهو مذهب الشافعيّ والمشهور من مذهب أحمد، وأما حديث أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: "قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته
…
"، فضعيف؛ لأنه من رواية يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، فلا يصلح للاحتجاج به، وسيأتي تمام البحث في هذا في محلّه من"كتاب الحجّ" - إن شاء الله تعالى - والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[433]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ - يَعْنِي: ابْنَ عِيَاضٍ - عَنْ مُوسَى - وَهُوَ ابْنُ عُقْبَةَ - عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ"، قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَانِي اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَة، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى
(2)
مِنْ أُدْمِ الرِّجَال، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْه، رَجِلُ الشَّعْر، يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْن، وَهُوَ
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 728 - 729.
(2)
وفي نسخة: "كأحسن يُرَى".
بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْت، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا جَعْدًا قَطَطًا، أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْن، يَطُوفُ بِالْبَيْت، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ)
(1)
هو: محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المُسَيَّب بن أبي السائب بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم المخزوميّ المُسَيَّبيّ، أبو عبد الله المدنيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [10].
رَوَى عن أبيه، وابن عيينة، وأبي ضَمْرة أنس بن عياض، وعبد الله بن نافع الصائغ، ويزيد بن هارون، ومحمد بن فُليح بن سليمان، ومَعْن بن عيسى، وغيرهم.
ورَوَى عنه مسلم، وأبو داود، ومحمد بن إسحاق الصاغاني، وعثمان بن خُرَّزاد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي الدنيا، وغيرهم.
قال صالح بن محمد: سمعت مُصْعَبًا الزبيريّ يقول: لا أعلم في قريش أفضل من المسيبيّ، قال صالح: وهو ثقةٌ، وقال ابن قانع وإبراهيم بن إسحاق الصَّوّاف: ثقةٌ، وقال عبد الله بن الصَّقْر السُّكَّريّ: ثنا محمد بن إسحاق المسيبيّ الشيخ الصالح.
قال البخاريّ وغيره: مات سنة ست وثلاثين ومائتين، زاد البغويّ: في ربيع الأول.
تفرّد به المصنف وأبو داود، وله في هذا الكتاب تسعة أحاديث
(2)
فقط، هذا (169)، و (559): "إذا وُضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة
…
"، و (789): "إنما مَثَل صاحب القرآن كمثل الإبل
…
"، و (1259): "ينزل بذي
(1)
بفتح الياء منسوب إلى جدّه.
(2)
وفي "الزهرة": رَوَى عنه مسلم ثمانية أحاديث. انتهى. "تهذيب التهذيب" 3/ 503.
طوى
…
"، و (1260): "استقبل فُرضتي الجبل
…
"، و (1257): "أناخ بالبطحاء
…
"، و (2091): "إني كنت ألبس هذا الخاتم
…
"، و (2743): "بينما ثلاثة نفر يتمشون
…
"، و (2862): "يوم يقوم الناس لرب العالمين
…
".
2 -
(أنسُ بْنُ عِيَاضٍ) بن ضَمْرَة، وقيل: جُعْدُبة، وقيل: عبد الرحمن الليثيّ، أبو ضَمْرة المدنيّ، ثقةٌ [8].
رَوَى عن شريك بن أبي نَمِر، وأبي حازم، وربيعة، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، وسهيل بن أبي صالح، وصالح بن كيسان، وصفوان بن سليم، وابن جريج، والأوزاعيّ، وجماعة.
ورَوَى عنه ابن وهب، وبَقِيَّة بن الوليد، وماتا قبله، والشافعيّ، والقعنبيّ، ودُحَيم، وعلي ابن المديني، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وقتيبة، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن صالح، وإبراهيم بن المنذر، والحميديّ، وابن نُمير، ومحمد بن إسحاق المُسيَّبيّ، وبونس بن عبد الأعلى، والزبير بن بَكّار، وخلقٌ، وآخرهم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
قال ابن سعد: كان ثقةً كثيرَ الحديث، وقال الدُّوريّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال إسحاق بن منصور، عنه: صُويلحٌ، وقال أبو زرعة والنسائيّ: لا بأس به، وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأينا أسمح بعلمه منه، وَحَكَى ابن شاهين في "الثقات" من طريق يوسف بن عديّ، ثنا إسماعيل بن رُشيد قال: كنا عند مالك في المسجد، فأقبل أبو ضَمْرة، فأقبل مالك يُثني عليه، ويقول: فيه الخيرُ، وإنه وإنه، وقد سَمِع وكَتَب، وقال الآجريّ، عن أبي داود، عن أحمد بن صالح قال: ذُكِر أبو ضمرة عند مالك، فقال: لم أرَ عند المحدثين غيره، ولكنه أحمق، يدفع كُتُبه إلى هؤلاء العراقيين، قال أبو داود: وحدثنا محمود، ثنا مروان، وذَكَر أبا ضمرة، فقال: كانت فيه غفلة الشاميين، ووَثَّقه، ولكنه كان يَعْرِض كُتبه على الناس، قال أبو داود: وسمعت الأشجّ يقول: سألت أبا ضمرة عن شيء، فقال: كلُّ شيء في هذا البيت عَرْض، يعني: أحاديثه، وقال ابن حبان في الثقات: مَن زَعَم أنه أخو يزيد بن عياض بن جُعْدبة، فقد وَهِمَ، نَعَم هما جميعًا من بني ليث من أهل المدينة.
قال دُحَيم: سمعته يقول: وُلِدتُ سنة (104)، وقال البخاريّ، عن عبد الرحمن بن شيبة: مات سنة مائتين، وقال ابن منجويه: سنة (180)، وكذا قال ابن حبان في الثقات، وهو وَهَمٌ، والصحيح سنة مائتين؛ لأن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ممن سمع منه، ومولده بعد سنة ثمانين ومائة
(1)
.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (19) حديثًا.
3 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عَيّاش - بتحتانيّة، ومعجمة - الأسديّ، مولى آل الزبير، ويقال: مولى أم خالد بنت سعيد بن العاص، زوج الزبير، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ في المغازي [5].
أدرك ابن عمر وغيره، ورَوَى عن أم خالد، ولها صحبة، وجدّه لأمه أبي حَبِيبة مولى الزبير، وحمزة وسالم ابني عبد الله بن عمر، وسالم أبي الغيث، والأعرج، ونافع بن جبير بن مُطعم، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، ونافع مولى ابن عمر، وكريب، وعكرمة، وغيرهم.
ورَوى عنه ابن أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وبكير بن الأشجّ وهو من أقرانه، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، ومالك، ومحمد وإسماعيل ابنا جعفر، ووهيب بن خالد، والسفيانان، وسليمان بن بلال، وابن جريج، والدَّراورديّ، وجماعة.
قال ابن سعد: كان ثقةٌ ثبتًا كثير الحديث. وقال في موضع آخر: كان ثقة قليل الحديث. وقال إبراهيم بن المنذر عن مَعْن بن عيسى: كان مالك يقول: عليكم بمغازي موسى بن عقبة، فإنه ثقة. وفي رواية أخرى عنه: عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبة، فإنها أصح المغازي. وفي رواية: فإنه رجل ثقةٌ، طلبها على كِبَر السن، ولم يُكَثِّر كما كَثَّر غيره. وفي رواية: من كان في كتاب موسى قد شَهِد بدرًا فقد شهدها، ومن لم يكن فيه فلم يشهدها. وقال إبراهيم بن المنذر أيضًا عن محمد بن طلحة بن الطويل قال: ولم يكن بالمدينة أعلم بالمغازي منه، قال: كان شُرَحبيل أبو سَعْد عالمًا بالمغازي، فاتهموه أنه يُدخِل فيهم من لم يَشهَد بدرًا، وفيمن قُتلْ يوم أحد من لم يكن منهم، وكان قد
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 3/ 349 - 353، و"تهذيب التهذيب" 1/ 190.
احتاج فسقط عند الناس، فسَمِع بذلك موسى بن عقبة، فقال: وإن الناس قد اجترأوا على هذا، فَدَبّ على كِبَر السنّ، وقَيَّد من شهد بدرًا وأُحُدًا، ومن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وكَتَب ذلك. وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: كان ابن معين يقول: كتاب موسى بن عقبة عن الزهري من أصح هذه الكتب. وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ثقة، وكذا قال الدُّوري وغير واحد عن ابن معين، وكذا قال العجلي والنسائي، وقال المفضل الغَلّابي عن ابن معين: ثقة، كانوا يقولون: في روايته عن نافع شيء. قال: وسمعت ابن معين يضعفه بعض شيء. وقال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ليس موسى بن عقبة في نافع مثل مالك وعبيد الله بن عمر. وقال الواقدي: كان لإبراهيم، وموسى، ومحمد، بني عقبة حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا كلهم فقهاء ومحدثين، وكان موسى يُفتي. وقال مصعب الزبيري: كان لهم هيئة وعلم. وقال الدوري عن ابن معين: أقدمهم محمد، ثم إبراهيم، ثم موسى، وكان موسى أكثرهم حديثًا. وقال أبو حاتم: ثقة صالح. وروى ابن أبي خيثمة عن موسى أنه قال: لم أُدرك أحدًا يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم إلا أم خالد. قال: وقال مَخْلَد بن الحسين: سمعت موسى بن عقبة، وقيل له: رأيت أحدًا من الصحابة؟ قال: حججت وابنَ عمر بمكة، عام حج نَجْدَة الحَرُوريّ، ورأيت سهل بن سعد متخطيًا عليّ، فتوكأ على المنبر فسارّ الإمامَ بشيء. وقال إبراهيم بن طهمان: ثنا موسى بن عقبة، وكان من الثقات.
وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة إحدى، وقيل: سنة خمس. وقال عمرو بن عليّ عن يحيى القطان: مات قبل أن نَدْخُل المدينة بسنة، سنةَ إحدى وأربعين ومائة، وفيها أرّخه جماعة. وقال نوح بن حبيب: مات سنة اثنتين.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (57) حديثًا.
والباقيان تقدّما في السند الماضي.
وقوله: (بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ) بفتح الظاء المعجمة، وسكون الهاء، وفتح النون، بلفظ التثنية؛ أي: جالسًا في وسط الناس، والمراد أنه جلس بينهم مستظهِرًا لا مستخفيًا، وزيدت فيه الألف والنون تأكيدًا، أو معناه أن ظهرًا منهم
قدّامه وظهرًا خلفه، وأنهم أحفّوا به من جانبيه، فهذا أصله، ثم كثُر، حتى استُعمل في الإقامة بين قوم مطلقًا، ولهذا زعم بعضهم أن لفظة "ظهراني" في هذا الموضع زائدة
(1)
.
وقوله: (إِنَّ اللهَ تبارك وتعالى لَيْسَ بِأَعْوَرَ
…
إلخ) معناه: أن الله تعالى مُنَزَّه عن سِمَات الحَدَث، وعن جميع النقائص، وأن الدجّال مخلوق من خلق الله تعالى، ناقص الصورة، فينبغي لكم أن تعلموا هذا، وتُعَلِّموه الناس؛ لئلا يَغْتَرَّ بالدجال مَن يَرَى تخييلاته وما معه من الفتنة
(2)
.
وقوله: (أَعْوَرُ عَيْنِ الْيُمْنَى) قال النوويّ رحمه الله: هو عند النحويين من الكوفيين على ظاهره، من الإضافة، وعند البصريين يُقَدَّر فيه محذوف كما يُقَدَّر في نظائره، فالتقدير: أعور عين صفحة وجهه اليمنى. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إنما منع البصريّون من هذه الإضافة؛ لأنه يلزم فيها إضافة الشيء إلى نفسه؛ لأن "اليُمنى" صفة لـ "عين"، والصفة والموصوف كشيء واحد، وفائدة الإضافة تعريف المضاف بالمضاف إليه أو تخصيصه، ولا يتعرّف الشيء ولا يتخصّص بنفسه، وأما ما ظاهره إضافة الموصوف إلى صفته، كـ "حِبّة الحَمقاء"، و"صلاة الأولى"، وكهذا المثال، فيؤول على حذف مضاف إليه موصوف بتلك الصفة، فيقال: حِبة البَقلة الحمقاء، وصلاة الساعة الأولى، وكذا عين الجهة اليمنى، كما مرّ آنفًا، وأجازه الكوفيون دون تقدير، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
وقوله: (كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنبَةٌ طَافِيَةٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: بغير همز، وعليه أكثر الروايات، وهكذا قال الأخفش، ومعناه: أنها ممتلئة، قد طَفَت وبَرَزَت، وقد رُوي بالهمز؛ أي: قد ذهب ضوؤها، وتقبّضت، ويؤيّد هذه الرواية قوله في أخرى: إنه ممسوح العين، وإنها ليست جحْراء ولا ناتئة، وإنها مطموسة،
(1)
"الفتح" 6/ 560 "كتاب الأنبياء" رقم (3447).
(2)
"شرح النوويّ" 2/ 236.
وهذه صفة حبة العِنَب إذا طفت وزال ماؤها، وبهذا فسّره عيسى بن دينار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (رَجِلُ الشَّعْرِ) بفتح الراء وكسر الجيم؛ أي: قد سَرّح شعره ودهنه.
وقوله: (يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً) قال القرطبيّ: يعني أنه قريب عهد بغسل، وكأنه اغتسل للطواف
(2)
.
وقال في "الفتح": يحتمل أن يريد أنه يقطر من الماء الذي سرح به شعره، أو أن المراد الاستنارة، وكنى بذلك عن مزيد النظافة والنضارة
(3)
.
وقوله: (جَعْدًا) بفح الجيم، وسكون العين المهملة: ضدّ السّبِط، يقال: جَعِد الشعرُ - بضمّ العين وكسرها - جُعُودةً: إذا كان فيه التواءٌ وتقبُّضٌ، فهو جَعْدٌ، وذلك خلاف المسترسِل، قاله الفيّوميّ
(4)
.
وقوله: (قَطَطًا) بفتح القاف، والطاء المهملة، بعدها مثلها، هذا هو المشهور، وقد تكسر الطاء الأولى، والمراد به شدّة جعودة الشعر، ويُطلق في وصف الرجل، ويُراد به الذمّ، يقال: جَعْدُ اليدين، وجعد الأصابع؛ أي: بخيل، ويُطلق على القصير أيضًا، وتقدّم تمام البحث فيه.
وقوله: (كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطنا "رأيتَ" بضمّ التاء وفتحها، وهما ظاهران، وفي الرواية الآتية:"أقرب الناس به شبَهًا ابن قطن"، وفي رواية البخاريّ:"وأقرب الناس به شبَهًا ابن قطن"، قال الزهريّ: رجل من خزاعة، هلك في الجاهليّة. انتهى.
و"ابن قَطَن" بفتح القاف، والطاء المهملة، قال في "الفتح": اسمه: عبد العزّى بن قَطَن بن عمرو بن جُندب بن سعيد بن عائد بن مالك بن المصطَلِق، وأمه هالة بنت خُويلد، أفاده الدمياطيّ، قال: وقال ذلك أيضًا عن أكثم بن أبي الجون، وأنه قال: يا رسول الله، هل يضرّني شبهه؟ قال:"لا، أنت مسلم وهو كافر"، حكاه عن ابن سعد، والمعروف في الذي شبّه به صلى الله عليه وسلم
(1)
"المفهم" 1/ 399.
(2)
"المفهم" 1/ 400.
(3)
"الفتح" 6/ 560.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 102.
أكثم هو عمرو بن لُحيّ جدّ خُزاعة لا الدجّال، كذلك أخرجه أحمد وغيره
(1)
.
وقوله: (يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) فيه دلالة على أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدجّال لا يدخل المدينة ولا مكّة" أي: في زمن خروجه، ولم يُرد بذلك نفي دخوله في الزمن الماضي. انتهى
(2)
.
وتمام شرح المسائل المتعلّقة به قد سبقت في الذي قبله، فراجعها تستفد، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[434]
(
…
) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ رَجُلًا آدَمَ، سَبِطَ الرَّأْس، وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى رَجُلَيْن، يَسْكُبُ رَأْسُهُ، أَوْ يَقْطُرُ رَأسُهُ فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، أَوِ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، لَا نَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَ، وَرَأَيْتُ
(3)
وَرَاءَهُ رَجُلًا أَحْمَرَ، جَعْدَ الرَّأْس، أَعْوَرَ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ ابْنُ قَطَنٍ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُوهُ) هو: عبد الله بن نُمير الهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السنّة، من كبار [9](ت 199)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(حَنْظَلَةُ) بن أبي سفيان، اسم أبيه الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أميّة الجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.
(1)
"الفتح" 6/ 563.
(2)
"الفتح" 6/ 563.
(3)
وفي نسخة: "قال: ورأيتُ".
4 -
(سَالِم) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب القُرشيّ العَدويّ، أبو عمر، أو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، كان يُشبّه بأبيه في الهدي والسَّصْت، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
وقوله: (سَبِطَ الرَّأْسِ) بفتح الباء، وكسرها، ويجوز إسكانها مع كسر السين وفتحها تخفيفًا: وهو الشعر المسترسل، ليس فيه تكسّر، وتقدّم الكلام فيه مستوفًى.
وقوله: (يَسْكُبُ رَأْسُهُ) بضم الكاف، يقال: سَكَبَ الماءُ سَكْبًا، وسُكُوبًا: انصبّ، وسكبه غيرُه، يتعدّى ولا يتعدّى، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (أَوْ يَقْطُرُ رَأْسُهُ)"أو" فيه للشكّ من الراوي، و"يقطر" من باب نصر، بمعنى يسكب.
وقوله: (وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلًا) استُشْكِل كونُ الدجال يطوف بالبيت، وكونه يتلو عيسى ابن مريم عليه السلام، وقد ثبت أنه إذا رآه يَذُوب.
وأُجيب عن ذلك بأن الرؤيا المذكورة كانت في المنام، ورؤيا الأنبياء وإن كانت وحيًا لكن فيها ما يقبل التعبير.
وقال عياض: لا إشكال في طواف عيسى بالبيت، وأما الدجال فلم يَقَع في رواية مالك أنه طاف، وهي أثبت ممن روى طوافه.
وتُعُقِّب بأن الترجيح مع إمكان الجمع مردود؛ لأن سكوت مالك عن نافع، عن ذكر الطواف لا يَرُدّ رواية الزهريّ عن سالم، وسواء ثبت أنه طاف أم لم يطف، فرؤيته إياه بمكة مشكلة، مع ثبوت أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، وقد انفصل عنه القاضي عياض بأن منعه من دخولها إنما هو عند خروجه في آخر الزمان.
قال الحافظ رحمه الله: ويؤيّده ما دار بين أبي سعيد، وبين ابن صيّاد فيما أخرجه مسلم، وأن ابن صيّاد قال له: ألم يقل النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يدخل مكة ولا المدينة"؟ وقد خرجت من المدينة أريد مكة، فتأوّله من جزم بأن ابن صيّاد هو الدجّال على أن المنع إنما هو حيث يخرج، وكذا الجواب عن مشيه وراء عيسى عليه السلام. انتهى
(2)
.
(1)
"المصباح" 1/ 281.
(2)
"الفتح" 13/ 106 "كتاب الفتن" رقم (7130 - 7131).
وتمام شرح الحديث، والمسائل المتعلّقة به تقدّمت قبل حديث، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[435]
(171) - (حَدَّثَنى
(1)
حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثنا
(2)
ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِي
(3)
أَطُوفُ بالْكَعْبَة، فَإِذَا رَجُل آدَمُ، سَبِطُ الشَّعْر، بَيْنَ رَجُلَيْن، يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ مَرْيَمَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ
(4)
، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ، جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْس، أَعْوَرُ الْعَيْن، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنبةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الدَّجَّالُ، أقرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ").
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الحديث وقع في معظم النسخ بعد الحديث التالي، والصواب أن محلّه هنا، كما لا يخفى على من نظر فيه، وهو الذي وقع في شرح الأبيّ والسنوسيّ، فتنبّه.
رجال هذا الإسناد: ستة، تقدّموا في الباب الماضي، وسالم وأبوه ذُكرا في الحديث الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أن نصفه الأول مسلسل بالمصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً) بضمّ الطاء، وفتحها، أي: يقطُرُ وَيَسيل
(5)
، وقال المجد رحمه الله: نَطَفَ الماء، كنَصَرَ، وضَرَب: نَطْفًا، وتَنْطَافًا بفتحهما، ونِطَافَانًا، ونِطَافَةً بالكسر: سال. انتهى
(6)
.
(1)
وفي نسخة: "حدّثنا".
(2)
وفي نسخة: "أخبرنا".
(3)
وفي نسخة: "إذ رأيتني".
(4)
وفي نسخة: "التَفَتُّ".
(5)
" شرح النوويّ" 2/ 227.
(6)
"القاموس المحيط" ص 771.
وقوله: (أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً)"أو" فيه للشكّ من الراوي، و"يُهَرَاق" بضمّ الياء، وفتح الهاء؛ أي: ينصبّ
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: هَرَاقَ الماءَ يُهَرِيقه بفتح الهاء، هِرَاقَةً بالكسر، وأَهْرَقَهُ يُهْرِيقهُ إِهْرَاقًا، وأَهْرَاقَهُ يُهْرِيقه إهْرِيَاقًا، فهو مَهَرِيق، وذاكَ مُهَرَاقٌ، ومُهْرَاقٌ: صَبَّهُ، وأصله: أراقه يُرِيقه إِراقَةً، وأصل أراقَ: أَرْيَقَ، وأصلُ: يُرِيقُ يُرْيِقُ، وأصلُ يُرْيِقُ: يُؤَريقُ، وقالوا: أُهَرِيقُهُ، ولم يقولوا: أُأَرِيقه؛ لاستثقال الهمزتين، وزِنَةُ يُهَرِيقُ بفتح الهاء يُهَفْعِلُ، ومُهَرَاقٌ بالتحريك مُهَفْعَل، وأما يُهْرِيق ومُهْرَاقٌ بتسكين هائهما، فلا يُمكن أن يُنطق بهما؛ لأن الهاء والفاء جميعًا ساكنان. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: راقَ الماءُ والدمُ وغيره ريقًا، من باب باع: انْصَبَّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أراقه صاحبه، والفاعلُ مُريقٌ، والمفعولُ مُرَاقٌ، وتُبْدَل الهمزة هاءً، فيقال: هراقه، والأصلُ هَرْيَقَهُ وِزانُ دَحْرَجَهُ، ولهذا تُفتَح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَرِيقُهُ، كما تُفْتَح الدال من يُدَحْرِجه، وتُفتَح من الفاعل والمفعول أيضًا فيقال: مُهَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:
وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ
…
فَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ
والأمر: هَرِقْ ماءَكَ، والأصلُ: هَرْيِقْ وِزانُ دَحْرِجْ، وقد يُجْمَع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ ساكنُ الهاءِ تشبيهًا له بأَسْطَاعَ يُسْطِيعُ، كأنّ الهمزة زِيدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يَصِير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا، و"دَعَا بِذَنُوب فأُهْرِقَ" ساكنُ الهاء، وفي "التهذيب": من قال: أَهْرَقْتُ فهو خطأ في القياس، ومنهم من يَجْعَل الهاء كأنها أصلٌ، ويقول: هرقته هَرْقًا، من باب نَفَعَ، وفي الحديث:"إن امرأة كانت لهَرَاق الدماءَ"، بالبناء للمفعول، و"الدماءَ" نُصِبَ على التمييز، ويجوز الرفع على إسناد الفعل إليها، والأصلُ تُهْرَاقُ دماؤُها، لكن جُعِلت الألف واللام بدلًا عن الإضافة،
(1)
"شرح النوويّ" 2/ 227.
(2)
"القاموس المحيط" ص 836 - 837.
كقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [الآية [البقرة: 235]؛ أي: نِكَاحِها. انتهى
(1)
.
وقوله: (ثم ذهبتُ ألْتَفِتُ) وفي بعض النسخ: "التَفَتُّ" بصيغة الماضي.
وقوله: (جَسِيم) أي: سمين عظيم الجسم، وأما ما جاء في وصف موسى عليه السلام بأنه جسيم سبط، فإنه يرجع إلى الطول، كما قال الشاعر [من الطويل]:
وَجَاءَتْ بِهِ سَبْطَ البَنَانِ كَأَنَّمَا
…
عِمَامَتُهُ بَيْنَ الرِّجَالِ لِوَاءُ
(2)
ولا يُفسّر هذا بسمين؛ لأنه يخالف وصفه في الحديث الآخر بأنه ضَرْب من الرجال.
وتمام شرح الحديث والمسائل المتعلّقة به تقدّمت قبل ثلاثة أحاديث، فراجعها تزدد علمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[436]
(170) - (حَدَّثَنَا
(3)
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبيِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَمَّا كَذَّبَتْني قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الْحِجْر، فَجَلَا اللهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِس، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِه، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة، وكلّهم تقدّموا قريبًا، فأما قُتيبة بن سعيد، والليث بن سعد، والزهريّ، فتقدّموا في الباب الماضي، وأما عُقَيل بن خالد، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، فتقدّموا قبل باب، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 248.
(2)
راجع: "شرح الأبيّ" 1/ 324.
(3)
وفي نسخة: "حدّثني".
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما، وفي رواية البخاريّ:"سمعت جابر بن عبد الله"، فقال في "الفتح": كذا في رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، وخالفه عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، فقال: عن أبي هريرة، أخرجه مسلم - يعني: الرواية التالية - وهو محمول على أن لأبي سلمة فيه شيخين؛ لأن في رواية عبد الله بن الفضل زيادةً ليست في رواية الزهريّ. انتهى
(1)
.
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ) وفي نسخة، وهي رواية للبخاريّ:"لَمّا كذّبني قريش"، وكلاهما جائز؛ فالتأنيث باعتبار "قريش" اسم قبيلة، والتذكير باعتباره اسم حيّ.
و"قُرَيشٌ": هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ، وقيل: قُريشٌ هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش، نقله السُّهيليّ وغيره، والثاني هو الأصح، والأول قول الجمهور، وإلى هذا أشار الحافظ أبو الفضل العراقيّ رحمه الله في ألفيّة السيرة حيث قال:
أَمَّا قُرَيْشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ
…
جِمَاعُهَا وَالأَكْثَرُون النَّضْرُ
قال الفيّوميّ رحمه الله: وأصل القَرْش: الجمع، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سُمّيت قُريش، وقيل: قريشٌ دابّة تسكُن البحر، وبه سُمّي الرجل، قال الشاعر [من الخفيف]:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ البَحْـ
…
ـرَ بِهَا سُمّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
ويُنسَبُ إلى قُريش بحذف الياء، فيقال: قُرَشِيٌّ، وربّما نُسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قُرَيْشِيٌ. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: سُمّوا قُريشًا؛ لتجمّعهم إلى الحرم، أو لأنهم كانوا يتقرّشون البياعات فيشترونها، أو لأن النضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يومًا، فقالوا: تقرّش، أو لأنه جاء إلى قومه، فقالوا: كأنه جَمَلٌ قَرِيشٌ؛ أي: شديدٌ،
(1)
"الفتح" 7/ 239 "كتاب المناقب" رقم (3886).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 497.
أو لأن قُصَيًّا كان يقال له: القُرشيّ، أو لأنهم كانوا يُفتّشون الحَاجَ
(1)
فيسدّون خلّتها، أو سُمّيت بمصغر القِرْش، وهي دابّة بحريّة، تخافها دوابّ البحر كلّها، أو سُمّيت بقُريش بن مخلد بن غالب بن فِهْر، وكان صاحب عِيرهم، فكانوا يقولون: قَدِمت عِير قُريش، وخرجت عِيرُ قريش، والنسبة إليها قُرَشيّ، وقُرَيشيّ انتهى
(2)
.
وقوله: "لَمّا كذّبتني قريش
…
إلخ" قد وقع بيان ذلك في طرق أخرى، فرَوَى البيهقيّ في "لدلائل" من طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، قال: "افْتَتَنَ ناس كثير - يعني: عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر، فذكروا له، فقال: أشهد أنه صادق، فقالوا: وتُصَدِّقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة، ثم رَجَع إلى مكة؟ قال: نعم إني أُصدِّقه بأبعد من ذلك، أُصَدِّقه بخبر السماء، قال: فسُمِّي بذلك "الصدِّيقَ"، قال: سمعت جابرًا يقول
…
"، فذكر الحديث.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد والبزَّار، بإسناد حسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمّا كان ليلة أُسري بي، وأصبحتُ بمكة، مَرّ بي عدوُّ الله أبو جهل، فقال: هل كان من شيء؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحتَ بين أظهرنا؟ قال: نعم، قال: فإن دعوتُ قومك أتُحَدِّثهم بذلك؟ قال: نعم، قال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ، قال: فانفَضّت إليه المجالس، حتى جاؤوا إليهما، فقال: حَدِّث قومك بما حدثتني، فحدَّثهم، قال: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا، قالوا: وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟
…
" الحديث.
وأخرجه النسائيّ من طريق زُرَارة بن أوفى، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مُطَوَّلًا، ولفظه: "لَمّا كان ليلة أُسري بي، ثم أصبحتُ بمكة قطعت بأمري، وعَرَفت أن الناس مُكَذِّبِيَّ، فقعدت معتزلًا حزينًا، فمرّ بي عدوّ الله أبو جهل، فجاء حتى جَلَس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ قال: نعم، قال: ما هو؟
(1)
"الحاج" بتخفيف الجيم جمع حاجة؛ أي فمن كان محتاجًا أغنوه. اهـ. "التاج".
(2)
"القاموس المحيط" ص 541.
قال: إني أُسري بي الليلةَ، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، قال: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم، قال: فلم يرَ أن يُكَذِّبه مخافة أن يَجْحَد ما قال إن دعا قومه، قال: إن دعوتُ قومك لك تحدثهم؟ قال: نعم، قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤيّ هَلُمّ، قال: فانفضت إليه المجالس، فجاؤوا حتى جَلَسُوا إليهما، قال: حَدِّثْ قومك بما حدثتني، فحدثهم، قال: فمِن مُصَفِّق ومن واضع يده على رأسه متعجبًا، وفي القوم مَن سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، قال: فهل تستطيع أن تَنْعَت لنا المسجد؟ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: فذهبت أَنْعَت لهم، قال: فما زِلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت، فجيء بالمسجد حتى وُضع فنعتّه، وأنا أنظر إليه، قال: فقال القوم: أما النعت فقد أصاب".
وأخرج قاسم بن ثابت في "الدلائل"، فقال:"جاء ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أَتى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟ قال أبو بكر: أوَ قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لقد صدق"
(1)
.
[تنبيه]: وقع في غير هذه الرواية بيان ما رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، فمن ذلك ما وقع عند النسائيّ، من رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أُتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل
…
" الحديث، وفيه: "فرَكِبتُ ومعي جبريل، فَسِرتُ، فقال: انزل فصَلّ، ففعلتُ، فقال: أتدري أين صليت؟ صليتَ بطيبة وإليها المُهاجَرُ"، يعني بفتح الجيم.
ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزَّار، والطبرانيّ أنه "أول ما أُسري به مَرَّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزِل فصَلّ، فنزل فصلى، فقال: صليت بيثرب"، ثم قال في روايته:"ثم قال: انزل، فصلِّ مثل الأول، قال: صليتَ بطور سيناء حيث كَلَّم الله موسى، ثم قال: انزل، فذكر مثله، قال: صليتَ ببيت لَحْم، حيث وُلد عيسى".
وقال في رواية شداد بعد قوله: "يَثْرِب": "ثم مَرَّ بأرض بيضاء، فقال:
(1)
"الفتح" 8/ 244 "كتاب التفسير" تفسير سورة الإسراء رقم (4708 - 4710).
انزل فصلّ، فقال: صليتَ بمدين"، وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني، فصلى في المسجد، وفيه أنه مَرَّ في رجوعه بعِير لقريش، فسلَّم عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمد، وفيه: أنه أعلمهم بذلك، وأن عِيرهم تَقْدَم في يوم كذا، فَقَدِمَت الظهرَ، يَقْدُمُهم الجمل الذي وَصَفه.
وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك: "ثم دخلت بيت المقدس، فجُمِع لي الأنبياء، فقَدَّمني جبريل حتى أممتهم".
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة، عن أنس رضي الله عنه عند البيهقيّ في "الدلائل": أنه مَرَّ بشيء يدعوه، متنحيًا عن الطريق، فقال له جبريل: سِرْ، وأنه مَرّ على عجوز، فقال: ما هذه؟ فقال: لا، سِرْ، وأنه مَرّ بجماعة، فسلموا، فقال له جبريل: اردُد عليهم، وفي آخره: فقال له: الذي دعاك إبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلّموا إبراهيم وموسى وعيسى.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطبرانيّ والبزَّار: أنه "مَرّ بقوم يزرعون ويحصدون، كلما حصدوا عاد كما كان، قال جبريل: هؤلاء المجاهدون، ومرّ بقوم تُرْضَخ رؤوسهم بالصخر، كلما رُضِخت عادت، قال: هؤلاء الذين تثاقل رؤوسهم عن الصلاة، ومَرّ بقوم على عوراتهم رِقَاع يَسرَحون كالأنعام، قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الزكاة، ومرّ بقوم يأكلون لحمًا نيئًا خبيثًا ويدعون لحمًا نضيجًا طيبًا، قال: هؤلاء الزُّناة، ومرّ برجل جَمَع حُزْمة حطب لا يستطيع حملها، ثم هو يضمّ إليها غيرها، قال: هذا الذي عنده الأمانة لا يؤديها، وهو يطلب أخرى، ومرّ بقوم تُقرض ألسنتهم وشفاههم، كلما قُرِضت عادت، قال: هؤلاء خطباء الفتنة، ومرّ بثور عظيم، يَخرُج من ثُقْب صغير، يريد أن يرجع فلا يستطيع، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة، فيندم فيريد أن يردها فلا يستطيع".
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار والحاكم: أنه "صلى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أُتي هناك بأرواح الأنبياء، فأَثنوا على الله، وفيه قول إبراهيم: لقد فَضَلكم محمد".
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم، عن أنس رضي الله عنه:"ثم بُعث له آدم فمن دونه، فأمَّهم تلك الليلة"، أخرجه الطبرانيّ.
وعند مسلم من رواية عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"ثم حانت الصلاة فأممتهم".
وفي حديث أبي أمامة رضي الله عنه عند الطبراني في "الأوسط": "ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا حتى قدَّموا محمدًا"، وفيه:"ثم مرَّ بقوم بطونهم أمثال البيوت، كلما نهض أحدهم خَرَّ، وإن جبريل قال له: هم آكلو الربا، وأنه مر بقوم مَشافرهم كالابل، يلتقمون حجرًا، فيخرج من أسافلهم، وإن جبريل قال له: هؤلاء أكلة أموال اليتامى"
(1)
.
(قُمْتُ فِي الْحِجْرِ) بكسر الحاء المهملة، وسكون الجيم: قال الأزهريّ: هو حَطِيم مكة، كأنه حُجْرة مما يَلي المَثْعَب من البيت، وقال الجوهريّ: الحِجْرُ حِجْر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المُدَار بالبيت جانب الشمال
(2)
.
(فَجَلَا اللهُ لِي) وفي نسخة: "فَجَلَّى الله"، قال النوويّ رحمه الله: رُوي بتشديد اللام، وتخفيفها، وهما ظاهران، ومعناه: كَشَف وأظهر. انتهى
(3)
.
وقيل: معناه: كَشَفَ الحجب بيني وبينه حتى رأيته، والأصحّ أنه رُفع البيت حتى نظر إليه ونعته لهم، كما دلّت عليه رواية عبد الله بن الفضل، عن أم سلمة التالية: قال: "فسألوني عن أشياء لم أُثبتها، فكُرِبتُ كَرْبًا لم أُكْرَب مثله قط، فرَفَع الله لي بيت المقدس أنظر إليه، ما يسألوني عن شيء إلا نبأتهم به"، وفي حديث ابن عباس:"فجيء بالمسجد، وأنا أنظر إليه حتى وُضِع عند دار عَقِيل، فَنَعَتُّهُ وأنا أنظر إليه".
وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أُحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان عليه السلام، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه حتى أُحضر إليه، وما ذلك على الله بعزيز.
ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد: "فَخُيِّل لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته"، قال الحافظ رحمه الله: فإن لم يكن مُغَيَّرًا من قوله: "فجلى"، وكان ثابتًا احتَمَلَ أن يكون المراد أنه مُثِّل قريبًا منه كما تقدم نظيره
(1)
"الفتح" 7/ 239 - 240.
(2)
"لسان العرب" 4/ 170.
(3)
" شرح النوويّ" 2/ 227.
في حديث: "أُريت الجنة والنار"، وتأوّل قوله:"جيء بالمسجد"؛ أي: جيء بمثاله. والله أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: الأقرب ما دلّ عليه ظاهر ما في الصحيح من أنه رُفع له بيت المقدس، فرآه عَلَنًا، ووصفه لهم مشاهدًا له، والله تعالى أعلم.
قال: ووقع في حديث شداد بن أوس عند البزَّار والطبرانيّ ما يؤيد الاحتمال الأوّل، ففيه: "ثم مررت بعير لقريش
…
" فذكر القصة: "ثم أَتيت أصحابي بمكة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر، فقال: أين كنت الليلة؟ فقال: إني أَتيت بيت المقدس، فقال: إنه مسيرة شهر، فصِفْه لي، قال: ففُتِح لي شراكٌ، كأني أنظر إليه، لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه".
وفي حديث أم هانئ أيضًا: "أنهم قالوا له: كم للمسجد بابًا؟ قال: ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إليه، وأعدّها بابًا بابًا"، وفيه عند أبي يعلى: إن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عَدِيّ والد جُبير بن مطعم، وفيه من الزيادة: فقال رجل من القوم: "هل مررت بإبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: نعم والله قد وجدتهم قد أضلّوا بعيرًا لهم، فهم في طلبه، ومررت بابل بني فلان انكسرت لهم ناقة حمراء، قالوا: فأخبرنا عن عِدّتها وما فيها من الرُّعاة، قال: كنت عن عدتها مشغولًا، فقام، فأتى الإبل فعَدَّها وعَلِم ما فيها من الرِّعاء، ثم أتى قريشًا، فقال: هي كذا وكذا، وفيها من الرِّعاء فلان وفلان، فكان كما قال".
(بَيْتَ الْمَقْدِسِ) تقدّم بيان لغاته، واشتقاقه قريبًا (فَطَفِقْتُ) بكسر الفاء، وفتحها، يقال: طَفَقَ يفعل كذا، كفرِحَ، وضَرَبَ طَفْقًا، وطُفُوقًا: إذا واصل الفعل، خاصّ بالإثبات، لا يقال: ما طَفَق، وطَفِقَ بمراده: ظَفِرَ، قاله المجد
(1)
، وهي من أفعال الشروع التي تنسخ المبتدأ والخبر، وخبرها يكون فعلًا مضارعًا، ولا يُقرن بـ "أن"، كما قال في "الخلاصة":
.....................
…
وَتَرْكُ "أَنْ" مَعْ ذِي الشُّرُوعِ وَجَبَا
كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ
…
كَذَا جَعَلْتُ وَأَخْذْتُ وَعَلِقْ
(1)
"القاموس" ص 814.
(أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ) أي: علاماته، وقوله:(وَأنا أَنْظُرُ إِلَيْهِ) جملة اسميّة كبرى في ضمنها صغرى في محلّ نصب على الحال من الفاعل، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[81/ 436](170)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3886)، و"التفسير"(4710)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3132)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(5/ 329)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 377 - 378)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(55)، و (ابن منده) في "الإيمان"(738)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(3762)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(340) و (352)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(432)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(2/ 359)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما أكرم الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإسراء.
2 -
(ومنها): بيان معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر قريشًا بما سألته من نعت بيت المقدس، وما وقع له في الطريق من رؤيته للعير، وما وقع فيها.
3 -
(ومنها): بيان فضل الله صلى الله عليه وسلم على حبيبه عليه السلام حيث يسارع إلى إزالة ما يقع له من الكروب، فإن قريشًا لما سألته عن وصف بيت المقدس لم يكن له علم تفصيل لذلك حيث كان ليلًا، وفي سُويعة قليلة، فجلّى الله تعالى له ذلك البيت، حتى شاهده، وأخبرهم بأوصافه المفضلة، فضلًا من الله ونعمة، كما قال عز وجل:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].
4 -
(ومنها): ما قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء إرادة إظهار الحقّ لمعاندة مَن يريد إخماده؛ لأنه لو عُرِج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلًا إلى البيان والإيضاح، فلما ذَكَر أنه أُسري به إلى بيت المقدس، سألوه
عن تعريفات جزئيات من بيت المقدس، كانوا رأوها، وعَلِموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وإذا صحّ خبره في ذلك، لَزِم تصديقه في بقية ما ذَكَره، فكان ذلك زيادة في إيمان المؤمن، وزيادة في شَقَاء الجاحد والمعاند. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله تعالى المذكور أولَ الكتاب قال:
[437]
(172) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيز، وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْفَضْل، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْر، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُني عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْني عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أَثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْه، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِه، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاء، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي، فَإِذَا رَجُل ضَرْبٌ، جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ، فَلَمَّا فَرَكْتُ مِنَ الصَّلَاة، قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِك صَاحِبُ النَّار، فَسَلِّمْ عَلَيْه، فَالْتَفَتُّ إِلَيْه، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد، أبو خيثمة النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [10](ت 234)(خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(حُجَيْنُ
(2)
بْنُ الْمُثَنَّى) اليَماميّ، أبو عُمير، نزيل بغداد، خُرَاسانيّ الأصل، ثقةٌ [9].
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 240 - 241 "كتاب المناقب" رقم (3887).
(2)
بضم الحاء المهملة، وفتح الجيم، آخره نون، مصغّرًا.
رَوَى عن الليث، ومالك، وعبد العزيز الماجشون، ويعقوب القُمّيّ، ويحيى بن سابق، وغيرهم.
ورَوَى عنه أحمد، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن رافع، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، والدّوريّ، وغيرهم.
قال محمد بن رافع، وصالح بن محمد: ثقةٌ، وقال البخاريّ: كان قاضيًا على خُرَاسان، وقال أبو بكر الجارُوديّ: ثقةٌ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقةً مات ببغداد، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الكلاباذيّ: مات سنة (205) أو بعدها
(1)
.
أخرج له البخاريّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب (14) حديثًا.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ) هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سَلَمة، واسم أبي سلمة: ميمون، ويقال: دينار المَاجِشُون - بكسر الجيم، بعدها شين معجمة مضمومة - أبو عبد الله، ويقال: أبو الأصبغ المدنيّ الفقيه، أحد الأعلام، مولى آل الهُدَير التيميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فقيه، مصنّف [7].
رَوَى عن أبيه، وعمه يعقوب، ومحمد بن المنكدر، والزهريّ، وإسحاق بن أبي طلحة، وزيد بن أسلم، وحميد الطويل، وعبد الله بن دينار، وصالح بن كيسان، وعمرو بن يحيى المازنيّ، ويحيى بن سعيد الأنصاريّ، وهشام بن عروة، وعبد الله بن الفضل الهاشمي وغيرهم.
ورَوَى عنه ابنه عبد الملك، وزُهير بن معاوية، وإبراهيم بن طَهمان، والليث بن سعد، وهم من أقرانه، وابن وهب، وابن مهديّ، ووكيع، وأبو عامر العَقَديّ، وأبو داود الطيالسيّ، وأبو النضر، وحُجَين بن المثنى، وأحمد بن خالد الوَهْبيّ، وعبد الله بن صالح العجليّ، وعبد الله بن صالح المصريّ، وغيرهم.
(1)
وقع في تاريخ وفاته غلط في "تهذيب التهذيب" فقال: (250)، وكذا في "التقريب"، فقال:(185). وكلاهما غلط، والصواب ما هنا. راجع:"تهذيب الكمال" 5/ 484.
قال إبراهيم الحربيّ: الماجشون فارسيّ، وإنما سُمِّي الماجشون؛ لأن وَجْنَتَيه كانتا حَمْرَواين، فسُمّي بالفارسية المايكون، فشُبِّه وجنتاه بالقمر، فعَرّبه أهل المدينة، فقالوا: الماجشون، وقال ابن أبي خيثمة: قال أحمد: تَعَلَّق من الفارسية بكلمة، وكان إذا لَقِيَ الرجلَ يقول: شوني، فلُقِّب الماجشون، وقال الحسين بن حِبّان: قيل لأبي زكريا: الماجشون هو مثل ليث وإبراهيم بن سعد؟ فقال: لا هو دونهما، إنما كان رجلًا يقول بالقدر والكلام، ثم تركه وأقبل إلى السنة، ولم يكن من شأنه الحديث، فلما قَدِمَ بغداد كتبوا عنه، فكان بعد يقول: جعلني أهلُ بغداد مُحَدِّثًا، وكان صدوقًا، وقال أبو داود، عن أبي الوليد: كان يَصلَح للوزارة، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن خِرَاش: صدوقٌ، وقال ابن مهدي، عن بِشْر بن السَّرِيّ: لم يسمع من الزهريّ، قال أحمد بن سنان: معناه أنه عَرَضَ.
وقال ابن السَّرْح، عن ابن وهب: حَجَجْتُ سنة (148) وصائحٌ يَصِيح: لا يُفتي الناس إلا مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثيرَ الحديث، وأهل العراق أَرْوَى عنه من أهل المدينة، وتُوُفّي ببغداد سنة (164)، وكان فقيهًا وَرِعًا متابعًا لمذهب أهل الحرمين، مُفَرِّعًا على أصولهم، ذابًّا عنه، وكذا قال البخاريّ، وقال أحمد بن صالح: كان نَزِهًا، صاحب سنة، وثقةً، وقال أبو بكر البزّار: ثقةٌ، وقال ابن أبي مريم: سمعت أشهب يقول: هو أعلم من مالك، وقال أحمد بن كامل: لعبد العزيز كُتُبٌ مُصَنَّفَةٌ في الأحكام، يروي عنه ذلك ابنُ وهب، وعبد الله بن صالح، وغيرهم، وقال موسى بن هارون الحمّال: كان ثَبْتًا مُتْقِنًا.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب (12) حديثًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْفَضْلِ) بن العبّاس بن رَبِيعة بن الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم الهاشميّ المدنيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أنس بن مالك، ونافع بن جُبير بن مُطْعِم، والأعرج، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، وعبيد الله بن أبي رافع، وغيرهم.
ورَوَى عنه مالك، وموسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، وزياد بن سعد، وأبو
أويس، وغيرهم، وحَدَّث عنه صالح بن كيسان والزهريّ، وهما من أقرانه.
قال حرب، عن أحمد: لا بأس به، وقال ابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن المدينيّ: عبد الله بن الفضل ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يروي عن ابن عمر، وأنس، إن كان سَمِعَ منهما، كذا قال، وقد صَرَّح بالسماع من أنس عند البخاريّ في "سورة المنافقين"، وقال العجليّ: ثقةٌ، وكذا قال ابن البَرْقِيّ، وقال ابن عبد البر: لم يسمع من عبيد الله بن أبي رافع.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب
(1)
ثلاثة أحاديث فقط، هذا الحديث (172) و (1421): "الأيّم أحقّ بنفسها من وليّها
…
"، وأعاده بعده، و (2373): "لا تفضّلوا بين أنبياء الله
…
".
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [3](ت 94)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 2/ 4، والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخه، فما أخرج له الترمذيّ، وحُجين بن المثنّى، فما أخرج له ابن ماجه.
3 -
(ومنها): أن نصفه الأول مسلسلٌ بالبغداديين، ونصفه الثاني بالمدنيين.
4 -
(ومنها): أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة.
5 -
(ومنها): أن أبا سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وقد تقدّم ذكرهم قريبًا.
6 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره،
(1)
وله عند البخاريّ أربعة أحاديث فقط برقم 3415 و 4072 و 4906 و 7428.
ورأس المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، روى (5374) حديثًا، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) هكذا رواية عبد الله بن الفضل، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقد تقدّم من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر رضي الله عنه، وسبق أن الحديث صحيح بالطريقين، على أن لأبي سلمة فيه شيخان: جابرُ وأبو هريرة رضي الله عنهما، كما حقّقه الحافظ في "الفتح"، فما كتبه بعض من علّق على "صحيح مسلم " هنا من أن هذا الحديث خطأ، والصواب حديث جابر رضي الله عنه، فلا أدري من أين أخذه، فتنته، ولا تغترّ بكلّ من جرّ قلمه، فإن ذلك مَخْزَاةٌ ومَنْدَمَة (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي) أي: رأيت نفسي، وقد تقدّم البحث في أن من خواصّ أفعال القلوب أنها تختصّ بجواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متّصلين لمسمّى واحد، كـ"ظننتني قائمًا"، وكقوله تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 7]، وأُلْحِقت بها في ذلك "رأى" الحُلميّة، كقوله صلى الله عليه وسلم هنا: "لقد رأيتني"، وكقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} الآية [يوسف: 36]، و"رأى" البصريّة، كقوله [من الوافر]:
وَلَقَدْ أَرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً
…
مِنْ عَنْ يَمِينِي تَارَةً وَأَمَامِي
وكذا أُلحْقِ بها "عَدِمَ"، و"وَجَد"، و"فَقَد"(فِي الْحِجْرِ) بكسر، فسكون: أي: حِجر الكعبة (وَقُرَيْشٌ تَسْأَلني) جملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل (عَنْ مَسْرَايَ) بفتح الميم، وسكون السين المهملة، مقصورًا مصدرٌ ميميّ لـ"سَرَى"، قال المجد رحمه الله: السّرَى كالهُدى: سير عامّة الليل، ويُذَكَّرُ، سَرَى، يَسْرِي سُرًى، ومَسْرىً، وسَرْيَةً، ويُضَمّ، وسِرَايَةً، وأسرى، واسترى، وسَرَى به، وأسراه، وبه، و {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} الآية [الإسراء: 1] تأكيدٌ، أو معناه: سَيَّرَه. انتهى
(1)
.
(فَسَأَلتْني عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) أي: من أوصاف بيت المقدس (لَمْ
(1)
"القاموس المحيط" ص 1165.
أثبِتْهَا) أي: لم أحفظها، ولم أَضْبِطها لاشتغالي بأهمّ منها (فَكُرِبْتُ) بالبناء للمفعول (كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ) قال النوويّ رحمه الله: هو بضم الكافين، والضمير في "مثله " يعود على معنى الكُربة، وهو الكَرْبُ، أو الغَمّ، أو الهَمّ، أو الشيء، قال الجوهريّ: الكُربة بالضم: الغَمّ الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكَرْب، وكَرَبه الغمّ: إذا اشتدّ عليه. انتهى.
ولفظ أبي عوانة وأبي نعيم: "فُكُربتُ كَرْبًا".
(قَطُّ) بضمّ الطاء المهملة المشدَّدة، يقال: ما ذلك قَطُّ؛ أي: في الزمان الماضي
(1)
. (قَالَ: فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْه، مَا يَسْألونِي عَنْ شَيْءٍ، إِلَّا أَنْبَأتهُمْ بِه، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأنْبِيَاء، فَإِذَا) وفي نسخة: "وإذا" (مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي (قال الأبّيّ رحمه الله: الأظهر أنها رؤية عين، وأنها الصلاة المعهودة، ويأتي في آخر الكتاب:"مررت على موسى، وهو قائم يُصلّي في قبره". انتهى
(2)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "فإذا بموسى قائم يصلّي"، وذكر مثله في عيسى عليه السلام، وفي آخر كتاب مسلم بعد هذا:"مررت على موسى، وهو قائم في قبره يصلّي".
فالجواب عن صلاتهم قد تقدّم في ذكر حجِّ موسى وعيسى عليه السلام. قال: وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء، وهي من أعمال الآخرة، ويؤكّد أحدَ التأويلات فيه، وأنه الصلاة المعهودة ما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم أمّ الأنبياء عليهم السلام.
وقد قال بعضهم: يَحْتَمل أن موسى عليه السلام لم يمت، وأنه حيّ، فتكون صلاته حقيقة، كصلاة عيسى عليه السلام بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "فأكون أنا أول من تنشقّ عنه الأرض، فإذا موسى آخذ بساق العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ "، متّفق عليه.
لكن يَرُدّ هذا التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر"، والقبر لا يكون إلا للميت، والحديث الوارد في قصّة وفاته، وخبره مع ملك الموت، وسيأتي آخر الكتاب.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: استدلال هذا البعض بحديث الصعقة من
(1)
"المصباح" 2/ 508.
(2)
"شرح الأبيّ" 1/ 325.
أضعف الاستدلال، وأبعدها عن الصواب؛ لأنه لا دلالة له أصلًا على الموت المعهود؛ لأن تلك الصعقة في القيامة، فتأمله بإنصاف يظهر لك جليّ الأمر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[فإن قيل]: كيف رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره، وصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس، ووَجَدَهم على مراتبهم في السموات، وسَلّموا عليه ورَحَّبُوا به؟.
[فالجواب]: أنه يَحتمل أن تكون رؤيته موسى عليه السلام في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعود النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وفي طريقه إلى بيت المقدس، ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وصلى بهم على تلك الحال لأول ما رآهم، ثم سألوه ورَحَّبُوا به، أو يكون اجتماعه بهم وصلاته ورؤيته موسى بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى، فلا تتناقض الأحاديث، وتستمرّ على الصواب، قاله عياض رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كذا أجاب القاضي رحمه الله، وعندي أن الذي يظهر من مجموع الروايات التي سبق بيانها أن إمامة النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم كان قبل الصعود، والله تعالى أعلم.
والحاصل أن قصّة إسراء النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الليل إلى بيت المقدس، ثم عُرُوجه إلى السماوات العلى، ومروره على الأنبياء هناك، واستقبالهم له بالترحيب، وتردّده بين ربّه وبين موسى، ورؤيته تلك العجائب الغرائب في سويعة من الزمن خارجٌ عن تصوّرنا، ولكنه فعل الواحد القهّار، لا يُعجزه شيء، بل هو قادر على أكثر من ذلك، فنؤمن بأنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام في قبره يصلّي، ثم صلى به وبالأنبياء الآخرين ببيت المقدس، ثم استقبلوه بالترحيب في عروجه سماءً سماءً، كلّ ذلك على ظاهره من غير تأويل، والله على كلّ شيء قدير.
(فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ، جَعْدٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عليه السلام
(1)
"إكمال المعلم" 2/ 731.
قَائِمٌ يُصَلِّي، أقرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِي، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عليه السلام قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ) وفي نسخة زيادة "صلى الله عليه وسلم" (فَحَانَتِ الصَّلَاةُ) الظاهر أن المعنى دخل وقتها بدليل قوله:(فَأَمَمْتُهُمْ) أي: صِرْتُ لهم إمامًا (فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاة، قَالَ قَائِل) الظاهر أنه جبريل عليه السلام (يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّار، فَسَلِّمْ عَلَيْه، فَالْتَفَتُّ إِلَيْه، فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ") أي: سلَّم عليّ قبل أن أُسلّم عليه تبجيلًا وتكريمًا، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[81/ 437](172)، و (النسائيّ) في "التفسير" من "الكبرى"(11284 و 11480)، و (ابن منده) في "الإيمان"(740)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(350)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه"(433).
وفوائد الحديث تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(82) - (بَابٌ في ذِكْرِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)
وبالسند المتّصل إلى الإمام مسلم بن الحجَّاج رحمه الله المذكور أولَ الكتاب قال:
[438]
(173) - (وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، (ح) وحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ جَمِيعًا، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَألْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَة، إِلَيْهَا
يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْض، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا، فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ:{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16]، قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاَتِيمَ سُورةِ الْبَقَرَة، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة
(1)
العَبْسيّ، الكوفيّ، واسطيّ الأصل، ثقةٌ حافظٌ، صاحب تصانيف [10](خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) هو: حمّاد بن أُسامة بن زيد القرشيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ) - بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الواو - أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
4 -
(الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ) الهَمْدانيّ الياميّ - بالتحتانيّة - أبو عديّ الكوفيّ، قاضي الريّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن أنس بن مالك، وأبي وائل، ومصعب بن سعد، وكُلْثوم بن المصْطَلِق، وإبراهيم النخعيّ، وطلحة بن مُصَرّف، وغيرهم.
ورَوَى عنه إسماعيل بن أبي خالد، وهو من أقرانه، وأبو إسحاق السَّبِيعيّ، وهو أكبر منه، ومالك بن مغول، والثوريّ، ومِسْعَر، وعمرو بن أبي قيس، وعثمان بن زائدة، وبشر بن الحسين أحد الضعفاء، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال أحمد: صالح الحديث، مقارب الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ ثبتٌ، من أصحاب إبراهيم، وكان الزبير صاحب سنة، وقال أبو داود الطيالسيّ: لا نَعْرِف للزبير بن عديّ عن أنس إلا حديثًا واحدًا، وقال اليخاريّ: ثنا أحمد بن سليمان، ثنا بشر بن
(1)
اسم أبي شيبة: إبراهيم بن عثمان.
الحسين، وفيه نظر، أن الزبير بن عديّ مات بالريّ سنة (131)، وكذا أَرَّخه ابن حبّان، قال: وصلَّى عليه نُبَاتة بن حنظلة، وكان من العبّاد، وكذا قال ابن حبان في "الثقات"، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وبشرٌ متروك، رَوَى عن الزبير بواطيل، وقال الفَسَويّ: تابعيّ ثقةٌ.
أخرج له الجماعة، وله في هذا الكتاب ثلاثة أحاديث فقط، هذا (173) وحديث (535):"كنّا نفعل هذا، ثم أمرنا بالركب"، وأعاده بعده، و (2348): "قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستّين
…
".
5 -
(طَلْحَةُ) بن مصرّف بن عَمرو بن كَعْب الياميّ الكوفيّ القارئ، ثقةٌ فاضلٌ [5](ت 112) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
6 -
(مُرَّةُ) بن شَرَاحيل الهَمْدانيّ - بسكون الميم - أبو إسماعيل الكوفيّ، الملقّب بمرّة الطيب، ثقةٌ عابدٌ [2](ت 76) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 55.
7 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدم في "المقدمة" 3/ 11، والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
والله تعالى أعلم.
لطائف هذا الإسناد:
1 -
(منها): أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بين الأخيرين.
2 -
(ومنها): أن رجاله رجال الجماعة، سوى شيخيه: أبي بكر، وزهير، فما أخرج لهما الترمذيّ.
3 -
(ومنها): أنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخه زُهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ.
4 -
(ومنها): أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض: الزبير، عن طلحة، عن مرّة، ورواية الأولين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة.
5 -
(ومنها): أن الزبير بن عديّ هذا أول محلّ ذكره في الكتاب، وقد عرفت عدد ما له من الأحاديث فيه.
6 -
(ومنها): أن فيه قوله: "وألفاظهم متقاربة"، وقد تقدّم البحث فيه قريبًا.
7 -
(ومنها): أن فيه قوله: "عن عبد الله " مهملًا، وهو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن القاعدة أنه إذا أُطلق عبد الله في سند الكوفيين فهو المراد، وقد تقدّم ضابط هذه المسألة غير مرّة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه أنه (قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم - ببناء الفعل للمفعول، يقال: سريت الليلَ، وسريتُ به: إذا قطعته بالسير، وأسريت بالألف لغةٌ حجازيّة، وتقدّم تمام البحث فيه (انْتُهِيَ بِهِ) بالبناء للمفعول أيضًا، والضمير للنبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: انْتَهَى الأمرُ: إذا بلغ النهاية، وهي أقصى ما يمكن أن يَبْلُغه
(1)
.
والجارّ والمجرور نائب عن الفاعل، وَيحتمل - لو صحّت الرواية به - أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الإسراء المفهوم من "أُسْرِيَ"، أي انتهى الإسراء به صلى الله عليه وسلم، حتى وصل (إِلَى سِدْرر الْمُنْتهَى) من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، وصلاة الأولى، ويَحتمل أن يكون من إضافة الأعمّ إلى الأخصّ، كشجر الأراك، وعلى الأول لا بدّ من تأويله؛ لئلا يكون من إضافة الشيء إلى نفسه، وهو غير جائز، كما قال في "الخلاصة":
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدْ
…
مَعْنًى وَأَوِّلْ مُوهِمًا إِذَا وَرَدْ
والتقدير: سدرة الشجر المنتهى، وفيه الحذف والإيصال، والأصل: المنتهَى إليها، وسيأتي سبب تسميتها بذلك.
(وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ) هكذا في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنها في السماء السادسة، وقد تقدّم في حديث أنسّ رضي الله عنه ما يدلّ على أنها في السابعة، ورجّح الأكثرون هذا، لأن رواته أكثر، وجمع المحقّقون بأن معظمها في السابعة، وقد أظلت الجنة، وبعضها في السادسة؛ لأنها في نهاية العِظَم، كما
(1)
"المصباح" 2/ 629.
صحّت بذلك الأحاديث، وقد تقدّم تمام البحث في هذا، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وجه تسميتها بسدرة المنتهَى، فقال:
(إِلَيْهَا يَنْتَهِي) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:(مَا يُعْرَجُ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، والنائب عن الفاعل هو الجارّ والمجرور، وقوله:(مِنَ الْأَرْضِ) متعلّق بـ "يُعرج"، يعني: أنه يقف عندها كل ما يُصعد به من الأرض، من أعمال العباد والأرواح، ولا يَتَجاوزها (فَيُقْبَضُ مِنْهَا) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: تقبضه الملائكة، فتوصله إلى ما أُمرت به (وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:(مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا) ببناء الفعل للمفعول (فَيُقْبَضُ مِنْهَا) يعني: أن ما أنزل من فوق السدرة من الوحي، وغيره يقف عندها حتى تأخذه الملائكة منها، وتَنْزِل به إلى الأرض.
وحاصل المعنى: أن سدرة المنتهى غاية لوصول ما ينزل من فوقها حتى يُقبض منها، وغاية لصعود ما يُصعَد به من تحتها.
فقد تبيّن من هذا سبب تسميتها بهذا الاسم، وقيل: سُمّيت بذلك لانتهاء علم الخلق إليها، وقيل: لانتهاء أرواح الشهداء إليها، والأصحّ ما في هذا الحديث.
ثم إن ما ذُكر من وصف سدرة المنتهى بهذا الوصف، الظاهر أنه مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومال القرطبي إلى أنه موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يخفى بُعْده، ولو سُلّم فالوقف في مثل هذا له حكم الرفع، كما هو معلوم في محلّه، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه كما صرّح به في رواية الترمذيّ - موضّحًا معنى قوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16] الظرف متعلّق بقوله: {رَآهُ} من قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم: 13]، وقوله:(قَالَ) تأكيد للأول.
(فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي: يغشاها فَرَاشٌ من ذهب، و"الفَرَاشُ" بفتح الفاء: الطير الذي يُلقي نفسه في ضوء السراج، واحدتها فَرَاشة.
كذا فسّر المبهم في قوله تعالى: {مَا يَغْشَى} وبالفراش، ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك، عن أنس عند النسائيّ: أنه "جَرَادٌ من ذهب"، قال
البيضاويّ: وذكر الفَراش وقع على سبيل التمثيل؛ لأن شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب؛ لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها. انتهى.
وقال الحافظ: ويجوز أن يكون من الذهب حقيقةً، ويَخلُق الله فيه الطيَرَان، والقدرة صالحة لذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاحتمال الثاني هو المتعيّن، وأما ما قاله البيضاويّ فغير صحيح؛ لأن كلام الشارع إذا أمكن حمله على ظاهره لا يُعدَل عنه إلى غيره إلا بدليل صارف عن ظاهره، فدعوى المجاز هنا غير صحيحة، والله تعالى أعلم.
وتقدّم في رواية ثابت، عن أنس رضي الله عنه:"فلمّا غشيها من أمر الله تغيّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها"، وفي رواية حُميد، عن أنس عند أحمد نحوه، لكن قال:"تحوّلت ياقوتًا"
(2)
، وفي حديث أبي سعيد وابن عبّاس رضي الله عنهم:"يغشاها الملائكة"، وفي حديث أبي سعيد، عن البيهقيّ:"على كلّ ورقة منها ملك".
(قَالَ) أي: ابن مسعود رضي الله عنه (فَأُعْطيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) ببناء الفعل للمفعول، وفي رواية الترمذيّ:"فأعطاه الله عندها"، أي: عند سدرة المنتهى (ثَلَاثًا) أي: ثلاث خصال، وزاد الترمذيّ:"لم يُعْطِهنّ نبيًّا كان قبله"(أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ) قد تقدّم البحث المتعلّق بهذا مستوفًى (وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) قيل: معناه: أُعطي إجابة دعواتها.
قال الجامع عفا الله عنه: الأَوْلى تفسيره بأن المعنى أنه أُعطي هذه الخواتيم من ذلك المحلّ الأعلى، يدلّ على ذلك ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله
(1)
"الفتح" 7/ 253.
(2)
قال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":
(11853)
حدثنا محمد بن أبي عديّ، عن حميد، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انتهيتُ إلى السدرة، فإذا نَبِقُها مثل الجِرَار، وإذا وَرَقُها مثل آذان الفِيَلة، فلما غَشِيَها من أمر الله ما غشيها، تَحَوَّلت ياقوتًا، أو زُمُرّدًا، أو نحو ذلك".
في "مسنده" بسند صحيح، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيتُ خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يُعطَهنّ نبيّ قبلي"، وأخرج أحمد أيضًا بسند حسن - كما قال الحافظ ابن كثير - عن عُقبة بن عامر الجُهَنيّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإني أُعطيتهما من كنز تحت العرش"، إلى غير ذلك من الأحاديث
(1)
.
قال بعض المحقّقين: كأن المراد أنه قَرَّر له إعطاءه إياها، وأنها ستنزل عليه، وإلا فالآيتان مدنيّتان، والله تعالى أعلم.
(وَغُفِرَ) بصيغة الماضي مبنيًّا للمفعول، والنائب عن الفاعل قوله:"المُقْحِماتُ"، وعبّر بالماضي؛ إشارة إلى تحقّق وقوعه، وعند النسائيّ:"ويغفر" بصيغة المضارع، ثم إن الجملة بتقدير حرف مصدريّ نائب فاعل لـ "أُعطي" مقدّرًا بدليل ما قبله، أي: وأعطي أن غُفِر، أي: غفران المقحمات، وحذف الحرف المصدريّ مع رفع الفعل جائز، وواقع في القرآن الكريم، كقوله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، ومنه قولهم:"تَسْمَع بالمعَيديّ خير من أن تراه"، برفع "تسمعُ"، وأما نصبه فشاذّ كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
(لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أمّتِهِ) صلى الله عليه وسلم (شَيْئًا) نكّره إشارة إلى أن الشرك لا يُغفر، قليله ككثيره (الْمُقْحِمَاتُ) بصيغة اسم الفاعل بمعنى الذنوب العظام التي تُقْحِم أصحابها، أي: تدخلهم النار.
قال النوويّ رحمه الله: "الْمُقْحِمَاتُ": - بضم الميم، وإسكان القاف، وكسر الحاء - ومعناه: الذنوب العظام الكبائر التي تُهْلِك أصحابها، وتوردهم النار، وتُقْحِمهم إيّاها، والتَّقَحُّمُ: الوقوع في المهالك، ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمّة، غير مُشرِك بالله، غُفِر له المقحمات، والمراد - والله أعلم - بغفرانها أنه لا يُخَلَّد في النار، بخلاف المشركين، وليس المراد أنه لا يُعَذَّب أصلًا،
(1)
راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 348 - 351.
فقد تقرَّرت نصوص الشرع، وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العُصَاة من الموحدين.
وَيَحْتَمِل أن يكون المراد بهذا خُصُوصًا من الأمة، أي: يُغْفَر لبعض الأمة المُقْحِماتُ، وهذا يَظْهَر على مذهب مَن يقول: إنّ لفظة "مَنْ" لا تقتضي العموم مطلقًا، وعلى مذهب من يقول: لا تقتضيه في الإخبار، وإن اقتضته في الأمر والنهي.
ويُمْكِن تصحيحه على المذهب المختار، وهو كونها للعموم مطلقًا؛ لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص، وهو ما ذكرناه من النصوص والإجماع. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: ولعل المراد أن الله تعالى لا يؤاخذهم بكلّها، بل لا بدّ أن يَغفر لهم بعضها، وإن شاء غفر لهم كلّها، وقيل: المراد بالغفران أن لا يُخلَّد صاحبها في النار، أو المراد: الغفران لبعض الأمة، ولعله إن كان هناك تأويلٌ فما ذَكَرتُ أقربُ، وإلا فتفويض هذا الأمر إلى علمه تعالى أولى. انتهى كلام السنديّ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى هو الذي تقدّم في كلام النوويّ رحمه اللهمن حمل "مَنْ" على الخصوص؛ للأدلّة المقتضية لذلك، ففيه الجمع بين النصوص دون تعارض.
والحاصل أن المراد بالأمّة بعضهم، فيغفر الله تعالى لبعض الأمة جميع ذنوبهم، صغائرها وكبائرها الموبقات ما عدا الشرك؛ لقوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، فبعض الأمة هم الذين شاء الله تعالى أن يَغفر لهم جميع ذنوبهم، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أخرج هذا الحديث أبو نعيم في "مستخرجه"(1/ 239) من طُرُق، فوقع عنده بلفظ:"وغُفر لمن مات لا يُشرك به من أمته إلا المقحمات"، بزيادة "إلا" الاستثنائيّة، ونبّه عليه هو، والظاهر أن زيادة "إلا" غلطٌ؛ لأن رواية
(1)
"شرح النوويّ" 3/ 3.
الأكثرين خالية منها، فليُتنبَّه، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان وعليه التكلان.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا في "الإيمان"[82/ 438](173)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3276)، و (النسائيّ) في "الصلاة"(451)، وفي "الكبرى"(315)، و (أحمد) في "مسنده"(3656 و 4001)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(345 و 346)، و (أبو نُعيم) في "مستخرجه"(434)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان محلّ سدرة المنتهى، وهو أنها في السماء السادسة، وتقدّم أن أكثر الروايات أنها في السابعة، وقدّمنا أنه يُجمع بينهما بأن أصلها في السادسة.
2 -
(ومنها): بيان وصف سدرة المنتهى.
3 -
(ومنها): بيان معنى قوله عز وجل: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} [النجم: 16].
4 -
(ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى به حبيبه صلى الله عليه وسلم، حيث أعطاه هذه الخصال الثلاث، وفضّله بها، ولم يُعطِها لأحد من الأنبياء غيره.
5 -
(ومنها): بيان فضل الصلوات الخمس، حيث فُرضت في المحلّ الأعلى، خلاف سائر الفرائض.
6 -
(ومنها): بيان فضل خواتيم سورة البقرة، وقد وردت أحاديث صحاح في فضلها:
[فمنها]: ما أخرجه الشيخان عن أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأهما في ليلة كفتاه".
[ومنها]: ما أخرجه مسلم، والنسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بينما
جبريل قاعد عند النبيّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا من فوقه، فرَفَع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فُتِح اليوم، لم يُفْتَح قطُّ إلا اليوم، فنَزَل منه ملك، فقال: هذا ملك نَزَل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلا اليوم، فسَلَّم وقال: أَبْشِر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته".
[ومنها]: ما أخرجه الترمذيّ بإسناد حسن عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كَتَب كتابًا قبل أن يَخلُق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين خَتَم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيَقْرَبَها شيطان". قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب، وصحّحه الحاكم على شرط مسلم.
7 -
(ومنها): بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الأمّة، حيث إنه يَغفر لها المقحِمات غير الشرك، وهذا فضل من الله تعالى عظيم من ربّ كريم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يغفر لهم المقحِمات، ويعفو عنهم السيّئات، ويكرمهم بدخول الجنّات؛ إنه سميع قريبٌ مجيب الدعوات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة:
قد انتهيت من كتابة الجزء الرابع من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحر المحيط الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجَّاج" رحمه الله تعالى ليلة الأحد المبارك 15/ 6/ 1425 هـ الموافق 1/ أغسطس / 2004 م.
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180، 181].
"اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام على النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الخامس مفتتحًا بـ (83) - (بَابُ قَوْلِهِ عز وجل: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} [النجم: 18]، وهل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رَبّهُ لَيْلَةَ الإِسْرَاءِ؟) رقم الحديث [439](174).
"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك".
* * *