الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: بدأتُ بكتابة الجزء الأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم - المسمّى - البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر صفر المبارك (25/ 2/ 1433 هـ).
(47) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ غِفَارَ، وَأَسْلَمَ، وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ، وَمُزَيْنَةَ)
قال القرطبيّ رحمه الله: هؤلاء القبائل، وأسلم، وغفار، ومَن كان نحوهم، كانوا بالجاهلية خاملين، لم يكونوا من ساداتِ العرب، ولا مِن رؤسائها، كما كانت بنو تميم، وبنو مُرّة، وبنو أسدٍ، وغطفان، ألا ترى قول الأقرع بن حابس للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنما بايعك سُرَّاق الحجيج من أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة. لكن هؤلاء القبائل سبقوا للإسلام، وحَسُن بلاؤهم فيه، فشرَّفهم اللهُ تعالى به، وفضَّلهم على مَن ليس بمؤمن من سادات العرب بالإسلام، وعلى من تأخر إسلامُه بالسَّبق، كما شرَّف بلالًا، وعمّارًا، وصُهيبًا، وسلمان على صناديد قريش، وعلى أبي سفيان ومعاوية وغيرهم من المؤلَّفة قلوبُهم كما تقدَّم، فأعزَّ اللهُ بالإسلام الأذلاء، وأذلَّ به الأعزاءَ بحكمته الإلهية، وقسمته الأزلية:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]، وعلى هذا فقولُه صلى الله عليه وسلم:"مزينة، وجهينة، وغفار، وأشجع، ومن كان من بني عبد الله مواليَّ دون الناس" جَبْرٌ لهم مِنْ كَسْرهم، وتنويه بهم من خمولهم، وتفخيم لأمر الإسلام وأهلِه، وتحقير لأهل الشرك، ولمن دخل في الإسلام ولم يُخلِص فيه؛ كالأقرع بن حابس، وغيره ممن كان على مثل حاله، وهذا التَّفضيلُ، والتنويه إنما ورد جوابًا لمن احتقر هذه القبائل بعد إسلامها، وتمسَّك بفخر الجاهلية
وطغيانها، فحيث ورد تفضيل هذه القبائل مطلقًا فإنَّه محمول على أنهم أفضل من هذه القبائل المذكورين معهم، في محاورة الأقرع، وهو آخر حديث ذكرناه، فإنَّه مفسِّر لِمَا تقدَّم، ومقيِّد له. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح" عند قول البخاريّ: "باب ذِكر أسلم، وغفار، ومزينة، وجهينة، وأشجع" ما نصّه: هذه خمس قبائل كانت في الجاهلية في القوّة والمكانة دون بني عامر بن صعصعة، وبني تميم بن مُرّ، وغيرهما من القبائل، فلما جاء الإسلام كانوا أسرع دخولًا فيه من أولئك، فانقلب الشرف إليهم بسبب ذلك.
فأما أسلم وغفار فقد تقدم ذِكر نَسَبهما في الباب الماضي.
وأما مزينة: -فبضم الميم، وفتح الزاي، وسكون التحتانية، بعدها نون- وهو اسم امرأة عمرو بن أُدّ بن طابخة -بالموحدة، ثم المعجمة- ابن إلياس بن مضر، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، وهي أم أوس، وعثمان بني عمرو، فوَلَدُ هذين يقال لهم: بنو مزينة، والمزنيون، ومن قدماء الصحابة منهم: عبد الله بن مُغَفّل بن عبد نهم المزنيّ، وعمه خزاعيّ بن عبد نهم، وإياس بن هلال، وابنه قرة بن إياس، وهذا جدّ القاضي إياس بن معاوية بن قرة، وآخرون.
وأما جهينة: فهم بنو جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم -بضم اللام- ابن إِلْحَاف -بالمهملة، والفاء، وزانُ إلياس- ابن قضاعة، من مشهوري الصحابة منهم: عقبة بن عامر الجهنيّ، وغيره.
واختُلف في قضاعة: فالأكثر أنهم من حِمْيَر، فيرجع نَسَبهم إلى قحطان، وقيل: هم من ولد معدّ بن عدنان.
وأما أشجع: فبالمعجمة، والجيم، وزان أحمر، وهم: بنو أشجع بن ريث -بفتح الراء، وسكون التحتانية، بعدها مثلثة- ابن غَطَفان بن سعد بن قيس، من مشهوري الصحابة منهم: نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف.
والحاصل: أن هذه القبائل الخمس من مضر، أما مزينة، وغفار، وأشجع، فبالاتفاق، وأما أسلم، وجهينة، فعلى قول، ويرجحه أن الذين ذُكروا
(1)
"المفهم" 6/ 473 - 474.
في مقابلهم، وهم تميم، وأسد، وغطفان، وهوازن، جميعهم من مضر بالاتفاق.
وكانت منازل بني أسد بن خزيمة ظاهر مكة، حتى وقع بينهم وبين خزاعة، فقَتَل فَضَالة بن عُبادة بن مُرارة الأسديّ هلالَ بن أمية الخزاعيّ، فقَتلت خُزاعة فَضَالة بصاحبها، فنشبت الحرب بينهم، فبرحت بنو أسد عن منازلهم، فحالفوا غطفان، فصار يقال للطائفتين: الحليفان: أسد، وغطفان، وتأخر من بني أسد آل جحش بن رياب، فحالفوا بني أمية، فلما أسلم آل جحش، وهاجروا احتوى أبو سفيان على دُورهم بذلك الحلف، ذكر ذلك عمر بن شَبّة في "أخبار مكة". انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6417]
(2519) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -وَهُوَ ابْنُ هَارُونَ- أَخْبَرَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الأَنْصَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَغِفَارُ، وَأَشْجَعُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللهِ، مَوَالِيَّ دُونَ النَّاسِ، وَاللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَاهُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) بن شدّاد النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 602) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
3 -
(أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ) سعد بن طارق الكوفيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود الأربعين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
4 -
(مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيميّ، أبو عيسى، أو أبو محمد المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ جليلٌ [2] ويقال: إنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاث ومائة على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
5 -
(أَبُو أيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ، من كبار الصحابة،
(1)
"الفتح" 6/ 543.
شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، مات غازيًا الروم سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الأَنْصَارُ) هو اسم إسلاميّ سَمَّى به النبيّ صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج، وحلفاءهم، كما في حديث أنس رضي الله عنه، والأوس يُنسبون إلى أوس بن حارثة، والخزرج يُنسبون إلى الخزرج بن حارثة، وهما ابنا قيلة، وهو اسم أمهم، وأبوهم هو حارثة بن عمرو بن عامر الذي يجتمع إليه أنساب الأزد، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَغِفَارُ، وَأَشْجَعُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ بَني عَبْدِ اللهِ) قال القاضي عياض رحمه الله: المراد ببني عبد الله هنا: بنو عبد العزَّى، من غطفان، وكذلك جاء ذِكره مِن بعد هذا، سمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: بني عبد الله، فسمّتهم العرب: بني مُحَوَّلة؛ لتحويل اسم أبيهم. انتهى
(2)
.
(مَوَالِيَّ دُونَ النَّاسِ) جمع مولى، مضاف إلى ياء المتكلّم؛ أي: ناصريّ، والمختصّين بي دون سائر الناس.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مواليّ دون الناس"؛ يعني: أنا الذي أنصرهم، وأتولّى أمورهم كلها، فلا ينبغي لهم أن يلجؤوا بشيء من أمورهم إلى أحد غيري من الناس، وهذا فسّره كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالًا فلورثته، ومن ترك دَينًا أو ضَياعًا، فعليّ وإليَّ". انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 8/ 483، كتاب "مناقب الأنصار" رقم (3776).
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 558.
(3)
"المفهم" 6/ 474.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "مواليّ دون الناس، وليس لهم مولى دون الله ورسوله"؛ أي: أوليائي المختصون بي، وهذا مثل الحديث الآخر:"من كنت مولاه فعليّ مولاه": أي: وليّه، وهذا مثل قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمد: 11]: أي: لا وليَّ، ويَحْتَمِل: لا ناصر لهم، وقيل: الوليّ هنا: القائم بأمورهم الكافل لهم، وقد قيل: معناه: أن الخلق كلهم مِلك لله تعالى، ثم يوالي تعالى، ويعادي من يشاء، واختصاص تلك القبائل بولاية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم دون المسلمين: إما لأنهم لم تكن لهم حلفاء من العرب كما كان لغيرهم، أو لأنهم أسلموا أوّلًا، وفارقوا أصول قبائلهم، وعادَوهم، فوالاهم الله، وشرّفهم بذلك، وقد يكون تخصيصًا لهم وَسِمَة، كما قيلَ للأنصار: أنصار، وإن كان قد نَصَر غيرهم.
وفي رواية الجرجانيّ: "موالٍ" بغير ياء النسب، كأنه قال: أنصار الله، وأولياء الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والأول أظهر، والله أعلم بمراد نبيّه صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(وَاللهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَاهُمْ")؛ أي: وليّهم، والمتكفّل بهم، وبمصالحهم، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "مولاهم" كذا الرواية بتوحيد "مولاهم"، وهذا نحو قوله تعالى:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، فوحَّد الضمير؛ لأنه عائد على الله تعالى، ورَفع رسوله صلى الله عليه وسلم بالابتداء، وخبر مُضْمَر تقديره: والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله كذلك، وعلى هذا: فتقدير الحديث: والله مولاهم، ورسوله كذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6417](2519)، و (الترمذيّ) في
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 287.
(2)
"المفهم" 6/ 474 - 475.
"المناقب"(3940)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 417) وفي "فضائل الصحابة"(2/ 886)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 92)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 140)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل هؤلاء القبائل.
2 -
(ومنها): بيان شرف الإسلام، وعلوّ منزلته؛ لأن هؤلاء القبائل ما شُرّفوا هذا التشريف إلا من أجله، وإلا فكانوا في الجاهليّة دون الذين فضّلوا عليهم، فلما سابقوا إلى الإسلام، ونصروه أعزّهم الله تعالى به، وفضّلهم عليهم.
3 -
(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يفضّل أحدًا على أحد إلا بوحي من الله عز وجل، كما تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم:"أما إني لم أقلها، ولكن قالها الله عز وجل"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6418]
(2520) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُرَيْشٌ، وَالأَنْصَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَأَشْجَعُ مَوَالِيَّ، لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللهِ وَرَسُولِهِ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ، صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس الطبقة [7] وكان ربما دلّس (ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، وَلي قضاء
المدينة، وكان ثقةً، فاضلًا عابدًا [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالكوفيين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قُرَيْشٌ) هم ولد النضر بن كنانة، وبذلك جزم أبو عبيدة، أخرجه ابن سعد، عن أبي بكر بن الجهم، ورُوي عن هشام بن الكلبي عن أبيه: كان سُكّان مكة يزعمون أنهم قريش دون سائر بني النضر، حتى رحلوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه: مَن قريش؟ قال: "مَن وَلَد النضرُ بن كنانة"، وقيل: إن قريشًا هم وَلَد فهر بن مالك بن النضر، وهذا قول الأكثر، وبه جزم مصعب، قال: ومن لم يلده فهر فليس قرشيًّا، وعن ابن الكلبي مثله، وقيل: أول مَن نُسب إلى قريش: قُصَيّ بن كلاب، فروى ابن سعد أن عبد الملك بن مروان سأل محمد بن جبير: متى سُمِّيت قريش قريشًا؟ قال: حين اجتمعت إلى الحرم بعد تفرّقها، فقال: ما سمعت بهذا، ولكن سمعت أن قصيًّا كان يقال له: القرشيّ، ولم يسمّ أحد قريشًا قبله، وروى ابن سعد من طريق المقداد: لمّا فرغ قُصَيّ من نفي خزاعة من الحرم، تجمعت إليه قريش، فسُمّيت يومئذ قريشًا؛ لحال تجمعها، والتقرش: التجمع، وقيل: لتلبّسهم بالتجارة، وقيل: لأن الجد الأعلى جاء في ثوب واحد متجمعًا فيه، فسمِّي قريشًا، وقيل: من التقرش، وهو أخذ الشيء أوّلًا، فأوّلًا، وقد أكثر ابن دحية من نقل الخلاف في سبب تسمية قريش قريشًا، ومن أول من تسمى به، وحَكَى الزبير بن بكار عن عمه مصعب أن أول من تسمى قريشًا: قريش بن بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة، وكان دليل بني كنانة في حروبهم، فكان يقال: قدمت عير قريش، فسُمّيت قريش به قريشًا، وأبوه صاحب بدر الموضع المعروف.
وقال المطرزيّ: سُمِّيت قريش بدابة في البحر، هي سيدة الدواب البحرية، وكذلك قريش سادة الناس، قال الشاعر [من الخفيف]:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ
…
رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْـ
…
رُكُ فِيهِ لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ
…
يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا
وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ
…
يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
وقال صاحب "المحكم": قريش دابة في البحر، لا تدع دابة في البحر إلا أكلتها، فجميع الدوابّ تخافها، وأنشد البيت الأول.
قال الحافظ: والذي سمعته من أفواه أهل البحر: القِرْش -بكسر القاف، وسكون الراء- لكن البيت المذكور شاهد صحيح، فلعله من تغيير العامّة، فإن البيت الأخير من الأبيات المذكورة يدلّ على أنه من شِعر الجاهلية، ثم ظهر لي أنه مصغَّر القرش الذي بكسر القاف.
وقد أخرج البيهقيّ عن ابن عباس قال: قريش تصغير قرش، وهي دابة في البحر، لا تمرّ بشيء من غَثّ، ولا سمين إلا أكلته.
وقيل: سمّي قريشًا لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم، ويسدّها، والتقريش هو التفتيش، وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لمعرفتهم بالطِّعان، والتقريشُ: وَقْعُ الأسنة، وقيل: التقرش: التنزه عن رذائل الأمور، وقيل: هو مِن أقرشت الشجةُ إذا صدعت العظم، ولم تهشمه، وقيل: أقرش بكذا: إذا سعَى فيه، فوقع له، وقيل غير ذلك، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَالأَنْصَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَأَشْجَعُ) تقدّم الكلام في هذه القبائل، "قريش" وما عُطف عليه مبتدأ، خبره قوله:(مَوَالِيَّ)؛ أي: ناصريّ، والمختصّين بي، وهو أيضًا وليّهم وناصرهم، والمتكفّل بهم، وبمصالحهم
(2)
.
فقوله: "مواليّ" -بتشديد التحتانية- إضافة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المناسب هنا، وإن كان للمولى عدّة معان، ويروى بتخفيف التحتانية،
(1)
"الفتح" 8/ 154 - 155، كتاب "المناقب" رقم (3500).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 3833.
والمضاف محذوف؛ أي: موالي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله:(لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللهِ) تعالى (وَرَسُولِهِ") صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا ولاء لأحد عليهم إلا لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن أشرافهم لم يَجْرِ عليهم رقّ، ولا يقال لهم: موالي لأنهم ممن بادر إلى الإسلام، ولم يُسْبَوْا، فَيُرَقُّوا لغيرهم
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ليس لهم مولى" جملة مقرِّرة للجملة الأولى، على الطرد، والعكس، وفي تمهيد ذِكر الله لذِكر رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي تخصيص ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم إيذان بمكانته، ومنزلته عند الله تعالى، وإشعار بأن توليه إياهم بلغ مبلغًا لا يُقْدَر قدرُهُ. انتهى
(2)
.
وهذه فضيلة ظاهرة لهؤلاء القبائل، والمراد من آمن منهم، والشرف يحصل للشيء إذا حصل لبعضه، قيل: إنما خُصُّوا بذلك؛ لأنهم بادروا إلى الإسلام، فلم يُسْبَوْا كما سُبي غيرهم، وهذا إذا سُلِّم يُحْمَل على الغالب، وقيل: المراد بهذا الخبر: النهي عن استرقاقهم، وأنهم لا يدخلون تحت الرقّ، وهذا بعيدٌ، قاله في "الفتح"
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6418 و 6419](2520)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3504 و 3512)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 400)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 291 و 388 و 467 و 481) و"فضائل الصحابة"(2/ 810)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 172)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 229)، والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 516.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3832.
(3)
"الفتح" 8/ 169، كتاب "المناقب" رقم (3512).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6419]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ سَعْدٌ فِي بَعْضِ هَذَا: فِيمَا أَعْلَمُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي.
وقوله: (قَالَ سَعْدٌ فِي بَعْضِ هَذَا: فِيمَا أَعْلَمُ) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا لسائر الرواة، وعند العذريّ:"قال شعبة"، وهو وَهَمٌ عندهم، والصواب الأول، وأن سعدًا زاد في هذه الرواية في بعض هذه الكلمات:"قريشًا"، وبعض كلمات، فقال:"فيما أعلم"، كأنه شكّ فيها، أو خالفه غيره فيها، فأخبر بما علمه. انتهى كلام القاضي رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن نسخة العذريّ هي الصواب، وأن الشاكّ هو شعبة، لا سعد؛ لِمَا يأتي في التنبيه من رواية أحمد، والطيالسيّ في "مسنديهما"، فقد صرّحا بأن شعبة هو الشاكّ، وأن الذي شكّ فيه هو كونه عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتأملّ بالإمعان، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية شعبة عن سعد بن إبراهيم هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(10041)
- حدّثنا محمد بن جعفر، قال: حدّثنا شعبة، وحجاج، قال: أنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن الأعرج -فيما أعلم، شك شعبة- عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"قريش، والأنصار، وأسلم، وغفارٌ، وجهينة، ومزينة، وأشجع، مواليّ، ليس لهم مولًى دون الله ورسوله". انتهى
(2)
.
وساقها أيضًا أبو داود الطيالسيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 559.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 467.
(2378)
- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، قال: سمعت عبد الرحمن -قال شعبة: ولا أعلمه إلا عن أبي هريرة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأنصار، وقريشٌ، ومزينة، وجُهينة، وغِفَارٌ، وأسلم، وأشجع، بعضهم موالِي بعضٍ، ليس لهم مولى دون الله، ورسوله". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6420]
(2521) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "أَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَو جُهَيْنَةُ خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَبَنِى عَامِرٍ، وَالْحَلِيفَيْنِ: أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "أَسْلَمُ) وما عُطف عليه مبتدأ خبره قوله: "خير من تميم"، (وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ) وفي الرواية الآتية: "وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ"؛ يعني: بعضًا منهم، وهذا تقييد لِمَا أُطلق في هذه الرواية. (وَمَنْ كَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَو جُهَيْنَةُ)"أو" للشكّ من الراوي، (خَيْرٌ مِنْ بَني تَمِيمٍ، وَبَنِي عَامِرِ) بن صعصعة، (وَالْحَلِيفَيْنِ)؛ أي: المتحالفين، وقوله:(أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ") بالجرّ بدل تفصيل من "الحليفين"، أما بنو أسد فقد ظهر مصداق قول النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم عقب وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فارتدّ هؤلاء مع طُليحة بن خُويلد، وارتدّ الذين قبلهم، وهم بنو تميم مع سَجَاح، وقد تقدّم أن بني تميم وبني أسد كانوا أكثر عددًا، وأقوى مكانةً من مزينة، وجُهينة، وغيرهم، ولكن انقلب الشرف إلى مزينة، وجهينة، وغيرهم لإسراعهم إلى الإسلام
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"مسند الطيالسيّ" 1/ 313.
(2)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 288.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6420 و 6421 و 6422](2521)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3523)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3950)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 230 و 369 و 420 و 422 و 450 و 468)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 411)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6421]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْني: الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغِفَارُ، وَأَسْلَمُ، وَمُزَيْنَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ جُهَيْنَةَ، أَو قَالَ: جُهَيْنَةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْ مُزَيْنَةَ، خَيْرٌ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَسَدٍ، وَطَيِّءٍ، وَغَطَفَانَ").
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6422]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِيَانِ ابْنَ عُلَيَّةَ- حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَشَيْءٌ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ،
وَمُزَيْنَةَ، خَيْرٌ عِنْدَ اللهِ -قَالَ: أَحْسِبُهُ قَالَ-: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مِنْ أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، وَهَوَازِنَ، وَتَمِيمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ) ابن كثير بن زيد بن أفلح العَبْديّ مولاهم، أبو يوسف الدَّوْرَقيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 252) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنَ عُلَيَّةَ) هو ابن إبراهيم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"أيوب" هو: ابن أبي تميمة السختيانيّ، و"محمد" هو ابن سيرين.
وقوله: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هكذا صرّح مسلم برفعه، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"عن أبي هريرة قال: قال: أسلم، وغفار. . . إلخ"، فقال في "الفتح": كذا فيه بحذف فاعل "قال" الثاني، وهو اصطلاح لمحمد بن سيرين؛ إذا قال:"عن أبي هريرة قال: قال"، ولم يسمّ قائلًا، فالمراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد نبَّه على ذلك الخطيب، وتبعه ابن الصلاح، وقد أخرج مسلم هذا الحديث عن زهير بن حرب، عن ابن علية، عن أيوب، فقال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه أحمد من طريق معمر، عن أيوب. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6423]
(2522) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أبِيهِ؛ أَنَّ الأقرَعَ بْنَ حَابِسٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ، مِنْ أَسْلَمَ، وَغِفَارَ، وَمُزَيْنَةَ -وَأَحْسِبُ جُهَيْنَةَ، مُحَمَّدٌ الَّذِي شَكَّ- فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ -وَأَحْسِبُ جُهَيْنَةَ- خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ،
(1)
"الفتح" 8/ 171، كتاب "المناقب" رقم (3516).
وَبَنِي عَامِرٍ، وَأَسَدٍ، وَغَطَفَانَ، أَخَابُوا، وَخَسِرُوا؟ "، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ لأَخْيَرُ مِنْهُمْ"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: مُحَمَّدٌ الَّذِي شَكَّ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ) هو: محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب التميميّ البصريّ، نُسِب إلى جدّه، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الحيض" 19/ 780.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) نفيع بن الحارث الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [3](96)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
4 -
(أَبُوهُ) نُفَيع بن الحارث بن كَلَدَة -بفتحتين- ابن عمرو الثقفيّ الصحابيّ الشهير، مشهور بكنيته، وقيل: اسمه مسروح -بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزل البصرة، ومات بها سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه ممن لُقّب بصيغة الكنية، فأبو بكرة لَقَبه، لُقّب به لكونه تدلّى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة البئر، فأسلم، فأعتقه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ) هو محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبيّ البصريّ، من بني تميم، نُسب لجدّه، وفي الرواية التالية:"قال شعبة: حدّثني سيّد بني تميم محمد بن أبي يعقوب"، وقال في "الفتح" بعد نقله: وهو ثقة عند الجميع
(1)
، قال:(سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبيهِ) نُفيع بن الحارث رضي الله عنه؛ (أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ) بحاء مهملة، وموحّدة مكسورة، وبعدها سين مهملة، (جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنَّمَا بَايَعَكَ) بالباء الموحدة، وبعد
(1)
"الفتح" 8/ 171، كتاب "المناقب" رقم (3516).
الألف ياء آخر الحروف، ويُرْوَى:"تابعك" بالتاء المثناة من فوقُ، وبعد الألف باء موحّدة
(1)
. (سُرَّاقُ الْحَجِيجِ) جمع سارق، كما قال في "الخلاصة":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
يعني: أن الذين تابعوك، ودخلوا في دينك من أسافلة القوم، يسرقون أمتعة الحجّاج، يريد بذلك الاستخفاف بهذه القبائل التي أسلمت، ويتعاظم بقبيلته التي لم تُسْلم، وهذا من باب قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)} [الأحقاف: 11]، وقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53].
وقوله: (مِنْ أَسْلَمَ) وما عُطف عليه بيان لـ "سُرّاق الحجيج". (وَغِفَارَ، وَمُزَيْنَةَ) وقوله: (وَأَحْسِبُ جُهَيْنَةَ، مُحَمَّدٌ الَّذِي شَكَّ) هذا من كلام شعبة؛ يعني: أن محمد بن أبي يعقوب شكّ في زيادة: "وجهينة"، قال في "الفتح": وقد ظهر من الرواية التي قبلها
(2)
أن لا أثر لشكّه، وأن ذلك ثابتٌ في الخبر
(3)
. (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ) بمعنى "أخبرني"، والخطاب للأقرع بن حابس، (إِنْ كَانَ أَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ) وقوله: (وَأَحْسِبُ جُهَيْنَةَ) هذا أيضًا من كلام شعبة في شكّ شيخه ابن أبي يعقوب في "جهينة"، وقوله:(خَيْرًا) خبر "كان"، وقوله:(مِنْ بَنِي تَمِيمٍ) وما عُطف عليه متعلّق بـ "خيرًا"، وتَمِيمٍ هو: ابن مُرّ -بضم الميم، وتشديد الراء- ابن أُدّ -بضم الهمزة، وتشديد الدال- ابن طابخة بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عبدنان، وفيهم بطون كثيرة جدًّا
(4)
.
(1)
"عمدة القاري" 16/ 83.
(2)
أي: عند البخاريّ من رواية الثوريّ، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، فأثبتها من غير شكّ.
(3)
"الفتح" 8/ 171، كتاب "المناقب" رقم (3516).
(4)
"عمدة القاري" 16/ 82.
(وَبَنِي عَامِرٍ) بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خَصَفة -بفتح الخاء المعجمة، والصاد المهملة، والفاء- ابن قيس عيلان، وقال ابن دُريد: هوازن ضربٌ من الطير، وفيه بطون كثيرة، وأفخاذ
(1)
.
(وَأَسَدٍ) هو ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مُضَر، وكانوا أعدادًا كثيرًا، وارتدّوا بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم مع طُليحة بن خُويلد، وارتدّ بنو تميم أيضًا مع سَجَاح التي ادّعت النبوة
(2)
.
(وَغَطَفَانَ) -بفتح الغين المعجمة، والطاء المهملة، وتخفيف الفاء- وهو ابن سعد بن قيس غَيلان بن مضر، وكان اسم عبد الله بن غطفان في الجاهلية: عبد العزى، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم: عبد الله، وبنوه يُعرفون ببني الْمُحَوَّلة
(3)
.
(أَخَابُوا، وَخَسِرُوا؟ "، فَقَالَ: نَعَمْ)؛ أي: قال الأقرع: نعم خابوا، وخسروا.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أخابوا وخسروا؟ قال: نعم"؛ هذا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم أراد كفار هذه القبائل، لا مسلميها؛ لأن الخيبة والخسران المطلق لا يكون إلا لأهل الكفر، ويدلّ عليه: مَدْح المسلمين من بني تميم في الحديث الآتي بعد هذا، والله تعالى أعلم. انتهى
(4)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُمْ)؛ أي: إن أسلم وغفار ومزينة وجهينة (لأَخْيَرُ مِنْهُمْ")؛ أي: من بني تميم وبني عامر وأسد وغطفان
(5)
، قال الحافظ: والمراد خيريّة المجموع على المجموع، وإن جاز أن يكون في المفضولين فردٌ أفضل من الأفضلين. انتهى
(6)
.
[تنبيه]: قوله: "لَأَخْير منهم" قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ: "لَأَخْير"، وهي لغة قليلة، تكررت في الأحاديث، وأهل العربية ينكرونها، ويقولون: الصواب: خير، وشرّ، ولا يقال: أخْيَر، ولا أشرّ، ولا
(1)
"عمدة القاري" 16/ 83.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 82.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 82.
(4)
"المفهم" 6/ 475 - 476.
(5)
"عمدة القاري" 16/ 83.
(6)
"الفتح" 15/ 269، كتاب "الأيمان والنذور" رقم (6635).
يُقبل إنكارهم فهي لغة قليلة الاستعمال. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد ثبت كذلك في رواية الترمذيّ بلفظ: "لخير"، وقد أشار ابن مالك في "الكافية" إلى اللغة المشهورة في "خير"، و"شرّ"، فقال:
وَغَالِبًا أَغْنَاهُمُ خَيْرٌ وشَرّْ
…
عَنْ قَوْلِهِمْ أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرّْ
وإنما كانوا خيرًا منهم؛ لأنهم سبقوهم إلى الإسلام، والمراد: الأكثر الأغلب
(2)
.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: مُحَمَّدٌ الَّذِي شَكَّ)؛ يعني: أن شيخه أبا بكر بن أبي شيبة لم يذكر قول شعبة: "محمد الذي شكّ"، وإنما ذكره محمد بن المثنّى، وابن بشار، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6423 و 6424 و 6425 و 6426 و 6427](2522)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3515 و 3516) و"الأيمان والنذور"(6635)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3952)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 411)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 36 و 41 و 48 و 50 و 51)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6424]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي سَيِّدُ بَنِي تَمِيمٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيُّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، قَالَ: "وَجُهَيْنَةُ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَحْسِبُ).
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 76.
(2)
"الفتح" 8/ 171، كتاب "المناقب" رقم (3516).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال البزاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتثقيل النون المضمومة- أبو سهل البصريّ، ثقةٌ
(1)
ثبتٌ في شعبة [9](202)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (الضَّبِّيُّ) قال القاضي عياض: كذا وقع هنا، وضبة لا تجتمع في بني تميم، إنما ضبة بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وفي قريش أيضًا ضبة بن الحارث بن فِهْر، قال: وقد نسبه البخاريّ في "التاريخ" كما وقع في مسلم.
قال النوويّ: وفي هذيل أيضًا ضبة بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، فيجوز أن يكون ضبيًّا بالحلف، أو مجازًا؛ لمقاربته، فإن تميمًا تجتمع هي وضبية قريبًا. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ: "وَجُهَيْنَةُ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَحْسِبُ) فاعل "قال"، و"يقل" ضمير عبد الصمد بن عبد الوارث.
[تنبيه]: رواية عبد الصمد، عن شعبة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(7290)
- أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا عبد الصمد، حدّثنا شعبة، حدّثنا أبو بشر، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، يحدّث عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلم، وغِفار، وجُهينة، ومُزينة، خير من بني تميم، وأسد، وغَطَفان، وبني عامر بن صعصعة"، قال شعبة: وحدّثني سيد بني تميم محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبيّ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم إن
(1)
هذا أَولى من قول "التقريب": صدوق، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 561، و"شرح النوويّ" 16/ 76 - 77.
كانت أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة، خيرًا من بني تميم، وبني عامر بن صعصعة، وأسد، وغطفان، أخابوا، وخسروا؟ " قالوا: نعم، قال:"فوالذي نفسي بيده إنهم خير منهم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6425]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْلَمُ، وَغِفَارُ، وَمُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، خَيْرٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَمِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَالْحَلِيفَيْنِ: بَني أَسَدٍ، وَغَطَفَانَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) -بفتح الجيم، وسكون الهاء، بعدها معجمة مفتوحة- البصريّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوه) عليّ بن نصر بن علي الجهضميّ البصريّ، ثقةٌ من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
3 -
(أَبُو بِشْرِ)
(2)
بن أبي وَحْشيّة -بفتح الواو، وسكون المهملة، وكسر المعجمة، وتثقيل التحتانية- جعفر بن إياس، ثقةٌ، من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم، وفي مجاهد [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَمِنْ بَني عَامِرٍ)؛ أي: ابن صعصعة.
(1)
"صحيح ابن حبان" 16/ 279.
(2)
كتب الشيخ الهرري حفظه الله تعالى هنا ترجمة بيان بن بشر، بدل جعفر بن إياس، والذي يظهر لي أنه جعفر بن إياس؛ لأنه واسطيّ بصريّ، من بلد شعبة، وممن لازمه، فإطلاقه بكنيته ينصرف إليه، وأما بيان فكوفيّ، وأيضًا مما يؤيّد ذلك أن صاحب "تهذيب الكمال" رمز لرواية شعبة عن جعفر برمز مسلم، ولرواية شعبة عن بيان برمز البخاريّ، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَالْحَلِيفَيْنِ) بالحاء؛ أي: المتعاقدين، والمتعاهدين الحلف في الجاهليّة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، ومسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6426]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) ضمير التثنية لعبد الصمد، وشبابة بن سوّار.
[تنبيه]: لم أجد من ساق روايتَيْ عبد الصمد، وشبابة عن شعبة، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6427]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ جُهَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارُ، خَيْرًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَبَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ غَطَفَانَ، وَعَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ؟ "، وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَدْ خَابُوا، وَخَسِرُوا، قَالَ: "فَإِنَّهُمْ خَيْرٌ"، وَفي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ جُهَيْنَةُ، وَمُزَيْنَةُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ، الكوفيّ، ويقال له: الفَرَسي نسبة إلى فرس له سابقٍ، كان يقال له: القبطيّ -بكسر القاف، وسكون الموحدة- وربما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقةٌ فصيح، عالمٌ، تغيّر حفظه، وربما دلّس [4](ت 136) وله مائة وثلاث سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سفيان" هو: ابن سعيد الثوريّ.
وقوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ جُهَيْنَةُ. . . إلخ)؛ أي: أخبروني، والخطاب للأقرع بن حابس ومن معه.
وقوله: (وَبَنِي عَبْدِ اللهِ بْنِ غَطَفَانَ) كان اسم عبد الله بن غطفان في الجاهلية عبد العزى فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله، وبنوه يُعرفون ببني المحوَّلة
(1)
.
وقوله: (وَمَدَّ بِهَا صَوْتَهُ)؛ أي: رفع النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة صوته؛ مبالغة في إشهارها، وإظهارها.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.
(48) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ طَيِّءٍ، وَدَوْسٍ، وَتَمِيمٍ)
أما طيّء: فهو -بفتح الطاء المهملة، وتشديد التحتانية المكسورة، بعدها همزة- ابن أُدَد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، يقال: كان اسمه جلهمة، فسُمِّي طيئًا؛ لأنه أول من طوى بئرًا، ويقال: أول من طوى المناهل، قاله في "الفتح" بزيادة من "اللباب"
(2)
.
وأما دوس: فهو -بفتح الدال المهملة، وسكون الواو، آخره سين
(1)
"عمدة القاري" 16/ 82.
(2)
"الفتح" 9/ 542، كتاب "المغازي" رقم (4394)، و"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 271.
مهملة-: ابن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، بطن كبير من الأزد يُنسب إليهم خلق كثير، قاله في "اللباب"
(1)
.
وأما تميم: فهو -بفتح التاء المثنّاة الفوقانيّة، وميمين مكسورين، بينهما تحتانيّة ساكنة- ابن مُرّ -بضم الميم، وتشديد الراء- ابن أُدّ -بضم الهمزة، وتشديد الدال المهملة- ابن طابخة -بموحدة مكسورة، ثم معجمة- ابن إلياس بن مُضر بن نزار، قاله في "الفتح"
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6438]
(2523) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: أتيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لِي: إِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بَيَّضَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ، صَدَقَةُ طَيِّءٍ، جِئْتَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن زيد بن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرميّ، أبو إسحاق البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 211)(م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1609.
3 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وَضاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
4 -
(مُغِيرَةُ) بن مِقْسم الضبيّ مولاهم، أبو هشام الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ متقنٌ، إلا أنه كان يدلّس، ولا سيما عن إبراهيم [6](ت 136) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
5 -
(عَامِرُ) بن شَرَاحيل الشعبيّ، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ،
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 513.
(2)
"الفتح" 9/ 513، كتاب "المغازي" رقم (4365)
فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
6 -
(عَدِيُّ بْنُ حَاتِمِ) بن عبد الله بن سَعْد بن الْحَشْرَج -بفتح الحاء المهملة، وسكون الشين المعجمة، آخره جيم- الطائيّ، أبو طَرِيف -بفتح الطاء المهملة، وآخره فاء- صحابيٌّ شهيرٌ، وكان ممن ثبت في الردّة، وحضر فتوح العراق، وحروب عليّ رضي الله عنهما، ومات سنة ثمان وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنةً، وقيل: وثمانين (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.
7 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفَيل بن عبد العزى بن رِيَاح بن عبد الله بن قُرْط بن رَزَاح بن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، استُشهِد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن صحابيّه أحد الخلفاء الراشدين، والعشرة المبشّرين بالجنّة، مشهور الفضائل، جَمّ المناقب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ) الطائيّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، هذا الحديث أورده مسلم مختصرًا، وقد ساقه ابن أبي شيبة، وأحمد، وغيرهما مطوّلًا، قال ابن أبي شيبة:
(35895)
- حدّثنا محمد بن الحسن، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن عامر، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت عمر في ناس من قومي، فجَعَل يَفْرِض لرجال من طيء في ألفين، ويُعرض عني، فقلت: يا أمير المؤمنين أما تعرفني؟ فضحك حتى استلقى لقفاه، ثم قال: والله لأعرفك، قد آمنتَ إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه صدقة طيء، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سَرَاة عشائرهم؛ لِمَا ينوبهم من الحقوق. انتهى
(1)
.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 261 - 262.
وقال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":
(316)
- حدّثنا بكر بن عيسى، ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أناس من قومي، فجَعَل يَفرض للرجل من طيّء في ألفين، ويعرض عني، قال: فاستقبلته، فأعرض عني، ثم أتيته من حيال وجهه، فأعرض عني، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين أتعرفني؟ قال: فضحك حتى استلقى لقفاه، ثم قال: نعم والله إني لأعرفك، آمنت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وإن أول صدقة بيَّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه صدقة طيّء، جئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ يعتذر، ثم قال: إنما فرضت لقوم أجحفت بهم الفاقة، وهم سادة عشائرهم؛ لِمَا ينوبهم من الحقوق. انتهى
(1)
.
وقال البزّار رحمه الله في "مسنده":
(336)
- حدّثنا أحمد، قال: نا هدبة بن خالد، قال: نا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبيّ، عن عديّ بن حاتم، قال: أتيت عمر بن الخطاب، وهو يعطي الناس، فأتيته عن يمينه، فأعرض عني، ثم أتيت عن يساره، فأعرض عني، فأتيته من بين يديه، فقلت: يا أمير المؤمنين أما تعرفني؟ قال: بلى، حياك الله بأخير المعرفة، أعرفك أسلمت إذ كفروا، وأعطيت إذ منعوا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا، وإن أول صدقة بيّضت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدقة قومك، إذ جئت بها تحملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: أمّا إذ تعرفني فلا أبالي.
قال أبو بكر -البزّار-: معنى قوله: أسلمت إذ كفروا: أن قومه ارتدُّوا، ولم يرتدّ، ووفيت إذ غدروا: وفيت بما كان عليك من الزكاة، وأعطيت إذ منعوا: حيث منع قومه الزكاة، فقال لهم: هي عليّ في مالي. انتهى
(2)
.
وأخرج البخاريّ في "صحيحه" مختصرًا، فقال:
(4133)
- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا أبو عوانة، حدّثنا عبد الملك عن عمرو بن حريث، عن عديّ بن حاتم قال: أتينا عمر في وَفْد، فجعل يدعو
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 45.
(2)
"مسند البزار" 1/ 469.
رجلًا رجلًا، ويسمِّيهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، أسلمتَ إذ كفروا، وأقبلتَ إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا، فقال عديّ: فلا أبالي إذًا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لِي: إِنَّ أَوَّلَ صَدَقَةٍ بَيَّضَتْ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَوُجُوهَ أَصْحَابِهِ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: سرّتهم، وأفرحتهم، (صَدَقَةُ طَيِّءٍ) بالهمزة على المشهور، وحُكي تركها؛ أي: صدقة قومك، وهم بنو طيّء، (جِئْتَ بِهَا) بتاء الخطاب، وهو لعديّ؛ أي: أتيت بتلك الصدقة (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، فابيضّت، وجوه أصحابه؛ لكونها جاءتهم في وقت الحاجة، وفيه بيان فضل قبيلة طيّء، حيث إنهم بيّضوا وجهه صلى الله عليه وسلم، ووجوه أصحابه رضي الله عنهم بصدقاتهم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: كون هذا الحديث من مسند عمر رضي الله عنه هو الصواب، كما هو عند الحافظ أبي الحجّاج المزيّ رضي الله عنه في "تحفته"
(2)
، وأما جَعْل بعض الشرّاح
(3)
له من مسند عديّ رضي الله عنه فغير صحيح، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 6428](2523)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 261)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 45)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 469)، و (ابن أبي عاصم) في "الأوائل"(1/ 72)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 10)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخ بغداد"(1/ 190)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(40/ 84)، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1596.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 88 في ترجمة عديّ بن حاتم، عن عمر رضي الله عنهما.
(3)
هو الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 24/ 182.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6429]
(2524) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ، وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ، وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا، فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَدِمَ الطُّفَيْلُ)؛ أي: ابن طَرِيف بن العاص بن ثعلبة بن سُليم بن فَهْم بن غَنْم بن دَوْس، كان يقال له: ذو النور، آخره راء؛ لأنه لمّا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم بعثه إلى قومه، فقال: اجعل لي آية، فقال:"اللَّهُمَّ نَوِّر له"، فسطع نور بين عينيه، فقال: يا رب أخاف أن يقولوا: إنه مُثْلَةٌ، فتحول إلى طَرَف سوطه، وكان يضيء في الليلة المظلمة، ذكره هشام بن الكلبيّ في قصة طويلة، وفيها أنه دعا قومه إلى الإسلام، فأسلم أبوه، ولم تُسلم أمه، وأجابه أبو هريرة وحده، وهذا يدلّ على تقدّم إسلامه، وقد جزم ابن أبي حاتم بأنه قَدِم مع أبي هريرة بخيبر، وكأنها قَدمته الثانية، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَأَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ دَوْسًا قَدْ كَفَرَتْ، وَأَبَتْ) هكذا وقع عند مسلم بلفظ: "قد كفرت، وأبت"، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"هلكت"، قال في "العمدة": ادَّعى الداوديّ أن قوله: "هلكت" ليس بمحفوظ، وإنما قال:"عصت، وأبت". انتهى
(2)
.
(فَادْعُ اللهَ عَلَيْهَا)؛ أي: لتهلك بسبب إبائها، (فَقِيلَ)؛ أي: قال الحاضرون للقصّة، ولم يسمّ أحد منهم:(هَلَكَتْ دَوْسٌ)؛ أي: لأنه صلى الله عليه وسلم سيدعو
(1)
"الفتح" 9/ 541، كتاب "المغازي" رقم (4392).
(2)
"عمدة القاري" 18/ 34.
عليها استجابة لطلب الطفيل، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ") إلى المدينة مسلمين، قال في "العمدة": هذا دعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم بالهداية في مقابلة العصيان، والإتيان به في مقابلة الإباء، وفيه حِرْص النبيّ صلى الله عليه وسلم على من يُسلم على يديه. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "اللَّهُمَّ اهد دوسًا، وائت بهم" وقع مصداق ذلك، فذكر ابن الكلبيّ أن حبيب بن عمرو بن حثمة الدوسيّ كان حاكمًا على دوس، وكذا كان أبوه من قبله، وعُمِّر ثلاثمائة سنة وكان حبيب يقول: إني لأعلم أن للخلق خالقًا، لكني لا أدري من هو؟ فلما سَمِع بالنبيّ صلى الله عليه وسلم خرج إليه، ومعه خمسة وسبعون رجلًا من قومه، فأسلم، وأسلموا، وذكر ابن إسحاق أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل الطفيل بن عمرو لِيُحَرِّق صنم عمرو بن حثمة الذي كان يقال له: ذو الْكَفَّين -بفتح الكاف، وكسر الفاء- فأحرقه، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن الطفيل بن عمرو استُشهِد بأجنادين في خلافة أبي بكر رضي الله عنهما، وكذا قال أبو الأسود، عن عروة، وجزم ابن سعد بأنه استُشهِد باليمامة، وقيل: باليرموك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 6429](2524)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4392) وفي "الأدب المفرد"(1/ 214)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 243 و 448 و 502) و"فضائل الصحابة"(2/ 884)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(979 و 980)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 325 و 326 و 327)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(4/ 239)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(25/ 15)، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 18/ 34.
(2)
"الفتح" 9/ 541، كتاب "المغازي" رقم (4392).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل قبيلة دوس، حيث أسلموا بدعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث طُلب منه الدعاء على دوس، فدعا لهم بالهداية، فهداهم الله سبحانه وتعالى.
3 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله عقد بابًا للدعاء على المشركين، وبابًا آخر للدعاء للمشركين، وأورد فيه حديث الباب، والفرق بين المقامين، أنه كان تارةً يدعو عليهم، وتارة يدعو لهم، فالحالة الأولى حيث تشتدّ شوكتهم، ويكثر أذاهم، كما تقدم في أحاديث دعائه صلى الله عليه وسلم على قريش، وعلى رعل، وذكوان، وعصيّة، وغيرهم، والحالة الثانية حيث تؤمَن غائلتهم، ويرجى تألفهم كما في قصة دوس هذه.
قال في "الفتح": وحَكَى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين، ودليله قوله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128]، قال: والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حقّ من يرجى تألفهم، ودخولهم في الإسلام، ويَحْتَمِل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6430]
(2525) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ، مِنْ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ"، قَالَ: وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا"، قَالَ: وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ مِنْهُمْ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ").
(1)
"الفتح" 14/ 437 - 438، كتاب "الدعوات" رقم (6397).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَارِثُ) بن يزيد الْعُكليّ التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ [6].
رَوَى عن أبي زرعة بن عمرو، والشعبيّ، وإبراهيم النخعيّ، وعبد الله بن يحيى الحضرميّ، وعُمارة بن القعقاع، وهو من أقرانه.
وروى عنه عمارة بن القعقاع أيضًا، وعبد الله بن شُبرمة، وابن عجلان، ومغيرة بن مِقْسَم الضبيّ، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: كان فقيهًا من أصحاب إبراهيم من عِلّيتهم، وكان ثقةً في الحديث، قديم الموت، لم يرو عنه إلا الشيوخ، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ ثقةٌ، لا يُسأل عنه، وقال ابن سعد: كان ثقة، قليل الحديث، وقال الحاكم: قلت للدارقطنيّ: فالحارث بن يزيد الْعُكْليّ؟ قال: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال في "الفتح": الحارث هو ابن يزيد، و"الْعُكْليّ" -بضم المهملة، وسكون الكاف-، وليس له في البخاريّ إلا هذا الحديث، وقد أغفله الكلاباذي من رجال البخاريّ، وهو ثقةٌ جليل القدر، من أقران الراوي عنه مغيرة، لكنه تقدم عليه في الوفاة، والإسناد كله كوفيون، غير طرفيه الصحابيّ، وشيخ البخاريّ، زهير بن حرب
(1)
.
أخرج له البخاريّ مقرونًا، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جريرٌ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"مغيرة" هو: ابن مقسم الضبيّ الكوفيّ.
(1)
"الفتح" 6/ 374، كتاب "العتق" رقم (2543).
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وغير شيخه، فبغلانيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) البجليّ؛ أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه: (لَا) نافية، (أَزَالُ أُحِبُّ بَنِي تَمِيمٍ)؛ أي: القبيلة الكبيرة المشهورة، ينتسبون إلى تميم بن مُرّ -بضم الميم، بلا هاء- ابن أُدّ -بضم أوله، وتشديد الدال- ابن طابخة -بموحدة مكسورة، ومعجمة- ابن إلياس بن مضر، كما تقدّم أول الباب.
وذكر ابن إسحاق: أن أشراف بني تميم قَدِموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، منهم: عُطارد بن حاجب الدارميّ، والأقرع بن حابس الدارميّ، والزِّبْرِقان بن بَدْر السعديّ، وعمرو بن الأهتم الْمِنْقَريّ، والْحُباب بن يزيد المجاشعيّ، ونعيم بن يزيد بن قيس بن الحارث، وقيس بن عاصم المنقريّ، قال ابن إسحاق: ومعهم عُيينة بن حصن، وكان الأقرع وعيينة شهدا الفتح، ثم كانا مع بني تميم، فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجرته، فذكر القصة
(1)
.
(مِنْ ثَلَاثٍ)"من" ابتدائيّة؛ أي: من ابتداء ثلاث خصال، ولفظ البخاريّ:"بعد ثلاث"، وفي رواية له:"ما زلت أحبّ بني تميم منذ ثلاث"؛ أي: من حين سمعت الخصال الثلاث، زاد أحمد من وجه آخر، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة:"وما كان قوم من الأحياء أبغض إليّ منهم، فأحببتهم". انتهى، وكأنّ ذلك لِمَا كان يقع بينهم وبين قومه في الجاهلية من العداوة، قاله في "الفتح"
(2)
.
(سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، ثم فصّل ما أجمله في هذا بقوله:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "هُمْ)؛ أي: بنو تميم، (أَشَدُّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ"؛ أي:
(1)
"الفتح" 9/ 513، كتاب "المغازي" رقم (4365).
(2)
"الفتح" 6/ 374، كتاب "العتق" رقم (2543).
في مقاتلته، ودحض باطله، وفي رواية الشعبيّ عن أبي هريرة التالية:"هم أشدّ الناس قتالًا في الملاحم"، وهي أعمّ من رواية أبي زرعة هذه، ويمكن أن يُحْمَل العامّ في ذلك على الخاصّ، فيكون المراد بالملاحم: أكبرها، وهو قتال الدجال، أو ذَكَر الدجال ليدخل غيره بطريق الأَولى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هم أشد أمتي على الدجال" تصريح بأن بني تميم لا ينقطع نَسْلهم إلى يوم القيامة، وبأنهم يتمسكون في ذلك الوقت بالحقّ، ويقاتلون عليه، وفي الرواية الأخرى:"هم أشد الناس قتالًا في الملاحم"؛ يعني: الملاحم التي تكون بين يدي الدجال، أو مع الدجال، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
(قَالَ) أبو هريرة: (وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ)؛ أي: صدقات بني تميم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووقع عند الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق الشعبيّ، عن أبي هريرة في هذا الحديث:"وأُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بنَعَم من صدقة بني سعد، فلما راعه حُسْنها قال: هذه صدقة قومي". انتهى، وبنو سعد بطن كبير شهير من تميم، يُنسبون إلى سعد بن زيد مناة بن تميم، من أشهرهم في الصحابة: قيس بن عاصم بن سنان بن خالد السعديّ، قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذا سيد أهل الْوَبَر"
(3)
.
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "هَذِهِ صَدَقَاتُ قَوْمِنَا") فأضافهم إلى نفسه، ففيه غاية التشريف والتكريم.
وقال في "الفتح": إنما نسبهم صلى الله عليه وسلم إليه؛ لاجتماع نسبهم بنسبه صلى الله عليه وسلم في إلياس بن مضر. (قَالَ: وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ) -بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة، وتشديد التحتانية، وتخفيفها، ثم همزة- أي: جارية مَسبيّة، فَعِيلة بمعنى مفعولة.
(مِنْهُمْ)؛ أي: من بني تميم، وللبخاريّ:"فيهم"؛ أي: في بني تميم، والمراد: بطن منهم، وقد وقع عند الإسماعيليّ من طريق أبي معمر، عن جرير:
(1)
" الفتح" 6/ 374، كتاب "العتق" رقم (2543).
(2)
"المفهم" 6/ 476.
(3)
"الفتح" 6/ 375، كتاب "العتق" رقم (2543).
"وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل، فقَدِم سبي خولان، فقالت عائشة: يا رسول الله أبتاع منهم؟ قال: لا، فلما قَدِم سبي بني العنبر، قال: ابتاعي، فإنهم ولد إسماعيل"، ووقع عند أبي عوانة من طريق الشعبيّ عن أبي هريرة أيضًا:"وجيء بسبي بني العنبر". انتهى، وبنو العنبر بطن شهير أيضًا من بني تميم، يُنسبون إلى العنبر، وهو بلفظ الطِّيب المعروف، ابن عمرو بن تميم
(1)
.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: وقع في نسخة "الصحيحين": سَبِيّة بوزن فَعِيلة مفتوح الأول من السبي، أو من السباء، قال: ولم أقف على اسمها، لكن عند الإسماعيليّ من طريق هارون بن معروف، عن جرير:"نَسَمَةٌ" -بفتح النون، والمهملة- أي: نفس، وله من رواية أبي معمر:"وكانت على عائشة نسمة من بني إسماعيل"، وفي رواية الشعبي المذكورة عند أبي عوانة:"وكان على عائشة مُحَرَّر"، وبَيَّن الطبراني في "الأوسط" في رواية الشعبي المذكورة المراد بالذي كان عليها، وأنه كان نذرًا، ولفظه:"نذرت عائشة أن تُعتق مُحَرَّرًا من بني إسماعيل"، وله في "الكبير" من حديث دُرَيح، وهو بمهملات مصغرًا ابن ذؤيب بن شُعْثُم -بضم المعجمة، والمثلثة، بينهما عين مهملة- الْعَنْبَريّ:"أن عائشة قالت: يا نبي الله إني نذرت عتيقًا من ولد إسماعيل، فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اصبري حتى يجيء فيء بني العنبر غدًا"، فجاء فيء بني العنبر، فقال لها: "خذي منهم أربعة"، فأخذت رُديحًا، وزُبيبًا، وزُخيًا، وسمرة". انتهى
(2)
.
فأما "رُديح" فهو المذكور، وأما زُبيب فهو بالزاي، والموحدة، مصغرًا أيضًا، وضَبَطه العسكريّ بنون، ثم موحّدة، وهو ابن ثعلبة بن عمرو، و"زُخيّ" بالزاي، والخاء المعجمة، وتشديد الياء، مصغَّرًا أيضًا، وضبطه ابن عون بالراء أوله، و"سمرة" هو ابن عمرو بن قُرْط -بضم القاف، وسكون الراء-، قال في الحديث المذكور:"فمسح النبيّ صلى الله عليه وسلم رؤوسهم، وبَرَّك عليهم، ثم قال: يا عائشة هؤلاء من بني إسماعيل قصدًا". انتهى
(3)
.
والذي تعيَّن لِعِتْق عائشة رضي الله عنها من هؤلاء الأربعة، إما رُديح، وإما زُخَيّ، ففي
(1)
"الفتح" 6/ 375، كتاب "العتق" رقم (2543).
(2)
"عمدة القاري" 13/ 105.
(3)
"عمدة القاري" 13/ 105.
"سنن أبي داود" من حديث الزُّبيب بن ثعلبة ما يُرشد إلى ذلك، وفي أول الحديث عنده:"بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى بني العنبر، فأخذوهم برُكْبة من ناحية الطائف، فاستاقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و"رُكْبة" بضم الراء، وسكون الكاف، بعدها موحّدة: موضع معروف، وهي غير ركوبة الثنية المعروفة التي بين مكة والمدينة، وذكر ابن سعد أن سرية عيينة بن حصن هذه كانت في المحرّم سنة تسع من الهجرة، وأنه سُبي إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيًّا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (عِنْدَ عَائِشَةَ) خبر "كانت"، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَعْتِقِيهَا، فَإِنَّهَا مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ") فيه دليل للجمهور في صحة تملّك العربيّ، وإن كان الأفضل عِتْق من يُسترقّ منهم، ولذلك قال عمر: من العار أن يملك الرجل ابن عمه، وبنت عمه، حكاه ابن بطال، عن المهلّب.
وقال ابن المنير: لا بدّ في هذه المسألة من تفصيل، فلو كان العربيّ مثلًا من ولد فاطمة رضي الله عنها وتزوج أمة بشرطه لاستبعدنا استرقاق ولده، قال: وإذا أفاد كون المسبي من ولد إسماعيل يقتضي استحباب إعتاقه، فالذي بالمثابة التي فرضناها يقتضي وجوب حريته حتمًا، والله أعلم
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 6430 و 6431 و 6432](2525)، و (البخاريّ) في "العتق"(2543) و"المغازي"(4366)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 390)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 215)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6808)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 245)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(2/ 369)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 494)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 11)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 375، كتاب "العتق" رقم (2543).
(2)
"الفتح" 6/ 375، كتاب "العتق" رقم (2543).
(المسألة الثالثة): في فوائده
(1)
:
1 -
(منها): بيان فضيلة ظاهرة لبني تميم، وكان فيهم في الجاهلية، وصَدْر الإسلام جماعة من الأشراف والرؤساء.
ثم إن هذه الفضيلة لا تعارض ما ورد من فضيلة مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار علي بني تميم؛ لأن محصّل ما سبق أن هذه القبائل الخمسة أفضل من بني تميم، ولا يلزم منه أن لا يكون لبني تميم فضل أصلًا
(2)
، والله تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): أن فيه الإخبارَ عما سيأتي من الأحوال الكائنة في آخر الزمان.
3 -
(ومنها): أن فيه الردَّ على من نَسَب جميع اليمن إلى بني إسماعيل؛ لتفرقته صلى الله عليه وسلم بين خولان، وهم من اليمن، وبين بني العنبر، وهم من مضر، والمشهور في خولان أنه ابن عمرو بن مالك بن الحارث، من وَلَدِ كهلان بن سبأ، وقال ابن الكلبيّ: خولان بن عمرو بن إلحاف بن قضاعة، قاله في "الفتح"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6431]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَا أَزَالُ أُحِبُّ بَني تَمِيمٍ، بَعْدَ ثَلَاثٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُهَا فِيهِمْ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُمَارَةُ) بن القعقاع بن شُبْرُمة -بضم الشين المعجمة، والراء، بينهما موحّدة ساكنة- الضبيّ -بالضادّ المعجمة، والموحّدة- الكوفيّ، ثقةٌ أرسل عن ابن مسعود [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
(1)
المراد: الفوائد التي اشتمل عليها حديث قصّة بني تميم المذكور في الباب، لا خصوص سياق مسلم، بل يعمّ ما أوردته في الشرح؛ كالفائدة المذكورة آخر المسألة، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(2)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 293.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(171)
- أخبرنا جرير، عن عُمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: لا أزال أُحبّ بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، قال:"هم أشدّ أمتي على الدجال"، فكانت عند عائشة رضي الله عنها سَبِيّة منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعتقها، فإنها من ولد إسماعيل"، وجاءت صدقات بني تميم، فقال:"هذه صدقات قومنا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6432]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنيُّ إِمَامُ مَسْجِدِ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: ثَلَاثُ خِصَالٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي تَمِيمٍ، لَا أَزَالُ أُحِبُّهُمْ بَعْدُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِهَذَا الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ قِتَالًا فِي الْمَلَاحِمِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الدَّجَّالَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيُّ) هو: حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كِرْمان، وقيل: إن حفصًا جدّه هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقةٌ [10](233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنيُّ إِمَامُ مَسْجدِ دَاوُدَ)
(2)
أبو محمد البصريّ، صدوقٌ له أوهام [8].
رَوَى عن داود بن أبي هند، وإياس بن دَغْفَل، ويزيد الرَّقَاشيّ.
(1)
"مسند إسحاق بن راهويه" 1/ 215.
(2)
الظاهر أنه مسجد داود بن أبي هند الذي هو شيخه، وأكثر الرواية عنه، كما في ترجمته، والله تعالى أعلم.
وروى عنه الأصمعيّ، والشاذكونيّ، وعلي ابن المديني، وحامد بن عمر البكراويّ، وقيس بن حفص الدارميّ، وأبو همام، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: شيخ ضعيفٌ، حدّث عن داود بن أبي هند أحاديث مناكير، وأسند عنه، قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: لا بأس به، يحدّث عن داود أحاديث حسانًا، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن أبي خيثمة: حدّثنا القواريريّ، حدّثنا مسلمة بن علقمة، وكان عالِمًا بحديث داود بن أبي هند، حافظًا له، وكان يُقال: في حفظه شيء، وقال الآجريّ عن أبي داود: تَرَك عبد الرحمن حديثه، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل العقيليّ عن أحمد بن محمد: سألت أبا عبد الله عن مسلمة بن علقمة رأيته؟ قال: لا، قلت: كيف هو؟ قال: لا أدري أخبرك، يروون عنه أحاديث مناكير، وأراهم قد تساهلوا في الرواية عنه، قال: وسمعت عبد الله بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه لم يكن بالراضي عنه، وقال الساجيّ: روى عن داود بن أبي هند مناكير، وكان قدريًّا، سمعت ابن مثنى يقول: ما سمعت عبد الرحمن يحدّث عنه بشيء، أراه لبدعته، وقال أبو القاسم البغويّ: بصريّ صالح الحديث، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال: وله عن داود مناكير، وما لا يتابَع عليه من حديثه كثير، وذَكَر له ابن عديّ أحاديث، وقال: وله غير ما ذكرت مما لا يتابَع عليه. انتهى
(1)
.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: لا يوجد في "صحيح مسلم" ممن اسمه مسلمة إلا صاحب الترجمة هذا، ولا يوجد في "صحيح البخاريّ " أصلًا، راجع كتابي "قرة العين"
(2)
، وبالله تعالى التوفيق.
3 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند الْقُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 76.
(2)
"قرّة العين في تلخيص تراجم رجال الصحيحين"(ص 210 - 211).
البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، كان يَهِم بأخرة [5] (ت 140) وقيل: قبلها (خ ت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"الشعبيّ" هو: عامر بن شَرَاحيل.
[تنبيه]: رواية الشعبيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(17854)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله بن يعقوب، ثنا محمد بن نعيم، ثنا حامد بن عمر البكراويّ، ثنا مسلمة بن علقمة المازنيّ، عن داود بن أبي هند، عن عامر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ثلاث سمعتهنّ لبني تميم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أُبغض بني تميم بعدهنّ أبدًا، كان على عائشة رضي الله عنها نَذْر محرَّر مِن وَلَد إسماعيل، فسُبِيَ سَبْيٌ من بني العنبر، فلما جيء بذلك السبي، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن سَرّك أن تفي بنذرك، فأعتقي محرّرًا من هؤلاء"، فجَعَلهم من ولد إسماعيل، وجيء بنَعَمٍ من نَعَم الصدقة، فلما رآه، راعه حُسْنه، قال: فقال: "هذا نَعَم قومي"، فجعلهم قومه، قال: وقال: "هم أشدّ الناس قتالًا في الملاحم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(49) - (بَابُ خِيَارِ النَّاسِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6433]
(2526) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ، إِذَا فَقُهُوا، وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا الأَمْرِ، أَكْرَهُهُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَتَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ، ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ").
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 75.
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم تقدّموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ)؛ أي: أصولًا مختلفةً، والمعادن: جمع معدن، وهو الشيء المستقِرّ في الأرض، فتارةً يكون نفيسًا، وتارةً يكون خسيسًا، وكذلك الناس
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس معادن"؛ أي: كالمعادن، وهو مَثَلٌ، وقد جاء في حديث آخر:"الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة"، ووجه التمثيل: أن المعادن مشتملة على جواهر مختلفة، منها النفيس، والخسيس، وكلّ من المعادن يُخرج ما في أصله، وكذلك الناس كل منهم يَظهر عليه ما في أصله؛ فمن كان ذا شرف في الجاهلية، فأسلم لم يَزِدْه الإسلام إلا شرفًا؛ فإنْ تفقّه في دين الله، فقد وصل إلى غاية الشرف؛ إذ قد اجتمعت له أسباب الشرف كلها، فيصدق عليه قوله:"فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
والمعادن: واحدها معدن -بكسر الدال-؛ لأنَّه موضع العدن؛ أي: الإقامة اللازمة، ومنه: جنات عدن، وسمّي المعدن بذلك؛ لأنَّ الناس يقيمون فيه صيفًا وشتاءً، قاله الجوهريّ. انتهى
(2)
.
(فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلَامِ) وجه التشبيه أن المعدن لمّا كان إذا استُخرج ظهر ما اختفى منه، ولا تتغير صفته، فكذلك صفة الشرف لا
(1)
"الفتح" 8/ 147، كتاب "المناقب" رقم (3493).
(2)
"المفهم" 6/ 477.
تتغير في ذاتها، بل مَن كان شريفًا في الجاهلية، فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمرّ شرفه، وكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية
(1)
. (إِذَا فَقُهُوا) بضمّ القاف، ويجوز كسرها، وفيه إشارة إلى أن الشرف الإسلاميّ لا يتمّ إلا بالتفقه في الدين، وعلى هذا فتنقسم الناس أربعة أقسام، مع ما يقابلها:
الأول: شريف في الجاهلية، أسلم، وتفقه، ويقابله مَشرُوف في الجاهلية، لم يسلم، ولم يتفقه.
الثاني: شريف في الجاهلية، أسلم، ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية، لم يُسلم، وتفقه.
الثالث: شريف في الجاهلية، لم يسلم، ولم يتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية، أسلم، ثم تفقه.
الرابع: شريف في الجاهلية، لم يسلم، وتفقه، ويقابله مشروف في الجاهلية أسلم، ولم يتفقه. فأرفعُ الأقسام مَن شَرُف في الجاهلية، ثم أسلم، وتفقه، ويليه من كان مشروفًا، ثم أسلم، وتفقه، ويليه من كان شريفًا في الجاهلية، ثم أسلم، ولم يتفقه، ويليه من كان مشروفًا، ثم أسلم، ولم يتفقه، وأما من لم يسلم، فلا اعتبار به، سواء كان شريفًا، أو مشروفًا، وسواء تفقه، أو لم يتفقه، والله أعلم.
والمراد بالخيار والشرف وغير ذلك: مَن كان متصفًا بمحاسن الأخلاق؛ كالكرم، والعفّة، والحِلم، وغيرها، متوقيًا لمساويها؛ كالبخل، والفجور، والظلم، وغيرها
(2)
.
(وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هكذا الرواية: "من خير الناس"، وهي لبيان جنس الخيرية؛ كأنه قال: تجدون أكره الناس في هذا الأمر من خيارهم، ويصحّ أن يقال على مذهب الكوفيين: إنها زائدة؛ فإنَّهم
(1)
"الفتح" 8/ 147 - 148، كتاب "المناقب" رقم (3493).
(2)
"الفتح" 8/ 148، كتاب "المناقب" رقم (3493).
يجيزون زيادة "من" في الموجَب، كما تقدَّم، ويعني بالأمر: الولايات؛ وإنَّما يكون من يكرهها من خير الناس؛ إذا كانت كراهته لها لعلّة تعظيم حقوقها، وصعوبة العدل فيها، ولخوفه من مطالبة الله تعالى بالقيام بذلك كله، ولذلك قال فيها:"نعمت المرضعة، بئست الفاطمة"، وكفى بذلك ما تقدَّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أمير عشيرة إلا يُؤتَى يوم القيامة مغلولًا، حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور". انتهى
(1)
.
(فِي هَذَا الأَمْرِ)؛ أي: الولاية، والإمرة. (أَكْرَهُهُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ) وفي رواية البخاريّ:"أشدّهم له كراهيةً": قال في "الفتح": أي: أن الدخول في عُهدة الإِمْرة مكروهة من جهة تحمّل المشقة فيه، وإنما تشتد الكراهة له ممن يتصف بالعقل والدِّين؛ لِمَا فيه من صعوبة العمل بالعدل، وحَمْل الناس على رفع الظلم، ولمَا يترتب عليه من مطالبة الله تعالى للقائم به من حقوقه، وحقوق عباده، ولا يخفى خيرية من خاف مقام ربه.
وأما قوله في الطريق التي بعد هذه: "تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ، أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً"، فإنه قيّد الإطلاق في الرواية الأُولى، وعُرف أن "من" فيه مرادةٌ، وأن من اتصف بذلك لا يكون خير الناس على الإطلاق.
وأما قوله: "حَتَّى يَقَعَ فِيهِ" فاختُلِف في مفهومه، فقيل: معناه أن من لم يكن حريصًا على الإمرة غير راغب فيها، إذا حصلت له بغير سؤال تزول عنه الكراهة فيها؛ لِمَا يُرَى من إعانة الله له عليها، فيأمَن على دينه ممن كان يُخاف عليه منها قبل أن يقع فيها، ومِن ثَمَّ أحب من أحب استمرار الولاية من السلف الصالح حتى قاتل عليها، وصَرَّح بعض من عُزِل منهم بأنه لم تَسُرّه الولاية، بل ساءه العزل.
وقيل: المراد بقوله: "حتى يقع فيه": أي: فإذا وقع فيه لا يجوز له أن يكرهه.
وقيل: معناه: أن العادة جَرَت بذلك، وأن من حَرَص على الشيء،
(1)
"المفهم" 6/ 478.
ورَغِب في طلبه قلَّ أن يحصل له، ومن أعرض عن الشيء، وقَلَّت رغبته فيه يحصل له غالبًا، والله أعلم
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وتجدون من خير الناس في هذا الأمر. . . إلخ" قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أن المراد به الإسلام، كما كان من عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وغيرهم، من مسلمة الفتح، وغيرهم، ممن كان يكره الإسلام كراهية شديدة لَمّا دخل فيه أخلص، وأحبه، وجاهد فيه حقّ جهاده، قال: ويَحْتَمِل أن المراد بالأمر هنا: الولايات والإمارات؛ لأنه إذا أعطيها من غير مسألة أعين عليها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد كون الإسلام مراد بالأمر هنا، فالصواب أنه أمر الولايات، كما هو ظاهر سياق الحديث، فتأمله بالإمعان، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
(وَتَجِدُونَ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ) وفي رواية للبخاريّ: "تجدُ من شرار الناس"، وفي رواية له بلفظ:"تجدون شر الناس"، وأخرجه الترمذيّ بلفظ:"إن من شر الناس"، وأخرجه أبو داود بلفظ:"من شر الناس ذو الوجهين"، وهذه الألفاظ متقاربة، والروايات التي فيها:"شرّ الناس" محمولة على الرواية التي فيها: "من شر الناس"، ووصفه بكونه شرّ الناس، أو من شر الناس مبالغة في ذلك
(3)
، ورواية:"أشر الناس" بزيادة الألف لغة في شرّ، يقال: خير وأخْير، وشرّ وأشر، بمعنى، ولكن الذي بالألف أقلّ استعمالًا.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالناس: مَن ذكر من الطائفتين المتضادتين خاصّة، فإن كل طائفة منهما مجانبة للأخرى ظاهرًا، فلا يتمكن من الاطلاع على أسرارها إلا بما ذُكر من خداعه الفريقين؛ ليطّلع على أسرارهم، فهو شرّهم كلهم، والأَولى حَمْل الناس على عمومه، فهو أبلغ في الذمّ.
(1)
"الفتح" 8/ 148 - 149، كتاب "المناقب" رقم (3493).
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 563، و"شرح النوويّ" 16/ 79.
(3)
"عمدة القاري" 22/ 131.
وقد وقع في رواية الإسماعيليّ من طريق أبي شهاب، عن الأعمش، بلفظ:"من شر خلق الله ذو الوجهين".
وقوله: (ذَا الْوَجْهَيْنِ) مفعول أول لـ "تجدون"، والثاني قوله:"من أشرار الناس"، وقوله:(الَّذي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاء بِوَجْهٍ") تفسير لـ "ذا الوجهين"، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان ذو الوجهين شرّ الناس؛ لأن حاله حال المنافق؛ إذ هو متملّق بالباطل، وبالكذب، مُدخل للفساد بين الناس.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بذي الوجهين: من يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيُظهر لها أنه منها، ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق، ومحض كذب، وخِداع، وتحيّل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة، قال: فأما من يقصد بذلك الإصلاح بين الطائفتين فهو محمود. انتهى
(1)
.
وقال غيره: الفرق بينهما أن المذموم: من يزيّن لكل طائفة عملها، ويقبّحه عند الأخرى، ويذم كل طائفة عند الأخرى، والمحمود: أن يأتي لكل طائفة بكلام فيه صلاح الأخرى، ويعتذر لكل واحدة عن الأخرى، وينقل إليه ما أمكنه من الجميل، ويستر القبيح، ويؤيد هذه التفرقة رواية الإسماعيليّ بلفظ:"الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء"
(2)
.
وقال في "العمدة": ذو الوجهين هو الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه، كما بُيّن في الحديث، وهذه هي المداهنة المحرّمة، وسُمّي ذو الوجهين مداهنًا؛ لأنه يُظهر لأهل المنكر أنه عنهم راض، فيلقاهم بوجه سَمْحٍ بالترحيب والبِشر، وكذلك يُظهر لأهل الحقّ ما أظهره لأهل المنكَر، فبخلطه لكلتا الطائفتين، وإظهارِه الرضى بفعلهم استحقّ اسم المداهنة، واستحقّ الوعيد الشديد أيضًا. انتهى
(3)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا حديث ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره في البيان عن ذمّ من هذه حالته، وفِعله، وخُلُقه -عصمنا الله برحمته- وقد تأول
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 156.
(2)
"الفتح" 8/ 149، كتاب "المناقب" رقم (3493).
(3)
"عمدة القاري" 22/ 131.
قوم في هذا الحديث أنه الذي يرائي بعمله، ويُري الناس خشوعًا، واستكانةً، ويريهم أنه يخشى الله حتى يكرموه، وليس الحديث على ذلك، والله أعلم، وقوله:"يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه" يردّ هذا التأويل، وما يَحتاج ذم الرياء إلى استنباط معنى من هذا الحديث وشِبْهه؛ لأن الآثار فيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن السلف أكثر من أن تحصى، ثم أخرج بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا"، قال: ومن هذا الحديث -والله أعلم- أخَذ القائل قوله:
إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ يَكْشِرُ لِي
…
حِينَ يَلْقَانِي وَإِنْ غِبْتُ شَتَمْ
انتهى
(1)
.
قال الحافظ بعد نقل كلام ابن عبد البرّ: قلت: وقد اقتصر في رواية الترمذيّ على صدر الحديث، لكن دلّت بقية الروايات على أن الراوي اختصره، فإنه عند الترمذي من رواية الأعمش، وقد ثبت هنا من رواية الأعمش بتمامه، ورواية ابن نمير التي أشرت إليها هي التي تردّ التأويل المذكور صريحًا، وقد رواه البخاريّ في "الأدب المفرد" من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ:"لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أمينًا"، وأخرج أبو داود من حديث عمار بن ياسر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان من نار".
وفي الباب عن أنس، أخرجه ابن عبد البر بهذا اللفظ، وهذا يتناول الذي حكاه ابن عبد البرّ عمن ذَكَره، بخلاف حديث الباب، فإنه فسّر بمن يتردد بين طائفتين من الناس، والله أعلم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 18/ 261 - 262.
(2)
"الفتح" 8/ 149، كتاب "المناقب" رقم (3493).
أخرجه (المصنّف) هنا [49/ 6433 و 6434](2526)، وسيأتي عقب حديث (2604)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3353 و 3374) و"المناقب"(3493 و 3494 و 3495 و 3587) و"الأدب"(6058) و"الأحكام"(7179)، و (أبو داود) في "الأدب"(4873)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2025)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 991)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 307 و 336 و 455 و 495)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 226 و 2/ 245)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5754 و 5755 و 5756 و 5757)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 141 و 142)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 16 و 4/ 27)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 246)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3567)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تفاوت الناس في مراتبهم، وأنهم كمعادن الذهب والفضّة، حيث تشتمل على النفيس والخسيس.
2 -
(ومنها): بيان فضل الفقه، وأن الإنسان يشرُف بقدر ما عنده من الفقه في الدين، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في المتّفق عليه:"من يُرِدِ الله به خيرًا يفقّهه في الدين".
3 -
(ومنها): بيان أن الإسلام لا ينقص الشريف عن شرفه، بل يزيد شرفًا على شرفه، ولذا كان من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أتاه وفد سألهم:"من سيّدكم؟ " فإذا أخبره ولّاه عليهم.
4 -
(ومنها): مدح كراهية الإمارة، والخلافة، وذمّ الحرص عليها؛ لأن أخطارها كثيرة، ومسؤوليّتها في الدنيا والآخرة صعبة، لذا قال صلى الله عليه وسلم:"نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة"، رواه البخاريّ.
5 -
(ومنها): ذم ذي الوجهين من الناس الذي يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي أعداءهم بوجه آخر يتودّد إلى كليهما؛ ليعلم أسرارهما، فإنه من المفسدين في الأرض، ومن أشرّ الناس عند الله تعالى، ومن المنافقين الذين يخادعون الله، وهو خادعهم، فينبغي للإنسان أن يجتنب هذا الخُلُق الذميم، ويتحلّى بالخلق الحسن الذي هو خلق النبيّ الكريم -عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم-، قال الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6434]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ أَبِي زُرْعَةَ، وَالأَعْرَجِ:"تَجِدُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فِي هَذَا الشَّأْنِ أَشَدَّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَةً، حَتَّى يَقَعَ فِيهِ").
رجال هذين الإسنادين: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والباب الماضي.
[تنبيه]: رواية أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3304)
- حدّثني إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام؛ إذا فَقُهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهيةً، وتجدون شرّ الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، ويأتي هؤلاء بوجه". انتهى
(1)
.
ورواية الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه" بسند المصنّف، بزيادة في "أوله"، فقال:
(3305)
- حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا المغيرة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم، والناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام؛ إذا فقُهوا، تجدون من خير الناس أشدّ الناس كراهية لهذا الشأن، حتى يقع فيه". انتهى.
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1288.
(50) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6435]
(2527) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ -قَالَ أَحَدُهُمَا-: صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ -وَقَالَ الآخَرُ-: نِسَاءُ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى يَتِيمٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد المكيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن الإسناد الأول مسلسلٌ بالمدنيين غير شيخه، وسفيان، فمكيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، (عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه وقوله:(وَعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ) عطف على قوله:
"عن أبي الزناد"، فلابن عيينة في هذا الحديث سندان: أحدهما عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، والثاني: عن ابن طاوس - (عَنْ أَبِيهِ) طاوس بن كيسان، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ) مبتدأ خبره قوله: "نساء قريش"، وفي الرواية الآتية: ""نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ"، وقوله:(رَكِبْنَ الإِبلَ) صفة لـ "نساء"، وهو كناية عن العرب، قال سفيان بن عيينة:(قَالَ أَحَدُهُمَا)؛ أي: أحد الشيخين: أبو الزناد، أو عبد الله بن طاوس، (صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ)؛ أي: بزيادة لفظة "صالح"، (وَقَالَ الآخَرُ -: نِسَاءُ قُرَيْشٍ) بحذف لفظة "صالح"، سيأتي من رواية معمر عن ابن طاوس أنه هو الذي زاد لفظة:"صالح".
فقوله: "نساء قريش" هذا المطلق محمول على المقيَّد؛ أعني: "صالح نساء قريش"، فالمحكوم له بالخيرية الصالحات من نساء قريش، لا على العموم، والمراد بالصلاح هنا: صلاح الدِّين، وحُسْن المخالطة مع الزوج، ونحو ذلك، أفاده في "الفتح"
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا: قوله: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، وقال الآخر: صالح نساء قريش"، في رواية الكشميهنيّ:"صُلَّح" بضم الصاد المهملة، وتشديد اللام، بعدها جاء مهملة، وهي صيغة جمع.
وحاصله: أن أحد شيخَيْ سفيان اقتصر على "نساء قريش"، وزاد الآخر:"صالح"، قال: ولم أره عن سفيان إلا مبهمًا، لكن ظهر من رواية شعيب، عن أبي الزناد الماضية في أول "النكاح"، ومن رواية معمر، عن ابن طاوس عند مسلم أن الذي زاد لفظة "صالح" هو ابن طاوس، ووقع في أوله عند مسلم من طريق الزهريّ عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بيان سبب الحديث، ولفظه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني قد كَبِرت، وَلي عيال. . ."، فذكر الحديث.
وقوله: (أَحْنَاهُ) بحاء مهملة، ثم نون، من الْحُنُوّ، وهو العطف،
(1)
"الفتح" 11/ 349، كتاب "النكاح" رقم (5082).
والشفقة، قال ابن التين: الحانية عند أهل اللغة: التي تُقيم على ولدها، فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية.
وقال في "العمدة": قوله: "أحناه على طفل"؛ يعني: أشفقه، وأعطفه، وكان القياس أن يقال: أحناهنّ، لكن قالوا: العرب لا تتكلم في مثله إلا مفردًا، وقال ابن الأثير: إنما وَحَّد الضمير ذهابًا إلى المعنى، تقديره: أحنى مَن وُجِد، أو خُلق، أو مَن هناك، ومثله قوله:"أحسن الناس وجهًا، وأحسنه خُلُقًا"، يريد: أحسنهم خُلقًا، وهو كثير في العربية، ومن أفصح الكلام، وأحنى على وزن أفعل التفضيل، من حَنَى يحنو، أو حَنَى يعني، ومنه الحانية، وهي التي تقيم على ولدها، ولا تتزوج شفقةً وعطفًا، ويقال: حَنَت المرأة على ولدها تحنو: إذا لم تتزوج بعد أبيهم.
وفي "التوضيح": وفي بعض الكتب: أحنّاه بتشديد النون، وقال ابن التين: ولعله مأخوذ من الحنان، وهو الرحمة، ومنه حنين المرأة، وهو نزاعها إلى ولدها، وإن لم يكن لها صوت عند ذلك، وقد يكون حنينها: صوتها، على ما جاء في الحديث من حنين الجذع، والأصل فيه: ترجيع الناقة صوتها على إثر ولدها. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أحناه" بسكون المهملة، بعدها نون: أكثره شفقةً، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم في حال يُتْمهم، فلا تتزوج، فإن تزوجت فليست بحانية، قاله الهرويّ، وجاء الضمير مذكّرًا، وكان القياس أحناهنّ، وكأنه ذُكِّر باعتبار اللفظ، والجنس، أو الشخص، أو الإنسان، وجاء نحو ذلك في حديث أنس رضي الله عنه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهًا، وأحسنه خَلقًا"، بالإفراد في الثاني، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما في قول أبي سفيان:"عندي أحسن العرب، وأجمله، أم حبيبة" بالإفراد في الثاني أيضًا، قال أبو حاتم السجستانيّ: لا يكادون يتكلمون به إلا مفردًا. انتهى
(2)
.
وقوله: (عَلَى يَتِيمٍ فِي صِغَرِهِ) وفي الرواية التالية: "على ولده في صغره"،
(1)
"عمدة القاري" 16/ 26.
(2)
"الفتح" 11/ 349، كتاب "النكاح" رقم (5082).
وفي رواية: "على طفل"، قال في "الفتح": في رواية الكشميهنيّ: "على ولد" بلا ضمير، وهو أوْجَه، والتقييد باليُتْم والصِّغَر يَحْتَمِل أن يكون معتبَرًا مِن ذِكر بعض أفراد العموم؛ لأن صفة الحنوّ على الولد ثابتة لها، لكن ذُكرت الحالتان؛ لكونهما أظهر في ذلك. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: قوله: "أحناه": أي: أشفقه، والحانية على ولدها: التي تقوم عليهم بعد تيتّمهم، فإن تزوجت فليست بحانية، قاله الهرويّ، وقوله:"على ولد" قد عرفت أن في الرواية الأخرى: "على يتيم"، فقد يُجعل هذا من الإطلاق والتقييد، ويُحْمَل المطلق على المقيد، وقد يقال: هو مِن ذِكر بعض أفراد العموم فهي حانية على ولدها مطلقًا، لكن الذي تَقْوَى حاجته إلى حنوّها هو اليتيم، أما من أبوه حيّ فمستغنٍ عنها برَفْد أبيه، ولذلك قيّد الولد بالصِّغر؛ لاستغنائه عن حنوّ الأم بعد كِبَره. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَأَرْعَاهُ) هو أيضًا أفعل تفضيل، مِن رَعَى يَرْعَى رِعايةً، والكلام فيه مثل الكلام في "أحناه"
(3)
؛ والمعنى: أي: أحفظ، وأصون لِمَا له بالأمانة فيه، والصيانة له، وترك التبذير في الإنفاق. (عَلَى زَوْجٍ) من الرعاية، وهي الإبقاء، (فِي ذَاتِ يَدِهِ)؛ أي: في ماله المضاف إليه، ومنه قولهم: فلان قليل ذات اليد: أي: قليل المال.
وقال قاسم بن ثابت في "الدلائل": "ذات يده"، و"ذات بيننا"، ونحو ذلك صفة لمحذوف مؤنث، كأنه يعني الحال التي هي بينهم، والمراد بذات يده: ماله، ومَكسَبه، وأما قولهم:"لقيته ذات يوم" فالمراد لقاءة، أو مرّةً، فلما حُذف الموصوف، وبقيت الصفة صارت كالحال. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 11/ 349.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 117.
(3)
"عمدة القاري" 16/ 26.
(4)
"الفتح" 123/ 272، كتاب "النفقات" رقم (5365).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 6435 و 6436 و 6437 و 6438 و 6439 و 6440](2527)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3434) و"النكاح"(5082 و 5365)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 353)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(130)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20604)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1047)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 184)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 269 و 393 و 449 و 502)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1533) و"الآحاد والمثاني"(5/ 459)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 25)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6267 و 6268)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 293) و"شُعَب الإيمان"(6/ 409 و 7/ 477)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3965)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضيلة نساء قريش، وفضل هذه الخصال، وهي الحنوّ على الأولاد، والشفقة عليهم، وحُسْن تربيتهم، ومراعاة حقّ الزوج في ماله، وحِفظه، والأمانة فيه، وحُسْن تدبيره في النفقة
(1)
.
2 -
(ومنها): الحثّ على نكاح الأشراف خصوصًا القرشيات، ومقتضاه أنه كلما كان نسبها أعلى تأكد الاستحباب، ويؤخذ منه اعتبار الكفاءة في النَّسب، وأن غير القرشيات ليس كفأ لهن.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال في "الفتح"، وقد قدّمنا في "النكاح أن اعتبار الكفاءة بالنسب رأي ضعيف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم زوّج فاطمة بنت قيس من مولاه أسامة بن زيد رضي الله عنهم، وزوّج أبو حذيفة مولاه سالمًا بنت أخيه، وغير ذلك كثير، والصواب أن المعتبَر في الكفاءة هو الدِّين، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
3 -
(ومنها): قال الحافظ وليّ العراقيّ رحمه الله: فيه تفضيلُ نساء قريش على غيرهنّ، وقوله:"ركبن الإبل" إشارة إلى العرب؛ لأنهم الذين يُعهد عندهم
(1)
"عمدة القاري" 16/ 26.
ركوب الإبل، فعبَّر بركوب الإبل عن العرب، وقد عُلم أن العرب خير من غيرهنّ، فيستفاد بذلك تفضيلهن مطلقًا. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن أبا هريرة رضي الله عنه أراد من قوله: "ركبن الإبل" إخراج مريم عليه السلام من ذلك؛ لأنها لم تركب بعيرًا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا شك أن لمريم فضلًا، وأنها أفضل من أكثر نساء قريش، وقد ثبت في "الصحيح" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد، وأشار وكيع إلى السماء والأرض" وأراد بهذه الإشارة تفسير الضمير في "نسائها"، وأن المراد به جميع نساء الأرض؛ أي: كل من بين السماء والأرض من النساء.
قال النوويّ: والأظهر أن معناه: أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، وأما التفضيل بينهما فمسكوت عنه.
وقال وليّ الدين: وقد يعود الضمير في "نسائها" على مريم وخديجة، ويكون المقدّم خبرًا، والمؤخر مبتدأ، والتقدير: مريم خير نسائها: أي: خير نساء زمانها، والتردد بين مريم وخديجة مفرّع على الصحيح أن مريم ليست نبيّة، وقد نقل بعضهم الإجماع عليه
(2)
، أما إذا قلنا بنبوّتها كما قاله بعضهم، فلا شكّ حينئذ في فَضْلها على خديجة، والحقّ أنه لا يحتاج إخراج مريم عليه السلام من هذا التفضيل إلى استنباطه من قوله:"ركبن الإبل"؛ لأن تفضيل الجملة لا يلزم طَرْده في كل الأفراد، وقد عُلم فضل مريم بما تقدم وغيره؛ ولو قَصَد بقوله:"ركبن الإبل" إخراج نساء غير العرب للزم على ذلك أن لا يكون لنساء قريش فضل على نساء بني إسرائيل، ولا الروم، ولا الفرس، ولا غيرهم من النساء، وليس كذلك، بل الحديث دالّ على تفضيلهن على جميع النساء؛ لدلالته على تفضيلهن على بقية العرب مع قيام الدليل على تفضيل العرب على غيرهم، ثم إن هذا الحديث إنما سيق -والله أعلم- في معرض الترغيب في
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 114.
(2)
دعوى الإجماع باطلة، كما يبيّنه كلامه بعده، فتفطّن.
نكاح القرشيات، فلم يقصد التعرض لمريم التي انقضى زمانها بنفي ولا إثبات، والله أعلم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
5 -
(ومنها): أنه جاء في رواية "صالح نساء قريش"، وفي غيرها:"نساء قريش"، والمطلق محمول على المقيد، فالمحكوم له بالخيرة إنما هو صالح نساء قريش، لا غيرهنّ، قال أبو العباس القرطبيّ: ويعني بالصلاح هنا صلاح الدين، وصلاح المخالطة للزوج وغيره، كما دل عليه قوله:"أحناه، وأرعاه"، قاله وليّ الدين رحمه الله.
6 -
(ومنها): فيه فضل هاتين الخصلتين:
(إحداهما): الحنوّ على الأولاد، والشفقة عليهم، وحُسْن تربيتهم، والقيام عليهم؛ إذا كانوا أيتامًا، ونحو ذلك.
(والثانية): مراعاة حق الزوج في ماله، وحِفْظه، والأمانة فيه، وحُسْن تدبيره في النفقة وغيرها، وصيانته ونحو ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6436]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَابْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "أَرْعَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ"، وَلَمْ يَقُلْ: يَتِيمٍ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد الماضي قبله، غير:(عَمْرٍو النَّاقِدِ) وهو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، وقد تقدّم قبل بابين.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَرْعَاهُ) فاعل "قال" ضمير عمرو الناقد.
[تنبيه]: رواية عمرو الناقد عن سفيان هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"طرح التثريب" 7/ 116.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 116.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6437]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، حَدَّثَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالً: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الإِبِلَ، أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ"، قَالَ: يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو المذكور أول الباب الماضي.
وقوله: (أَحْنَاهُ)؛ أي: أشفقه، من حَنَى يحنو، وَيحني، من الثلاثيّ، أو مِن أحنى يُحني من الرباعي: أشفق عليه، وعَطَف، والحانية: التي تقوم بولدها بعد موت الأب، يقال: حنت المرأة على ولدها: إذا لم تتزوج بعد موت الأب، قال ابن التين: فإن تزوجت فليست بحانية، وقال الحسن في الحانية: التي لها ولد، ولا تتزوج، وفي بعض الكتب:"أَحَنَّى" بتشديد النون، والتنوين، حكاه ابن التين، وقال: لعله مأخوذ من الحنان، بفتح، وتخفيف، وهو الرحمة، وحَنَت المرأة إلى ولدها وإلى زوجها، سواءٌ كان بصوت أم لا، ومن الذي بالصوت: حنين الجذع، وأصله: ترجيع صوت الناقة على إثر ولدها، وكان القياس: أحناهنّ، لكن جرى لسان العرب بالإفراد، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "على إثر ذلك": أي: على عقبه: "ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط" يريد به أن مريم لم تدخل في النساء المذكورات بما ذكرن؛ لأنه قَيَّدَه بركوب الإبل، ومريم لم تكن ممن يركب الإبل، وقال صاحب "التوضيح": يؤخذ من قول أبي هريرة هذا، ومِنْ ذِكر البخاريّ له في قصة مريم تفضيلها على خديجة وفاطمة؛ لأنهما من العرب المخصوصين بركوب الإبل. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: (يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ
(1)
"الفتح" 8/ 58، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3434).
(2)
"عمدة القاري" 16/ 26.
مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ بَعِيرًا قَطُّ) وفي رواية لأحمد، وأبي يعلى:"وقد عَلِم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مريم لم تركب بعيرًا قط"، أراد أبو هريرة بذلك صلى الله عليه وسلم إخراج مريم من هذا التفضيل؛ لأنها لم تركب بعيرًا قط، فلا يكون فيه تفضيل نساء قريش عليها، ولا يُشَكّ أن لمريم فضلًا، وأنها أفضل من جميع نساء قريش إن ثبت أنها نبيّةٌ، أو مِن أكثرهنّ إن لم تكن نبيّة، وقد تقدم بيان ذلك في فضائل خديجة رضي الله عنها حديث:"خير نسائها مريم، وخير نسائها خديجة"، وأن معناها: أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها، ويَحْتَمِل أن لا يحتاج في إخراج مريم من هذا التفضيل إلى الاستنباط من قوله:"ركبن الإبل"؛ لأن تفضيل الجملة لا يستلزم ثبوت كل فرد فرد منها، فإن قوله:"ركبن الإبل" إشارة إلى العرب؛ لأنهم الذين يَكثُرُ منهم ركوب الإبل، وقد عُرِف أن العرب خير مِن غيرهم مطلقًا في الجملة، فيستفاد منه تفضيلهن مطلقًا على نساء غيرهنّ مطلقًا، ويمكن أن يقال أيضًا أن الظاهر أن الحديث سيق في معرض الترغيب في نكاح القرشيات، فليس فيه التعرض لمريم، ولا لغيرها ممن انقضى زمنهن. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" في موضع آخر: قوله: "ولم تركب مريم بعيرًا قط" إشارة إلى أن مريم لم تدخل في هذا التفضيل، بل هو خاصّ بمن يركب الإبل، والفضل الوارد في خديجة وفاطمة وعائشة هو بالنسبة إلى جميع النساء، إلا مَن قيل: إنها نبيّة، فإن ثبت في حق امرأة أنها نبيةٌ، فهي خارجة بالشرع؛ لأن درجة النبوّة لا شيء بعدها، وإن لم يثبت فيحتاج من يخرجهن إلى دليل خاص لكل منهنّ، فأشار أبو هريرة إلى أن مريم لم تدخل في هذا العموم؛ لأنه قَيَّد أصل الفضل بمن يركب الإبل، ومريم لم تركب بعيرًا قط.
وقد اعترض بعضهم، فقال: كأن أبا هريرة ظنّ أن البعير لا يكون إلا من الإبل، وليس كما ظنّ، بل يُطلق البعير على الحمار، وقال ابن خالويه: لم تكن إخوة يوسف رُكبانًا إلا على أحمرة، ولم يكن عندهم إبل، وإنما كانت
(1)
"الفتح" 11/ 348 - 349.
تحملهم في أسفارهم وغيرها الأحمرة، وكذا قال مجاهد هنا: البعير الحمار، وهي لغة حكاها الكواشيّ. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله الكتاب قال:
[6438]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِع: حَدَّثَتَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ أُمَّ هَانِئ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ، وَلِيَ عِيَالٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ: فِي صِغَرِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ) بكسر الباء الموحّدة، من باب تَعِبَ؛ أي: طعنتُ في السنّ، قال المرتضى: كبُرَ الرَّجُل ككَرُم يَكْبُر كِبَرًا، كَعِنَبٍ، وكُبْرًا بالضَّم، وكَبارةً بالفتح: نَقيضُ صَغُرَ، وكَبِرَ الرجلُ كفَرِحَ يَكْبَرُ كِبَرًا كَعِنَب، ومَكْبِرًا كَمَنْزِلٍ، فهو كَبيرٌ: طَعَنَ في السِّنّ، من الناسِ والدَّوابّ، فعُرِف من هذا أنَّ فِعْلَ الكِبَرِ بمَعْنى العَظَمة ككَرُمَ، وبِمَعنى الطَّعْنِ في السِّنِّ كفَرِح، ولا يجوزُ استِعمالُ أحدِهما في الآخَرِ اتفاقًا، وهذا قد يَغْلَطُ فيه الخاصَّةُ فضلًا عن العامَّة. انتهى باختصار
(2)
.
وقولها: (وَلِيَ عِيَالٌ) بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة: أهل
(1)
"الفتح" 8/ 58، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3434).
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 3437.
البيت، ومن يمونه الإنسان، والواحد: عَيِّلٌ، مثلُ جِيَادٍ وجيِّدٍ، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير معمر.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7637)
- حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خَطَب أم هانئ بنت أبي طالب، فقالت: يا رسول الله، إني قد كَبِرتُ، ولي عِيَال، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خير نساء ركبن نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6439]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثنا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثنا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الابِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ، أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ في صِغَرِه، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ في ذَاتِ يَدِهِ").
1 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون كلّهم ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6440]
(
…
) - (حَدَّثَني أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ، حَدَّثنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: ابْنَ مَخْلَدٍ- حَدَّثَني سُلَيْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ- حَدَّثَني سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ هَذَا سَوَاءً).
(1)
"المصباح المنير" 2/ 438.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 269.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ) أبو عبد الله الكوفيّ، ثقة [11](261)(خ م س ق) تقدم في "الزكاة" 19/ 2344.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ -بفتح القاف والطاء- أبو الهيثم البجليّ مولاهم، الكوفيّ، صدوق يتشيع، وله أفراد، من كبار [10] (ت 213) وقيل: بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح ذكوان السمان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ، تغيّر حفظه بأخرة، روى له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا [6](ت 138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.
5 -
(أَبُوهُ) ذكوان أبو صالح السمّان الزيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلِبُ الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي صالح السمّان، عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(51) - (بَابُ مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6441]
(2528) - (حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاح، وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن يوسف بن حجّاج البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، يقال: لزمه أربعين سنةً، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم آخَى) بالمدّ: أي: حالف، وعاقد (بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ) هو: عامر بن عبد الله بن الجرّاح بن هلال بن أُهيب بن ضبّة بن الحارث بن فِهْر القرشيّ الْفِهْريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، وشَهِد بدرًا، ومات شهيدًا بطاعون عمواس سنة (18) وله (58) سنة، تقدّمت ترجمته في "الصيد والذبائح" 4/ 4990، له في هذا الكتاب ذِكر، ولا رواية له.
(وَبَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حَرَام الأنصاريّ النجاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة، شَهِد بدرًا، وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين سنةً، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 7/ 720.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي عبيدة بن الجراح، وبين أبي طلحة رضي الله عنهما": المؤاخاة: مفاعلة من الأُخُوّة، ومعناها: أن يتعاقد الرجلان على التناصر، والمواساة، والتوارث حتى يصيرًا كالأخوين نسبًا، وقد يُسَمَّى ذلك: حِلفًا، كما قال أنس رضي الله عنه: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داره بالمدينة، وكان ذلك أمرًا معروفًا في الجاهلية، معمولًا به عندهم، ولم يكونوا يسمُّونه إلا حِلْفًا، ولمّا جاء الإسلام عَمِل
النبيّ صلى الله عليه وسلم به، ووَرَّث به على ما حكاه أهل السِّيَر، وذلك أنهم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه مرتين: بمكة قبل الهجرة، وبعد الهجرة، قال أبو عمر: والصحيح عند أهل السِّيَر والعلم بالآثار والخبر في المؤاخاة التي عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حين قدومه إلى المدينة بعد بنائه المسجد، على المواساة والحقّ، فكانوا يتوارثون بذلك دون القرابات، حتى نزلت:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]، فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عليّ بن أبي طالب ونفسه، فقال له:"أنت أخي وصاحبي"، وفي رواية:"أنت أخي في الدنيا والآخرة"، وكان عليّ رضي الله عنه يقول: أنا عبد الله، وأخو رسوله صلى الله عليه وسلم، لم يقلها أحدٌ قبلي، ولا يقولها أحدٌ بعدي إلا كذاب مفترٍ. وآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين عثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخي حسان بن ثابت، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وبين الزبير وسلمة بن سلامة بن وِقْش، وبين طلحة وكعب بن مالك، وبين أبي عبيدة وسعد بن معاذ، وبين سعد ومحمد بن مسلمة، وبين سعيد بن زيد وأُبَيّ بن كعب، وبين مصعب بن عمير وأبي أيوب، وبين عمار وحذيفة بن اليمان، حليف بني عبد الأشهل، وقيل: بين عمار وثابت بن قيس، وبين أبي حذيفة بن عتبة وعبّاد بن بِشر، وبين أبي ذرّ والمنذر بن عمرو، وبين ابن مسعود وسهل بن حُنيف، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، وبين بلال وأبي رُويحة الخثعميّ، وبين حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، وبين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت، وبين عُبيدة بن الحارث وعمير بن الْحُمَام، وبين الطفيل بن الحارث -أخيه- وسفيان بن بشر، وبين الحصين بن الحارث -أخيهما- وعبد الله بن جبير، وبين عثمان بن مظعون والعباس بن عبادة، وبين عتبة بن غزوان ومعاذ بن ماعِص، وبين صفوان بن بيضاء ورافع بن المعلى، وبين المقداد بن عمرو وعبد الله بن رواحة، وبين ذي الشمالين ويزيد بن الحارث من بني خارجة، وبين أبي سلمة بن عبد الأسد وسعد بن خيثمة، وبين عمير بن أبي وقاص وخبيب بن عديّ، وبين عبد الله بن مظعون وقطبة بن عامر، وبين شماس بن عثمان وحنظلة بن أبي عامر، وبين الأرقم بن أبي الأرقم وطلحة بن
زيد الأنصاريّ، وبين زيد بن الخطاب ومعن بن عبديّ، وبين عمرو بن سراقة وسعد بن زيد من بني عبد الأشهل، وبين عاقل بن البكير ومبشر بن عبد المنذر، وبين عبد الله بن مخرمة وفروة بن عمرو البياضي، وبين خنيس بن حذيفة والمنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح، وبين أبي سبرة بن أبي رُهم وعبادة بن الحسحاس، وبين مسطح بن أثاثة وزيد بن المزين، وبين أبي مرثد الغَنَويّ وعبادة بن الصامت، وبين عُكاشة بن محصن والمجذر بن زياد حليف الأنصار، وبين عامر بن فهيرة والحارث بن الضمة، وبين مِهْجَع مولى عمر وسراقة بن عمر النجاريّ.
قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين قبل الهجرة على الحقّ والمواساة، فآخى بين أبي بكر وعمر، وبين حمزة وزيد بن حارثة، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وبين الزبير وابن مسعود، وبين عُبيدة بن الحارث وبلال، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص، وبين أبي عُبيدة وسالم مولى أبي حذيفة، وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عن جملة المهاجرين والأنصار.
قلت
(1)
: وقد جاء في كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أنه آخى بين أبي عبيدة بن الجراح وبين أبي طلحة، وقال أبو عمر: إنه آخى بين أبي عبيدة وبين سعد بن معاذ، والأَولى ما في كتاب مسلم. انتهى
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 6441](2528)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 152)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 68)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 92)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 261)، والله تعالى أعلم.
(1)
القائل هو القرطبيّ رحمه الله.
(2)
"المفهم" 6/ 479 - 482.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6442]
(2529) - (حَدَّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الضَّبَّاح، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ، قَالَ: قِيلَ لأَتسِ بْنِ مَالِكٍ: بَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِلْفَ في الإِسْلَامِ"؟، فَقَالَ أَنَسٌ: قَدْ حَالَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنصَارِ فِي دَارِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) البزاز الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيةٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
3 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ، لم يتكلم فيه إلا القطان، فكأنه بسبب دخوله في الولاية [4] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
و"أنس بن مالك رضي الله عنه " ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كلاحقه، وهو (495) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
عَن عَاصِمٍ الأَحْوَلِ؛ أنه (قَالَ: قِيلَ لأَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، والقائل هو عاصم نفسه، ففي رواية البخاريّ رحمه الله: "قال: قلتُ لأنس
…
إلخ". (بَلَغَكَ) بتقدير همزة الاستفهام، ولفظ البخاريّ: "أبلغك؟ "؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا حِلْفَ فِي الإسْلَامِ"؟) بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام، بعدها فاء: العهدُ، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: لا يتحالف أهل الإسلام، كما كان أهل الجاهلية يتحالفون، وذلك أن المتحالفَينِ كانا يتناصران في كل شيء، فيمنع
الرجل حليفه؛ وإن كان ظالمًا، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكل ممكن، فيمنع الحقوق، وينتصر به على الظلم، والبغي، والفساد، ولمّا جاء الشرع بالانتصاف من لظالم، وأنه يؤخذ منه ما عليه من الحقّ، ولا يمنعه أحد من ذلك، وحدّ الحدود، وبيّن الأحكام، أبطل ما كانت الجاهلية عليه ممن ذلك، وبقي التعاقد والتحالف على نصرة الحقّ، والقيام به، وأوجب ذلك بأصل الشريعة إيجابًا عامًا على من قَدَر عليه من المكلَّفين.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم خصَّ أصحابه من ذلك بأن عقد بينهم حِلْفًا على ذلك مرتين -كما تقدَّم- تأكيدًا للقيام بالحقّ والمواساة، وسمَّى ذلك أُخُوّة مبالغة في التأكيد والتزام الحرمة؛ ولذلك حكم فيه بالتوارث حتى تمكّن الإسلام، واطمأنت القلوب، فنسخ الله تعالى ذلك بميراث ذوي الأرحام. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": معنى قوله: "لا حِلْف في الإسلام": أي: لا يتعاهدون في الإسلام على الأشياء التي كانوا يتعاهدون عليها في الجاهلية، كما سأذكره وكأنّ عاصمًا يشير بذلك إلى ما رواه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جبير بن مطعم مرفوعًا:"لا حِلْف في الإسلام، وأيما حِلْف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدّةً"، أخرجه مسلم.
ولهذا الحديث طُرُق منها عن أم سلمة مثله، أخرجه عمر بن شَبّة في "كتاب مكة" عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب عن جدّه: "قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على دَرَج الكعبة، فقال: أيها الناس
…
"، فذكر نحوه، أخرجه عمر بن شَبّة، وأصله في "السنن"، وعن قيس بن عاصم أنه: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف؟ فقال: لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية"، أخرجه أحمد، وعمر بن شبة، واللفظ له.
ومنها: عن ابن عباس رفعه: "ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّةً وحِدّةً"، أخرجه عمر بن شبة، واللفظ له، وأحمد، وصححه ابن حبان.
(1)
"المفهم" 6/ 482 - 483.
ومن مرسل عديّ بن ثابت: "قال: أرادت الأوس أن تحالف سلمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" مثل حديث قيس بن عاصم، أخرجه عمر بن شبة.
ومن مرسل الشعبيّ رفعه: "لا حلف في الإسلام، وحلف الجاهلية مشدود"، وذكر عمر بن شبة: أن أول حلف كان بمكة حلف الأحابيش؛ أن امرأة من بني مخزوم شَكَت لرجل من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة تسلُّط بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عليهم، فأتى قومه، فقال لهم: ذلّت قريش لبني بكر، فانصروا إخوانكم، فركبوا إلى بني المصطلق، من خزاعة، فسمعت بهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، فاجتمعوا بذنب حَبْش -بفتح المهملة، وسكون الموحدة، بعدها معجمة- وهو جبل بأسفل مكة، فتحالفوا: إن اليد على غيرنا ما رَسَى حَبْش مكانه، وكان هذا مبدأ الأحابيش.
وعند عمر بن شبة من مرسل عروة بن الزبير مثله، ثم دخلت فيهم القَارَةُ. قال عبد العزيز بن عمر: إنما سُمُّوا الأحابيش؛ لتحالفهم عند حَبْش، ثم أسند عن عائشة رضي الله عنها؛ أنه على عشرة أميال من مكة، ومن طريق حماد الراوية: سُمّوا؛ لتحبّشهم؛ أي: تجمّعهم، قال عمر بن شبة: ثم كان حلف قريش، وثقيف، ودَوْس، وذلك أن قريشًا رَغِبَت في وَجّ، وهو من الطائف؛ لِمَا فيه من الشجر والزرع، فخافتهم ثقيف، فحالفتهم، وأدخلت معهم بني دوس، وكانوا إخوانهم، وجيرانهم، ثم كان حلف المطيّبين، وأَزْد.
وأسند من طريق أبي سلمة، رفعه:"ما شَهِدت من حلف إلا حلف المطيبين، وما أحب أن أنكثه، وأن لي حُمُر النَّعَم"، ومن مرسل طلحة بن عوف نحوه، وزاد:"ولو دُعيت به اليوم في الإسلام لأجبت".
ومن حديث عبد الرحمن بن عوف، رفعه:"شَهِدت وأنا غلام حلفًا مع عمومتي المطيبين، فما أحب أن لي حمر النعم، وإني نكثته"، قال: وحلف الفُضول، وهم فضل، وفَضالة، ومفضّل تحالفوا، فلما وقع حلف المطيبين بين هاشم، والمطلب، وأسد، وزهرة، قالوا: حلف كحلف الفضول، وكان حلفهم أن لا يعين ظالم مظلومًا بمكة، وذكروا في سبب ذلك أشياء مختلفة، مُحَصَّلها: أن القادم من أهل البلاد كان يَقْدَم مكة، فربما ظَلَمه بعض أهلها، فيشكوه إلى من بها من القبائل، فلا يفيد، فاجتمع بعض من كان يكره الظلم،
ويستقبحه إلى أن عقدوا الحلف، وظهر الإسلام، وهم على ذلك. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ أنسٌ) رضي الله عنه: (قَدْ حَالَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ فِي دَارِهِ) لفظ البخاريّ: "في داري"، ولا يخفى ما في الأول من الالتفات، قال ابن عيينة: معنى حالف بينهم: أي: آخَى بينهم، يريد أن معنى الحلف في الجاهلية معنى الأُخُوّة في الإسلام، لكنه في الإسلام جارٍ على أحكام الدِّين، وحدوده، وحلِف الجاهلية جرى على ما كانوا يتواضعونه بينهم بآرائهم، فبطل منه ما خالف حكم الإسلام، وبقي ما عدا ذلك على حاله
(2)
.
وقال الطبريّ: ما استَدَلّ به أنس رضي الله عنه على إثبات الحلف لا ينافي حديث جبير بن مطعم في نفيه، فإن الإخاء المذكور كان في أول الهجرة، وكانوا يتوارثون به، ثم نُسِخَ من ذلك الميراثُ، وبقي ما لم يبطله القرآن، وهو التعاون على الحقّ، والنصر، والأخذ على يد الظالم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما:"إلا النصر، والنصيحة، والرِّفادة، ويوصى له، وقد ذهب الميراث".
واختلف الصحابة رضي الله عنهم في الحدّ الفاصل بين الحلف الواقع في الجاهلية والإسلام، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما كان قبل نزول الآية المذكورة
(3)
جاهليّ، وما بعدها إسلاميّ.
وعن عليّ رضي الله عنه: ما كان قبل نزول {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1)} جاهليّ.
وعن عثمان رضي الله عنه: كل حلف كان قبل الهجرة جاهليّ، وما بعدها إسلاميّ.
وعن عمر رضي الله عنه: كل حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود، وكل حلف بعدها منقوض، أخرج كل ذلك عمر بن شَبّة عن أبي غسان محمد بن يحيىى، بأسانيده إليهم، قال الحافظ: وأظن قول عمر أقواها، ويمكن الجمع بأن المذكورات في رواية غيره مما يدلّ على تأكد حلف الجاهلية، والذي في
(1)
"الفتح" 6/ 77 - 78، كتاب "الكفالة" رقم (2294).
(2)
راجع: "الأعلام" للخطّابيّ 2/ 1136.
(3)
يعني: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33].
حديث عمر ما يدلّ
(1)
على نَسْخ ذلك
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 6442 و 6443](2529)، و (البخاريّ) في "الكفالة"(2294) و"الأدب"(6083) و"الاعتصام"(7340)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2926)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 507)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 111 و 145 و 281)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 262)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6443]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَاصم، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حَالَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ في دَارهِ الَّتى بِالْمَدينَةِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8] (ت 187) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كسابقه، وهو (496) من رباعيّات الكتاب.
(1)
هكذا نُسَخ "الفتح": "ما يدلّ"، والظاهر أنه بإسقاط "ما"، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 6/ 78 - 79، كتاب "الكفالة" رقم (2294).
وقوله: (حَالَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) من المحالفة، وهي المعاقدة، والمعاهدة على التعاضد، والتساعد، والاتفاق، ولا يعارض هذا الحديث التالي:"لا حِلْف في الإسلام"؛ لأن ذاك محمول على الحلف الذي كان في الجاهلية على الفتن، والقتال، والغارات، ونحوها، فهذه هي التي نُهِي عنها
(1)
وقوله: (بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأنْصَارِ) هو بمعنى قوله في الرواية الأخرى: "حالف بين المهاجرين والأنصار".
وقوله: (فِي دَارِهِ الَّتي بِالْمَدِينَةِ)؛ أي: في دار أنس رضي الله عنه، وفيه الالتفات السابق؛ إذ الظاهر أن يقول كما في الرواية الأخرى:"في داري".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف صلى الله عليه وسلم أوّلَ الكتاب قال:
[6444]
(2530) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبيه، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حِلْفَ فِي الإِسْلَام، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كانَ فِي الْجَاهلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الاسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم، الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
3 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يدلّس، [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
4 -
(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: له
(1)
"عمدة القاري" 25/ 60.
رؤيةٌ، وسماعه من عمر أثبته يعقوب بن شيبة، ثقة [2](ت 5 أو 96)(خ م د س ق) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 13/ 4559.
6 -
(جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ) بن عبديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ الصحابيّ الشهير، مات سنة ثمان أو تسع وخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 746.
و"شيخه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالكوفيين، والثاني بالمدنيين.
شرح الحديث:
(عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ) بضمّ الميم، وكسر العين المهملة، صيغة اسم الفاعل؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حِلْفَ) بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام، (فِي الإِسْلَامِ) قال ابن سِيدَهْ: معناه: لا تعاهُدَ على فعل شيء كانوا في الجاهلية يتعاهدون عليه، والمحالفة في حديث أنس رضي الله عنه هي الإخاء، قاله ابن التين، قال: وذلك أن الحلف في الجاهلية هو بمعنى النُّصْرة في الإسلام.
وقال الطبريّ في "التهذيب": [فإن قيل]: قد قال صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام"، وهو يعارض قول أنس:"حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري بالمدينة".
[قيل له]: هذا كان في أول الإسلام، آخى بين المهاجرين والأنصار. انتهى
(1)
.
(وَأيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الاسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً")؛ أي: مما لم ينسخه الإسلام، ولم يُبطله حكم القرآن، وهو التعاون على الحقّ، والنصرة، والأخذ على يد الظالم
(2)
.
وقال القرطبيّ: رحمه الله: يعني: مِن نصرة الحق، والقيام به، والمواساة، وهذا كنحو حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق، قال: اجتمعت قبائل من
(1)
"عمدة القاري" 12/ 119.
(2)
"عمدة القاري" 12/ 119.
قريش في دار عبد الله بن جُدْعان؛ لِشَرفه ونَسَبه، فتعاقدوا، وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها، أو غيرهم، إلا قاموا معه حتى تُرَدّ عليه مظلمته، فسَمَّت قريش ذلك الحلف: حلف الفضول؛ أي: حلف الفضائل، والفضول هنا جمع فضل للكثرة؛ كفلس وفلوس. وروى ابن إسحاق عن ابن شهاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جُدْعان حلفًا ما أحبُّ أن لي به حُمُر النَّعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"
(1)
.
(1)
قال البيهقيّ في "السنن الكبرى" 6/ 367:
(12859)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدّثني محمد بن زيد بن المهاجر بن فنفذ، عن طلحة بن عبد الله بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لقد شَهِدت في دار عبد الله بن جُدْعان حِلْفًا، ما أُحِبّ أن لي به حمرَ النعم، ولو أُدعَى به في الإسلام لأجبت"، قال القتيبي فيما بلغني عنه: وكان سبب الحلف أن قريشًا كانت تتظالم بالحرم، فقام عبد الله بن جُدْعان والزبير بن عبد المطلب، فدعوهم إلى التحالف على التناصر، والأخذ للمظلوم من الظالم، فأجابهما بنو هاشم، وبعض القبائل من قريش.
قال الشيخ -البيهقيّ-: قد سمّاهم ابن إسحاق بن يسار قال: بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب بن عبد مناف، وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي، وبنو زُهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرّة، قال القتيبي: فتحالفوا في دار عبد الله بن جُدعان، فسَمَّوا ذلك الحلف حلف الفضول؛ تشبيهًا له بحلف كان بمكة أيام جُرْهُم على التناصف، والأخذ للضعيف من القويّ، وللغريب من القاطن، قام به رجال من جُرْهم، يقال لهم الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فَضَالة، فقيل: حلف الفضول جمعًا لأسماء هؤلاء، قال غير القتيبي في أسماء هؤلاء: فضل، وفضال، وفضيل، وفضالة، قال القتيبيّ: والفضول جمع فضل، كما يقال: سعد وسعود، وزيد وزيود، والذي في حديث عبد الرحمن بن عوف: حلف المطيبين، قال القتيبيّ: أحسبه أراد حلف الفضول؛ للحديث الآخر، ولأن المطيبين هم الذين عقدوا حلف الفضول، قال: وأي فضل يكون في مثل التحالف الأول، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أحب أن أنكثه، وأن لي حمر النعم"، ولكنه أراد حلف الفضول الذي عقده المطيّبون، قال محمد بن نصر المروزيّ: قال بعض أهل المعرفة بالسِّيَر وأيام الناس: إن قوله في هذا الحديث: "حلف المطيبين" غلط، =
وقال ابن إسحاق: تحامل الوليد بن عتبة على حسين بن عليّ في مال له لسلطان الوليد؛ فإنَّه كان أميرًا على المدينة. فقال له حسين: أحلف بالله لتنصفني، من حقي، أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأَدْعُوَنَّ بحلف الفضول، قال عبد الله بن الزبير: وأنا أحلف بالله لئن دعانا لآخذن سيفي، ثم لأقومن معه حتى ينتصف من حقه، أو نموت جميعًا، وبلغت المسور بن مخرمة، فقال مثل ذلك، وبلغت عبد الله بن عثمان بن عبيد الله التيميّ، فقال مثل ذلك، فلما بلغ ذلك الوليد أنصفه. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أصل الحلف: المعاقدة، والمعاهدة على التعاضد، والتساعد، والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن، والقتال بين القبائل، والغارات، فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا حلف في الإسلام"، وما كان في الجاهلية على نصر المظلوم، وصلة الأرحام؛ كحلف المطيبين، وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"وأيما حلف كان في الجاهلية، لم يزده الإسلام إلا شدّةً"، يريد: من المعاقدة على الخير، ونصرة الحقّ، وبذلك يجتمع الحديثان، وهذا الحلف الذي يقتضيه الإسلام، والممنوع منه ما خالف حكم الإسلام.
وقيل: المحالفة كانت قبل الفتح، وقوله:"لا حلف في الإسلام" قاله زمن الفتح، فكان ناسخًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه من المطيبين، وكان عمر رضي الله عنه من الأحلاف، والأحلاف ست قبائل: عبد الدار، وجُمَح، ومخزوم، وعديّ، وكعب، وسَهْم، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم لمّا أرادت بنو عبد مناف أخْذَ ما في أيدي عبد الدار من الحجابة، والرفادة، واللواء، والسقاية، وأبَتْ عبد الدار عَقَد كل قوم على أمرهم حِلْفًا مؤكَّدًا على أن لا يتخاذلوا، فأخرجت بنو عبد مناف جَفْنة مملوءة طيبًا، فوضعتها لأحلافهم،
= إنما هو حلف الفضول، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُدرِك حلف المطيّبين؛ لأن ذلك كان قديمًا قبل أن يولد بزمان، وأما السابقة التي ذكرها، فيُشبه أن يريد بها سابقة خديجة رضي الله عنها إلى الإسلام، فإنها أول امرأة أسلمت. انتهى.
(1)
"المفهم" 6/ 483 - 484.
وهم: أسد، وزُهرة، وتيم، في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها، وتعاقدوا، وتعاقدت بنو عبد الدار، وحلفاؤها حِلْفًا آخر، مؤكّدًا، فسموا الأحلاف؛ لذلك. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 6444](2530)، و (أبو داود) في "الفرائض"(2925)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 30)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 83)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1580 و 1597)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 403)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(9295)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4371 و 4372)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 238)، و (الحاكم) في "مستدركه"(2/ 239)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 262)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أنه لا حِلْف في الإسلام، قال النوويّ رحمه الله: ذكر مسلم رحمه الله في الباب المؤاخاة، والْحِلْف، وحديث:"لا حِلْف في الإسلام"، وحديث أنس:"آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري بالمدينة". قال القاضي عياض: قال الطبريّ: لا يجوز الحِلف اليوم، فإن المذكور في الحديث، والموارثة به، وبالمؤاخاة، كله منسوخ؛ لقوله تعالى:{وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} الآية [الأنقال: 75]، وقال الحسن: كان التوارث بالحلف، فنُسخ بآية المواريث.
قال النوويّ: أما ما يتعلق بالإرث فيُستحب فيه المخالفة عند جماهير العلماء، وأما المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة الله تعالى، والتناصر في الدين، والتعاون على البرّ والتقوى، وإقامة الحقّ فهذا باق، لم يُنسخ،
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 424 - 425.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: في هذه الاحاديث: "وأيما حِلْف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدّةً"، وأما قوله صلى الله عليه وسلم:"لا حِلْف في الإسلام"، فالمراد به حِلْف التوارث، والحلف على ما مَنَعَ الشرعُ منه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان إقرار الشرع ما كان من الحلف في الجاهليّة على التناصر، والتناصح، وإقامة العدل، وغير ذلك مما ندب إليه الشرع.
3 -
(ومنها): بيان كون الشريعة شاملةً كافلةً، سمحةً، تراعي في كل توجيهاتها مصالح العباد، فلا تنهى إلا عمّا لا مصلحة فيه، أو هو ظلم محض، فما جاءت لمحو المصالح التي كانوا عليها في الجاهليّة، فقد كان النكاح، والبيع، والشراء، والطلاق، وغير ذلك من المصالح الكثيرة، فجاءت الشريعة، فأقرّت ذلك كلّه، ونفت منه ما يكون مضرّة للعباد، أو وسيلة إليها، فما أحكمَ هذا الدين، وما أشمله، وأسمحه، وجعله ظاهرًا على الأديان كلّها حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، فاللَّهُمَّ ثبّتنا عليه، وأمِتْنا عليه، وابعثنا عليه، واجعلنا من خيار أهله أحياءً وأمواتًا، آمين، والحمد لله رب العالمين.
(52) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمَان لأَصْحَابِه، وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم أَمَانٌ لِلأُمَّةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6445]
(2531) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ حُسَيْنٍ - قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ، قَالَ: فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقَالَ:"مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا؟ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صَلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ: "أَحْسَنْتُمْ،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 81 - 82.
أَو أَصَبْتُمْ"، قَالَ: فَرَفَعَ رَأسَهُ إِلَى السَّمَاء، وَكَانَ كَثِيرًا مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاء، فَقَالَ: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاء، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأنا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبله.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبانَ) هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح بن عُمير الأمويّ مولاهم، ويقال له: الجعفيّ نسبة إلى خالة حسين بن عليّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مُشْكُدانة -بضم الميم والكاف، بينهما معجمة ساكنة، وبعد الألف نون- وهو وعاء المسك بالفارسية، صدوقٌ، فيه تشيّع [10](239)(م د س) تقدم في "الاستسقاء" 5/ 2088.
4 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ الْجُعْفِيُّ) هو: الحسين بن عليّ بن الوليد الجعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله أربع، أو خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
5 -
(مُجَمِّعُ
(1)
بْنُ يَحْيَى) بن يزيد بن جارية الأنصاريّ الكوفيّ، ويقال: ابن زيد، صدوق [5].
روى عن خالد بن زيد بن جارية، وعثمان بن عبد الله بن موهب، وأبي أمامة أسعد بن سهل بن حُنيف، وسعيد بن أبي بردة بن أبي موسى، وعطاء بن أبي رَبَاح، وغيرهم.
وروى عنه مِسْعَر، وابن عيينة، وابن المبارك، ومروان بن معاوية، وحسين بن عليّ الجعفيّ، ومحمد بن بشر العبديّ، وأبو نعيم، وآخرون.
قال الأثرم عن أحمد: لا أعلم إلا خيرًا، وقال ابن معين: صالح، وقال أبو حاتم: ليس به بأس، صالح الحديث، وقال ابن عمارة، ويعقوب بن شيبة،
(1)
بضمّ الميم، وفتح الجيم، وكسر الميم المشدّدة.
وأبو داود: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة، وقال: أصله مدنيّ، وله أحاديث.
أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
6 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ، ثبتٌ، وروايته عن ابن عمر مرسلة [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.
7 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
8 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار، أبو موسى الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: مجمّع، عن سعيد، عن أبي بردة، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن أبيه، وفيه الصحابيّ المشهور أبو موسى رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) الصحيح أن اسمه كنيته، (عَنْ أَبِيهِ) أبي موسى الأشعريّ عبد الله بن قيس؛ أنه (قَالَ: صَلَّيْنَا الْمَغْرِبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قُلْنَا: لَوْ جَلَسْنَا حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَهُ الْعِشَاءَ)؛ أي: لكان خيرًا لنا، فـ "لو" شرطيّة، وجوابها مقدّر، كما ذكرنا، ويَحْتَمِل أن تكون للتمنّي، فلا تحتاج إلى جواب. (قَالَ) أبو موسى:(فَجَلَسْنَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا)؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("مَا زِلْتُمْ هَا هُنَا؟ ") بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أما زلتم في هذا المكان؟ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ صلَّيْنَا مَعَكَ الْمَغْرِبَ، ثُمَّ قُلْنَا: نَجْلِسُ حَتَّى نُصَلِّيَ مَعَكَ الْعِشَاءَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَحْسَنْتُمْ، أَو) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (أَصَبْتُمْ")؛ أي: أصبتم الصواب في انتظاركم هذا؛ لأن المنتظر للصلاة لا يزال في الصلاة ما انتظرها. (قَالَ) أبو موسى: (فَرَفَعَ) صلى الله عليه وسلم (رَأسَهُ إِلَى السَّمَاء، وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم (كَثِيرًا)
منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: رفعًا كثيرًا، وقوله:(مِمَّا يَرْفَعُ رَأْسَهُ)"من" زائدة على مذهب من يرى زيادتها في الإثبات، و"ما" زائدة لتأكيد الكثرة، وقوله:"يرفع رأسه" خبر "كان". (إِلَى السَّمَاءِ) متعلّق بـ "يرفع".
وهذا لا يعارضه ما ثبت من أن نَظَره صلى الله عليه وسلم إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "ألفيّة السيرة":
نَظَرُهُ لِلأَرْضِ مِنْهُ أَطْوَلُ
…
إِلَى السَّمَاءِ خَافِضٌ إِذْ يَنْظُرُ
لأن نظره إلى السماء كثير في نفسه، لكنّه أقلّ من نظره إلى الأرض، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("النُّجُومُ)؟ أي: الكواكب، سُمِّيت بها؛ لأنها تنجُم؛ أي: تطلع من مطالعها في أفلاكها
(1)
. (أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ) بفتحات، مصدرٌ، بمعنى: الأمن، قال المجد رحمه الله: الأَمْنُ، والآمِنُ، كصاحِب: ضِدُّ الخَوْف، أمِنَ كفَرِحَ أمْنًا، وأمانًا، بفَتْحِهِما، وأمَنًا، وأمَنَةً محرَّكتين، وإِمْنًا بالكسر، فهو أمِنٌ، وأمِينٌ، كَفَرِحٍ، وأمير، ورَجُلٌ أُمَنَةٌ، كهُمَزَةٍ، ويحَرَّكُ: يَأْمَنُهُ كُلُّ أحَدٍ في كلِّ شيءٍ، وقد آمَنَهُ، وأمَّنَهُ. انتهى
(2)
.
ووَصْفُ النجوم بالأمنة من قبيل قولهم: رجل عَدْلٌ؛ يعني: أنها سبب أمْن السماء، فما دامت النجوم باقية لا تنفطر، ولا تتشقق، ولا يموت أهلها
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: "الأَمَنَةُ" بفتح الهمزة، والميم، والأَمْنُ، والأمان، بمعنى، ومعنى الحديث: أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقيةٌ فإذا انكدرت النجوم، وتناثرت في القيامة، وَهَنَت السماء، فانفطرت، وانشقت، وذهبت، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون": أي: من الفتن، والحروب، وارتداد مَن ارتدّ من الأعراب، واختلاف القلوب، ونحو ذلك، مما أنذر به صريحًا، وقد وقع كل ذلك. انتهى
(4)
.
(1)
"فيض القدير" 6/ 296.
(2)
"القاموس المحيط" 1/ 1518.
(3)
"فيض القدير" 6/ 296.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 83.
(فَإذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ)؛ أي: تناثرت، (أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ) من الانفطار، والطيّ كالسِّجِلّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: ما دامت النجوم فيها لم تتغير بالانشقاق، ولا بالانفطار، فإذا انتثرث نجومها، وكُوّرت شمسها، جاءها ذلك، وهو الذي وُعدت به. انتهى
(1)
.
(وَأَنَا أَمنَة لأَصْحَابِي) قال القرطبيّ رحمه الله الأَمَنَة: الأمن، ومنه قوله تعالى:{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية [الأنقال: 11]؛ أي: أمنًا، ويعني بذلك: أن الله تعالى رفع عن أصحابه صلى الله عليه وسلم الفتن، والمحن، والعذاب مُدّة كونه فيهم، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية [الأنقال: 33]، فلما تولي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت الفتن، وعَظُمت الْمِحَن، وظهر الكفر والنفاق، وكثر الخلاف والشقاق، فلولا تدارُك الله تعالى هذا الدين بثاني اثنين لصار أثرًا بعد عَيْن، وهذا الذي وُعدوا به. انتهى
(2)
.
(فَإِذَا ذَهَبْتُ أتى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ)؛ أي: من الفتن والحروب واختلاف القلوب، وقد وقع. (وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن أصحابه صلى الله عليه وسلم ما داموا موجودين كان الدِّين قائمًا، والحقّ ظاهرًا، والنصر على الأعداء حاصلًا، ولمّا ذهب أصحابه غلبت الأهواء، وأُدِيلت الأعداء، ولا يزال أمر الدِّين متناقصًا، وجَدّه ناكصًا إلى أن لا يبقى على ظهر الأرض أحد يقول: الله، الله، وهو الذي وُعدت به أمته، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "وأصحابي أمنة لأمتي -أي: أمة الإجابة- فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون": أي: من ظهور البدع، وغلبة الأهواء، واختلاف العقائد، وطلوع قرن الشيطان، وظهور الروم وغيرهم عليهم، وانتهاك المدينة، ومكة، وهذه كلها معجزاته صلى الله عليه وسلم وقعت، كما أخبر صلى الله عليه وسلم
(4)
.
(1)
"المفهم" 6/ 484 - 485.
(2)
"المفهم" 6/ 484 - 485.
(3)
"المفهم" 6/ 485.
(4)
"فيض القدير" 6/ 296، و"شرح النوويّ" 16/ 83.
وقال ابن الأثير رحمه الله: أراد بوعد السماء انشقاقها، وذهابها يوم القيامة، وذهاب النجوم تكويرها، وانكدارها، وإعدامها، وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن، وكذلك أراد بوعد الأمة، والإشارة في الجملة إلى مجيء الشرّ عند ذهاب أهل الخير، فإنه صلى الله عليه وسلم لمّا كان بين أظهرهم كان يبيّن لهم ما يختلفون فيه، فلما تُوُفّي جالت الآراء، واختلفت الأهواء، فكان الصحابة رضي الله عنهم يسندون الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في قول، أو فعل، أو دلالة حال، فلما فُقد قلَّت الأنوار، وقَوِيت الظُّلَم، وكذلك حالُ السماء عند ذهاب النجوم، قال: والأَمَنَة في هذا الحديث جمع أمين، وهو الحافظ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [52/ 6445](2531)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 398 - 399)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7249)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(ص 318 - 319)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 260)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 104)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 190)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كون النبيّ صلى الله عليه وسلم أمنة لأصحابه، بل لأمته، فإنه الرحمة المهداة، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، وقال صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا رحمة مهداة"
(2)
.
2 -
(ومنها): بيان فضل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث جعلهم الله تعالى رحمة للأمة، فوجودهم أمان من العذاب، والفتن رضي الله عنهم.
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 70 - 71.
(2)
حديث صحيح، رواه الدارميّ وغيره.
3 -
(ومنها): بيان كون النجوم أمانًا للسماء، فحيث وُجدت كانت السماء آمنة من الانشقاق والانفطار.
4 -
(ومنها): أن فيه معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث وُجدت هذه الأمور حسبما أخبر، فما وقع التفرق والاختلاف إلا بعد موته صلى الله عليه وسلم، وكذا ما فشا الاختلاف العقديّ، وانتشر في الأرض، وما كثر الابتداع والمحدثات إلا بعد موت الصحابة رضي الله عنهم، فوقع كلّ ذلك كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن حبّان رضي الله عنه في "صحيحه" بعد إخراج الحديث: قال أبو حاتم رحمه الله: يشبه أن يكون معنى هذا الخبر: أن الله جل وعلا جعل النجوم علامة لبقاء السماء، وأمنة لها عن الفناء، فماذا غارت، واضمحلت أتى السماء الفناء الذي كُتب عليها، وجعل الله جل وعلا المصطفى أمنة أصحابه من وقوع الفتن، فلما قبضه الله جل وعلا إلى جنته أتى أصحابه الفتن التي أُوعدوا، وجعل الله أصحابه أمنة أمته من ظهور الجور فيها، فإذا مضى أصحابه أتاهم ما يوعدون، من ظهور غير الحقّ، من الجور، والأباطيل. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(53) - (بَابُ فَضْلِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6446]
(2532) - (حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرًا يُخْبِرُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "يَأْتي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكلمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ
(1)
"صحيح ابن حبان" 16/ 235.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ، ذُكر قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) هو: أحمد بن عبدة بن موسى الضبيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(عَمْرُو) بن دينار المكيّ، أبو محمد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
5 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصْغِر بأُحُد، ثم شَهِد ما بعدها، ومات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وهو من رواية الأقران، وكلاهما من المكثرين السبعة، روى الأول (1540) حديثًا، والثاني (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يَغْزُو)؛ أي: يريد، ويطلب العدوّ، يقال: غزاه غَزْوًا: أراده، وطلبه، وقَصَده، كاغتزاه، وغزا العدوّ: سار إلى قتالهم، وانتهابهم غَزْوًا،
وغَزَوَانًا، قاله المجد رحمه الله
(1)
. (فِئَامٌ) بكسر الفاء، وفتح الهمزة، ويقال: فيام، بياء مخففة، وفيه لغة أخرى، وهي فتح الفاء، ذكره ابن عبديس، وفي "التهذيب": العامة تقول: فيام، وهي الجماعة من الناس، قال صاحب "العين": ولا واحد له من لفظه
(2)
. وقوله: (مِنَ النَّاسِ) بيان لـ "فئام"، (فَيُقَالُ لَهُمْ)؛ أي: للفئام الغزاة؛ أي: يقول بعضهم لبعض: (فِيكُمْ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أفيكم (مَنْ رَأَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟) وفي لفظ: "هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ " بَدَل "من رأى"، وقوله: "من رأى
…
إلخ" ردّ لقول جماعة من المتصوفة القائلين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يره أحد في صورته، ذَكَره السمعانيّ
(3)
.
وقال ابن بطال رحمه الله: هو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"؛ لأنه يُفتح للصحابة رضي الله عنهم؛ لِفَضْلهم، ثم للتابعين لفضلهم، ثم لتابعيهم لفضلهم، قال: ولذلك كان الصلاح، والفضل، والنصر للطبقة الرابعة أقلّ، فكيف بمن بَعْدَهم؟ والله المستعان. أنتهى
(4)
.
وفيه معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضيلة لأصحابه، وتابعيهم رضي الله عنهم.
(فَيَقُولُونَ)؛ أي: يجيب المسؤولون بقولهم: (نَعَمْ)؛ أي: معنا من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فَيُفْتَحُ لَهُمْ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: يفتح الله تعالى لهم بلد العدوّ، ويهزمهم، فتُغنم أموالهم، وتسبى ذراريّهم بسبب ذلك الصحابيّ، وبركة رؤيته للنبيّ صلى الله عليه وسلم. (ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ)؛ أي: جماعة أُخَر (مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ) بسبب بركة ذلك التابعيّ الرائي للصحابيّ، ودعائه بالنصر والفتح. (ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاس، فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لَهُمْ") بسبب بركة ذلك تابعي التابعيّ، ودعائه بالنصر والفتح، ثم إنه ذكر في هذا الحديث ثلاث طبقات: طبقة الصحابة، ثم طبقة
(1)
"القاموس المحيط" ص 947.
(2)
"عمدة القاري" 14/ 179 - 180.
(3)
"عمدة القاري" 14/ 180.
(4)
"شرح ابن بطّال على البخاريّ" 5/ 91.
التابعين، ثم طبقة أتباع التابعين، وسيأتي في رواية أبي الزبير التالية زيادة طبقة رابعة، وهي زيادة شاذّة، سيأتي الكلام عليها هناك - إن شاء الله تعالى -.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 6446 و 6447، (2532)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2897) و"الأنبياء"(3594) و"فضائل الصحابة"(3649)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 7)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 328)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4768 و 6666)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3864)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(20/ 375 و 376)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان بركة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبركة أصحابه ببركة صحبته.
2 -
(ومنها): بيان بركة التابعين، وتابعيهم بسبب مصاحبتهم لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحبة من صاحبهم.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل واضح على صحّة نبوّة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ مضمونه خبر عن غَيْب وقع على نحو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان الصالحين والضعفاء، ولذلك أورد البخاريّ هذا الحديث في "كتاب الجهاد" في "باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب"، ثم أورد حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ أنه رأى أن له فضلًا على مَن دونه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل تُنصرون، وتُرزقون إلا بضعفائكم؟ "، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" بلفظ:"يُنصَر المسلمون بدعاء المستضعفين"، وأخرجه النسائيّ بلفظ:"إنما نَصَر الله هذه الأمة بضَعَفَتهم، بدعواتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم"، ورواه أحمد، والنسائيّ بلفظ:"إنما تُنصرون، وتُرزقون بضعفائكم".
(1)
"المفهم" 6/ 488 - 489.
قال ابن بطال رحمه الله: تأويل الحديث أن الضعفاء أشدّ إخلاصًا في الدعاء، وأكثر خشوعًا في العبادة؛ لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": إنه يستفاد من هذا الحديث بطلان قول من ادَّعَى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة؛ لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد، والبعوث إلى بلاد الكفار، وأنهم يسألون: هل فيكم أحدٌ من أصحابه؟ فيقولون: لا، وكذلك في التابعين، وفي أتباع التابعين، وقد وقع كلُّ ذلك فيما مضى، وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك، على ما هو معلوم مشاهَد من مدة متطاولة، ولا سيما في بلاد الأندلس، وضَبَط أهل الحديث آخر من مات من الصحابة، وهو على الإطلاق أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثيّ، كما جزم به مسلم في "صحيحه"، وكان موته سنة مائة، وقيل: سنة سبع ومائة، وقيل: سنة عشر ومائة، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر:"على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد". انتهى
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6447]
(. . .) - (حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمُوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: زَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، يُبْعَثُ مِنْهُمُ الْبَعْثُ، فَيَقُولُونَ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ فِيكُمْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِه، ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّانِي، فَيَقُولُونَ: هَلْ فِيهِمْ مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِه، ثُمَّ يُبْعَثُ الْبَعْثُ الثَّالِثُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ ثُمَّ يَكُونُ الْبَعْثُ الرَّابعُ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فِيهِمْ أَحَدًا، رَأَى مَنْ رَأَى أَحَدًا رَأَى أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فَيُوجَدُ الرَّجُلُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بِهِ").
(1)
راجع: "الفتح" 7/ 173 - 174، كتاب "الجهاد" رقم (2896).
(2)
"الفتح" 7/ 5.
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأُمَوِيُّ) هو: سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ، ربما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
2 -
(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الجمل، صدوقٌ يُغْرِب، من كبار [9](ت 194) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ المكيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (يُبْعَثُ مِنْهُمُ الْبَعْثُ) بفتح الموحّدة، وسكون العين المهملة، آخره ثاء مثلّثة: الجيش، تسمية بالمصدر، والجمع بُعُوثٌ، يقال: بَعَثْتُ رسولًا بَعْثًا: أرسلته، وابْتَعَثْتُهُ كذلك، وفي المطاوع: فَانْبَعَثَ، مثل كسرته فانكسر، وكلُّ شيء يَنْبَعِثُ بنفسه، فإن الفعل يتعدى إليه بنفسه، فيقال: بَعَثْتُهُ، وكلّ شيء لا ينبعث بنفسه؛ كالكتاب، والهدية، فإن الفعل يتعدى إليه بالباء، فيقال: بَعَثْتُ بِه، وأوجز الفارابيّ، فقال: بَعَثَهُ: أي: أهبّه، وبَعَثَ بِهِ: وجّهه. انتهى
(1)
.
والحديث بهذا السياق من أفراد المصنّف، وشرح الحديث، ومسائله تقدّمت في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
[تنبيه]: وقع في رواية أبي الزبير عن جابر هذه زيادة طبقة رابعة، قال الحافظ رحمه الله: وهذه الرواية شاذّة، وأكثر الروايات مقتصِر على الثلاثة، كما سأوضح ذلك في الحديث الذي بعده -يعني: حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما الآتي - قال: ومثله حديث واثلة رضي الله عنه، رفعه: "لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني، وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 52.
وصاحَبَ من صاحبني"
(1)
، أخرجه ابن أبي شيبة، وإسناده حسن. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6448]
(2533) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو الأَحْوَص، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيّ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي، ثم الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، تَسْبقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، ويمِينُهُ شَهَادَتَهُ"، لَمْ يَذْكُرْ هَنَّادٌ الْقَرْنَ فِي حَدِيثِه، وَقَالَ قتَيْبَةُ: "ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) -بكسر الراء الخفيفة - ابن مصعب التميميّ، أبو السّريّ الكوفيُّ، ثقة [10](243) وله إحدى وتسعون سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
3 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السلميّ، أبو عَتّاب - بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة - الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلّس [6](ت ذ 32)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ، الفقيه، ثقةٌ، إلا أنه يرسل كثيرًا [5](ت 96) وهو ابن خمسين، أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ) بسكون اللام، ويقال: بفتحها، هو: عَبيدة بن عمرو المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ، تابعيّ كبيرٌ مخضرمٌ، فقيةٌ ثبتٌ، كان شريح إذا أشكل عليه شيء يسأله، مات سنة اثنتين وسبعين، أو بعدها، والصحيح أنه مات قبل سنة سبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 89/ 468.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 405.
(2)
"الفتح" 8/ 315 - 316، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3649).
7 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن، مات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، سوى قتيبة فبغلانيّ بلدة من بَلْخَ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض على قول من يرى أن منصورًا من صغار التابعين، وفيه أن صحابيَّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، مناقبه جمة، فهو من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، وأَمّره عمر رضي الله عنه على الكوفة، وفيه عبد الله مهملًا، فهو ابن مسعود؛ للقاعدة المشهورة أنه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة يُنظر إلى السند، فإن كان كوفيًّا، فهو ابن مسعود، أو مكيًّا، فهو ابن الزبير، أو مدنيًّا، فهو ابن عمر، أو بصريًّا، فهو ابن عبّاس، أو مصريًّا، وشاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث"، حيث قال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُاللَّهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَو جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
شرح الحديث:
(عَنْ عَبِيدَةَ) بفتح العين المهملة، مكبّرًا، (السَّلْمَانِيِّ) بفتح السين المهملة، وسكون اللام، وحكي فتحها: نسبة إلى بني سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد، وهو حيّ من مراد، قال ابن الأثير: وأصحاب الحديث يفتحون اللام -أي: والمشهور إسكانها- انتهى
(1)
.
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية التالية: "قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ "، ("خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ)؟ أي: أهل القرن (الَّذِينَ يَلُونِي)؛ أي: قرن الصحابة رضي الله عنهم، فهو بمعنى الرواية
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 127.
الأخرى: "خير الناس قرنيّ"، قال القرطبيّ رحمه الله: القرن - بسكون الراء - من الناس: أهل زمان واحد، قال الشاعر [من الطويل]:
إذَا ذَهَبَ القَرنُ الذي أنتَ فِيهِمُ
…
وخُلِّفْتَ في قَرْنٍ فأَنتَ غَرِيبُ
وقيل: مقدار زمانه: ثمانون سنة، وقيل: ستون، ويعني: أن هذه القرون الثلاثة: أفضل مِمَّا بعدها إلى يوم القيامة، وهذه القرون في أنفسها متفاضلة، فأفضلها: الأول، ثم الذي بعده، ثم الذي بعده، هذا ظاهر الحديث، فأما أفضلية الصحابة، وهم القرن الأول على من بَعْدَهم، فلا تخفى، وقد بيّنّا إبطال قول من زعم أنه يكون فيمن بعدهم أفضلُ منهم، أو مساوٍ لهم في "كتاب الطهارة"، وأما أفضلية مَن بعدهم، بعضهم على بعض، فبحسب قرْبهم من القرن الأول، وبحسب ما ظهر على أيديهم من إعلاء كلمة الدين، ونَشْر العلم، وفَتْح الأمصار، وإخماد كلمة الكفر، ولا خفاء: أن الذي كان من ذلك في قرن التابعين كان أكثر وأغلب مما كان في أتباعهم، وكذلك الأمر في الذين بعدهم، ثم بعد هذا غلبت الشرور، وارتُكبت الأمور، وقد دلَّ على صحة هذا قوله في حديث أبي سعيد:"يغزو فئام من الناس، فيقال: هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: نعم، فيُفتح لهم. . ." الحديث متّفقٌ عليه. انتهى
(1)
.
وسيأتي تمام البحث في أقوال أهل العلم في معنى القرن في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى-.
(ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: القرن الذي بعدهم، وهم التابعون، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: وهم أتباع التابعين.
قال النوويّ رحمه الله: اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، والمراد أصحابه، وقد قدمنا أن الصحيح الذي عليه الجمهور أن كل مسلم رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو ساعة فهو من أصحابه، ورواية:"خير الناس" على عمومها، والمراد منه: جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابيّ على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ولا أفراد النساء على مريم، وآسية، وغيرهما، بل المراد: جملة القرن بالنسبة إلى كل قرن بجُملته.
(1)
"المفهم" 6/ 485 - 486.
قال القاضي عياض: واختلفوا في المراد بالقرن هنا، فقال المغيرة: قرنه أصحابه، والذين يلونهم أبناؤهم، والثالث أبناء أبنائهم، وقال شهر: قرنه ما بقيت عين رأته، والثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثم كذلك، وقال غير واحد: القرن كل طبقة مقترنين في وقت، وقيل: هو لأهل مدة بُعث فيها نبيّ طالت مدته أم قصرت، وذكر الحربيّ الاختلاف في قَدْره بالسنين، من عشر سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال: وليس منه شيء واضح، ورأى أن القرن كل أمة هلكت، فلم يبق منها أحد، وقال الحسن وغيره: القرن عشر سنين، وقتادة: سبعون، والنخعيّ: أربعون، وزرارة بن أبي أوفى: مائة وعشرون، وعبد الملك بن عمير: مائة، وقال ابن الأعرابيّ: هو الوقت، هذا آخر ما نَقَل القاضي.
قال النوويّ: والصحيح أن قرنه صلى الله عليه وسلم الصحابة، والثاني التابعون، والثالث تابعوهم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ
(1)
.
وقال في "الفتح": والمراد بقرن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: الصحابة، وقد سبق في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله:"وبُعثت في خير قرون بني آدم"، وفي رواية بُريدة عند أحمد:"خير هذه الأمة القرن الذين بُعثت فيهم"، وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة، أو دونها، أو فوقها بقليل، على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتُبِر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فيكون مائة سنة، أو تسعين، أو سبعًا وتسعين.
وأما قرن التابعين فإن اعتُبر من سنة مائة، كان نحو سبعين، أو ثمانين، وأما الذين بعدهم، فإن اعتُبر منها كان نحوًا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان، والله أعلم.
واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحِن أهل العلم ليقولوا بخلق القران، وتغيَّرت الأحوال تغيّرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 84 - 85.
وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب" ظهورًا بيِّنًا، حتى يشمل الأقوال، والأفعال، والمعتقدات، والله المستعان. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)؛ أي: في حالين، وليس المراد أن ذلك يقع في حالة واحدة؛ لأنه دور، كالذي يَحْرِص على ترويج شهادة، فيحلف على صحتها؛ ليقوّيها، فتارة يحلف قبل أن يشهد، وتارة يشهد قبل أن يحلف، ويَحْتَمِل أن يقع ذلك في حال واحدة عند من يجيز الحلف في الشهادة، فيريد أن يشهد ويحلف.
وقال ابن الجوزيّ: المراد أنهم لا يتورعون، ويستهينون بأمر الشهادة واليمين.
وقال ابن بطال: يُستدلّ به على أن الحَلِف في الشهادة يُبطلها، قال: وحَكَى ابن شعبان في "الزاهي" من قال: أشهد بالله أن لفلان على فلان كذا لم تُقبل شهادته؛ لأنه حَلِف، وليس بشهادة، قال ابن بطال: والمعروف عن مالك خلافه. انتهى
(2)
.
وقوله: (لَمْ يَذْكُرْ هَنَّادٌ الْقَرْنَ فِي حَدِيثِهِ) أشار به إلى اختلاف شيخيه: قتيبة، وهنّاد بن السريّ، فقتيبة ذكر القرن، وهنّاد لم يذكره، والظاهر أنه قال:"خير الناس"، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَقَالَ قُتَيْبَةُ: "ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ") أشار به أيضًا إلى اختلاف آخر، وهوأن قتيبة قال:"ثم يجيء أقوام" بالجمع، بدل قول هنّاد:"ثم يجيء قوم" بالإفراد، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 8/ 316 - 317، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3651).
(2)
"الفتح" 6/ 514 - 515، كتاب "الشهادات" رقم (2652).
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 6448 و 6449 و 6450 و 6451](2533)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2652) و"فضائل الصحابة"(3651) و"الرقاق"(6429) و"الأيمان والنذور"(6658)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3859)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 494)، و (ابن ماجه) في "الأحكام"(2362)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(299)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 378 و 417 و 438 و 442)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 73)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4328)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 152)، و"مشكل الآثار"(3/ 176)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10338)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 45 و 122 و 123 و 159 و 160)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل القرن الأول على جميع القرون مطلقًا، بسبب اشتماله على النبيّ صلى الله عليه وسلم المفضَّل على جميع الأنبياء والمرسلين - عليهم الصلاة والسلام -.
2 -
(ومنها): بيان فضل القرون الثلاثة، وأنهم أفضل ممن جاء بعدهم، وإن عمل ما عمل، وهذا هو الذي عليه الجمهور، وسيأتي مزيد تحقيق فيه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى -.
3 -
(ومنها): ذمّ من يشهد، ويحلف مع شهادته، واحتج به بعض المالكية في ردّ شهادة من حلف معها، وجمهور العلماء أنها لا تُردّ، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة، وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وُجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وُجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة، لكن بقلّة، بخلاف مَن بعد القرون الثلاثة، فإن ذلك كَثُر فيهم، واشتَهَرَ.
5 -
(ومنها): بيان من تُرَدّ شهادتهم، وهم من اتصف بالصفات
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 85 - 86.
المذكورة، والى ذلك الإشارة بقوله:"ثم يفشو الكذب": أي: يكثر.
6 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على جواز المفاضلة بين الصحابة رضي الله عنهم، قاله المازريّ
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في إتمام البحث الذي أشرنا إليه آنفًا:
قال في "الفتح": اقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين، والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع، أو الأفراد؟ محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البرّ: والذي يظهر أن من قاتَل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئًا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنًا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية [الحديد: 10]، واحتج ابن عبد البرّ بحديث:"ثَل أمتي مثل المطر، لا يُدرَى أوله خير أم آخره"، وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة.
وأغرب النوويّ، فعزاه في "فتاويه" إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذيّ بإسناد أقوى منه، من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وأجاب عنه النوويّ بما حاصله: أن المراد: من يشتبه عليه الحال في ذلك، من أهل الزمان الذين يُدركون عيسى ابن مريم عليهما السلام، ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام، ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك: أيّ الزمانين خير؟ وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني"، والله أعلم.
وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين، بإسناد حسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَيُدْرِكَنَّ المسيحُ أقوامًا إنهم لمثلكم، أو خيرٌ ثلاثًا، ولن يخزي الله أمة أنا أولها، والمسيح آخرها".
وروى أبو داود، والترمذيّ من حديث أبي ثعلبة، رفعه: "تأتي أيامٌ
(1)
"الفتح" 8/ 319، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3651).
للعامل فيهنّ أجر خمسين"، قيل: منهم، أو منّا يا رسول الله؟ قال: "بل منكم"، وهو شاهد لحديث: "مَثَلُ أمتي مثل المطر".
واحتجّ ابن عبد البر أيضًا بحديث عمر رضي الله عنه، رفعه:"أفضل الخلق إيمانًا قوم في أصلاب الرجال، يؤمنون بي، ولم يروني. . ." الحديث، أخرجه الطيالسيّ، وغيره، لكن إسناده ضعيف، فلا حجة فيه.
وروى أحمد، والدارميّ، والطبرانيّ، من حديث أبي جمعة، قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله أأحد خيرٌ منا، أسلمنا معك، وجاهدنا معك؟ قال:"قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي، ولم يروني"، وإسناده حسن، وقد صححه الحاكم.
واحتجّ أيضًا بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم؛ لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم على أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين، وتمسكوا به، وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضًا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان، كما زكت أعمال أولئك، ويشهد له ما رواه مسلم، عن أبي هريرة، رفعه:"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
وقد تُعُقّب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرّح القرطبيّ، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرّح في كلامه باستثناء أهل بدر، والحديبية، نَعَم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه، والسَّبْق إليه بالهجرة، أو النصرة، وضَبْط الشرع المتلقى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده؟ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مِثل أجر مَن عمل بها مِن بعده، فظهر فَضْلهم.
ومحصّل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، كما تقدم، فإنْ جَمَع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهًا.
على أن حديث: "للعامل منهم أجر خمسين منكم" لا يدلّ على أفضلية
غير الصحابة على الصحابة؛ لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضًا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل، فأما ما فاز به من شاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة، فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة.
وأما حديث أبي جمعة، فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية، كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ: "قلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منّا أجرًا
…
" الحديث، أخرجه الطبرانيّ، وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب عنه، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تلخّص مما سبق أن ما ذهب إليه الجمهور من تفضيل أهل القرن الأول، ثم مَن بعدهم على ترتيب ظاهر الحديث هو الحقّ؛ لقؤة حُجَجه، كما مرّ عليك آنفًا، في تحقيق الحافظ رحمه الله، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في تكميل البحث في معنى القرن المذكور في الحديث:
[اعلم]: أنه قد تكلّم العلماء في معنى القرن، وقد ذكرنا بعض الأقوال فيما مضى، ونزيد تكميله هنا.
قال الفيّوميّ رحمه الله: القَرْنُ: الْجِيل من الناس، فيه ثمانون سنةً، وقيل: سبعون، وقال الزجاج: الذي عندي - والله أعلم - أن القَرْنَ أهل كل مدّة، كان فيها نبيّ، أو طبقة من أهل العلم، سواء قَلّت السنون، أو كثرت، قال: والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القُرُونِ قرني -يعني: أصحابه - ثم الذين يلونهم -يعني: التابعين- ثم الذين يلونهم"؛ أي: الذين يأخذون عن التابعين. انتهى
(2)
.
وقال في "القاموس"، و"شرحه": القرن زمن معيَّن، أو أهل زمن مخصوص، واختار بعضٌ أنه حقيقة فيهما، واختُلف هل هو من الاقتران؛ أي:
(1)
"الفتح" 7/ 7.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 500.
الأمة المقترنة في مدة من الزمان، من قَرْن الجبل؛ لارتفاع سهم، أو غير ذلك؟ واختلفوا في مدة القرن، وتحديدها، فقيل: أربعون سنة، عن ابن الأعرابيّ، ودليله قول الجعديّ:
ثَلَاثَةَ أَهْلِينَ أَفْنَيْتُهُمْ
…
وَكَانَ الإِلهُ هُوَ الْمُسْتَآسَا
فإنه قال هذا، وهو ابن مائة وعشرين. أو عشرة، أو عشرون، أو ثلاثون، أو ستون، أو سبعون، أو ثمانون، نقلها الزجاج في تفسير قوله تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} الآية [يس: 31] والأخير نقله ابن الأعرابيّ أيضًا، وقالوا: هو مقدار المتوسط من أعمار أهل الزمان، أو مائة، أو مائة وعشرون، وفي "فتح الباري": اختلفوا في تحديد مدة القرن من عشرة إلى مائة وعشرين، لكن لم أر من صرَّح بالتسعين، ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، والأول من القولين الأخيرين أصحّ، وقال ثعلب: هو الاختيار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لغلام بعد أن مسح رأسه: "يعيش قَرْنًا"
(1)
، فعاش مائة سنة، قال: وبالأخير فُسّر حديث: "إن الله يبعث على رأس كل قرن لهذه الأمة من يجدد أمر دينها"، كما حققه الحافظ السيوطيّ رحمه الله، والقرن: كل أمة هلكت، فلم يبق منها أحدٌ، وبه فُسّرت الآية المذكورة، وقيل: الوقت من الزمان، عن ابن الأعرابيّ. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": القرن أهل زمان واحد متقارب، اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبيّ، أو
(1)
هو: ما أخرجه الطبرانيّ عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، فقال:"يعيش هذا الغلام قرنًا"، فعاش مائة سنة، وكان في وجهه ثؤلول، فقال:"لا يموت حتى يذهب الثؤلول من وجهه"، فلم يمت حتى ذهب الثؤلول من وجهه.
قال الحافظ الهيثميّ رحمه الله: رواه الطبرانيّ والبزار باختصار الثؤلول، إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدركن قرنًا"، ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح، غير الحسن بن أيوب الحضرميّ وهو ثقة. انتهى. "مجمع الزوائد" 9/ 405، وصحَّح الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع:"الصحيحة" 6/ 343.
(2)
"تاج العروس من جواهر القاموس" 1/ 8136.
رئيس يجمعهم على ملة، أو مذهب، أو عمل، ويُطلق القرن على مدّة من الزمان، واختلفوا في تحديدها، من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين، قال الحافظ: لكن لم أر من صرّح بالتسعين
(1)
، ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل، وذكر الجوهريّ بين الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد الله بن بُسْر عند مسلم ما يدلّ على أن القرن مائة، وهو المشهور، وقال صاحب "المطالع": القرن أمة هلكت، فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في حديث عبد الله بن بُسْر، وهي ما عند أكثر أهل العراق، ولم يذكر صاحب "المحكم" الخمسين، وذَكَر من عشر إلى سبعين، ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال، وبه صرّح ابن الأعرابيّ، وقال: إنه مأخوذ من الاقتران
(2)
، ويمكن أن يُحْمَل عليه المختلِف من الأقوال المتقدِّمة، ممن قال: إن القرن أربعون فصاعدًا، أما من قال: إنه دون ذلك، فلا يلتئم على هذا القول، والله أعلم
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأقوال وأدلّتها، أن الأرجح قول من قال: إن القرن مائة سنة؛ لقوّة حججه؛ ومِن أبرزها حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسي، فقال:"هذا الغلام يعيش قرنًا"، فعاش مائة سنة، وهو حديث صحيح
(4)
، أخرجه الحاكم، وغيره، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6449]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
(1)
وقع في نسخة "الفتح": "السبعين" بدل "التسعين"، والصواب:"التسعين"، كما في "تاج العروس" 9/ 305.
(2)
وقع في نسخة "الفتح": "من الأقران"، والصواب كما في "التاج":"من الاقتران".
(3)
"الفتح" 7/ 5.
(4)
تقدّم الكلام عليه في الهامش، فارجع إليه.
قَالَ: "قَرْنِي، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، تَبْدُرُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَتَبْدُرُ يَمِينُهُ شَهَادَتَهُ"، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانُوا يَنْهَوْنَنَا، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ عَنِ الْعَهْد، وَالشَّهَادَاتِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: ابن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ أبو الحسن الكوفيّ، ثقة حافظ شهيرٌ [10](239) وله ثلاث وثمانون سنةً (خ) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) ابن راهويه تقدّم قبل باب.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ، تَبْدُرُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ
…
إلخ) "تَبْدُر" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر: أي: تَسبِق، قال الطحاويّ رحمه الله: أي: يُكثرون الأيمان في كل شيء حتى يصير لهم عادةً، فيحلف أحدهم حيث لا يراد منه اليمين، ومن قبل أن يُستَحلف، وقال غيره: المراد: يحلف على تصديق شهادته قبل أدائها، أو بعده، وهذا إذا صدر من الشاهد قبل الحكم سقطت شهادته، وقيل: المراد: التسرع إلى الشهادة واليمين، والحرص على ذلك، حتى لا يدري بأيهما يبدأ؛ لقلة مبالاته.
وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو موصول بالإسناد المذكور، ووهِم من زعم أنه معلّق، وإبراهيم هو النخعيّ.
وقوله: (كَانُوا يَنْهَوْنَنَا، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ عَنِ الْعَهْد، وَالشَّهَادَاتِ) ولفظ البخاريّ: "كانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد"، وزاد في رواية:"ونحن صغار"، وفي لفظ:"وكان أصحابنا ينهوننا، ونحن غلمان عن الشهادة".
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول إبراهيم النَّخعي: "كانوا ينهوننا
…
إلخ"؛ يعني: من أدرك، وقد أدرك التابعين، فكانوا يزجرون الصبيان عن اعتياد إلزام أنفسهم العهود والمواثيق، لِمَا يلزم الملتزم من الوفاء، فيُحْرَج أو يأثم بالترك، وكذلك عن تحمّل الشهادات لِمَا يلزم عليه من مشقة الأداء، وصعوبة التخلص
من آفاتها في الدنيا والآخرة، وكل ذلك من السلف رضي الله عنهم تعليم للصغار، وتدريب لهم، على ما يجتنبونه في حال كِبَرهم. انتهى
(1)
.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: معناه عندهم: النهي عن مبادرة الرجل بقوله: أشهد بالله، وعليّ عَهْد الله، لقد كان كذا، ونحو ذلك، وإنما كانوا يضربونهم على ذلك حتى لا يصير لهم به عادة، فيحلفوا في كل ما يصلح، وما لا يصلح.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون الأمر في الشهادة على ما قال، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: النهي عن تعاطي الشهادات، والتصدي لها؛ لِمَا في تحمّلها من الحرج، ولا سيما عند أدائها؛ لأن الإنسان مُعَرَّض للنسيان والسهو، ولا سيما وهم إذ ذاك غالبًا لا يكتبون، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالنهي عن العهد: الدخول في الوصية؛ لِمَا يترتَّب على ذلك من المفاسد، والوصية تسمى العهد، قال الله تعالى:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6450]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَن، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِإسْنَادِ أَبِي الأَحْوَص، وَجَرِيرٍ، بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل خمسة أبواب، و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ، و"سفيان" هو الثوريّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ) ضمير التثنية لشعبة، وسفيان الثوريّ.
(1)
"المفهم" 6/ 488.
(2)
"الفتح" 6/ 515، كتاب "الشهادات" رقم (2652).
[تنبيه]: رواية شعبة عن منصور بن المعتمر ساقها الشاشيّ في "مسنده" مقرونًا بالأعمش، فقال:
(789)
- حدّثنا عباس بن محمد، نا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، ومنصور، عن إبراهيم، عن عَبيدة، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَخْلُف قرن يسبق أيمانهم شهادتهم، وشهادتهم أيمانهم". انتهى
(1)
.
ورواية سفيان الثوريّ عن منصور ساقها أبو نعيم في "الحلية"، فقال: حدّثنا سليمان بن أحمد، ثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم (ح) وحدثنا فاروق الخطابيّ، ثنا محمد بن محمد بن حيّان، ثنا محمد بن كثير، قالا: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عَبيدة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
قال إبراهيم: كانوا يضربون على العهد، والشهادة، ونحن صغار. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6451]
(
…
) - (وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَة، أَو فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: "ثُمَّ يَتَخَفَفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْف، تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَبَمِينُهُ شَهَادَتَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) - بضم الحاء المهملة - هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذَليّ أبو علي الخلّال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
(1)
"مسند الشاشيّ" 2/ 220.
(2)
"حلية الأولياء" 7/ 126.
2 -
(أَزْهَرُ بْنُ سَعْدٍ السَّمَّانُ) أبو بكر الباهليّ البصرفي، ثقةٌ [9](ت 203) وهو ابن أربع وتسعين (خ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1344.
3 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ من أقران أيوب في العلم والعمل والسنّ [5]
(1)
(ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَة، أَو فِي الرَّابِعَةِ) الظاهر أن الشكّ من ابن مسعود رضي الله عنه فيما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يكون من غيره، وسيأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الشك منه صريحًا، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ: "ثُمَّ يَتَخَلَّفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النُّسخ: "يتخلف"، وفي بعضها:"يَخْلُف" بحذف التاء، وكلاهما صحيح؛ أي: يجيء بعدهم خَلْف بإسكان اللام، هكذا الرواية، والمراد: خَلْفُ سوء، قال أهل اللغة: الْخَلْف ما صار عِوَضًا عن غيره، ويُستعمل فيمن خَلَف بخير، أو بشرّ، لكن يقال في الخير: بفتح اللام، وإسكانها، لغتان، الفتح أشهر، وأجود، وفي الشرّ بإسكانها، عن الجمهور، وحُكي أيضًا فتحها. انتهى
(2)
.
وقوله: (تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك أنه يقلّ وَرَع الناس بعد القرن الرابع، فيُقدِمون على الأيمان والشهادات من غير توقف، ولا تحقيق، وقال في حديث عمران:"يشهدون، ولا يستشهدون"؛ أي: يسبقون بأداء الشهادة قبل أن يسألوها، وذلك لهوىً لهم فيها، ومن كان كذلك رُدّت شهادته، وقد بيَّنا فيما تقدَّم مواضع يتعيَّن فيها على الشاهد الأداء، وإن لم يسأل، وذلك بحسب ما تدعو إليه الضرورة الشرعية، وعليه يُحْمَل قوله صلى الله عليه وسلم:"خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها"، ويَحْتَمِل أن يراد
(1)
هذا أَولى من قول "التقريب": من السادسة؛ لأنه رأى أنسًا رضي الله عنه، فهو من الخامسة، كأيوب، والأعمش، فتنبّه.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 85.
بقوله: "ولا يستشهدون" أنهم: يشهدون با لزور، فيكون معناه: يشهدون بما لم يستشهدوا به، ولا شاهدوه، والأول أَولى؛ لأنَّه أصل الكلمة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6452]
(2534) - (حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو بشْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، -وَاللهُ أَعْلَمُ- أَذَكَرَ الثالِثَ أَمْ لَا؟ قَالَ:"ثُمَّ يَخْلُفُ قَوْمٌ، يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ، يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن كثير بن زيد بن أفلح العبديّ مولاهم، أبو يوسف الدَّوْرَقيّ، ثقةٌ حافظٌ [10](252) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209، أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِم) الصائغ البغداديّ، نزيل مكة، ثقةٌ [10](م) 10/ 748، من أفراد المصنّف.
3 -
(هُشَيْمُ) -بالتصغير- ابن بَشِير -بالتكبير بوزن عَظِيم- ابن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم -بمعجمتين - الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أَبُو بِشْرِ) بن أبي وحشية - بفتح الواو، وسكون المهملة، وكسر المعجمة، وتثقيل التحتانية - جعفر بن إياس الواسطيّ، بصريّ الأصل، ثقةٌ من أثبت الناس في سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم، وفي مجاهد [5](ت 5 أو 126)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
[تنبيه]: كون أبي بشر هنا هو جعفر بن إياس، هو الصواب، كما نصّ
(1)
"المفهم" 6/ 487.
عليه الحافظ المزّيّ رحمه الله في "تحفته"
(1)
، وقد وقع لبعض الشرّاح
(2)
غلط، حيث ترجم لبيان بن بشر، بدل جعفر بن إياس، وقد وقع له مثل هذا في غير هذا الموضع، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْينُ شَقِيقٍ) الْعُقَيليّ - بالضمّ - البصريّ، ثقةٌ فيه نَصْبٌ [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذكر قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه سبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ أمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ) بالبناء للمفعول، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ")؛ أي: القرن الذين بعدهم، وهم التابعون، (-وَاللهُ أَعْلَمُ- أَذَكَرَ الثَّالِثَ)؛ أي: القرن الثالث (أَمْ لَا؟)؛ أي: أم لم يذكره؟، وهذا الشكّ من أبي هريرة رضي الله عنه، كما يأتي في الرواية التالية. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("ثُمَّ يَخْلُفُ) بضمّ اللام، يقال: خلفت فلانًا على أهله، وماله من باب قَعَد خِلافةً: صرتُ خليفته، وخلفته: جئت بعده، وهذا هو المعنى المراد هنا. (قَوْمٌ، يُحِبُّونَ السَّمَانَةَ) وفي رواية: "ويظهر فيهم السِّمَن". السَّمانة بفتح السين: هي السمن، قال القرطبيّ رحمه الله: أي: يغلب عليهم النَّهم، والشهوات، ويُكثرون الأكل، فيظهر عليهم السمن، وقد يأكلون ليسمنوا؛ فإنَّه محبوبٌ لهم، ومن كان هذا حاله خرج عن الأكل الشرعيّ، ودخل في الأكل الشَّرِّيّ الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما ملأ آدميّ وعاءً شرًّا من بطن، حسب ابن آدم لقيمات يُقِمن صلبه، فإنْ كان ولا بدّ، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"
(3)
(4)
.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 10/ 136.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 24/ 213.
(3)
حديث صحيح، رواه أحمد 4/ 132، والترمذيّ (2380).
(4)
"المفهم" 6/ 487 - 488.
وقال النوويّ: قال جمهور العلماء في معنى هذا الحديث: المراد بالسِّمَن هنا: كثرة اللحم، ومعناه: أنه يكثر ذلك فيهم، وليس معناه: أن يتمحضوا سمانًا، قالوا: والمذموم منه من يستكسبه، وأما من هو فيه خلقة فلا يدخل في هذا، والمتكسب له هو المتوسع في المأكول والمشروب زائدًا على المعتاد، وقيل: المراد بالسِّمَن هنا أنهم يتكثّرون بما ليس فيهم، وَيدّعون ما ليس لهم، من الشرف وغيره، وقيل: المراد جَمْعهم الأموال. انتهى
(1)
.
(يَشْهَدُونَ) بالبناء للفاعل؛ أي: يؤدّون الشهادة للناس (قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا") بالبناء للمفعول؛ أي: قبل أن يُطلب منهم أداء شهادتهم.
قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث في ظاهره مخالفة للحديث الآخر: "خيرُ الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها"، قال العلماء: الجمع بينهما: أن الذمّ في ذلك لمن بادر بالشهادة في حقّ الآدمي هو عالم بها قبل أن يسألها صاحبها، وأما المدح فهو لمن كانت عنده شهادة لآدميّ، ولا يعلم بها صاحبها، فيُخبره بها ليستشهد بها عند القاضي، إن أراد، ويلتحق به من كانت عنده شهادةٌ حسبةً، وهي الشهادة بحقوق الله تعالى، فيأتي القاضي، ويشهد بها، وهذا ممدوح، إلا إذا كانت الشهادة بحدّ، ورأى المصلحة في الستر، هذا الذي ذكرناه من الجمع بين الحديثين هو مذهب أصحابنا -يعني: الشافعيّة - ومالك، وجماهير العلماء، وهو الصواب، وقيل فيه أقوال ضعيفة، منها قول من قال بالذمّ مطلقًا، ونابذ حديث المدح، ومنها من حمله على شهادة الزور، ومنها قول من حمله على الشهادة بالحدود، وكلها فاسدة، واحتَجّ عبد الله بن شُبْرُمة بهذا الحديث لمذهبه في منعه الشهادة على الإقرار قبل أن يُستَشهَدَ، ومذهبنا ومذهب الجمهور قبولها. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 86 - 87.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 87.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [53/ 6452 و 6453](2534)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 228 و 410 و 479)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 332)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(65/ 407)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6453]
(
…
) - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَلَا أَدْرِي مَرَّتَيْن، أَو ثَلَاثَةً).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع، العبديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد الأربعين ومائتين (م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن يوسف بن حجاّج البغداديّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُو الْوَلِيدِ) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227) وله أربع وتسعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 63.
4 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية شعبة عن أبي بشر ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:(9307) - حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم -قال أبو هريرة: لا أدري ذكر مرتين، أو ثلاثًا- ثم خلف من بعدهم قوم، يحبون السمانة، يَشهدون، ولا يُستشهَدون". انتهى
(1)
.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 410.
وأما رواية أبي عوانة عن أبي بشر، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6454]
(2535) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ غُنْدَرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أَبَا جَمْرَةَ، حَدَّثَنِي زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبٍ، سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدِّثُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، قَالَ عِمْرَانُ: فَلَا أَدْرِي أقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْن، أَو ثَلَاثَةً؟ "ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ، وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، ويَخُونُونَ، وَلَا يُتَّمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ، وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو جَمْرَةَ) -بالجيم- نصر بن عِمران بن عِصام الضُّبَعيّ -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها عين مهملة - البصريّ، نزيل خُراسان، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [3](128)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(زَهْدَمُ بْنُ مُضَرِّبِ) الْجَرْميّ، أبومسلم البصريّ، ثقةٌ [3](خ م ت س) تقدم في "الإيمان" 3/ 4257.
3 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجَيد -بنون، وجيم، مصغرًا - الصحابيّ الشهير، أسلم عام خيبر، وأبوه أيضًا صحابيّ على الصحيح، وكان عمران فاضلًا، وقضى بالكوفة، ومات رضي الله عنه سنة اثنتين وخمسين بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه أبي بكر، فكوفيّ، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث، والسماع، وأن شيخيه ابن المثنّى، وابن بشّار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأن فيه
رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ كلاهما من الطبقة الثالثة، وفيه أبو جمرة، مشهور بكنيته، وليس له مشارك في هذه الكنية في الكتب الستّة، وغيره أبو حمزة بالحاء المهملة، والزاي، وهم جماعة، وأن شعبة: يروي عن سبعة كلهم يكنى بأبي حمزة بالحاء، والزاي، إلا واحدًا، فإنه بالجيم، والراء، وهو الذي في هذا السند، وإلى ذلك أشار السيوطيّ في "ألفية الحديث":
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَرْوِي شُعْبَةُ
…
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزَايٍ عِدَّةُ
إِلَّا أَبَا جَمْرَةَ فَهْوَ بِالرَّا
…
وَهْوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا
شرح الحديث:
عن أبي جمرة رحمه الله؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي زَهْدَمُ) بوزن جعفر، (ابْنُ مُضَرِّبٍ) بضمّ الميم، وتشديد الراء المكسورة، بصيغة اسم الفاعل المضعّف، قالً:(سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما (يُحَدِّثُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي)؛ أي: أهل قرني، وتقدّم الخلاف في معنى القرن في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: القرن الذي بعدهم، وهم التابعون، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: أتباع التابعين، (ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ") وهم تَبَع أتباع التابعين. (قَالَ عِمْرَانُ) رضي الله عنه:(فَلَا أَدْرِي أقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْن، أَو ثَلَاَثَةً؟) ولفظ البخاريّ: "فلا أدري، أذَكَر بعد قرنه قرنين، أو ثلاثة"، وقد تقدّم مثل هذا الشكّ في حديث ابن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهما، وفي حديث بُريدة رضي الله عنه عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شكّ، منها: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عند أحمد، وعن عائشة في حديثها الَاتي آخر الباب، ولفظه:"سأل رجل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الناس خيرٌ؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث"، ووقع في رواية الطبرانيّ، وسمويه ما يُفسّر به هذا السؤال، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله أيّ الناس خير؟، فقال: أنا وقرني"، فذكر مثله، وللطيالسيّ من حديث عمر رضي الله عنه، رفعه: "خير أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني، ثم الثالث". ووقع في حديث جعدة بن هُبيرة عند ابن أبي شيبة، والطبرانيّ: إثبات القرن الرابع، ولفظه: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الآخرون أردأ"،
ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته، أفاده في "الفتح"
(1)
.
("ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ، وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ) ببناء الأول للفاعل، والثاني للمفعول. قال في "الفتح": يَحْتَمل أن يكون المراد: التحمّل بدون التحميل، أو الأداء بدون طلب، والثاني أقرب. ويعارضه ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، مرفوعًا:"ألا أُخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها". واختَلَف العلماءُ في ترجيحهما، فجنح ابن عبد البرّ إلى ترجيح حديث زيد بن خالد رضي الله عنه؛ لكونه من رواية أهل المدينة، فقدّمه على رواية أهل العراق، وبالغ، فزعم أن حديث عمران رضي الله عنه هذا لا أصل له. وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران رضي الله عنه؛ لاتفاق صاحبَي الصحيح عليه، وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. وذهب آخرون إلى الجمع بينهما، فأجابوا بأجوبة:
[أحدها]: أن المراد بحديث زيد مَن عنده شهادة لإنسان بحقّ، لا يَعلَم صاحبها، فيأتي إليه، فيُخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها، ويَخلُف ورثةً، فيأتي الشاهد إليهم، أو إلى من يتحدّث عنهم، فيُعلمهم بذلك. وهذا أحسن الأجوبة، وبهذا أجاب يحيى بن سعيد، شيخ مالك، ومالكٌ، وغيرهما.
[ثانيها]: أن المراد شهادة الْحِسْبَة، وهي ما لا يتعلّق بحقوق الآدميين المختصّة بهم محضًا، ويدخل في الحِسْبة مما يتعلّق بحقّ الله، أو فيه شائبة منه، الْعَتَاق، والوقف، والوصيّة العامّة، والعدّة، والطلاق، والحدود، ونحو ذلك.
وحاصله: أن المراد بحديث عمران رضي الله عنه: الشهادة في حقوق الآدميين، والمراد بحديث زيد بن خالد رضي الله عنه: الشهادة في حقوق الله تعالى.
[ثالثها]: أنه محمولٌ على المبالغة في الإجابة إلى الأداء، فيكون لشدّة استعداده لها كالذي أدّاها قبل أن يُسألها، كما يقال في وصف الجواد: إنه لَيُعطي قبل الطلب؛ أي: يُعطي سريعًا عقب السؤال من غير توقّف.
وهذه الأجوبة مبنيّةٌ على أن الأصل في أداء الشهادة عند الحاكم أن لا
(1)
"الفتح" 8/ 319، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3650).
يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحقّ، فيُخصّ ذمّ من يشهد قبل أن يُستشهد بمن ذُكر ممن يُخبر بشهادة عنده لا يَعلم صاحبها بها، أو شهادة الحسبة.
وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد بن خالد رضي الله عنه، وتأوّلوا حديث عمران رضي الله عنه بتأويلات:
[أحدها]: أنه محمولٌ على شهادة الزُّور؛ أي: يؤدّون شهادةً لم يَسبق لهم تحمّلها. وهذا حكاه الترمذيّ عن بعض أهل العلم.
[ثانيها]: أن المراد بها الشهادة في الحلف، يدلّ عليه قول إبراهيم النخعيّ في آخر حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"كانوا يضربوننا على الشهادة"؛ أي: قول الرجل: أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك، كما كُره الإكثار من الحلف، واليمين قد تُسمّى شهادةً، كما قال الله تعالى:{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} الآية [النور: 6]. وهذا جواب الطحاويّ.
[ثالثها]: أن المراد بها الشهادة على المغيّب من أمر الناس، فيشهد على قوم أنهم في النار، وعلى قوم أنهم في الجنّة بغير ذلك، كما صنع ذلك أهل الأهواء. حكاه الخطّابيّ.
[رابعها]: أن المراد: به من ينتصب شاهدًا، وليس من أهل الشهادة.
[خامسها]: أن المراد: به التسارع إلى الشهادة، وصاحبها بها عالمٌ من قبل أن يسأله. والله تعالى أعلم.
(وَيَخُونُونَ) قال في "الفتح": كذا في جميع الروايات التي اتّصلت لنا بالخاء المعجمة، والواو، مشتقّ من الخيانة، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة:"يَحْرِبُون" -بسكون المهملة، وكسر الراء، بعدها موحّدة - قال: فإن كان محفوظًا، فهو من قولهم: حَرَبه يَحرِبه: إذا أخذ ماله، وتركه بلا شيء، ورجلٌ محروبٌ؛ أي: مسلوب المال. انتهى
(1)
.
(وَلَا يُتَّمَنُونَ) قال النوويّ: هكذا في أكثر النسخ: "يُتَّمنون" بتشديد التاء، وفي بعضها:"يؤتمنون"، ومعناه: يخونون خيانة ظاهرةً بحيث لا يبقى معها أمانة، بخلاف من خان حقيرًا مرّةً واحدةً، فإنه يصدق عليه أنه خان، ولا
(1)
"الفتح" 6/ 512، كتاب "الشهادات" رقم (2651).
يخرج به عن الأمانة في بعض المواطن. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" بعد نقل كلام النوويّ المذكور: وقال غيره: هو نظير قوله: "ثم يَتَّزِر" موضع قوله: "يأتزِر"، وادّعى أنه شاذّ، ولكن قرأ ابن مُحيصن:"فليؤدّ الذي اتُّمِنَ أمانته"، ووَجّهَهُ ابن مالك
(2)
بأنه شُبّه بما فاؤه واو، أو تحتانيّةٌ، قال: وهو مقصورٌ على السماع. انتهى
(3)
.
(وَيَنْذِرُونَ) بكسر الذّال، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، مبنيًّا للفاعل، (وَلَا يُوفُونَ) بضم أوله، مضارع أوفي رباعيًّا، ويَحْتَمِل أن يكون من وفّى مضعّف العين، من التوفية، وفي رواية البخاريّ:"ولا يَفُون" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الوفاء ثلاثيًّا، قال ابن الأثير رحمه الله: يقال: وفَى بالشيء، وأوفَى، ووَفَّى بمعنًى. انتهى
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وفَيتُ بالعهد، والوعد، أَفِي به وَفَاءً، والفاعل وَفِيٌّ، والجمعُ أوفياءُ، مثلُ صَديق وأصدقاء، وأوفيتُ به إيفاءً، وقد جمعهما الشاعر، فقال [من البسيط]:
أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ
…
كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادَيهَا
وقال أبو زيد: أوفَى نذْره: أحسن الإيفاء، فجعل الرباعيّ يتعدّى بنفسه. وقال الفارابيّ أيضًا: أوفيته حقَّهُ، ووفّيته إياه، بالتثقيل، وأوفَى بما قال، ووفّى بمعنًى. انتهى
(5)
.
(وَيَظْهَرُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب فتح، (فِيهِمُ السِّمَنُ) -بكسر السين المهملة، وفتح الميم، آخره نون، وزان عِنَبٍ - يقال: سَمِن يَسمَن، من باب تعِبَ، وفي لغة من باب قَرُب: إذا كثُر لحمه وشحمه، فهو سَمِينٌ، وجَمْعه سِمان. أفاده في "المصباح"
(6)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 88.
(2)
"شواهد التوضيح" ص 238 - 239.
(3)
"الفتح" 6/ 512، كتاب "الشهادات" رقم (2651).
(4)
"النهاية" ص 983.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 667.
(6)
"المصباح المنير" 1/ 290.
والمعنى: أنهم يُحبّون التوسّع في الماَكل والمشارب، وهي أسباب السِّمَن. قال ابن التين: المراد: ذمّ محبته، وتعاطيه، لا من تخلّق بذلك. وقيل: المراد: يظهر فيهم كثرة المال. وقيل: المراد: أنهم يتسمّنون؛ أي: يتكثّرون بما ليس فيهم، ويدّعون ما ليس لهم من الشرف. ويَحْتَمِل أن يكون جميع ذلك مرادًا. وقد رواه الترمذيّ من طريق هلال بن يساف، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما بلفظ:"ثم يجيء قومِ يتسمّنون، ويُحبّون السِّمَن"، وهو ظاهر في تعاطي السِّمَن على حقيقته، فهوأَولى ما حُمِل عليه خبر الباب، وإنما كان مذمومًا؛ لأن السمين غالبًا بليد الفهم، ثقيلٌ عن العبادة، كما هو مشهور. قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [53/ 6454 و 6455 و 6456](2535)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2651) و"الفضائل"(3650) و"الرقاق"(6428) و"الأيمان والنذور"(6695)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(3657)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2222) و"الشهادات"(2303)، و (النسائيّ) في "الأيمان والنذور"(3809)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(852)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 426 و 427)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6729 و 7229)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 151) و"مشكل الآثار"(3/ 176)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 196)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 526 و 527 و 528 و 529 و 580 و 581 و 582)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 18 و 74)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 123 و 160) و"دلائل النبوّة"(6/ 552)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3857)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 6/ 514.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6455]
(
…
) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنا شَبَابَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإسْنَاد، وَفِي حَدِيثِهِمْ: قَالَ: لَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْن، أَو ثَلَاثَةً؟، وَفِي حَدِيثِ شَبَابَةَ: قَالَ: سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ، وَجَاءَنِي فِي حَاجَةٍ عَلَى فَرَسٍ، فَحَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، وَفِي حَدِيثِ يَحْيَى، وَشَبَابَةَ:"يَنْذُرُونَ، وَلَا يَفُونَ"، وَفِي حَدِيثِ بَهْزٍ:"يُوفُونَ"، كَمَا قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون المعروف بالسمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة - التميميّ، أبو سعيد القطان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قُدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ) بن الْحَكَم العبديّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10] (ت 260) وقيل: بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.
4 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قبل بابين.
6 -
(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائني، تقدّم قريبًا.
و"شعبة" ذُكر قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: الثلاثة: يحيى بن سعيد القطان، وبهز بن أسد، وشبابة بن سوّار رووه عن شعبة بِهَذَا الإِسْنَادِ؛ يعني: إسناد شعبة السابق؛ أي: عن أبي جمرة، عن زهدم بن مضرّب، عن عمران بن حُصين رضي الله عنهما.
وقوله: (في حَدِيثِهِمْ: قَالَ: لَا أَدْرِي
…
إلخ) فاعل "قال" ضمير عمران بن حصين رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطان عن شعبة ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6317)
- حدّثنا مسدّد، عن يحيى، عن شعبة، قال: حدّثني أبو جمرة، حدّثنا زهدم بن مضرِّب، قال: سمعت عمران بن حصين، يحدِّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران: لا أدري ذكر ثنتين، أو ثلاثًا بعد قرنه - ثم يجيء قوم ينذرون، ولا يفون، ويخونون، ولا يؤتمنون، ويشهدون، ولا يُستشهدون، ويَظهر فيهم السِّمَن". انتهى
(1)
.
ورواية بهز بن أسد عن شعبة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(19875)
- حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلويّ رحمه الله، أنبأ أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، ثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، ثنا بهز بن أسد، ثنا شعبة، أخبرني أبو جمرة، قال: دخل عليّ زهدم، فأخبرني أنه سمع عمران بن حصين رضي الله عنها قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون قوم بعدهم، يخونون، ولا يؤتمنون، وَيشهدون، ولا يُستشهَدون، وينذُرون، ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن". انتهى
(2)
.
وأما رواية شبابة بن سوّار عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6456]
(
…
) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَام، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أوْفَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ:"خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَرْنُ الَّذِينَ بُعِثْتُ فِيهِمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ"، زَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ: قَالَ: وَاللهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ، أَمْ لَا؟ بِمِثْلِ حَدِيثِ زَهْدَمٍ، عَنْ عِمْرَانَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ هِشَامٍ، عَنْ قَتَادَةَ:"وَيَحْلِفُونَ، وَلَا يُسْتَحْلَفُونَ").
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2463.
(2)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 74.
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارب الأمويّ البصريّ، واسم أبي الشّوَارب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي عثمان، صدوقٌ، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد الله الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، ربما وَهِمَ [9](200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر -بمهملة، ثم نون، ثم موحّدة، وزانُ جعفر- أبو بكر البصريّ الدستوائى -بفتح الدال، وتُضمّ، وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة، ثم مدّ- ثقةٌ ثبتٌ وقد رُمِي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(زُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى) هو: زُرارة -بضم أوله- ابن أوفى العامريّ الْحَرَشيّ -بمهملة، وراء مفتوحتين، ثم معجمة- أبو حاجب البصريّ، قاضيها، ثقةٌ عابدٌ [3] مات فجأة في الصلاة، سنة ثلاث وتسعين (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ) ضمير التثنية لأبي عوانة، وهشام الدستوائيّ.
[تنبيه]: رواية أبي عوانة عن قتادة ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4657)
- حدّثنا عمرو بن عون، قال: أنبأنا (ح) وثنا مسدّد، قال: ثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن عمران بن حُصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذين بُعِثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -والله أعلم، أذكر الثالث، أم لا؟ - ثم يظهر قوم، يَشهدون، ولا يُستشهَدون، وينذْرون، ولا يوفون، ويخونون، ولا يؤتمنون، ويفشو فيهم السِّمَن". انتهى
(1)
.
ورواية هشام الدستوائيّ عن قتادة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"سنن أبي داود" 4/ 214.
(20386)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله بن يعقوب، وأبو الفضل بن إبراهيم، قالا: ثنا أحمد بن سلمة، ثنا محمد بن بشار، ثنا معاذ بن هشام، حدّثني أبي، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن عمران بن حُصين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم يَنشأ قوم ينذرون، ولا يوفون، وَيحلِفون، ولا يُستحلَفون، ويخونون، ولا يؤتمنون، وَيشهدون، ولا يُستشهَدون، ويفشو فيهم السِّمَنُ".
قال أبو الفضل في حديثه: سمعت أحمد بن سلمة يقول: "يحلفون" ليس إلا في حديث هشام من أصحاب قتادة، رواه مسلم في "الصحيح" عن محمد بن بشار بزيادته، وهذه زيادة ينفرد بها معاذ بن هشام، عن أبيه.
(20387)
- وقد حدّثناه أبو بكر بن فُورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا هشام، عن قتادة، عن زُرارة، عن عمران بن حُصين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون، ولا يوفون، ويخونون، ولا يؤتمنون، ويَشهدون، ولا يُستشهدون، ويفشو فيهم السِّمَنُ".
هكذا رواه سائر أصحاب هشام، ليس فيه ذِكر الحَلِف، وذكر الحلف فيه إن كان حَفظه معاذ يوافق حديث ابن مسعود.
وقد يَحْتَمِل أن يكون المراد بذلك في الشهادة، أن يَشهد بما لم يُشهَد عليه، ولم يعلمه، فيكون شاهد زُور، وبالله التوفيق والعصمة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6457]
(2536) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَشُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ -وَهُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ - عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ السُّدِّيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ الْبَهِيّ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيه، ثُمَّ الثَّانِي، ثُمَّ الثَّالِثُ").
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 10/ 160.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ) الفلّاس، أبو الفضل البغويّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، وَهِمَ في حديث واحد رفعه، وهو موقوف، فذكره بسببه الْعُقيلي في "الضعفاء"[10](ت 235)(م د ق) تقدم في "الصيام" 12/ 2576.
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سُنَّة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
3 -
(السُّدِّيُّ) -بضمّ السين المهملة، وتشديد الدال- إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كَرِيمة أبو محمد الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالتشيع [4](م 4) تقدم في "صلاة المسافرين المسافرين وقصرها" 8/ 1640.
4 -
(عَبْدُ اللهِ الْبَهِيُّ) -بفتح الموحّدة، وكسر الهاء، وتشديد التحتانية - مولى مصعب بن الزبير الكوفيّ، يقال: اسم أبيه يسار، صدوقٌ يخطئ [3](بخ م 4) تقدم في "الحيض" 29/ 832.
5 -
(عَائِشَةُ) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة، ففيهما خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين، على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب، وشرح الحديث واضح.
وقوله: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) يَحْتَمل أن يكون السائل سعدَ بن تميم، فقد أخرج الطحاويّ في "شرح معاني الآثار" بسند صحيح عن بلال بن سعد، عن أبيه، قال: قلنا: يا رسول الله أيُّ أمتك خير؟ قال: "أنا، وقرني"، قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: "ثم القرن الثاني"، قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: "القرن الثالث"، قال: قلنا: ثم ماذا؟ قال: "ثم يأتي قوم يشهدون، ولا يستشهدون، ويحلفون، ولا يستحلفون، ويؤتمنون، ولا يؤدون". انتهى
(1)
، وعزاه في "الفتح" إلى الطبرانيّ، وسمّويه.
(1)
"شرح معاني الآثار" 4/ 151.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قد انتقد الدارقطنيّ رحمه الله إسناد هذا الحديث، فقال: روى البهيّ عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قال القاضي عياض رحمه الله: قد صحّحوا روايته عن عائشة رضي الله عنها، وقد ذكر البخاريّ روايته عن عائشة، وفاطمة بنت قيس رضي الله عنهما. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد سبق الدارقطنيَّ في هذا الانتقاد عبد الرحمن بن مهديّ، كما في "تهذيب التهذيب"، وعبارته: وقال أحمد: في حديث زائدة عن السدّيّ، عن البهيّ، حدّثتني عائشة، كان عبد الرحمن بن مهديّ قد سمعه من زائدة، وكان يَدَع منه:"حدّثتني عائشة"، وينكره -يعني: ينكر لفظة "حدّثتني"، لكن مع عائشة، ما أرى هذا شيئًا، إنما يروي عن عروة. انتهى
(2)
.
وممن أثبت سماع البهيّ عن عائشة رضي الله عنها البخاريّ في "التاريخ الكبير" حيث قال (5/ 56) في ترجمة البهيّ: سمع ابن عمر، وابن الزبير، وعائشة رضي الله عنهم، فقد اتّفق أحمد، والبخاريّ، ومسلم -حيث أخرج روايته هنا - على أنه سمع من عائشة رضي الله عنها.
والحاصل: أن اعتراض الدارقطنيّ على مسلم في هذا الإسناد بسبب الانقطاع غير مقبول، فالحقّ في هذا رأي مسلم رحمه الله فقد وافقه أحمد، والبخاريّ، فتأمل بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [53/ 6457](2536)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 404)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 156)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 629)، والله تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 575.
(2)
"تهذيب التهذيب" 2/ 462.
(54) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ، وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6458]
(2537) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ الله، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِه، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِه، فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ"، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَهَلَ النَّاسُ فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ"، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَنْخَرِمَ ذَلِكَ الْقَرْنُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتًا، عابدًا، فاضلًا، كان يُشَبَّه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن أبي حَثْمة، واسم أبي حَثْمة: عبد الله بن حُذيفة، وقيل: عديّ بن كعب بن حُذيفة بن تمام بن غانم بن عبد الله بن عويج بن عبديّ بن كعب العدويّ المدنيّ، ثقةٌ عارف بالنسب [3].
روى عن أبيه وجدته الشفاء، وسعيد بن زيد بن عمرو، وعبد الله وحفصة ابني عمر بن الخطاب، وحكيم بن حزام، وأبي هريرة.
وروى عنه الزهريّ، وابن المنكدر، وصالح بن كيسان، وإسماعيل بن محمد بن سعد، وخالد بن إياس، ومحمد بن إبراهيم التيميّ، وغيرهم.
قال الزهريّ: كان من علماء قريش، له في "الصحيحين" حديث الزهريّ عنه مقرونًا بسالم ابن عبد الله، عن ابن عمر، قال:"صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته. . ." الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في "الصحيحين"، ولا في كتاب الترمذيّ إلا هذا الحديث.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمر (وَأَبُو بَكْرِ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن أبي حثمة -بفتح الحاء المهملة، وسكون الثاء المثلثة - واسم أبي حثمة: عبد الله بن حُذيفة العدويّ، وأما أبو بكر الراوي، فتابعيّ مشهور، لم يُسَمّ، وقد قيل: إن اسمه كنيته، قاله في "الفتح"
(1)
. (أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَر) رضي الله عنهما (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: "صلى لنا"، ومعنى اللام: صلى إمامًا لنا، وإلا فالصلاة لله، لا لهم
(2)
. (ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلةً من الليالي، (صَلَاةَ الْعِشَاءِ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ) وفي حديث جابر الآتي أن ذلك كان قبل موته صلى الله عليه وسلم بشهر، (فَلَمَّا سَلَّمَ) صلى الله عليه وسلم من صلاته، وقوله:(قَامَ) جواب "لَمّا"، (فَقَالَ:"أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ) قال في "العمدة": بهمزة الاستفهام، وفتح الراء، وبالخطاب للجمع، والكاف ضمير ثان، ولا محل لها من الإعراب، والرؤية بمعنى الإبصار، و"ليلتكم" بالنصب مفعوله، وليست الرؤية ها هنا بمعنى
(1)
"الفتح" 1/ 369، كتاب "العلم" رقم (116).
(2)
"عمدة القاري" 2/ 176.
العلم؛ لأنها إذا كانت بمعنى العلم تقتضي مفعولين، وليس ها هنا إلا مفعول واحد، وهو الليلة، كما ذكرنا، و"كم" لا تصلح أن تكون مفعولًا آخر، حتى تكون بمعنى العلم؛ لأنه حرف، لا محل له من الإعراب، كما ذكرنا، ولو كان اسمًا لوجب أن يقال: أرأيتموكم؛ لأن الخطاب لجماعة، فإذا كان لجماعة يجب أن يكون بالتاء والميم، كما في: علمتموكم؛ رعايةً للمطابقة.
[فإن قلت]: فهذا يلزمك أيضًا في التاء، فإن التاء اسم، فينبغي أن يكون: أرأيتموكم.
[قلت]: لمّا كان الكاف والميم لمجرد الخطاب، اختُصِرت عن التاء والميم بالتاء وحدها؛ للعلم بأنه جَمْع، تقول:"كم"، والفرق بين حرف الخطاب، واسم الخطاب، أن الاسم يقع مسندًا ومسندًا إليه، والحرف علامة تُستعمل مع استقلال الكلام، واستغنائه عنها باعتبار المسند والمسند إليه، فوزانُها وزان التنوين، وياءِ النسبة، وأيضًا اسم الخطاب يدل على عين، ومعنى الخطاب، وحرفه لا يدلّ إلا على الثاني.
ويقال: "أرأيتكم" كلمة تقولها العرب إذا أرادت الاستخبار، وهو بفتح التاء للمذكر، والمؤنث، والجمع، والمفرد، تقول: أرأيتكَ، أرأيتك، وأرأيتكما، وأرأيتكم، والمعنى: أخبر، وأخبريني، وأخبراني، وأخبروني، فإن أردت معنى الرؤية أنّثت، وجَمَعت. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "أرأيتكم" هو بفتح المثناة؛ لأنها ضمير المخاطب، والكاف ضمير ثان، لا محل لها من الإعراب، والهمزة الأُولى للاستفهام، والرؤية بمعنى العلم
(2)
، أو البصر، والمعنى: أَعَلمتم، أوأبصرتم ليلتكم، وهي منصوبة على المفعولية، والجواب محذوف
(3)
، تقديره: قالوا: نعم، قال: فاضبطوها، وتَرِدُ "أرأيتكم" للاستخبار، كما في قوله تعالى: {قُلْ
(1)
"عمدة القاري" 2/ 176.
(2)
للعينيّ اعتراض على كونها للعلم، راجع:"العمدة" 2/ 176.
(3)
للعينيّ أيضًا اعتراض على هذا، راجع: شرحه 2/ 176، لكنه متناقض فقد ذَكَر في محل آخر تقدير الجواب، راجع:"شرحه" 5/ 97.
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} الآية [الأنعام: 40] قال الزمخشريّ: المعنى: أخبروني، ومتعلق الاستخبار محذوف، تقديره: من تدعون؟ ثم بكّتهم، فقال:{أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} . انتهى.
قال: وإنما أوردت هذا؛ لأن بعض الناس نقل كلام الزمخشريّ في الآية إلى هذا الحديث، وفيه نظر؛ لأنه جعل التقدير: أخبروني ليلتكم هذه، فاحفظوها، وليس ذلك مطابقًا لسياق الآية. انتهى كلام الحافظ في "الفتح"
(1)
.
(فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ) اسم "إنّ" ضمير الشأن مقدّرًا، وخبرها جملة قوله: "لا يبقى
…
إلخ"، وقوله: (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الليلة، وقد استَدَلّ بعض اللغويين بقوله: "منها" أن "مِنْ" تكون لابتداء الغاية في الزمان، كمنذ، وهو قول الكوفيين، وقال البصريون: لا تدخل "من" إلا على المكان، و"منذ" في الزمان نظيرة "من" في المكان، وتأولوا ما جاء بخلافه، واحتج من نصر قول الكوفيين بقوله تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة: 108]، وبقول عائشة رضي الله عنها: "ولم يجلس عندي من يومِ قيل فِيّ ما قيل"، وقول أنس رضي الله عنه: "وما زلت أحب الدباء من يومئذ"، وقول بعض الصحابة رضي الله عنهم: "مُطرنا من الجمعة إلى الجمعة".
وأجاب أبو علي الفارسيّ عن قوله: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} بأن التقدير: من تأسيس أول يوم، وضعّفه بعضهم بأن التأسيس ليس بمكان، وقال الزمخشريّ: التقدير: من أول يوم من أيام وجوده، وهذا جنوح إلى مذهب الكوفيين، ذَكَره في "العمدة"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى رجحان مذهب الكوفيين في هذه المسألة؛ لوضوح أدلّته، فتأمله بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.
ومعنى قوله: "فإن على رأس": أي: عند انتهاء مائة سنة، والله تعالى أعلم.
(لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ)؛ أي: الآن موجودًا، (أَحَدٌ") إذ ذاك، قال ابن بطال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه المدة تخترم الجيل الذي
(1)
"الفتح"1/ 369، كتاب "العلم" رقم (369 - 370).
(2)
"عمدة القاري" 2/ 176 - 177.
هم فيه، فَوعَظهم بقِصَر أعمارهم، وأعلمهم أن أعمارهم ليست كأعمار من تقدم من الأمم؛ ليجتهدوا في العبادة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: المراد: أن كل من كان تلك الليلة على الأرض لا يعيش بعد هذه الليلة أكثر من مائة سنة، سواء قلّ عمره قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي حياة أحد يولد بعد تلك الليلة مائة سنة. انتهى
(2)
.
(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما: (فَوَهَلَ النَّاسُ) قال الجوهريّ: وَهَل من الشيء، وعن الشيء: إذا غَلِط فيه، ووهَل إليه بالفتح: إذا ذهب وَهْمه إليه، وهو يريد غيره، مثل وَهِم، وقال الخطابيّ: أي: توهَّموا، وغَلِطوا في التأويل
(3)
.
وقال النوويّ: معناه: غَلِطُوا، يقال: وَهَل -بفتح الهاء - يَهِل - بكسرها - وَهْلًا -بسكونها -، مثل ضرب يضرب ضربًا؛ أي: غَلِط، وذهب وَهْمه إلى خلاف الصواب، وأما وَهِلت -بكسرها - أَوْهَل -بالفتح - وهَلًا -بالتحريك أيضًا، كحَذِرت أحذَر حَذَرًا، فمعناه: فَزِعتُ، والوهل - بالفتح: الفزع، وضَبَطه النوويّ بالتحريك، وقال: الوهل بالتحريك معناه الوهم، والاعتقاد، وأما صاحب "النهاية"، فجزم أنه بالسكون
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَهِلَ وَهَلًا، فهو وَهِلٌ، من باب تَعِب: فَزِع، ويتعدى بالتضعيف، فيقال: وَهَّلْتُهُ، والوَهْلَةُ: الفزعة، ووَهِلَ عن الشيء، وفيه وَهَلًا، من باب تَعِب أيضًا: غَلِط فيه، ووَهَلْتَ إليه وَهْلًا، من باب وَعَدَ: ذهب وَهْمُك إليه، وأنت تريد غيره، مثل وَهَمْتُ، ولقيته أوّلَ وَهْلَةِ: أي: أول كل شيء. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية الصحيحة: وَهَل -بفتح الهاء - قال أبو عبيد: يريد: غَلِط، يقال: وَهَل إلى الشيء يَهِل، ووَهَمَ إلى الشيء يَهِم، وَهْلًا، ووَهْمًا. قال أبو زيد: وَهِلَ في الشيء، وعن الشيء يَوْهَل وَهَلًا: إذا غَلِط فيه، وسها، ووَهَلت إليه -بالفتح - وَهْلًا: إذا ذهب وَهْمك إليه، وأنت تريد غيره،
(1)
"شرح ابن بطال على البخاريّ" 1/ 192.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 90.
(3)
"عمدة القاري" 5/ 97.
(4)
"الفتح" 12/ 422.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 674.
قال: وعلى ما حكاه أبو زيد يكون الصواب في "وَهِل" الذي في هذا الحديث كسر الهاء؛ لأنَّه هو الذي يتعدى بـ "في"، ويشهد له المعنى، وأما وَهَل -بالفتح - فيتعدى بـ "إلى"، والمعنيان متقاربان، ويمكن أن يقال: إن "وَهَل في الشيء" فيه لغتان: الفتح، والكسر، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(فِي مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في حديثه، وقوله:(تِلْكَ) نعتٌ لـ "مقالة"، أو بدل، أو عطف. (فِيمَا يَتَحَدَّثُونَ) ولفظ البخاريّ:"إلى ما يتحدّثون"، (مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ عَنْ مِائَةِ سَنَةٍ)؛ أي: حيث تؤولونها بهذه التأويلات التي كانت مشهورة بينهم، مشارًا إليها عندهم في المعنى المراد عن مائة سنة، مثل إن المراد بها: انقراض العالم بالكلية ونحوه؛ لأن بعضهم كان يقول: إن الساعة تقوم عند انقضاء مائة سنة، كما روى ذلك الطبرانيّ وغيره، من حديث أبي مسعود البدريّ رضي الله عنه، ورَدّ عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ"، يُرِيدُ)؛ أي: يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِذَلِكَ)؛ أي: بقوله هذا، (أَنْ يَنْخَرِمَ)؛ أي: ينقطع، وينقضي (ذَلِكَ الْقَرْنُ)؛ أي: القرن الذي هو فيه، والقرن بفتح القاف، وسكون الراء: كل طبقة مقترنين في وقت، ومنه قيل لأهل كل مدّة، أو طبقة بُعث فيها نبيّ: قرن، قَلّت السنون، أو كثرت، وقد تقدّم البحث فيه مستوفي في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"خير الناس قرني"، ولله الحمد والمنّة.
وفي رواية البخاريّ: "أنها تخرم ذلك القرن": أي: أن مضيّ مائة سنة يَخْرِم أهل ذلك القرن؛ أي: يقطعه، من الخرم بالخاء المعجمة، من باب ضرب، يقال: خرمت الشيء: إذا قطعته.
وغَرَضُ ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن الناس ما فَهِموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة، وحملوها على محامل كلها باطلة، وبيَّن أن رسول الله ع صلى الله عليه وسلم أراد بذلك انخرام القرن عند انقضاء مائة سنة من مقالته تلك، وهو القرن الذي كان هو فيه بأن تنقضي أهاليه، ولا يبقى منهم أحد بعد مائة سنة، وليس مراده أن ينقرض العالم بالكلية، وكذلك وقع بالاستقراء، فكان آخر من ضُبط عمره ممن كان
(1)
"المفهم" 6/ 491 - 492.
موجودًا حينئذ أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه، وقد أجمع أهل الحديث على أنه كان آخر الصحابة رضي الله عنهم موتًا، وغاية ما قيل فيه: إنه بقي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقالة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا إعلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أعمار أمته ليست تطول كأعمار من تقدم من الأمم السالفة؛ ليجتهدوا في العمل
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 6458 و 6459](2537)، و (البخاريّ) في "العلم"(116) و"مواقيت الصلاة"(564 و 601)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4348)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2252)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 441)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 275)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 88 و 121)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 278)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2989)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(1/ 453)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عَلَم من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانخرام قرنه خلال مائة سنة، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ وغيره: احتجّ البخاريّ، ومن قال بقوله بهذا الحديث على موت الخضر عليه السلام، والجمهور على خلافه، وأجابوا عنه بأن الخضر كان حينئذ من ساكني البحر، فلم يدخل في الحديث، قالوا: ومعنى الحديث: لا يبقى ممن ترونه، أو تعرفونه، فهو عام أريد به الخصوص، وقيل: احترز بالأرض عن الملائكة، وقالوا: خرج عيسى عليه السلام من ذلك، وهو حيّ؛ لأنه في السماء، لا في الأرض، وخرج إبليس؛ لأنه على الماء، أو في الهواء، وأبْعَدَ من قال: إن اللام في الأرض عهدية، والمراد: أرض المدينة،
(1)
"عمدة القاري" 5/ 97.
والحقّ أنها للعموم، وتتناول جميع بني آدم، وأما من قال: المراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء أمة الإجابة، وأمة الدعوة، وخرج عيسى والخضر؛ لأنهما ليسا من أمته، فهو قول ضعيف؛ لأن عيسى يحكم بشريعته صلى الله عليه وسلم، فيكون من أمته، والقول في الخضر إن كان حيًّا كالقول في عيسى، والله أعلم، قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق القول في حياة الخضر عليه السلام، وموته في فضائله، وأن الراجح القول بموته، وهو مذهب البخاريّ والمحقّقين، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): بيان قِصر أعمار أمته صلى الله عليه وسلم، حيث إن معظمهم لا يتجاوز مائة سنة، بل جاء قلّة من يتجاوز السبعين، فقد أخرج الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبّان، والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين ستين إلى سبعين، وأقلّهم من يَجُوز ذلك".
4 -
(ومنها): أنَّ فيه جواز الحديث بعد العشاء، وأما الحديث المتّفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها، فمحمول على ما لا ينبغي من الكلام، وكان ابن سيرين، والقاسم، وأصحابه يتحدثون بعد العشاء؛ أي: في الخير، وقال مجاهد: يُكره السَّمَر بعد العشاء إلا لمصلّ، أو لمسافر، أو دارس علم، أفاده في "العمدة"
(2)
، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما كتبه القرطبيّ رحمه الله من البحث في هذا الحديث، قال رحمه الله: هذا الحديث رواه مسلم من طريقين، ذَكَر الأول منهما متصلًا، ثم أردف عليه سندًا آخر فيه انقطاع، ولا يُعْتب عليه في ذلك؛ إذ قد وفي بشرط كتابه في الطريق الأول، ثم زاد بعد ذلك السند المنقطع.
وقد استشكل بعض من لم يثبت عنده حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ إذ لم يفهم معناه، فردَّه بأن قال: حديث منقطع، وهذا ليس بصحيح على ما قررناه، ثم لو سُلِّم أن حديث ابن عمر ليس بصحيح فحديث جابر وأبي سعيد في الباب
(1)
"الفتح" 2/ 389، كتاب "مواقيت الصلاة" رقم (601).
(2)
"عمدة القاري" 5/ 97.
صحيحان، فما قوله فيه؟ وقد رفع الصحابي -أعني: ابن عمر ذلك الإشكال - بقوله: أراد بذلك أن ينخرم ذلك القرن، بل: قد جاء من حديث جابر بلفظ لا إشكال فيه، فقال:"ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مئة سنة، وهي حيةٌ يومئذ"، وهذا صريح في تحقيق ما قاله ابن عمر، وكذلك قول عبد الرحمن -صاحب السقاية - حيث فسَّره: بنقص العمر، وحاصل ما تضمّنه هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر قبل موته بشهر: أن كل من كان من بني آدم موجودًا في ذلك الوقت لا يزيد عمره على مئة سنة؛ وإنَّما قلنا: إنه أراد بني آدم؛ لأنَّه قال: "من نفس منفوسة"، ولا يتناول هذا الملائكة، ولا الجنّ؛ إذا لم يصح عنهم أنهم كذلك، ولا الحيوان غير العاقل؛ إذ قال فيه:"ممن هو على ظهر الأرض أحد"، وهذا إنما يقال بأصل وَضْعه على من يعقل، فتعيّن: أن المراد بنو آدم.
وقد استَدَلّ بعضُ الحفاظ المتأخرين على بطَلان قول من يقول: إن الخضر حيّ بعموم: "ما من نفس منفوسة" فإنَّه من أنصّ صيغ العموم على الاستغراق، وهذا لا حجَّة فيه يقينية؛ لأنَّ العموم -وإن كان مؤكدًا للاستغراق - فليس نصًّا فيه، بل: هو قابل للتخصيص، لا سيما والخضر وإن كان حيًّا -كما يقال - فليس مشاهدًا للناس، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضًا، فمثل هذا العموم لا يتناوله كما لم يتناول عيسى عليه السلام؛ فإنه لم يمت، ولم يُقتل، فهو حيّ بنص القرآن، ومعناه. وكما لم يتناول الدجال مع أنه حيّ بدليل حديث الجساسة على ما يأتي؛ فإنْ قيل: إنما لم يتناول هذا العموم عيسى؛ لأنَّ الله قد رفعه إليه، فليس هو على ظهر الأرض؛ لأنَّ المراد بذلك العموم: من كان من النفوس على ظهر الأرض، كما نص عليه في حديث ابن عمر. فالجواب: يمنع عموم الأرض المذكورة فيه؛ فإنه اسم مفرد دخل عليه الألف واللام، وهي محتملة للعهد والجنس، وهي ها هنا للعهد؛ لأنَّ الأرض التي يخاطبون بها، ويخبرون عن الكون فيها: هي أرض العرب، وما جرت عادتهم بالتصرف إليها وفيها غالبًا، دون أرض يأجوج ومأجوج، وأقاصي جزائر الهند والسند، مما لا يقرع السمع اسمه، ولا يعلم علمه، ولا جواب عن حديث الدجال.
وعلى الجملة: فمن يستدل في المباحث القطعية بمثل هذا العموم فليس
لكلامه حاصل، ولا مفهوم. وسيأتي القول على قوله صلى الله عليه وسلم:"إن عمر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" في آخر "كتاب الفتن". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6459]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ مَعْمَرٍ، كمِثْلِ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السمرقنديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنة (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الْحَكَم بن نافع الْبَهْرانيّ، الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
4 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ) الْفَهْميّ، أمير مصر، صدوقٌ [7](ت 127)(خ م مد ت س) تقدم في "الحدود" 5/ 4413.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
وقوله: (وَرَوَاهُ اللَّيْثُ
…
إلخ) هذا يسمّى تعليقًا، حيث لم يذكر مسلم الواسطة بينه وبين الليث، وسيأتي في التنبيه أن البخاريّ وصله، وقد أشار السيوطيّ في "ألفيّة الأثر" إلى التعليق، بقوله:
مَا أَوَّلُ الإِسْنَادِ مِنْهُ يُطْلَقُ
…
وَلَوْ إِلَى آخِرِهِ مُعَلَّقُ
(1)
"المفهم" 6/ 489 - 490.
وَفِي "الصَّحِيحِ" ذَا كَثِيرٌ فَالَّذِي
…
أَتَى بِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ خُذِ
صِحَّتَهُ عَنِ الْمُضَافِ عَنْهُ
…
وَغَيْرَهُ ضَعِّفْ وَلَا تُوهِنْهُ
ثم إن الرواية المعلّقة هذه لا تضرّ بصحّة الحديث؛ لأن مسلمًا أوردها متابعة لطريق أبي اليمان عن شعيب، قال الحافظ رشيد الدين العطّار رحمه الله في "غرره": فإذا انقطعت طريق الليث عن عبد الرحمن عند مسلم في هذا الحديث، فقد بقيت طريق أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة سالمة متصلةً؛ لأن كل واحد منهما يرويه عن الزهري، وعبد الرحمن بن خالد ليس من شرط الإمام مسلم
(1)
، فلا لزوم عليه في الإخراج له، على أن طريق الليث، عن عبد الرحمن بن خالد التي أوردها مسلم بقوله: ورواه الليث
…
إلخ، وَرَدَتْ في "صحيح البخاريّ" من طريق متصلة، وهي قوله: حدّثنا سعيد بن عُفير، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة؛ أن عبد الله بن عمر
…
الحديث، ثم إن الحديث أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وأحمد، والترمذيّ، وقال: هذا حديث صحيح. انتهى كلام رشيد الدين العطّار رحمه الله، وهو تحقيقٌ نفيسٌ
(2)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِ) ضمير التثنية لشعيب، وعبد الرحمن بن خالد.
[تنبيه]: رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(576)
- حدّثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: حدّثني سالم بن عبد الله بن عمر، وأبو بكر بن أبي حَثْمة؛ أن عبد الله بن عمر قال: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سَلَّم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة، لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر
(1)
بل أخرج له تعليقًا، ومتابعةً في موضعين، هذا الحديث، وحديث في، كتاب "الحدود"، فتنبّه.
(2)
"غرر الفوائد" 1/ 165، وتقدّم كلام العطار هذا في "شرح المقدّمة" 1/ 98.
الأرض أحدٌ"، فوَهَل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض" يريد بذلك أنها تَخْرِم ذلك القرنَ. انتهى
(1)
.
ورواية عبد الرحمن بن خالد عن الزهريّ المعلّقة ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا فقال:
(116)
- حدّثنا سعيد بن عُفير، قال: حدّثني الليث، قال: حدّثني عبد الرحمن بن خالد، عن ابن شهاب، عن سالم وأبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة؛ أن عبد الله بن عمر قال: صلى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم العشاء في آخر حياته، فلما سَلّم قام، فقال:"أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحدٌ". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6460]
(2538) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: "تَسْأَلُونِي عَنِ السَّاعَة، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله، وَأُقْسِمُ بِاللهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور الْمِصِّيصيّ، أبو محمد ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم المصِّيصَة، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه اختلط في آخر عمره لَمّا قَدِم بغداد قبل موته [9] مات ببغداد سنة ست ومائتين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي، و"ابن جريج" هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ.
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 216.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 55.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، والإخبار، والسماع، فزالت تهمة التدليس عن ابن جريج، وأبي الزبير، فإنهما مدلّسان، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن أبي الزُّبَيْرِ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِشَهْرٍ: "تَسْأَلُونِي) الخطاب للصحابة رضي الله عنهم، (عَنِ السَّاعَةِ)؛ أي: قيامها، ومتى وقتها، (وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ) هو كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)} [الأعراف: 187].
(وَأُقْسِمُ) بضمّ أوله، من الإقسام: أي: أحلف (بِاللهِ) تعالى، (مَا) نافية، (عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ) قال في "المشارق":"من" هنا يسمّيها بعضهم زائدة؛ كقوله: ما جاءني من أحد؛ أي: أحدٌ، وأبى ذلك سيبويه، وقال: قولك: ما رأيت أحدًا، أو ما جاءني أحدٌ، قد يُتأوّل أنه أراد واحدًا منفردًا، بل جاءه أكثر، فإذا قال:"من أحد" أكّد الاستغراق، والعموم، وارتفع التأويل، هذا معنى كلامه. انتهى
(1)
.
(مَنْفُوسَةٍ)؛ أي: مولودة، يقال: نَفِست المرأة، ونُفِست، فهي منفوسة، ونُفساء: إذا ولدت، فأما الحيض فلا يقال فيه: إلا نَفِست بالفتح، قاله ابن الأثير
(2)
.
وقوله: (تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ) جملة في محل جرّ نعت لـ "نفس" بعد النعت بالمفرد، أو هو في محل نصب حال، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 381.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 94.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 6460 و 6461 و 6462 و 6463 و 6465](2538)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 333)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2250)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 314 و 322 و 345 و 385)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2987 و 2990)، و (الطحاويّ) في، مشكل الآثار" (375 و 376)، و (الحاكم) في "المستدرك" (4/ 499)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (4/ 152 و 198)، و (عبد بن حميد) في "مسنده" (1/ 314)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): مما يُستفاد من هذا الحديث فساد ما فشا بين العوامّ من بقاء الخضر حيًّا بين الناس إلى الآن، وقد حقّقت هذا فيما سبق في "فضائل الخضر عليه السلام"، لكن لمّا تكلّم النوويّ هنا، ومَالَ إلى بقائه، وأن هذا قول الجمهور أحببت أن أتعقّبه بما كتبه بعض المحقّقين، فأذكر أولًا قوله، ثم أتبعه ذلك.
قال النوويّ رحمه الله: في حديث جابر رضي الله عنه؛ أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر يقول: "ما من نفس منفوسة اليوم يأتي عليها مائة سنة، وهي حية يومئذ"، وفي رواية أبي سعيد مثله، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك لمّا رجع من تبوك، هذه الأحاديث قد فَسَّر بعضها بعضًا، وفيها عَلَمٌ من أعلام النبوة، والمراد أن كل نفس منفوسة كانت تلك الليلة على الأرض لا تعيش بعدها أكثر من مائة سنة، سواء قلّ عمرها قبل ذلك أم لا، وليس فيه نفي عيش أحد يوجد بعد تلك الليلة فوق مائة سنة، ومعنى "نفس منفوسة": أي: مولودة، وفيه احتراز من الملائكة، وقد احتَجّ بهذه الاحاديث من شذّ من المحدثين، فقال: الخضر عليه السلام ميت، والجمهور على حياته، كما سبق في باب فضائله، ويتأولون هذه الأحاديث على أنه كان على البحر، لا على الأرض، أوأنها عام مخصوص. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "من شذّ من المحدّثين
…
إلخ" ليس كما قال، بل هو قول المحقّقين من المحدّثين وغيرهم، فالحقّ أن الخضر عليه السلام
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 90.
مات قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد كتب بعض المحقّقين كتابًا في الأحاديث الموضوعة، وعقد فيه فصلًا نفيسًا في الخضر، فقال:
[فصل]: من الأحاديث الموضوعة أحاديث حياة الخضر عليه السلام.
ومنها الأحاديث التي ذُكر فيها الخضر، وحياته، وكلها كذب، ولا يصح في حياته حديث واحد.
84 -
كحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمع كلامًا من ورائه، فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر.
85 -
وحديث: يلتقي الخضر وإلياس كل عام.
86 -
وحديث: يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر، الحديث المفترى الطويل.
سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر، وأنه باق، فقال: من أحال على غائب لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان.
وسئل البخاري عن الخضر وإلياس هل هما أحياء؟ فقال: كيف يكون هذا؟ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى على رأس مئة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد".
وسئل عن ذلك كثير غيره من الأئمة، فقالوا:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)} [الأنبياء: 34].
وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: لو كان الخضر حيًّا لوجب عليه أن يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويجاهد بين يديه، ويتعلم منه، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر:"اللَّهُمَّ إن تهلك هذه العصابة، لا تُعبد في الأرض"، وكانوا ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلًا معروفين بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، فأين كان الخضر حينئذ؟.
وقد قال أبو الفرج ابن الجوزيّ: والدليل على أن الخضر ليس بباق في الدنيا أربعة أشياء: القرآن، والسُّنَّة، وإجماع المحققين من العلماء، والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34]، فلو دام الخضر كان خالدًا.
وأما السُّنَّة فذكر حديث: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة سنة
منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو عليها أحد"، متّفق عليه.
وفي "صحيح مسلم" عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بقليل: "ما من نفس منفوسة، يأتي عليها مئة سنة، وهي يومئذ حية"، ثم ذكر عن البخاريّ، وعلي بن موسى الرضا، أن الخضر مات، وأن البخاريّ سئل عن حياته، فقال: كيف يكون ذلك؟ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مئة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحدٌ".
قال: وممن قال: إن الخضر مات: إبراهيم بن إسحاق الحربيّ، وأبو الحسين ابن المنادي، وهما إمامان، وكان ابن المنادي يُقَبِّح قول من يقول: إنه حيّ.
وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب أحمد، وذكر عن بعض أهل العلم أنه احتجّ بأنه لو كان حيًّا لوجب عليه أن يأتي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: حدّثنا أحمد، عن شريح بن النعمان، حدّثنا هشيم، أخبرنا مجالد، عن الشعبيّ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يتّبعني"
(1)
، فكيف يكون حيًّا، ولا يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة، والجماعة، ويجاهد معه؟ ألا ترى أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة، ولا يتقدم؛ لئلا يكون ذلك خدشًا في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الفرج: وما أبعدَ فَهْم من يُثبت وجود الخضر، وينسى ما في طيّ إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة.
أما الدليل من المعقول فمن عشرة أوجه:
أحدها: أن الذي أثبت حياته يقول: إنه ولدُ آدم لِصُلبه، وهذا فاسد لوجهين:
أحدهما: أن يكون عمره الآن ستة آلاف سنة، فيما ذُكر في كتاب يوحنا المؤرخ، ومثل هذا بعيد في العادات أن يقع في حق البشر.
(1)
حديث حسن، راجع:"مختصر العلوّ" للشيخ الألباني ص 59.
والثاني: أنه لو كان ولده لِصُلبه أو الرابع مِن وَلَد وَلَده، كما زعموا، وأنه كان وزير ذي القرنين، فإن تلك الخلقة ليست على خلقتنا، بل مفرط في الطول والعرض.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"خلق الله آدم طوله ستون ذراعًا، فلم يزل الخلق ينقص بعدُ"، وما ذَكَر أحد ممن رأى الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة، وهو من أقدم الناس.
الوجه الثالث: أنه لو كان الخضر قبل نوح لركب معه في السفينة، ولم يَنقل هذا أحد.
الوجه الرابع: أنه اتفق العلماء أن نوحًا لمّا نزل من السفينة مات مَن كان معه، ثم مات نَسْلهم، ولم يبق غير نَسْل نوح.
والدليل على هذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} [الصافات: 77]، وهذا يُبطل قول من قال: إنه كان قبل نوح.
الوجه الخامس: أن هذا لو كان صحيحًا أن بَشَرًا من بني آدم يعيش من حين يولد إلى آخر الدهر، ومولده قبل نوح، لكان هذا من أعظم الآيات والعجائب، وكان خبره في القرآن مذكورًا في غير موضع؛ لأنه من أعظم آيات الربوبية، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مَن أحياه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وجعله آية، فكيف بمن أحياه إلى آخر الدهر.
ولهذا قال بعض أهل العلم: ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان.
والوجه السادس: أن القول بحياة الخضر قول على الله بلا علم، وذلك حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأُولى، فإن حياته لو كانت ثابتة لدلّ عليها القرآن، أو السُّنَّة، أو إجماع الأمة، فهذا كتاب الله تعالى، فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه؟ وهؤلاء علماء الأمة، هل أجمعوا على حياته؟.
الوجه السابع: أن غاية ما يتمسك به من ذهب إلى حياته حكايات منقولة يُخبر الرجل بها أنه رأى الخضر، فيالله العجب، هل للخضر علامات يعرفه بها من رآه، وكثير من هؤلاء يغتر بقوله: أنا الخضر، ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله، فأين للرائي أن المخبر له صادق، لا يكذب؟
الوجه الثامن: أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن، ولم يصاحبه، وقال له:{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78]، فكيف يرضى لنفسه بمفارقته لمثل موسى، ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة، ولا جماعة، ولا مجلس علم، ولا يعرفون من الشريعة شيئًا، وكل منهم يقول: قال الخضر، وجاءني الخضر، وأوصاني الخضر؟ فيا عجبًا له، يفارق كليم الله تعالى، ويدور على صحبة الجهال، ومن لا يعرف كيف يتوضأ؟، ولا كيف يصلي؟.
الوجه التاسع: أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول: أنا الخضر لو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، لم يُلْتَفَت إلى قوله، ولم يُحتجّ به في الدين، إلا أن يقال: إنه لم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بايعه، أو يقول هذا الجاهل: إنه لم يُرسَل إليه، وفي هذا من الكفر ما فيه.
الوجه العاشر: أنه لو كان حيًّا لكان جهاده الكفار، ورباطه في سبيل الله، ومقامه في الصف ساعة، وحضور الجمعة والجماعة، وتعليم العلم أفضل له بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار، والفلوات، وهل هذا إلا من أعظم الطعن عليه، والعيب له؟ انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق أن الحقّ والصواب في الخضر عليه السلام أنه نبيّ، وأن القول ببقائه إلى الآن زعم باطلٌ، والأدلّة على ذلك واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، نسأل الله تعالى أن يرينا الحقّ حقًّا، ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطل باطلًا، ويرزقنا اجتنابه، فإنه وليّ التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6461]
(
…
) - (حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "قَبْلَ مَوْتهِ بِشَهْرٍ").
(1)
"نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول" 1/ 62 - 67.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ، قد يخطئ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
و"ابن جُريج" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر عن ابن جريج ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(14491)
- حدّثنا محمد بن بكر، أنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأُقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة اليوم، يأتي عليها مائة سنة". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6462]
(
…
) - (حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُعْتَمِر، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ: "مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ الْيَوْمَ تَأْتِي عَلَيْهَا مِائَةُ سَنَةٍ، وَهِيَ حَيَّةٌ يَوْمَئِذٍ"، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ صَاحِبِ السِّقَايَة، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَن، قَالَ: نَقْصُ الْعُمُرِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 322.
3 -
(الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطُّفَيل، ثقةٌ، من كبار [9](187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
4 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(أَبُو نَضْرَةَ) -بنون، وضاد معجمة ساكنة - المنذر بن مالك بن قُطَعة -بضمّ القاف، وفتح الطاء المهملة - الْعَبْديّ الْعَوَقيّ - بفتح العين المهملة، والواو، ثم قاف - البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
6 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ صَاحِبُ السِّقَايَةِ) هو: عبد الرحمن بن آدم البصريّ المعروف بصاحب السقاية، مولى أم بُرْثُن -بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، بعدها مثلثة مضمومة، ثم نون - وربما قيل له: ابن بُرْثُن، وقد تُبْدل النون ميمًا، صدوقٌ [3].
رَوَى عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وجابر، ورجل من الصحابة لم يسمّه.
وروى عنه قتادة، وأبو العالية، وسليمان التيميّ، وعوف الأعرابيّ، وأبو الورد بن ثمامة.
قال ابن معين: عبد الرحمن بن برثن، وابن برثم سواء، وقال الدارقطنيّ: عبد الرحمن بن آدم، إنما نُسب إلى آدم أبي البشر، ولم يكن له أب يُعْرَف، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال المدائني: استعمله عبيد الله بن زياد، ثم عزله، وأغرمه مائة ألف، ثم رحل إلى يزيد بن معاوية، فكتب إلى عبيد الله بن زياد أن يُخلف له ما أخذ منه، قال: وكان من شأنه فيما ذكر جويرية بن أسماء أن أم برثن كانت امرأة تعالج الطيب، فأصابت غلامًا لقطة، فربّته حتى أدرك، وسمّته عبد الرحمن، فكلّمت نساء عبيد الله بن زياد، فكلّمته فيه مولاه، فكان يقال له: عبد الرحمن ابن أم برثن، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: لا بأس به، حكاه ابن أبي حاتم، وقال ابن عبديّ: ثنا محمد بن عليّ، ثنا عثمان بن سعيد، سألت ابن معين عن عبد الرحمن بن آدم، فقال:
لا أعرفه، فإما أن يكون آخر، أو لم يستحضره عند سؤال عثمان.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث. و"جابر بن عبد الله رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
وقوله: (وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
…
إلخ) قال النوويّ رحمه الله: هو معطوف على قول المعتمر بن سليمان: سمعت أبي، قال: حدثنا أبو نضرة، ثم قال بعد تمام الحديث: وعن عبد الرحمن، فالقائل: وعن عبد الرحمن هو سليمان والد المعتمر، فسليمان يرويه بإسناد مسلم إليه عن اثنين: أبي نضرة، وعبد الرحمن صاحب السقاية، كلاهما عن جابر رضي الله عنه، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (صَاحِبِ السِّقَايَةِ) لم أجد من بيّن سبب تسميته بهذا اللقب، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ) هكذا في رواية مسلم أن التفسير لعبد الرحمن، ووقع في "مصنّف ابن أبي شيبة"، و"مسند أحمد" بلفظ:"وفسَّر جابر: نقصان من العمر"
(2)
، فجعل التفسير من كلام جابر، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفَسَّرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَن، قَالَ: نَقْصُ الْعُمُرِ)؛ أي: فسّر المائة المذكورة في الحديث، فقال: المراد بها: نَقْص عُمُر الناس، فلا تتجاوز أعمارهم المائة، إلا قليلًا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6463]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون عن سليمان التيميّ لم أجد من ساقها
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 90 - 92.
(2)
راجع: "مصنّف ابن أبي شيبة" 7/ 503، و"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 379.
بتمامها، فقد رواها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، وأحمد في "مسنده" مثل سياق مسلم، فقال الأول:"مثله"، والثاني:"بمثله"، وجعلا التفسير من جابر رضي الله عنه، لا من عبد الرحمن
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6464]
(2539) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ دَاوُدَ، وَاللَّفْظُ لَهُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَة، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ، وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو خَالِدٍ) هو: سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ المذكور في السند الثاني، وهو أبو خالد الأحمر الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الايمان" 5/ 120.
3 -
(دَاوُدُ) بن أبي هند القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5] (ت 140) وقيل: قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"أَبُو سَعِيدٍ" هو: الخدريّ رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ سعد بن مالك رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: لَمّا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ) قيل: هذا لا يلزم منه أن يكون هذا الكلام بعد مرجعه من تبوك فورًا، بل يجوز أن يكون تأخّر بعد مرجعه من تبوك بزمان، فلا يتعارض مع حديث جابر رضي الله عنه المارّ الذي أخبر فيه أنه صلى الله عليه وسلم تكلّم بهذا الكلام قبل وفاته بشهر، ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك مرّتين
(2)
.
(1)
راجع: "مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 503، و"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 379.
(2)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 311.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد التأويل الأول، فالأحسن هو الاحتمال الثاني، والله تعالى أعلم.
(سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ) ظاهر هذا يدلّ على أن جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تأتي
…
إلخ" جواب عن سؤالهم عن الساعة، وليس كذلك، بل جواب السؤال بُيّن في حديث جابر رضي الله عنه المارّ بقوله: "تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله"، فإنه صريح في كونه لم يُخبرهم عن وقت قيام الساعة
(1)
، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَأْتِي مِائَةُ سَنَةٍ، وَعَلَى الأَرْضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ الْيَوْمَ")؛ أي: مولودة، فخرج الملائكة، وإبليس، فلا حاجة لتكلّف جَمْعٍ إلى الجواب: على الماء، والهواء، لا في الأرض.
والمعنى: أنه لا يعيش أحد ممن كان موجودًا حال تلك المقالة، وكانت عند رجوعه من تبوك، وهوأكثر من مائة، وكان آخر الصحب موتًا أبو الطفيل، مات سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقاله، ولا يدخل في الخبر الخضر، فإن المراد: ممن تعرفونه، أو ترونه، أو "أل" في الأرض للعهد؛ أي: أرضي التي نشأت فيها، وبُعثت منها، وزَعْمُ أنه كان إذ ذاك في البحر ضُعِّف بأن الأرض تتناول البر والبحر، والمقابل للبحر: البرّ، لا الأرض، وقَيَّد بالأرض ليخرج عيسى عليه السلام، فإنه في السماء، وفيه وَعْظُ أمته بقِصَر أعمارهم، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [54/ 6464](2539)، و (ابن أبي شيبة) في
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 311.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 6/ 383.
"مصنّفه"(7/ 502)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2986)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6465]
(2538) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْوَلِيد، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ تَبْلُغُ مِائَةَ سَنَةٍ"، فَقَالَ سَالِمٌ: تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَهُ، إِنَّمَا هِيَ: كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ يَوْمَئِذٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السّلَميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغير حفظه في الآخر [5](ت 136) وله ثلاث وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
3 -
(سَالِمُ) بن أبي الجعد رافع الغَطَفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يُرسل كثيرًا [3] (ت 7 أو 198) وقيل: مائة، أو بعد ذلك، ولم يثبت أنه جاوز المائة (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (فَقَالَ سَالِمٌ: تَذَاكَرْنَا ذَلِكَ عِنْدَهُ
…
إلخ)؛ أي: عند جابر رضي الله عنه.
وقوله: (إِنَّمَا هِيّ كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ يَوْمَئِذٍ) ظاهر هذا السياق أن هذا الكلام للمتذاكِرين، ويَحْتَمِل أن يكون كلام جابر فسّر لهم المراد بالحديث.
ومعناه: أن كل نفس مخلوقة في ذلك الوقت لا تبلغ، ولا تتجاوز مائة سنة من ذلك التاريخ، فلا يشمل الحديث من وُلد بعد ذلك الوقت، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله ولم أجد أحدًا أخرجه غيره، والله تعالى أعلم.
(55) - (بابُ تَحْرِيمِ سَبِّ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6466]
(2540) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أبو كريب، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، عَمِي وهو صغير، ثقةٌ أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله اثنتان وثمانون سنةً، وقد رُمِي بالإرجاء (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
5 -
(الأَعْمَش) سليمان بن مِهْران الأسديّ الكاهليّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، عارف بالقراءات، وَرعٌ، لكنه يدلِّس [5](ت 7 أو 148)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 297.
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
وشرح الحديث يأتي بعده -إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: وقع في هذا الإسناد وَهَم، والظاهر أنه ممن بعد مسلم، لا منه، كما سيأتي في كلام الحافظ رحمه الله.
قال أبو عليّ الجيانيّ -بعد إيراد سند مسلم المذكور هنا - ما نصّه: هكذا قال مسلم في إسناد هذا الحديث عن شيوخه، عن أبي هريرة.
قال أبو مسعود الدمشقيّ: هذا وَهَم، والصواب من حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ، لا عن أبي هريرة، وكذا رواه يحيى بن يحيىى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، والناس.
قال أبو عليّ: حدّثنا أبو عُمر النَّمري، قال: نا سعيد بن نصر، نا قاسم بن أصبغ، قال: نا محمد بن وَضّاح، قال: نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لوأن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما أدرك مُدّ أحدهم، ولا نصيفه".
قال: وسئل الدارقطني عن إسناد هذا الحديث، فقال: يرويه الأعمش، واختُلف عنه، فرواه زيد بن أبي أنيسة عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
وقال أبو مسعود: عن أبي داود، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة كذلك أيضًا.
واختُلف على أبي عوانة، فرواه عفان، ويحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن الأعمش كذلك، ورواه مسدّد، وأبو كامل، وشيبان، عن أبي عوانة، فقالوا: عن أبي هريرة، وأبي سعيد.
وكذا قال نصر بن عليّ، عن ابن داود
(1)
الخريبيّ، عن الأعمش.
وقال مسدّد: عن الْخُريبيّ، عن أبي سعيد وحده بغير شكّ، وهو الصواب عن الأعمش.
ورواه زائدة عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والصحيح عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
قال أبو عليّ: أنا أبو عبد الله محمد بن سَعْدون، قال: نا أبو الحسن محمد بن عليّ بن صخر الأزديّ القاضي بمكة بانتقاء أبي نصر الوائليّ الحافظ، قال: نا أبو القاسم عمر بن محمد بن سيف، قال: نا الحسن بن محمد بن شعبة، قال: نا أبو حاتم -يعني: محمد بن إدريس الرازيّ - قال: نا مسلم بن إبراهيم، قال: نا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال:
(1)
هو: عبد الله بن داود الْخُريبيّ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فلوأنفق أحدكم مثلَ أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه".
قال أبو نصر: هذا حديث غريب، والمحفوظ فيه عن شعبة، عن أبي سعيد الخدريّ، وكذلك رواه عن ابن أبي عديّ، ومعاذ بن معاذ، وآدم بن أبي إياس، وغيرهم، وهو في "الصحيحين"، وكذلك رواه وكيع بن الجرّاح، وجرير، ومُحاضرٌ، وغيرهم، عن الأعمش.
واختُلف على أبي معاوية، عن الأعمش، فخرّجه مسلم وحده عن يحيى بن يحيىى، وأبي كُريب، وأبي بكر، عن أبي معاوية في مسند أبي هريرة.
ورواه جماعة عن أبي معاوية في مسند أبي سعيد الخدريّ.
قال أبو نصر: ومن الناس من ينسب مسلمًا فيه إلى الوهَم.
ثم أخرج بسنده عن محمد بن جُحادة، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبّوا أصحابي. . ." الحديث. انتهى ما كتبه الجيّاني رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ثم أورد ما كتبه الحافظ في "الفتح"؛ ليكون شرحًا لِمَا أوردته عن الجيّانيّ رحمه لله.
قال رحمه الله عند قول البخاريّ رحمه الله: "تابعه جرير، وعبد الله بن داود، وأبو معاوية، ومحاضر، عن الأعمش". انتهى.
قوله: "تابعه جرير" هو ابن عبد الحميد، وعبد الله بن داود هو الْخُرَيبيّ -بالمعجمة، والموحّدة، مصغرًا- وأبو معاوية هو الضرير، ومحاضر -بمهملة، ثم معجمة، بوزن مجاهد- عن الأعمش؛ أي: عن أبي صالح، عن أبي سعيد.
فأما رواية جرير، فوَصَلها مسلم، وابن ماجه، وأبو يعلى، وغيرهم.
وأما رواية محاضر، فرويناها موصولة في "فوائد أبي الفتح الحداد" من طريق أحمد بن يونس الضبيّ، عن محاضر المذكور، فذكره مثل رواية جرير، لكن قال:"بين خالد بن الوليد وبين أبي بكر" بدل عبد الرحمن بن عوف، وقول جرير أصحّ، وقد وقع كذلك في رواية عاصم، عن أبي صالح الآتي ذِكرها.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 915 - 919.
وأما رواية عبد الله بن داود فوصلها مسدد في "مسنده"، عنه وليس فيه القصّة، وكذا أخرجها أبو داود، عن مسدد.
وأما رواية أبي معاوية فوصلها أحمد عنه هكذا، وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، ويحيى بن يحيىى، ثلاثتهم عن أبي معاوية، لكن قال فيه: عن أبي هريرة، بدل أبي سعيد، وهو وَهَمٌ، كما جزم به خَلَفٌ، وأبو مسعود، وأبو علي الجيانيّ، وغيرهم.
قال الحافظ المزيّ رحمه الله: ورواه مسلم، عن يحيى بن يحيىى، وأبي بكر، وأبي كريب، ثلاثتهم عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ووَهِم عليهم في ذلك، إنَّما رووه، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، كذلك رواه الناس، عنهم، كما رواه ابن ماجه عن أبي كريب أحد شيوخ مسلم فيه، ومن أدلِّ دليل على أن ذلك وَهَمٌ وقع منه في حال كتابته، لا في حفظه: أنه ذكر أوَّلًا حديث أبي معاوية، ثم ثنَّى بحديث جرير، وذَكَر المتن وبقيَّة الإسناد عن كلِّ واحد منهما، ثم ثلَّث بحديث وكيع، ثم ربَّع بحديث شعبة، ولم يذكر المتن، ولا بقيَّة الإسناد عنهما -أي: عن وكيع، وشعبة - بل قال: عن الأعمش بإسناد جرير، وأبي معاوية بمثل حديثهما
…
إلى آخر كلامه، فلولا أنّ إسناد جرير وأبي معاوية عنده واحد لَمَا جمعهما جميعًا في الحوالة عليهما، والوهم يكون تارةً في الحفظ، وتارة في القول، وتارة في الكتابة، وقد وقع الوهم منه ها هنا في الكتابة، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ المزيّ رضي الله عنه
(1)
، وهو تحقيق جيّد، وأجود منه حَمْل الوهم على مَن بَعْدَ مسلم، كما يأتي في تحقيق الحافظ رحمه الله، فتنبّه.
قال الحافظ: وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة أحد شيوخ مسلم فيه في "مسنده"، و"مصنفه" عن أبي معاوية، فقال: عن أبي سعيد، كما قال أحمد، وكذا رويناه من طريق أبي نعيم في "المستخرج" من رواية عُبيد بن غنام، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأخرجه أبو نعيم أيضًا من رواية أحمد، ويحيى بن عبد الحميد، وأبي خيثمة، وأحمد بن جوّاس، كلهم عن أبي معاوية، فقال:
(1)
"تحفة الأشراف" 3/ 343 - 344.
عن أبي سعيد، وقال بعده: أخرجه مسلم عن أبي بكر، وأبي كريب، ويحيى بن يحيى، فدلّ على أن الوهم وقع فيه ممن دون مسلم؛ إذ لو كان عنده عن أبي هريرة لبيَّنه أبو نعيم، ويقوي ذلك أيضًا أن الدارقطني مع جزمه في "العلل" بأن الصواب أنه من حديث أبي سعيد، لم يتعرض في تتبّعه أوهام الشيخين إلى رواية أبي معاوية هذه.
وقد أخرجه أبو عبيدة في "غريب الحديث"، والجوزقي من طريق عبد الله بن هاشم، وخيثمة من طريق سعيد بن يحيىى، والإسماعيليّ، وابن حبان من طريق عليّ بن الجعد، كلهم عن أبي معاوية، فقالوا: عن أبي سعيد، وأخرجه ابن ماجه عن أبي كريب أحد شيوخ مسلم فيه أيضًا، عن أبي معاوية، فقال: عن أبي سعيد، كما قال الجماعة، إلا أنه وقع في بعض النسخ عن
(1)
ابن ماجه اختلاف، ففي بعضها عن أبي هريرة، وفي بعضها عن أبي سعيد، والصواب عن أبي سعيد؛ لأن ابن ماجه جَمَع في سياقه بين جرير ووكيع وأبي معاوية، ولم يقل أحد في رواية وكيع وجرير: إنها عن أبي هريرة، وكل من أخرجها من المصنفين، والمخرجين، أورده عنهما من حديث أبي سعيد، قال الحافظ: وقد وجدته في نسخة قديمة جدًّا من ابن ماجه، قُرئت في سنة بضع وسبعين وثلاثمائة، وهي في غاية الإتقان، وفيها عن أبي سعيد، واحتمال كون الحديث عند أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد وأبي هريرة جميعًا مستبعَد؛ إذ لو كان كذلك لَجَمَعهما ولو مرّة، فلما كان غالب ما وُجد عنه ذِكر أبي سعيد دون ذِكر أبي هريرة دلّ على أن في قول من قال عنه: عن أبي هريرة شذوذًا، والله أعلم.
وقد جَمَعهما أبو عوانة عن الأعمش، ذَكَره الدارقطنيّ.
وقال في "العلل": رواه مسدّد، وأبو كامل، وشيبان، عن أبي عوانة كذلك، ورواه عفّان، ويحيى بن حماد، عن أبي عوانة، فلم يذكرا فيه أبا سعيد، قال: ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وكذلك قال نصر بن عليّ، عن عبد الله بن داود، قال: والصواب من
(1)
كذا في النسخة، والظاهر أن الصواب "عند"، فتأمل.
روايات الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، لا عن أبي هريرة.
قال: وقد رواه عاصم، عن أبي صالح، فقال: عن أبي هريرة، والصحيح عن أبي صالح، عن أبي سعيد. انتهى.
وقد سبق إلى ذلك عليّ ابن المدينيّ، فقال في "العلل": رواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، ورواه عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: والأعمش أثبت في أبي صالح من عاصم.
فعُرف من كلامه أن من قال فيه: عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فقد شَذّ، وكأن سبب ذلك شهرة أبي صالح بالرواية عن أبي هريرة، فيسبق إليه الوهم ممن ليس بحافظ، وأما الحفاظ فيميزون ذلك.
ورواية زيد بن أبي أنيسة التي أشار إليها الدارقطنيّ، أخرجها الطبرانيّ في "الأوسط"، قال: ولم يروه عن الأعمش إلا زيد بن أبي أنيسة، ورواه شعبة وغيره عن الأعمش، فقالوا: عن أبي سعيد. انتهى.
وأما رواية عاصم، فأخرجها النسائيّ في "الكبرى"، والبزار في "مسنده"، وقال: ولم يروه عن عاصم إلا زائدة.
وممن رواه عن الأعمش، فقال: عن أبي سعيد: أبو بكر بن عياش، عند عبد بن حميد، ويحيى بن عيسى الرمليّ، عند أبي عوانة، وأبو الأحوص، عند ابن أبي خيثمة، وإسرائيل عند تمام الرازيّ.
قال الحافظ: وأما ما حكاه الدارقطنيّ عن رواية أبي عوانة، فقد وقع لي من رواية مسدّد، وأبي كامل، وشيبان عنه على الشكّ، قال في روايته: عن أبي سعيد، أو أبي هريرة، وأبو عوانة كان يحدّث من حفظه، فربّما وَهِم، وحديثه من كتابه أثبت، ومن لم يشك أحقّ بالتقديم ممن شك، والله أعلم.
قال الحافظ رحمه الله: وقد أمليت على هذا الموضع جزءًا مفردًا لخَّصت مقاصده هنا بعون الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قال الجامع عفا الله عنه: قد حقّق هذا البحث الحافظ رحمه الله تحقيقًا بالغًا، وأجاد، وأفاد، وقد تبيّن من خلال تحقيقه أن إسناد مسلم هذا وهَمٌ، وأن الوهَم ليس منه، بل ممن دونه، لا منه، فتأمله بالإمعان، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6467]
(2541) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيد، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ، فَسَبَّهُ خَالِدٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الْعَبسيّ الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قبل باب.
والباقون ذُكروا في الحديث الماضي، وقبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى أبي صالح، وأبي هريرة رضي الله عنه فمدنيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبا سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ سعد بن مالك رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَليدِ) بن المغيرة بن عبد الله بن عُمر بن مخزوم المخزوميّ، سيف الله، يُكنى أبا سليمان، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وكان إسلامه بين الحديبية والفتح، وكان أميرًا على قتال أهل الردّة، وغيرها من الفتوح، إلى أن مات سنة إحدى، أو اثنتين وعشرين، تقدّمت ترجمته في "الجهاد والسِّيَر" 13/ 4560.
(وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ) بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زُهْرة القرشيّ الزهريّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، أسلم قديمًا، ومناقبه شهيرة، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، تقدّمت ترجمته في الصلاة" 23/ 957. (شَيْءٌ)؛ أي: من المخاصمة والمنازعة، (فَسَبَّهُ)؛ أي: عبد الرحمن بن عوف، (خَالِدٌ)؛ أي: ابن الوليد، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا)
ناهية، ولذا جزم الفعل بعدها، (تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي) الخطاب للصحابة، كما بيّنه سبب الحديث المذكور آنفًا، وقال السيوطيّ: قال العلماء: هذا مشكل الظاهر، من حيث الخطاب، وأجاب جماعة بأنه صلى الله عليه وسلم نزّل السابّ منهم؛ لتعاطيه ما لا يليق به منزلة غير الصحابة، قال السبكيّ: الظاهر أن الخطاب فيه لمن صحبه آخرًا بعد الفتح، وقوله:"أصحابي" المراد بهم: من أسلم قبل الفتح، قال: ويُرشد إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق" إلى آخره، مع قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية [الحديد: 10] قال: ولا بدّ لنا من تأويله بهذا، أو بغيره؛ ليكون المخاطبون غير الأصحاب الموصَى بهم. انتهى
(1)
.
وقال الكرمانيّ: الخطاب لغير الصحابة من المسلمين المفروضين في العقل، جَعَل من سيوجد كالموجود، ووجودَهم المترقب كالحاضر. انتهى
(2)
، وسيأتي تعقّب الحافظ له.
(فَإِنّ أَحَدَكُمْ) قال في "الفتح": فيه إشعار بأن المراد بقوله أوّلًا: "أصحابي" أصحاب مخصوصون، وإلا فالخطاب كان للصحابة، وقد قال:"لو أن أحدكم أنفق"، وهذا كقوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} الآية [الحديد: 10]، ومع ذلك فنَهْيُ بعضِ من أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخاطبه بذلك عن سبّ من سَبَقه، يقتضي زجر من لم يُدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يخاطبه عن سبّ من سبقه من بابِ أَولى، وغَفَل من قال: إن الخطاب بذلك لغير الصحابة، وإنما المراد من سيوجد من المسلمين المفروضين في العقل؛ تنزيلًا لمن سيوجد منزلة الموجود؛ للقطع بوقوعه، ووجه التعقب عليه وقوع التصريح في نفس الخبر بأن المخاطَب بذلك خالد بن الوليد، وهو من الصحابة الموجودين إذ ذاك بالاتفاق. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وغَفَل
…
إلخ" هذا من الحافظ تعقّب لِمَا سبق عن الكرمانيّ، وهو تعقّب حسنٌ، ولكن العينيّ تعقّبه فيه على عادته في غالب تعقّباته التعصّبية، غفر الله لي، ولهم جميعًا.
(1)
"الديباج على مسلم" 5/ 486.
(2)
"عمدة القاري" 16/ 188.
(3)
"الفتح" 8/ 361، كتاب "الفضائل" رقم (3673).
(لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا) زاد الْبَرْقاني في "المصافحة" من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش:"كل يوم"، قال: وهي زيادة حسنة. (مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ)؛ أي: المدّ من كل شيء، والمدّ بضم الميم مكيال معروف، ضُبِط قَدْره في "كتاب الطهارة"
(1)
.
وحَكَى الخطابيّ أنه رُوي بفتح الميم، قال: والمراد به الفضل والطول، وقد تقدّم في أول باب فضائل الصحابة تقرير أفضلية الصحابة عمن بعدهم، وهذا الحديث دال لِمَا وقع الاختيار له مما تقدّم من الاختلاف، والله أعلم.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "المدّ" بالضمّ كيلٌ، وهو رطلٌ وثُلُث عند أهل الحجاز، فهو ربع صاع؛ لأن الصاع خمسة أرطال وثلُثٌ، والمدّ رطلان عند أهل العراق، والجمع أمداد، ومِداد بالكسر. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله ما نصّه: وفي حديث فضل الصحابة: "ما أدرك مُدَّ أحدهم، ولا نَصِيفه": المدّ في الأصل ربع الصاع، وإنما قدّره به؛ لأنه أقلّ ما كانوا يتصدّقون به في العادة. ويُروى بفتح الميم، وهو الغاية. وقد تكرّر ذكرُ المدّ في الحديث، وهو رطلٌ وثُلُثٌ عند الشافعيّ، وأهل الحجاز، وهو رطلان عند أبي حنيفة، وأهل العراق. وقيل: إن أصل المدّ مُقَدَّرٌ بأن يَمُدّ الرجل يديه، فيملأَ كفّيه طعامًا. انتهى
(3)
.
(وَلَا نَصِيفَهُ")؛ أي: ولا نصيف المدّ من كل شيء، و"النَّصِيف" بوزن رغيف، هو النصف، كما يقال: عُشْر وعَشِير، وثُمُن وثَمِين، وقيل:"النَّصِيف": مكيال دون المد. قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: "النَّصِيف": النصف، وفيه أربع لغات: نِصْف -بكسر النون- ونُصْفٌ -بضمها- ونَصْفٌ -بفتحها- ونَصِيف بزيادة الياء، حكاهنّ القاضي عياض في "المشارق" عن الخطابيّ
(5)
.
(1)
قَدْر المدّ بالمكاييل المعاصرة (688) لترًا، راجع:"الإيضاحات العصريّة" ص 116.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 566.
(3)
"النهاية" 4/ 308، و"لسان العرب" 3/ 400.
(4)
"الفتح" 7/ 44.
(5)
"شرح النوويّ" 16/ 93.
وقال في "القاموس": "النّصفُ": مُثَلَّثَةً: أحد شقّي الشيء، كالنَّصِيف، جَمْعه أَنصافٌ. انتهى.
وقال "الشارح": قوله: "مُثَلّثة": قال شيخنا: أفصحها الكسر، وأقْيسها الضمّ؛ لأنه الجاري على بقيّة الأجزاء؛ كالربع، والخمس، والسدس، ثم الفتح، وقرأ زيد بن ثابت رضي الله عنه:{فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] بالضمّ. انتهى باختصار
(1)
.
وقال البيضاويّ: معنى الحديث: لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أُحد ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مُدّ طعام، أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص، وصدق النية. قال الحافظ: وأعظمُ من ذلك في سبب الأفضلية عِظَم موقع ذلك؛ لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال، كما وقع في الآية:{مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10]، فإن فيها إشارةً إلى موقع السبب الذي ذكرته، وذلك أن الإنفاق والقتال كان قبل فتح مكة عظيمًا؛ لشدة الحاجة إليه، وقلة المعتني به، بخلاف ما وقع بعد ذلك؛ لأن المسلمين كَثُروا بعد الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم، والله أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا.
وقال النووي في "شرح مسلم" 16/ 93: معنى الحديث: لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ ثوابه في ذلك ثواب نفقة أَحَد أصحابي مُدًّا، ولا نصف مُدّ، قال القاضي عياض: ويؤيد هذا ما قدمناه في أول "باب فضائل الصحابة" عن الجمهور من تفضيل الصحابة كلهم على جميع مَن بَعْدهم، وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة، وضِيق الحال، بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم، وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم، وسائر طاعاتهم، وقد قال الله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً} الآية [الحديد: 10] هذا كله مع ما كان في أنفسهم من
(1)
"تاج العروس" 1/ 6139.
(2)
"الفتح" 8/ 361، كتاب "الفضائل" رقم (3673 - 362).
الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حَقَّ جهاده، وفضيلةُ الصحبة ولو لحظةً لا يوازيها عملٌ، ولا تُنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
(1)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ بعد ذِكره سبب الحديث -وهو قصة ما جرى بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما ما نصّه: فأظهر ذلك السببُ أن مقصود هذا الخبر زجر خالد، ومن كان على مثل حاله ممن سُبِقَ بالإسلام، وإظهار خصوصيّة السابق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأن السابقين لا يَلْحَقهم أحدٌ في درجتهم، وإن كان أكثر نفقةً وعملًا منهم، وهذا نحو قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10]، ويدلّ على صحّة هذا المقصود أن خالدًا وإن كان من الصحابة رضي الله عنهم لكنه متأخّر الإسلام، قيل: أسلم سنة خمس، وقيل: سنة ثمان، لكنه صلى الله عليه وسلم لَمّا عدل عن خالد
(2)
وعبد الرحمن إلى التعميم دلّ ذلك على أنه قَصَد مع ذلك تقعيد قاعدةِ تغليظ تحريم سبّ الصحابة مطلقًا، فيحرُمُ ذلك من صحابيّ وغيره؛ لأنه إذا حُرِّم على صحابيّ، فتحريمه على غيره أولى، وأيضًا فإن خطابه صلى الله عليه وسلم للواحد خطاب للجميع، وخطابه للحاضرين خطاب للغائبين إلى يوم القيامة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا
(3)
.
وقال القاضي: ومن أصحاب الحديث من يقول: هذه الفضيلة مختصة بمن طالت صحبته، وقاتل معه، وأنفق، وهاجر، ونَصَر، لا لمن رآه مَرّةً، كَوُفُود الأعراب، أو صَحِبَه آخرًا بعد الفتح، وبعد إعزاز الدين، ممن لم يوجد له هجرة، ولا أَثَرٌ في الدين، ومنفعة المسلمين، قال: والصحيح هو الأول، وعليه الأكثرون، والله أعلم. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح مسلم" 16/ 936 - 94.
(2)
وقع في نسخة "المفهم" بلفظ: "عن غير خالد"، بزيادة "غير"، وهو غلط، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(3)
"المفهم" 6/ 494 - 495.
(4)
"إكمال المعلم" 7/ 580 - 581.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله عياض: من تصحيح رأي الجمهور في أن فضل الصحبة تعمّ جميع الصحابة رضي الله عنهم هو الحقّ؛ لكثرة الأدلّة على ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [55/ 6467 و 6468](2541)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3673)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4658)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3861)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 84)، و (ابن ماجه) في "السُّنَّة"(161)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2183)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 11 و 54 - 55) و"فضائل الصحابة"(6)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 174 - 175)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(990 - 991)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6994 و 7253 و 7255)، و (عبد بن حميد)(918)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1198)، و (البزّار) في "مسنده"(2768)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 338) و"الصغير"(2/ 176)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 120)، و (أبو نعيم) في "تاريخه"(2/ 122)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(7/ 144)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 209)، و"شُعَب الإيمان"(2/ 190)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(359)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضائل الصحابة رضي الله عنهم.
2 -
(ومنها): بيان تفاوت مراتب الصحابة في الفضل والأجر عند الله تعالى.
3 -
(ومنها): بيان أن الفضل والمنزلة عند الله ليس من الأمور القياسيّة، بل محض فَضْل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، فقد يُعطي على عمل قليل ما لا يُنال بالعمل الكثير.
4 -
(ومنها): بيان أن الإنفاق في وقت الحاجة أفضل من الإنفاق في غيرها.
5 -
(ومنها): بيان وجوب احترام الصحابة رضي الله عنهم، والنهي عن سبّهم.
6 -
(ومنها): أن فيه دلالة واضحةً على أن الصحابة رضي الله عنهم لا يلحقهم أحدٌ ممن بعدهم في فضلهم، وإن عمل ما عمل من أفعال الخير.
(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم فيمن سبّ الصحابة رضي الله عنه: قال النووي رحمه الله: اعلم أنّ سَبّ الصحابة رضي الله عنهم حرام، من فَوَاحش المحرمات، سواء من لَابَس الفتن منهم وغيرهم؛ لأنهم مجتهدون في تلك الحروب، متأوّلون، قال القاضي عياض رحمه الله: سبّ أحدهم من المعاصي الكبائر، ومذهبنا ومذهب الجمهور أنه يُعَزَّر، ولا يُقتَل، وقال بعض المالكية: يُقْتَل. نتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": اختُلِفَ في سابّ الصحابة رضي الله عنهم، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يُعَزَّر، وعن بعض المالكية: يُقْتَل، وخَصَّ بعض الشافعية ذلك بالشيخين، والْحَسَنين، فحَكَى القاضي حسين في ذلك وجهين، وقَوّاه السبكي في حق من كَفَّر الشيخين، وكذا من كَفَّرَ مَن صَرَّحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإيمانه، أو تبشيره بالجنة؛ إذا تواتر الخبر بذلك عنه؛ لِمَا تَضَمَّن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي فصّله السبكيّ رحمه الله هو الأرجح عندي؛ لوضوح حجته، والله تعالى أعلم.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: من المعلوم الذي لا يُشكّ فيه أن الله تعالى اختار أصحاب نبيّه لنبيّه صلى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، فجميعُ ما نحن فيه من العلوم والأعمال والفضائل والأحوال والممتلكات والأموال والعزّ والسلطان والدِّين والإيمان وغير ذلك من النّعم التي لا يُحصيها لسان، ولا يتّسع لتقديرها زمان إنما كان بسببهم، ولَمّا كان ذلك وجب علينا الاعتراف بحقوقهم، والشكر لهم على عظيم أياديهم، قيامًا بما أوجبه الله تعالى من شكر المنعم، واجتنابًا لِمَا حرَّمه من كُفران حقّه، هذا مع ما تحقّقنا من ثناء الله تعالى عليهم، وتشريفه لهم، ورضاه عنهم، كقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 93.
(2)
"الفتح" 7/ 46.
تَحْتَ الشَّجَرَةِ} إلى قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 18 - 29]، وقوله:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، وقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى غير ذلك، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين والمرسلين" إلى غير ذلك من الأحاديث المتضمّنة للئناء عليهم رضي الله عنهم أجمعين، وعلى هذا فمن تعرَّضَ لسبّهم، وجَحَدَ عظيم حقِّهِم، فقد انسلخ من الإيمان، وقابل الشكر بالكفران، ويكفي في هذا الباب ما رواه الترمذيّ من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهَ اللهَ في أصحابي، لا تتّخِذُوهم غَرَضًا بعدي، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه"، قال الترمذيّ: حديث غريب، وهذا الحديث وإن كان غريب السند، فهو صحيح المتن؛ لأنه معضود بما قدّمناه من الكتاب والسُّنَّة، والمعلوم من دين الأمّة؛ إذ لا خلاف في وجوب احترامهم، وتحريم سبّهم، ولا يُختَلف في أنّ من قال: إنهم كانوا على كفر أو ضلال كافر يُقتَل؛ لأنه أنكر معلومًا ضروريًّا من الشرع، فقد كذّب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرا به عنهم، وكذلك الحكم فيمن كفّر أحد الخلفاء الأربعة، أو ضلَّلَهم، وهل حُكمه حُكم المرتدّ، فيُستتاب، أو حكم الزنديق فلا يُستتاب، ويُقتل على كل حال؟ هذا مما يُختلَف فيه، فأما من سبّهم بغير ذلك، فإن كان سبًّا يُوجب حدًّا كالقذف حُدّ حَدَّه، ثم يُنَكَّل التنكيل الشديد من الحبس والتخليد فيه، والإهانة ما خلا عائشة رضي الله عنها، فإن قاذفها يُقتَل؛ لأنه مكذّب لِمَا جاء في الكتاب والسُّنَّة من براءتها، قاله مالك وغيره، واختَلف في غيرها من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقيل: يُقتَل قاذفها؛ لأن ذلك أذًى للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: يُحدّ ويُنَكَّل، كما ذكرناه على قولين، وأما من سبّهم بغير القذف فإنه يُجْلَد الجلدَ الموجع، ويُنكَّل التنكيل الشديدَ، قال ابن حبيب: ويُخلَّد سَجْنه إلى أن يموت، وقد رُوي عن مالك: من سبّ عائشة رضي الله عنها قُتِل مطلقًا، ويُمكن حَمْله على السبّ بالقذف. والله تعالى أعلم. انتهى القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"المفهم" 6/ 492 - 494.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي ذكره القرطبيّ رحمه الله تحقيق نفيس جدًّا، وخلاصته تشديد العقوبة على من انتهك حرمات الصحابة رضي الله عنه، وأنه يُقتل على التفصيل الذي ذكره. والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في ذِكر قصيدة لبديع الزمان الْهَمَذَانيّ
(1)
رحمه الله يمدح بها الصحابة رضي الله عنه، ويهجو أبا بكر الخوارزميّ، ويُجيبه عن قصيدة رُويت له في الطعن عليهم. قال [من الرجز]:
وَكَّلَنِي بِالْهَمِّ وَالْكَآبَهْ
…
طَعَّانَةٌ لَعَّانَةٌ سَبَّابَهْ
لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالصَّحَابَهْ
…
أَسَاءَ سَمْعأ فَأَسَاءَ جَابَهْ
تَأَمَّلُوا يَا كُبَرَاءَ الشِّيعَهْ
…
لِعِشْرَةِ الإِسْلَامِ وَالشَّرِيعَهْ
أَتُسْتَحَلُّ هَذِهِ الْوَقِيعَهْ
…
فِي بِيَعِ الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْبِيعَهْ
فَكَيْفَ مَنْ صَدَّقَ بِالرِّسَالَهْ
…
وَقَامَ لِلدِّينِ بِكُلِّ آلَهْ
وَأَحْرَزَ اللَّهُ يَدَ الْعُقْبَى لَهْ
…
ذَالِكُمُ الصِّدِّيقُ لَا مَحَالَهْ
إِمَامُ مَنْ أُجْمِعَ فِي السَّقِيفَهْ
…
قَطْعًا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْخَلِيفَهْ
نَاهِيكَ مِنْ آثَارِهِ الشَّرِيفَهْ
…
فِي رَدِّهِ كَيْدَ بَنِي حَنِيفَهْ
سَلِ الْجِبَالَ الشُّمَّ وَالْبِحَارَا
…
وَسَائِلِ الْمِنْبَرَ وَالْمَنَارَا
وَاسْتَعْلِمِ الآفَاقَ وَالأَقْطَارَا
…
مَنْ أَظْهَرَ الدِّينَ بِهَا شِعَارَا
ثُمَّ سَلِ الْفُرْسَ وَبَيْتَ النَّارِ
…
مَن الَّذِي فَلَّ شَبَا الْكُفَّارِ
هَلْ هَذِهِ الْبيْضُ مِنَ الآثَارِ
…
إِلَّا لِثَانِي الْمُصْطَفَى فِي الْغَارِ
وَسَائِلِ الإِسْلَامَ مَنْ قَوَّاهُ
…
وَقَالَ إِذْ لَمْ تَقُلِ الأَفْوَاهُ
وَاسْتَنْجَزَ الْوَعْدَ فَأَوْمَى اللَّهُ
…
مَنْ قَامَ لَمَّا قَعَدُوا إِلَّا هُو
ثَانِي النَّبِيِّ فِي سِنِي الْوِلَادَهْ
…
ثَانِيهِ فِي الْغَارَةِ بَعْدَ الْعَادَهْ
ثَانِيهِ فِي الدَّعْوَةِ وَالشَّهَادَهْ
…
ثَانِيهِ فِي الْقَبْرِ بِلَا وِسَادَهْ
ثَانِيهِ فِي مَنْزِلَةِ الزَّعَامَهْ
…
نُبُوَّةٌ أَفْضَتْ إِلَى إِمَامَهْ
(1)
هو: أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحيىى بن سعيد الملقّب ببديع الزمان، سكن هَرَاة، وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصّبًا لأهل الحديث والسُّنَّة، ما أخرجت هَمَذَان بعده مثله، توفي سنة (398 هـ). "معجم الأدباء" 1/ 234.
أَتَأمُلُ الْجَنَّةَ يَا شَتَّامَهْ
…
لَيْسَتْ بِمَأْوَاكَ وَلَا كَرَامَهْ
إِنَّ امْرَءًا أَثْنَى عَلَيْهِ الْمُصْطَفَى
…
ثُمَّتَ وَالَاهُ الْوَصِيُّ الْمُرْتَضَى
وَاجْتَمَعَتْ عَلَى مَعَالِيهِ الْوَرَى
…
وَاخْتَارَهُ خَلِفَة رَبُّ الْعُلَى
وَاتَّبَعَتْهُ أُمَّةُ الأُمِّيِّ
…
وَبَايَعَتْهُ رَاحَةُ الْوَصِيِّ
وَبِاسْمِهِ اسْتَسْقَى حَيَا الْوَسْمِيِّ
…
مَا ضَرَّهُ هَجْوُ الْخُوَارَزْمِيَّ
سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يُلْقِم الصَّخْرَ فَمَهْ
…
وَلَمْ يُعِدْهُ حَجَرًا مَا أَحْلَمَهْ
يَا نُذْلُ يَا مَأبُونُ أَفْطَرْتَ فَمَهْ
…
لَشَدَّ مَا اشْتَاقَتْ إِلَيْكَ الْحُطَمَهْ
إِنَّ أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُرْتَضَى
…
وَجَعْفَرَ الصَّادِقَ أوْ مُوسَى الرِّضَا
لَوْ سَمِعُوكَ بِالْخَنَا مُعَرِّضَا
…
مَا ادَّخَرُوا عَنْكَ الْحُسَامَ الْمُنْتَضَى
وَيْلَكَ لِمْ تَنْبَحُ يَا كَلْبَ الْقَمَرْ
…
مَا لَكَ يَا مَأبُونُ تَغْتَابُ عُمَرْ
سَيِّدَ مَنْ صَامَ وَحَجَّ وَاعْتَمَرْ
…
صَرِّحْ بِإِلْحَادِكَ لَا تَمْشِ الْخَمَرْ
يَا مَنْ هَجَا الصِّدِّيقَ وَالْفَارُوقَا
…
كَيْمَا يُقِيمَ عِنْدَ قَوْمٍ سُوقَا
نَفَخْتَ يَاطَبْلُ عَلَيْنَا بُوقَا
…
فَمَا لَكَ الْيَوْمَ كَذَا مَوْهُوقَا
(1)
إِنَّكَ فِي الطَّعْنِ عَلَى الشَّيْخَيْنِ
…
وَالْقَدْحِ فِي السَّيِّدِ ذِي النُّورَيْنِ
لَوَاهِنُ الظَّهْرِ سَخِينُ الْعَيْنِ
…
مُعْتَرِضٌ لِلْحَيْنِ بَعْدَ الْحَيْنِ
هَلَّا شُغِلْتَ بِاسْتِكَ الْمَغْلُومَهْ
…
وَهَامَةٍ تَحْمِلُهَا مَشْؤُومَهْ
هَلَّا نَهَتْكَ الْوَجْنَةُ الْمَشْمُومَهْ
…
عَنْ مُشْتَرِي الْخُلْدِ بِبِئْرِ رُومَهْ
كَفَى مِنَ الْغِيبَةِ أَدْنَى شَمَّهْ
…
مَنِ اسْتَجَازَ الْقَدْحَ فِي الأئِمَّهْ
وَلَمْ يُعَظِّمْ أُمَنَاءَ الأمَّهْ
…
فَلَا تَلُومُوهُ وَلُومُوا أُمَّهْ
مَا لَكَ يَا نُذلُ وَللزَّكِيَّهْ
…
عَائِشَةَ الرَّضِيَةِ الْمَرْضِيَّهْ
يَا سَاقِطَ الْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّهْ
…
أَلَمْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى حَظِيَّهْ
مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي الْخُوَارَزْمِيَّا
…
يُخْبِرُهُ أنَّ ابْنَهُ عَلِيَّا
قَدِ اشْتَرَيْنَا مِنْهُ لَحْمًا نِيَّا
…
بِشرْطِ أَنْ يُفْهِمَنَا الْمَعْنِيَّا
يَا أَسَدَ الْخَلْوَةِ خِنْزِيرَ الْمَلَا
…
مَا لَكَ فِي الْحَرَّى تَقُودُ الْجَمَلَا
يَا ذَا الَّذِي يَثْلُبُنِي إِذَا خَلَا
…
وَفِي الْخَلَا أُطْعِمُهُ مَا فِي الْخَلَا
(1)
وهقه عنه كوعده: حبسه.
وَقُلْتُ لَمَّا احْتَفَلَ الْمِضْمَارُ
…
وَاحْتَفَّتِ الأَسْمَاعُ وَالأَبْصَارُ
سَوْفَ تَرَى إِذَا انْجَلَى الْغُبَارُ
…
أَفَرَسٌ تَحْتِيَ أَمْ حِمَارُ
(1)
.
والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6468]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، وَأَبُو كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَش، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، وَأَبِي مُعَاوِيَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ وَوَكِيعٍ، ذِكْرُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَليدِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيًّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: رواية وكيع عن الأعمش ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(11534)
- حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا، ما أدرك مُدّ أحدهم، ولا نصيفه". انتهى
(2)
.
(1)
راجع: "معجم الأدباء" لياقوت الحمويّ 1/ 249 - 251.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 54.
ورواية شعبة عن الأعمش ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3470)
- حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا شعبة، عن الأعمش قال: سمعت ذكوان يحدّث عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فلوا أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(56) - (بَابٌ مِنْ فَضَائِلِ أُوَيْسٍ الْقَرَنِيِّ رضي الله عنه
-)
هو: أويس بن عامر، وقيل: عمرو، ويقال: أويس بن عامر بن جَزْء بن مالك بن عمرو بن مَسعدة بن عمرو بن سعد بن عُصوان بن قَرَن بن رَدْمان بن ناجية بن مُراد المراديّ القَرَنيّ الزاهد المشهور، أدرك النبيّ، ورَوَى عن عمر، وعليّ، ورَوَى عنه بَشير بن عمرو، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من تابعي أهل الكوفة، وقال: كان ثقةً، وذكره البخاري، فقال: في إسناده نظر، وقال ابن عبديّ: ليس له رواية، لكن كان مالك يُنكر وجوده، إلا أن شهرته وشهرة أخباره لا تسع أحدًا أن يشك فيه.
وقال عبد الغنيّ بن سعيد: الْقَرَنيّ - بفتح القاف والراء - هو أويس أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل وجوده، وشَهِد صِفَّين مع عليّ، وكان من خيار المسلمين، وروى ضمرة، عن أصبغ بن زيد، قال: أسلم أويس على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكن منعه من القدوم بِرّه بأمه.
وفي "الدلائل" اللبيهقيّ من طريق الثقفيّ، عن خالد، عن عبد الله بن شقيق، عن عبد الله بن أبي الجدعاء، رَفَعه، قال:"يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم"، قال الثقفيّ: قال هشام بن حسان: كان الحسن يقول: هو أويس القرنيّ.
وقال أحمد في "مسنده": حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا شريك، عن يزيد بن
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1343.
أبي زياد
(1)
، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صِفِّين: أفيكم أويس القرنيّ؟ قالوا: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن من خير التابعين أويسًا القرني"، ورواه جماعة عن شريك، وقال ابن عمار الموصليّ: ذُكر عند المعافى بن عمران أن أُويسًا قُتل في الرجالة مع عليّ بصفين، فقال معافى: ما حدَّث بهذا إلا الأعرج، فقال له عبد ربه الواسطيّ: حدّثني به شريك، عن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: فسكت.
وأخرج أحمد في "الزهد" عن عبد الرحمن مهديّ، عن عبد الله بن أشعث بن سوّار، عن محارب بن دثار، يرفعه:"إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده أو مصلاه من العُرْي يحجزه إيمانه أن يسأل الناس، منهم أويس القرنيّ، وفُرات بن حَيّان".
وأخرجه أيضًا في "الزهد" عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد مرسلًا، وفي "المستدرك" من طريق يحيى بن معين، عن أبي عُبيدة الحدّاد، حدّثنا أبو مكيس، قال: رأيت امرأة في مسجد أويس القرنيّ، قالت: كان يجتمع هو وأصحاب له في مسجده هذا يصلّون، ويقرؤون، حتى غزوا، فاستشهد أويس وجماعة من أصحابه الرجّالة بين يدي عليّ.
ومن طريق الأصبغ بن نُباتة، قال: شَهِدت عليًّا يوم صفين يقول: من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلًا، فقال: أين التمام؟ فجاءه رجل عليه أطمار صوف، محلوق الرأس، فبايعه على القتل، فقيل: هذا أويس القرنيّ، فما زال يحارب حتى قُتل.
وروى عبد الله بن أحمد في "زيادات المسند" من طريق عبد الله بن سلمة، قال: غزونا أذربيجان في زمن عمر، ومعنا أويس، فلما رجعنا مَرِضَ، فمات، قال الحافظ رحمه الله: وفي الإسناد: الهيثم بن عبديّ، وهو متروك، والمعتمَد الأول.
وقد أخرج الحاكم من طريق ابن المبارك: أخبرنا جعفر بن سليمان، عن
(1)
شريك، ويزيد بن أبي زياد متكلّم فيهما.
الجريريّ، عن أبي نضرة العبديّ، عن أسير بن جابر، قال: قال صاحب لي، وأنا بالكوفة: هل لك في رجل تنظر إليه؟ فذكر قصة أويس، وفيها: فتنحى إلى سارية، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ما لكم ولي تطؤون عقبي، وأنا إنسان ضعيف، تكون لي الحاجة، فلا أقدر عليها معكم؟ لا تفعلوا رحمكم الله، من كانت له إليّ حاجة فليلقني بعشاء، ثم قال: إن هذا المجلس يغشاه ثلاثة نفر: مؤمن فقيه، ومؤمن لا يفقه، ومنافق، وذلك في الدنيا مثل الغيث يصيب الشجرة المُونِعة المثمرة، فتزداد حسنًا، وإيناعًا، وطِيبًا، ويصيب الشجرة غير المثمرة، فيزداد ورقها حسنًا، ويكون لها ثمرة، ويصيب الهشيم من الشجرة، فيحطمه، ثم قرأ:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} [الإسراء: 82]، اللَّهُمَّ ارزقني شهادة توجب لي الحياة والرزق، قال أسير: فلم يلبث إلا يسيرًا ضُرِب على الناس بعثٌ عليّ، فخرج صاحب القطيفة أويس، وخرجنا معه حتى نزلنا بحضرة العدوّ، قال ابن المبارك: فحدّثني حماد بن سلمة، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أسير، قال: فنادى منادي عليّ: يا خيل الله اركبي، وأبشري، فصفّ الناس لهم، فانتضى أويس سيفه حتى كَسَر جفنه، فألقاه ثم جعل يقول: يا أيها الناس تِمُّوا تِمُّوا لِيَتِمّنّ وجوهٌ، ثم لا تنصرفُ حتى ترى الجنة، فجعل يقول ذلك، ويمشي إذ جاءته رَمْية فأصابت فؤاده، فتردَّى مكانه، كأنما مات منذ دهر. صحيح السند. انتهى من "الإصابة" باختصار
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هوأويس بن عامر، كذا رواه مسلم هنا، وهو المشهور، قال ابن ماكولا: ويقال: أويس بن عمرو، قالوا: وكنيته أبو عمرو، قُتل بصفين، وهو القَرَنيّ من بني قَرَن - بفتح القاف والراء - وهي بطن من مُراد، وهو قرن بن رَدْمان بن ناجبة بن مراد، وقال الكلبيّ: ومراد اسمه جابر بن مالك بن أُدَد بن صحب
(2)
بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سباد، هذا الذي ذكرناه من كونه من بطنٍ من مراد، وإليه نُسب وهو الصواب، ولا خلاف
(1)
راجع: "الإصابة في تمييز الصحابة" 1/ 219 - 222.
(2)
هكذا النسخة، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
فيه، وفي "صحاح الجوهريّ": أنه منسوب إلى قَرْن المنازل: الجبل المعروف ميقات الإحرام لأهل نجد، وهذا غلط فاحش، وسبق هناك التنبيه عليه؛ لئلا يُغترّ به. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في نسبه، فقيل: أويس بن عامر بن جَزْء بن مالك، وهو الصحيح. وقيل: أويس بن أنيس، وقيل: أويس بن الخليص المرادي، ثم القَرَني -بفتح الراء- منسوب إلى قرن، قبيلة معروفة. كان رحمه الله من أولياء الله المختفين الذين لا يؤبه لهم، ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عنه، ووَصَفه بوصفه، ونَعْته، وعلامته لَمَا عرفه أحد، وكان موجودًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن به، وصدَّقه، ولم يلقه، ولا كاتَبه، فلم يُعَدّ في الصحابة. وقد أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه من التابعين، حيث قال:"إنَّه خير التابعين". وقد اختُلف في زمن موته، فرُوي عن عبد الله بن سلمة قال: غزونا أذربيجان زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مَرِض علينا، فحملناه، فلم يستمسك فمات، فنزلنا، فإذا قبر محفور، وماء مسكوب، وكفن وحنوط، فغسلناه، وكفَّناه، وصلّينا عليه، فقال بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلّمنا قبره، فإذا لا قبر ولا أثر.
وروي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ فقلنا: نعم، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أويس القرني خير التابعين بإحسان"، وعَطَف دابته، فدخل مع أصحاب علي. قال عبد الرحمن: فوُجد في قتلى أصحاب علي رضي الله عنه.
وله أخبار كثيرة، وكرامات ظاهرة، ذكرها أبو نعيم، وأبو الفرج ابن الجوزيّ في كتابيهما. وأويس تصغير أوس، وأوس: الذئب، وبه سمّي الرجل، وقيل: إنه سُمّي بأوس الذي هو مصدر أُست الرجل أوسًا: إذا أعطيته، فالأوس: العطيّة. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل ألى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6469]
(2542) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِم، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، حَدَّثَنِي سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 94.
(2)
"المفهم" 6/ 495 - 496.
جَابِرٍ، أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟، فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَن، يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَدَعَا اللهَ، فَأَذْهَبَهُ، عَنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَار، أَوِ الدَّرْهَم، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنكُمْ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ) بن مسلم الليثيّ مولاهم، أبو النضر البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ، أبو سعيد البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) - بضمّ الجيم - سعيد بن إياس الجريريّ، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5](ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
5 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
6 -
(أُسَيْرُ بْنُ جَابِرٍ) - بالتصغير - ويقال: يُسير بن عمرو، أو ابن جابر الكوفيّ، مختلف في نسبته، قيل: كِنْديّ، وقيل غير ذلك، وله رؤية، ثقةٌ [2] مات سنة خمس وثمانين (خ م قدس) تقدم في "الزكاة" 47/ 2470.
7 -
(عُمَرُ) بن الخطاب الخليفة الراشد رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه أحد الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أُسيْرِ) بضمّ الهمزة، وفتح السين المهملة، ويقال: يُسر - بضم الياء المثناة، تحتُ - (ابْنِ جَابِرٍ) الْكِنديّ الكوفيّ، ويقال: أسير بن عمرو؛ (أَنَّ أَهْلَ
الْكُوفَةِ) بالضمّ: البلدة المعروفة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الكوفة: مدينة مشهورة بالعراق، قيل: سُمّيت كوفة؛ لاستدارة بنائها؛ لأنه يقال: تكوّف القومُ: إذا اجتمعوا، واستداروا. انتهى
(1)
. (وَفَدُوا)؛ أي: قَدِموا، قال في "التاج": وَفَدَ إِليه، وعَلَيْه، يَفِدُ وَفْدًا، بفتح، فسكون، ووُفُودًا بالضَّمّ ووِفَادَة بالكسر، وإِفَادَةً على البَدَلِ: قَدِمَ فهو وافِدٌ، قال سِيبويه: وقال الأَصْمَعِيُّ: وَفَدَ فُلَانٌ يَفِدُ وِفَادَةً: إِذا خَرَج إِلى مَلِكٍ، أَو أَميرٍ، وفي "الصّحاح"، و"الأَساس": وَفَدَ فُلانٌ علَى الأَمِيرِ: أَي: وَرَدَ رَسُولًا، فهو وَافِدٌ. انتهى
(2)
. (إِلَى عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، وقوله:(وَفِيهِمْ رَجُلٌ) جملة حاليّة، ولم يُعرف اسم الرجل (مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُويسٍ)؛ أي: يحتقره، ويستهزئ، يقال: سَخِرت منه، وبه: من باب تَعِب: هَزِئْتُ، والسِّخْريّ بالكسر: اسم منه، والسُّخْريّ بالضمّ لغة
(3)
.
قال النوويّ: وهذا دليل على أنه يُخفي حاله، ويكتم السر الذي بينه وبين الله عز وجل، ولا يَظهر منه شيء يدلّ لذلك، وهذا طريق العارفين، وخواصّ الأولياء رضي الله عنهم. انتهى.
(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه (هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟)؛ أي: ممن يُنسب إليهم، (فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ) الذي كان يسخر من أويس، (فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه:(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: "إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَن، يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، لَا يَدَعُ)؛ أي: لا يترك (بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ) وفي الرواية الآتية: "هو بارّ بها"، (قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ) وفي الرواية الآتية:"كان به برص"، قال في "القاموس، و"شرحه": البَرَصُ مُحَرَّكَةً: داءٌ مَعْرُوفٌ -أَعاذَنَا اللهُ منه، ومن كُلِّ داءٍ- وهو بَيَاضٌ يَظْهَرُ في الجَسَدِ؛ لِفَسَادِ مِزَاجٍ، وقد بَرِصَ الرَّجُلُ، كفَرِحَ، فهُوَ أَبْرَصُ، وهِيَ بَرْصاءُ، وأَبْرَصَهُ اللهُ تَعَالَى. انتهى
(4)
.
(فَدَعَا اللهَ) أن يشفيه منه (فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَار، أَوِ الدَّرْهَمِ)"أو" للشكّ من الراوي، وهذا المقدار دعا الله تعالى أن يُبقيه له ليتذكّر به نعم الله عليه، (فَمَنْ لَقِيَهُ) بكسر القاف، (مِنْكُمْ)؛ أي: من الصحابة (فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ") فيه
(1)
"المصباح المنير" 2/ 544.
(2)
"تاج العروس" 1/ 2346.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 269.
(4)
"تاج العروس" 1/ 4402.
الترغيب في طلب الاستغفار من أهل الخير والصلاح، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [56/ 6469 و 6470 و 6471، (2542)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 379)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 38)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 456)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 19) و"الزهد"(1/ 60)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 479 و 480)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(6/ 164)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(5/ 320)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 80)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(9/ 416 و 417)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بصفة أويس الْقَرَنيّ رحمه الله، فوُجد طِبقًا لِمَا أَخبر به.
قال القرطبيّ رحمه الله: حديث أويس هذا دليل من أدلة صحَّة صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّه أخبر عنه باسمه، ونَسَبه، وصفته، وعلامته، وأنه يجتمع بعمر رضي الله عنه، وذلك كله من باب الإخبار بالغيب الواقع على نحو ما أخبر به من غير ريب. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان فضل هذا التابعيّ الجليل، وأنه خير التابعين بنص الحديث، قال النوويّ رحمه الله: هذا صريح في أنه خير التابعين، وقد يقال: قد قال أحمد بن حنبل وغيره: أفضل التابعين سعيد بن المسيِّب، والجواب: أن مرادهم أن سعيدًا أفضل في العلوم الشرعية، كالتفسير، والحديث، والفقه، ونحوها، لا في الخير عند الله تعالى. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): فضلُ بِرِّ الوالدين، وفضل العزلة، وإخفاء الأحوال.
(1)
"المفهم" 6/ 498.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 95.
4 -
(ومنها): استحباب طلب الاستغفار والدعاء من أهل الصلاح، وإن كان الطالب أفضل منهم.
5 -
(ومنها): بيان أحوال الصالحين المخلصين، فإنهم يحبّون الخمول وعدم الظهور؛ لأنه أعون على صلاح القلب، وعدم الغرور، والإعجاب بالنفس.
6 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن يستغفر لك فافعل": هذا لا يُفهم منه أن أويسًا أفضل من عمر رضي الله عنه، ولا أن عمر غير مغفور له؛ للإجماع على أن عمر رضي الله عنه أفضل منه؛ ولأنه تابعيّ، والصحابي أفضل من التابعيّ، على ما بيّناه غير مرَّة، إنَّما مضمون ذلك: الإخبار بأن أويسًا ممن يُستجاب دعاءه، وإرشاد عمر إلى الازدياد من الخير، واغتنام دعوة من تُرتجى إجابته، وهذا نحو مما أمَرَنا النبيّ صلى الله عليه وسلم به من الدعاء له، والصلاة عليه، وسؤال الوسيلة له، وإن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أفضل ولد آدم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر صلى الله عليه وسلم لَمّا خرج لِيَعْتمر:"يا أُخيّ أشركنا في دعائك، ولا تنسنا"، رواه أحمد، والترمذيّ
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6470]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْب، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثنَا حَمَّاد -وَهُوَ ابْنُ سَلَمَةَ- عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَاد، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسٌ، وَلَهُ وَالِدَةٌ، وَكَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَمُرُوهُ، فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكَّ في حرف من الحديث تركه، وربما وَهِم، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات بعدها بيسير، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
(1)
حديث ضعيف؛ لأن في سنده عاصم بن عبيد الله، ضعيف.
2 -
(حَمَّادُ بْن سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (وَلَهُ وَالِدَةٌ) لم يُعرف اسمها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية حماد بن سلمة عن سعيد الجريريّ هذه ساقها الحاكم رحمه الله في "المستدرك" مطوّلةً، فقال:
(5720)
- حدّثنا عليّ بن حقاد العدل، ثنا الحسين بن الفضل البجليّ، ومحمد بن غالب الضبيّ قالا: ثنا عفّان بن مسلم، ثنا حماد بن سلمة، عن سعيد الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أُسير بن جابر، قال: لَمّا أقبل أهل اليمن جعل عمر رضي الله عنه يستقري الرفاق، فيقول: هل فيكم أحد من قَرَن؟ حتى أتى عليه قَرَن، فقال: من أنتم؟ قالوا: قرن، فرفع عمر بزمام، أو زمام أويس، فناوله عمر، فعرفه بالنعت، فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: أنا أويس، قال: هل كان لك والدة؟ قال: نعم، قال: هل بك من البياض؟ قال: نعم، دعوتُ الله تعالى، فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سُرّتي لأَذكر به ربي، فقال له عمر: استغفر لي، قال: أنت أحقّ أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له: أويس القَرَنيّ، وله والدة، وكان به بياض، فدعا ربه، فأذهبه عنه، إلا موضع الدرهم في سرّته"، قال: فاستغفر له، قال: ثم دخل في أغمار الناس، فلم يُدْرَ أين وقع؟ قال: ثم قَدِم الكوفة، فكنا نجتمع في حلقة، فنذكر الله، وكان يجلس معنا، فكان إذ ذكّرهم وقع حديثه من قلوبنا موقعًا لا يقع حديث غيره، ففقدته يومًا، فقلت لجليس لنا: ما فعل الرجل الذي كان يقعد إلينا؟، لعله اشتكى، فقال رجل: من هو؟ فقلت: من هو؟
(1)
قال: ذاك أويس القرني، فدُللت على منزلة، فأتيته، فقلت: يرحمك الله أين كنت؟ ولمَ تركتنا؟ فقال: لم يكن لي رداء، فهو الذي منعني من إتيانكم، قال: فألقيت إليه ردائي، فقذفه إليّ، قال: فتخاليته ساعة، ثم قال: لو أني أخذت رداءك هذا فلبسته، فرآه عليّ قومي، قالوا: انظروا إلى هذا المرائي، لم يزل في الرجل حتى خدعه، وأخذ رداءه،
(1)
كذا نسخة "المستدرك"، والعبارة فيها ركاكة، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
فلم أزل به حتى أخذه، فقلت: انطلق حتى أسمع ما يقولون، فلبسه، فخرجنا، فمرّ بمجلس قومه، فقالوا: انظروا إلى هذا المرائي، لم يزل بالرجل حتى خدعه، وأخذ رداءه، فأقبلت عليهم، فقلت: ألا تستحيون، لِمَ تؤذونه؟ والله لقد عرضته عليه، فأبى أن يقبله، قال: فوفدت وفود من قبائل العرب إلى عمر، فوفد فيهم سيد قومه، فقال لهم عمر بن الخطاب: أفيكم أحد من قَرَن؟ فقال له سيدهم: نعم أنا، فقال له: هل تعرف رجلًا من أهل قرن، يقال له: أويس، من أمره كذا، ومن أمره كذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما تذكر من شأن ذاك، ومَن ذاك؟ فقال له عمر: ثكلتك أمك أَدْرِكه، مرتين، أو ثلاثًا، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "إن رجلًا يقال له: أويس من قَرَن، مِنْ أمره كذا، ومِن أمره كذا"، فلما قَدِم الرجل لم يبدأ بأحد قبله، فدخل عليه، فقال: استغفر لي، فقال: ما بدا لك؟، قال: إن عمر قال لي كذا وكذا، قال: ما أنا بمستغفر لك حتى تجعل لي ثلاثًا، قال: وما هنّ؟ قال: لا تؤذيني فيما بقي، ولا تخبر بما قال لك عمر أحدًا من الناس، ونسي الثالثة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6471]
(
…
) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - حَدَّثنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ؟ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ؟، فَبَرَأْتَ مِنْهُ، إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ
(2)
، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ
(1)
"المستدرك على الصحيحين" 3/ 456.
(2)
وفي نسخة: "مع أمداد من أهل اليمن".
وَالِدَةٌ، هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ، فَافْعَلْ"، فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلَا أكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِل، حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْت، قَلِيلَ الْمَتَاع، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَن، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَم، لَهُ وَالِدَةّ، هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ"، فَأَتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِه، قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟)
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
شرح الحديث:
(عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ)؛ أنه (قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ) بفتح الهمزة، جمع مَدَد بفتحتين، وهو: الجيش، وقال النوويّ: هم الجماعة الْغُزاة الذين يُمدّون جيوش الإسلام في الغزو، واحدهم مَدَدٌ. انتهى
(1)
. (سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُويْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ)؛ أي: وصل إليه، وأدركه (فَقَالَ: أَنْتَ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أأنت (أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ) أويس: (نَعَمْ) أنا هو، (قَالَ) عمر رضي الله عنه:(مِنْ مُرَادٍ؟) بضمّ الميم: القبيلة المعروفة، (ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟) هو بفتحتين: بَطْن من مراد، كما تقدّم أول الباب. (قَالَ) أويس:(نَعَمْ، قَالَ) عمر رضي الله عنه: (فَكَانَ) بتقدير الاستفهام
(1)
شرح النوويّ" 16/ 95.
أيضًا؛ أي: أفكان (بِكَ بَرَصٌ؟) بفتحتين: داء معروف، (فَبَرَأْتَ مِنْهُ) بفتح الراء، وكسرها، وتُضمّ، يقال: برأ من المرض يبرأ، من بابي نفع، وتَعِبَ، وبَرُؤ بُرْءًا، من باب قَرُب لغة؛ أي: صحّ منه، أفاده الفيّوميّ
(1)
. (إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟) تقدّم أنها في سُرّته، بقيت ليتذكّر بها نعمة الله تعالى عليه. (قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ) عمر رضي الله عنه:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ) وفي بعض النسخ: "مع أمداد من أهل اليمن"، قال القرطبيّ رحمه الله: مع جماعاتهم، جَمْع مدد، وذلك أنهم يُمَدّ بهم القوم الذين يَقْدَمون عليهم. انتهى
(2)
.
(مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ، هُوَ بِهَا بَرٌّ) بفتح الموحّدة، وتشديد الراء؛ أي: محسنٌ إليها، ومطيع لها، (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبُرَّهُ)؛ أي: لو حلف على وقوع شيء، أوقعه الله إكرامًا له بإجابة سؤاله، وصيانته من الحِنْث في يمينه، وهذا لعِظَم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القَسَم هنا: الدعاء، وإبراره إجابته، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "لو أقسم على الله لأبرّه": أي: أمضى يمينه على البرّ وصَدّقها، وقَضَى بما خرجت عليه يمينه، وقد سبق ذلك في علمه، كإجابة ما دعا به، يقال: أبررت القسم: إذا لم تخالفها، وأمضيتها على البَرّ، وقيل: معناه: لو دعا الله لأجابه، ويقال في هذا أيضًا: بررت القسم، وكذلك: أبرّ الله حجه، وبرّه، وبررت في كلامك وبررت معًا. انتهى
(4)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "لو أقسم على الله لأبره" أي: لو حلف يمينًا على أن الله يفعل كذا، أو لا يفعله، جاء الأمر فيه على ما يوافق يمينه؛ أي: صَدَق، وصَدَق يمينه، يقال: أبر الله قَسَمك إذ لم يكن حانثًا، وقيل: معنى
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 47 بزيادة يسيرة.
(2)
"المفهم" 6/ 497.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 165.
(4)
"مشارق الأنوار" 1/ 84.
أقسم على الله أن يقول: اللَّهُمَّ إني أُقسم عليك بجلالك أن تفعل كذا، وهو غير مستقيم هنا؛ لأنه قال: لأبرّه؛ أي: صدّقه، ولا دَخْل للصدق والكذب في هذا اليمين، فيدخلها الإبرار. انتهى
(1)
.
(فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ، فَافْعَلْ") قال عمر رضي الله عنه لأويس: (فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ) أويس (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ) رضي الله عنه: (أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ) أويس: (الْكُوفَةَ)؛ أي: أريد الكوفة، (قَالَ) عمر:(أَلَا كْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟)؛ أي: أميرها، (قَالَ) أويس:(أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ) - بفتح الغين المعجمة، وبإسكان الموحّدة، وبالمدّ - أي: ضعافهم، وصعاليكهم، وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم، وهذا من إيثار الخمول، وكَتْم حاله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أكون في غبراء الناس"؛ الرواية الجيدة فيه: بفتح الغين المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وهمزة ممدودة؛ ويعني به: فقراء الناس، وضعفاءهم، والغبراء: الأرض، ويقال للفقراء: بنو غبراء، كأن الفقر والحاجة ألصقتهم بها، كما قال تعالى:{أَو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 16]؛ أي: ذا حاجة ألصقته بالتراب، ومن هذا سَمَّوا الفقر: أبا متربة، وقد روي ذلك اللفظ:"في غُبَّر الناس" -بضم الغين، وتشديد الباء- جمع غابر، نحو: شاهد وشُهَّد؛ ويعني به: بقايا الناس، ومتأخريهم، وهم ضعفاء الناس؛ لأنَّ وجوه الناس، ورؤساءهم يتقدمون للأمور، وينهضون بها، وبتفاوضون فيها، ويبقى الضعفاء لا يُلتفت إليهم، ولا يؤبه بهم، فأراد أويس أن يكون خاملًا بحيث يبقى لا يُلتفت إليه، طالبًا السلامة، وظافرًا بالغنيمة. انتهى
(3)
.
(أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ) أسير بن جابر: (فَلَمَّا كَانَ)"كان" هنا تامّة، وفاعلها قوله:(مِنَ الْعَامِ)"ومن" زائدة، على قول من يرى زيادتها في الإثبات، أو هي اسم بمعنى "بعض"، وهي الفاعل؛ أي: لمّا جاء العام، أو بعض العام، وقوله:(الْمُقْبِلِ) بكسر الباء صفة لـ "العام"، وقوله:(حَجَّ رَجُلٌ) جواب "لَمّا"،
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" 3/ 100.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 95 - 96.
(3)
"المفهم" 6/ 497 - 498.
ولم يُعرف اسم الرجل. (مِنْ أَشْرَافِهِمْ)؛ أي: من أشراف قبيلة القَرَن، (فَوَافَقَ)؛ أي: صادف ذلك الرجل (عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَسَأَلهُ)؛ أي: سأل عمرُ ذلك الرجل (عَنْ أُويْسٍ)؛ أي: عن شأنه وحاله. (قَالَ) الرجل: (تَرَكْتُهُ) حال كونه (رَثَّ الْبَيْتِ) بفتح الراء، وتشديد المثلّثة: الشيء البالي، والسّقَط من متاع البيت، فيكون قوله:(قَلِيلَ الْمَتَاعِ) تفسيرًا له، وقال النوويّ رحمه الله: هو بمعنى الرواية الأخرى: "قليل المتاع"، والرَّثاثة، والْبَذَاذة: بمعنًى، وهو حَقَارة المتاع، وضيق العيش. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عمر رضي الله عنه: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ، مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَن، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بهِ بَرَصٌ، فَبَرَأَ مِنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ، هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَك فَافْعَلْ"، فَأَتَى) ذلك الرجل بعدما سمع قول عمر رضي الله عنه (أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ) أويس: (أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ) بنصب "عهدًا" على التمييز، ومعناه: الوقت، قال في "التاج": والعَهْدُ: الَزَّمَانُ، كالعِهْدَان بالكسر، وفي "الأَساس": وهذا حِينُ ذلك، وعِهْدَانُهُ؛ أي: وَقتُهُ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أحدث عهدًا"؛ أي: أقرب، وعهدًا: منصوب على التمييز، كقوله تعالى:{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)} [مريم: 74].
(فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ، فَاستَغْفِرْ لِي، قَالَ) أويس: (لَقِيتَ) بفتح التاء للخطاب، وهو بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أَلَقِيْت (عُمَرَ) بن الخطاب؟ (قَالَ) الرجل: (نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ) أويس (لَهُ)؛ أي: لهذا الرجل، (فَفَطنَ لَهُ النَّاسُ) مثلّث الطاء؛ أي: تفطّنوا له، وعرفوا منزلته عند الناس، قال في "التاج": الفطنة بالكسر: الْحِذْق، وضدّه الغَبَاوة، وقيل: الفطنة: الفهم، والذكاء، سرعته: وقيل: الفهم بطريق الفيض، وبدون اكتساب، فَطِن به، وإليه، وله، كفَرِح، ونَصَر، وكَرُم، وقد ورد أيضًا متعديًا بنفسه، قالوا: فَطِنَهُ؛ لتضمّنه معنى فَهِمَ، فَطْنًا مثلثة الفاء، وبالتحريك، وبضمتين، وفُطونةً، وفطانة، وفطانية، مفتوحتين، فهو فاطن له، وقيل: الفطانة
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 96.
(2)
"تاج العروس" 1/ 2155.
جودة استعداد الذهن لإدراك ما يَرِد عليه من الغير، ورجل فَطين، وفَطُون، وفَطِنٌ، ككَتِفٍ، وفَطُنٌ كنَدُسٍ، وفَطْنٌ، كعَدْل، والجمع: فُطْنٌ، بالضم، وبضمتين. انتهى
(1)
.
(فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ)؛ أي: ذهب حيث أراد من الأرض. (قَالَ أُسَيْرٌ) راوي القصّة عن عمر رضي الله عنه: (وَكَسَوْتُهُ)؛ أي: ألبسته (بُرْدَةً) بضمّ الموحّدة، والراء: كساءٌ يُلتَحف بها، قال المرتضى: والبُرْدُ بالضّمّ: ثَوث مُخطَّط، وخَصَّ بعضُهُم به الوَشْيَ، قا له ابن سيده، جَمْعه: أَبْرَادٌ، وأَبْرُدٌ، وبُرُودٌ، وبُرَدٌ، كصُرَد، وبِرَادٌ، كبُرْمَة وبِرَام، أَو كقُرْطٍ وقِرَاطٍ، قال: والبُرْدُ: أَكْسِيَةٌ يُلتَحَفُ بها الواحدة بِهاءٍ، وقِيل: إِذا جُعِلَ الصُّوفُ شُقَّةً، وله هُدْبٌ، فهي بُرْدَة، قال شَمِرٌ: رأَيت أَعرابِيًّا، وعليه شِبْهُ مِنديل، من صُوف، قد اتّزَرَ به، فقلْت: ما تُسمّيه؟ فقال: بُرْدَة، وقال اللَّيث: البُرْدُ معروف من بُرُودِ العَصْب، والوَشْي، قال: وأَما البُرْدَة: فكساءٌ مربَّع أَسْودُ، فيه صِغَرٌ، تَلْبَسه الأَعرابُ. انتهى
(2)
.
(فَكَانَ) أويس (كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ) ذلك الإنسان: (مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ؟)؛ أي: من أي جهة أتته، وأيّ شخص أهداها له؟ وهذا استبعاد لتفطّن الناس له؛ لأنه كان خاملًا لا يُلتفت إليه، ولكن لمّا سمع الناس حديث عمر رضي الله عنه تفطّنوا له، واحتفوا به، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث به في شرح حديث أول الباب، ولله الحمد والمنّة.
(57) - (بَابُ وَصِيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأهْلِ مِصْرَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6472]
(2543) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَرْمَلَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ
(1)
"تاج العروس" 1/ 2155.
(2)
"تاج العروس" 1/ 188 - 189.
-وَهُوَ ابْنُ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرًّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا، يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا، فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً، وَرَحِمًا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَمَرَّ بِرَبِيعَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَيْ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ يَتَنَازَعَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجَ مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن سرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) - بفتح الهمزة، وسكون التحتانية - السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله ثلاث وثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم الحافظ المصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ عِمْرَانَ التُجِيبِيُّ) هو: حرملة بن عمران بن قُرَاد التُّجِيبيّ - بضم المثناة، وكسر الجيم، بعدها ياء ساكنة، ثم موحدة - أبو حفص المصريّ، يُعرف بالحاجب، ثقةٌ [7](ت 160) وله ثمانون سنةً (بخ م د س ق) تقدم في "الإمارة" 5/ 4714.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيُّ) - بفتح الميم، وسكون الهاء - هو: عبد الرحمن بن شِماسة - بكسر الشين المعجمة، وتخفيف الميم، بعدها سين مهملة - المصريّ، ثقةٌ [3](ت 101) أو بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
6 -
(أَبُو ذَرٍّ) جندب بن جُنادة، وقيل غيره، الصحابيّ الشهير، تقدّم رضي الله عنه قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادن، فصل بينهما بالتحويل، وهو مسلسلٌ بالمصريين إلا الصحابيّ رضي الله عنه، فإنه رَبَذيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ) بكسر الشين المعجمة، كما في "التقريب"، وضَبَطه في "القاموس" كثُمامة، قال: ويُفتح
(1)
، وكذلك ضَبَطه النوويّ
(2)
. (الْمَهْرِيِّ) بفتح الميم، وسكون الهاء: نسبة إلى مَهْرة بن حَيْدان بن عمر بن إلحاف بن قُضاعة، قبيلة كبيرة، قاله في "اللباب"
(3)
. (قَالَ) عبد الرحمن: (سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ) رضي الله عنه، هذا تصريح من عبد الرحمن بن شماسة بأنه سمع من أبي ذرّ رضي الله عنه، وقد اعترض الدارقطنيّ على مسلم بأنه أخرج بعد هذا عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي بصرة، عن أبي ذرّ، فأدخل أبا بصرة بين عبد الرحمن وبين أبي ذرّ، لكنه لم يُفصح بتخطئة مسلم، والذي يظهر أن هذا لا يضرّ، وإنما غايته أن عبد الرحمن سمعه أولًا من أبي بصرة، ثم لقي أبا ذرّ رضي الله عنه، فسمعه منه، أو سمعه منه، ثم ثبّته أبو بصرة، وهذا كثير في روايات الثقات، وقد صرّح فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ أَرْضًا، يُذْكَرُ فِيهَا الْقِيرَاطُ) وفي الرواية التالية: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ"، و"القيراط" بكسر القاف، وتخفيف الراء، آخره طاء مهملة، يقال: أصله قِرَّاطٌ، لكنه أُبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف، كما في دينار ونحوه، ولهذا يُرَدّ في الجمع إلى أصله، فيقال: قَرَارِيطُ، قال بعض الحساب: القِيرَاطُ في لغة اليونان حبة خُرْنُوب، وهو نصف دانِق، والدرهم عندهم اثنتا عشرة حبة، والْحُسّاب يقسمون الأشياء أربعة وعشرين قيراطًا؛ لأنه أول عدد له ثُمن، وربع، ونصف، وثلث صحيحات، من غير كسر
(4)
، قاله الفيّومي رحمه الله انتهى
(5)
.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" ص 706.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 96.
(3)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 275.
(4)
قدّر المعاصرون القيراط بالمعايير المعاصرة فقالوا: (2041) غرامًا، راجع:"الإيضاحات العصريّة" ص 217.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 498.
وقال ابن الأثير رحمه الله: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عُشْره في أكثر البلاد، وأهل الشام يجعلونه جزءًا من أربعة وعشرين، والياء فيه بدل من الراء، فإن أصله: قِرّاط، وقد تكرر في الحديث، وأراد بالأرض المستفتحة: مصر، وخصّها بالذِّكر، وإن كان القيراط مذكورًا في غيرها؛ لأنه كان يغلب على أهلها أن يقولوا: أعطيت فلانًا قراريط، إذا أسمعه ما يكرهه، واذهب لا أعطيك قراريطك: أي: سَبَّك وإسماعك المكروه، ولا يوجد ذلك في كلام غيرهم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: القيراط جزء من أجزاء الدينار والدرهم، وغيرهما، وكان أهل مصر يُكثرون من استعماله، والتكلم به. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار بأمر غيب، وقع على نحو ما أخبر به، فكان دليلًا من أدلة نبوته صلى الله عليه وسلم، ومعنى يُسَمَّى فيها القيراط: يعني به: أنه يدور على ألسنتهم كثيرًا، وكذلك هو؛ إذ لا ينفك متعاملات من أهل مصر عن ذِكره غالبًا؛ لأنَّ أجزاء الدنيا الأربعة والعشرين يسمّونها: قراريط، وقِطَع الدراهم يسمّونها: قراريط، بخلاف غيرهم من أهل الأقاليم، فإنَّهم يسمُّون ذلك بأسماء أخر، فأهل العراق يسمُّون ذلك: طسُّوجًا ورزة، وأهل الشام: قرطيس، ونحو ذلك. انتهى
(3)
.
وقال في "المعتصر": ليس المراد قيراط الدرهم والمثقال المعروف في كلام الناس، ولا الذي ورد في الحديث في أجر المصلي على الجنازة المشيِّع لها، وفي وِزْر مقتني الكلاب، وإنما المراد به السبّ، من قولهم: أعطيت فلانًا قرار يطه؛ إذا سمع منه ما يُكره، وأجابه بما يكرهه، ويحذَّر بعضهم بعضًا، فيقول: اذهب عني لا أعطيك قرار يطك؛ يعني: سبابك، وإسماعك المكروه، ولا يَعرف هذا أهلُ مدينة سوى أهل مصر، فكان الإخبار بهذا عَلَمًا من أعلام النبوة.
والمراد بأهلها: القبط، يوضّحه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 42.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 97.
(3)
"المفهم" 6/ 499.
فتحتم مصر، فاستوصوا بالقبط خيرًا، فإن لهم ذمة، ورحمًا"
(1)
؛ لأن هاجَر أم إسماعيل كانت منهم، فهذه الرحم، وأما الذمة مع أنهم كانوا أهل حرب، وليس لهم ذمة، فإن المراد بذلك الحقّ الذي لهم برحمهم، فكان ذلك ذِمامًا لهم، يجب رعايته، كقوله تعالى:{إِلَّا وَلَا ذِمَّةً} [التوبة: 8]، فإنها هي التذمم. انتهى
(2)
.
(فَاسْتَوْصُوا بِأَهَلِهَا خَيْرًا) قال البيضاويّ: الاستئصاء: قبول الوصية، والمعنى: أوصيكم بهم خيرًا، فاقبلوا وصيتي فيهم، فإن لهم ذمّةً، وقال الطيبيّ: الأظهر أن السين: للطلب مبالغةً؛ أي: اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهم بخير، وقيل: السين للمبالغة كالسين في استعجبت، ويجوز أن يكون من الخطاب العامّ: أي: يستوصي بعضكم من بعض في حقهم، أفاده في "العمدة"
(3)
.
وقال في "المبارق": ولعل المناسبة بين تسمية القيراط وبين الوصيّة بهم أن القوم لهم دناءة وفُحش في لسانهم، فإذا استوليتم عليهم، فأحسنوا إليهم بالعفو، ولا يحملنكم سوء أقوالهم على الإساءة إليهم. انتهى
(4)
.
(فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً، وَرَحِمًا) قال النوويّ رحمه الله: الذمة هي الحرمة، والحقّ، وهي هنا بمعنى الذمام، وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم.
وقال ابن الأثير: معنى قوله: "فإن لهم ذمةً ورحِمًا": أي: أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام كانت قبطية من أهل مصر. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الذمة: الحرمة، والذمام: الاحترام، وقد يكون ذلك لعهد سابق كعهد أهل الذمَّة، وقد يكون ذلك ابتداء إكرام، وهذا هو المراد بالذمة هنا، والله تعالى أعلم؛ إذ لم يكن لأهل مصر من النبيّ صلى الله عليه وسلم عهد سابق،
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع: "الصحيحة" 3/ 362.
(2)
"معتصر المختصر" 1/ 218.
(3)
"عمدة القاري" 20/ 166.
(4)
نُقل أيضًا من هامش النسخة التركيّة لـ "صحيح مسلم" 7/ 190.
(5)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 42.
وإنما أراد: أن لهم حقًّا لِرَحمهم، أو صهرهم، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أنهم يكون لهم عهد بما ينقد لهم من ذلك حين الفتح. وهذا التأويل على بُعده يعضده ما رواه ابن هشام من حديث عمر مولى عفرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الله! الله في أهل المدرة السَّوداء السّحم، الجعاد؛ فإنَّ لهم نسبًا وصهرًا"
(1)
، قال عمر: فنَسبَهم: أن أم إسماعيل منهم، وصهرهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسرى منهم، قال ابن لهيعة: أم إسماعيل هاجر من أم العرب: قرية كانت أمام الفَرَما، وأم إبراهيم مارية سرية النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أهداها له المقوقس من حَفْن من كورة أَنْصِنا. والمدرة: واحدة المدر، والعرب تسمي القرية: المدرة، وأهل المدر: أهل القرى. والسُّحْم: السُّود، جَمْع أسحم، وهو الشديد الأدمة، وفوقه: الصُّحْمة -بالصاد-. والجعاد: المتكسرو الشعور، وهذه أوصاف أهل صعيد مصر غالبًا، وقد تقدَّم ذِكر هاجر.
والفَرَما: قرية من عمل صعيد مصر، سمّيت بِاسْم بانيها، وهو الفرما بن قليقس، ويقال: ابن قليس، ومعناه: محب الغرس، وهو أخو الإسكندر بن قليس اليوناني، ذكره الطبريّ، وذكر أن الإسكندر حين بنى الإسكندرية، قال: أبني مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس، وقال الفرما: أبني مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس، فسلَّط الله تعالى عليها الخراب سريعًا، فذهب رَسْمها، وبقيت الإسكندرية، وسمِّيت مصر بمصر بن النبيط ولد كوش بن كنعان، وقال أبو العباس: اشتقاق مصر من المصر، وهو القطع، كأنها قُطعت من الخراب، ومنه: المصر: الحاجز، ومصوّر الدار: حدودها. وحفن: قرية مارية سُرِّية النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصعيد معروفة، وهي التي كلَّم الحسن بن علي معاوية أن يضع الخراج عن أهلها لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، ففعل معاوية ذلك، ذكره أبو عبيد في "الأموال".
وأنصنا: مدينة السَّحَرة، وحَفن من عملها، والمقوقس: هو ملك مصر بعث له رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة، وجبرًا مولى أبي رُهم بكتاب، فلم يبعد عن الإسلام، وأهدى له مارية، ويقال: وأختها سيرين، وبغلة تسمَّى:
(1)
ذكره ابن هشام في "السيرة النبويّة" 1/ 6، ويحتاج إلى النظر في إسناده، فأين هو؟ والله تعالى أعلم.
الدَّلدل، والدلدل: القنفذ العظيم. والمقوقس: المطوِّل للبناء. يقال في المَثَل: أنا في القوس، وأنت بالقوقوس
(1)
فمتى نجتمع؟! انتهى
(2)
.
(فَإِذَا رَأَيْتُمْ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ)؛ أي: يختصمان، كما في الرواية التالية، (فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ)؛ أي: في شيء قليل من الأرض، يكون مساحته قَدْر لبنة، وهو الطوب، قال الفيّوميّ رحمه الله: اللَّبِنُ، بكسر الباء: ما يُعْمَل من الطين، ويبنى به، الواحدة: لَبنَةٌ، ويجوز التخفيف، فيصير مثل حِمْلٍ. انتهى
(3)
.
(فَاخْرُجْ) الخطاب لأبي ذرّ رضي الله عنه، ولكن المراد به العموم. (مِنْهَا")؛ أي: من تلك الأرض، وهي مصر. (قَالَ: فَمَرَّ) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير حرمة بن عمران، والمار هو عبد الرحمن بن شماسة، والله تعالى أعلم. (بِرَبِيعَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَي شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ) أما عبد الرحمن بن شُرَحبيل بن حسنة، فقال في "الإصابة": ذَكَره محمد بن الربيع الْجِيزيّ فيمن دخل مصر من الصحابة رضي الله عنهم، وشَهِد فتحها، وكان قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يُعرف له عنه حديث هو وأخوه ربيعة، وذَكَره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: يروي عن أبيه، وله صحبة، روى عنه أهل مصر، قال الحافظ: والضمير في قوله: "وله صحبة" لأبيه. انتهى
(4)
.
وأما أخوه ربيعة بن شُرحبيل بن حسنة، فقال في "الإصابة" أيضًا: ذَكَره محمد بن الربيع بن سليمان الْجِيزيّ فيمن دخل مصر من الصحابة رضي الله عنهم، فقال: وممن شَهِد فَتْحها، وقد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو غلام، وأخوه عبد الرحمن بن شرحبيل. انتهى
(5)
.
وقوله: (يَتَنَازَعَانِ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنهما يتخاصمان (فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجَ مِنْهَا)؛ أي: من أرض مصر؛ عملًا بوصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا النسخة، ولعله بالمقوقس، فليُحرّر.
(2)
"المفهم" 6/ 499 - 500.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 548.
(4)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 38.
(5)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 2/ 504.
مسائل تتعلّق بهذأ الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [57/ 6472 و 6473](2543)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 173 - 174)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(3/ 123 - 124)، و (ابن عبد الحكم) في "فتوح مصر"(ص 2 - 3)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(667)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 303)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 206) و"دلائل النبوّة"(6/ 321)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل أهل مصر؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى بهم، فقال:"استوصوا بأهلها خيرًا"، وقال أيضًا:"فأحسنوا إلى أهلها".
2 -
(ومنها): أن فيه معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها: إخباره بأن الأمة تكون لهم قوّة وشوكة بعده صلى الله عليه وسلم، بحيث يقهرون العجم، والجبابرة، ومنها: أنهم يفتحون مصر، ومنها: تنازُع الرجلين في موضع اللَّبِنة، ووقع كل ذلك، ولله الحمد
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يختصمان فيها في موضع لبنة"؛ يعني بذلك: كثرة أهلها، ومشاحنتهم في أرضها، واشتغالهم بالزراعة والغرس عن الجهاد، وإظهار الدّين، ولذلك أمَره بالخروج منها إلى مواضع الجهاد، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك؛ لأنَّ الناس إذا ازدحموا على الأرض، وتنافسوا في ذلك كَثُرَت خصومتهم، وشرورهم، وفشا فيهم البخل، والشر، فيتعيّن الفرار من محلٍّ يكون كذلك، إن وجد محلًّا آخر خليًّا عن ذلك، وهيهات كان هذا في الصدر الأول، وأما اليوم، فوجود ذلك في غاية البُعد؛ إذ في كل واد بنو سعد.
واللبنة: الطوبة، وتُجْمَع على لَبِن، وفيه من الفقه: الأمر بالرفق بأهل أرياف مصر، وصعيدها، والإحسان إليهم، وخصوصًا أهل تينك القريتين، لِمَا
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 97.
ذُكر من تينك الخصوصيتين. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6473]
(
…
) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، سَمِعْتُ حَرْمَلَةَ الْمِصْرِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُمَاسَةَ، عَنْ أَبِي بَصْرَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا الْقِيرَاطُ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا، فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا، فَإنَّ لَهُمْ ذِمَّة، وَرَحِمًا"، أَو قَالَ: "ذِمَّةً وَصِهْرًا، فَإِذَا رَأَيْتَ رَجُلَيْنِ يَخْتَصِمَانِ فِيهَا فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَأَخَاهُ رَبِيعَةَ يَخْتَصِمَانِ فِي مَوْضِعِ لَبِنَةٍ، فَخَرَجْتُ مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيىى اليشكريّ، أبو قُدامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمون سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
3 -
(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد بن عبد الله الأزديّ، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ، لكن في حديثه عن قتادة ضَعْف، وله أوهام إذا حذث من حفظه
(2)
[6](170) بعدما اختَلَط، لكن لم يحدِّث في حال اختلاطه (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.
4 -
(أَبُو بَصْرَةَ) - بفتح الباء الموحّدة، وسكون الصاد المهملة - حُمَيل، مثل حُميد، لكن آخره لام، وقيل: بفتح أوله، وقيل: بالجيم - ابن بَصْرَة بن وَقّاص الغفاريّ صحابيّ، سكن مصر، ومات بها (بخ م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 52/ 1927.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (أَو قَالَ: "ذِمَّةً وَصِهْرًا)"أو" للشكّ من الراوي، وتقدّم معنى
(1)
"المفهم" 6/ 501.
(2)
لكن قال الذهبيّ: اغتُفرت أوهامه في سعة ما روى. انتهى.
الذمة، وأما الصهر، فهو بكسر الصاد المهملة، وسكون الهاء، آخره راء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الصِّهْرُ: جَمْعه أَصْهَارٌ، قال الخليل: الصِّهْرُ: أهل بيت المرأة، قال: ومن العرب من يجعل الأَحْمَاءَ، والأَخْتَانَ جميعًا أَصْهَارًا، وقال الأزهريّ: الصِّهْرُ يشتمل على قرابات النساء، ذوي المحارم، وذواتِ المحارم، كالأبوين، والإخوة، وأولادهم، والأعمام، والأخوال، والخالات، فهؤلاء أَصْهَارُ زوج المرأة، ومن كان من قِبَل الزوج من ذوي قرابته المحارم فهم أَصْهَارُ المرأة أيضًا، وقال ابن السِّكِّيت: كل من كان من قِبَل الزوج، من أبيه، أو أخيه، أو عمة، فَهُم الأَحْمَاءُ، ومن كان من قِبَل المرأة فهم الأَخْتَانُ، وَيجمع الصنفين الأَصْهَارُ، وصَاهَرْتُ إليهم: إذا تزوجت منهم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ: فَرَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شُرَحْبِيلَ
…
إلخ) الظاهر أن فاعل "قال" ضمير عبد الرحمن بن شماسة، كما تقدّم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(58) - (بَابُ فَضْلِ أَهْلِ عُمَانَ)
بضم العين المهملة، وتخفيف الميم، قال القاضي عياض: هي فُرْضة بلاد اليمن، وقال الرشاطيّ: عمان في اليمن، سُمّيت بعمان بن سبأ، يُنسب إليها الْجُلَندى
(2)
رئيس أهل عُمان، ذَكَر وثيمة أن عمرو بن العاص قَدِم عليه من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فصَدّقه، وذكر غيره أن الذي آمن على يد عمرو بن العاص ولدا الْجُلندى: عياذ وجيفر، وكان ذلك بعد خيبر، ذكره أبو عُمَر. انتهى.
وروى الطبرانيّ من حديث المسور بن مخرمة قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك
…
"، فذكر الحديث، وفيه: "وبعث عمرو بن العاص إلى
(1)
"المصباح المنير" 1/ 349.
(2)
قال في "تاج العروس" 1/ 1934: وجُلَنْدَاءُ بضمّ أَوّله، وفتح ثانية، ممدودَةً، وبضمِّ ثانِيه مقصورَةً: اسمُ مَلِكِ عُمَانَ. انتهى.
جيفر وعياذ ابني الْجُلُندى ملك عمان"، وفيه: "فرجعوا جميعًا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عمرًا، فإنه توفي، وعمرو بالبحرين".
قال الحافظ: وفي هذا إشعار بقرب عُمان من البحرين، وبقرب البعث إلى الملوك من وفاته صلى الله عليه وسلم، فلعلها كانت بعد حُنين، فتصحفت.
[تنبيه]: "جَيْفَر" مثل جعفر، إلا أن بدل العين تحتانية، و"عَيَّاذ" - بفتح العين المهملة، وتشديد التحتانية، وآخره معجمة - و"الْجُلَندى" - بضم الجيم، وفتح اللام، وسكون النون والقصر -، و"بَيْرَح" - بموحدة، ثم تحتانية، ثم مهملة - بوزن دَيْلَم، أفاده في "الفتح". انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: عُمَانُ وِزانُ غُراب: موضع باليمن، وعَمَن بالمكان: أقام به، وعَمَّانُ: فَعّال بالفتح، والتشديد: بلدة بطرف الشام، من بلاد البلقاء. انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": عَمّانُ بفتح العين، وتشديد الميم هي التي أرادها الشاعر بقوله:
فِي وَجْهِهِ خَالَانِ لَوْلَاهُمَا
…
مَا بِتُّ مَفْتُونًا بِعَمَّانِ
وقال المرتضى في "شرحه": وعُمان - كغُراب - رَجُل، اشتُقّ من عَمَن بالمكان، وعُمان: بلد باليمن، سُمّي بعُمان بن نفثان بن سبأ أخي عَدَن، وقال ابن الأثير: عُمان على البحر تحت البصرة، وقال غيره: عند البحرين، وقال الأزهريّ: يُصْرف، ولا يُصرَف، فمن جعله بلدًا صَرَفه في حالة المعرفة والنكرة، ومن جعله بلدة ألحقه بطلحة، وعَمّان كشَدّاد: بلد بالشام بالبلقاء، سُمّي بعَمّان بن لوط، قال الأزهريّ: يجوز أن يكون فعلان، من عَمّ يَعُمّ، فلا ينصرف معرفة، وينصرف نكرة، ويجوز أن يكون فَعالًا، من عَمِنَ، فينصرف في الحالتين؛ إذا عُنِي به البلد، وقال سيبويه: لم يقع في كلامهم اسمًا إلا لمؤنث، وبه فُسِّر حديث الحوض:"عَرْضه من مقامي إلى عَمَّان". انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 9/ 531 - 532، كتاب "المغازي"رقم (4383).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 431.
(3)
"تاج العروس" 1/ 8112.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6474]
(2544) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِي الْوَارعِ جَابِرِ بْنِ عَمْرٍ والرَّاسِبِيّ، سَمِعْتُ أَبَا بَرْزةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَب، فَسَبُّوهُ، وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أتيْتَ، مَا سَبُّوكَ، وَلَا ضَرَبُوكَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، مُصنِّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزدي الْمِعْوَليّ -بكسر الميم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو- أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
3 -
(أَبُو الْوَازعِ جَابِرِ بْنِ عَمْرٍ والرَّاسِبِيُّ) البصريّ، ويقال: الكوفيّ، صدوقٌ يَهِمُ [3].
روى عن أبي برزة الأسلميّ وعبد الله بن مُغَفّل، وأبي بردة بن أبي موسى، وغيرهم.
وروى عنه أبان بن صمعة، وشداد بن سعيد أبو طلحة الراسبيّ، وأبو هلال، وأبو بكر بن شعيب بن الحبحاب، ومهديّ بن ميمون.
قال أبو طالب عن أحمد، وإسحاق بن منصور عن يحيى: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: لا أعرف له كثير رواية، وإنما يروي عنه قوم معدودون، وأرجو أنه لا بأس به، وقال النسائيّ: منكر الحديث، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان، حديث الباب برقم (2544)، وحديث (2618):"اعزل الأذى عن طريق المسلمين"، وأعاده بعده.
4 -
(أَبُو بَرْزَةَ) نَضْلة بن عُبيد الصحابيّ المشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خُرَاسان، ومات بها بعد سنة خمس وستين على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1036.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف: رحمه الله، وهو (497) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه ممن اشتهر بكنيته.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْوَازعِ) بالزاي، والعين المهملة، وقوله:(جَابِرِ بْنِ عَمْرٍو) بالجرّ بدل من "أبي الوازع"، أو عطف بيان، وقوله:(الرَّاسِبِيِّ) نسبة إلى بني راسب، وهي قبيلة نزلت البصرة، قاله في "اللباب"
(1)
. (سَمِعْتُ أَبَا بَرْزَةَ) - بفتح الموحّدة، وسكون الراء، بعدها زاي - نضلة بن عُبيد رضي الله عنه (يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) هو أبو برزة الأسلميّ الراوي للحديث، كما بيَّنه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" برقم (2293)، ولفظه: عن أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى حيّ من أحياء العرب في شيء، قال: فسبُّوه، وضربوه، فقال:"أما إنك لو أهل عمان أتيت ما سبُّوك، ولا ضربوك"
(2)
. (اِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ) لم يُسَمّوا، زاد أبو يعلى:"في شيء، لا أدري ما هو؟ "
(3)
، وفي رواية أحمد في "فضائل الصحابة": عن أبي برزة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولًا له إلى حيّ من أحياء العرب، في شيء لا يَدري مهديّ ما هو؟
(4)
. (فَسَبُّوهُ، وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ اِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ) بما فعل به الحيّ، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ أن أَهْلَ عُمَانَ أتيْتَ) كذا بحذف العائد؛ أي: أتيتهم، وقوله: (مَا سَبُّوكَ، وَلَا ضَرَبُوكَ") جواب "لو"، قال
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 6.
(2)
"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم 4/ 272.
(3)
"مسند أبي يعلى" 13/ 427.
(4)
"فضائل الصحابة لابن حنبل" 2/ 831.
القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن أهل عمان قوم فيهم عِلم، وعفاف، وتثبُّت، والأشبه: أنهم أهل عمان التي قِبل اليمن؛ لأنَّهم ألين قلوبًا، وأرق أفئدة، وأما أهل عَمّان الشام، فسلامةٌ لك منهم، وسلام، وأهل هذين الاسمين من عَمَن بالمكان: أقام به، ويقال: أعمن الرجل: إذا صار إلى عُمَان. انتهى
(1)
.
وروى أحمد من طريق أبي لبيد قال: "خرج رجل منا، يقال له: بيرح بن أسد، فرآه عمر، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل عُمان، فأدخله على أبي بكر، فقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني لأعلم أرضًا، يقال لها: عُمان ينضح بناحيتها البحر، لو أتاهم رسولي ما رَمَوْه بسهم، ولا حجر". انتهى
(2)
.
وفيه الثناء على أهل عُمان، وبيان فضلهم، وأنهم أهلٌ يَحترمون من جاءهم، ولا يُرى منهم إلا كل خير، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [58/ 6474](2544)، و (أحمد) في "فضائل الصحابة"(2/ 831)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 427)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(4/ 272)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 342)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 501 - 502.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 44، وقال الحافظ أبو بكر الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 10/ 52: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير لِمَازة بن زَيّار وهو ثقة، ورواه أبو يعلى كذلك. انتهى.
(59) - (بَابُ ذِكْرِ كَذَّابِ ثَقِيفٍ، وَمُبِيرِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6475]
(2545) - (حَدَّثنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثنَا يَعْقُوبُ - يَعْني: ابْنَ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيَّ - أَخْبَرَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَة، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَمُرُّ عَلَيْه، وَالنَّاسُ، حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَوَقَفَ عَلَيْه، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أبا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أنهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أنهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا، قوَّامًا، وَصُولًا لِلرَّحِم، أَمَا وَاللهِ لأمَّةٌ أَنْتَ أَشرُّهَا لأمَّةٌ خَيْرٌ. ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ الله، وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْه، فَأُنْزِلَ عَنْ جذْعِه، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُود، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَأَبَتْ أَنْ تَأْتَيَهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ: لَتَأْتِيَنِّي، أَو لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مِنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِك، قَالَ: فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِليَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ: فَقَالَ: أَرُوني سِبْتَيَّ، فَأَخَذَ نَعْلَيْه، ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أفسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْن، أنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْن، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأمَّا الآخَرُ، فَنِطَاقُ الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ، أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حدَّثَنَا: "أَنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا، وَمُبِيرًا"، فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ إِلا إِيَّاهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهَا، وَلَمْ يُرَاجِعْهَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيّ) هو: عقبة بن مُكْرَم - بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء - الْعَمِّيّ - بفتح العين المهملة، وتشديد الميم - أبو
عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود الخمسين ومائتين (م دت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ) هو: يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرميّ مولاهم، أبو محمد المقرئ النحويّ البصريّ، صدوقٌ، من صغار [9](ت 205)(م د تم س ق) تقدم في "البيوع" 24/ 4097.
3 -
(الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ) السَّدُوسيّ، أبو شيبان البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [6].
روي عن أبي نوفل بن أبي عَقْرب، وخالد بن سُمير، والحسن البصريّ، وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن مضارب، وجماعة.
وروى عنه ابن مهديّ، ووكيع، وأبو الوليد، وأبو داود الطيالسيان، وعفان، وابن المبارك، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الرابعة، وقال الأثرم عن أحمد: ثقةٌ، وكذا قال النسائيّ في "التمييز"، وقال محمد بن عوف: كان من عباد الله الصالحين، كان يحج على ناقة له، ولا يتزود شيئًا، يشرب من لبنها، حتى يرجع، ويرسلها ترعى، وقال ابن ماجه في "الجنائز" عقب حديث بَشير بن الخصاصية: حدّثنا محمد بن بشار، ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، عن عبد الله بن عثمان قال: حديث جيّد، ورجل ثقة؛ يعني: الأسود بن شيبان.
وقال ابن أبي خيثمة، عن ابن معين: مات سنة (165).
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(أَبُو نَوْفَلٍ) ابن أبي عَقْرب الكِنانيّ الْعَرِبجيّ - بفتح العين المهملة، وكسر الراء
(1)
، وبالجيم - اسمه مسلم بن أبي عَقْرب، وقيل: عمرو بن مسلم بن أبي عَقْرب، وقيل: معاوية بن مسلم بن أبي عقرب، ثقةٌ [3].
(1)
هكذا ضَبَطه في "التقريب"، وهو مخالف لِضَبْط ابن الأثير، فإنه قال: الْعُرَيجي بضمّ العين، وفتح الراء: نسبة إلى عُريج بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، منهم أبو نوفل بن أبي عَقرَب. انتهى. "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 336 - 337.
رَوَى عن أبيه، أو جدّه أبي عقرب، وعائشة، وأسماء بنتي أبي بكر الصديق، وعمرو بن العاص، والعبادلة الأربعة.
ورَوى عنه عبد الملك بن عمير، وعليّ بن زيد بن جُدعان، والأسود بن شيبان، وابن جريج، وشعبة.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وسمّاه شعبة: معاوية بن عمرو، وقال: كنت آتيه أنا وأبو عمرو بن العلاء، فاسأله عن الفقه، ويسأله أبو عمرو عن العربية.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْر) الصديق زوج الزبير بن العوام، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، عاشت مائة سنة، وماتت سنة ثلاث، أو أربع وسبعين (ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالبصريين.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي نَوْفَل) بفتح النون، وسكون الواو، تقدّم الخلاف في اسمه آنفًا، أنه قال:(رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ) الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما المقتول في ذي الحجة سنة (73 هـ)، (عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ) متعلّق بـ "رأيت"، والمراد بالمدينة هنا مدينة مكة، لا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ابن الزبير رضي الله عنهما إنما قُتل في مكة.
قال القرطبيّ رحمه الله: قول أبي نوفل: "رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة"؛ يعني: أنه رآه مصلوبًا على خشبة على عقبة المدينة، صلبه الحجاج بعد أن قُتل في المعركة منكسًا، وكان من حديثه ما قد تقدَّم بعضه، وذلك أنه لمّا مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ولم يولِّ أحدًا، بقي الناس لا خليفة لهم، ولا إمام مدّة قد تقدَّم ذِكرها، فعند ذلك بايع الناس لعبد الله بن الزبير بمكة، واجتمع على طاعته أهل الحجاز، وأهل اليمن، والعراق وخراسان، وحجّ بالناس ثماني حجج، ثم بايع أهل الشام لمروان بن الحكم،
واجتمع عليه أهل الشام، ومصر، والمغرب، وكان ابن الزبير أَولى بالأمر من مروان وابنه على ما قاله مالك - وهو الحقّ - لِعِلم ابن الزبير، وفضله، وبيته، فجرت بينهم حروب وخطوب عظيمة، إلى أن تُوُفّي مروان، ووَلي عبد الملك، واستفحل أمره بالحجاج، فوجّه الحجاج إلى مكة في جيش عظيم، فحاصر فيها عبد الله بن الزبير مدة ستة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم دخل عليه، فقُتل يوم الثلاثاء لسبع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، وقيل: جمادى الآخرة، سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، قال المدائني: بويع له بالخلافة سنة خمس وستين، وكان قبل ذلك لا يُدْعَى باسم الخلافة، وقال غيره: بويع له بالخلافة سنة أربع وستين، ثم بقي مصلوبًا على خشبة إلى أن رحل عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، فرغب إليه أن ينزل الخشبة فأشفعه، فأُنزل، قال ابن أبي مليكة: كنت أوّل من بشّر أسماء بنزول ابنها عبد الله بن الزبير من الخشبة، فدعت بِمِركَن وشَبَّ يمان، وأمرتني بغسله، فكنَّا لا نتناول عضوًا إلا جاء معنا، وكنا نغسل العضو، ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه، وكانت أمه أسماء تقول قبل ذلك: اللَّهُمَّ لا تُمِتني حتى تقرّ عيني بجُثّته، فما أتت عليها جمعة حتى ماتت، وفي مدة صَلبه مرَّ به ابن عمر فقال: السلام عليك أبا خبيب، كناه بابن له يسمَّى خبيبًا، وكنيته الشهيرة أبو بكر. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أبو نوفل: (فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ)؛ أي: قبائل قريش؛ أي: نَفَر منهم، (تَمُرُّ عَلَيْهِ)؛ أي: على جنازته، وهو مصلوب، وقوله:(وَالنَّاسُ) من عَطْف العام على الخاصّ، (حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (فَوَقَفَ عَلَيْه، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ أبَا خُبيْبٍ) بحذف حرف النداء، وهو كنية عبد الله بن الزبير.
قال النوويّ رحمه الله: قوله: "أبو خبيب" بضم الخاء المعجمة، كنية ابن الزبير، كُني بابنه خبيب، وكان أكبر أولاده، وله ثلاث كُنى، ذكرها البخاريّ في "التاريخ"، وآخرون: أبو خُبيب، وأبو بكر، وأبو بكير. انتهى
(2)
.
(السَّلَامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أبَا خُبَيْبٍ) كرّره لتأكيد التأسّف
(1)
"المفهم" 6/ 502 - 503.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 98.
والحزن عليه، (أَمَا) بالتخفيف أداة استفتاح وتنبيه مثلُ "ألا"، (وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ) بضمّ التاء للمتكلّم، (أنهَاكَ عَنْ هَذَا)؛ أي: عن سبب هذا، وهو تولّي الخلافة مع منازعة الناس له، وقال النوويّ: أي: عن المنازعة الطويلة، (أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا) كرّره أيضًا للتأكيد.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول ابن عمر: "أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا"؛ أي: عن التعرض لهذا، وكأنه كان أشار عليه بالصلح، ونهاه عن قتالهم لِمَا رأى من كثرة أعدائه، وشدَّة شوكتهم، ثم إنه شَهِد بما عَلِم من حاله، فقال: أما والله إن كنتَ ما علمتُ صوَّامًا، وَصُولًا للرحم، وكان يصوم الدهر، ويواصل الأيام، ويحيي الليل، وربما قرأ القران كله في ركعة الوتر.
و"إن" التي مع "كنت" مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، تقديره: إنك كنت، و"ما" مع الفعل بتأويل المصدر.
(أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ)"إن" مخفّفة من الثقيلة، كما قال في "الخلاصة":
وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ
…
وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ
وَرُبَّما اسْتُغْنِيَ عَنْهَا
(1)
إِنْ بَدَا
…
مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا
وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا
…
تُلْفِهِ غَالِبًا بِـ"إِنْ" ذِي مُوصَلَا
واسم "إن" محذوف؛ أي: إنك كنت.
وقوله: (مَا عَلِمْتُ)"ما" مصدريّة، والمصدر المؤوّل مجرور بحرف مقدّمٍ؛ أي: في علمي، والمعنى: أن الذي أعمله منك أنك كنت (صَوَّامًا، قَوَّامًا) بفتح أولهما، وتشديد الواو فيهما؛ أي: كثير الصيام والقيام، (وَصُولًا لِلرَّحِمِ) بفتح الواو، مبالغة واصل، قال القاضي عياض: هو أصحّ من قول من بَخّله، ونسبه لذلك من أصحاب الأخبار؛ لإمساكه مال الله عمن لا يستحقّ، وقد عدّه صاحب "كتاب الأجواد" فيهم، وهو الذي يُشبه أفعاله، وشيمته. انتهى
(2)
.
(أَمَا وَاللهِ لأُمَّةٌ أنتَ أَشَرُّهَا لأمَّةٌ خَيْرٌ) ويروى "خيار"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من نسخنا: "لأمة خير"، وكذا نقله القاضي عن جمهور رواة
(1)
أي: كهذا الحديث.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 588.
"صحيح مسلم"، وفي أكثر نُسخ بلادنا:"لأمة سوء"، ونقله القاضي عن رواية السمرقنديّ، قال: وهو خطأ، وتصحيف. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أما والله لأمةٌ أنت شرها لأمة خير"؛ يعني بذلك: أنهم إنما قتلوه، وصلبوه؛ لأنَّه شر الأمة في زعمهم، مع ما كان عليه من الفضل، والدِّين، والخير، فإذا لم يكن في تلك الأمة شرّ منه، فالأمة كلها أمةُ خير، وهذا الكلام يتضمَّن الإنكار عليهم فيما فعلوه به. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ نَفَدَ)؛ أي: مضى، وذهب إلى حاجته، (عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ) بن يوسف بن أبي عَقيل الثقفيّ الأمير المشهور الظالم المبير، وقع ذِكره في "الصحيحين" وغيرهما، وليس بأهل أن يُروَى عنه، وَليَ إمرة العراق عشرين سنةً، ومات سنة خمس وتسعين
(3)
. (مَوْقِفُ عَبْدِ اللهِ)؛ أي: وقوفه على ابن الزبير، فالموقف مصدر ميميّ. (وَقَوْلُهُ)؛ أي: كلامه الذي سبق، ومخاطبته لابن الزبير، وهو مصلوب، (فَأُرْسَلَ) الحجاج (اِلَيْهِ)؛ أي: إلى ابن الزبير من يُنزله، ولم يُعرَف المرسل، (فَأُنْزِلَ) بالبناء للمفعول، (عَنْ جِذْعِهِ) بكسر الجيم، وإسكان الذال المعجمة: أي: عن الخشب الذي صُلب فيه، وقال الفيّوميّ رحمه الله:"الجِذْع" بالكسر: ساق النخلة، ويُسمّى سهم السقف جِذْعًا، والجمع جُذُوعٌ، وأجذاعٌ
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فبلغ الحجاج موقف عبد الله
…
إلخ"، ظاهر هذا أنه إنما أنزله عن الخشبة لقول عبد الله وموقفه، وقد نقلنا: أن إنزاله كان عن سؤال عروة لعبد الملك في ذلك، فيجوز أن يكون اجتمع إذن عبد الملك، وموقف عبد الله، فكان إنزاله عنهما. انتهى
(5)
.
(فَاُلْقِيَ) بالبناء للمفعول أيضًا، (فِي قُبُورِ الْيَهُودِ)؛ أي: في المكان الذي يُدفن فيه اليهود، وهو الحَجون، (ثُمَّ أَرْسَلَ) الحجاج (إِلَى أمِّهِ)؛ أي: أم عبد الله بن الزبير (أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما بما، (فَأَتتْ) أسماء رضي الله عنهما (أَنْ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 99.
(2)
"المفهم" 6/ 503 - 504.
(3)
"التقريب" ص 65.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 94.
(5)
"المفهم" 6/ 504.
تَأتِيَهُ)؛ أي: الحجّاج، (فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ) لم يُعرف اسمه، (لَتَأتِيَنِّي) جواب قَسَم مقدّر؛ أي: والله لتأتينيّ (أَو لأَبْعَثَنَّ إلَيْكِ مِنْ يَسْحَبُكِ) من باب نفع؛ أي: يجرّك (بِقُرُونِكِ)؛ أي: بضفائر شعرك. (قَالَ) أبو نوفل (فَأَبَتْ)؛ أي: امتنعت أسماء من المجيء إليه، (وَقَالَتْ: وَاللهِ لَا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ اِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُوني، قَالَ) أبو نوفل:(فَقَالَ) الحجّاج: (أَرُونِي سِبْتَيَّ) تثنية سِبْتٍ، بكسر السين المهملة، وسكون الموحّدة، آخره مثنّاة فوقيّة، وهي النعل التي لا شَعْر عليها. (فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ)؛ أي: وهما السبتيّتان، (ثُمَّ انْطَلَقَ)؛ أي: ذهب الحجّاج (يَتَوَذَّفُ) بالواو، والذال المعجمة، والفاء، قال أبو عبيد: معناه: يُسرع، وقال أبو عمر: معناه: يتبختر (حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ؟) هذا من جرأة الحجّاج على الصحابيّ الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، ومن افترائه عليه، والحقّ ما سبق عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان صوّامًا قوّامًا، وَصولًا للرحم. (قَالَتْ) أسماء رضي الله عنهما:(رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ) حيث قتلته، (وَأفسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ) حيث ارتكبت إثمًا بقتل بريء مما اتّهمته به، فإنه هو الأحقّ بالخلافة؛ لِسَبْقه بالمبايعة، وإنما خرج عليه بنو أميّة، فغلبوه، وقتلوه، قالت أسماء رضي الله عنهما:(بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ) بكسر النون، قال العلماء: النطاق أن تلبس المرأة ثوبها، ثم تَشُدّ وسطها بشيء، وترفع وسط ثوبها، وترسله على الأسفل، تفعل ذلك عند معاناة الأشغال؛ لئلا تَعْثُر في ذيلها، قيل: سُمّيت أسماء ذات النطاقين؛ لأنها كانت تطارق نطاقًا فوق نطاق، وهذا غير صحيح، والأصح أنها سُمّيت بذلك؛ لأنها شَقّت نطاقها الواحد نصفين، فجعلت أحدهما نطاقًا صغيرًا، واكتفت به، والآخر لسفرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر رضي الله عنه، كما صرّحت به في هذا الحديث هنا، وفي البخاريّ، ولفظ البخاريّ أوضح من لفظ مسلم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أخرج البخاريّ: رحمه الله عن فاطمة، عن أسماء رضي الله عنهما قالت: صنعت سُفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر، حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، قالت: فلم نجد لسفرته، ولا لسقائه ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 99 - 100.
والله ما أجد شيئًا أربط به إلا نطاقي، قال: فشقِّيه باثنين، فاربطيه بواحد السقاء، وبالآخر السُّفْرة، ففعلتُ، فلذلك سميت ذات النطاقين. انتهى
(1)
.
وأخرج البخاريّ أيضًا عن وهب بن كيسان، قال: كان أهل الشام يُعّيِّرون ابن الزبير يقولون: يا ابن ذات النطاقين، فقالت له أسماء: يا بُنَيّ إنهم يعيّرونك بالنطاقين، هل تدري ما كان النطاقان؟ إنما كان نطاقي، شققته نصفين، فأوكيت قربة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحدهما، وجعلت في سُفرته آخر، قال: فكان أهل الشام إذا عيّروه بالنطاقين يقول:
إيهًا، والإله، تِلْكَ شَكَاةٌ
(2)
…
ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
(3)
وقال في "الفتح": قوله: "ذات النطاق" بكسر النون، وللكشميهنيّ:"النطاقين" بالتثنية، والنطاق ما يُشَدّ به الوسط، وقيل: هو إزار فيه تِكّة، وقيل: هو ثوب تلبسه المرأة، ثم تشدّ وسطها بحبل، ثم ترسل الأعلى على الأسفل، قاله أبو عبيد الهرويّ، قال: وسُمّيت ذات النطاقين؛ لأنها كانت تجعل نطاقًا على نطاق، وقيل: كان لها نطاقان، تلبس أحدهما، وتجعل في الآخر الزاد. انتهى، والمحفوظ أنها شقّت نطاقها نصفين، فشدّت بأحدهما الزاد، واقتصرت على الآخر، فمن ثَمَّ قيل لها: ذات النطاق، وذات النطاقين، فالتثنية والإفراد بهذين الاعتبارين، وعند ابن سعد من حديث الباب:"شقّت نطاقها، فأوكأت بقطعة منه الجراب، وشدّت فم القربة بالباقي، فسُمّيت ذات النطاقين". انتهى
(4)
.
(أَنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْن، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1087.
(2)
قوله: "شكاة "بفتح الشين المعجمة، ومعناها: رفع الصوت بالقول القبيح. وقوله: "ظاهر" معناه أنه أرتفع عنك، ولم يعلق بك، من الظهور، والصمود على أعلى الشيء. انتهى:"عمدة القاري" 21/ 37.
(3)
هذا عجز بيت من الطويل لأبي ذؤيب الهُذليّ، وصدره:
وَعَيَّرَهَا الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا
(4)
"الفتح" 7/ 236.
وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِّ) الظاهر أن معناه أنها كانت تربط طعامهما ببعض نطاقها؛ لتمنعه من الدوابّ، لئلا تأكله لو وجدته غير مربوط.
وشرحه بعض الشارحين
(1)
بغير هذا، فقال:"من الدوابّ"؛ أي: على جنس الدوابّ؛ أي: على راحلتهما، فـ "من" بمعنى "على"، والمراد بالدوابّ: الجنس الصادق بدابتين. انتهى، ولا يخفى ما فيه من التكلّف، فتأمل، والله تعالى أعلم.
وقال الأبيّ رحمه الله: لَمّا عرّض الحجّاج بمهانتها؛ لأن التي تنتطق؛ أي: تتحزّم إنما هي الخادم؛ لتقوى على الخدمة أجابته بأن أحدهما الذي لا بدّ للمرأة منه، والآخر الذي يحزم به على السفرة التي فيها طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتُخفيه عن الباحث عنه، كالذي يتحزّم به على شيء ليخفيه، وفي خدمتها من الشرف ما فيها. انتهى
(2)
.
(وَأَمَّا) النطاق (الآخَرُ، فَنِطَاقُ الْمَرْأةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ)؛ أي: إن عادة المرأة أن تتنطّق به، فلا عار عليّ فيهما.
(أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر همزة "إن"؛ لوقوعها في ابتداء الكلام، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
(حَدَّثَنَا: أَنَّ فِي ثَقِيفٍ) بفتح الثاء المثلّثة، وكسر القاف: أبو قبيلة معروفة، وهو ثقيف بن منبّه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان، وقيل: إن اسم ثقيف قسي، نزلوا الطائف، وانتشروا في البلاد في الإسلام، قاله في "اللباب"
(3)
. (كَذَّابًا)؛ أي: مبالغًا في الكذب، حيث ادّعى النبوّة، (وَمُبِيرًا) بضمّ أوله، وكسر ثانية، من الإبارة، وهو الإهلاك؛ أي: مهلكًا للناس، (فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ) تعني به المختار بن أبي عُبيد الثقفيّ، كان شديد الكذب، ومن أقبحه: أنه ادَّعَى أن جبريل عليه السلام
(1)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 24/ 251.
(2)
"شر" الأبيّ" 5/ 368.
(3)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 240.
يأتيه، قال النوويّ: واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا: المختار بن أبي عبيد، وبالمبير: الحجاج بن يوسف، والله أعلم
(1)
.
(وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إِخَالُكَ) بفتح الهمزة، وكسرها، وهوأشهر، ومعناه: وما أظنّك، وقال القرطبيّ: كسر همزة "إخالك" لغة فصيحة، والفتح الأصح والقياس
(2)
. (إِلَّا إِيَّاهُ) قال القرطبيّ: وكذلك كان الحجاج؛ فإنه رُوي أنه أُحصي من قتله الحجاج صبرًا، فوجدوهم ثلاثين ألفًا، وأما من قُتل في الحروب فلم يحصوا.
وأما الكذاب فهو: المختار بن أبي عبيد الثقفيّ، فإنَّه ادَّعَى النبوة، وتبعه على ذلك خلق كثير حتى قتله الله تعالى كما تقدم. انتهى
(3)
.
(قَالَ) أبو نوفل: (فَقَامَ) الحجّاج (عَنْهَا)؛ أي: عن مجلس أسماء رضي الله عنهما، (وَلَمْ يُرَاجِعْهَا)؛ أي: لم يردّ عليها شيئًا مما قالته؛ لأنه يرى أنها صادقة فيما أخبرت به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن شأنها المتعلّق بنطاقها.
وقال القرطبيّ: قوله: "فلم يراجعها" قد حُكي عنه أنه قال: اللَّهُمَّ مبيرٌ، لا كذّاب. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [59/ 6475](2545)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 228 و 260)، و (الحميديّ) في "مسنده"(326)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 351 و 352)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 553)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 57) و"طبقات المحدّثين بأصبهان"(1/ 197)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 103)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(49/ 195)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 100.
(2)
"المفهم" 6/ 505.
(3)
"المفهم" 6/ 504.
(4)
"المفهم" 6/ 505.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب السلام على الميت في قبره وغيره، وتكرير السلام ثلاثًا، كما كرر ابن عمر رضي الله عنهما.
2 -
(ومنها): الثناء على الموتى بجميل صفاتهم المعروفة.
3 -
(ومنها): أن فيه بيان مَعْلَم من أعلام النبوّة، ومعجزة ظاهرة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بأن في ثقيف سيكون كذّاب، ومُبير، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
4 -
(ومنها): بيان فضل، ومنقبة عبد الزبير رضي الله عنهما، فإنه كان صوّامًا، قوّامًا، وَصولًا للرحم، ثم قُتل أخيرًا مظلومًا، كما شهد له بذلك الصحابيّ الجليل ابن عمر رضي الله عنهما، لا كما زعمه الحجاج المبير بأنه عدو الله، سبحانك هذا بهتان عظيم.
5 -
(ومنها): أن فيه منقبةً لابن عمر رضي الله عنهما لقوله بالحقّ في الملأ، وعدم اكتراثه بالحَجّاج؛ لأنه يعلم أنه يبلغة مقامه عليه، وقوله، وثناؤه عليه، فلم يمنعه ذلك أن يقول الحقّ، ويشهد لابن الزبير بما يعلمه فيه من الخير، وبطلان ما أشاع عنه الحجاج من قوله: إنه عدو الله، وظالم، ونحوه، فأراد ابن عمر رضي الله عنهما براءة ابن الزبير رضي الله عنهما من ذلك الذي نَسَبه إليه الحجاج، وأعْلَمَ الناس بمحاسنه، وأنه ضدّ ما قاله الحجاج، ومذهب أهل الحقّ أن ابن الزبير كان مظلومًا، وأن الحجاج ورِفْقته كانوا خوارج عليه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
(60) - (بَابُ فَضْلِ فَارِسَ)
قال في "الفتح": اختَلَف أهل النسب في أصل فارس، فقيل: إنهم ينتهي نسبهم إلى جيومرت، وهو آدم، وقيل: إنه من ولد يافث بن نوح، وقيل: من ذرية لاوي بن سام بن نوح، وقيل: هو فارس بن ياسور بن سام، وقيل: هو
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 98 - 99.
من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام، وقيل: إنهم من ولد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، والأول أشهر الأقوال عندهم، والذي يليه أرجحها عند غيرهم. انتهى.
وقال في "الفتح" أيضًا: قيل: إنهم من ولد هدرام بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإنه وَلَد بضعة عشر رجلًا كلهم كان فارسًا شجاعًا، فسُمُّوا الفرس للفروسية، وقيل في نسبهم أقوال أخرى، وقال صاعد في "الطبقات": كان أولهم على دين نوح، ثم دخلوا في دين الصابئة في زمن طمهورث، فداموا على ذلك أكثر من ألفي سنة، ثم تمجّسوا على يد زرادشت. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6476]
(2546) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنِ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ -أَو قَالَ: مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ- حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(جَعْفَرٌ الْجَزَرِيُّ) هو: جعفر بن بُرْقان - بضم الموحدة، وسكون الراء، بعدها قاف - الكلابيّ، أبو عبد الله الرَّقّيّ، ثقة يَهِم في حديث الزهريّ [7] (150) وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكائيّ، أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما، يقال: له رؤية، ولا يَثْبت، وهو ثقة [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
والباقون كلهم تقدّموا قريبًا، وشرح الحديث يأتي بعده.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6477]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ
(1)
"الفتح" 10/ 698 - 699، كتاب "التفسير" رقم (4897).
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ "سُورَةُ الْجُمُعَةِ"، فَلَمَّا قَرَأَ:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} الآية [الجمعة: 3] قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً، أَو مَرَّتَيْن، أَو ثَلَاثًا، قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ:"لَوْ كَانَ الإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عبيد الدّراوَرْديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق كان يحدّث من كُتُب غيره، فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد الله العمري منكر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
3 -
(ثَوْرٌ) بِاسْم الحيوان المعروف، ابن زيد الدِّيليّ المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 135)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.
4 -
(أَبُو الْغَيْثِ) سالم مولى ابن مطيع المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَة) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: من لطائف الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغلانيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) بضمّ الجيم جَمْع جالس، (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ) وفي رواية البخاريّ: "فنزلت عليه"("سُورَةُ الْجُمُعَةِ"، فَلَمَّا قَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} الآية [الجمعة: 3]) ولفظ البخاريّ: (فأنزلت عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} "، قال في "الفتح": كأنه يريد: أُنزلت عليه هذه الآية من "سورة الجمعة"، وإلا فقد نزل منها قبل إسلام أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بالسعي
(1)
.
(1)
"الفتح" 10/ 697، كتاب "التفسير" رقم (4897).
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} ؛ هو مخفوض معطوف على {الْأَمِينُ} ، ويجوز أن يكون منصوبًا معطوفًا على الضمير في {وَيُعَلِّمُهُمُ} ، و {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}: أي: لم يدخلوا في الإسلام، ولم يوجدوا، وسيوجدون.
وأحسن ما قيل فيهم: أنهم أبناء فارس بدليل نصّ هذا الحديث، وقد كثرت أقوال المفسرين في ذلك، وقد ظهر ذلك للعيان، فإنهم ظهر فيهم الدِّين، وكَثُرت فيهم العلماء، فكان وجودهم كذلك دليلًا من أدلة صدق النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال في "التكملة": المقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى من كان في زمنه من الأميين، وإلى من يجيئون بعدهم، ولا يرونه، فرسالته صلى الله عليه وسلم شاملة لجميع الأمة، وخَصّ صلى الله عليه وسلم منهم بالذِّكر أهل فارس لمزيّتهم في طلب العلم والدين. انتهى
(2)
.
(قَالَ رَجُلٌ) لم يُسمّ: (مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللهِ؟) وفي رواية الترمذيّ: "فقال رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ "(فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لم يردّ صلى الله عليه وسلم على السائل جوابه، (حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً، أَو مَرَّتَيْن، أَو ثَلَاثًا) وفي رواية البخاريّ: "فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا"، فقال في "الفتح": أي: لم يراجع النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: لم يُعِد عليه جوابه حتى سأله ثلاث مرات، ووقع ذلك صريحًا في رواية الدراوَرْديّ قال:"فلم يراجعه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى سأل مرتين، أو ثلاثًا"، وفي رواية ابن وهب عن سليمان بن بلال:"حتى سأله ثلاث مرات" بالجزم، وكذا في رواية عبد الله بن جعفر. انتهى
(3)
.
(قَالَ) أبو هريرة: (وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ) أبو عبد الله، ويقال له: سلمان الخير، الصحابيّ الشهير، أصله من أصبهان، وقيل: من رَامَهُرْمُز، أول مشاهده الخندق، مات سنة أربع وثلاثين، يقال: بلغ ثلاثمائة سنة، تقدّمت ترجمته في تقدم في "الطهارة" 17/ 612.
(1)
"المفهم" 6/ 505.
(2)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 324.
(3)
"الفتح" 10/ 698، كتاب "التفسير" رقم (4897).
(قَالَ) أبو هريرة: (فَوَضَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ) الفارسيّ، وفي رواية العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة:"يده على فخذ سلمان"، (ثُمَّ قَالَ:"لَوْ كَانَ الإِيمَانُ) وفي الرواية السابقة: "لَوْ كَانَ الدِّينُ" (عِنْدَ الثُّرَيَّا) بضمّ الثاء، تصغير ثَرْوى، اسم لنجم معروف؛ سُمّي به لكثرة كواكبه، مع ضيق المحلّ
(1)
. (لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ")؛ أي: الفرس بقرينة سلمان الفارسيّ، وقال الكرمانيّ: أي: الفرس؛ يعني: العجم، وفيه نَظَر لا يخفى، ثم إنهم اختلفوا في:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ، فقيل: هم التابعون، وقيل: هم العجم، وقيل: أبناؤهم، وقيل: كل من كان بعد الصحابة، وقال أبو روق: جميع من أسلم إلى يوم القيامة، وقال القرطبيّ: أحسن ما قيل فيهم: أنهم أبناء فارس، بدليل هذا الحديث:"لناله رجال من هؤلاء"، وقد ظهر ذلك بالعيان، فإنهم ظهر فيهم الدين، وكثر فيهم العلماء، وكان وجودهم كذلك دليلًا من أدلة صدقه صلى الله عليه وسلم، قاله في "العمدة"
(2)
.
وفي الرواية السابقة: ""لَذَهَبَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ فَارِسَ - أَو قَالَ: مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ - حَتَّى يَتَنَاوَلَهُ"، وفي رواية البخاريّ: "لناله رجال -أو رجل- من هؤلاء". قال في "الفتح": هذا الشك من سليمان بن بلال، بدليل الرواية التي أوردها بعده من غير شك مقتصرًا على قوله: "رجال من هؤلاء"، وهي عند مسلم، والنسائيّ كذلك، وقد أخرجه الإسماعيليّ من رواية ابن وهب عن سليمان بلفظ: "لناله رجال من هؤلاء" أيضًا بغير شك. انتهى
(3)
.
وقد أطنب أبو نعيم في أول "تاريخ أصبهان" في تخريج طرق هذا الحديث، أعني حديث:"لو كان الدين عند الثريا"، ووقع في بعض طرقه عند أحمد بلفظ:"لو كان العلم عند الثريا"، وفي بعض طرقه عند أبي نعيم، عن أبي هريرة أن ذلك كان عند نزول قوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38]، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك صدر عند نزول كل من الآيتين.
وقد تقدَّم مسلم الحديث مجردًا عن السبب من رواية يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، رفعه: "لو كان الدين عند الثريا لذهب رجال من أبناء فارس،
(1)
"القاموس المحيط" ص 173.
(2)
"عمدة القاري" 19/ 235.
(3)
"الفتح" 10/ 698، كتاب "التفسير" رقم (4897).
حتى يتناولوه"، وأخرجه أبو نعيم من طريق سليمان التيميّ، حدّثني شيخ من أهل الشام، عن أبي هريرة نحوه، وزاد في آخره: "برِقّة قلوبهم"، وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن التيميّ، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسيّ بالزيادة، ومن طريق أخرى من هذا الوجه، فزاد فيه: "يتّبعون سنتي، ويكثرون الصلاة عليّ"، قال القرطبيّ: وقع ما قاله صلى الله عليه وسلم عيانًا، فإنه وُجد منهم من اشتهر ذِكره من حفاظ الآثار، والعناية بها ما لم يشاركهم فيه كثير من أحد غيرهم
(1)
.
وقال في "معجم البلدان": العرب إذا ذكرت المشرق كله قالوا: فارس، فمعنى الحديث: أهل خراسان؛ لأنك إن طلبت مصداق الحديث في فارس لم تجده لا أولًا ولا آخرًا، وتجد هذه الصفات نفسها في أهل خراسان، دخلوا في الإسلام رغبةً، ومنهم: العلماء، والنبلاء، والمحدِّثون، والمتعبِّدون، وإذا حررت المحدِّثين من كل بلد وجدت نصفهم من خراسان، وجُلّ رواة الرجال منها، وأما أهل فارس فَكَنَارٍ خَمَدت لم يبق لهم بقية بذِكر، ولا شَرَف. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأَولى حَمْل الحديث على أهل فارس، ولا يتعارض مع ما وُجد من أهل خراسان، فإنهما قطران متقاربان، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [60/ 6476 و 6477، (2546)، و (البخاريّ) في "تفسير سورة الجمعة"(4897 و 4898)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3310) و"المناقب"(3933)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 75 و 6/ 490)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 207)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 417)، و (ابن
(1)
"الفتح" 10/ 698 - 699، كتاب "التفسير" رقم (4897).
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 5/ 322.
حبّان) في "صحيحه"(7123 و 7308 و 7309)، و (أبو نعيم) في "تاريخ أصبهان"(1/ 2)، و (الطبريّ) في "التفسير"(26/ 66 - 67)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(6/ 334)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل فارس، وأن لهم اليد الطولى في نشر الدين، والعلم، وذلك في زمن الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، ولا عبرة بما حصل في الأزمان المتأخّرة من انحرافهم، وتشيّعهم.
وقال صاحب "التكملة": فيه فضيلة ظاهرة لأهل فارس، وأن رجالًا منهم يجدّون في طلب العلم والدين، وقد ذكر بعض العلماء أن مِصداق هذا الحديث الإمام أبو حنيفة، وذَكَر بعضهم أن مصداقه الإمام البخاريّ، والظاهر أن هناك جماعة كبيرة من الفقهاء والمحدّثين أصلهم من فارس، وكلّهم يجوز أن يكون مصداقًا لهذه البشارة النبويّة، ومنهم الإمام أبو حنيفة، والإمام البخاريّ -رحمهما الله تعالى - انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع، فوقع طِبْق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
3 -
(ومنها): بيان قوّة هذا الدين، وأنه مستغنٍ عن العرب، فإن الله سبحانه وتعالى لَمّا ضَعُف قيامهم به قيّض له العجم، فقاموا به حقّ القيام، وهذا مصداق قوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} الآية [المائدة: 54]، وقوله تعالى:{فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)} [الأنعام: 89]، وقوله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)} [محمد: 38].
بل مما امتاز به على غيره من الأديان أن الله يؤيّده بمن ليس من أهله، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"، رواه البخاريّ،
(1)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 323.
وأخرج النسائيّ في "الكبرى" بإسناد صحيح، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خَلَاق لهم".
فما أعظم هذا الدين، أعزّ الله أركانه، وثبّت قواعده، وأرسى بنيانه، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، والله تعالى أعلم.
(61) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6478]
(2547) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِع، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِمُحَمَّدٍ- قَالَ عَبْد: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَاَ عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِم، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ عُمَرِ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه معدود من أصحّ أسانيد ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة، على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ النَّاسَ كَإِبِلٍ مِائَةٍ، لَا يَجِدُ الرَّجُلُ فِيهَا رَاحِلَةً") راحلة؛ أي: مرحولة، وهي من النجيبة
المختارة، ويقال: هي الإبل المركوب المدَّرب الحسن الفعال القويّ على الحمل والسفر، يُطلق على الذكر والأنثى، والتاء فيه للمبالغة، وخصها ابن قتيبة بالنُّوق، ونُوزع، قال الزمخشريّ: يريد: أن المرضيّ المنتخب في عزّة وجوده كالنجيبة التي لا توجد في كثير من الإبل، وقال القاضي: معناه: لا تكاد تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب، وطيئةً، سهلة الانقياد، فكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة، فيعاون صاحبه، ويُلين له جانبه، وقال الراغب: الإبل في تعارفهم اسم لمائة بعير، فمائة إبل عشرة آلاف بعير، فالمراد: أنك ترى واحدًا كعشرة آلاف، وترى عشرة آلاف دون واحد، كما قيل:
وَلَمْ أَرَ أَمْثَالَ الرِّجَالِ تَفَاوتًا
…
لَدَى الْمَجْدِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ
وقال بعضهم: خَصّ ضرب المَثَل بالراحلة؛ لأن أهل الكمال جعلهم الحقّ تعالى حاملين عن أتباعهم المشاقّ، مذللة لهم الصعب في جميع الآفاق؛ لغلبة الحنُوّ عليهم والإشفاق. انتهى
(1)
.
وقال ابن قتيبة: الراحلة: النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، فهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في إبل عُرِفت، قال: ومعنى الحديث: أن الناس متساوون، ليس لأحد منهم فَضْل في النَّسب، بل هم أشباه، كالإبل المائة، وقال الأزهريّ: الراحلة عند العرب: الجمل النجيب، والناقة النجيبة، قال: والهاء فيها للمبالغة، كما يقال رجل فهامة، ونسابةٌ، قال: والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلطٌ، بل معنى الحديث: أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها، والرغبة في الآخرة قليل جدًّا، كقلة الراحلة في الإبل.
قال النوويّ: كلام الأزهري هذا أجود من كلام ابن قتيبة، وأجود منهما قول آخرين: إن معناه: المرضئ الأحوال من الناس الكامل الأوصاف، الحَسَن المنظر، القويّ على الأحمال، والأسفار، سُمّيت راحلة؛ لأنها تُرحل؛ أي: يُجعل عليها الرَّحْل، فهي فاعلة بمعنى مفعولة، كعيشة راضية: أي: مرضيّة، ونظائره. انتهى
(2)
.
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 562.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 101.
وفي رواية البخاريّ: "إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة".
وقال في "الفتح": في رواية مسلم من طريق معمر، عن الزهريّ:"تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة"، فعلى أن الرواية بغير ألف ولام، وبغير "لا تكاد" فالمعنى: لا تجد في مائة إبل راحلةً تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس من يصلح للصحبة، بأن يعاون رفيقه، ويلين جانبه، والرواية بإثبات "لا تكاد" أَولى؛ لِمَا فيها من زيادة المعنى، ومطابقة الواقع، وإن كان معنى الأول يرجع إلى ذلك، ويُحْمَل النفي المطلق على المبالغة، وعلى أن النادر لا حُكْم له.
وقال الخطابيّ: العرب تقول للمائة من الإبل: إبل، يقولون: لفلان إبل: أي: مائة بعير، ولفلان إبلان: أي: مائتان.
قال الحافظ: فعلى هذا فالرواية التي بغير ألف ولام يكون قوله: "مائة" تفسيرًا لقوله: "إبل"؛ لأن قوله: "كإبل"؛ أي: كمائة بعير، ولمّا كان مجرد لفظ إبل ليس مشهور الاستعمال في المائة ذَكَر المائة توضيحًا، ورفعًا للإلباس، وأما على رواية البخاريّ فاللام للجنس.
وقال الراغب: الإبل اسم مائة بعير، فقوله:"كالإبل المائة" المراد به عشرة آلاف؛ لأن التقدير كمائة المائة. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر على تسليم قوله لا يلزم ما قال: إن المراد عشرة آلاف، بل المائة الثانية للتأكيد.
قال الخطابيّ: تأولوا هذا الحديث على وجهين:
أحدهما: أن الناس في أحكام الدين سواءٌ، لا فضل فيها لشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة التي لا يكون فيها راحلة، وهي التي تُرحل لتُرْكَب، والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة؛ أي: كلها حَمُولة تصلح للحمل، ولا تصلح للرحل، والركوب عليها.
والثاني: أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل، فعددهم قليل
جدًّا، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة، ومنه قوله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
وأورد البيهقيّ هذا الحديث في "كتاب القضاء" في تسوية القاضي بين الخصمين أخذًا بالتأويل الأول، ونقل عن ابن قتيبة: أن الراحلة هي النجيبة المختارة من الإبل للركوب، فإذا كانت في إبل عُرفت، ومعنى الحديث: أن الناس في النسب كالإبل المائة التي لا راحلة فيها، فهي مستوية.
وقال الأزهريّ: الراحلة عند العرب الذَّكَر النجيب، والأنثى النجيبة، والهاء في الراحلة للمبالغة، قال: وقول ابن قتيبة غلطٌ، والمعنى: أن الزاهد في الدنيا، الكامل فيه، الراغب في الآخرة، قليل كقلة الراحلة في الإبل، قال النوويّ: هذا أجود، وأجود منهما قول آخَرين: إن المرضيّ الأحوال من الناس، الكامل الأوصاف قليل.
وقال القرطبيّ: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس، والحمالات عنهم، ويكشف كَرْبهم، عزيز الوجود، كالراحلة في الإبل الكثيرة.
وقال ابن بطال: معنى الحديث: أن الناس كثير، والمرضيّ منهم قليل، وإلى هذا المعنى أومأ البخاريّ بإدخاله في "باب رفع الأمانة"؛ لأن من كانت هذه صفته، فالاختيار عدم معاشرته.
وأشار ابن بطال إلى أن المراد بالناس في الحديث: من يأتي بعد القرون الثلاثة: الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، حيث يصيرون يَخونون، ولا يؤتمنون. انتهى
(1)
، وألله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [61/ 6478](2547)، و (البخاريّ) في
(1)
"الفتح" 14/ 662 - 663، كتاب "الرقائق" رقم (6498).
"الرقاق"(6498)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2872)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3990)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 7 و 44 و 70 و 88 و 109 و 121 و 122 و 139)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(186)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 259)، و (الحميديّ) في "مسنده"(663)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2/ 200 و 201)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 238)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13240 و 14105)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5797 و 6139)، و (أبو الشيخ) في "الأمثال"(133 و 134)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(197)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 19)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4195)، والله تعالى أعلم.
* * *
47 - (كِتَابُ الْبِرِّ وَالصّلَةِ وَالآدَابِ)
قال الجامع عفا الله عنه: أما "البِرّ" فهو بكسر الباء، وتشديد الراء: الإحسان، وهو في حقّ الأبوين والأقْرَبِين ضدّ العقوق، وهو الإساءة إليهم، والتضييع لحقوقهم، يقال: بَرَّ يَبَرّ، فهو بارّ، وجَمْعه بَرَرَةٌ، وجمع الْبَرّ أبرار، قاله الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البرُّ بالكسر: الخير والفضل، وبَرَّ الرجلُ يَبَرُّ بِرًّا، وِزانُ عَلِم يَعْلَم عِلْمًا، فهو بَرٌّ بالفتح، وبَارٌّ أيضًا: أي: صادقٌ أو تقيّ، وهو خلاف الفاجر، وجَمْع الأول أَبْرَارٌ، وجَمْع الثاني بَرَرَةٌ، مثل كافر وكَفَرَةٍ، ومنه قوله للمؤذن:"صَدَقْتَ، وبَرِرْتَ": أي: صدقت في دعواك إلى الطاعات، وصِرْت بارًّا، دعاءٌ له بذلك، ودعاء له بالقبول، والأصل: بَرَّ عَمَلُك، وبَرِرْتُ والدي أَبَرُّهُ بِرًّا، وبُرُورًا: أحسنت الطاعة إليه، ورَفَقت به، وتحرّيت محابّه، وتوقّيت مكارهه، وبَرَّ الحجّ، واليمين، والقول بَرًّا أيضًا، فهو بَرٌّ، وبَارٌّ أيضًا، ويُستعمل متعديًا أيضًا بنفسه في الحجّ، وبالحرف في اليمين، والقول، فيقال: بَرَّ اللهُ تعالى الحجَّ يَبَرُّه بُرُورًا: أي قَبِله، وبَرِرْتُ في القول واليمين أَبَرُّ فيهما بُرُورًا أيضًا: إذا صَدَقت فيهما، فأنا بَرٌّ، وبَارٌّ، وفي لغة يتعدى بالهمزة، فيقال: أَبرَّ الله تعالى الحبئ، وأَبْرَرْتُ القولَ واليمينَ، والمَبَرَّةُ مثل البرّ. انتهى
(2)
.
وأما "الصلة" فهي: بكسر الصاد المهملة، وتخفيف اللام: مصدر وَصَلَه، يقال: وصلت الشيءَ بغيره وصلًا، فاتّصل به، ووصلته وَصْلًا، وصِلَةً: ضدّ
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3154.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 43.
هَجَرته، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: صلة الرحم كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب، والأصهار، والتعطّف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وقَطْع الرحم: ضدّ ذلك، يقال: وصل رَحِمَه يَصِلها وصلًا، وصِلَةً، والهاء فيها عِوَضٌ عن الواو المحذوفة، فكأنه بالإحسان إليه قد وصل ما بينه وبينهم من علاقة القرابة والصهر. انتهى
(2)
.
وأما "الآداب" فهو بالمدّ: جمع أدب بفتحتين، مثلُ سبب وأسباب، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَدَبْتُه أَدْبًا، من باب ضَرَب: عَلَّمتُه رياضةَ النفس، ومحاسنَ الأخلاق، قال أبو زيد الأنصاريّ: الأَدَبُ يقع على كلِّ رياضة محمودة، يَتَخَرَّجُ بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، وقال الأزهريّ نحوه، فَالأَدَبُ: اسم لذلك، والجمع: آدابٌ، مثل سَبَب وأسباب، وأَدَّبْتُه تَأْدِيبًا مبالغةٌ، وتكثيرٌ، ومنه قيل: أَدَّبْتُهُ تَأْدِيبًا: إذا عاقبته على إساءته؛ لأنه سببٌ يدعو إلى حقيقة الأدب، وأَدَبَ أَدْبًا، من باب ضَرَب أيضًا: صنع صنيعًا، ودعا الناس إليه، فهو آدِبٌ، على فاعل، قال الشاعر، وهو طَرَفَةُ:
نَحْنُ فِي الْمشْتَاةِ ندْعُو الجَفَلَى
…
لَا ترَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرُ
أي: لا ترى الداعي يدعو بعضًا دون بعض، بل يُعَمِّمُ بدعواه في زمان القلّة، وذلك غاية الكرم، واسم الصنيع: المَادُبَة، بضمّ الدال، وفتحها. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": الأدب: استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعَبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسَنات، وقيل: هو تعظيم مَن فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمِّي بذلك؛ لأنه يُدْعَى إليه. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 662.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3154.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 9.
(4)
"الفتح" 13/ 491، كتاب "الأدب" رقم (5970).
(1) - (بَابُ بِرِّ الْوَالِدَيْن، وَأَنَّهُمَا أَحَقُّ النّاسِ بِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6479]
(2548) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفٍ الثَّقَفِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتي؟ قَالَ: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "ثُمَّ أَبُوكَ"، وَفِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ: "مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّاسَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة -بضم الشين المعجمة، والراء، بينهما موحّدة ساكنة - الضبيّ -بالمعجمة، والموحّدة - الكوفيّ، ثقةٌ، أرسل عن ابن مسعود [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
4 -
(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير البجليّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين غير شيخيه، فالأول بغلانيّ، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ عُمَارَةَ) بضمّ العين المهملة، وتخفيف الميم، (ابْنِ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة -بضمّ الشين المعجمة، والراء، بينهما موحّدة - (عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) - بضمّ الزاي، وسكون الراء - ابن عمرو بن جرير البجليّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه
(قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أنه معاوية بن حَيْدَة -بفتح الحاء المهملة، وسكون التحتانية- وهو جدّ بَهْز بن حكيم، فقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديثه:"قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبرّ؟ قال: أمّك. . ." الحديث، وأخرجه أبو داود، والترمذيّ.
(فَقَالَ) الرجل: (مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتي؟) الصحابة بفتح الصاد، وكسرها: مصدر، بمعنى المعاشرة، قال المرتضى رحمه الله: صَحِبَه، كَسمِعَه يَصْحَبُه صَحَابَة بالفَتْح، ويُكْسَر، وصُحْبَةً بالضَّمِّ كَصَاحَبَه: عَاشَرَهُ، والصَّاحِبُ: المُعَاشِرُ، وَهُمْ أَصْحَابٌ، وأَصَاحِيبُ، وصُحْبَانٌ بالضَّمِّ في الأَخِير، مِثْلُ شَابٍّ وشُبَّان، وصِحَاب بالكَسْر، مِثْلُ جَائِع وجِيَاع، وصَحَابَةٌ بالفَتْح، وصِحَابَةٌ بالكَسْر، وصَحْبٌ، حَكَاها جَمِيعًا الأخْفَشُ، وأَكْثَرُ النَّاس عَلَى الكَسْرِ دُونَ الهَاء، وعَلَى الفَتْح مَعَهَا، وعَلَى الكَسْرِ مَعَها عَنِ الفَرَّاء خَاصَّةً. انتهى
(1)
.
وفي رواية محمد بن فضيل عن عمارة التالية: "بحسن الصحبة"، وفي رواية شريك، عن عمارة وابن شبرمة جميعًا عن أبي زرعة، قال مثل رواية جرير، وزاد:"فقال: نعم، وأبيك لتنبأنّ"، وقد أخرجه ابن ماجه من هذا الوجه مطوّلًا، وزاد فيه حديث: "أفضلُ الصدقة أن تَصدَّق وأنت صحيح شحيح
…
"، وأخرجه أحمد من طريق شريك، فقال في أوله: "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نبئني بأحقّ الناس مني صحبة"، قال الحافظ: ووجدته في النسخة بلفظ: "فقال: نعم والله"، بدل: "وأبيك" فلعلها تصحّفت، وقوله: "وأبيك" لم يقصد به القَسَم، وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أُمُّكَ") خبر لمحذوف دلّ عليه السؤال؛ أي: أحقّهم بحسن الصحابة أمّك، وكذا ما بعده. (قَالَ) الرجل:(ثُمَّ مَنْ؟) بعد أميّ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ "أُمُّكَ"، قَالَ) الرجل: (ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("ثُمَّ أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؛ قَالَ) في المرّة الرابعة: ("ثُمَّ أَبُوكَ") أحقهم بحسن الصحابة.
(1)
"تاج العروس" 1/ 655.
(2)
"الفتح" 13/ 493، كتاب "الأدب" رقم (5971).
قال في "الفتح": قوله: قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك" كذا للجميع بالرفع، ووقع عند مسلم من هذا الوجه وعند البخاريّ في "الأدب المفرد" من وجه آخر بالنصب، وفي آخره:"ثم أباك"، والأول ظاهر، ويُخَرَّج الثاني على إضمار فعل، ووقع صريحًا عند البخاريّ في "الأدب المفرد".
قال الجامع عفا الله عنه: عَزْو رواية النصب إلى مسلم في هذه الرواية لا يخفى ما فيه، فإن نُسخ مسلم الموجودة عندنا كلها بالرفع، وإنما النصب في الرواية التالية، على اختلاف النُّسَخ فيها، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وهكذا وقع تكرار الأم ثلاثًا، وذِكر الأب في الرابعة، وصَرّح بذلك في الرواية يحيى بن أيوب، ولفظه:"ثم عاد الرابعة، فقال: بِرّ أباك"، وكذا وقع في رواية بَهْز بن حكيم، وزاد في آخره:"ثم الأقرب، فالأقرب"، وله شاهد من حديث خِداش أبي سلامة، رفعه:"أوصى امرءًا بأمه، أوصى امرءًا بامه، أوصى امرءًا بأمه، أوصى امرءًا بأبيه، أوصى امرءًا بمولاه الذي يليه، وإن كان عليه فيه أذى يؤذيه"، أخرجه ابن ماجه، والحاكم. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ قتيْبَةَ: "مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتي؟ " وَلَمْ يَذْكُرِ النَّاسَ) أشار به إلى اختلاف شيخيه؛ قتيبة، وزهير، فرواه زهير بلفظ:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ "، ورواه قتيبة بلفظ:"من أحقّ بحسن صحابتي؟ " ولم يذكر لفظ "الناس".
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا صرّح مسلم بأن قتيبة لم يذكر لفظ "الناس"، لكن أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن قتيبة بسند مسلم، وفيه اللفظ المذكور، فقال:"من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ "، فلعلّ قتيبة كان الحديث عنده بالوجهين، فحدّث مسلمًا، كما ذَكَره، وحدّث البخاريّ كما ذكره، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 493 - 494، كتاب "الأدب" رقم (5971).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6479 و 6480 و 6481 و 6482](2548)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5971) وفي "الأدب المفرد"(5 و 6)، و (أبو داود) في "الأدب"(5139)، و (الترمذيّ) في "البرّ"(1897)، و (ابن ماجه) في "الوصايا"(2706) و"الأدب"(3658)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 541)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 327 - 328 و 391)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 642 و 4/ 150)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(433 و 434)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 479)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 179 و 8/ 2)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3416 و 3417)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب حقّ الوالدين، والإحسان إليهما.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه الحثّ على برّ الأقارب، وأن الأم أحقهم بذلك، ثم بعدها الأب، ثم الأقرب، فالأقرب، قال العلماء: وسبب تقديم الأمّ كثرة تَعَبها عليه، وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاقّ في حَمْله، ثم وَضْعه، ثم إرضاعه، ثم تربيته، وخدمته، وتمريضه، وغير ذلك، ونقل الحارث المحاسبيّ إجماع العلماء على أن الأم تَفضُل في البرّ على الأب، وحَكَى القاضي عياض خلافًا في ذلك، فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون برّهما سواء، قال: ونَسَب بعضهم هذا إلى مالك، والصواب الأول؛ لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور، والله أعلم، قال القاضي: وأجمعوا على أن الأم والأب اَكد حرمة في البرّ ممن سواهما، قال: وتردد بعضهم بين الأجداد والأخوة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم أدناك أدناك"، قال أصحابنا: يستحب أن تُقَدّم في البرّ الأم، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدات، ثم الإخوة والأخوات، ثم سائر المحارم، من ذوي الأرحام، كالأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ويُقدَّم الأقرب، فالأقرب، ويقدَّم من أدلى بأبوين على من أدلى بأحدهما، ثم بذي الرحم غير المحرّم، كابن العمّ وبنته،
وأولاد الأخوال والخالات، وغيرهم، ثم بالمصاهرة، ثم بالمولى مِن أعلى وأسفل، ثم الجار، ويقدَّم القريب البعيد الدار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخر قُدِّم على الجار الأجنبيّ، وألحقوا الزوج والزوجة بالمحارم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البرّ، قال: وكأن ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم، وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]، فسوّى بينهما في الوصاية، وخَصّ الأم بالأمور الثلاثة.
وقال القرطبيّ: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البرّ، وتُقَدَّم في ذلك على حقّ الأب عند المزاحمة.
وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البرّ على الأب، وقيل: يكون برّهما سواء، ونَقَله بعضهم عن مالك، والصواب الأول، قال الحافظ: وإلى الثاني ذهب بعض الشافعية، لكن نَقَل الحارث المحاسبيّ الإجماع على تفضيل الأم في البرّ، وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحًا في ذلك، فقد ذكره ابن بطال، قال: سئل مالك: طلبني أبي، فمنعتني أمي، قال: أطع أباك، ولا تعص أمك، قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى برّهما سواء، كذا قال، وليست الدلالة على ذلك بواضحة، قال: وسئل الليث؛ يعني: عن المسألة بعينها، فقال: أطع أمك، فإن لها ثلثي البرّ، وهذا يشير إلى الطريق التي لم يتكرر ذِكر الأم فيه إلا مرّتين، وقد وقع كذلك في رواية محمد بن فضيل، عن عمارة بن القعقاع عند مسلم في الرواية التالية، ووقع كذلك في حديث المقدام بن معدي كرب، فيما أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم، ولفظه: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 102 - 103.
ثم يوصيكم بالأقرب، فالأقرب، وكذا وقع في حديث بهز بن حكيم، وكذا في آخر رواية محمد بن فضيل المذكورة بلفظ:"ثم أدناك، فأدناك"، وفي حديث أبي رِمْثة -بكسر الراء، وسكون الميم، بعدها مثلثة-:"انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: أمك، وأباك، ثم أختك، وأخاك، ثم أدناك، أدناك"، أخرجه الحاكم هكذا، وأصله عند أصحاب "السنن" الثلاثة، وأحمد، وابن حبان. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6480]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ قَالَ: "أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ
(2)
، ثُمَّ أَبُوكَ
(3)
، ثُمَّ أَدْنَاكَ، أَدْنَاكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فضيل بن غَزْوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
3 -
(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزْوان -بفتح الغين المعجمة، وسكون للزاي - ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("أُمُّكَ، ثُمَّ أمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ) هكذا معظم النسخ بالتكرار ثلاثًا، ووقع في بعضها:"أمك، ثُمّ أمّك" مرتين.
(1)
"الفتح" 13/ 494 - 495، كتاب "الأدب" رقم (5971).
(2)
في نسخة: إسقاط الثالثة.
(3)
وفي نسخة: "ثم أباك".
وقوله: (ثُمَّ أَبُوكَ) هكذا في معظم النسخ أيضًا، ووقع في بعضها بلفظ:"ثم أباك"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون منصوبًا بفعل مقدّر؛ أي: ثم بِرّ أباك، ويَحْتَمل أن يكون مرفوعًا بالعطف على "أمُّك" بضمّة مقدّرة على الألف، على لغة من يُلزم الأسماء الستّة الألف في الأحوال كلّها، وهي لغة فصيحة، كما قال في "الخلاصة":
"أَبٌ""أَخٌ""حَمٌ" كَذَاكَ "وَهَنُ"
…
وَالنَّقْصُ فِي هَذَا الأَخِيرِ أَحْسَنُ
وَفِي "أَبٍ" وَتَالِيَيْهِ يَنْدُرُ
…
وَقَصْرُهَا مِنْ نَقْصِهِنَّ أَشْهَرُ
وقوله: (ثُمَّ أَدْنَاكَ، أَدْنَاكَ") المراد بالدنوّ: القرب إلى البارّ، قال عياض: تردَّد بعض العلماء في الجدّ والأخ، والأكثر على تقديم الجدّ، قال الحافظ: وبه جزم الشافعية، قالوا: يقدَّم الجدّ، ثم الأخ، ثم يقدّم من أدلى بأبوين على من أدلى بواحد، ثم تُقدّم القرابة من ذوي الرحم، ويقدّم منهم المحارم على من ليس بمحرم، ثم سائر العصبات، ثم المصاهرة، ثم الولاء، ثم الجار، وسيأتي الكلام على حكمه بعدُ.
وأشار ابن بطال إلى أن الترتيب حيث لا يمكن إيصال البرّ دفعة واحدة، وهو واضح، وجاء ما يدلّ على تقديم الأمّ في البرّ مطلقًا، وهو ما أخرجه أحمد، والنسائيّ، وصححه الحاكم، من حديث عائشة رضي الله عنهما:"سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه"، ويؤيد تقديم الأم حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه:"أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حِواء، وإن أباه طلّقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال: أنت أحقّ به ما لم تنكحي"، كذا أخرجه الحاكم، وأبو داود، فتوصَّلت لاختصاصها به باختصاصه بها في الأمور الثلاثة. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6481]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا شَرِيكٌ، عَنْ عُمَارَةَ،
(1)
"الفتح" 13/ 495، كتاب "الأدب" رقم (5971).
وَابْنِ شُبْرُمَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَزَادَ:"فَقَالَ: "نَعَمْ، وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
2 -
(شَرِيكُ) بن عبد الله النخعيّ الكوفيّ القاضي بواسط، ثم الكوفة، أبو عبد الله، صدوق يخطئ كثيرًا، تغيّر حفظه منذ وَليَ القضاء بالكوفة، وكان عادلًا، فاضلًا عابدًا شديدًا على أهل البِدَع [8](ت 7 أو 178)(خت م 4) تقدم في "الصلاة" 36/ 1030.
3 -
(ابْنُ شُبْرُمَةَ) هو: عبد الله بن شُبْرمة -بضم الشين المعجمة، وسكون الموحّدة، وضم الراء - ابن الطُّفيل بن حسان الضبيّ، أبو شبرمة الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ [5](ت 144)(خت م د س ق).
وثّقه أحمد، وأبو حاتم، والنسائي، والثوري وغيرهم. وقال ابن سعد: كان شاعرًا، فقيهًا، ثقةٌ، قليل الحديث. قيل: وُلد سنة (72) من الهجرة، ومات سنة (144).
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("نَعَمْ، وَأَبِيكَ لَتُنَبَّأَنَّ")؛ يعني: زاد هذا الكلام قبل الجواب عن السؤال، وحاصله أن السائل لمّا سأل عمن يستحقّ برّه، وحُسْن صحبته، أجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنك سوف تُخبّر بجواب سؤالك، ثم أجاب بما تقدّم، والواو في قوله:"وأبيك" وإن كانت للقَسَم، لكن حقيقة القسم غير مرادة هنا؛ لأن الحلف بغير الله لا يجوز، وإنما هي كلمة تجري على اللسان دِعامة للكلام، أفاده في "التكملة"
(1)
. وقال في "الفتح": قوله: "وأبيك" لم يُقصد به القسم، وإنما هي كلمة تجري لإرادة تثبيت الكلام، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك وقع قبل النهي عن الحلف بالآباء. انتهى
(2)
.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 329.
(2)
"الفتح" 13/ 493، كتاب "الأدب" رقم (5971).
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "نعم وأبيك لتنبأنّ" قد سبق الجواب مرات عن مثل هذا، وأنه لا تراد به حقيقة القسم، بل هي كلمة تجري على اللسان دِعامة للكلام، وقيل غير ذلك. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية شريك بن عبد الله عن عمارة وابن شُبرُمة هذه ساقها ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(25403)
- حدّثنا شريك، عن عمارة بن القعقاع، وابن شُبرمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله نبئني بأحقّ الناس مني بحسن الصحبة، فقال:"نعم، وأبيك، لتنبأنّ، أمُّك"، قال: ثم من؟ قال: "أمّك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك". انتهى
(2)
.
وساقها أيضًا ابن ماجه في "سننه" مطوّلة، فقال:
(2706)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا شريكٌ، عن عُمارة بن القعقاع، وابن شُبْرُمة، عن أبيِ زرعة، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، نبِّئني بأحقّ الناس مني بحسن الصحبة، فقال:"نعم وأبيك لتنبأنّ، أمُّك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك"، قال: نبئني يا رسول الله عن مالي كيف أتصدق فيه؟ قال: "نعم والله لتنبأنّ، أن تصَدَّق وأنت صحيح شحيح، تأمُل العيش، وتخاف الفقر، ولا تُمْهِل حتى إذا بلغتْ نَفْسَك ها هنا، قلتَ: مالي لفلان، ومالي لفلان، وهو لهم، وإن كَرِهت". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6482]
(
…
) - (حَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْب، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ:"مَنْ أَبرُّ؟ " وَفِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ: "أَيُّ النَّاسِ أَحَق مِنِّي بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ؟ " ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ).
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 103.
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة" 5/ 218.
(3)
"سنن ابن ماجه" 2/ 903.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف السمين، تقدّم قريبًا.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سوّار الفزاريّ، أبو عمرو المداشيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ) بن مُصَزف الياميّ الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام، وأنكروا سماعه من أبيه؛ لصغره [6](ت 167)(خ م دت عس ق) تقدم في "الإيمان" 30/ 228.
4 -
(أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ) هو: أحمد بن الحسن بن خِرَاش، نُسب لجدّه، أبو جعفر البغداديّ، صدوقٌ [11](ت 242) وله ستون سنةً (م ت) تقدم في "الإيمان" 42/ 280.
5 -
(حَبَّانُ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
6 -
(وُهَيْبٌ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغيّر قليلًا بأَخَرَة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 413.
و"ابن شُبْرُمة" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) ضمير التثنية لمحمد بن طلحة، ووهيب بن خالد.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) إشارة إلى الإسناد السابق، وهو إسناد عبد الله بن شُبرُمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله: (فِي حَدِيثِ وُهَيْبِ: "مَنْ أَبرُّ؟ ")؛ يعني: أن سياق وهيب بن خالد بلفظ: "من أبرّ" بدل قول محمَد بن طلحة: "أيّ الناس أحقّ
…
إلخ".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ) هكذا النُّسخ: "ذكر" بإفراد الفاعل، ولعل الصواب:"ذكرا" بضمير وهيب، ومحمد بن طلحة، وَيحتمل أن يكون الضمير لهما بتأويل كل منهما؛ أي: ذَكَر كل منهما، وكونه لمحمد بن طلحة فقط ينافيه سياقهما الآتي في التنبيه التالي، فإنه يؤيّد ما سبق، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية محمد بن طلحة عن ابن شُبْرُمة ساقها ابن الجعد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(2712)
- حدّثنا بشر، نا محمد بن طلحة، عن ابن شُبْرُمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أحقّ مني بحسن الصحبة؟ قال: "أمّك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". انتهى
(1)
.
ورواية وُهيب بن خالد عن ابن شُبْرُمة ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شُعَب الإيمان"، فقال:
(7838)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، نا محمد بن أيوب، نا مسلم بن إبراهيم، نا وُهيب بن خالد، نا ابن شُبرُمة، قال: سمعت أبا زرعة، عن أبي هريرة، قال: إن رجلًا قال: يا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من أبرُّ؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أبوك". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6483]
(2549) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ- عَنْ سُفْيَانَ، وَشُعْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَبِيبٌ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاس، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْجِهَاد، فَقَالَ:(أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العنزيّ البصريّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ) الإمام الناقد البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
"مسند ابن الجعد" 1/ 397.
(2)
"شعب الإيمان" 6/ 180.
5 -
(حَبِيبُ) بن أبي ثابت قيس، ويقال: هند بن دينار الأسديّ مولاهم، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ جليلٌ، وكان كثير الإرسال والتدليس [3](ت 119)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 1.
6 -
(أَبُو الْعَبَّاسِ) السائب بن فَرُّوخ المكيّ الشاعر الأعمى، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصيام" 37/ 2734.
7 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد -بالتصغير- ابن سَعْد بن سَهْم السَّهْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة على الأصحّ، بالطائف على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، بل هو من رواية الأقران، فكلاهما من الطبقة الثالثة، وأن صحابيّه أحد السابقين إلى الإسلام ومن المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ) في الرواية التالية: "سمعت أبا العبّاس"، فصرّح حبيب بالسماع، فزالت عنه تهمة التدليس، فإنه كثير التدليس.
[تنبيه]: زاد في آخر الرواية التالية: اقال مسلم: أبو العبّاس اسْمُهُ السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ الْمَكِّيُّ"، وفي رواية البخاريّ في "الصوم": "حدّثنا حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العبّاس المكيّ، وكان شاعرًا، وكان لا يُتّهم في حديثه"، قال في "الفتح": قوله: "وكان شاعرًا، وكان لا يُتَّهَم في حديثه" فيه إشارة إلى أن الشاعر بصدد أن يُتَّهَم في حديثه؛ لِمَا تقتضيه صناعته من سلوك المبالغة في الإطراء وغيره، فأخبر الراوي عنه أنه مع كونه شاعرًا كان غير متّهم في حديثه، وقوله: "في حديثه" يَحْتَمِل مرويه من الحديث النبويّ، ويَحْتَمِل فيما هو أعمّ من ذلك، والثاني أليق، وإلا لكان مرغوبًا عنه، والواقع أنه حجة عند
كل من أخرج الصحيح، وأفصح بتوثيقه أحمد، وابن معين، وآخرون. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": خالف الأعمشُ شعبةَ -في هذا الإسناد- فرواه ابن ماجه من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو، فلعل لحبيب فيه إسنادين، ويؤيده أن بكر بن بكار رواه عن شعبة، عن حبيب، عن عبد الله بن باباه كذلك. انتهى
(2)
.
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما، وفي الرواية التالية: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون هو جاهمةَ بنَ العباس بن مِرداس، فقد روى النسائيّ، وأحمد، من طريق معاوية بن جاهمة، أن جاهمة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أردت الغزو، وجئت لأستشيرك، فقال: "هل لك من أمّ؟ قال: نعم، قال: الزمها
…
" الحديث، ورواه البيهقيّ من طريق ابن جريج، عن محمد بن طلحة بن رُكانة، عن معاوية بن جاهمة السّلَميّ، عن أبيه، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم أستأذنه في الجهاد، فذكره، قال الحافظ: وقد اختُلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافاَ كثيرًا بيّنته في ترجمة جاهمة من كتابي في الصحابة. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي في كون الرجل السائل هو جاهمة بن العبّاس نظر؛ لأن السؤال في قصّته: "هل لك أمّ؟ "، وفي حديث الباب:"أحيّ والداك؟ "، فاختلفا، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَسْتَأْذِنُهُ في الْجِهَادِ) جملة في محل نصب على الحال، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ ") قَالَ (الرجل: (نَعَمْ) والداي حيّان، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ")؛ أي: خصِّصهما بجهاد النفس في رضاهما، قاله في "الفتح"
(4)
.
وقال القرطبيّ: أي: جاهذ نفسك في برّهما وطاعتهما، فهو الأَولى بك؛ لأن الجهاد فرض كفاية، وبرّ الوالدين فرض عين، فلو تعيَّن الجهاد، وكان
(1)
"الفتح" 5/ 404، كتاب "الصوم" رقم (1979).
(2)
"الفتح" 7/ 254، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
(3)
"الفتح" 7/ 254 - 255، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
(4)
"الفتح" 7/ 255، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
والداه في كفاية، ولم يمنعاه، أوأحدهما من ذلك بدأ بالجهاد، فلو لم يكونا في كفاية تعيَّن عليه القيام بهما، فبدأ به، فلو كانا في كفاية، ومنعاه لم يلتفت إلى منعهما؛ لأنَّهما عاصيان بذلك المنع، وإنما الطاعة في المعروف، كما لو منعاه من صلاة الفرض، فأمَّا الحج فله أن يؤخره السنة والسنتين ابتغاء رضاهما، قاله مالك، هذا وإن قلنا: إنه واجب على الفور مراعاة لقول من يقول: إنه على التراخي، وقد تقدّم القول على ذلك في الحج. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث::
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6483 و 6484 و 6485 و 6486](2549)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3004) و"الأدب"(5972) وفي "الأدب المفرد"(1/ 21)، و (أبو داود) في "الجهاد"(3/ 16)، و (الترمذيّ) في "الجهاد"(1671)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(6/ 10) وفي "الكبرى"(3/ 8)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 188 و 193 و 197 و 221)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2254)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 517)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 267)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 11)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 94)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(318 و 420)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 25) و"شُعب الإيمان"(6/ 176)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2638)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن الحديث دليل على عِظَم فضيلة بر الوالدين، وأن حقّهما آكد وأعظم من الجهاد، وفيه بيان كثرة الثواب على برهما.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه حجة لِمَا قاله العلماء: إنه لا
(1)
"المفهم" 6/ 509 - 510.
يجوز الجهاد إلا بإذن الوالدين إذا كانا مسلمين، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركين لم يُشترط إذنهما عند الشافعيّ ومن وافقه، وشَرَطه الثوريّ، هذا كله إذا لم يحضر الصفّ، ويتعيَّن القتال، وإلا فحينئذ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببرّ الوالدين، وأن عقوقهما حرام من الكبائر، وسبق بيانه مبسوطًا في "كتاب الإيمان". انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال جمهور العلماء: يَحْرم الجهاد إذا مَنَع الأبوان، أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمين؛ لأن بزهما فَرْض عَيْن عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهاد فلا إذن، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان، من طريق أخرى، عن عبد الله بن عمرو:"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله عن أفضل الأعمال، قال: الصلاة، قال: ثم مه؟ قال: الجهاد، قال: فإن لي والدين، فقال: آمرك بوالديك خيرًا، فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيًّا لأجاهدنّ، ولأتركنهما، قال: فأنت أعلم"، وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقًا بين الحديثين، وهل يُلحق الجدّ والجدّة بالأبوين في ذلك؟ الأصح عند الشافعية نعم، والأصح أيضًا أن لا يفرّق بين الحُرّ والرقيق في ذلك؛ لشمول طلب البرّ، فلو كان الولد رقيقًا، فَأذِن له سيده لم يُعْتبَر إذن أبويه، ولهما الرجوع في الإذن إلا أن حضر الصفّ، وكذا لو شرطا أن لا يقاتِل، فحضر الصفّ فلا أثر للشرط. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): أنه يستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضدّه إذا فُهِم المعنى؛ لأن صيغة الأمر في قوله: "فجاهد" ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما لهما، وليس ذلك مرادًا قطعًا، وإنما المراد: إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد، وهو تعب البدن والمال، قاله في "الفتح"
(3)
.
4 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه أن كل شيء يُتعِب النفس يسمى جهادًا.
5 -
(ومنها): أن المستشار يشير بالنصيحة المحضة، وأن المكلف
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 104.
(2)
"الفتح" 7/ 255، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
(3)
"الفتح" 7/ 255، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
يستفصل عن الأفضل في أعمال الطاعة؛ ليعمل به؛ لأنه سَمِع فَضْل الجهاد، فبادَرَ إليه، ثم لم يقنع حتى استأذن فيه، فذلّ على ما هوأفضل منه في حقه ولولا السؤال ما حصل له العلم بذلك، ولمسلم
(1)
من طريق ناعم مولى أم سلمة عن عبد الله بن عمرو في نحو هذه القصة: "قال: ارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما"، ولأبي داود، وابن حبان من وجه آخر، عن عبد الله بن عمرو:"ارجع، فأضحكهما كما أبكيتهما"، وأصرح من ذلك حديث أبي سعيد، عند أبي داود، بلفظ:"ارجع، فاستأذنهما، فإن أَذِنَا لك فجاهِد، وإلا فبرّهما"، وصححه ابن حبان.
6 -
(ومنها): أنه استدِلّ به على تحريم السفر بغير إذن الأبوين؛ لأن الجهاد إذا مُنع مع فضيلته، فالسفر المباح أَولى، نعم إن كان سفره لتعلّمِ فرض عَيْن، حيث يتعيّن السفر طريقًا إليه، فلا مَنْع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6484]
(
…
) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيب، سَمِعْت أَبَا الْعَبَّاس، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ. قَالَ فسْلِمٌ: أَبُو الْعَبَّاسِ اسْمُهُ السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ الْمَكِّيُّ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْن مُعَاذِ) بن معاذ بن نصر الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رَجّح ابن معين أخاه المثنى عليه [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
والباقون ذكروا قبله.
(1)
هو: الحديث الثالث بعد هذا الحديث في الباب.
(2)
"الفتح" 7/ 255 - 256، كتاب "الجهاد" رقم (3004).
[تنبيه]: رواية معاذ بن معاذ عن شُعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6485]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أبُو كُرَيْبٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، كِلَاهمَا عَنِ الأَعْمَش، جَمِيعًا عَنْ حَبِيبٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبدي الكوفي، ثقة حافظ [9] تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(مِسْعَرُ) بن كَدَام -بكسر أوله، وتخفيف ثانية- ابن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
3 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ عَمْرِو) بن الْمُهَلَّب بن عمرو الأزديّ الْمَعْنيّ -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، وكسر النون - أبو عمرو البغداديّ، ويُعرف بابن الكرمانيّ، ثقةٌ، من صغار [9](ت 214) على الصحيح، وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 95/ 511.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حِصن بن حُذيفة الْفَزَاريّ الإمام الكوفيّ، ثم الْمِصِّيصيّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [8] (ت 185) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 88.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَريَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحان، وربما نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود الخمسين ومائتين (م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
6 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِي) الكوفيّ العابد المقرئ، تقدّم قريبًا.
7 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) ضمير التثنية لأبي إسحاق الفزاريّ، وزائدة بن قدامة؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن الأعمش.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ حَبِيبٍ)؛ يعني: أن كلًّا من مسعر بن كِدام، والأعمش رويا هذا الحديث عن حبيب بن أبي ثابت.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ)؛ أي: بإسناد حبيب بن أبي ثابت المتقدّم، وهو عن أبي العبَّاس الشاعر، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وقوله: (مِثْلَهُ)؛ أي: مثل حديث شعبة عن حبيب.
[تنبيه]: رواية مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت ساقها أحمد في "مسنده"، فقال:
(6544)
- حدّثنا يزيد، أنا مِسْعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال:"أحيٌّ والداك؟ " قال: نعم، قال:"ففيهما فجاهد". انتهى
(1)
.
ورواية الأعمش عن حبيب ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(17606)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه، ثنا بشر بن موسى، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق الفزاريّ، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي العباس، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أريد الجهاد، قال:"أحيّ أبواك؟ " قال: نعم، قال:"ارجع إليهما، فإن فيهما المُجاهَد". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6486]
(
…
) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِث، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ نَاعِمًا مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 165.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى" 9/ 25.
أُبايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَاد، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ الله، قَالَ:"فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟!، قَالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قَالَ: "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَارْجعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) الخراسانيّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) المصريّ، أبو رجاء، واسم أبيه سُويد، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يُرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
5 -
(نَاعِمٌ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هو: ناعم بن أُجيل -بجيم مصغرًا - الْهَمْدانيّ، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 180)(م 4) تقدم في "اللباس والزينة" 28/ 5541.
و"عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين غير شيخه، فخراسانيّ، ثم مكيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيب) سُويد المصريّ (أَنَّ نَاعِمًا مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة أم المؤمنين رضي الله عنها (حَدَّثَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (قَالَ: أَقْبَلَ رَجُلٌ) لم يُعرف اسمه، (إِلَى نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أُبايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجهَادِ) حال كوني (أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ) سبحانه وتعالى. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن المفتي إذا خاف على السائل الغلط، أو عدم الفهم تعيَّن عليه الاستفصال، وعلى أن الفروض والمندوبات مهما اجتمعت قُدِّم الأهمّ منها، وأن القائم على الأبوين يكون له
أجر مجاهد وزيادة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) الرجل: (نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا) حيّان، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:("فَتَبْتَغِي) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أفتبتغي (الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟ "، قَالَ) الرجل: (نَعَمْ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ، فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا")؛ أي: فيكون لك هذا أفضل مما قصدته من الهجرة، والجهاد، وفيه فضل برّ الوالدين، وأنه أفضل من الهجرة، والجهاد في سبيل الله تعالى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فارجع إلى والديك
…
إلخ" قد قدّمنا ذِكر الخلاف مع وجوب الهجرة، هل كان على أهل مكة خاصة، أو كان على كل من أسْلَم؟ وعلى القولين فقد أسقط عنه الهجرة؛ لأن حقّ الوالدين أَولى؛ لأنَّه إن كانت الهجرة عليه واجبة، فقد عارضها ما هو أوجب منها، وهو حقّ الوالدين، فقُدّم، وإن لم تكن واجبة عليه، فالواجب أَولى على كل حال، لكنه إنما يصح هذا ممن يَسْلَم له في موضع دِينه، فأمَّا لو خاف الفتنة على دينه لوجب عليه الفرار بدينه، وترك آبائه وأولاده، كما فعل المهاجرون الذين هم صفوة الله من عباده، وبرّ الوالدين واجب على الجملة بالكتاب، والسُّنَّة، وإجماع الأمة، وكذلك صلة الأرحام، وأما تفصيل ما يكون برًّا وصلَةً، وما لا يكون، فذلك يستدعي تفصيلًا وتطويلًا ليس هذا موضعه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6486](2549)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 235)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 164)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 26) و"شُعَب الإيمان"(6/ 177)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 509.
(2)
"المفهم" 6/ 510 - 511.
(2) - (بَابُ تَقْدِيمِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6487]
(2550) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: "كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ، قَالَ حُمَيْدٌ: فَوَصَفَ لنا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمُّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ كلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي، وَصَلَاِتي، فَاخْتَارَ صَلَاَتهُ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَة، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي، وَصَلَاِتي، فَاخْتَارَ صَلَاَتهُ، فَقَالَت: اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ، وَهُوَ ابْنِي، وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ، فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَات، قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ، قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِه، قَالَ: فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَة، فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي، فَحَمَلَتْ، فَوَلَدَتْ
(1)
غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْر، قَالَ: فَجَاءُوا بِفُؤُوسِهِمْ، وَمَسَاحِيهِمْ، فَنَادَوْهُ، فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِه، قَالَ: فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيّ، فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْن، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ، قَالُوا: نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّة، قَالَ: لَا، وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا، كَمَا كَانَ، ثُمَّ عَلَاهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ بحاء مهملة، وموحّدة مفتوحتين -الأُبُليّ - بضم الهمزة، والموحدة، وتشديد اللام، أبو محمد صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر،
(1)
وفي نسخة: "فوضعت".
قال أبو حاتم: اضطَرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ، أبو سعيد البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ، أبو نصر البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيع الصائغ، المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّمَ في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، إلا الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) نُفيع الصائغ المدنيّ، ثم البصريّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ قَالَ:"كَانَ جُرَيْجٌ) هذا صورته صورة المرسل إلا أنه تبيّن وصله بقوله بعده: "قَالَ حُمَيْدٌ: فوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّهُ".
[تنبيه]: جريج هذا -بجيمين، مصغرًا - قد روى حديثه عن أبي هريرة رضي الله عنه أبو رافع، كما هو هنا، وعند أحمد في "مسنده"، ومحمد بن سيرين كما في الرواية التالية، وهي عند البخاريّ أيضًا، والأعرج عند البخاريّ، وأبو سلمة عند أحمد، ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة، عمران بن حصين رضي الله عنهم. قال الحافظ بعد ذكره نحو ما سبق: وسأذكر ما في رواية كل منهم من الفائدة. قال الجامع: وسأذكر أنا أيضًا ما ذكره الحافظ رحمه الله في هذا الشرح -إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه آخر]: أول حديث أبي سلمة في هذه القصّة: "كان رجل في بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرّةً، ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التجارة خير، لألتمسنّ تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعةً، وترهّب فيها، وكان
يقال له: جريج
…
" فذكر الحديث، ودلّ ذلك على أنه كان بعد عيسى ابن مريم عليه السلام وأنه كان من أتباعه؛ لأنهم الذين ابتدعوا الترهّب، وحَبْس النفس في الصوامع، قاله في "الفتح"
(1)
.
(يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ) -بفتح، فسكون: معبد النصارى -، قال
المرتضى رحمه الله
(2)
: الصَّوْمَعة كَجَوْهَرَةٍ: بيتٌ للنَّصارى، ومَنارٌ للراهِب، كالصَّوْمَع بغيرِ هاءٍ، سُمِّيتْ به لدِقَّةٍ في رأسِها، وقال سيبويه: الصَّوْمَعةُ من الأصْمَع؛ يعني: المُحَدّدَ الطَّرَفِ المُنضَمّ.
ومن غريبِ ما أنشدَنا بعضُ الشيوخ [من مجزؤ الكامل]:
أَوْصَاكَ رَبُّكَ بالتُّقى
…
وأُولو النُّهى أَوْصَوا مَعَهْ
فاخْتَرْ لنَفسِكَ مَسْجِدًا
…
تَخْلُو به أو صَوْمَعَهْ
(فَجَاءَتْ أُمُّهُ) لم يُعرف اسمها، (قَالَ حُمَيْدُ) بن هلال الراوي عن أبي رافع:(فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ) نفيع (صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أي: وَصْفه (لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمَّهُ)؛ أي: أم جُريج، (حِينَ دَعَتْهُ)؛ أي: وقت دعائها ولدها جُريج، (كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ)؛ أي: إلى جريج؛ حيث كان في محل مرتفع من الصومعة، وقوله:(تَدْعُوهُ) جملة حاليّة (فَقَالَتْ) الأمّ: (يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي، فَصَادَفَتْهُ)؛ أي: وجدته، حال كونه (يُصَلِّي، فَقَالَ) جريج: (اللَّهُمَّ أُمِّي)؛ أي: هذه المنادية لي هي أمي، فهل أجيبها؟ (وَصَلَاِتِي)؛ أي: وهذه صلاتي، فهل أشتغل بها، وأترك إجابة أُمي؟ (فَاخْتَارَ صَلَاَتَهُ) على إجابة أمه، (فَرَجَعَتْ) الأمّ (ثُمَّ عَادَتْ فِي) المرة (الثَّانِيَةِ) وقد بيّنت في الرواية التالية بأنه اليوم التالي، ولفظه:"فلما كان من الغد"، (فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي، قَالَ: اللَّهُمَّ أُمِّي، وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاَتهُ، فَقَالَت) ظاهر هذه الرواية أن قولها هذا في المرة الثانية، لكن سيأتي في الرواية التالية أنها دعته ثلاث مرّات، ثم دعت عليه في المرّة الثالثة، (اللَّهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ، وَهُوَ ابْنِي، وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ، فَأَبى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللَّهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ
(1)
"الفتح" 8/ 29، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
(2)
"تاج العروس" 1/ 5380.
الْمُومِسَاتِ) وفي الرواية التالية: "حتى ينظر إلى وجوه المومسات"، قال النوويّ رحمه الله: بضم الميم الأولى، وكسر الثانية: أي: الزواني البغايا المتجاهرات بذلك، والواحدة مومسة، وتُجمع على مياميس أيضًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: المومسة: الفاجرة، وتُجمع على ميامس أيضًا، وموامس، وأصحاب الحديث يقولون: مياميس، ولا يصح إلا على إشباع الكسرة ليصير ياءً، كمُطْفِل ومطافيل. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: امرأة مومس، ومومسة: فاجرة، زانية، تميل لمريدها، كما سُمِّيت خَرِيعًا من التخرع، وهو اللِّين، والضعف، وربما سميّت إماء الخدمة مومسات، والمومسات: الفواجر مجاهرةً، ويُجمع على ميامس أيضًا، ومواميس، وأصحاب الحديث يقولون: مياميس، ولا يصح إلا على إشباع الكسرة؛ ليصير ياءً، كمُطْفِل ومَطَافِل، ومطافيل. انتهى
(3)
.
(قَالَ: وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ) بالبناء للمفعول؛ أي: يقع في فتنة الزنا، (لَفُتِنَ)؛ أي: لوقع فيها. (قَالَ: وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ) لم يُعرف اسمه، (يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ)؛ أي: دَيْر جُريج، وهو بفتح الدال المهملة، وسكون التحتانيّة، آخره راء: كنيسة منقطعة عن العمارة، تنقطع فيها رُهبان النصارى لتعبّدهم، وهو بمعنى الصومعة السابقة، وهي نحو المنارة ينقطعون فيها عن الوصول إليهم، والدخول عليهم، قاله النوويّ رحمه الله
(4)
.
(قَالَ: فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَة، فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي)؛ أي: زنى بها، (فَحَمَلَتْ، فَوَلَدَتْ) وفي بعض النسخ: "فوضعت"، (غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: مَا هَذَا؟)؛ أي: أيّ شيء هذا الغلام، من أين أتاك وليس لك زوج؟ (قَالَتْ: مِنْ صَاحِب هَذَا الدَّيْرِ)؛ تعني: جريجًا. (قَالَ: فَجَاؤُوا بِفُؤُوسِهِمْ) مهموز ممدود جمع فَاس بالهمزة، وهي هذه المعروفة، كرأس ورؤوس، قاله النوويّ رحمه الله
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الفأس: أُنثى، وهي مهموزة، ويجوز التخفيف،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 105.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 373.
(3)
"لسان العرب" 6/ 258.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 105.
(5)
"شرح النوويّ" 16/ 106.
وجمعها أَفؤُسٌ، وفُؤوس، مثلُ فلس، وأفلُس، وفُلوس. انتهى
(1)
.
(وَمَسَاحِيهِمْ) بالفتح، بوزن الْجَوَاري: جمع مِسحاة بكسر الميم: هي الْمِجْرفة، إلا أنها من حديد، وسحوت الطينَ عن وجه الأرض سَحْوًا، من باب قال: جَرَفتُه بالمسحاة
(2)
.
(فَنَادَوْهُ)؛ أي: ناى جريجًا قومه (فَصَادَفُوهُ)؛ أي: وجدوه حال كونه (يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، قَالَ: فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ) بفتح أوله، من باب ضرب، (دَيْرَهُ)؛ أي: صومعته محل عبادته، (فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ)؛ أي: هَدْم ديره، (نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: سَلْ هَذِهِ) وفي الرواية التالية: "قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيّ، فوَلَدَتْ مِنْكَ"، (قَالَ: فَتَبَسَّمَ) جريج تعجّبًا من اتّهامهم له بالفاحشة، (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ)؛ أي: بعد أن توضّأ وصلَّى (فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ؟) وفي الرواية التالية: "فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاؤُوا بِه، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِه، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ "(قَالَ: أَبِي رَاعِي الضَّأْن، فَلَمَا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ)؛ أي: من الصبي، (قَالُوا) نادمين على ما فعلوا من هَدْم صومعته:(نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) تعظيمًا لك، وسترًا لإجرامنا بالهدم. (قَالَ: لَا)؛ أي: لا تبنوها بالذهب والفضّة، (وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ) التراب بناءها من قبلُ، (ثُمَّ عَلَاهُ")؛ أي: ارتفع إلى ما تبقّى من عليّته، أو يكون هذا بعدما أعادوا بناءها، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وسيأتي بيان مسائله في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى -.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6488]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 483.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 268 - 269.
رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً، فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاِتي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاِته، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أتتْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاِتي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاِته، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أتتْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أي: رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاتي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاِته، فَقَالَت: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَات، فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسرَائِيلَ جُرَيْجًا، وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأةٌ بَغِيٌّ، يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفتِنَنَّهُ لَكُمْ، قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِه، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ، قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ، فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بهَذِهِ الْبَغِيّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاؤُوا بِه، فَقَالَ: دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِه، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ، وَيَتَمَسَّحُونَ بِه، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ، كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا. وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّه، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ، وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ، وَأَقْبَلَ إِلَيْه، فَنَظَرَ إِلَيْه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِه، فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ"، قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَحْكِي ارْتضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِه، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا. قَالَ: "وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ، وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْت، سَرَقْت، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: حَلْقَى
(1)
مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَة، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْني مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْني مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَة، وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا،
(1)
وفي نسخة: "فقالت: يا بُنيّ حلقى".
وَيَقُولُونَ: زَنَيْت، سَرَقْت، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْني مِثْلَهَا، فَقُلْتَ:"اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْت، وَلَمْ تَزْن، وَسَرَقْت، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ) النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُوَنَ) الواسطيّ تقدّم قريبًا.
3 -
(جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) أبو النضر البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاَثَةٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: المهد: أصله مصدَرُ مهّدت الشيءَ أُمَهِّده: إذا سوّيته، وعدّلته، فمَهْد الصبيّ: كلُّ محل يُسوّى له، ويوطّأ، وقد يكون سريره، وقد يكون حجر أمه، كما قال قتادة: في قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 29]؛ أي: في حجر أمه.
قال: وظاهر هذا الحصر يقتضي أن لا يوجد صغير تكلم في المهد إلا هؤلاء الثلاثة، وهم: عيسى، وصبيّ جريج، والصبيّ المتعوّذ من الجبّار، وقد جاء من حديث صهيب المذكور في تفسير سورة البروج في قصة الأخدود أن امرأة جيء بها لتُلْقَى في النار على إيمانها، ومعها صبيّ لها -في غير كتاب مسلم: يرضع- فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمّه اصبري، فإنك على الحقّ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن شاهد يوسف كان صبيًّا في المهد، وقال الضحاك: تكلم في المهد ستة: شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج، وصاحب الأخدود.
قلت
(1)
: فأسقط الضحاك صبيّ الجبّار، وذَكَر مكانه يحيى، وعلى هذا
(1)
القائل القرطبيّ رحمه الله.
فيكون المتكلمون في المهد سبعة، فبطل الحصر بالثلاثة المذكورين في الحديث.
قلت
(1)
: ويجاب عن ذلك: بأن الثلاثة المذكورين في الحديث هم الذين صحّ أنهم تكلموا في المهد، ولم يُختلف فيهم فيما علمت، واختُلف فيمن عداهم، فقيل: إنهم كانوا كبارًا بحيث يتكلمون ويعقلون، وليس فيهم أصح من حديث صاحب الأخدود، ولم تُسلَّم صحة الجميع، فيرتفع الإشكال بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بما كان في عِلمه، مما أُوحي عليه في تلك الحال، ثم بعد هذا أعلمه الله تعالى بأشياء من ذلك، فأخبرنا بذلك على ما في علمه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": في هذا الحصر نظر، إلا أن يُحْمَل على أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك قبل أن يعلم الزيادة على ذلك، وفيه بُعْدٌ، ويَحْتَمِل أن يكون كلام الثلاثة المذكورين مقيّدًا بالمهد، وكلام غيرهم من الأطفال بغير مهد، لكنه يعكر عليه أن في رواية ابن قتيبة أن الصبي الذي طرحته أمه في الأخدود كان ابن سبعة أشهر، وصرَّح بالمهد في حديث أبي هريرة، وفيه تعَقُّب على النوويّ في قوله: إن صاحب الأخدود لم يكن في المهد، والسبب في قوله هذا ما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد، والبزار، وابن حبان، والحاكم:"لم يتكلم في المهد إلا أربعة"، فلم يذكر الثالث الذي هنا، وذَكَر شاهد يوسف، والصبي الرضيع الذي قال لأمه، وهي ماشطة بنت فرعون لمّا أراد فرعون إلقاء أمه في النار: اصبري يا أمه، فإنّا على الحقّ، وأخرج الحاكم نحوه، من حديث أبي هريرة، فيجتمع من هذا خمسة، ووقع ذِكر شاهد يوسف أيضًا في حديث عمران بن حصين، لكنه موقوف، وروى ابن أبي شيبة من مرسل هلال بن يساف، مثل حديث ابن عباس، إلا أنه لم يذكر ابن الماشطة، وفي "صحيح مسلم" من حديث صهيب في قصة أصحاب الأخدود:"أن امرأة جيء بها لتلقى في النار، أو لتكفر، ومعها صبيّ يرضع، فتقاعست، فقال لها: يا أمه اصبري فإنكِ على الحقّ"، وزعم الضحاك في "تفسيره" أن يحيى تكلم في المهد،
(1)
القائل القرطبيّ رحمه الله.
(2)
"المفهم" 6/ 511 - 512.
أخرجه الثعلبيّ، فإن ثبت صاروا سبعة، وذكر البغويّ في "تفسيره" أن إبراهيم الخليل تكلم في المهد، وفي "سِيَر الواقديّ" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تكلم أوائل ما وُلد، وقد تكلم في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم مبارك اليمامة، وقصته في "دلائل النبوة" للبيهقيّ من حديث معرض -بالضاد المعجمة- والله أعلم.
على أنه اختُلف في شاهد يوسف، فقيل: كان صغيرًا، وهذا أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس، وسنده ضعيف، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وأخرج عن ابن عباس أيضًا ومجاهد: أنه كان ذا لحية، وعن قتادة والحسن أيضًا: كان حكيمًا من أهلها. انتهى
(1)
.
(عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) عليه السلام، (وَصَاحِبُ جُرَيْج) ثم شرح قصّة جُريج بقوله:(وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً) -بفتحِ الصاد المهملة، وسكون الواو- هي البناء المرتفع المحدَّد أعلاه، ووزنها فوْعَلة، من صَمَعتُ: إذا دَقّقت، سُميّت بذلك؛ لأنها دقيقة الرأس
(2)
.
(فَكَانَ فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ) وفي الرواية السابقة: "فجاءت أمه"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الطرق على اسمها، وفي حديث عمران بن حصين:"وكانت أمه تأتيه، فتناديه، فيُشْرِف عليها، فيكلمها، فأتته يومًا، وهو في صلاته"، وفي رواية أبي رافع عند أحمد:"فأتته أمه ذات يوم، فنادته، قالت: أي: جريج أَشْرِفْ عليّ، أكلمك أنا أمك". (وَهُوَ يُصَلِّي) جملة حاليّة، (فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاتِي)؛ أي: اجتمع عليّ إجابة أمي، وإتمام صلاتي، فوفّقني لأفضلهما.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يا رب أمي وصلاتي" قولٌ يدلّ على أن جريجًا رضي الله عنه كان عابدًا، ولم يكن عالِمًا؛ إذ بادنى فكرة يُدرك أن صلاته كانت ندبًا، وإجابة أمه كانت عليه واجبة، فلا تعارُض يوجب إشكالًا، فكان يجب عليه تخفيف صلاته، أو قَطْعها، وإجابة أمه، لا سيما وقد تكرر مجيئها إليه، وتشوّقها، واحتياجها لمكالمته، وهذا كله يدلّ على تعيّن إجابته إياها، ألا ترى
(1)
"الفتح" 8/ 68 - 69، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
(2)
"الفتح" 8/ 68 - 69، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
أنه أغضبها بإعراضه عنها، وإقباله على صلاته، ويبعد اختلاف الشرائع في وجوب برّ الوالدين، وعند ذلك دعت عليه، فأجاب الله تعالى دعاءها؛ تأديبًا له، وإظهارًا لكرامتها، والظاهر من هذا الدعاء أن هذه المرأة كانت فاضلةً عالمةً، ألا ترى كيف تحرزت في دعائها، فقالت: اللَّهُمَّ لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات، فقالت: حتى ينظر، ولم تقل غير ذلك، وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث: ولو دعت عليه أن يُفْتَن لَفُتن، وهى أيضًا: لو كظمت غيظها، وصبرت لكان ذلك الأَولى بها، لكن لمّا عَلِم الله تعالى صِدْق حالهما لَطَف بهما، وأظهر مكانتهما عنده بما أظهر من كرامتهما.
وفائدته: تأكُّد سعي الولد في إرضاء الأم، واجتناب ما يغيّر قلبها، واغتنام صالح دعوتها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"الجنة تحت أقدام الأمهاتُ"
(1)
أي: من انتهى من التواضع لأمه بحيث لا يشقّ عليه أن يضع قدمها على خدّه استوجب بذلك الجنة، والأَولى في هذا الحديث أن يقال: أنه خرج مخرج المَثَل الذي يُقصد به الإعياء في المبرّة والإكرام، وهو نحو من قوله صلى الله عليه وسلم:"الجنة تحت ظلال السيوف"
(2)
. انتهى
(3)
.
(فَأَقْبَلَ عَلَى صلَائِهِ) وفي رواية البخاريّ: "فدعته، فقال: أُجيبها، أو أصلي"، زاد في رواية له:"فأبى أن يجيبها"، وفي حديث عمران بن حصين أنها جاءته ثلاث مرات، تناديه في كل مرة ثلاث مرات، وفي رواية الأعرج عند الإسماعيليّ:"فقال: أمي، وصلاتي لربي، أوثر صلاتي على أمي، ذَكَره ثلاثًا".
(1)
الحديث بهذا اللفظ ضعيف، بل قال الشيخ الألباني: موضوعٌ، ونصّه:"الجنة تحت أقدام الأمهات، من شئن أدخلن، ومن شئن أخرجن" هكذا موضوع، ويغني عنه حديث معاوية بن جاهمة، أنه جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال:"هل لك أمّ " قال: نعم، قال:"فالزمها، فإن الجنة تحت رجليها"، رواه النسائيّ، وغيره؛ كالطبرانيّ، وسنده حسنٌ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وأقره المنذريّ. انتهى. "السلسلة الضعيفة" 2/ 59.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
"المفهم" 6/ 512 - 513.
قال الحافظ رحمه الله: وكل ذلك محمول على أنه قاله في نفسه، لا أنه نطق به، ويَحْتَمِل أن يكون نطق به على ظاهره؛ لأن الكلام كان مباحًا عندهم، وكذلك كان في صدر الإسلام، وقد قدمتُ
(1)
في أواخر الصلاة ذِكر حديث يزيد بن حوشب عن أبيه، رفعه:"لو كان جريج عالِمًا لَعَلِم أن إجابة أمه أَولى من صلاته". انتهى
(2)
.
(فَانْصَرَفَتْ)؛ أي: رجعت إلى بيتها بعد أن أيست من إجابة ولدها نداءها، (فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ) الظاهر أن "كان" تامّة، واسمها "الغد"، و"من" زائدة، على رأي من يرى من النحاة زيادتها في الإثبات؛ أي: فلما جاء الغد (أتتْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاِتي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاِته، فَانْصَرَفَتْ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ، وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أي رَبِّ أُمِّي، وَصَلَاتي، فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاِته، فَقَالَت: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ) وفي رواية أبي رافع الماضية: "حتى تريه المومسات"، وفي رواية للبخاريّ من هذا الوجه:"فقالت: اللَّهُمَّ لا تُمِتْه حتى تريه وجوه المومسات"، وفي رواية الأعرج:"حتى ينظر في وجوه المياميس"، ومثله في رواية أبي سلمة، وفي حديث عمران بن حصين:"فغَضِبت، فقالت: اللَّهُمَّ لا يموتنّ جريج حتى ينظر في وجوه المومسات"، والمومسات: جمع مومسة -بضم الميم، وسكون الواو، وكسر الميم، بعدها سين مهملة- وهي الزانية، وتُجمع على مواميس، بالواو، وأنكر ابن الخشاب جَمْعه بالمياميس بالتحتانية، ووجّهه غيره، وجوّز صاحب "المطالع" فيه الهمزة بدل الياء، بل أثبتها روايةً، ووقع في رواية الأعرج:"فقالت: أبيتَ أن تُطْلع إليّ وجهك، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة".
(فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا، وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ)؛ أي: زانية، يقال: بغت المرأة تبغي بِغاءً بالكسر والمدّ: فجَرَتْ، فهي بغيّ، والجمع بغايا،
(1)
هذا من كلام الحافظ رحمه الله.
(2)
"الفتح" 8/ 68 - 69، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
وهو وصفٌ مختصّ بالمرأة، ولا يقال للرجل: بغيّ، قاله الأزهريّ
(1)
. (يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا)؛ أي: يُضرب بجمالها المَثَل؛ لانفرادها به عن نساء قومها.
قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذه المرأة، لكن في حديث عمران بن حصين أنها كانت بنت ملك القرية، وفي رواية الأعرج:"وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم"، ونحوه في رواية أبي رافع عند أحمد، وفي رواية أبي سلمة:"وكان عند صومعته راعي ضأن، وراعية معزى".
ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأنها خرجت من دار أبيها بغير علم أهلها متنكرة، وكانت تعمل الفساد إلى أن ادعت أنها تستطيع أن تفتن جريجًا، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعية لِيُمْكِنها أن تأوي إلى ظل صومعته؛ لتتوصل بذلك إلى فتنته.
(فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ) زاد في رواية أحمد: "قالوا: قد شئنا"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَتَعَرَّضَتْ لَهُ)؛ أي: طلبت منه أن يواقعها، (فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِه، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا، فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ)؛ أي: فلما سألها: ممن هذا الولد؟ قالت: (هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ) وفي رواية أبي رافع الماضية: "فقيل لها: ما هذا؟ فقالت: هو من صاحب هذا الدَّير"، وزاد في رواية أحمد:"فأُخذت، وكان مَن زنى منهم قُتل، فقيل لها: ممن هذا؟ قالت: هو من صاحب الصومعة"، زاد الأعرج:"نزل إليّ من صومعته"، وفي رواية الأعرج:"فقيل لها: من صاحبك؟ قالت: جريج الراهب، نزل إليّ، فأصابني"، زاد أبو سلمة في روايته:"فذهبوا إلى الملك، فأخبروه، قال: أدركوه، فأْتوني به"، وفي رواية أبي رافع عنده:"فقالوا: أي جريجُ انزل، فأبى يقبل على صلاته، فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل، فجعلوا في عنقه وعنقها حبلًا، وجعلوا يطوفون بهما في الناس"، وفي رواية أبي سلمة:"فقال له الملك: ويحك يا جريج كنا نراك خير الناس، فأحبلت هذه، اذهبوا به، فاصلُبوه"، وفي حديث عمران:"فجعلوا يضربونه، ويقولون: مراءٍ، تخادع الناس بعملك"، وفي رواية الأعرج: "فلما مروا به نحو
(1)
"المصباح المنير" 1/ 57.
بيت الزواني خرجن ينظرن، فتبسم، فقالوا: لم يضحك حتى مرَّ بالزواني". (فَأَتَوْهُ)؛ أي: أتاه أهل القرية (فَاسْتَنْزَلُوهُ)؛ أي: طلبوا نزوله إليهم، (وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ، وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ) وفي حديث عمران: "فما شعر حتى سمع بالفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلكم ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل، فتدلى"، (فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟، قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيّ، فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاؤوا به، فَقَالَ: دَعُونِي)؛ أي: اتركوني (حَتَّى أُصَلِّيَ، فَصَلَّى)؛ أي: بعد أن توضّأ، ففي رواية البخاريّ: "فتوضأ، وصلى"، وفي رواية وهب بن جرير: "فقام، وصلى، ودعا"، وفي حديث عمران: "قال: فتَوَلّوا عني، فتولَّوا عنه، فصلى ركعتين".
(فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ، فَطَعَنَ فِي بَطْنِه، وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَان الرَّاعِي) وفي رواية أبي رافع الماضية: "ثم مسح رأس الصبيّ، فقال: من أبوك؟ قال: أبي راعي الضأن"، وفي روايته عند أحمد:"فوضع أصبعه على بطنها"، وفي رواية البخاريّ:""ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي"، زاد في رواية وهب بن جرير: افطعنه بإصبعه، فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ فقال: أنا ابن الراعي"، وفي مرسل الحسن عند ابن المبارك في "البرّ والصلة":"أنه سألهم أن يُنظروه، فأنْظَروه، فرأى في المنام من أمره أن يطعن في بطن المرأة، فيقول: أيتها السخلة من أبوك؟ ففعل، فقال: راعي الغنم"، وفي رواية أبي سلمة:"فأُتي بالمرأة والصبي، وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي، وقال: أبي راعي الضأن"، وفي رواية الأعرج:"فلما أُدخل على ملكهم، قال جريج: أين الصبيّ الذي ولدته؟ فأُتي به، فقال: من أبوك؟ قال: فلان، سمى أباه".
قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم الراعي، ويقال: إن اسمه صهيب، وأما الابن فجاء بلفظ:"فقال: يا بابوس"، وليس اسمه كما زعم الداوديّ، وإنما المراد به الصغير، وفي حديث عمران:"ثم انتهى إلى شجرة، فأخذ منها غصنًا، ثم أتى الغلام، وهو في مهده، فضربه بذلك الغصن، فقال: من أبوك؟ "، ووقع في "التنبيه" لأبي الليث السمرقنديّ بغير إسناد: "أنه قال للمرأة: أين أصبتك؟ قالت: تحت شجرة، فأتى تلك الشجرة، فقال: يا شجرة
أسألك بالذي خلقك من زنى بهذه المرأة؟ فقال كل غصن منها: راعي الغنم".
ويُجمع بين هذا الاختلاف بوقوع جميع ما ذُكر، بأنه مسح رأس الصبيّ، ووضع إصبعه على بطن أمه، وطعنه بإصبعه، وضربه بطرف العصا التي كانت معه، وأبعدَ من جَمَع بينها بتعدد القصة، وأنه استنطقه وهو في بطنها مرةً قبل أن تلد، ثم استنطقه بعد أن وُلد.
زاد في رواية وهب بن جرير: "فوثبوا إلى جريج، فجعلوا يقبّلونه"، وزاد الأعرج في روايته:"فأبرأ الله جريجًا، وأعظم الناس أمر جريج"، وفي رواية أبي سلمة:"فسبّح الناس، وعجبوا".
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي" قد يقال: إن الزاني لا يلحقه الولد، وجوابه من وجهين: أحدهما: لعله كان في شرعهم يَلحقه، والثاني: أن المراد: مِن ماء مَن أنت؟ وسمّاه أبًا مجازًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْج يُقَبِّلُونَهُ، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ) تبرّكًا، (وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ؟، قَالَ: لَا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ، كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا) وفي رواية وهب بن جرير:"ابنوها من طين كما كانت"، وفي رواية أبي رافع:"فقالوا: نبني ما هدمنا من دَيرك بالذهب والفضة؟، قال: لا، ولكن أعيدوه كما كان، ففعلوا"، وفي نَقْل أبي الليث:"فقال له الملِك: نبنيها من ذهب؟، قال: لا، قال: من فضة؟ قال: لا، إلا من طين"، زاد في رواية أبي سلمة:"فردّوها، فرجع في صومعته، فقالوا له: بالله مم ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها عليّ أمي".
(وَبَيْنَا" هي "بين" الظرفيّة، أُشبعت فتحتها، فتولّدت منها الألف، كما تقدّم البحث فيها غير مرّة. (صَبِيٌّ يَرْضَعُ) بفتح الضاد وكَسْرها، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَضِعَ الصبيّ رَضَعًا، من باب تَعِب في لغة نجد، ورَضَعَ رَضْعًا، من باب ضرب: لغةٌ لأهل تهامة، وأهلُ مكة يتكلمون بها، وبعضهم يقول: أصل المصدر من هذه اللغة كسر الضاد، وإنما السكون تخفيف، مثل الْحَلِف،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 107.
والْحَلْف، ورَضَعَ يَرْضَعُ بفتحتين لغة ثالثةٌ، ورَضَاعًا، ورَضَاعَةً بفتح الراء، وأَرْضَعَتْهُ أمه، فَارْتَضَعَ، فهي مُرْضِعٌ، ومُرْضِعَةٌ أيضًا، وقال الفراء، وجماعة: إن قُصِد حقيقة الوصف بِالإِرْضَاع، فَمُرْضِعٌ، بغير هاء، وإن قُصد مجاز الوصف، بمعنى أنها محل الإِرْضَاعِ فيما كان، أو سيكون، فبالهاء، وعليه قوله تعالى:{تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج: 2]، ونساء مَرَاضِعُ، ومَرَاضِيعُ، ورَاضَعْتُهُ مُرَاضَعَةً، ورِضَاعًا، ورِضَاعَةً بالكسر. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِنْ أُمِّهِ) قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسمها، ولا على اسم ابنها، ولا على اسم أحد ممن ذُكِر في القصّة المذكورة
(2)
. (فَمَرَّ رَجُلٌ) في رواية أحمد: "فارسٌ متكبّر"، (رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ) بالفاء: هي النشيطة الحادّة الفريّة، وقد فَرُه بضمّ الراء فَرَاهة، وفراهية
(3)
. (وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ) الشارة: الهيئة واللباس، قاله النوويّ، وقال في "الفتح": ذو شارة بالشين المعجمة: أي: صاحب حُسْن، وقيل: صاحب هيئة، ومنظر، وملبس حَسَن، يُتعجب منه، ويشار إليه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الدابّة الفارهة: الحسنة النجيبة، والشارة: الهيئة المزيّنة التي يشار إليها من حسنها، و"حَلْقَى" -غير مصروف-؛ لأنَّ ألفه للتأنيث، كسكرى، وهي كلمة جرت في كلامهم مجرى المَثَل، وأصلها فيمن أصيب حَلْقها بوجع، وقد تقدَّم أن عقرى وحلقى من الكلمات التي جرت على ألسنتهم في معرض الدعاء، غير المقصود، وأم هذا الصبيّ الرضيع نظرت إلى الصورة الظاهرة، فاستحسنت صورة الرجل، وهَيْاته، فدعت لابنها بمثل هذا، واستقبحت صورة الأَمَة وحالتها، فدَعَتْ ألا يُجعل ابنها في مثل حالتها، فأراد الله تعالى بلطفه تنبيهها بأن أنطق لها ابنها الرضيع بما تجب مراعاته من الأحوال الباطنة، والصفات القلبيّة، وهذا كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم"، رواه مسلم، وكما قال بعض حكماء الشعراء [من مجزوّ الكامل]:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 229.
(2)
"الفتح" 8/ 74، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 107.
لَيْسَ الْجَمَالُ بِمِئْزَرٍ
…
فَاعْلَمْ وَإِنْ رُدِّيتَ بُرْدَا
إِنَّ الْجَمَالَ مَعَادِنٌ
…
وَمَنَاقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدَا
وهذا الصبيّ ظاهره أن الله تعالى خلق فيه عقلًا وإدراكًا كما يخلقه في الكبار عادةً، ففَهِم كما يفهمون، ويكون خرق العادة في كونه خَلق له ذلك قبل أوانه، ويَحْتَمِل أن يكون أجرى الله ذلك الكلام على لسانه، وهو لا يعقله، كما خلق في الذراع والحصى كلامًا له معنى صحيح، مع مشاهدة تلك الأمور باقية على جمادتها، كل ذلك ممكن، والقدرة صالحة، والله تعالى أعلم بالواقع منهما.
فأمَّا عيسى عليه السلام فخلق الله له في مهده ما خلق للعقلاء والأنبياء، في حال كمالهم من العقل الكامل، والفهم الثاقب، كما شهد له بذلك القرآن. انتهى
(1)
.
(فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ) الصبي (الثَّدْيَ)؛ أي: ارتضاع الثدي، (وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى الرجل الراكب (فَنَظَرَ إِلَيْه، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِه، فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ"، قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَحْكِي ارْتضَاعَهُ بِإِصْبَعِهِ السَّبَابَةِ فِي فَمِهِ) صلى الله عليه وسلم، وفيه المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل، (فَجَعَلَ يَمُصُّهَا) بضمّ الميم، وفتحها، من باب قتل، وتَعِبَ، ومنهم من يقتصر على الثاني، وامتصّه بمعناه، قاله الفيّوميّ، وقال في "التاج": مَصِصْتُه بالكَسْر، أَمَصُّه، بالفَتْح، زاد الأَزْهَرِيّ: مَصَصْتُه بالفَتْح، أَمُصُّهُ، بالضَّمّ، كخَصَصْتُه أَخُصُّه مَصًّا، قال: والفَصِيحُ الجَيِّدُ. مَصِصْتُه بالكَسْر أَمَصُّ: أي: شَرِبْتُهُ شُرْبًا رَفِيقًا. انتهى
(2)
. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَمَرُّوا بِجَارِيةٍ) وفي رواية البخاريّ: "ثُمّ بأمة"، وقوله:"ثم مُرّ بأمة" بضم الميم، على البناء للمجهول، زاد أحمد عن وهب بن جرير:"تُضرَب". (وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا) وفي رواية الأعرج، عن أبي هريرة:"تُجَرّر، ويُلعب بها"، وهي بجيم مفتوحة، بعدها راء ثقيلة، ثم راء أخرى، (وَيَقُولُونَ: زَنَيْت، سَرَقْتِ) بكسر التاء فيهما على المخاطبة، وبسكونها على الخبر، (وَهِيَ
(1)
"المفهم" 6/ 515 - 516.
(2)
"تاج العروس" 1/ 4535.
تَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وفي رواية أحمد:"يقولون: سرقت، ولم تسرق، زنيت، ولم تَزْن، وهي تقول: حسبي الله"، وفي رواية الأعرج:"يقولون لها: تزني، وتقول: حسبي الله، ويقولون لها: تسرق، وتقول: حسبي الله"، ووقع في رواية خلاس:"أنها كانت حبشية، أو زنجية، وأنها ماتت، فجرّوها، حتى ألقوها"، وهذا معنى قوله في رواية الأعرج:"تُجَرَّر". (فَقَالَتْ أمُّهُ)؛ أي: أم الصبيّ، (اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْني مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْني مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ)؛ أي: في ذلك المكان؛ أو: في ذلك الوقت (تَرَاجَعَا) الأم والصبيّ، (الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ) الأم: (حَلْقَى) وفي بعض النسخ: "فقالت: يا بُنيّ حَلْقَى"، قال النوويّ رحمه الله: معنى تراجعا الحديث: أقبلت على الرضيع تحدثه، وكانت أوّلًا لا تراه أهلًا للكلام، فلما تكرر منه الكلام عَلِمت أنه أهل له، فسألته، وراجعته. انتهى.
وقولها: "حَلْقَى" مقصور، غير منوَّن، مثل سكرى، ومن المحدثين من ينوّن، وهو الذي صوّبه أبو عبيد، قال: معناه: أصابه الله تعالى بوجع في حلقه، فهو دعاء على الولد، وقال ابن الأنباريّ: ظاهره الدعاء على نفسها، وليس بدعاء، وقال غير أبي عبيد:"حلقى" مثل غضبَى: أي: جعلها الله كذلك، والألف ألف التأنيث، وقال الأصمعيّ: هي كلمة تقال للأمر يُتعجّب منه: عقرى، وحلقى، وخَمْشَى: أي: يعقر منه النساء خدودهنّ بالخدش، ويحلقن رؤوسهن للتسلُّب على أزواجهنّ لمصائبهن، ومن التعجب في حديث الطفل الذي تكلم في المهد، فقالت له أمه:"حلقى"، أفاده في "المشارق"
(1)
.
(مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَة، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الأَمَة، وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا، وَيَقُولُونَ: زَنَيْت، سَرَقْت، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا) قال النوويّ رحمه الله: أي: اللَّهُمَّ اجعلني سالِمًا من المعاصي، كما هي سالمة، وليس المراد مثلها في النسبة إلى باطل تكون منه بريئة
(2)
. (قَالَ) الصبيّ مبيّنًا سبب
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 197.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 108.
كلامه هذا: (إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا) وفي رواية أحمد: "فقال: يا أمتاه، أما الراكب ذو الشارة فجبار من الجبابرة"، وفي رواية الأعرج:"فإنه كافر"، (فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْت، وَلَمْ تَزْن، وَسَرَقْت، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا") وفي الحديث أن نفوس أهل الدنيا تقف مع الخيال الظاهر، فتخاف سوء الحال، بخلاف أهل التحقيق، فوقوفهم مع الحقيقة الباطنة، فلا يبالون بذلك مع حسن السريرة، كما قال تعالى حكاية عن أصحاب قارون حيث خرج عليهم:
…
{يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [القصص: 79 - 80]، وفيه أن البشر طُبعوا على إيثار الأولاد على الأنفس بالخير لطلب المرأة الخير لابنها، ودَفْع الشر عنه، ولم تذكر نفسها، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 6487 و 6488](2550)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2482) و"الأنبياء"(3436 و 3466)، وعلّقه في "الصلاة"(1206)، وفي "الأدب المفرد"(33)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 307 - 308 و 395 و 433 و 434)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6488 و 6489)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 178)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 287 و 288)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 194)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عِظَم برّ الوالدين، وتأكد حقّ الأمّ، وإجابة دعائهما، ولو كان الولد معذورًا، لكن يختلف الحال في ذلك بحسب المقاصد.
2 -
(ومنها): أن الأمرين إذا تعارضا بُدئ بأهمهما.
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": فيه إيثارُ إجابة الأم على صلاة التطوع؛ لأن الاستمرار فيها نافلة، وإجابة الأم وبرّها واجب، قال النوويّ
وغيره: إنما دعت عليه، فأجيبت؛ لأنه كان يمكنه أن يخفف، ويجيبها، لكن لعله خَشِي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته، والعود إلى الدنيا، وتعلّقاتها. قال الحافظ: كذا قال النوويّ، وفيه نظرٌ؛ لِمَا تقدّم من أنها كانت تأتيه، فيكلمها، والظاهر أنها كانت تشتاق إليه، فتزوره، وتقتنع برؤيته، وتكليمه، وكأنه إنما لم يخفف، ثم يجيبها؛ لأنه خشي أن ينقطع خشوعه، وفي حديث يزيد بن حوشب، عن أبيه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لو كان جريج فقيهًا لعلم أن إجابة أمه أَولى من عبادة ربه"، أخرجه الحسن بن سفيان، وهذا إذا حُمِل على إطلاقه استفيد منه جواز قطع الصلاة مطلقًا لإجابة نداء الأم نفلًا كانت، أو فرضًا، وهو وجه في مذهب الشافعيّ، حكاه الرويانيّ، وقال النوويّ تبعًا لغيره: هذا محمول على أنه كان مباحًا في شرعهم، وفيه نَظَر، والأصح عند الشافعية أن الصلاة إن كانت نفلًا، وعَلِم تأذي الوالد بالترك، وَجَبت الإجابة، وإلا فلا، وإن كانت فرضًا، وضاق الوقت لم تَجِب الإجابة، وإن لم يَضِق وَجَب عند إمام الحرمين، وخالفه غيره؛ لأنها تلزم بالشروع، وعند المالكية أن إجابة الوالد في النافلة أفضل من التمادي فيها، وحكى القاضي أبو الوليد أن ذلك يختص بالأم دون الأب، وعند ابن أبي شيبة من مرسل محمد بن المنكدر ما يشهد له، وقال به مكحول، وقيل: إنه لم يقل به من السلف غيره. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن الله تعالى يجعل لأوليائه مخارج عند ابتلائهم بالشدائد غالبًا، قال الله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، وقد يُجري عليهم الشدائد في بعض الأوقات زيادةً في أحوالهم، وتهذيبًا لهم، فيكون لطفًا.
5 -
(ومنها): استحباب الوضوء، والصلاة عند الدعاء بالمهمات.
6 -
(ومنها): أن الوضوء كان معروفًا في شَرْع من قبلنا، فقد ثبت في هذا الحديث في "صحيح البخاريّ":"فتوضأ، وصلى" وقد حكى القاضي عياض عن بعضهم أنه زعم اختصاصه بهذه الأمة، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال في "الفتح": وفيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة، خلافًا لمن
(1)
"الفتح" 8/ 72 - 73، كتاب "أحاديث الأنبياء" رقم (3436).
زعم ذلك، وإنما الذي يختص بها الغُرّة والتحجيل في الآخرة، وقد تقدم في قصة إبراهيم عليه السلام أيضًا مثل ذلك في خبر سارة مع الجبار، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة؛ خلافًا للمعتزلة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذا الحديث ما يدلّ على صحة وقوع كرامات الأولياء، وهذا قول جمهور أهل السُّنَّة والعلماء، وقد نُسب لبعض العلماء إنكارها، والظن بهم أنهم ما أنكروا أصلها، لتجويز العقل لها، ولمَا وقع في الكتاب، والسُّنَّة، وأخبار صالحي هذه الأمة، مما يدلّ على وقوعها، وإنَّما محل الإنكار ادّعاء وقوعها ممن ليس موصوفًا بشروطها، ولا هوأهل لها، وادّعاء كثرة وقوع ذلك دائمًا متكررًا حتى يلزم عليه أن يرجع خرق العادة عادة، وذلك إبطال لسُنَّة الله تعالى، وحسمُ السبل الموصلة إلى معرفة نبوة أنبياء الله تعالى. انتهى
(1)
.
8 -
(ومنها): بيان أن كرامات الأولياء قد تقع باختيارهم، وطَلبَهم، قال النوويّ: وهذا هو الصحيح عند أصحابنا المتكلمين، ومنهم من قال: لا تقع باختيارهم وطلبهم.
وقال ابن بطال: يَحْتَمِل أن يكون جريج كان نبيًّا، فتكون معجزة، قال الحافظ: كذا قال، وهذا الاحتمال لا يتأتى في حق المرأة التي كلمها ولدها المرضع، كما في بقية الحديث.
9 -
(ومنها): بيان أن الكرامات قد تكون بخوارق العادات على جميع أنواعها، ومَنَعه بعضهم، وادَّعَى أنها تختص بمثل إجابة دعاء، ونحوه، قال النوويّ: وهذا غلط من قائله، وإنكار للحسّ، بل الصواب جريانها بقلب الأعيان، وإحضار الشيء من العدم ونحوه. انتهى
(2)
.
10 -
(ومنها): الرفق بالتابع إذا جرى منه ما يقتضي التأديب؛ لأن أم جريج مع غضبها منه لم تَدْعُ عليه إلا بما دَعَت به خاصّة، ولولا طلبها الرفق به لَدَعَتْ عليه بوقوع الفاحشة، أو القتل.
(1)
"المفهم" 6/ 517.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 108.
11 -
(ومنها): بيان أن صاحب الصدق مع الله تعالى لا تضره الفتن.
12 -
(ومنها): بيان قوّة يقين جريج المذكور، وصحة رجائه؛ لأنه استنطق المولود مع كون العادة أنه لا ينطق، ولولا صحة رجائه بنطقه ما استنطقه.
13 -
(ومنها): أن فيه جواز الأخذ بالأشدّ في العبادة لمن عَلِم من نفسه قوّة على ذلك.
14 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به بعضهم على أن بني إسرائيل كان من شَرْعهم أن المرأة تُصَدَّق فيما تدعيه على الرجال من الوطء، ويُلحق به الولد، وأنه لا ينفعه جَحْد ذلك، إلا بحجة تدفع قولها.
15 -
(ومنها): أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة.
16 -
(ومنها): بيان أن الْمَفْزَع في الأمور المهمة إلى الله تعالى يكون بالتوجه إليه في الصلاة.
17 -
(ومنها): أنه استَدَلّ بعض المالكية بقول جريج: "من أبوك يا غلام؟ " بأن من زنى بامرأة، فولدت بنتًا لا يحل له التزوج بتلك البنت؛ خلافًا للشافعية، ولابن الماجشون من المالكية، ووجه الدلالة أن جريجًا نَسَب ابن الزنا للزاني، وصدّق الله نسبته بما خرق له من العادة في نُطق المولود بشهادته له بذلك، وقوله:"أبي فلان الراعي"، فكانت تلك النسبة صحيحة، فيلزم أن يجري بينهما أحكام الأبوّة والبنوّة، وخرج التوارث، والولاء بدليل، فبقي ما عدا ذلك على حكمه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي" يَتمسك به من قال: إن الزنى يُحَرِّم كما يُحَرِّم الوطء الحلال، فلا تحل أم المزني بها، ولا بناتها للزاني، ولا تحل المزني بها لآباء الزاني، ولا لأولاده، وهي رواية ابن القاسم عن مالك في "المدونة"، وفي "الموطأ": إن الزنى لا يحرم حلالًا، ويُستدلّ به أيضًا: أن المخلوقة من ماء الزاني لا تحل للزاني بأمها، وهو المشهور، وقد قال عبد الملك ابن الماجشون: إنها تحلّ، ووجه التمسّك على تينك المسألتين: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حَكَى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني، وصدّق الله تسميته بما خرق له من العادة في نطق الصبيّ
بالشهادة له بذلك، فقد صدّق الله جريجًا في تلك النسبة، وأخبر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح لجريج، وإظهار كرامته، فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى، وبإخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فثبتت الْبُنُوّة، وأحكامها.
لا يقال: فيلزم على هذا أن تجري بسببهما أحكام النبوة والأبوة من التوارث، والولايات، وغير ذلك، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما، فلم تصح تلك النسبة؛ لأنَّا نجيب عن ذلك بأن ذلك موجب ما ذكرناه، وقد ظهر ذلك في الأم من الزنى، فإنَّ أحكام النبوّة والأمومة جارية عليهما، فما انعقد الإجماع عليه من الأحكام أنه لا يجري بينهما استثناء، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل. وفيها مباحث تستوفي في غير هذا الموضع -إن شاء الله تعالى - انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن قول من قال: لا يتعلّق بالزنا تحريم؛ إذ الحرام لا يحرّم الحلال، فيجوز للزاني أن يتزوج بأيم المزنيّ بها، أو بأختها هو الأرجح، وهو الذي يقتضيه ظاهر صنيع البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، حيث نقل القول بالجواز عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، فإنه قال: إذا زنى بأخت امرأته لم تحرم عليه امرأته، وقال أيضًا: إذا زنى بها لا تحرم عليه امرأته، وضعّف ما نُقل عنه من التحريم، وعزا هذا القول في "الفتح" إلى الجمهور
(2)
، والله تعالى أعلم.
18 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نبني صومعتك من ذهب
…
إلخ" يدلّ على أن من تعدَّى على جدار أو دار وجب عليه أن يعيده على حالته؛ إذا انضبطت صفته، وتمكّنت مماثلته، ولا تلزم قيمة ما تعدّى عليه، وقد بوّب البخاريّ على حديث جريج هذا: "من هدم حائطأ بنى مثله"، وهو تصريح بما ذكرناه، وهو مقتضى قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فإن تعذرت المماثلة، فالمرجع إلى القيمة، وهو مذهب الكوفيين، والشافعيّ، وأبي ثور في الحائط، وفي "العتبية" عن
(1)
"المفهم" 6/ 514.
(2)
"الفتح" 11/ 399.
مالك مثله، ومذهب أهل الظاهر في كل مُتْلَف هذا، ومشهور مذهب مالك وأصحابه، وجماعة من العلماء أن فيه وفي سائر المتلفات المضمونات القيمة، إلا ما يرجع إلى الكيل والوزن، بناءً منهم على أنه لا تتحقق المماثلة إلا فيهما. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابٌ رَغِمَ أَنْفُ مَنْ أَدْرَكَ أَبَويه، أَو أَحَدَهُمَا عِنْدَ الْكِبَر، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6489]
(2551) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ"، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ أَبَويْهِ عِنْدَ الْكِبَر، أَحَدَهُمَا، أَو كلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: (رَغِمَ أَنْفُ) بترك
(1)
"المفهم" 6/ 514 - 515.
التنوين؛ لإضافته إلى "من أدرك
…
إلخ" مقدّرًا، وفي الرواية التالية: "رغم أنفه
…
إلخ".
قال أهل اللغة: معناه ذَلّ، وقيل: كَرِهَ، وخَزِي، وهو بفتح الغين المعجمة، وكسرها، وهو الرُّغم، بضم الراء، وفتحها، وكسرها، وأصله: لَصِقَ أنفه بالرُّغام، وهو ترابٌ مختلط برَمْل، وقيل: الرَّغْم: كلُّ ما أصاب الأنف مما يؤذيه، وفيه الحثّ على برّ الوالدين، وعِظَم ثوابه، ومعناه: أن برّهما عند كِبَرهما، وضَعْفهما، بالخدمة، أو النفقة، أو غير ذلك سبب لدخول الجَنَّة، فمن قَصّر في ذلك فاته دخول الجَنَّة، وأرغم الله تعالى أنفه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "رغم أنف رجل": أي: إنه مدعوّ عليه، أو مُخْبَر عنه بلزوم ذلّ وصغار لا يطاق. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّغَامُ بالفتح: التراب، ورَغَمَ أنفه رَغْمًا، من باب قَتَل، ورَغِمَ، من باب تَعِبَ لغةٌ، كناية عن الذلّ، كأنه لَصِق بالرَّغَامِ هوانًا، ويتعدى بالألف، فيقال: أَرْغَمَ الله أنفه، وفعلتُهُ عَلَى رُغْمِ أنفه بالفتح، والضم
(3)
: أي: على كُرْهٍ منه، ورَاغَمْتُهُ: غاضبته، وهذا تَرْغِيمٌ له: أي: إذلالٌ، وهذا من الأمثال التي جرت في كلامهم بأسماء الأعضاء، ولا يريدون أعيانها، بل وضعوها لِمعانٍ غير معاني الأسماء الظاهرة، ولا حظّ لظاهر الأسماء من طريق الحقيقة، ومنه قولهم: كلامه تحت قدميَّ، وحاجته خلف ظهري، يريدون الإهمال، وعدم الاحتفال. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رغم أنفه
…
إلخ " يقال: بكسر الغين، وفتحها، لغتان، والرغم: بفتح الراء، وكسرها، وضمّها، ومعناه: لَصِق بالرَّغام - بفتح الراء -: وهو التراب، وأرغم الله أنفه؛ أي: ألصقه به، وهذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم دعاءٌ مؤكّد على من قصّر في برّ أبويه، ويَحْتَمِل وجهين:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 108 - 109.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 34.
(3)
ذكر في "القاموس" أنه يُثلّث، فليُتنبّه.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 231 - 232.
أحدهما: أن يكون معناه: صرعه الله لأنفه، فأهلكه، وهذا إنما يكون في حقّ من لَمْ يقم بما يجب عليه من بِرّهما.
وثانيهما: أن يكون معناه: أذله الله تعالى؛ لأنَّ من أُلْصِق أنفه الذي هو أشرف أعضاء الوجه بالتراب الذي هو موطئ الأقدام وأخسّ الأشياء، فقد انتهى من الذّلّ إلى الغاية القصوي، وهذا يَصلُح أن يُدْعَى به على من فَرّط في متأكدات المندوبات، ويصلح لمن فَرّط في الواجبات، وهو الظاهر، وتخصيصه عند الكِبَر بالذِّكر، وإن كان برّهما واجبًا على كل حال، إنما كان ذلك؛ لشدّة حاجتهما إليه، ولضَعْفهما عن القيام بكثير من مصالحهما، وليبادر الولدُ اغتنام فرصة برّهما؛ لئلا تفوته بموتهما، فيندم على ذلك. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ") كرّره ثلاث مرّات؛ إشارة إلى تأكيد هذا الأمر، وتعظيمه، (قِيلَ: مَنْ) الذي رَغم أنفه (يَا رَسُولَ اللهِ؛ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَنْ أَدْرَكَ أَبوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَر)؛ أي: وقت كِبَر السنّ، وقوله:(أَحَدَهُمَا، أَو كلَيْهِمَا) منصوب على البدليّة من أبويه، و"أو" هنا للتقسيم، لا للشكّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أحدهما، أو كليهما" كذا الروايات الصحيحة بنصب "أحدهما، أو كليهما"؛ لأنَّه بدلٌ من والديه المنصوب بـ "أدرك"، وقد وقع في بعض النُّسخ:"أحدُهما، أَو كلاهما" مرفوعين على الابتداء، ويُتكلّف لهما إضمار الخبر، والأول أَولى. انتهى
(2)
.
وإنما قيّد بقوله: "عند الكبر" مع أن خدمة الأبوين ينبغي المحافظة عليها في كل زمن؛ لشدة احتياجهما إلى البرّ والخدمة في تلك الحالة، قاله المناويّ رحمه الله
(3)
.
(فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ") لعقوقه لهما، وتقصيره في حقهما، وهو إسناد مجازيّ؛ يعني: ذلّ، وخسر من أدرك أبويه، أو أحدهما في كبر السنّ، ولم يَسْعَ في تحصيل مآربهما، والقيام بخدمتهما، فيستوجبَ الجَنَّة، جعل دخول الجَنَّة بما يلابس الأبوين، وما هو بسببهما بمنزلة ما هو بفعلهما، ومسبَّب
(1)
"المفهم" 6/ 518.
(2)
"المفهم" 6/ 519.
(3)
"فيض القدير" 4/ 34.
عنهما، وتعظيمهما مستلزم لتعظيم الله تعالى، ولذلك قَرَن تعالى الإحسان إليهما، وبرّهما بتوحيده، وعبادته، فمن لَمْ يغتنم الإحسان إليهما، سيما حال كبرهما، فجدير بأن يهان، ويحقّر شأنه
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ثم لَمْ يدخل الجَنَّة" معناه: دخل النار؛ لانحصار منزلَتَي الناس في الآخرة بين جنة ونار، كما قال تعالى:{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7]، فمن قيل فيه: لَمْ يدخل النار منهم: إنه في الجَنَّة، وبالعكس، و"أو" المذكورة هنا للتقسيم، ومعناه: أن المبالغة في برّ أحد الأبوين عند عدم الآخر يُدخل الولد الجَنَّة، كالمبالغة في برّهما معًا؛ ويعني بهذه المبالغة: المبرّة التي تتعيّن لهما في حياتهما، وقد يتعيّن لهما أنواعٌ من البرّ بعد موتهما، كما قد فَعَل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مع الأعرابيّ الذي وَصَله بالعمامة والحمار، ثم ذكر ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك، وكما رَوَى أبو داود عن أبي أُسَيد، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سَلِمة، فقال: يا رسول الله هل بقي من بِرّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وَصِلة الرّحم التي لا توصَل إلَّا بهما، وإكرام صديقهما"
(2)
.
ولا خلاف في أن عقوق الوالدين محرّم، وكبيرة من الكبائر، وقد دلّ على هذا الكتابُ في غير موضع، وصحيح السُّنَّة، كما روى النسائيّ، والبزار، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والديّوثُ، والمرأة المتَرَجِّلة، تشبّه بالرجال، وثلاثة لا يدخلون الجنّة: العاقّ لوالديه، والمنّان عطاءه، ومدمن الخمر"
(3)
.
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 34.
(2)
حديث ضعيف، رواه أحمد (3/ 497 - 498)، وأبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، وفي سنده علي بن عبيد وهو وإن وثّقه ابن حبّان، وأخرج حديثه في "صحيحه"، إلَّا أنه مجهول، لَمْ يرو عنه غير ابنه، فتنبّه.
(3)
حديث صحيح.
وعقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برّهما: موافقتهما على أغراضهما الجائزة لهما، وعلى هذا إذا أمرا، أو أحدهما ولدهما بأمر وجبت طاعتهما فيه إذا لَمْ يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباحات في أصله، وكذلك إذا كان من قبيل المندوبات، وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيّره في حقّ الولد مندوبًا إليه، وأمْرهما بالمندوب يزيده تأكيدًا في ندبيّته، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قد قَرَن طاعتهما، والإحسان إليهما بعبادته وتوحيده، فقال عز وجل:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية [الإسراء: 23]، وقال:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} الآية [العنكبوت: 8] في غير ما موضع، وكذلك جاءت في السُّنَّة أحاديث كثيرة تقتضي لزوم طاعتهما فيما أمرا به، فمنها ما رواه الترمذيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلّقها، فأبيت، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا عبد الله بن عمر طلّق امرأتك"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
فإن قيل: فكيف يرتفع حكم الله الأصلي بحكم غيره الطارئ؟.
فالجواب: أنه لَمْ يرتفع حكم الله بحكم غيره، بل بحكمه، وذلك أنه لما أوجب علينا طاعتهما، والإحسان إليهما، وكان من ذلك امتثال أمرهما، وجب ذلك الامتثال؛ لأنَّه لا يحصل ما أمرنا الله به إلَّا بذلك الامتثال، ولأنهما إن خولفا في أمرهما حصل العقوق الذي حرّمه الله تعالى، فوجب أمرهما على كل حال بإيجاب الله تعالى. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6489 و 6490 و 6491](2551)،
(1)
"المفهم" 6/ 520 - 521.
و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(21 و 646)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3545)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 254 و 346)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1888)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 195)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تأكّد حقوق الوالدين، ولا سيّما بعد كبرهما، وقد قرنه الله تعالى بعبادته، فقال عز وجل:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية [النساء: 36].
2 -
(ومنها): بيان تحريم عقوقهما، وأنه من كبائر الذنوب.
3 -
(ومنها): بيان شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بتعليم أمته، فكان يبدؤهم ببيان الإحكام، وإن لَمْ يسألوه.
4 -
(ومنها): بيان أن من لَمْ يَقُم بحقوق والديه يُحرم من دخول الجنّة، فهما سببان له في دخولها، أو حرمانها، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6490]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ"، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَر، أَحَدَهُمَا، أَو كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
وقوله: (أَو كِلَيْهِمَا) بالنصب، ووقع في بعض النسخ:"أو كلاهما"، وتقدّم توجيهه قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6491]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، حَدَّثَنِي سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ"، ثَلَاثًا ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدَّم قبل باب.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الهيثم البجليّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال عن سُهيل هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "الأدب المفرد"، فقال:
(21)
- حَدَّثَنَا خالد بن مخلد، قال: حَدَّثَنَا سليمان بن بلال، قال: حَدَّثَنَا سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"رَغِمَ أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه"، قالوا: يا رسول الله من؟ قال: "من أدرك والديه عنده الكبرُ، أو أحدهما، فدخل النار". انتهى
(1)
.
(4) - (بَابُ فَضْلِ صِلَةِ أَصْدِقَاءِ الأَبِ وَالأُمّ، وَنَحْوِهِمَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوّلَ الكتاب قال:
[6492]
(2552) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ
(1)
"الأدب المفرد" 1/ 21.
بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَبْدُ الله، وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأسِه، فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِير، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ) الْخُزاعيّ مولاهم المصريّ، أبو يحيى بن مِقْلاص ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 161) وقيل غير ذلك، وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
4 -
(الْوَليدُ بْنُ أَبِي الْوَليدِ) عثمان القرشيّ، مولى عثمان، أو ابن عمر، وقيل: الوليد بن الوليد، وهو وَهَمٌ، أبو عثمان المدنيّ، ثقةٌ
(1)
[4].
روي عن جابر بن عبد الله، وسعيد بن المسيِّب، وعقبة بن مسلم التجيبيّ، والعلاء بن أبي حكيم، وابن المنكدر، وعمران بن أبي يونس، وعبد الله بن دينار، وغيرهم.
وروى عنه يزيد بن الهاد، وأبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما خالف على قلة روايته، قال الحافظ: وفَرْق بين أبي الوليد مولى ابن عمر، روى عنه، وعنه حيوة، والليث، ولم يقل فيه شيئًا، وبين الوليد بن أبي الوليد مولى عثمان المدنيّ، روى عن عبد الله بن دينار، وعنه حيوة بن شُريح، وقال فيه الكلام المحكيّ عنه هنا. انتهى.
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": ليّن الحديث؛ لأنه قد روى عنه أربعة، ذكرهم ابن أبي حاتم، ووثقه أبو زرعة الرازي، كما ذكر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(9/ 19 - 20) فتنبّه.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: الوليد بن أبي الوليد، مولى عبد الله بن عمر، أبو عثمان المدنيّ، ويقال: مولى لآل عثمان بن عفان، روى عن ابن عمر، وعثمان بن عبد الله بن سُراقة، وعبد الله بن دينار، وعقبة بن مسلم، روى عنه بكرٍ بن الأشجّ، وابن الهاد، والليث بن سعد، وحيوة بن شُريح، سمعت أبي يقول ذلك. نا عبد الرَّحمن، قال: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: ثقةٌ، قال أبو محمد: جعله البخاريّ اسمين، فسمعت أبي يقول: هو واحد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بهذا أن الوليد بن أبي الوليد المترجم هنا ثقةٌ، فقد وثّقه أبو زرعة، وابن معين
(2)
، والعجليّ
(3)
، ويعقوب بن سفيان
(4)
، وروى عنه جماعة، وأخرج له مسلم، ووثقه أيضًا الذهبيّ في "الكاشف"، ونصّه: الوليد بن أبي الوليد عثمان، عن ابن عمر، وجابر، وعنه يحيى بن أيوب، والليث، ثقةٌ مصريّ (م 4). انتهى
(5)
.
وأيضًا لَمْ ينفرد بهذا الحديث، بل تابعه عليه يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي عن عبد الله بن دينار، كما في الرواية التالية.
فاتّضح بهذا أن قوله في "التقريب": ليِّن الحديث، ليس مما يلتفت إليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدَويّ مولاهم، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
(1)
"الجرح والتعديل" 9/ 19.
(2)
قال عبّاس الدُّوريّ عن يحيى بن معين: الوليد بن أبي الوليد ثقةٌ، يروي عنه أهل مصر. انتهى. "تاريخ ابن معين" 2/ 634.
(3)
قال العجليّ: مصريّ تابعيّ ثقةٌ، نقله د. بشار عن "ثقات العجليّ" في هامش "تهذيب الكمال" 31/ 108.
(4)
قال يعقوب بن سفيان: حَدَّثَنَا ابن أبي مريم، عن يحيى بن أيوب، عن الوليد بن أبي الوليد، مصريّ ثقةٌ. انتهى. "المعرفة" 2/ 458.
(5)
"الكاشف" 2/ 356.
6 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الرابعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَجُلًا) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفه، ولا أباه الوادّ لعمر رضي الله عنه
(1)
. (مِنَ الأَعْرَابِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الأَعْرَابُ بالفتح: أهل البدو من العرب، الواحد أَعْرَابِيٌّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواءٌ كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَن بِظَعْنهم فهم أَعْرَابٌ، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المدن والقرى العربية، وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لَمْ يكونوا فصحاء، ويقال: سُمّوا عَربًا؛ لأنَّ البلاد التي سكنوها تسمى العَرَبَاتَ، ويقال: العَرَبُ العَارِبَةُ هم الذين تكلموا بلسان يعرب بن قحطان، وهو اللسان القديم، والعَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - وهي لغات الحجاز، وما والاها. انتهى
(2)
.
(لَقِيَهُ) بكسر القاف؛ أي: لقي ابن عمر (بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ)؛ أي: على الرجل (عَبْدُ اللهِ) مرفوع على الفاعليّة، (وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ) ابن عمر، وفي الرواية التالية:"كان إذا خرج إلى مكّة كان له حمار يتروّح عليه إذا ملّ ركوب الراحلة". (وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأسِه، فَقَالَ) عبد الله (بْنُ دِينَارٍ: فَقُلْنَا لَهُ: أَصْلَحَكَ اللهُ) وفي الرواية التالية: "فقال له بعض أصحابه: غفر الله لك"، (إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ، وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ) وفي الرواية التالية: "أعطيت هذا الأعرابيّ حمارًا كنت تروّح عليه، وعمامة تشُدّ بها رأسك"، (فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما:(إِنَّ أَبَا هَذَا)؛ أي: إنما فعلت هذا؛ لأنَّ أبا هذا
(1)
"تنبيه المعلم" ص 428.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 400.
الأعرابيّ (كَانَ وُدًّا) قال القاضي عياض: رويناه بضّم الواو، وكسرها: أي: صديقًا من أهل مودّته، وهي محبّته
(1)
. (لِعُمَرَ بْنِ الْخَطابِ) رضي الله عنه (وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ) هو بتقدير "من"؛ أي: مِن أبرّ البرّ، كما صرّح بها في الرواية التالية، (صِلَةُ) بكسر الصاد المهملة: أي: وَصْل (الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ") الوُدّ هنا مضموم الواو، قال المناويّ رحمه الله: البرّ هو الإحسان، وأبرّ البرّ: أحسنه، وأفضله، وأبر البرّ من قبيل جل جلاله، وجَدّ جدُّهُ، جُعِل الجلالُ جليلًا، وأُسند الفعل إليه، وجُعل الجدّ جادًّا، وأُسند الفعل إليه، وجُعل البرّ بارًّا، ويبنى منه أفعل التفضيل، وكذا كلُّ ما هو من هذا القبيل، نحوأفضل الفضل، وأفجر الفجور، وكون ذلك من البرّ؛ لأنَّ الولد إذا وَصَل وُدّ أبيه اقتضى ذلك الترحم عليه، والثناء الجميل، فتصل إلى روحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياء، وذلك أشدّ من كونه بارًّا في حياته. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ أيضًا في موضع آخر: قوله: "إن أبرّ البرّ"، وفي رواية:"من أبرّ البرّ": أي: الإحسان، جعل البرّ بارًّا ببناء أفعل التفضيل منه، وإضافته إليه مجازًا، والمراد منه: أفضل البرّ، فأفعل التفضيل للزيادة المطلقة، قال الأكمل: أبو البرّ من قبيل جل جلاله، وجدّ جدُّه، بجعل الجدّ جادًّا وإسناد الفعل إليه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6492 و 6493 و 6494](2552)، و (أبو داود) في "الأدب"(5143)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1903)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(41)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 91 و 97 و 111)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 283)، و (عبد بن حُميد) في
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 109.
(2)
"فيض القدير" 6/ 6.
"مسنده"(1/ 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4330 و 4331)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 180) و"شُعَب الإيمان"(6/ 200)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3445)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(31/ 159)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم، وهو متضمّن لبرّ الأب، وإكرامه؛ لكونه بسببه، قال النوويّ رحمه الله: ويلتحق به أصدقاء الأم، والأجداد، والمشايخ، والزوج، والزوجة، وقد سبقت الأحاديث في إكرامه صلى الله عليه وسلم خلائل خديجة رضي الله عنها
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله الحافظ العراقيّ رحمه الله: إنما جعله أبرّ البرّ، أو من أبرّه؛ لأنَّ الوفاء بحقوق الوالدين والأصحاب بعد موتهم أبلغ؛ لأنَّ الحيّ يُجَامَلُ، والميت لا يُستحْيَى منه، ولا يجامَل، إلَّا بحسن العهد.
ويَحْتَمِل أن أصدقاء الأب كانوا مكفيين في حياته بإحسانه، وانقطع بموته، فأمر بنيه أن يقوموا مقامه فيه، وإنما كان هذا أبرّ البرّ؛ لاقتضائه الترحم، والثناء على أبيه، فيَصِل لروحه راحة بعد زوال المشاهدة المستوجبة للحياة، وذلك أشدّ من برّه له في حياته، وكذا بعد غيبته، فإنه إذا لَمْ يظهر له شيء يوجب ترك المودّة، فكأنه حاضر، فيبقى ودّه كما كان، وكذا بعد المعاداة رجاء عود المودّة، وزوال الوحشة، وإطلاق التولية على جميع هذه الأشياء إما حقيقةٌ، فيكون من عموم المشترك، أو من التواطؤ، أو بعضها، فيكون من الجمع بين الحقيقة والمجاز، ونبّه بالأب على بقية الأصول، وقياس تقديم الشارع الأمّ في البرّ كون وصل أهل ودّها أقدم، وأهمّ.
ومن البيّن أن الكلام في أصلٍ مسلمٍ، أما غيره فيظهر أنه أجنبيّ من هذا المقام، نعم إن كان حيًّا ورجا ببر أصدقائه تالّفه للإسلام، تأكَّد وَصْله.
وفي معنى الأصول: الزوجة، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يَصِل صويحبات
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 109 - 110.
خديجة رضي الله عنها بعد موتها، قائلًا:"إنَّ حُسن العهد من الإيمان"، وألحق بعضهم بالأب الشيخ، ونحوه. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن برّ الوالدين لا ينقطع بموتهما.
4 -
(ومنها): بيان فضل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما حيث كان مراعيًا لهذا السُّنَّة بعد موت أبيه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6493]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَاد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ) هو: حَيْوة - بفتح أوله، وسكون التحتانية، وفتح الواو - ابن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
2 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
والباقون ذُكروا قبله، والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6494]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَاد، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَة، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَار، إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ؟ قَالَ: بَلَي، فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 2/ 405.
رَأْسَكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: غَفَرَ اللهُ لَكَ، أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْه، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ"، وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلال، أبو عليّ، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ تُكُلّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام الفقيه الشهير المصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَن) عبد الله (بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما؛ (أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه: كان يستصحب حمارًا؛ ليستريح عليه إذا ضَجِر من ركوب البعير، (وَعِمَامَةٌ) قال المجد رحمه الله لهُ: العمامة بالكسر: الْمِغْفر، والبيضة، وما يُلفّ على الرأس. انتهى.
قال المرتضى: قوله: العمامة بالكسر، وضَبَطه بعض شراح "الشمايل" بالفتح أيضًا، وهو غلظ، وقوله: المغفر، والبيضة: أي: يُكنى بها عنهما، والأصل فيها: ما يُلَفّ على الرأس، والجمع: عمائم - أي: بالفتح - وعِمامٍ بالكسر. انتهى
(1)
.
(1)
"تاج العروس" 1/ 7830.
(يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا) قال ابن منظور نقلًا عن ابن برّيّ
(1)
: أَصلُ "بَيْنا""بَيْنَ"، فأُشبعت الفتحة، فصارت أَلِفًا، ويقال: بَيْنا، وبَيْنما، وهما ظرفا زمانٍ، بمعنى المفاجَأَة، ويُضافان إلى جملة من فعلٍ وفاعلٍ، ومبتدأ وخبر، ويحْتاجان إلى جواب، يَتِمُّ به المعنى، قال: والأَفصَح في جوابهما أَن لا يكون فيه "إِذْ"، و"إذا"، وقد جاءا في الجواب كثيرًا، تقول: بَينا زيدٌ جالسٌ دخَل عليه عمرٌو، وإذ دخَل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الحُرَقة بنت النُّعمان [من الطويل]:
فَبَيْنا نَسُوسُ النَّاسَ والأَمرُ أَمْرُنا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
فقوله هنا: "فبينا" مضاف إلى قوله: (هُوَ) مبتدأ خبره: "على ذلك الحمار"، وقوله:(يَوْمًا) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بما تعلّق به قوله:(عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ)؛ أي: راكب عليه، (إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ) لَمْ يُعرف الأعرابيّ، ولا أبوه، ولا جدّه، (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما:(أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ؟، قَالَ) الأعرابيّ: (بَلَى)؛ أي: أنا ابنه، قال الفيّوميّ رحمه الله:"بَلَى" حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بَلَى، فمعناه إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلت: بَلَى، فمعناه التقرير، والإثبات، ولا تكون إلَّا بعد نفي، إما في أول الكلام، كما تقدم، وإما في أثنائه، كقوله تعالى: " {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} الآية [القيامة: 3، 4]، والتقدير: بلى نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون، كما تقدم، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات. انتهى
(2)
.
(فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ)؛ أي: أعطى ابن عمر رضي الله عنهما الأعرابيّ ذلك الحمار الذي كان يَتَرَوَّحُ عَلَيْهِ إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَة، (وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ)؛ أي: وأعطاه العمامة التي كان يشدّ بها رأسه. (قَالَ) ابن عمر للأعرابيّ: (اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ) لَمْ يُعرف من هو؟ (غَفَرَ اللهُ لَكَ، أَعْطَيْتَ هَذَا الأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْه، وَعِمَامَةً كنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ) قال له ذلك توبيخًا، ولومًا على إكثاره العطاء، فإن الأعراب يكفيهم قليل من العطاء. (فَقَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما ردًّا على هذا التوبيخ:(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في
(1)
"لسان العرب" 13/ 62.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 62.
ابتداء الكلام (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَيَقُولُ: "إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ)؛ أي: أفضله، وأحسنه، (صِلَةَ الرَّجُلِ) بنصب "صِلةَ" اسمًا لـ "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها الجارّ والمجرور قبله، والصلة بكسر الصاد المهملة، مصدرٌ، يقال: وصلته وصلًا، وصِلَةً: ضدّ هَجَرته
(1)
. (أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ) بنصب "أهل" على أنه مفعول به لـ "صِلَة"؛ لأنه مصدر يعمل عَمَل فِعله، كما قال في "الخلاصة":
بِفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ فِي الْعَمَلْ
…
مُضَافًا أَو مُجَرَّدًا أَو مَعَ "أَلْ"
إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ "أَنْ" أَو "مَا" يَحُلّ
…
مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ
وقوله: "أهل وُدّ أبيه": بضم الواو، بمعنى المودّة؛ أي: أصحاب مودّته، ومحبته، (بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ") بتشديد اللام المكسورة: أي: بعد موت الأب، فيندب صلة أصدقاء الأب، والإحسان إليهم، وإكرامهم بعد موته، كما هو مندوب قبله، قاله العزيزيّ
(2)
.
وقال المناويّ: قوله: "أهل وُدّ أبيه" بضم الواو، بمعنى المودّة، وقوله:"بعد أن يولّي الأب": بكسر اللام المشدّدة: أي: يُدبر بموت، أو سفر، قال التوربشتيّ: وهذه الكلمة مما تخبّط الناس فيها، والذي أعرفه أن الفعل مسند إلى أبيه؛ أي: بعد أن يموت، أو يغيب أبوه، مِنْ وَلَّى يُوَلِّي.
وقال الطيبيّ: وفي "جامع الأصول"، و"المشارق":"يُوَلّي" بضم الياء، وفتح الواو، وكسر اللام المشدّدة، والمعنى: أن من جملة المبرّات الفُضْلَى مَبَرّة الرجل أحباء أبيه، فإن مودة الآباء قرابة الأبناء؛ أي: إذا غاب أبوه، أو مات يحفظ أهل ودّه، ويُحسن إليهم، فإنه من تمام الإحسان إلى الأب. انتهى
(3)
.
(وَإِنَّ أَبَاهُ)؛ أي: أبا هذا الأعرابيّ (كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ) بن الخطّاب؛ أي: فأحببت وَصْله بما أعطيته؛ عملًا بهذا الحديث.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى بيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 662.
(2)
"عون المعبود" 14/ 36.
(3)
"فيض القدير" 2/ 405.
(5) - (بَابُ تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6495]
(2553) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوَيةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ، فَقَالَ: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُق، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ مَهْدِيٍّ) هو: عبد الرَّحمن بن مهديّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حُدَير - بالمهملة، مصغرًا - الحضرميّ، أبو عمرو، وأبو عبد الرَّحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ، له أوهام [7] (ت 158) وقيل: بعد السبعين (ز م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ) هو: عبد الرَّحمن بن جبير - بجيم، وموحّدة، مصغرًا - ابن نُفير - بِنون، وفاء، مصغرًا - الحضرميّ الحمصيّ، ثقةٌ [4](ت 118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.
5 -
(أَبُوهُ) جُبير بن نُفير بن مالك بن عامر الحضرميّ الحمصيّ، ثقةٌ جليلٌ مخضرم [2] ولأبيه صحبة، مات سنة ثمانين، وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
6 -
(النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيُّ) هو: النوّاس - بتشديد الواو، ثم سين مهملة - ابن سمعان بن خالد الكلابيّ، أو الأنصاريّ، الصحابي المشهور، سكن الشام (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 43/ 1876.
[تنبيه]: قوله: "الأنصاريّ" قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا نُسب في هذا الإسناد: "الأنصاريّ"، والمشهور فيه: النوّاس الكلابيّ، من بني
أبي بكر بن كلاب، إلَّا أن يكون حليفًا للأنصار، وهو النوّاس بن سِمْعان بن خالد بن عمرو بن قُرْط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، هكذا نسبه المفضّل بن غسّان الْغَلابيّ عن يحيى بن معين. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالشاميين من معاوية بن صالح، وشيخه بغداديّ، وابن مهديّ بصريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: عبد الرَّحمن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ) بفتح السين المهملة، وكسرها، وقوله:
(الأَنْصَارِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في نسخ "صحيح مسلم": "الأنصاريّ"، قال أبو عليّ الجيّانيّ: هذا وَهَمٌ، وصوابه "الكلابي"، فإن النوّاس كلابيّ مشهور، قال المازريّ، والقاضي عياض: المشهور أنه كلابيّ، ولعله حليف للأنصار، قالا: وهو النوّاس بن سِمعان بن خالد بن عمرو بن قُرْط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، كذا نسبه العلاليّ، عن يحيى بن معين. انتهى
(2)
. وتقدّم ما قاله الجيّانيّ فيه قريبًا.
(قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: عما يَبرّ فاعله، فيلحق بالأبرار، وهم المطيعون لله تعالى، وعما يأثم فاعله، فيلحق بالآثمين، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بجواب جُمليّ أغناه به عن التفصيل، فقال له:("الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ)؛ يعني: أن حُسن الخُلق أعظم خصال البرّ، كما قال:"الحج عرفة"
(3)
؛ ويعني بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرّفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل، والإحسان. انتهى
(4)
.
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 920.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 110 - 111.
(3)
حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذفي، والنسائيّ، وابن ماجه.
(4)
"المفهم" 6/ 522.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: البرّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللطف، والمبرّة، وحسن الصحبة، والعِشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامع حسن الخلق.
(وَالإِثْمُ مَما حَاكَ فِي صَدْرِكَ)؛ أي: ما شككت فيه، أنه حلال، أو حرام (وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ) فالاحتياط أن تتركه، وقال النوويّ رحمه الله: معنى "حاك في صدرك": أي: تحرّك فيه، وتردّد، ولم ينشرح له الصدر، وحصل في القلب منه الشكّ، وخَوْف كونه ذنبًا
(1)
.
وقال ابن منظور: قوله: "ما حكّ في نفسك": أي: إذا لَمْ تكن منشرح الصدر به، وكان في قلبك منه شيء من الشكّ، والرَّيب، وأوهمك أنه ذنب وخطيئة، ومنه الحديث الآخر:"ما حكّ في صدرك، وإن أفتاك المفتون"، قال الأزهريّ: ومنه حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الإثم حَوّاز القلوب"
(2)
؛ يعني: ما حَزّ في نفسك، وحَكّ فاجتنبه، فإنه الإثم، وإن أفتاك فيه الناس بغيره
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والإثم ما حاك في نفسك
…
إلخ"؛ أي: الشيء الذي يؤثر نفرةً، وحَزَازة في القلب، يقال: حاك الشيء في قلبي: إذا رَسَخ فيه، وثَبَت، ولا يحيك هذا في قلبي؛ أي: لا يثبت فيه، ولا يستقر، قال شَمِر: الكلام الحانك: هو الراسخ في القلب، وَإنما أحاله النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذا الإدراك القلبيّ؛ لِمَا عَلِم من جودة فهمه، وحسن قريحته، وتنوير قلبه، وأنه يُدرك ذلك من نفسه، وهذا كما قال في الحديث الآخر: "الإثم حَزَّاز القلوب"؛ يعني به: القلوب المنشرحة للإسلام، المنوّرة بالعلم الذي قال فيه مالك: العلم نور يقذفه الله تعالى في القلب، وهذا الجواب لا يصلح لغليظ الطبع، قليل الفهم، فإذا سأل عن ذلك مَن قَلَّ فهمه، فصّلت له الأوامر، والنواهي الشرعيّة، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُنَزّل
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 111.
(2)
صحيح موقوف.
(3)
راجع: "لسان العرب" 10/ 414.
الناس منازلهم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النّوّاس بن سِمْعان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6495 و 6496](2553)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2389)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(295 و 302)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 182)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 322)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 212)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(2/ 96)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(397)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 17)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 192) و"شُعب الإيمان"(5/ 457)، و (البغويّ) في "شرح السُّنة"(3494)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): وردت أحاديث في حُسن الخُلُق، فمنها: حديث النوّاس بن سِمعان رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديث:"إن خياركم أحاسنكم أخلاقًا"، رواه البخاريّ، وأخرج أبو يعلى من حديث أنس رفعه:"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا"، وللترمذيّ، وحَسّنه، والحاكم، وصححه، من حديث أبي هريرة، رَفَعه:"إن من أكمل المؤمنين أحسنهم خُلُقًا"، ولأحمد بسند رجاله ثقات، من حديث جابر بن سمرة نحوه، بلفظ:"أحسن الناس إسلامًا"، وللترمذيّ من حديث جابر، رَفَعه:"إن من أحبكم إليّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، أحسنكم أخلاقًا"، وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولأحمد، والطبرانيّ، وصححه ابن حبان، من حديث أبي ثعلبة نحوه، وقال:"أحاسنكم أخلاقًا"، وسياقه أتمّ. وللبخاريّ في "الأدب المفرد"، وابن حبان، والحاكم،
(1)
تقدّم في "شرح مقدّمة مسلم" أنه حديث مختلَف فيه، والصحيح أنه ضعيف للانقطاع، فارجع إليه هناك، وبالله تعالى التوفيق.
والطبرانيّ، من حديث أسامة بن شَرِيك:"قالوا: يا رسول الله من أحبّ عباد الله إلى الله؟ قال: أحسنهم خُلُقًا"، وفي رواية عنه:"ما خَيْر ما أُعطي الإنسان؟ قال: خُلُق حسن".
وحديثُ أبي الدرداء رفعه: "ما شيء أثقل في الميزان من حُسْن الخلق"، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وصححه هو وابن حبان، وزاد الترمذيّ فيه، وهو عند البزار:"وأن صاحب حُسْن الخلق ليبلغ درجة صاحب الصوم والصلاة"، وأخرج أبو داود، وابن حبان أيضًا، والحاكم، من حديث عائشة رضي الله عنها نحوه، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، والحاكم، من حديث أبي هريرة، وأخرجه الطبرانيّ من حديث أنس نحوه، وأخرج أحمد، والطبرانيّ، من حديث عبد الله بن عمرو، وأخرج الترمذيّ، وابن حبان، وصححاه، وهو عند البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة:"سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجَنَّة، فقال: تقوى الله، وحسن الخلق"، وللبزار بسند حسن، من حديث أبي هريرة، رفعه:"إنكم لن تَسَعُوا الناس بأموالكم، ولكن يَسَعُهُم منكم بَسْط الوجه، وحُسْن الخُلُق".
قال الحافظ: والأحاديث في ذلك كثيرة، وحَكَى ابن بطال تبعًا للطبريّ خلافًا، هل حسن الخلق غريزة، أو مكتسب؟ وتمسَّك من قال: إنه غريزة بحديث ابن مسعود: "إن الله قَسَم أخلاقكم، كما قَسَم أرزاقكم. . ." الحديث، وهو عند البخاري في "الأدب المفرد".
وقال القرطبيّ في "المفهم": الخُلُق جِبِلّة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفاوتون، فمن غلب عليه شيء منها، إن كان محمودًا، وإلَّا فهو مأمور بالمجاهدة فيه، حتى يصير محمودًا، وكذا إن كان ضعيفًا، فيرتاض صاحبه حتى يقوى. انتهى.
وقد وقع في حديث الأشجّ الْعَصَريّ عند أحمد، والنسائيّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إن فيك لخصلتين، يحبهما الله: الحِلْم، والأناة، قال: يا رسول الله! قدِيمًا كانا فيّ، أو حديثًا؟ قال: قديمًا، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلُقين يحبهما"، فترديده
السؤال، وتقريره عليه، يُشعر بأن في الخُلُق ما هو جِبِليّ، وما هو مكتسب. ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: - عند شرح حديث النوّاس رضي الله عنه المذكور هنا -: وقد رُوي هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه متعدّدة، وبعض طرقه جيّدة:
فخرّجه الإمام أحمد، وابن حبان في "صحيحه" من طريق يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جدّه ممطور، عن أبي أمامة:"قال: قال رجل: يا رسول الله، ما الإثم؟ قال: إذا حاك في صدرك شيء فَدَعْه"، وهذا إسناد جيّد على شرط مسلم، فإنه خرّج حديث يحيى بن كثير، عن زيد بن سلام، وأثبت أحمد سماعه منه، وإن أنكره ابن معين.
وخرَّج الإمام أحمد، من رواية عبد الله بن العلاء بن زبر، قال: سمعت مسلم بن مشكم، قال: سمعت أبا ثعلبة الْخُشَنِيّ يقول: قلت: يا رسول الله أخبرني ما يَحِلّ لي، وما يحرم عليّ، قال:"البرّ ما سكنت إليه النفس، واطمأنّ إليه القلب، والإثم ما لَمْ تسكن إليه النفس، ولا يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون"، وهذا أيضًا إسناد جيّد، وعبد الله بن علاء بن زبر ثقةٌ مشهورٌ، وخرّج له البخاريّ، ومسلم بن مشكم ثقةٌ مشهورٌ أيضًا.
وخرّج الطبرانيّ وغيره بإسناد ضعيف، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه:"قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدًا بعدك، قال: استفت نفسك، قلت: كيف لي بذلك؟ قال: تَدَعُ ما يُريبك إلى ما لا يُريبك، وإن أفتاك المفتون، قلت: كيف بذلك؟ قال: تضع يدك على قلبك، فإن الفؤاد لَيَسْكُن للحلال، ولا يسكن للحرام"، ويُروَى نحوه من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضًا.
ورَوَى ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب، أن سُويد بن قيس أخبره، عن عبد الرَّحمن بن معاوية: أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما يحل لي، وما يحرم عليّ؟ وردّد عليه ثلاث مرّات، كلَّ ذلك يسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم
(1)
"الفتح" 10/ 459.
قال: "أين السائل؟ " فقال له: أنا يا رسول الله، فقال بأصبعه:"ما أنكر قلبك فدعه"، خرّجه أبو القاسم البغويّ في "معجمه"، وقال: لا أدري عبد الرَّحمن بن معاوية، سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث.
قال ابن رجب: هو عبد الرَّحمن بن معاوية بن خَدِيج، جاء منسوبًا في "كتاب الزهد" لابن المبارك، وعبد الرَّحمن هو تابعيّ مشهور، فحديثه مرسل، وقد صحّ عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"الإثم حوّاز القلوب"، واحتجّ به الإمام أحمد، ورواه عن جرير، عن منصور، عن محمد بن عبد الرَّحمن، عن أبيه، قال: قال عبد الله: إياكم وحزّاز القلوب، وما حَزّ في قلبك فَدَعْه، قال أبو الدرداء: الخير في طمأنينة، والشرّ في ريبة.
ورَوَى ابن مسعود من وجه منقطع، أنه قيل له: أرأيت شيئًا يحيك في صدورنا، لا ندري حلال هو، أم حرام؟ فقال: وإياكم والحكّاكات، فإنهن الإثم. والحكّ، والحزّ متقاربان في المعنى، والمراد: ما أثّر في القلب ضِيقًا، وحَرَجًا، ونفُورًا، وكراهة. انتهى
(1)
.
(المسألة الرابعة): ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله بحثًا نفيسًا يتعلّق بهذه الأحاديث، فقال بعد أن أوردها:
وهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البرّ والإثم، وبعضها في تفسير الحلال، والحرام، فحديث النّوّاس بن سِمعان فسّر به النبيّ صلى الله عليه وسلم البرّ بحُسن الخُلُق، وفسّره في حديث وابصة
(2)
وغيره بما اطمأنت إليه النفس والقلب، كما
(1)
"جامع العلوم والحكم" لابن رجب 2/ 95 - 97.
(2)
حديث وابصة رضي الله عنه: هو ما أخرجه أحمد في "مسنده"(4/ 228) عن وابصة بن معبد رضي الله عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البرّ والإثم إلَّا سألته عنه، وحوله عصابة من المسلمين، يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا:"إليك يا وابصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقلت: دعوني، فأدنوَ منه، فإنه أحب الناس إليّ أن أدنو منه، قال:"دعوا وابصة، ادْنُ يا وابصة" مرتين، أو ثلاثًا، قال: فدنوت منه، حتى قعدت بين يديه، فقال:"يا وابصة أخبرك، أو تسألني؟ " قلت: لا، بل أخبرني، فقال:"جئت تسألني عن البرّ والإثم"، فقال: نعم، فجَمَع أنامله، فجعل ينكت بهنّ في صدري، ويقول: "يا وابصة استفت قلبك، =
فسَّر الحلال والحرام بذلك في حديث أبي ثعلبة، وإنما اختُلِف في تفسير البرّ؛ لأنَّ البرّ يُطلق باعتبارين معيَّنين:
أحدهما: باعتبار معاملة الخَلْق بالإحسان إليهم، وربما خُصّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: برّ الوالدين، ويُطلق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، وقد صنّف ابن المبارك كتابًا سمّاه "كتاب البرّ والصلة"، وكذلك في "صحيح البخاريّ"، و"جامع الترمذيّ"، و"كتاب البرّ والصلة"، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخَلْق عمومًا، ويقدَّم فيه برّ الوالدين على غيرهما.
وفي حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، أنه قال: يا رسول الله من أَبَرّ؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم الأقرب، فالأقرب"
(1)
، ومن هذا المعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الحج المبرور ليس له جزاء إلَّا الجَنَّة".
وفي "المسند" أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن بِرّ الحج، فقال:"إطعام الطعام، وإفشاء السلام"، وفي رواية أخرى:"قال: وطِيْب الكلام"، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: البرّ شيء هَيِّن: وجهٌ طَلْقٌ، وكلامٌ ليّن.
وإذا قُرن البرّ بالتقوي، كما في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] فقد يكون المراد بالبرّ: معاملة الخلق بالإحسان، وبالتقوى: معاملة الحقّ بفعل طاعته، واجتناب محرماته، وقد يكون أريدَ بالبرّ فِعْل الواجبات، وبالتقوى اجتناب المحرمات، وقوله تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
= واستفت نفسك - ثلاث مرات - البرّ ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في النفس، وتردّد في الصدر، وإن أفتاك الناس، وأفتوك". انتهى. قال النوويّ رحمه الله في "الأربعين": حديث حسن، وكذا حسّنه الألبانيّ رحمه الله لغيره، وضعّفه ابن رجب، لضعف بعض رجاله، ولانقطاعه، راجع:"جامع العلوم والحكم" 2/ 93 - 94.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن تحسينه لشواهده هو الحقّ، فإن أحاديث الباب التي أوردناها في الشرح تشهد له، فتأملها بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وأبو داود، والترمذيّ، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.
[المائدة: 2] قد يراد بالإثم: المعاصي، وبالعدوان: ظُلْم الخَلْق، وقد يراد بالإثم: ما هو محرّم في نفسه، كالزنا، والسرقة، وشُرْب الخمر، وبالعدوان: تجاوُز ما أُذن فيه إلى ما نُهي عنه مما جنسه مأذون فيه، كقَتْل ما أبيح قَتْله بقصاص، ومن لا يباح فيه، وأخْذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها، ومجاوزة الجَلْد الذي أُمر به في الحدود ونحو ذلك.
والمعنى الثاني من معنى البرّ: أن يراد به فِعْل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، كقوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)} [البقرة: 177]، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإيمان، فتلا هذه الآية، فالبرّ بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة، كالإيمان بالله، وملائكته، وكُتُبه، ورسله، والطاعات الظاهرة، كإنفاق الأموال فيما يحبه الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على الأقدار، كالمرض، والفقر، وعلى الطاعات؛ كالصبر على لقاء العدوّ.
وقد يكون جواب النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث النّوّاس شاملًا لهذه الخصال كلِّها؛ لأنَّ حُسْن الخُلُق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله تعالى التي أدّب بها عباده في كتابه، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقه صلى الله عليه وسلم القرآن، تعني أنه يتأدّب بآدابه، فيفعل أوامره، ويتجنب نواهيه، فصار العمل بالقرآن له خُلُقًا، كالجبلَّة، والطبيعة، لا يفارقه، وهذا من أحسن الأخلاق، وأشرفها، وأجملها، وقد قيل: إن الدين كلّه خُلُقٌ.
وأما في حديث وابصة، فقال:"البر ما اطمأنّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس"، وفي رواية:"ما انشرح إليه الصدر"، وفسّر الحلال بنحو ذلك، كما في حديث أبي ثعلبة وغيره، وهذا يدلّ على أنَّ الله فَطَر عباده على معرفة الحقّ، والسكون إليه، وقَبوله، ورَكز في الطباع محبة ذلك، والنفور عن ضدّه، وقد يدخل هذا في قوله في حديث عياض بن حِمَار: "إني خَلَقت عبادي
حنفاء، مسلمين، فأتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، فحرَّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتْهم أن يُشركوا بي ما لَمْ أُنَزِّل به سلطانًا"، وقولِهِ: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟ "، قال أبو هريرة رضي الله عنه: "اقرأوا إن شئتم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآية [الروم: 30]، ولهذا سَمَّى الله تعالى ما أمره به معروفًا، وما نهى عنه منكرًا، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} الآية [النحل: 90]، وقال تعالى في صفة الرسول صلى الله عليه وسلم:{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} الآية [الأعراف: 157]، وأخبر أن قلوب المؤمنين تطمئنّ بذكره، فالقلب الذي دخله نور الإيمان، وانشرح به، وانفسح سكن للحقّ، واطمأنّ به، ويقبله، وَينْفُر عن الباطل، ويكرهه، ولا يقبله.
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: أُحَذِّركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحقّ، فقيل لمعاذ: ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحقّ؟ قال: اجتَنِب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال: ما هذه؟ ولا يَثنِينّك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلقّ الحقَّ إن سمعته، فإن على الحقّ نورًا. خرّجه أبو داود، وفي رواية له: قال: بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول: ما أراد بهذه الكلمة؟.
فهذا يدلّ على أنَّ الحقّ والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير، بل يَعْرِف الحقّ بالنور عليه، فيقبله قلبه، وينفر عن الباطل، فينكره، ولا يعرفه.
ومن هذا المعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "سيكون في آخر الزمان قوم يُحدّثونكم بما لا تسمعون أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم"؛ يعني: أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين، ولا تعرفه، وفي قوله:"أنتم ولا آباؤكم" إشارة إلى أن ما استقرّت معرفته عند المؤمنين، مع تقادم العهد، وتطاول الزمان، فهو الحقّ، وأن ما أُحدث بعد ذلك، فما يُستنكَر فلا خير فيه.
فدلّ حديث وابصة رضي الله عنه، وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند
الاشتباه، فما سكن إليه القلب، وانشرح إليه الصدر، فهو البرّ، والحلال، وما كان خلاف ذلك، فهو الإثم، والحرام.
وقوله في حديث النوّاس بن سِمعان رضي الله عنه: "الإثم ما حاك في الصدر، وكَرِهت أن يطّلع عليه الناس" إشارة إلى أن الإثم ما أَثّر في الصدر حرجًا، وضِيقًا، وقَلَقًا، واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، ومع هذا فهو عند الناس مستنكر، بحيث ينكرونه عند اطّلاعهم عليه، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر الناس فاعله، وغير فاعله.
ومن هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: ما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند الله قبيح
(1)
.
وقوله في حديث وابصة، وأبي ثعلبة:"وإن أفتاك المفتون"؛ يعني: أن ما حاك في حدر الإنسان، فهو إثم، وإن أفتاه غيره بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكَرًا عند فاعله، دون غيره، وقد جعله أيضًا إثْمًا، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرِح صدره للإيمان، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظنّ، أو ميل إلى هوي، من غير دليل شرعيّ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعيّ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه، وإن لَمْ ينشرح له صدره، وهذا كالرخصة الشرعية، مثل الفِطْر في السفر، والمرض، وقَصْر الصلاة في السفر، ونحو ذلك، مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عبرة به، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم، فيمتنعون من قوله، فيغضب من ذلك، كما أمرهم بفسخ الحج إلى
(1)
نصّ الحديث: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:"إن الله عز وجل نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالاته، ثم نظر في قلوب العباد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلم يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيئ"، رواه أحمد، والبزار، والطبرانيّ، في "الكبير"، قال الحافظ الهيثميّ: ورجاله موثقون. انتهى. "مجمع الزوائد"(1/ 177)، وصححه الحاكم (3/ 78 - 79) ووافقه الذهبيّ، وقال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: حسن موقوف. "تخريج الطحاويّة"530.
العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحر هَدْيهم، والتحلل من عمرة الحديبية، فكرهوه، وكرهوا مفاوضته لقريش على أنَّ يرجع من عامة، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردّه إليهم.
وفي الجملة، فما ورد النصّ به، فليس للمؤمن إلَّا طاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} الآية [الأحزاب: 36]، وينبغي أن يُتَلَقَّى ذلك بانشراح الصدر والرضا، فإن ما شرعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يجب الإيمان، والرضا به، والتسليم له، كما قال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]. وأما ما ليس فيه نصّ من الله، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عمن يُقتدَى بقوله من الصحابة، وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئنّ قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين، منه شيءٌ، وحَكّ في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلَّا من يُخْبر عن رأيه، وهو ممن لا يوثَق بعلمه، وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوي، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإن أفتاه هؤلاء المفتون.
وقد نَصّ الإمام أحمد على مثل هذا أيضًا، قال المروزيّ في "كتاب الورع": قلت لأبي عبد الله: إن القُطَيعة أرفق بي من سائر الأسواق، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء، فقال: أمْرها أمر قذر، متلوث، قلت: فتكره العمل فيها؛ قال: دع عنك هذا، إن كان لا يقع في قلبك شيء، قلت: قد وقع في قلبي منها، فقال: قال ابن مسعود: الإثم حَوّاز القلب، قلت: إنما هذا على المشاورة، قال: أي شيء يقع في قلبك؟ قلت: قد اضطرب على قلبي، قال: الإثم هو حوّاز القلوب.
قال ابن رجب رحمه الله: وقد سبق في شرح حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما: "الحلال بَيّن، والحرام بين"
(1)
، وفي شرح حديث الحسين بن عليّ رضي الله عنهما: "دع
(1)
تقدّم في "البحر المحيط" برقم [41/ 4087](1599) فراجعه تجد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
ما يريبك
…
"، وشرح حديث: "إذا لَمْ تستح فاصنع ما شئت"، شيء يتعلق بتفسير هذه الأحاديث المذكورة هاهنا.
وقد ذكر طوائف من الفقهاء من الشافعية، والحنفية، المتكلمين في أصول الفقه مسألة الإلهام هل هو حجّة أم لا؟ وذكروا فيه اختلافًا بينهم، وذكر طائفة من أصحابنا -يعني: الحنبليّة - أن الكشف ليس بطريق إلى الإحكام، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذمّ المتكلمين في الوساوس، والخطرات، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك، وقد ذكرنا نصًّا عن أحمد هاهنا بالرجوع إلى حَوّاز القلوب، وإنما ذَمّ أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس، والخطرات من الصوفية، حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعيّ، بل إلى مجرد رأي، وذوق، كما كان يُنكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي، من غير دليل شرعيّ، فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حَوّاز القلوب، فقد دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوي الصحابة، فكيف ينكره الإمام أحمد بعد ذلك؛ لا سيما، وقد نَصّ على الرجوع إليه موافقة لهم، وقد سبق الحديث:"إن الصدق طمأنينة، والكذب ريبة"
(1)
، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه، ومعرفته، وبنفوره عن الكذب، وإنكاره، كما قال الربيع بن خُثيم: إن للحديث نورًا كنور النهار، تعرفه، وظلمةً كظلمة الليل، تُنْكره.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ربيعة، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد، عن أبي حميد، وأبي أسيد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني، تُنْكره قلوبكم، وتنفر عنه أشعاركم، وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فانا أبعدكم منه"، وإسناده قد قيل: على شرط مسلم؛ لأنه خرّج بهذا الإسناد بعينه حديثًا، لكن هذا الحديث معلول، فإنه رواه بكرٍ بن الأشجّ عن عبد الملك بن سعيد، عن عباس بن سهل، عن أُبَيّ بن كعب من قوله، قال البخاريّ: هو أصح من يحيى بن آدم،
(1)
حديث صحيح.
عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حُدّثتم عني حديثًا تعرفونه، ولا تنكرونه، فصدقوه، فإني أقول ما يُعْرَف، ولا يُنكَر، وإذا حُدّثتم عني بحديث تنكرونه، ولا تعرفونه، فلا تصدّقوا به، فإني لا أقول ما يُنْكَر، ولا يُعرَف"، وهذا الحديث معلول أيضًا، وقد اختلفوا في إسناده على ابن أبي ذئب، ورواه الحفاظ عنه، عن سعيد مرسلًا، والمرسل أصحّ عند الأئمة الحفاظ، منهم: ابن معين، والبخاريّ، وأبو حاتم الرازيّ، وابن خزيمة، وقال: ما رأيت أحدًا من علماء الحديث يُثْبت وَصْله.
وإنما تُحمل مثل هذه الأحاديث على تقدير صحتها على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد الذين كثرت دراستهم لكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولكلام غيره؛ لحال رواة الأحاديث، ونقلة الأخبار، ومعرفتهم بصدقهم، وكذبهم، وضبطهم، وحفظهم، فإن هؤلاء لهم نقد خاصّ في الحديث، مختصون بمعرفته، كما يختص الصيرفيّ الحاذق بمعرفة النقود، جيِّدها، ورديئها، وخالصها، ومَشُوبها، والجوهريّ الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته، ولا يقيم عليه دليلًا لغيره، وآية ذلك أنه يُعْرَض الحديث الواحد على جماعة، ممن يعلم هذا العلم، فيتفقون على الجواب فيه، من غير مواطأة، وقد امتُحِن هذا منهم غير مرّة، في زمن أبي زرعة، وأبي حاتم، فوُجِد الأمر على ذلك، فقال السائل: أشهد أن هذا العلم إلهام.
قال الأعمش: كان إبراهيم النخعيّ صيرفيًّا في الحديث، كنت أسمع من الرجال، فأَعْرِض عليه ما سمعته.
وقال عمرو بن قيس: ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفيّ الذي ينقُد الدرهم الزائف، والبهرج، وكذا الحديث.
وقال الأوزاعيّ: كنا نسمع الحديث، فنَعْرِضه على أصحابنا، كما نَعرِض الدرهم الزائف على الصيارفة، فما عرفوا أخذنا، وما أنكروا تركنا.
وقيل لعبد الرَّحمن بن مهديّ: إنك تقول للشيء: هذا يصحّ، وهذا لَمْ يثبت، فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد، فأريته دراهمك، فقال: هذا جيّد، وهذا بَهْرَج، أكنت تسأله عن ذلك، أو تُسَلّم الأمر إليه؟ قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، فقال: فهذا كذلك؛ لطول المجالسة، والمناظرة، والخبرة.
وقد رُوي نحو هذا المعنى عن الإمام أحمد أيضًا، وأنه قيل له: يا أبا عبد الله تقول: هذا الحديث منكَر، فكيف علمت، ولم تكتب الحديث كله؟، قال: مَثَلُنا كمَثَل ناقد العين، لَمْ تقع بيده العين كلّها، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد، أو أنه رديء.
وقال ابن مهديّ: معرفة الحديث إلهام، وقال: إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة.
وقال أبو حاتم الرازيّ: مَثَل معرفة الحديث، كمَثَل فَصّ ثمنه مائة دينار، وآخر مِثْله على لونه، ثمنه عشرة دراهم، قال: وكما لا يتهيأ للناقد أن يُخبِر بسبب نقده، فكذلك نحن رُزقنا علمًا، لا يتهيأ لنا أن نُخبِر كيف عَلِمنا بأن هذا حديث كذب، وأن هذا حديث منكر، إلَّا بما نعرفه، قال: ويُعْرَف جودة الدينار بالقياس إلى غيره، فإن تخلّف عنه في الحمرة والصفاء عُلم أنه مغشوش، ويُعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره، فإن خالفه في المائية، والصلابة، عُلم أنه زُجاج، ويُعْلَم صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلامًا يصلح مثلُهُ أن يكون كلام النبوة، ويعرف سَقَمه وإنكاره بتفرد من لَمْ تصحّ عدالته بروايته، والله أعلم.
وبكل حال فالجهابذة النقّاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدًّا، وأول من اشتَهَر بالكلام في نقد الحديث ابن سيرين، ثم خلفه أيوب السختيانيّ، وأخذ ذلك عنه شعبة، وأخذ عن شعبة يحيى القطان، وابن مهديّ، وأخذ عنهما أحمد، وعليّ بن المدينيّ، وابن معين، وأخذ عنهم مثل البخاريّ، وأبي داود، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وكان أبو زرعة في زمانه يقول: قَلّ من يفهم هذا، وما أعزّه، إذا دفعت هذا عن واحد واثنين، فما أقلّ من تجد من يُحْسن هذا، ولما مات أبو زرعة قال أبو حاتم: ذهب الذي كان يُحسن هذا -يعني: أبا زرعة- ما بقي بمصر، ولا بالعراق واحد يُحْسِن هذا، وقيل له بعد موت أبي زرعة: تعرف اليوم أحدًا يعرف هذا؛ قال: لا.
وجاء بعد هؤلاء جماعة، منهم: النسائيّ، والعُقيليّ، وابن عديّ، والدارقطنيّ، وقلَّ من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك، حتى قال أبو الفرج بن الجوزيّ في أول كتابه"الموضوعات": قَلّ من يفهم هذا، بل عُدم،
والله أعلم. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله بطوله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيس، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6496]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ - يَعْنِي: ابْنَ صَالِحٍ - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ، قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ سَنَةً، مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلةُ، كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُق، وَالإِثْم مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) أبو جعفر التميميّ، نزيل مصر، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ سَنَةً، مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ
…
إلخ) قال القاضي وغيره: معناه: أنه أقام بالمدينة كالزائر، من غير نقله إليها من وطنه لاستيطانها، وما مَنَعه من الهجرة، وهي الانتقال من الوطن، واستيطان المدينة، إلَّا الرغبة في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين، فإنه كان سَمَح بذلك للطارئين، دون المهاجرين، وكان المهاجرون يفرحون بسؤال الغرباء الطارئين، من الأعراب، وغيرهم؛ لأنهم يُحتَمَلون في السؤال، ويُعذرون، ويَستفيد المهاجرون الجواب، كما قال أنس رضي الله عنه في الحديث الذي ذكره مسلم في "كتاب الإيمان":"فكان يُعجبنا أن يجيء الرجل العاقل، من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع"، والله أعلم. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ سَنَةً
…
إلخ"؛ يعني: أنه أقام بالمدينة في صورة العازم على الرجوع إلى الوطن الذي
(1)
"جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب رحمه الله 2/ 95 - 108.
(2)
راجع: "شرح النوويّ" 16/ 111.
جاء منه، لا أنه التزم أحكام الهجرة من الاستيطان بها، والكون فيها ساكنًا بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلّ على أنَّ الهجرة ما كانت واجبة على كل من أسلم، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، وقد بيّن عذره في كونه، لَمْ يلتزم سكنى المدينة، وهو قوله: ما يمنعني من الهجرة إلَّا المسألة؛ أي: الأسئلة التي كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، وإنما كان ذلك؛ لأنَّ المهاجرين، والقاطنين بالمدينة، كانوا يكلفونه المسائل؛ لأنَّهم ما كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، ولذلك قال: كان أحدُنا إذا هاجر لَمْ يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وقد تمّم هذا المعنى أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: نُهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية، فيسأله، ونحن نسمع، وقد تقدَّم القول في ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(6) - (بَابُ وُجُوبِ صِلَةِ الرَّحِم، وَتَحْرِيمِ قَطِيعَتِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6497]
(2554) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ - وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ - عَنْ مُعَاوِيَةَ - وَهُوَ ابْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ - حَدَّثَنِي عَمِّي أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ، قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَة، قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَك، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكَ لَكِ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي
(1)
"المفهم" 6/ 522.
الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 22 - 24] ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيُّ) أبو رجاء الْبَغْلانيّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 240) عن (90) سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
3 -
(حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) الحارثيّ مولاهم، أبو إسماعيل المدنيّ، أصله من الكوفة، صحيح الكتاب، صدُوق يَهِم [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الصلاة" 42/ 1086.
4 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ أَبِي مُزَرِّدٍ) - بضم الميم، وفتح الزاي، وتثقيل الراء المكسورة - عبد الرَّحمن بن يسار، مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ المدنيّ، ليس به بأس [6](خ م س) تقدم في "الزكاة" 17/ 2336.
5 -
(عَمُّهُ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) أبو الحباب - بضم الحاء المهملة، وموحّدتين - المدنيّ، اختُلف في ولائه لمن هو؟ وقيل: سعيد بن مرجانة، ولا يصحّ، ثقةٌ متقن [3] (ت 117) وقيل: قبلها بسنة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 5/ 1614.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخيه، فالأول بغلانيّ، والثاني مكيّ، ثم بغداديّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ) قال القرطبيّ رحمه الله: "خَلَقَ" هنا: بمعنى اخترع، وأصله: التقدير، كما تقدَّم، والخَلْق هنا: بمعنى المخلوق، وأصله مصدرٌ، يقال: خَلَق يَخْلُق خَلْقًا: إذا قَدَّر، وإذا اخترع، قال زهير [من الكامل]:
وَلأَنْتَ تَقْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْـ
…
ـــــضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَقْرِي
أي: تقطع ما قَدّرتَ. وقال الله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]؛ أي: مخلوقه
(1)
.
(حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ)؛ أي: قضى خَلْقهم، وأتمّه، وقال القرطبيّ: معنى "فَرَغ منهم": أي: كَمّل خلقهم، لا أنه اشتغل بهم، ثم فَرَغ مِن شُغْله بهم؛ إذ ليس فعله بمباشرة، ولا بمناولة، ولا خَلْقه بآلة، ولا محاولة، تعالى عما يتوهّمه المتوهِّمون، وسبحانه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]. انتهى
(2)
.
(قَامَتِ الرَّحِمُ) - بفتح الراء، وكسر الحاء المهملة -: أي: القرابة، مشتقة من الرحمة، وهي عَرَضٌ جعلها الله تعالى تقوم، وتتكلّم، والله سبحانه وتعالى على كلِّ شيء قدير، فقيامها قيامٌ على الحقيقة، لا على المجاز، كما ادُّعي؛ إذ لا مانع أن تقوم الأعراض، وتتكلّم حقيقةً، والله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء.
وقال في "الفتح": قوله: "قامت الرحم" يَحْتَمِل أن يكون على الحقيقة، والأعراضُ يجوز أن تتجسد، وتتكلم بإذن الله تعالى، ويجوز أن يكون على حذف: أي: قام مَلَك، فتكلم على لسانها، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على طريق ضَرْب المَثَل، والاستعارة، والمراد: تعظيم شأنها، وفَضْلُ واصلها، وإثم قاطعها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا حاجة إلى هذه الاحتمالات سوى الأول؛ فإن ظاهر النصّ بعيد عنها، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ: قوله: "قامت الرحم، فقالت
…
إلخ" هذا الكلام من المجاز المستعمَل، والاتّساع المشهور؛ إذ الرّحِم عبارة عن قرابات الرجل من جهة طَرَفَيْ آبائه، وإن عَلَوا، وأبنائه، وإن نزلُوا، وما يتصل بالطرفين، من الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات، والإخوة، والأخوات، ومن يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة، والقرابة إذًا نِسبة من النّسَب، كالأبوّة، والأخوّة، والعمومة، وما كان كذلك استحال حقيقة القيام، والكلام، فيُحمل هذا الكلام على التوسّع، ويمكن حَمْله على أحد وجهين، ثم ذَكَر وجهين
(1)
"المفهم" 6/ 524.
(2)
"المفهم" 6/ 524.
سخيفين، لا ينبغي أن أشتغل بذكرهما، بل أقول: الحديث ظاهر المعنى، لا يحتاج إلى هذه التكلّفات، فمن الذي أحال كلام الرحم؟ فالذي أنطق الجسم العاقل قادر على جعل المعاني أجسامًا تتكلّم، بل ثبت لدينا بالنصوص الصحيحة كلام الجمادات، كحنين الجِذْع، وتسبيح الحصي، وتسبيح الطعام، وهو يؤكل، فالله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فدعوى الاستحالة باطلة، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ هنا قوله: "فأخذت، فقال له: مه
(1)
"، قال في "الفتح": قوله: "فأخذت" كذا للأكثر بحذف مفعول "أخذت"، وفي رواية ابن السكن: "فأخذت بحقو الرَّحمن"، وفي رواية الطبريّ: بحقوي الرَّحمن بالتثنية، قال القابسي: أبي أبو زيد المروزيّ أن يقرأ لنا هذا الحرف؛ لإشكاله، ومشى بعض الشراح على الحذف، فقال: أخذت بقائمة من قوائم العرش، وقال عياض: الحَقْو مَعْقِد الإزار، وهو الموضع الذي يُستجار به، ويحتزم به على عادة العرب؛ لأنه مِن أحقّ ما يُحامَى عنه، ويُدفَع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أُزُرنا، فاستعير ذلك مجازًا للرحم في استعاذتها بالله من القطيعة. انتهى.
وقد يُطلق الحقو على الإزار نفسه، كما في حديث أم عطية رضي الله عنها:"فأعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه"؛ يعني: إزاره، وهو المراد هنا، وهو الذي جَرَت العادة بالتمسك به عند الإلحاح في الاستجارة، والطلب، والمعنى على هذا صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة.
قال الطيبيّ: هذا القول مبني على الاستعارة التمثيلية، كأنه شبَّه حالة الرحم، وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة، والذب عنها بحالِ مستجير،
(1)
قوله: "فقال له: مه" هو اسم فعل معناه الزجر: أي اكفُفْ، وقال ابن مالك: هي هنا "ما" الاستفهامية، حُذفت أَلِفها، ووُقف عليها بهاء السكت، والشائع أن لا يُفْعَل ذلك إلَّا وهي مجرورة، لكن قد سُمع مثل ذلك، فجاء عن أبي ذؤيب الْهُذَليّ قال: قَدِمت المدينة، ولأهلها ضجيج بالبكاء؛ كضجيج الحجيج، فقلت: مه، فقالوا: قُبِض رسول الله سبحانه وتعالى. انتهى. "الفتح" 10/ 595.
يأخذ بحقو المستجار به، ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم للمشبَّه به، من القيام، فيكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم رُشحت الاستعارة بالقول، والأخذ، وبلفظ الحقو، فهو استعارة أخرى، والتثنية فيه للتأكيد؛ لأنَّ الأخذ باليدين آكَد في الاستجارة من الأخذ بيد واحدة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القاضي عياض، والطيبيّ من أن الكلام من باب المجاز، لا من الحقيقة غير مقبول؛ بل الجواب أن نؤمن بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونُثْبته على مراد الله تعالى.
وقد كتب بعض المحقّقين
(1)
على هامش "الفتح" في هذا المكان كلامًا حسنًا، فقال: ومن خير ما يقال في هذا المقام قول الشافعيّ رحمه الله: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول شيخ الإسلام رحمه الله في "نقض التأسيس، (3/ 127): "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نصّ الأئمّة على أنه يُمرّ كما جاء، ورَدّوا على من نفى موجبه". انتهى.
وخلاصة القول: أن الواجب على العاقل تجاه آيات الصفات، وأحاديثه أن يُمِرّها، كما جاءت، ويُثبتها على ظواهرها، وينزّه الله عز وجل عن التشبيه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تحريف، ولا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم رأيت لابن أبي جمرة رحمه الله كلامًا أعجبني، قال رحمه الله: قوله: "قامت الرحم، فقالت": يَحْتَمِل أن يكون بلسان الحال، ويَحْتَمِل أن يكون بلسان المقال، قولان مشهوران، والثاني أرجح، وعلى الثاني فهل تتكلم كما هي، أو يخلق الله لها عند كلامها حياةً، وعقلًا؛ قولان أيضًا مشهوران، والأول أرجح؛ لصلاحية القدرة العامّة لذلك، ولمَا في الأَوَّلَين من تخصيص عموم لفظ القرآن والحديث بغير دليل، ولمَا يلزم منه من حصر قدرة القادر التي لا
(1)
هو: الشيخ عبد الرَّحمن بن ناصر البرّاك.
يحصرها شيء. انتهى كلام ابن أبي جمرة رحمه الله
(1)
، وهو كلام نفيسٌ ينبغي أن يُكتب بماء الذهب، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَت) الرحم: (هَذَا مَقَامُ)؛ أي: مكان (الْعَائِذِ) بالذال المعجمة: أي: المستجير، والمعتصم بك
(2)
، (مِنَ الْقَطِيعَةِ)؛ أي: أن يُقطع.
وقال في "الفتح": قوله: "هذا مقام العائذ بك من القطيعة" هذه الإشارة إلى المقام؛ أي: قيامي في هذا مقام العائذ بك، ووقع في رواية الطبريّ:"هذا مقام عائذٍ من القطيعة"، والعائذ: المستعيذ، وهو المعتصم بالشيء، المستجير به. انتهى
(3)
.
(قَالَ) الله عز وجل: (نَعَمْ)؛ أي: هذا مقام العائذ بي، فـ "نعم" حرف إيجاب مقرّرٌ لِمَا سَبَق، استفهامًا كان، أو خبرًا. (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح، وتنبيه، مثلُ "ألا"، والهمزة للاستفهام، على سبيل التقرير لِمَا بعد "لا" النافية
(4)
. (تَرْضَيْنَ) خطاب للرحم، (أَنْ) مصدريّة، (أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ) بأن أعْطِف عليه، وأحسن إليه، فهو كناية عن عظيم إحسانه، (وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟) فلا أعْطِفُ عليه، فهو كناية عن حرمان إنعامه، وامتنانه
(5)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قيل: إنه كناية، والظاهر أن هذا من باب تأويل صفة الوصل، وفيه نَظَر لا يخفى، والله تعالى أعلم.
(قَالَتْ) الرحم: (بَلَى)؛ أي: رضيت به، (قَالَ) الله عز وجل، وقوله:(فَذَاكَ لَكِ") بكسر الكاف فيهما، وهو إشارةٌ إلى قوله:"ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ "؛ أي: ذاك حصل لك.
وصلةُ الرحم بالمال ونحو عَوْن على حاجة، ودَفْع ضرر، وطلاقة وجه، ودعاء، والمعنى الجامع لها: إيصال الممكن من خير، ودَفْع الممكن من شرّ، وهذا إنما يطّرد إن استقام أهل الرحم، فإن كفروا، وفَخَروا، فقطيعتهم في الله
(1)
"الفتح" 10/ 417.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 19/ 173.
(3)
"الفتح" 10/ 595، كتاب "التفسير" رقم (4830).
(4)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 234.
(5)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 234.
صِلَتُهم بشرط بذل الجهد في وعظهم، ومن ثَمَّ قَتَل أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح أباه يوم بدر كافرًا؛ غضبًا لله، ونصرة لدينه
(1)
.
وخلاصة القول: أن مقصود هذا الكلام الإخبار بتأكّد صلة الرحم، فإنها قد استجارت بالله سبحانه وتعالى، فأجارها، وأدخلها في ذمته، وخفارته، وإذا كان كذلك، فجار الله تعالى غير مخذول، وعهده غير منقوض، ولذلك قال مخاطبًا لها:"أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ " وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنّكم الله من ذمته بشيء، فإنَّه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبّه على وجهه في نار جهنم"
(2)
، رواه مسلم، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) هكذا في رواية حاتم بن إسماعيل عند الشيخين مرفوعًا، ووقع في رواية سليمان بن بلال عند البخاريّ بلفظ:"قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم"، موقوفًا، ووافق حاتمًا على رَفْعه ابنُ المبارك عند البخاريّ
(3)
.
("اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ) مصداق هذا الحديث، ({فَهَلْ عَسَيْتُمْ}) مفعول "اقرؤوا" محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، وقرأه نافع بكسر السين، والباقون بالفتح، وقد حَكَى عبد الله بن المغفَّل أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها بكسر السين
(4)
، وإلى هذين الضبطين مع اختيار الفتح أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَالْفَتْحَ وَالْكَسْرَ أَجِزْ فِي السِّينِ مِنْ
…
نَحْوِ "عَسِيتُ" وَانْتِقَا الْفَتْحِ زُكِنْ
وقال القرطبيّ رحمه الله: "عسى": من أفعال المقاربة، ويكون رجاء، وتحقيقًا، قال الجوهريّ:"عسى" من الله واجبة في جميع القرآن، إلَّا قوله تعالى:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]، وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل، كان فيها لغتان: فتح السين، وكسرها، وقرئ بهما.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 234.
(2)
"المفهم" 6/ 525.
(3)
راجع: "الفتح" 10/ 496.
(4)
"عمدة القاري" 19/ 173.
({إِنْ تَوَلَّيْتُمْ}) قال في "الفتح": اختُلف في تأويله، فالأكثر على أنَّها من الولاية، والمعنى: إن وُلِّيتم الحكمَ، وقيل: بمعنى الإعراض، والمعنى: لعلكم إن أعرضتم عن قبول الحقّ أن يقع منكم ما ذُكِر، والأول أشهر، ويَشهد له ما أخرجه الطبري في "تهذيبه" من حديث عبد الله بن مغفّل، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: 22] قال: هم هذا الحيّ من قريش، أخذ الله عليهم إن وُلُّوا الناسَ أن لا يفسدوا في الأرض، ولا يقطّعوا أرحامهم"
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله: اختُلف في معنى "إن توليتم"، فقيل: هو من الولاية، قال أبو العالية: المعنى: فهل عسيتم إن توليتم الحكمَ، فجُعِلتم حُكّامًا أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشا؟ وقال الكلبيّ: أي: فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمّة أن تفسدوا في الأرض بالظلم؟ وقال ابن جريجٍ: المعنى: فهل عسيتم إن توليتم عن الطاعة أن تفسدوا في الأرض بالمعاصي، وقَطْع الأرحام؟ وقال كعب: المعنى: فهل عسيتم إن توليتم الأمر أن يَقتُل بعضُكم بعضًا؟
وقيل: من الإعراض عن الشيء، قال قتادة: أي: فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء الحرام، وتقطعوا أرحامكم؟
وقيل: "فهل عسيتم"؛ أي: فلعلكم إن أعرضتم عن القرآن، وفارقتم أحكامه، أن تفسدوا في الأرض، فتعودوا إلى جاهليتكم؟
وقال بكر المزني: إنها نزلت في الحرورية، والخوارج، وفيه بُعد، والأظهر أنه إنما عُني بها المنافقون، وقال ابن حيان: قريش، ونحوه قال المسيب بن شريك، والفراء، قالا: نزلت في بني أمية، وبني هاشم، ودليل هذا التأويل ما رَوَى عبد الله بن مغفّل، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: 22]، ثم قال: هم هذا الحيّ من قريش، أخذ الله عليهم إن وُلُّوا الناس ألا يفسدوا في الأرض، ولا يقطّعوا أرحامهم".
(1)
"الفتح" 10/ 596، كتاب "التفسير" رقم (4830).
وقرأ عليّ بن أبي طالب: "إن تُوُلِّيتم أن تفسدوا في الأرض" بضم التاء والواو، وكسر اللام، وهي قراءة ابن أبي إسحاق، ورواها رُوَيس عن يعقوب، يقول: إن وليتكم ولاةً جائرةً خرجتم معهم في الفتنة، وحاربتموهم. انتهى
(1)
.
({إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}) بالبغي، والظلم، والقتل، وقرأ يعقوب، وسلام، وعيسى، وأبو حاتم:"وتَقْطعوا" بفتح التاء، وتخفيف القاف، من القطع، اعتبارًا بقوله تعالى:{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27]، وروى هذه القراءة هارون، عن أبي عمرو، وقرأ الحسن:"وتَقَطَّعوا" مفتوحة الحروف مشدّدة، اعتبارًا بقوله تعالى: " {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [الأنبياء: 93]، والباقون:{وَتُقَطِّعُوا} بضم التاء، مشدّدة الطاء، من التقطيع على التكثير، وهو اختيار أبي عبيد
(2)
.
({أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ})؛ أي: طردهم، وأبعدهم من رحمته، ({فَأَصَمَّهُمْ}) عن الحق ({وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ})؛ أي: قلوبهم عن الخير، فأتْبَع الإخبار بأن من فعل ذلك حقّت عليه لَعْنته، وسَلَبه الانتفاع بسمعه، وبصره، حتى لا ينقاد للحقّ، وإن سَمِعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل، وقال:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ} ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ، فرجع من الخطاب إلى الغَيْبة على عادة العرب في ذلك
(3)
.
({أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؛ أي: يتفهمونه، فيَعْلَمون ما أَعَدَّ اللهُ للذين لَمْ يتولوا عن الإسلام، ({أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا})(محمد: 22 - 24] ")؛ أي: بل على قلوب أقفال، أقفلها الله عز وجل عليهم، فهم لا يعقلون، وهذا يَرُدّ على القدرية، والإمامية مذهبهم، وفي حديث مرفوع أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن عليها أقفالًا كأقفال الحديد، حتى يكون الله يفتحها"، وأصل القفل: الْيُبْس والصلابة، ويقال لما يَبِس من الشجر: القَفْل، والقَفِيل مثله، والقفيل أيضًا نَبْت، والقفيل: الصوت، فالأقفال هاهنا إشارة إلى ارتتاج القلب، وخلؤه عن الإيمان؛ أي: لا يدخل قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر؛ لأنَّ الله تعالى طَبَع على
(1)
"تفسير القرطبيّ" 16/ 245 - 246.
(2)
"تفسير القرطبي" 16/ 246.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 16/ 246.
قلوبهم، وقال:{عَلَى قُلُوبٍ} ؛ لأنه لو قال: على قلوبهم لَمْ يدخل قلب غيرهم في هذه الجملة، والمراد: أم على قلوب هؤلاء، وقلوب من كانوا بهذه الصفة أقفالها
(1)
.
وقال أبو السعود رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ}
…
إلخ بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع؛ أي: هل يُتوقع منكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمورَ الناس، وتأمّرتم عليهم {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تناحُرًا على المُلْك، وتهالكًا على الدنيا، فإن مَن شاهد أحوالكم الدالة على الضَّعف في الدين، والحرص على الدنيا، حين أُمرتم بالجهاد الذي هو عبارة عن إحراز كل خير وصلاح، ودَفْع كل شرّ وفساد، وأنتم مأمورون شأنكم الطاعة، والقول المعروف، يَتوقَّع منكم إذا أُطلقت أَعِنتكم، وصرتم آمرين، ما ذُكِر من الإفساد، وقَطْع الأرحام.
وقيل: إن أعرضتم عن الإسلام، أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاوُر، والتناهب، وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضًا، ووأد البنات، وفيه أن الواقع في حَيِّز الشرط في مِثْل هذا المقام لا بدّ أن تكون محذوريته باعتبار ما يستتبعه من المفاسد، لا باعتبار ذاته، ولا ريب في أن الإعراض عن الإسلام رأس كل شرّ وفساد، فحقه أن يُجعل عمدة في التوبيخ، لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد.
وقرئ: "وُلِّيتم" على البناء للمفعول؛ أي: جُعلتم وُلاةً، وقرئ:"تُوُلِّيتم"؛ أي: تولاكم ولاة جَوْر خرجتم معهم، وساعدتموهم في الإفساد، وقطيعة الرحم، وقرئ:"وتَقَطّعوا" من التقطع، بحذف إحدى التاءين، فانتصاب {أَرْحَامَكُمْ} حينئذ على نزع الجارّ؛ أي: في أرحامكم، وقرئ:"وتَقْطَعوا" من القطع.
وإلحاق الضمير بـ "عسى" لغة أهل الحجاز، وأما بنو تميم، فيقولون: عسى أن تفعل، وعسى أن تفعلوا.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 16/ 246 - 247.
{أُولَئِكَ} إشارة إلى المخاطَبين بطريق الالتفات إيذانًا بأنّ ذِكر هَنَاتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم اللفظية لغيرهم، وهو مبتدأ خبره:{الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} ؛ أي: أبعدهم من رحمته، {فَأَصَمَّهُمْ} عن استماع الحقّ؛ لتصامّهم عنه بسوء اختيارهم، {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} لتعاميهم عما يشاهدونه من الآياتِ المنصوبة في الأنفس، والآفاق. {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؛ أي: ألا يلاحظونه، ولا يتصفحونه، وما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات، {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فلا يكاد يَصِل إليها ذِكر أصلًا، و"أم" منقطعة، وما فيها من معنى "بل" للانتقال من التوبيخ بعدم التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة، لا تقبل التدبر والتفكر، والهمزة للتقرير، وتنكير القلوب؛ إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، بإيهام أمرها في القساوة، والجهالة، كأنه قيل: على قلوب مُنكَرة، لا يُعرف حالها، ولا يقادر قَدْرها في القساوة، وإما لأنَّ المراد بها قلوب بعضٍ منهم، وهم المنافقون، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنَّها أقفال مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6497](2554)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4831 و 4832) و "الأدب"(5987) و "التوحيد"(7502) وفي "الأدب المفرد"(50)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 461)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 330)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(441)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 178)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 26) و"شُعَب الإيمان"(6/ 214)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3431)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"تفسير أبي السعود" 8/ 98 - 99.
1 -
(منها): بيان وجوب صلة الرحم، وتحريم قَطْعها.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ المفسّر رحمه الله: ظاهر الآية أنَّها خطاب لجميع الكفار، وقال قتادة وغيره: معنى الآية: فلعلكم، أو يُخاف عليكم، إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض بسفك الدماء، قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله تعالى؟ ألم يسفكوا الدماء الحرام، ويقطعوا الأرحام، وعصوا الرَّحمن؟
فالرَّحِم على هذا رَحِم دين الإسلام والإيمان، التي قد سمّاها الله إخوة بقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].
وعلى قول الفراء: إن الآية نزلت في بني هاشم، وبني أمية، والمراد من أضمر منهم نفاقًا، فأشار بقطع الرحم إلى ما كان بينهم وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم من القرابة بتكذيبهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القتال.
وبالجملة فالرحم على وجهين: عامة وخاصة، فالعامة رَحِم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان، والمحبة لأهله، ونُصرتهم، والنصيحة، وترك مضارّتهم، والعدل بينهم، والنَّصَفة في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة؛ كتمريض المرضي، وحقوق الموتى، مِن غَسْلهم، والصلاة عليهم، ودَفْنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرَّحِمُ الخاصة، وهي رَحِمُ القرابة من طَرَفَي الرجل: أبيه، وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة، وزيادة، كالنفقة، وتفقُّد أحوالهم، وترْك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بُدئ بالأقرب فالأقرب.
وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صِلَتها هي كل رحم مَحْرم، وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال، وقيل: بل هذا في كل رحم ممن ينطلق عليه ذلك من ذوي الأرحام في المواريث، محرمًا كان أو غير محرم، فيخرج من هذا أن رحم الأم التي لا يُتوارث بها لا تجب صلتهم، ولا يحرم قطعهم، وهذا ليس بصحيح، والصواب أن كل ما يشمله، ويعمّه الرحم تجب صلته على كل حال: قرابة، ودينية، على ما ذكرناه أولًا، والله أعلم.
وقد روى أبو داود الطيالسيّ في "مسنده" قال: حَدَّثَنَا شعبة، قال:
أخبرني محمد بن عبد الجبار، قال: سمعت محمد بن كعب القُرَظيّ يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن للرحم لسانًا يوم القيامة، تحت العرش، يقول: يا رب قُطعت، يا رب ظُلمت، يا رب أُسيء إليّ، فيجيبها ربها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك".
وفي "صحيح مسلم" عن جبير بن مُطْعِم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجَنَّة قاطع"، قال سفيان: يعني: قاطع رحم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة، قال: والأحاديث في الباب تشهد لهذا، ولكن الصلة درجات، بعضها أرفع من بعض، وأدناها ترك المهاجَرة، وَصِلَتها بالكلام، ولو بالسلام، ويختلف ذلك باختلاف القدرة، والحاجة، فمنها واجب، ومنها مستحبّ، لو وصل بعض الصلة، ولم يَصِلْ غايتها، لا يسمى قاطعًا، ولو قَصّر عما يقدر عليه، وينبغي له، لا يسمى واصلًا. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله عياض أيضًا: اختلفوا في حدّ الرحم التي تجب صلتها، فقيل: هو كل رحم محرم، بحيث لو كان أحدهما ذكرًا والآخر أنثى حَرُمت مناكحتهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام، ولا أولاد الأخوال، واحتَجّ هذا القائل بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، أو خالتها في النِّكَاح ونحوه، وجواز ذلك في بنات الأعمام، والأخوال، وقيل: هو عامّ في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي المحرم وغيره، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ثم أدناك، أدناك".
قال النوويّ - بعد نقل كلام عياض هذا -: وهذا القول الثاني هو الصواب، ومما يدلُّ عليه الحديث السابق في أهل مصر:"فإن لهم ذمّةً، ورَحِمًا"، وحديث:"إن أبرّ البرّ أن يصل أهل وُدّ أبيه"، مع أنه لا محرمية. انتهى
(3)
.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 16/ 247 - 248.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 113.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 113.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله النوويّ من تصويب القول الثاني هو الحقّ، لوضوح أدلّته، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6498]
(2555) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْش، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ) - بضمّ الراء - المدنيّ، أبو رَوح، مولى آل الزبير، ثقةٌ [5](ت 130) وروايته عن أبي هريرة مرسلة (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 57/ 1948.
3 -
(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهور [3](94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 457.
4 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من معاوية بن أبي مزرّد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها؛ أنَّها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّحِمُ) بفتح الراء، وكسر الحاء المهملة، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الرَّحِمُ": موضع تكوين الولد، ويخفف بسكون الحاء، مع فتح الراء، ومع كسرها أيضًا، في لغة بني
كلاب، وفي لغة لهم تُكْسَر الحاء؛ إتباعًا لكسرة الراء، ثم سُمِّيت القرابة، والوُصْلة من جهة الولاء رَحِمًا، فَالرَّحِمُ: خلاف الأجنبيّ، والرَّحِمُ: أنثى في المعنيَيْن، وقيل: مذكّر، وهو الأكثر في القرابة. انتهى
(1)
.
(مُعَلَّقَةٌ) اسم مفعول من التعليق، (بِالْعَرْش، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَني) بالإحسان إليّ (وَصَلَهُ اللهُ) بِصِلته العظيمة التي لا يقدر قدرها، ولا منتهى لغايتها، (وَمَنْ قَطَعَنِي) بالإساءة إليّ (قَطَعَهُ اللهُ) جزاءً عمله جزاءً وفاقًا؛ لأنَّ الجزاء من جنس العمل.
وقال ابن أبي جمرة: الوصل من الله: كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولمّا كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال، وهو القرب منه، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عُرِف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده، قال: وكذا القول في القطع، هو كناية عن حرمان الإحسان. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل الذي ذكره ابن أبي جمرة مخالف لِمَا سبق له من التحقيق، وقد تعقّبه بعض المحقّقين فيما قاله هنا، فقال: قوله: الوصل كناية عن عظيم إحسانه
…
إلخ هذا كلام متناقض، فقد أثبت أن الوصل كناية عن الإحسان، ونفى أن يكون منه قُرْب الله من عبده، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يُرضيه، وزعم أن ذلك مستحيل في حقّ الله تعالى، وهذه الأنواع من أعظم أنواع الإحسان التي يُكْرِم الله بها أولياءه، كما في حديث الوليّ، يقول الله تعالى:"ولا يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يَبْطش بها، ورِجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه. . ." الحديث، رواه البخاريّ.
وقال أيضًا: الوصل من الله عز وجل لمن يصل رحمه يدلُّ على أنَّ الجزاء من جنس العمل، وهذه سنّة الله عز وجل في جزائه ثوابًا وعقابًا، والوصل من الله تعالى يكون بما شاء - مما يدخل في معنى الوصل اللائق به -، وكلّها تدخل في الإحسان، وهو سبحانه وتعالى يُحسن إلى المحسنين بمحبّته، وتقريبه، وبأنواع المنافع،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 223.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 146.
والمحبوبات، قال تعالى:{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال في الحديث القدسيّ:"وإن تقرّب إليّ شبرًا، تقربت إليه ذراعًا"، وقال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقَصْر معنى الوصل من الله تعالى على بعض أنواعه تقييد، وتخصيص بغير حجة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6498](2555)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5989)، ولفظه:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: الرحم شِجنة، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 536)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 158 - 159)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 26)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ لهذا الحديث بلفظ: "الرحم شِجنة، فمن وصلها وصلته. . ." الحديث.
وقوله: "شُجْنة" بضم الشين، وكسرها، وحُكي فيه الفتح أيضًا، ومعناه: قرابةٌ مُشتبِكةٌ، كاشتباك العُروق والأغصان، وأصل ذلك: الشجر الْمُلْتَفّ عروقه وأغصانه، ومنه قولهم: الحديث شُجُون: أي: يتداخل، ويُمسك بعضه بعضًا، ويجرّ بعضه إلى بعض، قاله في "المشارق"
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6499]
(2556) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ"، قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: قَالَ سُفْيَانُ: يَعْني: قَاطِعَ رَحِمٍ).
(1)
راجع: ما كتبه الشيخ البرّاك على هامش "الفتح" 13/ 520 رقم (5989).
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 245 - 246.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، نزيل مكة، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صنَّف "المسند"، وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
3 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام المعلّم الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ) بن عديّ بن نوفل النوفليّ، ثقةٌ عارف بالنسب [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1040.
5 -
(أَبُوهُ) جبير بن مُطْعِم بن عديّ بن نوفل بن عبد مناف القرشيّ النوفليّ، صحابيّ عارف بالأنساب، مات سنة ثمان، أو تسع وخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 746.
و"شيخه زُهير" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ) بضم الجيم مصغّرًا، (ابْنِ مُطْعِمٍ) بصيغة اسم الفاعل، من الإطعام، (عَنْ أَبِيهِ) جُبير بن مطعم رضي الله عنه، وفي رواية مالك التالية:"أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ"(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَدْخُلُ) بفتح أوله، من الدخول، (الْجَنَّةَ قَاطِعٌ") ذُكر في هذه الرواية دون إضافة، وقد أضيف في رواية مالك التالية، ولفظه:"قاطع رحم"، لكن ذكر تفسيره هنا، فقال:(قَالَ) محمد بن يحيى (ابْنُ أَبِي عُمَرَ) الْعَدنيّ شيخه الثاني: (قَالَ سُفْيَانُ) بن عُيينة: (يَعْنِي)؛ أي: يقصد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "قاطعٌ"، (قَاطِعَ رَحِمٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا التفسير صحيحٌ؛ لكثرة مجيء لفظ "قاطع" في الشَّرع مضافًا إلى الرّحم، فإذا ورد عاريًا عن الإضافة حُمِل على ذلك الغالب، والكلام في كون القاطع لا يدخل الجَنَّة
قد تقدَّم في "كتاب الإيمان"، وأنه يصحّ أن يُحْمَل على المستحلّ لِقَطْع الرحم، فيكون القاطع كافرًا، أو يخاف أن يَفسُد قلبه بسبب تلك المعصية، فيُختم عليه بالكفر، فلا يدخل الجَنَّة، أو لا يدخل الجَنَّة في الوقت الذي يدخلها الواصل لِرَحِمه؛ لأنَّ القاطع يُحبس في النار بمعصيته، ثم بعد ذلك يخلص منها بتوحيده، كل ذلك مُحْتَمل، والله ورسوله أعلم بعين المقصود. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث يُتأوّل تأويلين سبقا في نظائره في "كتاب الإيمان":
أحدهما: حَمْله على من يستحلّ القطيعة بلا سبب، ولا شبهة، مع علمه بتحريمها، فهذا كافر يُخَلَّد في النار، ولا يدخل الجَنَّة أبدًا.
والثاني: معناه: ولا يدخلها في أول الأمر مع السابقين، بل يعاقَب بتأخّره القدر الذي يريده الله تعالى. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جُبير بن مطعم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6499 و 6500 و 6501](2556)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5984) وفي "الأدب المفرد"(64)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1696)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1909)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20328)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 84)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 254)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 32 و 9/ 80) و"الكبير"(2/ 118 و 119 و 120)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 385 و 386 و 388)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 333)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(454)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 27) و"شُعب الإيمان"(6/ 220)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3437)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قوله في هذه الرواية: "لا يدخل الجَنَّة قاطع" هكذا
(1)
"المفهم" 6/ 526 - 527.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 113 - 114.
أورد مسلم من طريق ابن عيينة، دون إضافة، وكذا هو عند البخاريّ من طريق عُقيل، وأخرجه مسلم بعد هذا من طريق مالك، وقال:"قاطع رحم"، وزيادة "رحم" فيها نظر، يأتي الكلام عليه، وأخرجه من طريق معمر، ولم يَسُق مَتْنه، بل أحاله على رواية مالك، وأخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" عن عبد الله بن صالح، عن الليث، وقال فيه:"قاطع رحم".
وقد جعل التفسير هنا من قول سفيان بن عيينة، وكذا هو عند الترمذيّ، وذكر ابن بطال أن بعض أصحاب سفيان رواه عنه كرواية عبد الله بن صالح، فأدرج لتفسير.
وقد ورد بهذا اللفظ من طريق الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، أخرجه إسماعيل القاضي في "الأحكام"، ومن طريق أبي حَرِيز - بمهملة، وراء، ثم زاي، بوزن عظيم - واسمه عبد الله بن الحسين قاضي سجستان، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رَفَعه:"لا يدخل الجَنَّة مُدْمِن خمر، ولا مُصَدِّق بسحر، ولا قاطع رحم"، أخرجه ابن حبان، والحاكم.
ولأبي داود من حديث أبي بكرة، رفعه:"ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يَدَّخِر له في الآخرة من البغي، وقطيعة الرحم".
وللبخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة، رفعه:"إن أعمال بني آدم تُعْرَض كلَّ عشية خميس ليلة جمعة، فلا يُقْبَل عمل قاطع رحم".
وللطبراني من حديث ابن مسعود: "إن أبواب السماء مُغْلقة دون قاطع الرحم".
وللبخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث ابن أبي أوفى، رفعه:"إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع الرحم".
وذكر الطيبيّ أنه يَحْتَمِل أن يراد بالقوم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم، ولا ينكرون عليه، ويَحْتَمِل أن يراد بالرحمة المطر، وأنه يُحبس عن الناس عمومًا بشؤم التقاطع
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "الفتح" 13/ 515 - 516، كتاب "الأدب" رقم (5984).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6500]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُويرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُّبَعِيُّ) - بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة - أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُويْرِيَةُ) - تصغير جارية - ابن أسماء بن عُبيد الضبعيّ البصريّ، عمّ عبد الله الراوي عنه، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ رحمه الله: أصح الأسانيد كلها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما[7](ت 179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَاطِعُ رَحِمٍ) هكذا النُّسخ التي بين يديّ من "صحيح مسلم" بزيادة لفظة: "رحم"، وَلِيْ فيها نظرٌ؛ لأن رواية مالك أخرجها عبد الرزّاق في "مصنّفه"
(1)
، وأحمد في "مسنده"
(2)
عن عبد الرزّاق، والطبرانيّ في "المعجم الكبير"
(3)
، وابن حبّان في "صحيحه"
(4)
، وكلهم أوردوه بلفظ:"لا يدخل الجنّة قاطعٌ"، دون لفظة "رحم"، وهو الذي مشى عليه صاحب "الفتح"، حيث ذكر أن مسلمًا ذكره من رواية مالك، ومعمر دونها، والظاهر أن زيادة لفظة "رحم" من تصرّف الرواة بعد مسلم، والله تعالى أعلم.
(1)
"المصنّف" 11/ 173.
(2)
"المسند" 4/ 84.
(3)
"المعجم الكبير" 2/ 120.
(4)
"صحيح ابن حبّان" 2/ 199.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6501]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همَّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"الزهريّ" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية معمر، عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه"، فقال:
(20238)
- أخبرنا معمرٌ عن الزهريّ، عن محمد بن جُبير بن مُطعم، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة قاطع". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6502]
(2557) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، أَو يُنْسَأَ فِي أثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) أبو حفص المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [5](ت 3 أو 144)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأيليّ، أبو يزيد، مولى آل أبي
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 173.
سفيان، ثقةٌ، يُخطئ قليلًا، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، وقيل: سنة ستين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
3 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَدَمه عشر سنين، الصحابيّ المشهور، مات سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين إلى يونس، والباقيان مدنيّان، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) وفي الرواية التالية: "من أحبّ أن يُبْسَط له في رزقه"، وللترمذيّ، وحسَّنه عن أبي هريرة رضي الله عنه:"إن صلة الرحم محبة في الأهل، مَثْراة في المال، مَنسأة في الأثر"، وعند أحمد بسند رجاله ثقات، عن عائشة رضي الله عنه مرفوعًا:"صلة الرحم، وحُسْن الجوار، وحسن الخُلُق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار"، وأخرج عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"، والبزار، وصححه الحاكم، من حديث عليّ نحو حديث الباب، قال:"ويدفع عنه ميتة السوء"، ولأبي يعلى من حديث أنس، رفعه:"إن الصدقة، وصِلَة الرحم يزيد الله بهما في العمر، ويدفع بهما ميتة السوء"، فجَمَع الأمرين، لكن سنده ضعيف، وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"من اتّقى ربه، ووصَل رَحِمَه، نُسِّئ له في عمره، وثُرِّي ماله، وأحبه أهله"
(1)
. (أَو يُنْسَأَ) - بضم أوله، وسكون النون، بعدها مهملة، ثم همزة، مبنيًّا للمفعول -: أي: يؤخَّر (فِي أَثَرِهِ) -بفتحتين -: أي: في أجله، وسُمّي الأجل أثرًا؛ لأنه يتبع العمر، قال زهير [من البسيط]:
(1)
"الفتح" 13/ 516 - 517، كتاب "الأدب" رقم (5986).
يَسْعَى الْفَتَى لأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا
…
وَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ
…
لَا يَنْقَضِي الْعُمْرُ حَتَّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
وأصله مِن أَثَر مَشْيِهِ في الأرض، فإن من مات لا يبقى له حركة، فلا يبقى لقدمه في الأرض أثر.
وقال النوويّ رحمه الله: "ينسأ" مهموز: أي: يؤخر، والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها، وبَسْط الرزق: توسيعه، وكثرته، وقيل: البركة فيه
(1)
.
(فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ") قال ابن التين رحمه الله: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]، والجمع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة، وعمارة وقته بما ينفعه في الآخرة، وصيانته عن تضييعه في غير ذلك، ومثل هذا ما جاء أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأعمار من مضى من الأمم، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر.
وحاصله أن صلة الرحم تكون سببًا للتوفيق للطاعة، والصيانة عن المعصية، فيبقى بعده الذِّكر الجميل، فكأنه لم يمت.
ومن جملة ما يحصل له من التوفيق: العلمُ الذي يُنتفع به مِن بعده، والصدقة الجارية عليه، والخَلَف الصالح.
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة إلى علم الملَك الموكل بالعمر، وأما الأول الذي دلّت عليه الآية، فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للملَك مثلًا: إن عمر فلان مائة مثلًا إن وَصَل رَحِمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله تعالى أنه يَصِل، أو يَقطع، فالذي في علم الله لا يتقدّم، ولا يتأخر، والذي في علم المَلَك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]، فالمحو والإثبات بالنسبة لِمَا في علم المَلَك، وما في أم الكتاب هو الذي في عِلم الله تعالى، فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرَم،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 114 - 115.
ويقال للأول: القضاء المعلَّق، والوجه الأول ألْيَق بلفظ حديث الباب، فإن الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أُخّر حَسُن أن يُحْمَل على الذِّكر الحَسَن بعد فَقْد المذكور.
وقال الطيبيّ: الوجه الأول أظهر، وإليه يشير كلام صاحب "الفائق" قال: ويجوز أن يكون المعنى أن الله يُبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلًا، فلا يضمحلّ سريعًا، كما يضمحلّ أثر قاطع الرحم، ولَمّا أنشد أبو تمّام قوله في بعض المراثي [من الطويل]:
تُوُفِّيَتِ الآمَالُ بَعْدَ مُحَمَّدٍ
…
وَأَصْبَحَ فِي شُغْلٍ عَنِ السَّفَرِ السَّفْرُ
قال له أبو دُلَف: لم يمت من قيل فيه هذا الشعر.
ومن هذه المادّة قول الخليل رحمه الله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84].
وقد ورد في تفسيره وجه ثالث، فأخرج الطبرانيّ في "الصغير" بسند ضعيف، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذُكِر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وَصَل رَحِمه أُنسئ له في أجله، فقال:"إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} الآية [الأعراف: 34]، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة، يَدْعُون له من بعده"، وله في "الكبير" من حديث أبي مشجعة الجهنيّ، رفعه:"إن الله لا يؤخِّر نَفْسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة. . ." الحديث.
وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البرّ في فَهْمه، وعقله، وقال غيره: في أعمّ من ذلك، وفي وجود البركة في رزقه، وعِلمه، ونحو ذلك، ذكر ذلك كلّه في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ عندي قول من قال: إن الزيادة في الأجل، والرزق زيادة حقيقيّة على ظاهرها؛ لظاهر النصّ، ولأدلّة أخرى، وسيأتي تحقيق ذلك في المسألة الرابعة -إن شاء الله تعالى -.
(1)
"الفتح" 13/ 517 - 518، رقم (5986).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 502 و 6503](2557)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2067) و"الأدب"(5986) وفي "الأدب المفرد"(56)، و (أبو داود) في "الزكاة"(1693)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 156 و 229 و 266)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(438 و 439)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 27) وفي "شُعَب الإيمان"(6/ 218)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3429)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل صلة الرحم.
2 -
(ومنها): بيان بَسْط الرزق، وطول العمر بسبب صلة الرحم.
3 -
(ومنها): بيان أن الرزق والأجل يزاد فيهما بصلة الرحم، وقد قدّمت أن الصحيح كون الزيادة حقيقةً، لا مجازًا، والله تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): بيان أن فعل الخير، كصلة الرحم، ونحوها سبب الفلاح في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل:{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف العلماء في معنى زيادة العمر ونقصانه:
(اعلم): أنه كتب العلامة الشوكانيّ رحمه الله في هذا الموضوع رسالة نافعة جدًّا، أحببت إيرادها هنا؛ تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد، قال رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين، وعلى آله وصحبه الأطهرين.
(اعلم): أنه قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة، وهي قوله عز وجل:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]، وقوله:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]،
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، وقوله:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 145]، فقد قيل: إنها معارضة لقوله عز وجل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]، وقوله سبحانه وتعالى:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].
فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص؛ استدلالًا بالآيات المتقدّمة، وبالأحاديث الصحيحة، كحديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أحدكم يُجمع خَلْقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملَكًا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله، ورزقه، وأجله، وشقيّ، أو سعيد. . ." الحديث، وهو في "الصحيحين" وغيرهما، وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة، وأجابوا عن قوله عز وجل:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] بأن المعنى: يمحو ما يشاء من الشرائع، والفرائض، فينسخه، ويبدله، ويُثبت ما يشاء، فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ في أمّ الكتاب.
ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصّص.
وأيضًا يقال لهم: إن القلم جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، كما في الأحاديث الصحيحة، ومن جملة ذلك الشرائع، والفرائض، فهي مثل العمر، إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات.
وقيل: المراد بالآية: محو ما في ديوان الحفَظَة ما ليس بحسنة ولا سيّئة؛ لأنهم مأمورون بكَتْب كل ما ينطق به الإنسان.
ويجاب عنه بمِثل الجواب الأول.
وقيل: يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء، فلا يغفر.
ويجاب عنه بمثل الجواب السابق.
وقيل: يمحو ما يشاء من القرون، كقوله تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31]، وكقوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)} [المؤمنون: 31]، فيمحو قرنًا، ويُثبت قرنًا.
ويجاب عنه أيضًا بمثل ما تقدّم.
وقيل: هو الذي يعمل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله، ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيّئات، ويُثبته في ديوان الحسنات، وقيل: يمحو ما شاء؛ يعني: الدنيا، ويُثبت الآخرة، وقيل غير ذلك.
وكلّ هذه الأجوبة دعاوى مجرّدة، ولا شكّ أن آية المحو والإثبات عامّة لكلّ ما يشاؤه الله عز وجل، فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصّص، وإلا كان ذلك من التقوّل على الله عز وجل بما لم يقُل، وقد توعّد الله سبحانه وتعالى على ذلك، وقَرَنه بالشرك، فقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
وأجابوا عن قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] بأن المراد بالمعمّر: الطويل العمر، والمراد بالناقص: قصير العمر.
وفي هذا نظرٌ؛ لأن الضمير في قوله: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} يعود إلى قوله: {مِنْ مُعَمَّرٍ} ، والمعنى على هذا: وما يعمّر من معمّر، ولا ينقص من عمر ذلك المعمَّر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآنيّ، وأما التأويل المذكور فإنما يتمّ على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية، وذلك لا وجود له في النظم.
وقيل: إن معنى {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} : ما يستقبله من عمره، ومعنى {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}: ما قد مضى، وهذا أيضًا خلاف الظاهر؛ لأن هذا ليس بنقص من نفس العمر، والنقص يقابل الزيادة، وما هنا جعله مقابلًا للبقيّة من العمر، وليس ذلك بصحيح.
وقيل: المعنى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} من بلغ سنّ الهرم، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}؛ أي: من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سنّ الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سنّ الهرم، ويجاب عنه بما تقدّم. وقيل: المعمّر من يبلغ عمره ستّين سنةً، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير ذلك من التأويلات التي يردّها اللفظ، ويدفعها.
وأجابوا عن قوله تعالى {ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} بأن المراد بالأجل الأول: النوم، والثاني: الوفاة، وقيل: الأول: ما قد انقضى، من عمر كل أحد،
والثاني: ما بقي من عمر كل أحد، وقيل: الأول: أجَلُ الموت، والثاني: أجل الحياة في الآخرة. وقيل: المراد بالأول: ما بين خلق الإنسان إلى موته، والثاني: ما بين موته إلى بعثه، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآنيّ.
وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص، واستدلّوا بالآية المتقدّمة، فإن المحو والإثبات عامّان يتناولان العمر والرزق، والسعادة والشقاوة، وغير ذلك.
وقد ثبت عن جماعة من السلف من الصحابة، ومَنْ بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم: اللَّهُمَّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة، فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة.
ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه، ونحو ذلك بما يُخصّص هذا العموم، وهكذا تدلّ على هذا المعنى الآية الثانية، فان معناها أنه لا يطول عمر إنسان، ولا ينقص إلا وهو في كتاب؛ أي: في اللوح المحفوظ، وهكذا يدلّ قوله سبحانه وتعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه وتعالى له بما يشاء منهما من زيادة أو نقص، ويدلّ على ذلك أيضًا ما في "الصحيحين" وغيرهما عن جماعة من الصحابة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر، وفي لفظ في "الصحيحين":"من أحبّ أن يُبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره، فَلْيَصِلْ رَحِمه"، وفي لفظ:"من أحبّ أن يمدّ الله في عمره، وأجله، ويبسط في رزقه، فليتّق الله، وليصل رحمه"، وفي لفظ:"صلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجوار، يعمّران الديار، ويزيدان في الأعمار".
ومن أعظم الأدلّة: ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء، كقوله تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)} [غافر: 60]، وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة، وفيها: "إن الدعاء يدفع
البلاء، ويردّ القضاء"، وفيها: "الدعاء مخّ العبادة"
(1)
، وفيها الاستعاذة من سوء القضاء، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أنه قال:"اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وشماتة الأعداء"، وثبت في حديث قنوت الوتر أنه صلى الله عليه وسلم قال:"وَقِني شرّ ما قضيت"، فلو كان الدعاء لا يفيد شيئًا، وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزليّ لكان أمْره عز وجل بالدعاء لغوًا لا فائدة فيه، وكذلك وَعْده بالإجابة للعباد الداعين له، وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء، وأنه عبادة لغوًا لا فائدة فيه، وهكذا تكون استعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء لغوًا لا فائدة فيه، وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وسلم:"وقني شرّ ما قضيت" لغوًا لا فائدة فيه، وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وأن الله سبحانه وتعالى ما أنزل داء إلا وجعل له دواء لغوًا لا فائدة فيه، مع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم.
[فإن قلت]: فعلام يُحمل ما تقدّم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدّم، ولا يتأخّر، ومن ذلك قوله عز وجل:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]؟.
[قلت]: قد أجاب عن ذلك بعض السلف، وتَبعَه بعض الخلف بأن هذه الآية مختصّة بالأجل إذا حضر، فإنه لا يتقدّم، ولا يتأخَّر عند حضوره، ويؤيّد هذا أنها مقيّدة بذلك، فإنه قال:{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون: 11]، وقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لا يتأخّر، ولا يتقدّم، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخّره الله بالدعاء، أو بصلة الرحم، أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدّمه لمن عمل شرًّا، أو قَطَع ما أمر الله به أن يوصل، أو انتهك محارم الله سبحانه وتعالى.
[فإن قلت]: فعلام يُحمل نحو قوله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} [الحديد: 22]، وقوله سبحانه وتعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى؟.
(1)
ضعيف، رواه الترمذيّ برقم (3371)، وفي سنده ابن لهيعة: متكلّم فيه.
[قلت]: هذه أولًا معارضة بمثلها، وذلك قوله عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، ومثل ذلك ما في الحديث الصحيح القدسيّ:"يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه".
وثانيًا: بإمكان الجمع بحمل مثل قوله: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} ، وقوله:{إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} على عدم التسبّب من العبد بأسباب الخير، من الدعاء، وسائر أفعال الخير، وحَمْل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبّب بأسباب الخير الموجبة لحسن القضاء، واندفاع شرّه، وعلى وقوع التسبّب بأسباب الشرّ المقتضية لإصابة المكروه، ووقوعه على العبد.
وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه فُرغ من تقدير الأجل، والرزق، والسعادة، والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير، وكذلك الدعاء، فتُحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبّب العبد بأسباب الخير، أو الشرّ.
وتُحمل الأحاديث الأخرى على أنه قد وقع من العبد التسبّب بأسباب الخير، من الدعاء، والعمل الصالح، وصلة الرحم، أو التسبّب بأسباب الشرّ.
[فإن قلت]: قد تقرّر بالأدلّة من الكتاب والسُّنَّة بأن عمله عز وجل أزليّ، وأنه قد سبق في كل شيء، ولا يصحّ أن يقدّر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلًا، وذلك لا يجوز إجماعًا؟.
[قلت]: عِلْمه عز وجل سابق أزليّ، وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحقّ من هذه الحيثيّة، ولكنه غلا قوم، فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسُّنَّة، من الإرشاد إلى الدعاء، وأنه يردّ القضاء، وما ورد من الاستعاذة منه صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء، وما ورد من أنه يُصاب العبد بذنبه، وبما كسبت يداه، ونحو ذلك، مما جاءت به الأدلّة الصحيحة
(1)
، وجعلوه مخالفًا
(1)
فقد أخرج أحمد وغيره، من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يردّ القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ، وإن العبد لَيُحْرم الرزق بالذنب يصيبه"، حسّنه الترمذيّ، وصححه ابن حبّان، وكذا حسّنه الألبانيّ.
لِسَبْق العلم، ورتّبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلًا، والأمر أوسع من هذا، والذي جاءنا بسَبْق العلم وأزليّته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء، والأمر بالدواء، وعرّفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضًا، وأن أعمال الشرّ تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه، كما يصل إلى الخير، ويندفع عنه الشرّ بكسب الخير والتلبّس بأسبابه.
فإعمال بعض ما ورد في الكتاب والسُّنَّة، وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي، فإن الكلّ ثابت عن الله عز وجل، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، والكل شريعة واضحة، وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه لشيء من الأدلّة.
وبيانه أن الله عز وجل كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا، أو الرزق كذا، أو هو من أهل السعادة، أو الشقاوة، قد علم أنه إذا وَصَل رَحِمه زاد له في الأجل كذا، أو بَسَط له من الرزق كذا، أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة، أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة، وهكذا قد علم ما يقضيه للعبد، كما علم أنه إذا دعاه، واستغاث به، والتجا إليه صرف عنه الشرّ، ودَفَع عنه المكروه، وليس في ذلك خلاف، ولا مخالفة لسبق العلم، بل فيه تقييد المسبَّبات بأسبابها، كما قدّر الشِّبَع، والريّ بالأكل، والشرب، وقدّر الولد بالوطء، وقدّر حصول الزرع بالبذر، فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسبّبات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق، أو ينافيه بوجه من الوجوه؟.
فلو قال قائل: أنا لا آكل، ولا أشرب، بل أنتظر القضاء، فإن قدّر الله لي ذلك كان، وإن لم يقدّر لم يكن، أو قال: أنا لا أزرع الزرع، ولا أغرس الشجر، بل أنتظر القضاء، فإن قدّر الله ذلك كان، وإن لم يقدّره لم يكن، أو قال: أنا لا أجامع زوجتي، أو أمَتي ليحصل لي منهما الذريّة، بل إن قدّر الله ذلك كان، وإن لم يقدّره لم يكن، لكان هذا مخالفًا لِمَا عليه رسُل الله، وما جاءت به كتبه وما كان عليه صلحاء الأمة، وعلماؤها، بل يكون مخالفًا لِمَا عليه هذا النوع الإنسانيّ من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفًا لِمَا عليه جميع أنواع الحيوانات في البرّ والبحر، فكيف يُنْكَر وصول العبد إلى الخير بدعائه، أو بعمله الصالح؟ فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبّباتها
بها، وعَلِمَها قبل أن تكون، فعِلْمه على كل تقدير أزليّ في المسبّبات والأسباب، ولا يشكّ من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسبّبات على حصول أسبابها، كما في قوله:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وقوله:{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح: 10 - 12]، وقوله:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]، وقوله:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143، 144]، وكم يعدّ العادّ من أمثال هذه الآيات القرآنيّة، وما ورد موردها من الأحاديث النبويّة، وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا، ويجعلونه مخالفًا لسبق العلم، مباينًا لأزليّته؟، فإن قالوا: نعم، فقد أنكروا ما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، وما في السُّنَّة المطهّرة من أولها إلى آخرها، بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة جميعًا؛ لأنها كلّها مسبّبات مترتبة على أسبابها، وجزاءات معلّقة بشروطها، ومن بلغ إلى هذا الحدّ في الغباوة، وعدم تعقّل الحجة لم يستحقّ المناظرة، ولا ينبغي معه الكلام فيما يتعلّق بالدِّين، بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه، وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته، ويستيقظ من نومته، ويرجع عن ضلالته، وجهالته، والهداية بيد ذي الجلال والقوّة، لا خير إلا خيره.
ثم يقال لهم: هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين الإسلام، وما يلتحق بها من كتب السُّنَّة المطهّرة، فقد علم كل من له علم أنها كثيرة جدًّا بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلّف بسيط، ومصنّف حافل، وفيها استجلاب الخير، وفي أخرى استدفاع الشرّ، وتارة متعلّقة بأمور الدنيا، وتارة بأمور الآخرة، ومن ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته ما يدعون به في صلواتهم، وعَقِب صلواتهم، وفي صباحهم ومسائهم، وفي ليلهم ونهارهم، وعند نزول الشدائد بهم، وعند حصول نِعَم الله لهم، هل كان كل هذا منه صلى الله عليه وسلم لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير جالبةً لِمَا فيه مصلحة، دافعةً لِمَا فيه مفسدة؟.
فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم، فإن هذا
الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرّة الاختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أوردتموه، وأوردناه.
وإن قالوا: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه، وعلى أمته بالخير جالبة لِمَا فيه مصلحة، دافعة لِمَا فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابّهم، وليس للمحاجّة لهم فائدة، ولا في المناظرة معهم نَفْع.
يا عجبًا كل العجب أمَا بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول نبوّته إلى أن قبضه الله إليه من الدعاء لربه، والإلحاح عليه، ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه، وحتى يسقط رداؤه، كما وقع منه في يوم بدر، فهل يقول عاقل فضلًا عن عالم: إن هذا الدعاء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن، وأن هذا السبق يرفع فائدة ذلك، ويقتضي عدم النفع به؟ ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بربّه، وبقضائه وقدره، وبأزليّته، وسَبْق عِلْمه بما يكون في بريّته، فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئًا، ولا ينفع نفعًا لم يفعله، ولا أرشد الناس إليه، وأمَرَهم به، فإن ذلك نوع من العَبَث الذي يتنزّه عنه كل عاقل فضلًا عن خير البشر، وسيّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
ثم يقال لهم: إذا كان القضاء واقعًا لا محالة، وأنه لا يدفعه شيء من الدعاء، والالتجاء، والإلحاح، والاستغاثة، فكيف لم يتأدّب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربّه، فإنه قد صحّ عنه أنه استعاذ بالله سبحانه وتعالى من سوء القضاء، كما عرّفناك، وقال:"وقني شرّ ما قضيت"، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا، أو على أيّ محمل يحملونه؟.
ثم ليت شعري علام يحملون أمره سبحانه وتعالى لعباده بدعائه بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، ثم عقّب ذلك بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]؛ أي: عن دعائي، كما صرّح بذلك أئمة التفسير، فكيف يأمر عباده أولًا، ثم يجعل تركه استكبارًا منهم، ثم يرغّبهم إلى الدعاء، ويخبرهم أنه قريب من الداعي مجيب لدعوته بقوله:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ثم يقول معنونًا لكلامه الكريم بحرف يدلّ على الاستفهام الإنكاريّ والتقريع والتوبيخ: {أَمَّنْ يُجِيبُ
الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
فإن قالوا: إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به، وأرشدنا إليه، وجعل تَرْكه استكبارًا، وتوعّد عليه بدخول النار مع الذّلّ، ورغّب عباده إلى دعائه، وعرّفهم أنه قريب، وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف ما نزل بهم من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله، ويطلبوا ما عنده من الخير أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد، وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء، وسَبَق به العلم، فقد نسبوا إلى الربّ عز وجل ما لا يجوز عليه، ولا يحلّ نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يُعتدّ بها، ولا يرغّبه إلا إلى ما يحصل له به الخير، ولا يرهّبه إلا عما يكون به عليه الضير، ولا يَعِده إلا بما هو حقّ يترتّب عليه فائدة، فهو صادق الوعد، لا يخلف الميعاد، ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء، ويكون بسببه التفضّل عليهم، ورَفْع ما هُمْ فيه من الضرّ، وكَشْف ما حلّ بهم من السوء، هذا معلوم لا يشكّ فيه إلا من يعقل
(1)
حجج الله، ولا يفهم كلامه، ولا يدري بخير ولا شرّ، ولا نفع، ولا ضرّ، ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية، فهو حقيق بأن لا يُخاطب، وقمين بأن لا يناظَر، فإن هذا المسكين المتخبّط في جهله المتقلّب في ضلالته قد وقع فيما هو أعظم خطرًا من هذا، وأكثر ضررًا منه، وذلك بأن يقال له: إذا كان دعاء الكفّار إلى الإسلام، ومقاتلتهم على الكفر، وغزوهم إلى عُقر ديارهم لا يأتي بفائدة، ولا يعود على القائمين به من الرسل، وأتباعهم، وسائر المجاهدين من العباد بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما سَبَق من علم الله عز وجل، وأنه سيدخل في الإسلام، ويهتدي إلى الدين من قد علم الله سبحانه وتعالى منه ذلك، سواء قوتل، أو لم يقاتَل، وسواء دُعي إلى الحقّ، أو لم يُدْعَ إليه كان هذا القتال الصادر من رسل الله، وأتباعهم ضائعًا، ليس فيه إلا تحصيل الحاصل، وتكوين ما هو كائن، فعلوا، أو تركوا، وحينئذ يكون الأمر بذلك عبثًا، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
(1)
كذا النسخة، والظاهر أن الصواب: إلا من لا يعقل
…
إلخ، فسقطت "لا" سهوًا، والله تعالى أعلم.
وهكذا ما شَرَعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه، وأنزل به كتبه، يقال فيه مثل هذا، فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه عز وجل كائنًا، سواء بعث الله إلى عباده رسله، وأنزل عليهم كتبه، أو لم يفعل ذلك، كان ذلك عبثًا يتعالى الله سبحانه وتعالى عنه، ويتنزّه عن أن يُنسب إليه.
فإن قالوا: إن الله سبحانه وتعالى قد سَبَق علمه بكلّ ذلك، ولكنّه قيّده بقيود، وشَرَطه بشروط، وعلّقه بأسباب، فعَلِم مثلًا أن الكافر يُسلم، ويَدْخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام، أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبّدهم الله به بعد بعثة رسله إليهم، وإنزال كُتبُه عليهم.
قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء، وفي أعمال الخير، وفي صلة الرحم، ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره، وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض، والحِجاج الكثير الكبير؟ فإنا لا نقول إلا أن الله سبحانه وتعالى قد علم في سابق علمه أن فلانًا يطول عمره إذا وَصَل رَحِمه، وأن فلانًا يحصل له من الخير كذا، أو يندفع عنه من الشرّ كذا إذا دعا ربّه، وأن هذه المسبَّبات مترتبة على حصول أسبابها، وهذه المشروطات مقيّدة بحصول شروطها، وحينئذ فارجعوا إلى ما قدّمنا ذِكره من الجمع بين ما تقدّم من الأدلّة، واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثيّة.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم مثل عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي وائل، وعبد الله بن عمر يدعون الله عز وجل بأن يثبّتهم في أهل السعادة إن كانوا قد كُتبوا من أهل الشقاوة، كما قدّمنا، وهم أعلم بالله سبحانه وتعالى وبما يجب له، ويجوز عليه.
وقال كعب الأحبار حين طُعن عمر، وحضرته الوفاة: والله لو دعا الله عمر أن يؤخّر أجله لأخّره، فقيل له: إن الله عز وجل يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ، فقال: هذا إذا حضر الأجل، فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد ويَنْقَص، وقرأ قوله عز وجل:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} .
ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابِقِهم ولاحِقِهم سيّما الصالحون منهم أنهم يدعون الله عز وجل، فيستجيب لهم، ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب
المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو المريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله، فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله، فيهلك في الحال، ومن شكّ في شيء من هذا، فليطالع الكتب الصحيحة
(1)
في أخبار الصالحين، كـ "حلية أبي نعيم"، و"صفوة الصفوة" لابن الجوزيّ، و"رسالة القشيريّ"، فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره، ويثلج به قلبه، بل كل إنسان إذا حقّق حال نفسه، ونظر في دعائه لربّه عند عروض الشدائد، وإجابته له، وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المتفكّرين.
وهذا نبيُّ الله عيسى ابن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله، ويشفي المرضى بدعائه، وهذا معلوم عنه حسبما أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنه به في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمّنة لإحياء الموتى منه، وشفاء المرضى بدعائه ما يعرفه من اطَّلع عليه.
وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله عز وجل إلا ما قد سَبَق به القلم، وأن ذلك لا يتحوّل، ولا يتبدّل، ولا يؤثّر فيه دعاء، ولا عمل صالح، فقد خالفوا ما قدّمنا من آيات الكتاب العزيز، ومن الأحاديث النبويّة الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك، فقد أمكن الجمع بما قدّمناه، وهو متعيّن، وتقديم الجمع على الترجيح متّفقٌ عليه، وهو الحقّ.
وقد قابل هؤلاء بضدّ قولهم القدريّةُ، وهم معبد الجهنيّ وأصحابه، فإنهم قالوا: إن الأمر أُنُفٌ؛ أي: مستأنف، وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيّات إلا عند وقوعها تعالى الله عن ذلك، وهذا قول باطلٌ يخالف كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين.
وقد تبرّأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة، منهم ابن عمر، كما ثبت ذلك في "الصحيح"
(2)
.
(1)
هكذا النسخة: "الصحيحة" وفيه نظر، فإن هذه الكتب ليست صحيحة كلها، بل فيها الضعيف، والموضوع، فليُتنبّه.
(2)
أي: صحيح مسلم.
وقد غَلِط من نَسَب مقالتهم هذه إلى المعتزلة، فإنه لم يقل بها أحد منهم قطّ، وكُتُبهم مصرّحة ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نَقْل مقالات الرجال، فقد قدّمنا من أدلّة الكتاب والسُّنَّة، والجمع بينهما
(1)
ما يكفي المُنْصِف، ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسائل، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودِين الله سبحانه وتعالى بين المفرّط والغالي، وفي هذا القَدْر كفاية لمن له هداية، والله وليّ التوفيق.
كتبه مؤلّفه محمد بن عليّ الشوكانيّ غفر الله لهما. تمّت.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد العلامة الشوكانيّ رحمه الله في هذا البحث، وحقّقه تحقيقًا جيّدًا، وأفاد، فتبيّن بما حقّقه، وساقه من الأدلّة أن أرجح الأقوال، أن زيادة العمر ونقصانه على ظاهرها، فتزيد بالخير، كصلة الرحم ونحوها، ويتنقص بضدّ ذلك، وكذلك الرزق يزيد بصلة الرحم، ونحوها زيادة حقيقيّة، كما دلّت عليه ظواهر النصوص، فتأملها بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6503]
- (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِه، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِه، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك
(1)
هكذا النسخة: "بينهما"، ولعل الأَولى: والجمع بينها؛ أي: الأدلة، فتأمل، والله تعالى أعلم.
المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199) وله أربع وستون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقة ثبت فقيه إمام مشهور [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدِ) بن عَقِيل بالفتح، الأيليّ، أبو خالد الأُمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6504]
(2558) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ، وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ، وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: "لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى العَنَزيّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بُندار أبو بكر البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غُندر، أبو عبد الله البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يعقوب الْحُرَقيّ - بضم المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف -أبو شِبْل - بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة - المدنيّ،
صدوقٌ ربّما وَهِمَ [5] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهَنيّ المدنيّ مولى الْحُرَقة، ثقة [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، ونصفه الثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف من هو ولا قرابته
(1)
. (قَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ لِي قَرَابَةً)؛ أي: ذوي قرابة (أَصِلُهُمْ)؛ أي: أُحسن إليهم، قال ابن الأثير رحمه الله: صلة الرحم: كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب، والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم، والرعاية لأحوالهم، وكذلك إن بَعُدوا، أو أساؤوا، وقَطْع الرحم ضدّ ذلك كله، يقال: وَصَلَ رحمه يَصِلها وَصْلًا، وصِلَةً، والهاء فيها عوض من الواو المحذوفة، فكانه بالإحسان إليهم قد وصل ما بينه وبينهم، من علاقة القرابة، والصهر. انتهى
(2)
.
(وَيَقْطَعُونِي)؛ أي: يقطعوا قرابتي، (وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ، وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ) بإلحاق الضرر، (وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ) بضمّ اللام، يقال: حَلُمَ يَحْلُم، من باب كَرُمَ حِلْمًا بالكسر: صَفَحَ، وسَتَرَ، فهو حليم
(3)
. (وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ)؛ أي: يعاملونني بالجهل، والجهل هنا: القبيح من القول؛ أي: يقولون قول الجهّال، من السبّ، والتقبيح، (فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم:("لَئِنْ كُنْتَ) اللام هنا هي الموطئة للقسم،
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 429.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 425.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 148.
و"إن" شرطيّة، وجوابها "فكأنما
…
إلخ"؛ أي: والله لئن كنت (كَمَا قُلْتَ)؛ أي: كما ذكرت من أنك تَصِلُهم، ويقطعونك
…
إلى آخره (فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ) بضم التاء وكسر السين وتشديد الفاء، (الْمَلَّ) بفتح الميم الرماد الحار، وقال ابن الأثير رحمه الله: الْمَلّ، والمَلّة: الرماد الحارّ الذي يُحَمَّى ليُدفَنَ فيه الخبز؛ لينضج، أراد: إنما تجعل الملّة لهم سفوفًا يستفّونه؛ يعني: أن عطاءك إياهم حرام عليهم، ونار في بطونهم. انتهى
(1)
.
وقال في "المشارق": قوله: "كأنما تسفهم الملّ": بضم التاء، وكسر السين: أي: تسقيهم التراب، أو الرماد الحارّ، وقيل: هو الجمر، وقيل: التراب المحميّ، قال: كذا روايتنا فيه عن شيوخنا في "صحيح مسلم"، ورواه بعضهم:"كأنما تَسفيهم الملّ"، بفتح التاء، وسكون السين: أي: ترمي التراب، والرماد المحميّ في وجههم، وعند بعض الرواة:"تسقيهم الماء"، وهو تصحيف، وخطأ قبيح. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية: بضم تاء "تُسفّهم"، وكسر السين، وضمّ الفاء: أي: تجعلهم يَسُفّونه من السّفّ، وهو شُرْب كل دواء يؤخذ غير ملتوت، تقول: سففت الدواء وغيره مما يؤخذ غير معجون، وأسففته غيري؛ أي: جعلته يَسفّه، والملّ: الرماد الحارّ، يقال: أطعمنا خبز مَلَّة، ومعنى ذلك: أن إحسانك إليهم مع إساءتهم لك، يتنزل في قلوبهم منزلة النار المحرقة؛ لِمَا يجدون من ألم الخزي، والفضيحة، والعار الناشئ في قلب من قابل الإحسان بالإساءة. انتهى
(3)
.
(وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ)؛ أي: مُعِين، ودافِعٌ لأذاهم عنك (مَا دُمْتَ) "ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة دوامك (عَلَى ذَلِكَ")؛ أي: حالك الذي ذكرته.
قال القرطبيّ رحمه الله: الظهير: المُعِين، ومعناه: أن الله تعالى يؤيّدك بالصبر
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 361.
(2)
"مشارق الأنوار" 1/ 380، و 2/ 227.
(3)
"المفهم" 6/ 528 - 529.
على جفائهم، وحُسْن الخُلُق معهم، ويُعليك عليهم في الدنيا والآخرة مُدّة دوامك على معاملتك لهم بما ذكرت. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: كأنما تُطعمهم الرماد الحارّ، وهو تشبيه لِمَا يَلحقهم من الألم بما يَلحق آكل الرماد الحارّ من الألم، ولا شيء على هذا المحسن، بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته، وإدخالهم الأذى عليه.
وقيل: معناه: إنك بالإحسان إليهم تُخزيهم، وتحقرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك، وقبيح فعلهم، من الخزي، والحقارة عند أنفسهم، كمن يَسُفّ الملّ، وقيل: ذلك الذي يأكلونه من إحسانك كالملّ يحرق أحشاءهم، والله تعالى أعلم
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6504](2558)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 32)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 300 و 412)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(451 و 542)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 158)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 221)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3436)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الحثّ على صلة الرحم، وبيان فضلها.
2 -
(ومنها): بيان فضل من يصل أرحامه، ويُحسن إليهم، وهم يقطعونه، ويجهلون عليه؛ فإن له بذلك الأجر العظيم، والعون والنصر من الرؤوف الرحيم، قال الله رحمه الله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43].
3 -
(ومنها): ذمّ من يقابل الإحسان بالإساءة، والإكرام بالإهانة، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 529.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 115.
(7) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ التَّحَاسُدِ، وَالتَّبَاغُضِ، وَالتَّدَابُرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6505]
(2559) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم في الباب الماضي.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (497) من رباعيّات الكتاب، وفيه مالك بن أنس أحد الأئمة الأربعة، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبَاغَضُوا) بحذف إحدى التاءين في الأفعال الثلاثة، كقول تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، وأصله تتباغضوا، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
والمعنى: لا يُبغض بعضكم بعضًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "لا تباغضوا": أي: لا تتعاطوا أسباب البُغض؛ لأنَّ الحبّ والبغض مَعَانٍ قلبية، لا قدرة للإنسان على اكتسابها، ولا يملك التصرّف فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تَلُمْني فيما
تملك، ولا أملك"
(1)
؛ يعني: الحب والبغض. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا تباغضوا": أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأن البغض لا يُكتسب ابتداءً، وقيل: المراد: النهي عن الأهواء المضِلّة المقتضية للتباغض، قال الحافظ: بل هو لأعمّ من الأهواء؛ لأن تعاطي الأهواء ضَرْب من ذلك، وحقيقة التباغض: أن يقع بين اثنين، وقد يُطلق إذا كان من أحدهما، والمذموم منه ما كان في غير الله تعالى، فإنه واجب فيه، ويثاب فاعله؛ لتعظيم حقّ الله، ولو كانا، أو أحدهما عند الله من أهل السلامة، كمن يؤديه اجتهاده إلى اعتقاد ينافي الآخر، فيبغضه على ذلك، وهو معذور عند الله تعالى. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قوله: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا" هكذا اقتصر الحفاظ من أصحاب الزهريّ عنه على هذه الثلاثة، وزاد عبد الرحمن بن إسحاق عنه فيه:"ولا تنافسوا" ذَكَر ذلك ابن عبد البرّ في "التمهيد"، والخطيب في "المدرج" قال: وهكذا قال سعيد بن أبي مريم، عن مالك، عن ابن شهاب، وقد قال الخطيب، وابن عبد البر: خالف سعيدٌ جميع الرواة عن مالك في "الموطأ" وغيره، فإنهم لم يذكروا هذه الكلمة في حديث أنس رضي الله عنه، وإنما هي عندهم في حديث مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأدرجها ابن أبي مريم في إسناد حديث أنس، وكذا قال حمزة الكنانيّ: لا أعلم أحدًا قالها عن مالك في حديث أنس غير سعيد. انتهى
(4)
.
(وَلَا تَحَاسَدُوا)؛ أي: لا يحسد بعضكم بعضًا، قال المجد رحمه الله: حَسَدَهُ الشيءَ، وعليه يَحْسِدُه، ويَحْسُدُه - من بابي ضرب، ونصر - حَسَدًا، وحُسودًا، وحَسادَةً، وحَسَّدَه: تَمَنَّى أن تَتَحَوَّلَ إليه نِعْمَتُه، وفَضيلَتُه، أو يُسْلَبَهُما، وهو حاسِدٌ من حُسَّدٍ، وحُسَّادٍ، وحَسَدَةٍ، وحَسُودٌ من حُسُدٍ، وحَسَدَنِي اللهُ إن كنْتُ
(1)
حديث ضعيف، أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.
(2)
"المفهم" 6/ 531.
(3)
"الفتح" 13/ 628، كتاب "الأدب" رقم (6065).
(4)
"الفتح" 13/ 628، كتاب "الأدب" رقم (6065).
أحْسُدُكَ: أي: عاقَبَنِي على الحَسَد، وتَحاسَدوا: حَسَدَ بعضُهم بعضًا. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَسَدْتُهُ على النعمة، وحَسَدْتُهُ النعمةَ حَسَدًا، بفتح السين أكثر من سكونها، يتعدى إلى الثاني بنفسه، وبالحرف: إذا كرهتَهَا عنده، وتمنّيت زوالها عنه، وأما الحَسَدُ على الشجاعة، ونحو ذلك، فهو الْغِبْطة، وفيه معنى التعجب، وليس فيه تمني زوال ذلك عن المحسود، فإن تمنّاه، فهو القِسْم الأول، وهو حرام، والفاعل: حَاسِدٌ، وحَسُودٌ، والجمع: حُسَّادٌ، وحَسَدَةٌ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الحسد في اللغة: أن تتمنى زوال نعمة المحسود، وعَوْدها إليك، يقال: حَسَده يحسُده حُسُودًا، قال الأخفش: وبعضهم يقول: يَحْسِد - بالكسر، والمصدر حَسَدًا بالتحريك، وحَسَادةً، وحسدتك على الشيء، وحسدتك الشيءَ: بمعنى واحد، فأمَّا الغِبطة فهي أن تتمنى مثل حال المغبوط، من غير أن تريد زوالها عنه، تقول منه: غَبَطته بما نال غَبْطًا وغِبْطَةً، وقد يوضع الحسد موضع الغبطة؛ لتقاربهما، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين. . ." متّفقٌ عليه: أي: لا غبطة أعظمُ، ولا أحقُّ من الغبطة بهاتين الخصلتين. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا تحاسدوا": الْحَسَد: تمنّي الشخص زوال النعمة عن مستحقّ لها، أعمّ من أن يسعى في ذلك، أو لا، فإن سعى كان باغيًا، وإن لم يَسْعَ في ذلك، ولا أظهره، ولا تسبَّب في تأكيد أسباب الكراهة التي نُهِي المسلم عنها في حقّ المسلم نُظِرَ، فإن كان المانع له من ذلك العَجْز، بحيث لو تمكّن لَفَعَل، فهذا مأزور، وإن كان المانع له من ذلك التقوى، فقد يُعْذَر؛ لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية، فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها، ولا يَعْزِم على العمل بها.
وقد أخرج عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، رفعه: "ثلاث
(1)
"القاموس المحيط"(ص 353).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 135.
(3)
"المفهم" 6/ 532.
لا يَسْلَم منها أحد: الطيرة، والظنّ، والحسد"، قيل: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "إذا تطيّرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تُحَقِّق، وإذا حسدت فلا تَبْغ"، وعن الحسن البصريّ قال: ما من آدميّ إلا وفيه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شيء. انتهى
(1)
.
(وَلَا تَدَابَرُوا)؛ أي: لا تفعلوا فعل المتباغضَين اللذين يُدْبِر كلُّ واحد منهما عن الآخر؛ أي: يولّيه دُبُره فِعْل المُعْرِض.
وقال الخطابيّ رحمه الله: معناه: لا تتهاجروا، فيهجرَ أحدكم أخاه، مأخوذ من تولية الرجل الآخر دُبُره؛ إذا أعرض عنه حين يراه.
وقال ابن عبد البرّ: قيل للإعراض: مدابرةٌ؛ لأن من أبغض أعرض، ومن أعرض وَلَّى دُبُره، والمحبّ بالعكس، وقيل: معناه: لا يستأثر أحدكم على الآخر، وقيل للمستأثر: مستدبر؛ لأنه يولِّي دُبُره حين يستأثر بشيء دون الآخر.
وقال المازريّ: معنى التدابر: المعاداة، يقال: دابرته: أي: عاديته.
وحَكَى عياض: أن معناه: لا تجادلوا، ولكن تعاونوا، والأول أَولى.
وقد فسَّره مالك في "الموطأ" بأخصّ منه، فقال - إذ ساق حديث الباب، عن الزهريّ بهذا السند -: ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن السلام، يُدْبر عنه بوجهه، وكأنه أخذه من بقية الحديث:"يلتقيان، فيُعرض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، فإنه يُفْهَم أن صدور السلام منهما، أو من أحدهما يرفع ذلك الإعراض، ويؤيّده ما أخرجه الحسين بن الحسن المروزيّ في زيادات "كتاب البرّ والصلة" لابن المبارك بسند صحيح، عن أنس، قال: التدابر: التصارم. انتهى
(2)
.
(وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ)؛ أي: يا عباد الله، ففيه حَذْف حرف النداء، وهو جائز في سعة الكلام، قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":
وَحَذْفُ "يَا" يَجُوزُ فِي النِّدَاءِ
…
كَقَوْلِهِمْ "رَبِّ اسْتَجِبْ دُعَائِي"
وقال في "الخلاصة":
(1)
"الفتح" 13/ 628.
(2)
"الفتح" 13/ 628.
وَغَيْرُ مُضْمَرٍ وَمَنْدُوبٍ وَمَا
…
جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا
(إِخْوَانًا)؛ أي: كونوا كإخوان النسب في الشفقة، والرحمة، والمودّة، والمواساة، والمعاونة، والنصيحة
(1)
، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله، فحقكم أن تتواخَوْا بذلك.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إخوانًا" يجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، وأن يكون بدلًا، أو هو الخبرُ، وقوله:"عبادَ الله" منصوب على الاختصاص، أو بالنداء، وهذا الوجه أوقع؛ يعني: أنكم مستوون في كونكم عباد الله تعالى، وملّتكم واحدةٌ، فالتحاسد، والتباغض، والتقاطع منافية لحالكم، فالواجب عليكم أن تكونوا إخوانًا متواصلين متآلفين، كقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} الآية [آل عمران: 103]، ونظيره قوله تعالى:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} الآية [الأنبياء: 92، 93]. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وكونوا عباد الله إخوانًا" بلفظ المنادَى المضاف، زاد في الرواية الآتية:"كما أمركم الله"، ومثله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآتي.
قال الحافظ رحمه الله: وهذه الجملة تشبه التعليل لِمَا تقدم، كأنه قال: إذا تركتم هذه المنهيّات كنتم إخوانًا، ومفهومه: إذا لم تتركوها تصيروا أعداء؛ ومعنى: "كونوا إخوانًا": اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذِكره، وغير ذلك من الأمور المقتضية لذلك إثباتًا ونفيًا، ولعل قوله في الرواية الزائدة:"كما أمركم الله"؛ أي: بهذه الأوامر المقدَّم ذِكرها، فإنها جامعة لمعاني الإخوة، ونسبتُها إلى الله تعالى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله تعالى.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "كما أمركم الله" الإشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فإنه خبر عن الحالة التي شُرعت للمؤمنين، فهو بمعنى الأمر. انتهى
(3)
.
(1)
"المفهم" 6/ 532.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3210.
(3)
"الفتح" 13/ 628.
(وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ") الهجرة بكسر الهاء، وسكون الجيم: ترك الشخص مكالمة الآخر إذا تلاقيا، وهي في الأصل الترك فعلًا كان، أو قولًا، وليس المراد بها مفارقة الوطن، فإن تلك ذُكرت في غير هذا المحلّ.
قال القرطبيّ رحمه الله: دليل خطابه أن الهجرة دون الثلاث معفوّ عنها، وسببه أن البشر لا بدّ له غالبًا من سوء خُلُق وغضب، فسامَحَه الشرع في هذه المدّة؛ لأنَّ الغضب فيها لا يكاد الإنسان ينفك عنه، ولأنه لا يمكنه ردّ الغضب في تلك الحالة غالبًا، وبعد ذلك يضعُف، فيمكن ردّه، بل قد يُمحَى أثره. وظاهر هذا الحديث تحريم الهجرة فوق ثلاث، وقد أكد هذا المعنى قوله:"لا هجرة بعد ثلاث"، وكون المتهاجِرَين لا يُغْفَر لهما حتى يصطلحا. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: تَحْرُم الهجرة بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال بالنصّ، وتباح في الثلاث بالمفهوم، وإنما عُفِي عنه في ذلك؛ لأن الآدميّ مجبول على الغضب، فسومح بذلك القدر؛ ليرجع، ويزول ذلك العارض.
وقال أبو العباس القرطبيّ: المعتبَر ثلاث ليال، حتى لو بدأ بالهجرة في أثناء النهار ألغي البعض، وتُعتبَر ليلة ذلك اليوم، وينقضي العفو بانقضاء الليلة الثالثة.
وتعقّبه الحافظ، قائلًا: وفي الجزم باعتبار الليالي دون الأيام جمود، فقد جاء في رواية بلفظ:"ثلاثة أيام"، فالمعتمَد أن المرخَّص فيه ثلاثة أيام بلياليها، فحيث أُطلقت الليالي أريد بأيامها، وحيث أُطلقت الأيام أريد بلياليها، ويكون الاعتبار مضيّ ثلاثة أيام بلياليها ملفّقةً؛ إذا ابتدئت مثلًا من الظهر يوم السبت، كان آخرها الظهر يوم الثلاثاء، ويَحْتَمِل أن يُلْغَى الكسر، ويكون أول العدد من ابتداء اليوم أو الليلة، والأول أحوط. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 532 - 533.
(2)
"الفتح" 13/ 143 - 144، كتاب "الأدب" رقم (6077).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6505 و 6506 و 6507 و 6508 و 6509 و 6510](2559)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6065 و 6076) وفي "الأدب المفرد"(398)، و (أبو داود) في "الأدب"(4910)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1935)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 110 و 165 و 199 و 255)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1183)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2091)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20222)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5660)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 374)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3261 و 3771)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 303 و 10/ 232) وفي "الآداب"(300)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3522)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): تحريم التباغض والتشاحن لأجل الحظوظ النفسيّة، فيحرم على المسلم بغض أخيه المسلم، والإعراض عنه، وقطيعته بعد صحبته بغير ذنب شرعيّ.
2 -
(ومنها): تحريم التحاسد، فيحرم على المسلم حَسَد أخيه على ما أنعم الله تعالى به عليه.
3 -
(ومنها): تحريم التدابر، والتقاطع، فلا يحلّ لمسلم أن يولّي أخاه ظهره، ويهجره بغير سبب شرعيّ، قال البغويّ رحمه الله: معنى التدابر: التهاجر، والتصارم، مأخوذ من تولية الرجل دُبُره إذا رأى أخاه، وإعراضه عنه. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): وجوب التآخي، والتعاون بين المسلمين، فيعامل الأخ أخاه المسلم في الدين معاملة الأخ النسيب، وأن لا يَنقُب عن معايبه، ولا فرق في ذلك بين الحاضر والغائب، وقد يشترك الميت مع الحيّ في كثير مما ذُكر.
(1)
"شرح السُّنَّة" 10/ 358.
5 -
(ومنها): تحريم هجر المسلم أخاه المسلم فوق ثلاثة أيام، وهذا إذا كان للحظوظ النفسيّة، وأما إذا كان لأمر دينيّ، فيهجره حتى يتوب منه، كما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك، وصاحبيه رضي الله عنهم حتى تِيْبَ عليه بمضيّ خمسين ليلة، قال البغويّ رحمه الله: فأما النهي عن الهجران أكثر من ثلاث، إنما كان في هجران الرجل أخاه لعَتْب ومَوْجِدة، أو لِنَبْوَة تكون منه، فرُخّص له في مدّة الثلاث؛ لقلّتها، وحُرّم ما وراءها، فأما هجران الوالد الولد، والزوج الزوجة، ومن كان في معناهما، فلا يُضيّق أكثر من ثلاث، وقد هَجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا، هذا قول الخطّابيّ، قال البغويّ: فأما هجران أهل العصيان، وأهل الرِّيَب في الدِّين، فشُرع إلى أن تزول الريبة عن حالهم، وتظهر توبتهم، قال كعب بن مالك رضي الله عنه حين تخلّف عن غزوة تبوك: ونَهَى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وذكر خمسين ليلة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: ثم بعد كتابتي هذه الفوائد رأيت كلامًا للإمام الحافظ أبي عمر بن عبد البرّ رحمه الله شمل ما تقدّم ولخّصه في سياق واحد، فقال رحمه الله:
وفي هذا الحديث من الفقه أنه لا يَحِلّ التباغض؛ لأن التباغض مَفسدة للدِّين، حالقة له، ولهذا أمَر صلى الله عليه وسلم بالتوادّ، والتحابّ، حتى قال:"تهادَوا تحابوا"، ورَوَى مالك عن يحيى بن سعيد، قال: سمعت سعيد بن المسيِّب يقول: "ألا أخبركم بخير من كثير من الصلاة، والصدقة؟ "، قالوا: بلى، قال:"إصلاح ذات البين، وإياكم والبغضة، فإنها هي الحالقة"، وكذلك لا يحل التدابر، والتدابر: الإعراض، وتَرْك الكلام، والسلام، ونحو هذا، وإنما قيل للإعراض تدابُر؛ لأن مَنْ أبغضتَه أعرضتَ عنه، ومن أعرضت عنه ولَّيته دُبُرك، وكذلك يصنع هو بك، ومن أحببته أقبلت عليه، وواجهته؛ لتسرّه ويسرّك، فمعنى تدابروا، وتقاطعوا، وتباغضوا، معنى متداخل متقارب، كالمعنى الواحد في الندب إلى التواخي، والتحابّ، فبذلك أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى هذا الحديث وغيره، وأمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجوب، حتى يأتي دليل يُخرجه إلى
(1)
"شرح السُّنَّة" 10/ 358.
معنى الندب، وهذا الحديث، وإن كان ظاهره العمومَ، فهو عندي مخصوص بحديث كعب بن مالك رضي الله عنه حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهجروه، ولا يكلِّموه هو وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع؛ لتخلّفهم عن غزوة تبوك، حتى أنزل الله عز وجل توبتهم، وعُذْرهم، فأمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يراجعوهم الكلام.
وفي حديث كعب هذا دليل على أنه جائز أن يَهجُر المرء أخاه إذا بَدَتْ له منه بدعة، أو فاحشة، يرجوأن يكون هجرانه تأديبًا له، وزجرًا عنها، والله أعلم.
وكذلك قوله أيضًا في هذا الحديث: "لا تحاسدوا" يقتضي النهي عن التحاسد، وعن الحسد في كل شيء على ظاهره، وعمومه، إلا أنه أيضًا عندي مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار"، هكذا رواه عبد الله بن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به ليله، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها"، فكأنه صلى الله عليه وسلم -على ترتيب الأحاديث، وتهذيبها قال: لا حسد، ولكن الحسد ينبغي أن يكون في قيام الليل والنهار بالقرآن، وفي نفقة المال في حقّه، وتعليم العلم أهله. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قد ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله تحقيقات نفيسات في شرحه لهذا الحديث، أحببت إيرادها هنا لكثرة فوائدها، وغزارة عوائدها، وإن كان بعضها مضى، إلا أن له اليد الطولى في تحقيق المسائل، لا يوجد عند غيره من المحقّقين، فذكرتها بمسائل مكمِّلة لِمَا سبق، فقلت
(1)
:
(المسألة الرابعة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تباغضوا" نَهْيٌ للمسلمين عن التباغض
(1)
وأنقل التخريجات التي في الهامش للشيخ شعيب الأرناؤوط وصاحبه باختصار، وبعض زيادات، فليُتنبّه.
بينهم في غير الله تعالى،. بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله تعالى إخوة، والإخوة يتحابّون بينهم، ولا يتباغضون، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة، حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"، خرّجه مسلم، وقد حرّم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]، وامتنّ على عباده بالتأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقال:{هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 62، 63].
ولهذا المعنى حُرِّم المشي بالنميمة؛ لِمَا فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورُخِّص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورَغَّب الله في الإصلاح بينهم، كما قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَو مَعْرُوفٍ أَو إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)} [النساء: 114]، وقال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1].
وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:"إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة"
(1)
.
وخرّج الإمام أحمد وغيره، من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألا أنبئكم بشراركم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال:
(1)
حديث صحيح، أخرجه أحمد 6/ 444 - 445، وأبو داود (4919)، والترمذيّ (2509)، وصححه ابن حبّان في "صحيحه"(5092).
"المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت"
(1)
.
وأما البغض في الله فهو من أوثق الإيمان عُرًى، وليس داخلًا في النهي، ولو ظهر لرجل من أخيه شرّ فأبغضه عليه، وكان الرجل معذورًا فيه في نَفْس الأمر، أُثيبَ المُبْغِض له، وإن عُذر أخوه، كما قال عمر رضي الله عنه: إنا كنا نعرفكم إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وإذ ينزل الوحي، وإذ ينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطُلِق به، وانقَطَع الوحي، وإنما نَعْرِفكم بما نَخْبُركم، ألا من أظهر منكم لنا خيرًا ظننا به خيرًا، وأحببناه عليه، ومن أظهر منكم شرًّا، ظننا به شرًّا، وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم عز وجل
(2)
.
وقال الربيع بن خُثيم: لو رأيت رجلًا يُظهر خيرًا، ويُسِرّ شرًّا أحببته عليه، آجرك الله على حبك الخير، ولو رأيت رجلًا يُظهر شرًّا، ويُسرّ خيرًا أبغضته عليه، آجرك الله على بغضك الشرّ.
ولَمّا كَثُر اختلاف الناس في مسائل الدِّين، وكَثُر تفرُّقهم كَثُر بسبب ذلك تباغُضهم، وتلاعُنهم، وكلٌّ منهم يُظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا، بل يكون مُتّبِعًا لهواه، مُقَصِّرًا في البحث عن معرفة ما يُبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحقّ، وهذا الظنّ خطأ قطعًا، وإن أريدَ أنه لا يقول إلا الحقّ فيما خولف فيه، فهذا الظنّ قد يخطئ، ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى، والألفة، أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن يَنصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يُدخل نفسه فيه؛ خشيةَ أن يقع فيما نُهِي عنه من البغض المحرّم.
(1)
حديث حسنٌ، وضعّفه بعضهم بشهر بن حوشب، وقد قدّمنا غير مرّة أن الصحيح أنه ثقة، غاية ما فيه أنه لا ينقص عن درجة الحسن، كما قال الذهبيّ، فتنبّه، والله وليّ التوفيق.
(2)
رواه أحمد 1/ 46، وأبو يعلى (196) ورجاله ثقات رجال الصحيح، غير أبي فراس النهديّ راويه عن عمر، فقد ذكره ابن حبّان في "الثقات" 5/ 585، وقال ابن سعد في "الطبقات": كان شيخًا قليل الحديث، وقال أبو زرعة: لا أعرفه.
وها هنا أمر خفيّ ينبغي التفطن له، وهو أن كثيرًا من أئمة الدين، قد يقول قولًا مرجوحًا، ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لَمَا قَبِله، ولا انتصر له، ولا وَالَى من وافقه، ولا عادى من خالفه، ولا هو مع هذا يظنّ أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قَصْده الانتصار للحقّ، وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شابه انتصاره لِمَا يظنه الحقّ إرادة علوّ متبوعه، وظهور كلمته، وأنه لا يُنسَب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحقّ، فافهم هذا، فإنه مهمّ عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، ينبغي العناية بفهمه، وتطبيقه عمليًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة الخامسة): قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا"؛ يعني: لا يَحْسُدْ بعضكم بعضًا، والحسد مركوز في طباع البشر، وهو أن الإنسان يَكره أن يفوقه أحدٌ من جنسه في شيء من الفضائل، ثم ينقسم الناس بعد هذا إلى أقسام:
فمنهم: من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل، ثم منهم من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه، ومنهم من يسعى في إزالته عن المحسود فقط، من غير نَقْل إلى نفسه، وهو شرّهما، وأخبثهما، وهذا هو الحسد المذموم المنهيّ عنه، وهو كان ذنبَ إبليس، حيث كان حسد آدم عليه السلام لمّا رآه قد فاق على الملائكة بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة، حتى أخرجه منها، ويُرْوَى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن إبليس قال لنوح عليه السلام: اثنان أُهلك بهما بني آدم: الحسدُ وبالحسد لُعِنتُ، وجُعلت شيطانًا رجيمًا، والحرصُ أبيح آدم الجنة كلها، فأصبت حاجتي منه بالحرص. خرّجه ابن أبي الدنيا.
وقد وصف الله عز وجل اليهود بالحسد في مواضع من كتابه القرآن،
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 265 - 268.
كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقوله رضي الله عنه:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54].
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ، من حديث الزبير بن العوّام رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دَبّ إليكم داء الأمم قبلكم، الحسد، والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقةُ الدين، لا حالقة الشعر، والذي نفس محمد بيده، لا تؤمنوا حتى تحابّوا، أوَ لا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم"
(1)
.
وخرّج أبو داود، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "إياكم والحسدَ، فإن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب -أو قال -: العشب"
(2)
.
وخرّج الحاكم، وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"سيصيب أمتي داء الأمم"، قالوا: يا نبي الله، وما داء الأمم؟ قال:"الأَشَرُ، والبطرُ، والتكاثرُ، والتنافس في الدنيا، والتباغض، والتحاسد، حتى يكون البغي، ثم الْهَرْج"
(3)
.
وقِسْم آخر من الناس إذا حَسَد غيره لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغ على المحسود بقول، ولا بفعل، وقد رُوي عن الحسن أنه لا يأثم بذلك، ورُوي مرفوعًا من وجوه ضعيفة، وهذا على نوعين:
أحدهما: أن لا يمكنه إزالة ذلك الحسد عن نفسه، ويكون مغلوبًا على ذلك، فلا يأثم به.
والثاني: من يحدّث نفسه بذلك اختيارًا، ويعيده، ويبدئه في نفسه،
(1)
رواه أحمد، والترمذيّ، وغيرهما وفي سنده مولى الزبير راويه عنه لا يُعرف، وقد جوّد إسناده المنذريّ في "الترغيب والترهيب" 3/ 548، والهيثميّ في "مجمع الزوائد" 8/ 30، وحسّنه الشيخ الألبانيّ لغيره، والله تعالى أعلم.
(2)
ضعيف، في سنده رجل مجهول، وهو الراوي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
صححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وجوّد إسناده الحافظ العراقيّ في "تخريج الإحياء" 3/ 187، وصححه الألبانيّ في "الصحيحة" 2/ 290.
مستروحًا إلى تمنّي زوال نعمة أخيه، فهذا شبيه بالعزم المصمّم على المعصية، وفي العقاب على ذلك اختلاف بين العلماء، لكن هذا يبعد أن يَسْلَم من البغي على المحسود بالقول، فيأثم، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنى أن يكون مثله، فإن كانت الفضائل دنيوية فلا خير في ذلك، كما قال الله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} الآية [القصص: 79]، وإن كانت فضائل دينية، فهو حسن، وقد تمنى النبيّ صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل الله عز وجل.
وفي "الصحيحين" عنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٍ آتاه الله مالًا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار، ورجلٍ آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار"، وهذا هو الغِبْطة، وسمّاه حسدًا من باب الاستعارة.
وقِسْم آخر إذا وَجَد في نفسه الحسد سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وَجَد له في نفسه من الحسد، حتى يبدله بمحبته أن يكون المسلم خيرًا منه، وأفضل، وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الذي يُحبّ لأخيه ما يحب لنفسه. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تدابروا": قال أبو عبيد: التدابر: المصارمة، والهجران، مأخوذ من أن يولّي الرجل صاحبه دُبُره، ويُعرض عنه بوجهه، وهو التقاطع، وفي "الصحيحين" عن أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيصدّ هذا، ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".
وخرّج أبو داود من حديث أبي خِرَاش السلميّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من هجر أخاه سنةً، فهو كسفك دمه"
(2)
.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 260 - 263.
(2)
صحيح، رواه أبو داود، وأحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.
وكلّ هذا في التقاطع للأمور الدنيوية، فأما لأجل الدِّين فتجوز الزيادة على الثلاثة، نصّ عليه الإمام أحمد، واستَدَلّ بقصة الثلاثة الذين خُلّفوا، وأمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم بهجرانهم لمّا خاف منهم النفاق، وأباح هجران أهل البدع المغلظة، والدعاة إلى الأهواء، وذَكَر الخطابيّ أن هجران الوالد لولده، والزوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديبًا تجوز الزيادة فيه على الثلاث؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم هجر نساءه شهرًا.
واختلفوا هل ينقطع الهجران بالسلام؟ فقالت طائفة: ينقطع بذلك، ورُوي عن الحسن، ومالك، في رواية وهب، وقاله طائفة من أصحابنا -يعني: الحنبليّة -.
وخرّج أبو داود، من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث، فلْيَلْقَه، فليسلِّم عليه، فإن ردّ عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه، فقد باء بالإثم، وخرج المسلِّم من الهجر"
(1)
.
ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخر من الردّ عليه، فأما مع الردّ إذا كان بينهما قبل الهجر مودّة، ولم يعودوا إليها، ففيها نظر.
وقد قال أحمد في رواية الأثرم: وسئل عن السلام يقطع الهجران؟، فقال: قد يسلّم عليه، وقد صدّ عنه، ثم قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يلتقيان، فيصدّ هذا"، فإذا كان قد عوّده
(2)
أن يكلمه، أو يصافحه، وكذلك رُوي عن مالك أنه قال: لا يقطع الهجران بدون العودة إلى المودّة.
وفرَّق بعضهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: يزول الهجر بينهم بمجرد السلام، بخلاف الأقارب، وإنما قال هذا؛ لوجوب صلة الرحم. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(3)
، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
رواه أبو داود، والبيهقيّ، ورجاله ثقات، غير هلال بن أبي هلال المدنيّ راويه عن أبي هريرة، روى عنه اثنان، ووثّقه ابن حبّان، وصححه الحافظ في "الفتح" 10/ 495.
(2)
هكذا العبارة، وفيها ركاكة، والظاهر أنها:"فإذا كان كذلك فعَوْده أن يكلمه، ويصافحه"، والله تعالى أعلم.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 268 - 270.
(المسألة السابعة): قوله صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عباد الله إخوانًا" هكذا ذَكَره النبيّ صلى الله عليه وسلم كالتعليل لِمَا تقدّم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا التباغض، وما ذُكر كانوا إخوانًا، وفيه أمْرٌ باكتساب ما يصير المسلمون به إخوانًا على الإطلاق، وذلك يدخل فيه أداء حقوق المسلم على المسلم، من ردّ السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وإجابة الدعوة، والابتداء بالسلام عند اللقاء، والنصح بالغيب.
وفي الترمذيّ عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تهادَوْا، فإن الهدية تُذهب وَحَر الصدر"
(1)
، وخرّجه غيره، ولفظه:"تهادوا تحابّوا"
(2)
، وفي "مسند البزار" عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تهادَوا، فإن الهدية تَسُلّ السَّخِيمة"
(3)
.
ويُروى عن عمر بن عبد العزيز يرفع الحديث، قال:"تصافحوا، فإنه يُذهب الشحناء، وتهادَوا"
(4)
.
وقال الحسن: المصافحة تزيد في المودّة، وقال مجاهد: بلغني أنه إذا تراءى المتحابّان، فضحك أحدهما إلى الآخر، وتصافحا، تحاتّت خطاياهما كما يتحاتّ الوَرَق من الشجر، فقيل له: إن هذا ليسير من العمل، قال: يقولون: يسير، والله يقول:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]. انتهى
(5)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6506]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
في سنده أبو معشر السنديّ، وهو ضعيف.
(2)
حديث حسن، كما قال الحافظ في "التلخيص الحبير" 3/ 70.
(3)
في سنده عائذ بن شريح: ضعيف.
(4)
رواه ابن وهب في "الجامع" عن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، عن أبيه رفعه، وهو مسلسل، وأخرجه مالك في "الموطّأ" 2/ 908 عن عطاء بن أبي مسلم الخراسانيّ، رفعه، وعطاء صدوق يهم كثيرًا، ويرسل، ويدلّس.
(5)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 271 - 272.
قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ
(1)
[10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم (1174).
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَوْلانيّ الحمصيّ الأبرش -بالشين المعجمة- ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم (1174).
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْدِيُّ) - بالزاي، والموحّدة، مصغّرًا - أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقة ثبت، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم (1174).
والباقون ذُكروا في السند الماضي، والباب السابق.
[تنبيه]: رواية محمد بن الوليد عن الزهريّ ساقها الطبرانيّ في "مسند الشاميين"، فقال:
(1694)
- حدّثنا إبراهيم بن دُحيم الدمشقيّ، ثنا أبي، ثنا عُمر بن عبد الواحد، ثنا الأوزاعيّ، عن محمد بن الوليد الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لامرئ مسلم أن يهاجر أخاه فوق ثلاثة أيام". انتهى
(2)
.
وأما رواية يونس بن يزيد الأيليّ، عن ابن شهاب، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6507]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ،
(1)
هذا أولى من قوله في "التقريب": صدوق، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
(2)
"مسند الشاميين" 3/ 7 - 8.
جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَزَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ:"وَلَا تَقَاطَعُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، أبو عثمان البغداديّ، نزل الرَّقَّة، ثقة حافظ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
وقوله: ("ولا تقاطعوا")؛ أي: لا تفعلوا أسباب القطع التي تقطع بعضكم عن بعض، من الحسد، والغيبة، والسبّ، والشتم، والبغض، وهو مِن ذِكر العامّ بعد الخاصّ
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تقاطعوا": أي: لا تقاطع أخاك، فلا تكلّمه، ولا تعامله، وهو معنى:"لا تَهَاجروا"، وهي رواية ابن ماهان، وهي: من الهجران، وعن الْجُلوديّ:"ولا تهجروا"، وعن أبي بحر:"تِهِجِروا" بكسر التاء، والهاء، والجيم، قال القاضي: معنى الكلمة: لا تهتجروا، وتكون: تفتعلون: يعني: تهاجروا، أو من هُجْر الكلام، وهو الفُحش فيه؛ أي: لا تتسابُّوا، وتتفاحشوا، قال القرطبيّ: والرواية الأُولى أوضح، وأَولى. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: رواية ابن عيينة عن الزهريّ هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(3549)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا ابن عيينة، عن الزهريّ، سمعه من أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6508]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، أَمَّا رِوَايَةُ يَزِيدَ عَنْهُ فَكَرِوَايَةِ سُفْيَانَ، عَنِ
(1)
"شرح الشيخ الهرري" 24/ 299 - 300.
(2)
"المفهم" 6/ 531 - 532.
(3)
"مسند أبي يعلى" 6/ 251.
الزُّهْرِيِّ، يَذْكُرُ الْخِصَالَ الأَرْبَعَةَ جَمِيعًا، وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ:"وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حسين الْجحدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً، وهو أوثق من عمة كامل بن طلحة (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) - بتقديم الزاي، مصغّرًا - العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبت [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ) ضمير التثنية لمحمد بن رافع، وعبد بن حُميد، فكلاهما رويا هذا الحديث عن عبد الرزّاق بن همّام الصنعانيّ.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ مَعْمَرٍ)؛ يعني: أن يزيد بن زُريع، وعبد الرزّاق رويا هذا الحديث عن معمر بن راشد.
[تنبيه]: رواية عبد الرزّاق عن معمر، ساقها أحمد في "مسنده"، فقال:
(12714)
- حدّثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يَهجُر أخاه فوق ثلاث". انتهى
(1)
.
وأما رواية يزيد بن زريع، عن معمر، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6509]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا").
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 165.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ غَلِط في أحاديث [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
2 -
(قتَادَةُ) بن عامة السَّدُوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في شرح حديث أول الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6510]
( .. ) - (حَدَّثَنِيهِ عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: "كَمَا أَمَرَكُمُ الله").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ) هو: عليّ بن نصر بن علي بن نصر بن علي الْجَهْضَميّ، أبو الحسن البصريّ الصغير الحافظ
(1)
، ثقة حافظ [11].
رَوَى عن وهب بن جرير بن حازم، وأبي داود الطيالسيّ، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وسهل بن حماد أبي عَتّاب الدلّال، ومحمد بن عباد الْهُنَائي، وغيرهم.
وروى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وأبو عمر والمستملي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري في غير "الجامع"، وغيرهم.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبي، وسألته عنه، فوثّقه، وأطنب في ذكره، والثناء عليه، وقال أبو زرعة: أرجو أن يكون خَلَفًا، وقال صالح بن محمد: ثقة، صدوق، وقال الترمذيّ: كان حافظًا صاحب حديث، وقال النسائيّ: نصر بن علي الجهضميّ، وابنه عليّ ثقتان، وذكرهما ابن حبان في "الثقات"،
(1)
أما الكبير فهو جدّ هذا: عليّ بن نصر بن عليّ من كبار الطبقة التاسعة، مات سنة (187)، وتقدّم في "الإيمان" 6/ 126.
وقال هو، والنسائيّ، وغيرهما: مات سنة خمسين ومائتين، زاد البخاريّ في "تاريخه": في شعبان.
روى عنه المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعد باب.
2 -
(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد، أبو العباس الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.
و"شُعبة" ذُكر قبله.
وقوله: (كما أمركم الله) قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد به هذا الأمر الذي هو قوله: "كونوا إخوانًا"؛ لأنَّ أمْره هو أمْر الله تعالى، وهو مُبَلِّغ له، ويَحْتَمِل أن يريد بذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فإنَّه خبرٌ عن المشروعية التي ينبغي للمؤمنين أن يكونوا عليها، ففيها معنى الأمر. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: وقع اختلاف في اسم شيخ المصنّف في هذا الإسناد، بيّنه الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "تقييده"، فقال بعد أن ساق سند مسلم ما نصّه: هكذا عند أبي أحمد: حدّثنا عليّ بن نصر، وهو أبو الحسن عليّ بن نصر بن عليّ بن نصر الْجَهضميّ، روى مسلم عن أبيه نصر بن عليّ كثيرًا، وروى عن ابنه عليّ بن نصر في هذا الموضع.
وفي نسخة أبي العلاء بن ماهان: حدّثنا نصر بن عليّ، قال: نا وهب بن جرير، بدل: عليّ بن نصر، ورواية أبي أحمد الصواب.
ذكر مسلم بعد هذا بأحاديث حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تحسّسوا"، ثم أردف على هذا: حدّثنا عليّ بن نصر، قال: نا وهب بن جرير، قال: نا شعبة، عن الأعمش بهذا الإسناد:"لا تقاطعوا، ولا تدابروا. . ." الحديث، ولم تختلف النُّسَخ في هذا الموضع في هذه المتابعة أنها عن عليّ بن نصر، ومات عليّ بن نصر هذا مع أبيه نصر بن عليّ في سنة واحدة سنة (250)،
(1)
"المفهم" 6/ 532.
توفّي الأب في ربيع الآخر، ومات ابنه في شعبان من السنة المذكورة. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "عليّ بن نصر"، وكذا نقله الجيّاني، والقاضي عياض، وغيرهما عن الحفّاظ، وعن عامة النسخ، وفي بعضها:"نصر بن عليّ" بالعكس، قالوا: وهو غلطٌ، قالوا: والصواب: عليّ بن نصر، وهو أبو الحسن عليّ بن نصر بن عليّ بن نصر الْجَهضَميّ، تُوُفّي بالبصرة هو وأبوه نصر بن عليّ سنة خمسين ومائتين، مات الأب في شهر ربيع الآخر، ومات الابن في شعبان تلك السنة، قال القاضي: قد اتَّفَقَ الحفّاظ على ما ذكرناه، وأن الصواب عليّ بن نصر، دون عكسه، مع أن مسلمًا رَوَى عنهما، إلا أن لا يكون لنصر بن عليّ سماع من وهب بن جرير، وليس هذا مذهب مسلم، فإنه يكتفي بالمعاصرة، وإمكان اللقاء، قال: ففي نَفْيهم لرواية النُّسخ التي فيها نصر بن عليّ نَظَر. انتهى.
هذا كلام القاضي.
وتعقبه النوويّ، فقال: والذي قاله الحفّاظ هو الصواب، وهم أعرف بما انتقدوه، ولا يلزم من سماع الابن مِن وَهَب سماع الأب منه، ولا يقال: يمكن الجمع، فكتاب مسلم وقع على وجه واحد، فالذي نقله الأكثرون هو المعتمَد، لا سيما وقد صوَّبه الحفّاظ. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تعقّب النوويّ رحمه الله وجيهٌ، فالصواب ما قاله الحفّاظ بأن الصواب في هذا الإسناد أنه عليّ بن نصر، لا أبوه نصر بن عليّ، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: رواية وهب بن جرير عن شعبة هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(3261)
- حدّثنا أحمد، حدّثنا وهب بن جرير، حدّثنا شعبة، عن قتادة،
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 921 - 922.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 116 - 117.
عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقاطعوا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، كما أمركم الله". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(8) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْهَجْرِ فَوْقَ ثَلَاثٍ بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6511]
(2560) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيِ أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَان، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ) المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاز الثمانين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.
2 -
(أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ) خالد بن زيد بن كُليب، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، مات غازيًا الروم سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مرّ القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) قال في "الفتح": هكذا اتَّفَقَ أصحاب الزهريّ، وخالفهم
(1)
"مسند أبي يعلى" 6/ 24.
عُقيل، فقال:"عن عطاء بن يزيد، عن أبي"، وخالفهم كلهم شَبِيب بن سعيد، عن يونس، عنه، فقال: عن عبيد الله، أو عبد الرحمن، عن أُبَيّ بن كعب، قال إبراهيم الحربيّ: أما شبيب فلم يضبط سنده، وقد ضبطه ابن وهب، عن يونس، فساقه على الصواب، أخرجه مسلم، وأما عُقيل فلعله سقط عليه لفظ "أيوب"، فصار "عن أبي"، فنَسَبه من قِبَل نفسه، فقال: ابن كعب، فوَهِم في ذلك. انتهى
(1)
.
(الأَنْصَارِيِّ) بفتح الهمزة نسبة إلى الأنصار، وهم جماعة أهل المدينة من الأوس والخزرج، سُمّوا به؛ لِنُصرتهم النبيّ صلى الله عليه وسلم. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَحِلُّ) بفتح أوله، وكسر ثانية، من حلّ الشيء يَحِلّ، من باب ضرب، ضدّ حَرُم. (لِمُسْلِمٍ) قد يحتجّ به من يقول: الكفّار غير مخاطَبين بفروع الشرع، والأصحّ أنهم مخاطبون بها، وإنما قيّد بالمسلم؛ لأنه الذي يقبل خطاب الشرع، وينتفع به
(2)
.
(أَنْ يَهْجُرَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: هَجَره يهجُرُه، من باب قتل، هَجْرًا بالفتح، وهِجرانًا بالكسر: إذا صرمه، والشيءَ تَرَكه، كأهجره
(3)
.
(أَخَاهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: تخصيص الأخ بالذِّكر إشعار بالعليّة، والمراد به أخوّة الإسلام، ويُفهم منه أنه إن خالف هذه الشريطة، وقطع هذه الرابطة جاز هِجرانه فوق ثلاث
(4)
.
وقال ابن الأثير - عند قوله: "لا هِجْرَةَ بَعْد ثلاثٍ" -: يريد به الهَجْر ضِدّ الوَصل؛ يَعْني: فيما يَكُون بَيْن المسلمين من عَتْب، ومَوْجِدَة، أو تَقْصِيرٍ يَقَع في حُقُوق العِشْرَة، والصُّحْبَة، دونَ ما كان من ذلك في جانب الدِّين، فإنَّ هِجْرة أهْلِ الأهْواء، والبِدَع دَائمة على مَرِّ الأوقات، ما لم تَظْهر منْهُم التَّوْبة، والرُّجُوع إلى الحقِّ، فإنَّه صلى الله عليه وسلم لَمّا خاف على كعْب بن مالك وصحابيه النِّفاقَ
(1)
"الفتح" 13/ 648 - 649، كتاب "الأدب" رقم (6077).
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 118.
(3)
راجع: "القاموس المحيط" ص 1336.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3209.
حين تَخَلّفوا عن غَزْوة تَبوك، أمَر بِهِجْرانِهم خَمْسين يَوْمًا، وقد هَجَر صلى الله عليه وسلم نِساءَه شَهرًا، وهَجَرت عائشة ابنَ الزُّبَير رضي الله عنهما مُدَّة، وَهَجر جَمَاعةٌ من الصحابة جَماعةً منهم، وماتُوا مُتَهاجِرِين، ولعلّ أحَدَ الأمْرَيْن مَنْسُوخٌ بالآخَر. انتهى كلام ابن الأثير
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "منسوخ بالآخر" هذا غير صحيح، بل الحقّ أنه يُحمل على أن هجران هؤلاء بعضهم لبعض كان لأمر دينيّ، لا دنيويّ حَسَب اجتهادهم، وإن لم يكن كذلك عند الآخرين، فهذا هو وجه الجمع بين الأخبار، والله تعالى أعلم.
(فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) ظاهره إباحة ذلك في الثلاث، وهو من الرفق؛ لأن الآدميّ في طبعه الغضب، وسوء الخُلُق، ونحو ذلك، والغالب أنه يزول، أو يقلّ في الثلاث.
(يَلْتَقِيَانِ) قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: ما موقع قوله: "يلتقيان"، وقوله:"وخيرهما"؟ قلت: الجملة الأُولى بيانيّة، استئنافيّة، بيان لكيفيّة الهجران، والثانية عَطْف على الأُولى من حيث المعنى؛ لِمَا يُفهم منها أن ذلك الفعل ليس بخير، ويجوز أن تكون الأُولى حالًا من فاعل "يهجر"، ومفعوله معًا، نحو قول الشاعر [من الوافر]:
مَتَى مَا نَلْتَقِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ
…
رَوَانِفُ
(2)
أَلْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وعلى هذا فالثانية معطوفة على قوله: "لا يحلّ". انتهى
(3)
.
(فَيُعْرِضُ هَذَا) عن أخيه المسلم، (وَيُعْرِضُ هَذَا) الآخر كذلك، وفي رواية:"فيصُدّ هذا، ويصُدّ هذا" وهو بضمّ الصاد، ومعنى يصدّ: يُعرض؛ أي: يولّيه عُرضه، بضم العين، وهو جانبه، والصّدّ بضم الصاد
(4)
، وهو أيضًا
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 557.
(2)
الرانفة: أسفل الألية، وطرفها الذي يلي الأرض من الإنسان إذا كان قائمًا. اهـ. "لسان" 9/ 127.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3209.
(4)
قال في "القاموس": الصدّ بالفتح، ويُضَمّ: الجبل، وهو ناحية الوادي. اهـ. ص 731.
الجانب، والناحية، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "المشارق": "فيصدّ هذا، ويصدّ هذا": أي: يُعْرِض كل واحد منهما عن صاحبه، ويصرف وجهه عنه، كما قال في الرواية الأخرى:"فيُعْرِض هذا، ويعرض هذا"، والصّدّ: الْهِجران، كأنه يُعرِض عنه، ويولّيه صُدّه، وهو جانبه، وهو معنى يُعرض أيضًا، والعراض: الجانب. انتهى
(2)
.
(وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ") زاد الطبريّ من طريق أخرى، عن الزهريّ:"يسبق إلى الجنة"، ولأبي داود بسند صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"فإن مرَّت به ثلاث، فلقيه، فليسلِّم عليه، فإن ردّ عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردّ عليه، فقد باء بالإثم، وخَرَج المسلِّم من الهجرة"، ولأحمد والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه ابن حبان، من حديث هشام بن عامر:"فإنهما ناكثان عن الحقّ ما داما على صِرامهما، وأوّلُهما فَيْئًا يكون سَبْقه كفارة"، فذكر نحو حديث أبي هريرة، وزاد في آخره:"فإن ماتا على صِرامهما، لم يدخلا الجنة جميعًا"
(3)
.
وقوله أيضًا: (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ")؛ أي: هو أفضلهما، قال النوويّ: وفيه دليل لمذهب الشافعيّ، ومالك، ومن وافقهما أن السلام يقطع الهجرة، ويرفع الإثم فيها، ويزيله، وقال أحمد، وابن القاسم المالكيّ: إن كان يؤذيه لم يقطع السلامُ هجرته، قال أصحابنا -الشافعيّة-: ولو كاتَبَه، أو راسله عند غيبته عنه، هل يزول إثم الهجرة؟ فيه وجهان: أحدهما لا يزول؛ لأنه لم يكلّمه، وأصحّهما يزول؛ لزوال الوحشة، والله أعلم. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وخيرهما إلخ" هذا يدلّ على أن مجرد السلام يُخرج عن الهجرة، وإن لم يكلّمه، وهو قول مالك وغيره، وقال أحمد، وابن الق. اسم: إن كان يؤذيه فلا يقطع السلامُ هجرته، وعندنا أنه إن اعتزل كلامه لم تُقبل شهادته عليه، ومعناه: أن الذي يبادر بقطع الهجرة، فيسبق
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 117.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 40.
(3)
"الفتح" 13/ 649، كتاب "الأدب" رقم (6077).
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 117 - 118.
صاحبه بالسلام أحسن خُلقًا، وأعظم أجرًا، وما ذكرناه من جواز الهجران في الثلاث هو مذهب الجمهور، والمعتبَر ثلاث ليال، فإن بدأ بالهجرة في بعض يوم فله أن يلغي ذلك البعض، ويعتبر ليلة ذلك اليوم، فيكون أول الزمان الذي أبيحت فيه الهجرة، ثم بانفصال الليلة الثالثة تحرم، على ما قدّمناه، وهذا الْهِجران الذي ذكرناه هو الذي يكون عن غضب لأمر جائز، لا تعلّق له بالدِّين، فأما الْهِجران لأجل المعاصي والبدعة، فواجب استصحابه إلى أن يتوب من ذلك، ولا يُختَلَف في هذا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6511 و 6512](2560)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6077) و"الاستئذان"(6237) وفي "الأدب المفرد"(1/ 147 و 341)، و (أبو داود) في "الأدب"(4911)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1932)، و (مالك) في "الموطأ"(2/ 906 - 907)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 416 و 421 و 422)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(592)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3949 و 3951 و 3960)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5669 و 5670)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 63) وفي "شُعَب الإيمان"(5/ 269)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3521)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ما قاله النوويّ رحمه الله: قال العلماء: في هذا الحديث تحريم الهجر بين المسلمين أكثر من ثلاث ليال، وإباحتها في الثلاث، الأوّلُ بنصّ الحديث، والثاني بمفهومه، قالوا: وإنما عُفي عنها في الثلاث؛ لأن الآدمي مجبول على الغضب، وسوء الخُلُق، ونحو ذلك، فعُفي عن الهجرة في الثلاثة؛
(1)
"المفهم" 6/ 533 - 534.
ليذهب ذلك العارض، وقيل: إن الحديث لا يقتضي إباحة الهجرة في الثلاث، وهذا على مذهب من يقول: لا يُحتجّ بالمفهوم، ودليلِ الخطاب. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": قال أكثر العلماء: تزول الهجرة بمجرد السلام، وردّه، وقال أحمد: لا يبرأ من الهجرة إلا بعوده إلى الحال التي كان عليها أوّلًا، وقال أيضًا: ترك الكلام إن كان يؤذيه لم تنقطع الهجرة بالسلام، وكذا قال ابن القاسم، وقال عياض: إذا اعتزل كلامه لم تُقبل شهادته عليه عندنا، ولو سَلَّم عليه؛ يعني: وهذا يؤيّد قول ابن القاسم.
قال الحافظ: ويمكن الفرق بأن الشهادة يُتَوَقَّى فيها، وتَرْك المكالمة يُشعر بأن في باطنه عليه شيئًا، فلا تُقبل شهادته عليه، وأما زوال الهجرة بالسلام عليه بعد تَرْكه ذلك في الثلاث، فليس بممتنع.
واستَدَلّ للجمهور بما رواه الطبرانيّ من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود رضي الله عنه في أثناء حديث موقوف، وفيه:"ورجوعه أن يأتي، فيسلِّم عليه".
3 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح" أيضًا: استُدِلّ بقوله: "أخاه" على أن الحكم يختص بالمؤمنين، وقال النوويّ: لا حجة في قوله: "لا يحل لمسلم" لمن يقول: الكفار غير مخاطَبين بفروع الشريعة؛ لأن التقييد بالمسلم لكونه الذي يقبل خطاب الشرع، وينتفع به، وأما التقييد بالأخُوّة فدالّ على أن للمسلم أن يهجر الكافر من غير تقييد.
4 -
(ومنها): أنه استُدِلّ بهذه الأحاديث على أن من أعرض عن أخيه المسلم، وامتنع من مكالمته، والسلام عليه أثم بذلك؛ لأن نفي الحلّ يستلزم التحريم، ومرتكب الحرام آثم، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أنه لا يجوز الهجران فوق ثلاث، إلا لمن خاف من مكالمته ما يُفسد عليه دينه، أو يُدخل منه على نفسه، أو دنياه مضرّةً، فإن كان كذلك جاز، ورُبّ هَجْر جميل خير من مخالطة مؤذية، قاله في "الفتح"
(2)
.
[فائدة]: استُشكل كون هجران الفاسق، أو المبتدِع مشروعًا ولا يُشرع
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 117.
(2)
"الفتح" 13/ 649، كتاب "الأدب" رقم (6077).
هجران الكافر، وهو أشدّ جُرْمًا منهما؛ لكونهما من أهل التوحيد في الجملة.
وأجاب ابن بطال بأن لله أحكامًا فيها مصالح للعباد، وهو أعلم بشأنها، وعليهم التسليم لِأَمْره فيها، فجنح إلى أنه تعبُّد، لا يُعْقَل معناه، وأجاب غيره بأن الهجران على مرتبتين: الهجران بالقلب، والهجران باللسان، فهجران الكافر بالقلب، وبترك التودّد، والتعاون، والتناصر، لا سيما إذا كان حربيًّا، وإنما لم يشرع هجرانه بالكلام؛ لعدم ارتداعه بذلك عن كفره، بخلاف العاصي المسلم، فإنه ينزجر بذلك غالبًا، ويشترك كل من الكافر والعاصي في مشروعية مكالمته بالدعاء إلى الطاعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنما المشروع ترك المكالمة بالمودّة، ونحوها
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6512]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاق، عَنْ مَعْمَرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، وَمِثْلِ حَدِيثِه، إِلَّا قَوْلَهُ:"فَيُعْرِضُ هَذَا، ويعْرِضُ هَذَا"، فَإِنَّهُمْ جَمِيعًا قَالُوا فِي حَدِيثِهِمْ غَيْرَ مَالِكٍ:"فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا").
رجال هذا الإسناد: ستة عشر:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والذي قبله، و"إسحاق بن إبراهيم" وهو ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ أي: كل هؤلاء الأربعة، وهم: سفيان بن عيينة، ويونس بن يزيد الأيليّ، ومحمد بن الوليد الزُّبيديّ، ومعمر بن راشد رووا هذه الحديث عن الزهريّ، كمثل ما رواه مالك بإسناده، وعنه إلا قوله:"فيُعرض هذا إلخ".
(1)
"الفتح" 13/ 652.
وقوله: (غَيْرَ مَالِكٍ) بنصب "غيرَ" على الاستثناء، وذَكَره تأكيدًا لِمَا فهمه مما سبق، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5883)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيصدّ هذا، ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، وذَكَر سفيان أنه سمعه منه ثلاث مرات. انتهى
(1)
.
ورواية يونس بن يزيد الأيليّ عن الزهريّ، ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(3956)
- حدّثنا إسماعيل بن الحسن الخفّاف، ثنا أحمد بن صالح، أنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي أيوب الأنصاريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيصدّ هذا، ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". انتهى
(2)
.
ورواية معمر بن راشد، عن الزهريّ، ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20223)
- أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد الليثيّ، عن أبي أيوب الأنصاريّ، قال: لا أعلمه إلا رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان، فيصدّ هذا، ويصدّ هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام". انتهى
(3)
.
وأما رواية محمد بن الوليد الزُّبيديّ عن الزهريّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2302.
(2)
"المعجم الكبير" 4/ 145.
(3)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 168.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6513]
(2561) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ -وَهُوَ ابْنُ عُثْمَانَ- عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ
(1)
أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي فُدَيْكٍ) هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فُديك -بالفاء، مصغّرًا- الذيليّ مولاهم المدنيّ، أبو إسماعيل، صدوقٌ، من صغار [8] مات سنة مائتين، على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 16/ 775.
2 -
(الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ) بن عبد الله بن خالد بن حِزَام الأسديّ الحزاميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](م 4) تقدم في "الحيض" 16/ 774.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
و"شيخه" ذُكر في السند الماضي، وشرح الحديث يُعلم مما سبق، فلا حاجة إلى إعادته.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6513](2561)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 68)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 120 و 9/ 68)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 60)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6514]
(2562) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ").
(1)
وفي نسخة: "لمؤمن".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"العلاء" هو ابن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ المدنيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا هِجْرَةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ") وفي رواية أبي داود، والنسائيّ:"لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث، فمات دخل النار".
وقال ابن الأثير رحمه الله: قوله: "لا هجرة بعد ثلاث" يريد به الهجرة ضدّ الوصل؛ يعني: فيما يكون بين المسلمين من عَتْب، ومَوْجِدة، أو تقصير، يقع في حقوق العِشْرة والصحبة، دون ما كان في ذلك في جانب الدِّين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة، على مَرّ الأوقات، ما لم تَظْهر منهم التوبة، والرجوع إلى الحقّ. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6514](2562)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 378 و 456)، والله تعالى أعلم.
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 244.
(9) - (بَابُ تَحْرِيمِ الظَّنِّ، وَالتَّجَسُّس، وَالتَّنَافُس، وَالتَّنَاجُش، وَنَحْوِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6515]
(2563) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيث، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذَكْوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقة فقيه [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت عالم [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ)؛ أي: باعدوا أنفسكم عن ظنّ السوء، فـ"إياكم" منصوب على التحذير، كما قال في "الخلاصة":
إِيَّاكَ وَالشَّرَّ وَنَحْوَهُ نَصَبْ
…
مُحَذِّرٌ بِمَا اسْتِتَارُهُ وَجَبْ
قال القرطبيّ رحمه الله: الظن هنا هو التهمة، ومحلّ التحذير والنهي إنما هو تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتّهم شخصًا بالفاحشة، أو بشرب الخمر، ولم
يظهر عليه ما يقتضي ذلك، ودليل كون الظنّ هنا بمعنى التهمة قوله بعد هذا:"ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا"، وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداءً، فيريد أن يتجسّس خبر ذلك، ويبحث عنه، ويتبصّر، ويتسمّع؛ ليحقق ما وقع له من تلك التهمة، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد جاء في بعض الأحاديث:"إذا ظننت فلا تُحقّق"، وقال الله تعالى:{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12]، وذلك أن المنافقين تطيّروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه حين انصرفوا إلى الحديبية، فقالوا: إن محمّدًا وأصحابه أكلة رأس، ولن يرجعوا إليكم أبدًا، فذلك ظنّهم السيّئ الذي وبّخهم الله تعالى عليه، وهو من نوع ما نَهَى الشرع عنه، إلا أنه أقبح النوع، فأما الظن الشرعيّ الذي هو تغليب أحد المجوّزين، أو بمعنى اليقين، فغير مراد من الحديث، ولا من الآية يقينًا، فلا يُلتفت لمن استدلّ بذلك على إنكار الظنّ الشرعيّ، كما قرّرناه في الأصول. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ: المراد: النهي عن ظن السوء، قال الخطابيّ: هو تحقيق الظنّ، وتصديقه دون ما يهجس في النفس، فإن ذلك لا يُمْلَك، ومراد الخطابيّ أن المحرَّم من الظنّ ما يستمرّ صاحبه عليه، ويستقرّ في قلبه، دون ما يَعْرِض في القلب، ولا يستقرّ، فإن هذا لا يكلَّف به كما سبق في حديث:"تجاوز الله تعالى عما تحدثت به الأمة، ما لم تتكلم، أو تعمل"، وسبق تأويله على الخواطر التي لا تستقرّ، ونقل القاضي عن سفيان أنه قال: الظن الذي يأثم به هو ما ظنَّه، وتكلَّم به، فإن لم يتكلم لم يأثم، قال: وقال بعضهم: يَحْتَمِل أن المراد: الحكم في الشرع بظنٍّ مجرَّد من غير بناء على أصل، ولا نَظَرٍ واستدلال، وهذا ضعيف، أو باطل، والصواب الأول. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال الخطابيّ
(3)
وغيره: ليس المراد ترك العمل بالظنّ الذي تُناط به الأحكام غالبًا، بل المراد: ترك تحقيق الظنّ الذي يضرّ بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بغير دليل، وذلك أن أوائل الظنون إنما هي
(1)
"المفهم" 6/ 534 - 535.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 118 - 119.
(3)
"الأعلام" 3/ 1974 و 2189.
خواطر، لا يمكن دَفْعها، وما لا يُقْدَر عليه لا يكلَّف به، ويؤيده حديث:"تجاوز الله للأمة عما حدّثت به أنفسها"، وقد تقدّم شرحه.
وقال القرطبيّ: المراد بالظن هنا: التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم رجلًا بالفاحشة من غير أن يظهر عليه ما يقتضيها، ولذلك عَطَف عليه قوله:"ولا تجسسوا"، وذلك أن الشخص يقع له خاطر التهمة، فيريد أن يتحقق، فيتجسس، ويبحث، ويستمع، فنُهي عن ذلك، وهذا الحديث يوافق قوله تعالى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]، فدل سياق الآية على الأمر بصون عرض المسلم غاية الصيانة؛ لِتقدُّم النهي عن الخوض فيه بالظن، فإن قال الظانّ: أبحث لأتحقق، قيل له: ولا تجسسوا، فإن قال: تحققت من غير تجسس، قيل له: ولا يغتب بعضكم بعضًا. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ) قد استُشكِل تسمية الظنّ حديثًا، وأجيب بأن المراد عدم مطابقة الواقع، سواء كان قولًا أو فعلًا، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: ما ينشأ عن الظنّ، فوصف الظنّ به مجازًا. (وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا) قال النوويّ: الأول بالحاء، والثاني بالجيم، قال بعض العلماء: التحسس بالحاء: الاستماع لحديث القوم، وبالجيم: البحث عن العورات، وقيل: بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ، والجاسوس صاحب سرّ الشرّ، والناموس صاحب سرّ الخير، وقيل: بالجيم أن تَطلبه لغيرك، وبالحاء أن تطلبه لنفسك، قاله ثعلب، وقيل: هما بمعنًى، وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة، والأحوال. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا تحسسوا، ولا تجسسوا" إحدى الكلمتين بالجيم، والأخرى بالحاء المهملة، وفي كل منهما حذف إحدى التاءين تخفيفًا، وكذا في بقية المناهي التي في حديث الباب، والأصل: تتحسسوا، قال الخطابيّ: معناه: لا تبحثوا عن عيوب الناس، ولا تتبعوها، قال الله تعالى
(1)
"الفتح" 13/ 625 - 626، كتاب "الأدب" رقم (6064).
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 119.
حاكيًا عن يعقوب عليه السلام: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} الآية [يوسف: 87]، وأصل هذه الكلمة التي بالمهملة من الحاسّة، إحدى الحواسّ الخمس، وبالجيم من الجسّ، بمعنى اختبار الشيء باليد، وهي إحدى الحواسّ، فتكون التي بالحاء أعمّ، وقال إبراهيم الحربيّ: هما بمعنى واحد، وقال ابن الأنباريّ: ذُكِر الثاني للتأكيد، كقولهم: بُعْدًا، وسحقًا، وقيل: بالجيم البحث عن عوراتهم، وبالحاء استماع حديث القوم، وهذا رواه الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير، أحد صغار التابعين، وقيل: بالجيم البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشرّ، وبالحاء البحث عما يُدرك بحاسة العين والأذن، ورجح هذا القرطبيّ، وقيل: بالجيم تتبّع الشخص لأجل غيره، وبالحاء تتبّعه لنفسه، وهذا اختيار ثعلب.
ويُستثنى من النهي عن التجسس ما لو تعيَّن طريقًا إلى إنقاذ نفس من الهلاك مثلًا، كأن يخبر ثقةٌ بأن فلانًا خلا بشخص ليقتله ظلمًا، أو بامرأة ليزني بها، فيشرع في هذه الصورة التجسس والبحث عن ذلك؛ حَذَرًا من فوات استدراكه، نَقَله النوويّ عن "الأحكام السلطانية" للماورديّ، واستجاده، وأن كلامه ليس للمحتسِب أن يبحث عما لم يظهر من المحرّمات، ولو غلب على الظنّ استسرار أهلَها بها، إلا هذه الصورة. انتهى
(1)
.
(وَلَا تَنَافَسُوا)؛ أي: لا تتبارَوْا في الحرص على الدنيا، وأسبابها، وأما التنافس في الخير فمأمور به، كما قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]؛ أي: في الجنة وثوابها، وكأنّ المنافسة هي الغبطة، وقد أبعد من فسّرها بالحسد، لا سيما في هذا الحديث، فإنه قد قَرَن بينها وبين الحسد في مساق واحد، فدلّ على أنهما أمران متغايران. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ: المنافسة، والتنافس معناهما الرغبة في الشيء، وفي الانفراد به، ونافسته منافسةً: إذا رَغْبتَ فيما رَغِب فيه، قيل: معنى الحديث: التباري في الرغبة في الدنيا، وأسبابها، وحظوظها. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 13/ 625 - 626.
(2)
"المفهم" 6/ 535.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 119.
(وَلَا تَحَاسَدُوا) قد تقدّم أن الحسد تمنّي زوال النعمة عن مستحقّ لها إلى آخِر ما سبق. (وَلَا تَبَاغَضُوا)؛ أي: لا تتعاطوا أسباب البغض، (وَلَا تَدَابَرُوا)؛ أي: لا تفعلوا فِعل المتباغضَين اللذين يُدبر كل واحد منهما عن الآخر؛ أي: يولّيه دُبُره فِعْل المُعْرِض، (وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا") أي: كونوا كإخوان النَّسب في الشفقة والرحمة، والمودّة، والمواساة، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [9/ 6515 و 6516 و 6517 و 6518 و 6519](2563)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5143) و"الأدب"(6064 و 6066) و"الفرائض"(6724) وفي "الأدب المفرد"(1/ 148)، و (أبو داود) في "الأدب"(4917)، و (الترمذيّ) في "الجامع"(4/ 356)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 907 - 908)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 245 و 277 و 287 و 288 و 360 و 389 و 393 و 394 و 446 و 465 و 469 و 480 و 501 و 512)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(6)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20228)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 465)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 330)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5687)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 85 و 7/ 180 و 8/ 333 و 10/ 231) و"شُعب الإيمان"(7/ 508)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3534)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6516]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَهَجَّرُوا
(1)
، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا").
(1)
وفي نسخة: "لا تهاجروا".
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الذي مرّ قبل حديث.
وقوله: (لَا تَهَجَّرُوا) كذا هو في معظم النسخ، وفي بعضها:"لا تهاجروا"، وهما بمعنى واحد، وكلاهما بفتح التاء، حُذف منهما إحدى التاءين، كما تقدّم البحث فيه، والمراد: النهي عن الهِجْرة، ومقاطعة الكلام، وقيل: يجوز أن يكون: لا تَهْجُروا: أي: لا تتكلموا بالْهُجْر، بضم الهاء، وهو الكلام القبيح.
وقوله: (وَلَا يَبعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: قد تكاثر النهي عن ذلك، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبيع المؤمن على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه"، وفي رواية لمسلم:"لا يَسُم المسلم على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبته"، وخرّجاه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له"، ولفظه لمسلم، وخرّج مسلم من حديث عقبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن أخو المؤمن، فلا يحلّ للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، حتى يَذَرَ".
قال: وهذا دليل على أن هذا حقّ المسلم، فلا يساويه الكافر في ذلك، بل يجوز للمسلم أن يبتاع على بيع الكافر، ويخطب على خِطبته، وهو قول الأوزاعيّ، وأحمد، كما لا يثبت للكافر على المسلم حقّ الشفعة عنده، وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن النهي عامّ في حقّ المسلم والكافر، واختلفوا هل النهي للتحريم، أو التنزيه؟ فمن أصحابنا -يعني: الحنبليّة- من قال: هو للتنزيه دون التحريم، والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنه للتحريم، واختلفوا هل يصح البيع على بيع أخيه، والنكاح على خطبته، فقال أبو حنيفة؟ والشافعيّ، وأكثر أصحابنا: يصحّ، وقال مالك في النكاح: إنه إن لم يدخل بها فُرِّق بينهما، وإن دخل بها لا يفرّق، وقال أبو بكر من أصحابنا في البيع والنكاح: إنه باطل على كل حال، وحكاه عن أحمد.
ومعنى البيع على بيع أخيه: أن يكون قد باع منه شيئًا، فيبذل للمشتري سلعته؛ ليشتريها، ويفسخ بيع الأول، وهل يختصّ ذلك بما إذا كان البذل في مدة الخيار، بحيث يمكن المشتري من الفسخ فيه أم هو عامّ في مدة الخيار
وبعدها؟، فيه اختلاف بين العلماء، وقد حكاه الإمام أحمد في رواية حرب، ومال إلى القول بأنه عامّ في الحالين، وهو قول طائفة من أصحابنا، ومنهم من خصه بما إذا كان في مدة الخيار، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن مشيش، ومنصوص الشافعيّ، والأول أظهر؛ لأن المشتري وإن لم يتمكن من الفسخ بنفسه بعد انقضاء مدة الخيار، فإنه إذا رَغِب في ردّ السلعة الأولى على بائعها، فإنه يتسبب في ردّها عليه بأنواع من الطرق المستفيضة لضرره، ولو بإلحاح عليه في المسألة، وما أدَّى إلى ضرر المسلم كان محرّمًا، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت البحث في هذه المسألة في "كتاب البيوع"، مستوفًى بأدلّته، وترجيح الراجح بأدلّته، فراجعه تستفد، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6517]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تبَاغَضُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه) ذُكر قبله.
وقوله: (وَلَا تَنَاجَشُوا) قال القرطبيّ: قيل فيه: إنه من باب النجش في البيع الذي تقدَّم ذِكره في "البيوع"، وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ صيغة تفاعَل أصلها لا تكون إلا من اثنين، فالتناجش لا يكون من واحد، والنجش يكون من واحد، فافترقا، وإن كان أصلهما واحدًا؛ لأنَّ أصل النجش: الاستخراج، والإثارة،
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 270 - 271.
تقول: نجشتُ الصيد، أنجشه، نجشًا: إذا استثرته من مكانه، وقيل:"لا تناجشوا": لا يُنافر بعضكم بعضًا؛ أي لا يعامله من القول بما يُنَفِّره، كما ينفّر الصيد، بل يسكّنه، ويؤنّسه، كما قال:"سَكِّنوا، ولا تنفّروا" متّفقٌ عليه، وهذا أحسن من الأول، وأَولى بمساق الحديث. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديث.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6518]
(. . .) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ نَصْرٍ الْجَهْضَمِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَادِ: "لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمُ الله").
قال الجامع عفا الله عنه: رجال هذا الإسناد تقدّموا
(2)
، بعضهم في الباب، وبعضهم قبل باب، وتقدّم الكلام على عليّ بن نصر هذا قبل باب، فلا تغفل.
[تنبيه]: رواية شعبة عن الأعمش هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(20849)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدُّوريّ، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، كما أمركم الله عز وجل". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6519]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا").
(1)
"المفهم" 6/ 535 - 536.
(2)
وحسن الحلوانيّ تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(3)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 232.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) أبو جعفر السرخسيّ، ثقة حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقة ثبت [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلًا بأخرة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح السمّان المدنيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في شرح حديث أول الباب، ولله الحمد والمنّة.
(10) - (بَابُ تَحْرِيمِ ظُلْمِ الْمُسْلِمِ، وَخَذْلِهِ، وَاحْتِقَارِه، وَتَحْرِيمِ دَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَالِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6520]
(2564) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ -يَعْنِي: ابْنَ قَيْسٍ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا" -وُيشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
(1)
- "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ").
(1)
وفي نسخة: "ثلاث مرار".
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المدينيّ لا يقدّمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) الفرّاء الدبّاغ، أبو سليمان القرشيّ مولاهم المدنيّ، ثقة فاضل [5] مات في خلافة أبي جعفر (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1084.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ) هو: أبو سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز الخزاعيّ، ثقة
(1)
[4].
رَوَى عن أبي هريرة، والحسن البصريّ، وعنه صفوان بن سُليم، ومحمد بن عجلان، والعلاء بن عبد الرحمن، وأسامة بن زيد الليثيّ، وداود بن قيس الفرّاء، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبيّ في "الكاشف"
(2)
: ثقةٌ.
أخرج له المصنف، وأبو داود، في "المراسيل"، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (499) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا) الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها، وقد مضى شرحه مستوفًى.
(1)
هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبان، والذهبيّ، كما في "الكاشف"(2/ 430). وأخرج له مسلم هنا في "الصحيح"، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فهو ثقة بلا شكّ، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
2/ 430.
(وَلَا تَنَاجَشُوا) قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: فَسَّره كثير من العلماء بالنجش في البيع، وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، إما لِنَفْع البائع لزيادة الثمن له، أو بإضرار المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن النجش، وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربًا خائنٌ، ذَكَره البخاريّ، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على أن فاعله عاصٍ لله تعالى؛ إذا كان بالنهي عالِمًا، واختلفوا في البيع، فمنهم من قال: إنه فاسد، وهو رواية عن أحمد، اختارها طائفة من أصحابه، ومنهم من قال: إن كان الناجش هو البائعَ، أو مَن واطأه البائع على النجش، فقد فسد؛ لأن النهي هنا يعود إلى العاقد نفسه، وإن لم يكن كذلك لم يفسد؛ لأنه يعود إلى أجنبيّ، وكذا حُكي عن الشافعي أنه عَلَّل صحة البيع بأن البائع غير الناجش، وأكثر الفقهاء على أن البيع صحيح مطلقًا، وهو قول أبي حنيفة، ومالك، والشافعيّ، وأحمد في رواية عنه، إلا أن مالكًا وأحمد أثبتا للمشتري الخيار؛ إذا لم يعلم بالحال، وغُبِن غبنًا فاحشًا يخرج عن العادة، وقد رواه مالك، وبعض أصحاب أحمد بثلث الثَّمَن، فإن اختار المشتري حينئذ الفسخ فله ذلك، وإن أراد الإمساك، فإنه يحطّ ما غُبن به من الثمن، ذكره أصحابنا.
ويَحْتَمِل أن يُفَسَّر التناجش المنهيّ عنه في هذا الحديث بما هو أعمّ من ذلك، فإن أصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر، والحيلة، والمخادعة، ومنه سُمِّي الناجش في البيع ناجشًا، ويُسَمَّى الصائد في اللغة ناجشًا؛ لأنه يصيد الصيد بحيلته عليه، وخداعه له، وحينئذ فيكون المعنى: لا تَتَخَادَعُوا، ولا يعامل بعضكم بعضًا بالمكر، والاحتيال، وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم، إما بطريق الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصول الضرر إليه، ودخوله عليه، وقد قال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من غشنا فليس منا، والمكر، والخداع في النار"
(1)
. وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه
(1)
رواه الطبرانيّ، وأبو نعيم، وصححه ابن حبّان.
المرفوع: "ملعون من ضارّ مسلمًا، أو مَكَر به" خرّجه الترمذيّ
(1)
، فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهيّ عنه: جميع أنواع المعاملات بالغش، ونحوه، كتدليس العيوب، وكتمانها، وغَشّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْن المسترسل الذي لا يَعرف المماكسة، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفار والمنافقين بالمكر بالأنبياء، وأتباعهم، وما أحسن قول أبي العتاهية [من الخفيف]:
لَيْسَ دُنْيَا إِلَّا بِدِينٍ وَلَيْـ
…
سَ الدِّينُ إلَّا مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ
إِنَّمَا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّا
…
رِ هُمَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ النّفَاقِ
وإنما يجوز المكر بمن يجوز إدخال الأذى عليه، وهم الكفار، والمحاربون، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الحرب خدْعَةٌ"، متّفقٌ عليه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت ما يتعلّق بالنجش في "كتاب البيوع"، فارجع إليه تجد علومًا جمّة، وبالله تعالى التوفيق.
(وَلَا تَبَاغَضُوا) نهي عن التباغض بينهم، وذلك فيما ليس لأمر شرعيّ، وقد تقدّم البحث فيه مستوفًى. (وَلَا تَدَابَرُوا) معنى التدابر: المعاداة، يقال: دابرته: أي: عاديته، وحَكَى عياض أن معناه: لا تجادلوا، ولكن تعاونوا، والأول أَولى. (وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ) تقدّم أن معناه أن يكون قد باع منه شيئًا، فيبذل للمشتري سلعته ليشتريها، ويفسخ بيع الأول، وتقدّم البحث في ذلك أيضًا مستوفى. (وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا) هذا ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم كالتعليل لِمَا تقدّم، وفيه إشارة إلى أنهم إذا تركوا الحسد، وما ذُكر معه كانوا إخوانًا.
(الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)؛ أي: فليتعامل المسلمون فيما بينهم، ولْيتعاشروا معاملة الإخوّة، ومعاشرتهم في الموّدة، والرفق، والشفقة، والملاطفة، والتعاون في الخير، ونحو ذلك، مع صفاء القلوب، والنصيحة بكل حال
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "المسلم أخو المسلم" هذه أخوّة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يُطلَق بينهما اسم الأخوة، ويشترك في ذلك الحرّ والعبد،
(1)
ضعيف، في سنده أبو سلمة الكنديّ مجهول، وفرقد السبخيّ متكلّم فيه.
(2)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 328.
(3)
"تحفة الأحوذي" 6/ 46.
والبالغ والمميز. انتهى
(1)
.
(لَا يَظْلِمُهُ)؛ أي: لا ينقصه حقّه، أو يمنعه إياه، وهو خبر بمعنى الأمر، فإنّ ظُلْم المسلم للمسلم حرام، زاد في حديث ابن عمر:"ولا يُسلمه": أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، وهذا أخصّ مِنْ تَرْك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا، بحسب اختلاف الأحوال، وزاد الطبرانيّ:"ولا يُسلمه في مصيبة، نزلت به".
(وَلَا يَخْذُلُهُ) -بضم الذال المعجمة، من باب نصر، والاسم: الْخِذلان-، وهو ترك النصرة، والإعانة
(2)
، وقال في "المشارق":"لا يخذله، ولا يظلمه": أي: لا يترك نصره في الحقّ، ومعونته، كما قال:"انصُر أخاك"
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "لا يخذله": أي: لا يتركه لمن يظلمه، ولا ينصره، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا"
(4)
، فقال: كيف أنصره ظالما؟ قال: "تكفّه عن الظلم، فذلك نصره"
(5)
.
(وَلَا يَحْقِرُهُ) قال القاضي عياض رحمه الله: كذا رواه السمرقنديّ، والسجزيّ بالحاء المهملة، والقاف، من الحقر: أي: لا يستصغره، ويذلّه، ويتكبر عليه، ورواه العذريّ:"ولا يُخفِره" بالخاء المعجمة، والفاء، وضم الياء أوّله: أي: لا يغدره، ويخونه، يقال: خَفَرت الرجل: إذا أَجَرْته، وأمّنته، وأخفرته: إذا لم تَفِ له بذمّته، وغَدَرْته، وكذلك الخلاف في آخر الحديث:"بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه" على ما تقدم للرواة، والصواب أن يكون بالقاف، من الاحتقار هنا، وهو المرويّ في غير مسلم. انتهى
(6)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"لا يحقره": أي: لا ينظره بعين الاستصغار، والقلّة، وهذا إنما يصدر في الغالب عمن غلب عليه الكِبْر والجهل، وذلك أنه
(1)
"الفتح" 10/ 482.
(2)
"تحفة الأحوذي" 6/ 46، و"المصباح المنير" 1/ 165.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 231.
(4)
رواه البخاريّ.
(5)
"المفهم" 6/ 536.
(6)
"مشارق الأنوار" 1/ 211، و"إكمال المعلم" 8/ 31.
لا يصح له استصغار غيره حتى ينظر إلى نفسه بعين أنه أكبر منه، وأعظم، وذلك جَهْل بنفسه، وبحال المحتقَر، فقد يكون فيه ما يقتضي عكس ما وقع للمتكبر. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أمّا كون المسلم أخا المسلم فسَبَق شرحه قريبًا، وأمّا "لا يخذله"، فقال العلماء: الْخَذْلُ ترك الإعانة، والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دَفْع ظالم ونحوه لزمه إعانته؛ إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعيّ، "ولا يحقره" هو بالقاف، والحاء المهملة: أي: لا يحتقره، فلا يتكبر عليه، ولا يستصغره، ويستقلّه، قال القاضي: ورواه بعضهم: "لا يُخفره" بضم الياء، والخاء المعجمة، والفاء: أي: لا يغدر بعهده، ولا ينقض أمانه، قال: والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في غير كتاب مسلم بغير خلاف. انتهى
(2)
.
وقوله: (التَّقْوَى) قال في "العمدة": حقيقة التقوى أن يَقِي العبد نفسه تعاطي ما تستحق به العقوبة، من فعل، أو ترك، وتأتي في القرآن على معان: الإيمان، نحو قوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26]؛ أي: التوحيد، والتوبة، نحو قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96]: أي: تابوا، والطاعة، نحو:{أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2]، وتَرْك المعصية، نحو قوله تعالى:{وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 189]: أي: ولا تعصوه، والإخلاص، نحو قوله تعالى:{فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]: أي: من إخلاص القلوب.
[فإن قلت]: ما أصله؟.
[قلت]: أصله من الوقاية، وهو فَرْط الصيانة، ومنه "المتقي" اسم فاعل مِن وقاه الله، فاتقى، والتقوى، والتُّقَى واحد، والواو مُبْدَلة من الياء، والتاء مبدلة من الواو؛ إذ أصله وَقْيَا، قُلبت الياء واوًا، فصار وَقْوَى، ثم أبدلت من الواو تاء، فصار تقوى، وإنما أبدلت من الياء واوُ في نحو "تقوى"، ولم تبدل في نحو "رَيّا"؛ لأن "ريا" صفة، وإنما يُبدلون الياء في فَعْلَى إذا كان اسمًا،
(1)
"المفهم" 6/ 536.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 120 - 121.
والياء موضع اللام، كشَروَى، من شريت، وتقوى؛ لأنها من التقية، وإن كانت صفة تركوها على أصلها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذه القاعدة التي ذُكرت أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
مِنْ لَامِ فَعْلَى اسْمًا أَتَى الْوَاوُ بَدَلْ
…
يَاءٍ كَتَقْوَى غَالِبًا جَا ذَا الْبَدَلْ
بِالْعَكْسِ جَاءَ لَامُ فُعْلَى وَصْفَا
…
وَكَوْنُ قُصْوَى نَادِرًا لَا يَخْفَى
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم أن التقوى مصدر
(2)
اتَّقَى تُقَاةُ، وتَقْوى، وأن التاء فيه بدلٌ من الواو؛ لأنَّه من الوقاية، والمتّقي: هو الذي يجعل بينه وبين ما يخافه من المكروه وقاية تقيه منه، ولذلك يقال: اتّقى الطعنة بدَرَقَته، وبِتُرْسه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا النار ولو بشق تمرة"، "ولو بكلمة طيبة"، متّفق عليه؛ أي: اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار. وعلى هذا فالمتّقي شرعًا: هو الذي يخاف الله تعالى، ويجعل بينه وبين عذابه وقاية من طاعته، وحاجزًا عن مخالفته، فإذًا أصل التقوى: الخوف، والخوف إنما يَنشأ عن المعرفة بجلال الله تعالى، وعظمته، وعظيم سلطانه، وعقابه، والخوف والمعرفة محلهما القلب، والقلب محلّه الصدر، فلذلك أشار صلى الله عليه وسلم إلى صدره، وقال:"التقوى ها هنا"، والله تعالى أعلم.
والتقوى خصلة عظيمة، وحالة شريفة آخذة بمجامع علوم الشريعة، وأعمالها، موصلة إلى خير الدنيا والآخرة.
والكلام في التقوى، وتفاصيلها، وأحكامها، وبيان ما يترتب عليها يستدعي تطويلًا، قد ذكره أرباب القلوب في كتبهم المطوّلة
(3)
.
(هَا هُنَا")؛ أي: في هذا المكان؛ فـ"هاهنا" اسم إشارة للمكان القريب، ويشار للبعيد مع الكاف، كما قال في "الخلاصة":
وَبِهُنَا أَو هَا هُنَا أَشِرْ إلَى
…
دَانِي الْمَكَانِ وَبِهِ الْكَافَ صَلَا
فِي الْبُعْدِ أَو بِثَمَّ فُهْ أَو هَنَا
…
أَو بِهُنَالِكَ انْطِقَنْ أَو هِنَّا
(1)
"عمدة القاري" 1/ 116.
(2)
أي: اسم مصدر، كما لا يخفى.
(3)
"المفهم" 6/ 536 - 537.
والمعنى: أن مجرّد الأعمال الظاهرة لا يحصل بها التقوى، وإنما يحصل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى، ومحبّته، وخشيته، ومراقبته سبحانه وتعالى.
(وَيُشِيرُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم عند قوله: "ها هنا"(إِلَى صَدْرِهِ) الشريف صلى الله عليه وسلم، (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وفي بعض النسخ:"ثلاث مرار"، وكلاهما جمعان لمرّة، يقال: فعلت ذلك مرّةً: أي: تارةً
(1)
.
وقوله: ("بِحَسْبِ امْرِئٍ) الباء زائدة، و"حسب" خبر مقدّم لقوله:"أن يحقر"، أو بالعكس، والأول أَولى؛ لأن ما سُبك من "أن" والفعل بمنزلة الضمير.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: (مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ) الباء في "بحسب" زائدة، وهو بإسكان السين، لا بفتحها، وهو خبر ابتداء مقدّمٌ، والمبتدأ:"أن يحقر"، تقديره: حسبُ امرئ من الشرّ احتقاره أخاه؛ أي: كافيه من الشرّ ذلك، فإنَّه النصيب الأكبر، والحظّ الأوفى، ويفيد أن احتقار المسلم حرام. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "بحسب امرئ من الشر": أي: يكفيه منه في أخلاقه، ومعاشه، ومعاده، "أن يحقر أخاه المسلم": أي: يُذِلّه، ويُهينه، وَيَزدريه، ولا يعبأ به؛ لأن الله تعالى أحسن تقويمه، وسَخَّر ما في السماوات والأرض لأجله، ومشاركةُ غيره له إنما هي بطريق التَّبَع، وسمّاه مسلمًا، ومؤمنًا، وعبدًا، وجَعَل الأنبياء الذين هم أعظم الخلق من جنسه، فاحتقاره احتقار لِمَا عَظَّمه الله تعالى، وشرّفه، ومنه أن لا يبدأه بالسلام، ولا يَرُدّه عليه؛ احتقارًا. انتهى
(3)
.
(كُلُّ الْمُسْلِمِ) مبتدأ خبره "حرامٌ"، وقوله:(عَلَى الْمُسْلِمِ) متعلّق بـ (حَرَامٌ)، وقوله:(دَمُهُ) وما عُطف عليه بدل، أو عطف بيان لـ "كلُّ"، (وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ") بكسر العين المهملة، وسكون الراء: النفس، والحسب، يقال: نقيّ العِرْض: أي: بريء من العيب
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 568.
(2)
"المفهم" 6/ 537.
(3)
"فيض القدير" 5/ 11.
(4)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 404.
وقال ابن الأثير رحمه الله: العِرْضُ: موضع المدح والذمّ من الإنسان، سواءٌ كان في نفسه، أو في سلفه، أو من يلزمه أمره، وقيل: هو جانبه الذي يصونه من نفسه، وحَسَبه، ويحامي عنه أن يُنتقَص، ويُثْلَب، وقال ابن قتيبة: عِرْضُ الرجل نفسه، وبدنه، لا غير. انتهى
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله بعد ذِكر ما ذكره ابن الأثير ما نصّه: وقال أبو العباس: إذا ذُكر عِرض فلان، فمعناه أموره التي يَرتفع، أو يَسقط بذكرها من جهتها، بحمد، أو بذمّ، فيجوز أن تكون أمورًا يوصف هو بها دون أسلافه، ويجوز أن تُذكر أسلافه؛ لتلحقه النقيصة بعيبهم، لا خلاف بين أهل اللغة فيه، إلا ما ذكره ابن قتيبة من إنكاره أن يكون العِرض الأسلاف، والآباء، واحتجّ أيضًا بقول أبي الدرداء: أَقْرِض من عِرْضك ليوم فقرك، قال: معناه: أقْرِضْ من نفسك؛ أي: مَنْ عابك، وذمّك فلا تجازِه، واجعله قرضًا في ذمته؛ لتستوفيه منه يوم حاجتك في القيامة، وقول الشاعر:
وَأُدْرِكُ مَيْسُورَ الْغِنَى وَمَعِي عِرْضِي
أي: أفعالي الجميلة، وقال النابغة:
يُنْبِئْكِ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُمْ
…
وَلَيْسَ جَاهِلُ أَمْرٍ مِثْلُ مَنْ عَلِمَا
ذو عرضهم: أشرافهم، وقيل ذو عرضهم: حَسَبهم، والدليل على أن العرض ليس بالنفس، ولا البدن، قوله:"دمه، وعرضه"، فلو كان العرض هو النفس لكان "دمه" كافيًا عن قوله:"عرضه"؛ لأن الدم يراد به ذهاب النفس، ويدل على هذا قول عمر للحطيئة: فاندفعت تُغَنِّي بأعراض المسلمين، معناه: بأفعالهم، وأفعال أسلافهم. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "كل المسلم " مبتدأ، وفيه ردّ لزعم من زعم أن "كلّا" لا تضاف إلا إلى نكرة، وقوله:"على المسلم حرامٌ" خبره، وقوله:"ماله": أي: أخذ ماله، بنحو غَصْب، وقوله:"وعرضه": أي: هَتْك عرضه بلا استحقاق، وقوله:"ودمه": أي: إراقة دمه بلا حقّ، وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورة، معروفة من الدِّين بالضرورة، وجَعَلَها كلَّ المسلم، وحقيقَتَهُ؛ لشدّة
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 209.
(2)
"لسان العرب" 7/ 171 - 172.
اضطراره إليها، فالدم فيه حياته، ومادته المال، فهو ماء الحياة الدنيا، والعِرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر عليها؛ لأن ما سواها فَرْع عنها، وراجع إليها؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية، فلا حاجة لغيرهما، وقيامها إنما هو بتلك الثلاثة، ولكون حرمتها هي الأصل والغالب، لم يَحتج لتقييدها بغير حقّ، فقوله في رواية:"إلا بحقها"؛ إيضاحٌ وبيانٌ، وهذا حديثٌ عظيم الفوائد، كثير العوائد، مشير إلى المبادئ، والمقاصد. انتهى
(1)
كلام المناويّ رحمه الله، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6520 و 6521 و 6522](2564)، و (أبو داود) في "سننه"(4/ 270)، و (ابن ماجه) في "سننه"(2/ 1298)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 277 و 360)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 420)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 309)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 136 و 137)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 92 و 8/ 249) و"شُعب الإيمان"(5/ 281 و 7/ 508)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3549)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، والبيع على بيع الآخر؛ لأن هذه الأشياء تورث التقاطع، والتنافر، وتقطع الصلة بين الإخوة.
2 -
(ومنها): بيان وجوب أن يكون عباد الله تعالى متآخين، متحابيّن في جلال الله سبحانه وتعالى.
3 -
(ومنها): بيان أن المسلم أخ لأخيه المسلم، فلا ينبغي له أن يظلمه، ولا يخذله بترك نَصْره على من ظلمه، ولا يحتقره.
(1)
"فيض القدير" 5/ 11.
4 -
(ومنها): بيان أن التقوى محلّه القلب، فينبغي العناية والاهتمام بإصلاح القلب.
5 -
(ومنها): بيان أنه لو لم يكن للمسلم شرّ سوى احتقاره لأخيه المسلم لكفاه ذلك شرًّا.
6 -
(ومنها): بيان تحريم كل المسلم على المسلم، دمًا، ومالًا، وعرضًا، فلا يجوز التعرّض له في شيء منها بسوء.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يستفاد من هذا الحديث صرف الهمّة إلى الاعتناء بأحوال القلب، وصفاته، بتحقيق علومه، وتصحيح مقاصده، وعزومه، وتطهيره عن مذموم الصفات، واتصافه بمحمودها، فإنَّه لمّا كان القلب هو محل نَظَر الله تعالى، فحقّ العالِم بقَدْر اطّلاع الله تعالى على قلبه أن يُفَتِّش عن صفات قلبه، وأحوالها؛ لإمكان أن يكون في قلبه وصف مذموم يمقته الله تعالى بسببه.
8 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: إن الاعتناء بإصلاح القلب، وبصفاته مقدّم على الأعمال بالجوارح؛ لتخصيص القلب بالذكر مقدّمًا على الأعمال، وإنَّما كان كذلك؛ لأن أعمال القلوب هي المصحّحة للأعمال؛ إذ لا يصحّ عمل شرعيّ إلا من مؤمن، عالم بمن كلّفه، مُخلِصٍ له فيما يعمله، ثم لا يَكمُل ذلك إلا بمراقبة الحقّ فيه، وهو الذي عَبّر عنه صلى الله عليه وسلم بالإحسان، حيث قال:"أن تعبد الله كأنك تراه"، متفق عليه، وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"، متّفقٌ عليه.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: إنه لمّا كانت القلوب هي المصحّحة للأعمال الظاهرة، وأعمال القلب غيبٌ عنّا، فلا يُقطع بمغيَّب أحد لِمَا يُرَى عليه من صور أعمال الطاعة، أو المخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله تعالى من قلبه وصفًا مذمومًا، لا تصحّ معه تلك الأعمال، ولعل من رأينا عليه تفريطًا، أو معصيةً يعلم الله من قلبه وصفًا محمودًا يغفر له بسببه، فالأعمال أمارات ظنية، لا أدلة قطعية، ويترتّب عليها عدم الغلوّ في تعظيم من رأينا عليه أفعالًا صالحةً، وعدم الاحتقار لمسلم، رأينا عليه أفعالًا
سيّئةً، بل تُحْتَقَر وتُذمّ تلك الحالة السيّئة، لا تلك الذات المسيئة، فتدبّر هذا، فإنَّه نظرٌ دقيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قد كتب الحافظ ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث تحقيقات مفيدة، أحببت إيرادها في مسائل تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد، فقالت:
(المسألة الرابعة): قال رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يَكْذِبه، ولا يحقره" هذا مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، فإذا كان المؤمنون إخوةً أُمروا فيما بينهم بما يوجب تآلف القلوب، واجتماعها، ونُهُوا عما يوجب تنافر القلوب، واختلافها، وهذا من ذلك، وأيضًا فإن الأخ من شأنه أن يوصل لأخيه النفعَ، ويكفّ عنه الضرر، وهذا من أعظم الضرر الذي يجب كفّه عن الأخ المسلم، وهذا لا يختص بالمسلم، بل هو محرّم في حق كل أحد.
وسيأتي الكلام على الظلم مستوفًى عند ذكر حديث أبي ذر رضي الله عنه الإلهيّ: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تَظالموا
…
".
ومن ذلك خِذلان المسلم لأخيه، فإن المؤمن مأمور أن ينصر أخاه، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا"، قال: يا رسول الله أنصره مظلومًا، فكيف أنصره ظالِمًا؟ قال:"تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إياه"، خرّجه البخاريّ بمعناه، من حديث أنس، وخرّجه مسلم بمعناه من حديث جابر، وخرّجه أبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاريّ، وجابر بن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من امرئ مسلم يَخذُل امرءًا مسلمًا في موضع تُنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عِرضه، إلا خذله الله في موضع يحب فيه نُصرته، وما من امرئ ينصر مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عرضه، وتُنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نُصرته"
(1)
.
(1)
في إسناده إسماعيل بن بشير: مجهول، كما في "التقريب"، وحسَّنه بعضهم لشواهده، راجع: ما كُتب في هامش "جامع العلوم" 2/ 274.
وخرّج الإمام أحمد من حديث أبي أمامة بن سهل، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أُذلّ عنده مؤمن، فلم ينصره، وهو يقدر على أن ينصره، أذلّه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة"
(1)
.
وخرّج البزار من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من نصر أخاه بالغيب، وهو يستطيع، نصره الله في الدنيا والآخرة"
(2)
.
ومن ذلك كَذِب المسلم لأخيه، فلا يحلّ له أن يحدّثه، ويَكْذِبه، بل لا يحدّثه إلا صدقًا.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كَبُرت خيانةً أن تحدّث أخاك حديثًا، هو لك مصدِّق، وأنت به كاذب"
(3)
.
ومن ذلك احتقار المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئ عن الكِبْر، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"الكِبْر بَطَر الحقّ، وغَمْط الناس"، خرّجه مسلم، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وخرّجه الإمام أحمد، وفي رواية له:"الكِبْر سَفَهُ الحقّ، وازدراء الناس"، وفي رواية زيادة:"فلا يراهم شيئًا".
وغَمْط الناس: الطعن عليهم، وازدراؤهم، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات: 11]، فالمتكبِّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص، فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأن يقوم بحقوقهم، ولا أن يقبل من أحدهم الحقّ إذا أورده عليه. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه الله
(4)
، وهو بحثٌ مفيد جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): قال ابن رجب رحمه الله أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم: "التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات" فيه إشارة إلى أن كَرَم الخَلْق عند الله بالتقوى، فرُبّ من يحقره الناس؛ لِضَعفه، وقلة حظه من الدنيا هو أعظم قدرًا
(1)
في سنده ابن لهيعة.
(2)
صحيح.
(3)
في سنده عمر بن هارون، وهو متروك.
(4)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 273 - 275.
عند الله تعالى ممن له قدر في الدنيا، فإنما الناس يتفاوتون بحسب التقوى، كما قال الله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وسئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ قال: "أتقاهم لله تعالى"
(1)
، وفي حديث آخر:"الكرم التقوى"
(2)
.
والتقوى أصلها في القلب، كما قال الله تعالى:{وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وإذا كان أصل التقوى في القلوب، فلا يَطَّلع أحد على حقيقتها إلا الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم، وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم"
(3)
.
وحينئذ فقد يكون كثير ممن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدنيا قلبه خرابًا من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبه مملوءًا من التقوى، فيكون أكرم عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعًا، كما في "الصحيحين" عن حارثة بن وهب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بأهل الجنة، كل ضعيف، مستضعف، لو أقسم على الله لأبرّه، ألا أخبركم بأهل النار، كل عُتُلّ جَوَّاظ
(4)
، مستكبر"
(5)
.
وفي "المسند" عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أما أهل الجنة، فكل ضعيف، مستضعف، أشعث، ذو طِمْرين، لوأقسم على الله لأبره، وأما أهل النار، فكل جَعْظَريّ، جَوّاظ، جَمّاع، منّاع، ذي تَبَع"
(6)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تحاججت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين، والمتجبرين، وقالت الجنة: لا
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
رواه الترمذيّ، وحسّنه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وصححه الألباني.
(3)
رواه مسلم.
(4)
"المستضعَف" بفتح العين، وكسرها، والفتح أشهر؛ أي: يستضعفه الناس لضعف حاله في الدنيا، و"العتُلّ": الجافي الشديد الخصومة في الباطل، و"الجوّاظ": هو الجَمُوع المَنُوع.
(5)
متّفقٌ عليه.
(6)
في سنده ابن لهيعة، لكن يتقوّى بحديث حارثة المتقدّم.
يدخلني إلا ضعفاء الناس، وسَقَطهم، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي، أرحم بكِ من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي".
وخرّجه الإمام أحمد من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "افتخرت الجنة والنار، فقالت النار: يا رب يدخلني الجبابرة، والمتكبرون، والملوك، والأشراف، وقالت الجنة: يا رب يدخلني الضعفاء، والفقراء، والمساكين
…
"، وذكر الحديث.
وفي "صحيح البخاريّ" عن سهل بن سعد، قال: مَرّ رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالسٍ:"ما رأيك في هذا؟ "، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حَرِيّ إن خطب أن يُنكَح، وإن شَفَع أن يُشَفَّع، وإن قال أن يُسمَع لقوله، قال: فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ رجل آخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا؟ " قال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حَرِيّ إن خطب أن لا يُنكَح، وإن شَفَع أن لا يُشَفَّع، وإن قال أن لا يُسْمَع لقوله، فقال رسول صلى الله عليه وسلم:"هذا خير من مَلْء الأرض مثلُ هذا".
وقال محمد بن كعب القرظيّ في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)} [الواقعة: 1 - 3] قال: تخفض رجالًا كانوا في الدنيا مرتفعين، وترفع رجالًا كانوا في الدنيا مخفوضين. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قال ابن رجب رحمه الله أيضًا: قوله صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم"؛ يعني: يكفيه من الشرّ احتقارُه أخاه المسلم، فإنه إنما يحقر أخاه المسلم لتكبّره عليه، والكِبْر من أعظم خصال الشرّ، وفي "صحيح مسلم" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرّة من كِبْر"، وفيه أيضًا عنه صلى الله عليه وسلم: "قال تعالى: العز إزاري، والكبرياء ردائي
(2)
، فمن نازعني عذبته".
(1)
"جامع العلوم والحكم 2/ 275 - 278.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: كون العزّ رداءه والكبرياء إزاره مما يجب الإيمان به، =
فمنازعة الله تعالى في صفاته التي لا تليق بالمخلوق، كفى بها شرًّا.
وفي "صحيح ابن حبان" عن فَضَالة بن عُبيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يُسألُ عنهم: رجل ينازع الله إزاره، ورجل ينازع الله رداءه، فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العزّ، ورجل في شكّ من أمر الله تعالى، والقنوط من رحمة الله".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: هلك الناسُ، فهو أهلكهم"، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال:"اللَّهُمَّ هل بلغت؟ اللَّهُمَّ هل بلغت؟ "، قال مالك: إذا قال ذلك تحزّنًا لِمَا يرى في الناس؛ يعني: في دِينهم، فلا أرى به بأسًا، وإذا قال ذلك تعجبًا بنفسه، وتصاغرًا، فهو المكروه الذي نُهِي عنه، ذكره أبو داود في "سننه". انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.
(المسألة السابعة): قال رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه"، وهذا مما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب به في المَجامع العظيمة، فإنه خطب به في حجة الوداع يوم النحر، ويوم عرفة، ويوم الثاني من أيام التشريق، وقال:"إن أموالكم، ودماءكم، وأعراضكم عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"
(2)
، وفي رواية للبخاريّ وغيره:"وأبشاركم"، وفي رواية: فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه، فقال:"اللَّهُمَّ هل بلّغت؟ اللَّهُمَّ هل بلغت؟ "، وفي رواية: ثم قال: "ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب"، وفي رواية للبخاريّ:"فإن الله حرّم عليكم أموالكم، وأعراضكم، ودماءكم إلا بحقها"، وفي رواية: "دماؤكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم
= فنثبته كما أثبته النصّ الصحيح، على مراد الله تعالى، فلا نؤوّل، ولا نعطّل، ولا نشبّه، كما هو مذهب السلف الصالح، فلا تلتفت إلى ما كتبه المحقق على هامش "جامع العلوم" من دعوى المجاز، فإنه غير صحيح، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 275 - 279.
(2)
متّفقٌ عليه.
حرام، مثل هذا اليوم، وهذا البلد، إلى يوم القيامة، حتى دفعةٌ يدفعها مسلم مسلمًا يريد بها سوءًا حرام".
وفي رواية: "المؤمن حرام على المؤمن؛ كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله، أو يغتابه بالغيب، وعرضه عليه حرام، أن يخرقه، ووجهه عليه حرام، أن يلطِمه، ودمه عليه حرام، أن يسفكه، وحرام عليه أن يدفعه دفعة بغتة"
(1)
.
وفي "سنن أبي داود" عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسيرون مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه، فأخذها، ففَزِع، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لمسلم أن يُرَوِّع مسلمًا".
وخرّج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن السائب بن يزيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يأخذ أحدكم عصا أخيه، لاعبًا جادًّا، فمن أخذ عصا أخيه، فليردّها إليه"، قال أبو عبيد: يعني: أن يأخذ شيئًا، لا يريد سَرِقَته، إنما يريد إدخال الغيظ عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادّ في إدخال الرَّوع والأذى عليه.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يُحْزنه"، ولفظه لمسلم.
وخرّج الطبراني من حديث ابن عباس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يؤذي المؤمن، والله يكره أذى المؤمن"
(2)
.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ثوبان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تؤذوا عباد الله، ولا تُعَيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورة أخيه المسلم، طلب الله عورته، حتى يفضحه في بيته"
(3)
.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الغيبة،
(1)
رواه الطبرانيّ في "الكبير" 19/ 400، وفي إسناده كرامة بنت الحسين، قال الهيثميّ: لم أجد مَنْ ذَكَرها.
(2)
في سنده الحسن بن كثير، لم يوثّقه غير ابن حبّان، وأعلّه البخاري في "تاريخه" بالإرسال.
(3)
صحيح.
فقال: "ذِكْرك أخاك بما يكره"، قال: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ فقال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بَهَتَّه".
فتضمَّنت هذه النصوص كلها أن المسلم لا يحلّ إيصال الأذى إليه بوجه من الوجوه، من قول، أو فعل، بغير حقّ، وقد قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب: 58].
وإنما جعل الله المؤمنين إخوة؛ ليتعاطفوا، ويتراحموا، وفي "الصحيحين" عن النعمان بن بشير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَثَل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"، وفي رواية لمسلم:"المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه، تداعَى له سائر الجسد بالحمى"، وفي رواية له أيضًا:"المسلمون كرجل واحد، إن اشتكى عينه اشتكى كله، وإن اشتكى رأسه، اشتكى كله"، وفيهما عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضًا".
وخرّج أبو داود من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمن مرآة المؤمن، المؤمن أخو المؤمن، يكفّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه"، وخرّجه الترمذيّ، ولفظه:"إن أحدكم مرآة أخيه، فمن رأى به أذى فَلْيُمِطْه عنه".
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطهم أخًا، فأيّ أولئك تحب أن تسيء إليه؟.
ومن كلام يحيى بن معاذ الرازيّ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرّه، وإن لم تفرحه فلا تغمّه، وإن لم تمدحه فلا تذمّه. انتهى كلام ابن رجب رحمه الله
(1)
وهو بحث نفيس، مفيد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6521]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أُسَامَةَ -وَهُوَ ابْنُ زيدٍ- أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 283.
دَاوُدَ، وَزَادَ، وَنَقَصَ، وَمِمَّا زَادَ فِيهِ:"إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ"، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ) الليثيّ مولاهم، أبو زيد المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [7](ت 153) وهو ابن بضع وسبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 42/ 1085.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل خمسة أبواب.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ دَاوُدَ
…
إلخ) فاعل "ذَكَر" ضمير أسامة بن فلد، وكذا فاعل "زاد"، و"نقص".
وقوله: ("إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ
…
إلخ") قال القرطبيّ رحمه الله: نَظَرُ الله تعالى الذي هو رؤيته للموجودات، واطّلاعه عليها، لا يخصّ نَظَرَ موجودٍ دون موجود، بل يعمّ جميع الأشياء؛ إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم قد جاء في الشرع نَظَر الله تعالى بمعنى: رَحْمَته للمنظور إليه، وبمعنى: قبول أعماله، ومجازاته عليها، وهذا هو النظر الذي يُخَصّ به بعض الأنبياء، ويُنفَى عن بعضها، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77]، وقد تقدَّم ذلك في "كتاب الإيمان"، فقوله هنا: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم"؛ أي: لا يُثيبكم عليها، ولا يقرّبكم منه، ذلك كما قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: 37]، ثم قال:{إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37]. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي طوّل به القرطبيّ نَفَسَه، ليس بصواب، والصواب ما عليه السلف من أن النظر على ظاهره، فنُثبت لله تعالى صفة النظر، كما نُثبت غيره من الصفات؛ كالرضى، والغضب، والرحمة، والانتقام، والاستواء، والنزول، وغير ذلك بلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل، وقد سبق تحقيق هذا الموضوع في مواضع كثيرة، فكن على بصيرة، والله تعالى وليّ التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6522]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل بابين.
2 -
(كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ) الكلابيّ، أبو سهل الرَّقِّيّ، نزيل بغداد، ثقة [9](ت 7 أو 208)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) -بضم الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف- الكلابيّ، أبو عبد الله الرَّقّيّ، صدوق يَهِم في حديث الزهريّ [7] (ت 150) وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكائيّ -بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف- أبو عوف، كوفيّ، نزل الرَّقَّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، يقال: له رؤية، ولا يثبت، وهو ثقة [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ) قد أسلفت آنفًا أن النظر هنا على ظاهره، ففيه إثبات النظر لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، فلا نؤوّل كما مشى عليه شراح هذا الحديث، فتنبّه. (إِلَى صُوَرِكُمْ)؛ أي: لا يجازيكم على ظاهرها، (وَأَمْوَالِكُمْ) الخالية من الخيرات؛ أي: لا يثيبكم عليها، ولا يقرّبكم منه، (وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) التي هي محل التقوى، وموضع الإنابة، ومنبع الحكمة، والمعرفة، (وَأَعْمَالِكُمْ") التي تتقرّبون بها إليه سبحانه وتعالى، فينبغي الحرص على إخلاصها، وموافقتها للكتاب والسُّنَّة، فإن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصًا لوجه الله عز وجل، وموافقًا لِمَا جاء به النبيّ صلى الله عليه وسلم، من الكتاب والسُّنَّة، قال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
قال بعضهم
(1)
: معنى هذا الحديث: أن الله تعالى لا ينظر إلى قوّة أجسادكم، وصوركم الحسنة، وإنما ينظر إلى أعمالكم الظاهرة والباطنة جميعًا، فأشار بقوله:"إلى قلوبكم" إلى الأعمال الباطنة، كما أشار بقوله:"وأعمالكم" إلى الأعمال الظاهرة.
والحاصل أن من حَسُن عمله رضي الله تعالى عنه، سواء كان نحيف الجسم، دميم الصورة، ومن ساء عمله سَخِط الله تعالى منه، سواء كان قويّ الجسم، حَسَن الصورة.
فلا مجال في هذا الحديث لمن ادّعى أن المطلوب من الإنسان تزكيته للقلب فقط، ولا عبرة بأفعاله الظاهرة، فيفعل في ظاهره ما يشاء، كما تفوّه بذلك بعض الملاحدة، وجهلة المتصوّفة؛ لأن نصوص الكتاب والسُّنَّة مُطبِقة على كون الإنسان مكلّفًا بتصحيح أعماله الظاهرة، والواقع أن الأعمال الظاهرة لا تفسد إلا بفساد القلب، فهي علامة على فساد باطنه، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى أتمّ بيان حيث قال:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"، ففساد الأعمال الظاهرة دليل على فساد القلب؛ لأنهما متلازمان، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
فلو لم يكن للأعمال الظاهرة قيمة واعتبار في الشرع لَمَا ذَكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وأعمالكم" عَقِب قوله: "إلى قلوبكم"، ولكنه صلى الله عليه وسلم قَرَن بينهما، فدلّ على المطلوب من المكلّف إصلاح الباطن والظاهر جميعًا.
وكذلك لا يخفى بطلان قول من يستدلّ بهذا الحديث على أن الأجساد والصور لا يتعلّق بها حكم شرعيّ، فيجوز للمرء أن يختار لتزيين جسده، وتحسين صورته ما شاء من طريق؛ كحلق اللحية، وإسبال الشارب، ونحو ذلك، مع أنه صلى الله عليه وسلم أمَر بإعفاء اللحية، وإحفاء الشارب، وتقليم الأظفار، ونهى عن إسبال الثوب، ولَعَن الواشمات، والمستوشمات، والنامصات،
والمتنمّصات، والمتفلجات، فكل هذا ونحوه من الأعمال التي هي محل نَظَر الله تعالى؛ كنَظَره للقلب بلا فرق.
(1)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 364 - 365.
وإنما المراد من نفي النظر إلى الأجساد والصُّوَر، أن حُسْن الصورة وقُبْحها، لا مدخل له في رضا الله تعالى، وسَخَطه، وإنما العبرة بالقلب، والأعمال.
وبالجملة فالحديث واضح المعنى، وإنما الشيطان سوَّل لبعض الناس أن يفهموه على غير وجهه، فزيّن لهم الاستدلال به على انحرافهم عن سلوك سبل الهدى والرشاد، إلى طريق الضلال والغواية، والفساد، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
[تنبيه]: قال بعض العلماء: قد أبان هذا الحديث أن محل القلب موضع نَظَر الرب، فيا عجبًا ممن يَهْتَمّ بوجهه الذي هو نَظَر الخلق، فيغسله، وينظفه من القَذَر والدَّنَس، ويزيّنه بما أمكن؛ لئلا يَطَّلع فيه مخلوق على عيب، ولا يهتمّ بقلبه الذي هو محل نَظَر الخالق، فيطهّره، ويزيّنه؛ لئلا يَطَّلع ربه على دَنَس، أو غيره فيه. انتهى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف: رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6522](2564)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4143)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 284 - 285 و 539) وفي "الزهد"(ص 59)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 369)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 124)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(394)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 460)، و (تمّام) في "فوائده"(1/ 39)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(7/ 328)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4150)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان عظمة القلب؛ لأنه محل نظر الله سبحانه وتعالى، فينبغي العناية بتطهيره، وتنظيفه من الصفات الدنيّة، والأخلاق الرديّة.
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 277 - 278.
2 -
(ومنها): بيان أن الأعمال هي أيضًا محل نَظَر الله تعالى، فعلى العبد أن يجاهد حتى تكون أعماله مرضيّة عند الله تعالى، وذلك بأمرين: الأول أن تكون خالصة لوجهه الكريم، والثاني أن تكون موافقة لِمَا في الكتاب والسُّنَّة، فإذا اختلّ أحد هذين الشرطين فإنها لا تكون محل رضا الله عز وجل، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
3 -
(ومنها): أن فيه إثبات صفة النظر لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله وعَظَمته، وقد أسلفت الردّ قريبًا على من تأوله، فلا تغفل.
4 -
(ومنها): أن فيه بيان أن جمال الصورة، وكثرة الأموال لا عبرة به عند الله تعالى، قال تعالى:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)} [سبأ: 37]، وإنما العبرة بطهارة القلب عن رذائل الأخلاق، وخلوص الأعمال من شائبة الشرك، والله تعالى أعلم.
(11) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الشَّحْنَاء، وَالتَّهَاجُرِ)
" الشحناء" بالفتح، والمد: البغضاء، والعداوة، و"التهاجر": التقاطع، والتدابر.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6523]
(2565) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْه، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْن، وَيَوْمَ الْخَمِيس، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ، لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلهم تقدّموا قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، وقوله:(فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ) ببناء الفعل للمفعول، متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا في جملة الأحاديث التي قُرئت على مالك رحمه الله.
[فائدة]: إنما يُعبّر يحيى بن يحيى فيما يرويه عن مالك بهذه الصيغة كثيرًا؛ لأن مالكًا رحمه الله كان يفضّل القراءة على السماع، أو يسوّي بينهما، فكان غالب من يأخذ عنه يأخذه قراءة، بل بالغ بعض أصحابه، فقال: صَحِبْته سبع عشرة سنة، فما رأيته قرأ "الموطّأ" على أحد، بل يقرؤون عليه، ذَكَره السخاويّ، والله تعالى أعلم.
(عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي صالح ذكوان السمّان الزيّات (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ)؛ أي: فتحًا حقيقيًّا؛ لأن الجنة مخلوقة، مُغلقة، وفَتْح أبوابها ممكن، ويكون دليلًا على المغفرة، ويَحْتَمِل أنه كناية عن مغفرة الذنوب العظيمة، وكَتْب الدرجات الرفيعة، قاله الباجيّ، وقال القرطبيّ: الفتح حقيقةٌ، ولا ضرورة تدعو إلى التأويل، ويكون فَتْحها تأهبًا من الخَزَنة لمن يموت يومئذ، ممن غُفر له، أو يكون علامة للملائكة على أن الله تعالى يغفر في ذينك اليومين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القرطبيّ رحمه الله، من حَمْل الفتح على الحقيقة هو الحقّ الذي لا محيد عنه؛ لأن النصوص إذا وردت تُحمل على ظاهر ما تدلّ عليه، إلا أن يأتي ما يصرف عن الظاهر في نصّ آخر، فيُتّبع، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(يَوْمَ الاثْنَيْن، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ) فيه بيان فضلهما على غيرهما من الأيام، وكان صلى الله عليه وسلم يصومهما، ويَندُب أُمّته إلى صيامهما، وكان يتحرّاهما بالصيام، وأظن هذا الخبر إنما توجه إلى طائفة كانت تصومهما تأكيدًا على لزوم ذلك، كذا قال أبو عمر.
وقد رَوى أبو داود، وغيره، عن أسامة بن زيد قال: "كان يصوم يوم
(1)
"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 334.
الاثنين، والخميس، فسئل عن ذلك، فقال: إن أعمال العباد تُعرض يوم الاثنين، ويوم الخميس"
(1)
.
(فَيُغْفَرُ) بالبناء للمفعول، (لِكُلِّ عَبْدٍ) مسلم، وقوله:(لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) جملة في محل جرّ صفة لـ "عبد"؛ أي: تُغفر ذنوبه الصغائر، بغير وسيلة طاعة، وإنما قيّدناه بالصغائر؛ لحديث:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّرات ما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر".
(إِلَّا رَجُلًا) بالنصب؛ لأنه استثناء من كلام موجَبٍ، قال التوربشتيّ: وهي الرواية الصحيحة، ورُوي بالرفع، قال الطيبيّ: وعلى الرفع الكلام محمول على المعنى؛ أي: لا يبقى ذنب أحد، إلا ذنب رجل، ونحوه قول الفرزدق [من الطويل]:
وَعَضُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ
…
مِنَ الْمَالِ إِلَّا مُسْحَتٌ أَو مُجَلَّفُ
(2)
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مُسحتٌ، أو مجلف، وقولُهُ تعالى:{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة: 249] على قراءة الرفع؛ أي: فلم يطيعوه إلا قليلٌ. انتهى
(3)
.
ثم إن قوله: "رجلًا" هو وصف طرديّ، والمراد إنسان؛ أي: فيشمل النساء
(4)
.
(كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ) بفتح الشين المعجمة، والمدّ؛ أي: عداوة، (فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا) بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الظاء المعجمة،
(1)
"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 334.
(2)
قال في "اللسان": وقال اللحيانيّ: سَحَتَ رأْسَه سَحْتًا، وأَسْحَتَه: اسْتَأْصَلَه حَلْقًا، وأَسْحَتَ مالَه: اسْتَأْصَلَه، وأَفْسَدَه، ثم ذكر البيت، ثم قال: والعرب تقول: سَحَتَ، وأَسْحَتَ، ويُرْوَى:"إِلا مُسْحَتٌ، أَو مُجَلَّف"، ومَن رواه كذلك جعل معنى "لم يَدَعْ" لم يَتَقارَّ، ومن رواه:"إِلا مُسْحَتًا" جعل "لم يَدَعْ" بمعنى: لم يَتْرُكْ، ورفع قوله:"أَو مُجَلَّفٌ"، بإِضمارٍ، كأَنه قال: أَو هو مُجَلَّف، قال الأَزهريّ، وهذا هو قول الكسائيّ. انتهى. "لسان العرب" 2/ 41.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن"3210.
(4)
"شرح الزرقاني على الموطّأ" 4/ 335.
قال البيضاويّ: يعني: يقول الله تعالى للملائكة النازلة بهدايا المغفرة: أَخِّروا، وأمهلوا (هَذَيْنِ) أتى باسم الإشارة بدل الضمير؛ لمزيد التنفير، والتعيير؛ يعني: لا تُعطوا منها أنصباءَ رجلين بينهما عداوة، (حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا") بالتكرار ثلاث مرّات؛ للتأكيد؛ أي: أخِّروهما حتى ترتفع الشحناء، ويصطلحا، ولو بمراسلة عند البُعد.
وقال الطيبيّ: لا بدّ هنا من تقدير من يخاطب بقوله: "أنظروا" كأنه تعالى لمّا غَفَر للناس سواهما، قيل:"أنظروا هذين حتى يصطلحا"، وكرره للتأكيد، وقال القرطبيّ: المقصود من الحديث التحذير من الإصرار على العداوة، وإدامة الهجر، قال ابن رسلان: ويظهر أنه لو صالح أحدهما الآخرَ، فلم يَقْبَل غُفر للمصالِح، قال أبو داود: إذا كان الهجر لله، فليس من هذا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم هجر نسائه شهرًا، وابن عمر رضي الله عنهما هجر ابنًا له حتى مات.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6523 و 6524 و 6525 و 6526](2565)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(411)، و (أبو داود) في "سننه"(4916)، و (الترمذيّ) في "جامعه"(747 و 2023) وفي "الشمائل"(305)، و (ابن ماجه) في "سننه"(1740)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 908)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 268 و 329 و 389 و 400 و 465)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2403)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4/ 314 و 11/ 168)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 430)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 38)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 433)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3644 و 5662 و 5663 و 5666 و 5667 و 5668)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 346) و"شُعَب الإيمان"(3/ 392 و 393 و 5/ 271 و 272)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(22/ 363)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الجنة مخلوقة، وأن لها أبوابًا، وقد جاء في الآثار الصحاح أن لها ثمانية أبواب.
2 -
(ومنها): بيان أن المغفرة لا تكون إلا للعبد المسلم، الذي لا يُشرك بالله شيئًا، قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} [النساء: 48].
3 -
(ومنها): أن المهاجرة، والعداوة، والشحناء، والبغضاء، من الذنوب العظام، والسيئات الجسام، وإن لم تكن في الكبائر مذكورة، ألا ترى أنه استَثنَى في هذا الحديث غفرانها، وخصّها بذلك.
4 -
(ومنها): أن الذنوب إذا كانت بين العباد، فوقعت بينهم فيها المغفرة، والتجاوز، والعفو، سَقَطت المطالبة بها من قِبَل الله عز وجل، ألا ترى إلى قوله:"حتى يصطلحا"، فإذا اصطلحا غُفر لهما ذلك، وغيره من صغائر ذنوبهما، بأعمال البرّ، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والصدقة.
5 -
(ومنها): بيان فضل يوم الاثنين، والخميس على غيرهما من الأيام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومهما، وَيندُب أمته إلى صيامهما، وكان يتحراهما بالصيام، قال ابن عبد البرّ: وأظن هذا الخبر إنما توجه إلى أمة، وطائفة كانت تصومهما؛ تأكيدًا على لزوم ذلك، والله أعلم.
ووُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونُبِّئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتُوُفّي يوم الاثنين صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد"
(1)
.
وقال في "الاستذكار": وفي قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وإجماع علماء المسلمين على أنه مُحْكَم، لا يجوز النسخ عليه، ما يُغني عن الاستدلال بأخبار الآحاد في معناه، وفيه تعظيم ذنب المهاجَرَة، والعداوة، والشحناء لأهل الإيمان، وهم الذين يَأْمَنهم الناس على دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، المصدّقون بوعد الله، ووعيده، المجتنبون لكبائر الإثم، والفواحش، والعبد المسلم مَن وَصَفْنا حاله، ومن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، فهؤلاء لا يحلّ لأحد أن يهجرهم، ولا
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 21/ 263.
أن يُبغضهم، بل محبتهم دِيْن، وموالاتهم زيادة في الإيمان واليقين.
قال: وفي هذا الحديث دليل على أن الذنوب بين العباد إذا تساقطوها، وغَفَرها بعضهم لبعض، أو خرج بعضهم لبعض عما لزمه منها سقطت المطالبة من الله عز وجل بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:"حتى يصطلحا"، فإذا اصطلحا غُفر لهما. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد خصّ الله تعالى هذين اليومين بفتح أبواب الجنة فيهما، وبمغفرة الله تعالى لعباده، وبأنهما تُعرض فيهما الأعمال على الله تعالى، كما جاء في الحديث الآخر، وهذه الذنوب التي تُغفر في هذين اليومين هي الصغائر، والله تعالى أعلم. كما تقدم ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهنّ إذا اجتُنبت الكبائر"، متّفقٌ عليه، ومع ذلك فرحمة الله تعالى وَسِعَت كل شيء، وفضْله يعمّ كل ميت، وحيّ، ومقصود هذا الحديث التحذير من الإصرار على بُغض المسلم، ومقاطعته، وتحريم استدامة هِجْرته، ومشاحنته، والأمر بمواصلته، ومكارمته.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله أيضًا: فتحُ أبواب الجنة في هذين اليومين محمولٌ على ظاهره، ولا ضرورة تُحوِج إلى تأويله، ويكون فتحها تأهبًا، وانتظارًا من الخَزَنة لروح من يموت في ذينك اليومين ممن غُفرت ذنوبه، أو يكون فَتْحها علامة للملائكة على أن الله تعالى غَفَر في ذينك اليومين للموحّدين، والله تعالى أعلم.
قال: وهو حجَّة لأهل السُّنَّة على قولهم: إن الجنة والنار قد خُلقتا ووُجدتا، خلافًا للمبتدعة الذين قالوا: إنهما لم تُخلَقا بعدُ، وستخلقان، وعَرْض الأعمال المذكورة إنما هو -والله تعالى أعلم- لِتُنْقَل من الكرام الكاتبين إلى محل آخر، ولعلّه اللوح المحفوظ، كما قال الله تعالى:{هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)} [الجاثية: 29]، قال الحسن: إن الخَزَنة تستنسخ الحفظة من صحائف الأعمال، وقد يكون هذا
(1)
"الاستذكار" 8/ 294.
العرض في هذين اليومين للأعمال الصالحة مباهاةً بصالح أعمال بني آدم على الملائكة، كما يباهي الله الملائكة بأهل عرفة، وقد يكون هذا العرض؛ لِتَعْلم الملائكة المقبول من الأعمال من المردود، كما جاء الحديث الآخر:"إن الملائكة تصعد بصحائف الأعمال، فتعرِضها على الله، فيقول الله تعالى: ضعوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: وعزّتك يا ربنا ما رأينا إلا خيرًا، فيقول الله تعالى: إن هذا كان لغيري، ولا أقبل من العمل إلا ما ابتُغِيَ به وجهي"
(1)
، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6524]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، نَحْوَ حَدِيثِه، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ:"إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ"، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ:"إِلَّا الْمُهْتَجِرَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقة، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ) ضمير التثنية لجرير بن عبد الحميد، وعبد العزيز الدراورديّ.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ الدَّرَاوَرْدِيِّ: "إِلَّا الْمُتَهَاجِرَيْنِ"، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: "إِلَّا الْمُهْتَجِرَيْنِ") أشار به إلى اختلاف شيخيه: قتيبة، وأحمد بن عبدة، على شيخهما الدراورديّ، فقال قتيبة:"إلا المهتجرين"، وقال ابن عبدة:"إلا المتهاجرَين"، والمعنى واحد.
(1)
رواه ابن المبارك في كتاب "الزهد والرقائق" بنحوه (452).
(2)
"المفهم" 6/ 539 - 541.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن سُهيل ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:
(6189)
- أخبرنا أبو طاهر الفقيه، أنبأ حاجب بن أحمد الطوسيّ، ثنا عبد الرحيم بن منيب، ثنا جرير بن عبد الحميد الضبيّ، أنبأ سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تُفتح أبواب السماء في كل اثنين وخميس، فيُغفر لكل عبد لا يُشرك بالله شيئًا، إلا امرؤ بينه وبين أخيه شحناء، قال: فيقال: انتظر هذين حتى يصطلحا". انتهى
(1)
.
ورواية عبد العزيز الداورديّ عن سهيل ساقها الترمذيّ في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:
(2023)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيُغفر فيهما لمن لا يُشرك بالله شيئًا، إلا المهتجرَين، يقال: رُدّوا هذين حتى يصطلحا"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ويروى في بعض الحديث:"ذَرُوا هذين حتى يصطلحا"، قال: ومعنى قوله: "المهتجرين"؛ يعني: المتصارمين، وهذا مِثل ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام". انتهى
(2)
.
وساقها ابن حبّان في "صحيحه" باللفظ الذي أشار إليه المصنّف، فقال:
(5663)
- أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدّثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تُفتَح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيُغفر لمن لا يشرك بالله شيئًا، إلا المتهاجرين، يقول: رُدّوا هذين حتى يصطلحا". انتهى
(3)
.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 3/ 346.
(2)
"جامع الترمذيّ" 4/ 373.
(3)
"صحيح ابن حبان" 12/ 479.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6525]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَفَعَهُ مَرَّةً، قَالَ: "تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ، وَاثْنَيْن، فَيَغْفِرُ اللهُ عز وجل فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَءًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام الشهير، تقدّم قبل بابين.
3 -
(مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) يسار المدنيّ، مولى الأنصار، ثقةٌ [4](خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 21/ 1314.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: ("ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا
…
إلخ") قال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "اركوا هذين حتى يصطلحا" هو بالراء الساكنة، وضم الكاف، والهمزةُ في أوله همزة وصل؛ أي: أخِّروا، يقال: ركاه يركوه رَكْوًا: إذا أخّره، قال صاحب "التحرير": ويجوز أن يرويه بقطع الهمزة المفتوحة، من قولهم: أركيت الأمر: إذا أخّرته، وذَكَر غيره أنه رُوي بقطعها، ووصلها، و"الشحناء": العداوة؛ كأنه شُحِن بُغضًا له؛ أي: ملأه، و"أنظروا هذين" بقطع الهمزة: أخِّروهما، "حتى يفيئا"؛ أي: يرجعا إلى الصلح، والمودّة. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "اركوا هذين حتى يصطلحا" بضم الهمزة، وسكون الراء؛ أي: أخّروهما، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"أَنظِروا"، يقال: ركاه يركوه: إذا أخَّره، وقيل: أركاه أيضًا رباعيًّا، وقد ضَبَطه بعضهم:"أركوا" بفتح الهمزة على هذه اللغة، وقد جاء في رواية
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 122.
السمرقنديّ، والسجزيّ:"اتركوا" مفسرًا، وفي "الموطأ":"اتركوا، أواركوا" على الشك. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "اركوا هذين حتى يصطلحا": يقال: ركاه يركوه: إذا أخّره، وفي رواية:"اتركوا هذين" من التّرك، ويُروَى:"ارهكوا هذين" بالهاء؛ أي: كلّفوهما، وألزموهما، من رهكت الدابة: إذا حملت عليها في السير، وجهدتها. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قد تكلّم الدارقطنيّ على هذا الحديث، ورجَّح الوقف فيه، وعبارته في "العلل":
(1884)
- وسئل عن حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس، فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء".
فقال: يرويه ابن أبي صالح، ومسلم بن أبي مريم، والحكم بن عتيبة، والأعمش، والمسيَّب بن رافع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فأما سهيل فلم يُختلَف عنه في رَفْعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأما مسلم بن أبي مريم فاختُلف عنه، فرواه مالك بن أنس، واختُلف عن مالك، فرَفَعه ابن وهب، عن مالك، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخالفه القعنبي، ويحيى بن يحيى، وعبد الرحمن بن القاسم، فرووه عن مالك، عن مسلم بن أبي مريم، موقوفًا على أبي هريرة.
واختُلف عن ابن عيينة، فرواه الحميديّ عن ابن عيينة، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أنه رفعه مرةً، وقال غيره عن ابن عيينة موقوفًا، فرفعه أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن مسلم بن أبي مريم.
واختُلف عن الحكم بن عتيبة، فرواه أبو مريم عبد الغفار بن القاسم، عن الحكم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعًا.
ورواه شعبة، واختُلف عنه، فرواه يحيى بن السكن، عن شعبة، عن الحكم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وأبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 290.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 261.
وخالفه بدل، ومعاذ، وعمرو بن مرزوق، فرووه عن شعبة، عن الحكم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أوأبي سعيد، موقوفًا.
ورواه الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن كعب، قولَهُ، غيرَ مرفوع، ورواه المسيَّب بن رافع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، موقوفًا.
ومَن وَقَفه أثبت ممن أسنده. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أن وَقْف هذا الحديث أرجح مِن رَفْعه، ففيه تنكيت على مسلم، حيث أخرج المرفوع، لكن الذي يظهر أن مسلمًا رجَّح الرفع؛ لأمرين:
الأول: أن واقِفوه وإن كانوا أكثر، لكن الذين رفعوه ثقات معهم زيادة علم، وزيادة الثقات مقبولة.
الثاني: أن هذا الكلام مما لا يقال بالرأي، بل بالتوقيف من النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما حديث مسلم بن أبي مريم، فهو موقوف عند جمهور رواة "الموطأ"، وقد رواه ابن وهب، عن مالك، عن مسلم بن أبي مريم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مسندًا، وهو الصحيح؛ لأنه لا يقال مثله بالرأي، ولا يدرك بالقياس. انتهى
(2)
.
وأيضًا فإن للحديث متابعةً، وشواهد، فقد أخرج أحمد في "مسنده"، فقال: حدّثنا يونس بن محمد، قال: حدّثني الخزرج -يعني: ابن عثمان السعديّ- عن أبي أيوب؛ يعني: مولى عثمان، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعمال بني آدم تُعْرَض كلَّ خميس، ليلة الجمعة، فلا يُقبل عمل قاطع رَحِم"
(3)
، قال الهيثميّ رحمه الله: رجال ثقات
(4)
.
وأخرج النسائيّ في "المجتبى"، فقال:(2358) - أخبرنا عمرو بن عليّ، عن عبد الرحمن، قال: حدّثنا ثابت بن قيس أبو الغصن شيخ من أهل المدينة،
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 10/ 87 - 89.
(2)
"الاستذكار" 8/ 294.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 483.
(4)
وحسّنه الشيخ الألبانيّ.
قال: حدّثني أبو سعيد المقبريّ، قال: حدّثني أسامة بن زيد، قال: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تُفطر، وتُفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين، إن دخلا في صيامك، وإلا صُمْتَهما، قال:"أيُّ يومين؟ " قلت: يوم الاثنين، ويوم الخميس، قال:"ذانك يومان، تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأُحِبّ أن يُعرَض عملي، وأنا صائم". انتهى
(1)
. وهو حديث صحيح.
وأخرج الطبرانيّ عن جابر رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تُعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر، فيغفرَ له، ومن تائب، فيتابَ عليه، ويرَدّ أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا"، قال ابن المنذر: رواه الطبرانيّ، ورواته ثقات
(2)
.
فهذه الأحاديث، وإن تُكُلِّم في بعضها فإنها تشهد لحديث الباب.
والحاصل أن الحديث صحيح، فتأمل بالإنصاف، وقد أجاد الشيخ ربيع المدخلي في كتابه "بين الإمامين"
(3)
، فراجعه تستفد، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6526]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، وَعَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْن، يَوْمَ الاثْنَيْن، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: اْترُكُوا -أَوِ ارْكُوا- هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ سَوَّادٍ) -بتشديد الواو- ابن الأسود بن عمرو العامريّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [11](ت 245)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 239.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: ("تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ) قال الطيبيّ رحمه الله: المعروض عليه هو الله
(1)
"سنن النسائي (المجتبى") 4/ 201.
(2)
"الترغيب والترهيب" 2/ 79.
(3)
راجع: "بين الإمامين: مسلم والدارقطنيّ" ص 394 - 399.
تعالى، أو ملَك وكّله الله تعالى على جَمْع صحائف الأعمال وضَبْطها.
قال الجامع عفا الله عنه: الاحتمال الثاني ضعيف، فالصواب أن العرض على الله سبحانه وتعالى؛ للنصوص الكثيرة على ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ)؛ أي: في كل أسبوع، عبّر عن الشيء بآخره، وما يتمّ به، ويوجد عنده، وخصّه لأنه أفضل أيّام الأسبوع.
وقوله: (إِلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ
…
إلخ) هكذا رواية مسلم بنصب "عبدًا"، وهو الجادّة، وقال التوربشتيّ: وجدناه في "كتاب المصابيح": "إلا عبدٌ" بالرفع، وهو في "كتاب مسلم" بالنصب، وهو الأوجَه، فإنه استثناء من كلام موجَب، وبه وَرَدَت الرواية الصحيحة. انتهى
(1)
.
وقوله: (اتْرُكُوا -أَوِ ارْكُوا-)"أو" هنا للشكّ من الراوي، وقوله:"اتركوا" من الترك، وقوله:"اركوا" بوصل الهمزة، ويقال بقطعها؛ أي: أخّروهما.
وقوله: (حَتَّى يَفِيئَا") بفتح أوله، من الفيء؛ أي: الرجوع؛ أي: إلى أن يرجعا إلى ما كانا عليه من المحبّة، والمودّة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدم البحث فيه مستوفًى قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
(12) - (بَابٌ فِي فَضْلِ الْحُبِّ فِي اللهِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6527]
(2566) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي الْحُبَابِ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلا ظِلِّي").
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3211.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ) بن حزم الأنصاريّ، أبو طُوالة -بضم الطاء المهملة- المدنيّ، قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز، ثقةٌ [5] (134) ويقال: بعد ذلك (ع) تقدم في "الصيام" 13/ 2593.
2 -
(أَبُو الْحُبَابِ سَعِيدُ بْنُ يَسَارٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث في "الموطأ" بهذا الإسناد عند جماعة رواته فيما علمت، وقد كان عند مالك فيه إسناد آخر، رواه إبراهيم بن طهمان، عن مالك، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"، ذكره أبو داود، وقال: كان عنده أيضًا عن مالك حديث أبي طُوالة، عن أبي الحباب. انتهى
(1)
.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا نداء تنويه، وإكرام، ويجوز أن يخرج هذا الكلام مخرج الأمر لمن يُحضرهم مكرمين، مُنَوَّهًا بهم. انتهى
(2)
.
(بِجَلَالِي)؛ أي: بعظمتي، وطاعتي، لا للدنيا، قاله النوويّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لجلالي" رُوي باللام، وبالباء، ومعناهما متقاربٌ؛ لأن المقصود بهما هنا السببيّة؛ أي: لعظيم حقي، وحرمة طاعتي، لا
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 428.
(2)
"المفهم" 6/ 541.
لغرض من أغراض الدنيا. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: معنى قوله فيه -والله أعلم-: أين المتحابون لجلالي؟: أين المتحابون إجلالًا لي، ومحبةً فيّ، فمن إجلال الله عز وجل إجلال أولياء الله، ومحبتهم، كما جاء في الأثر:"من إجلال الله عز وجل إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه"، وإذا كان ذِكرهم، وذِكر فضائلهم عمل بِرّ، فما ظنك بحبهم، وإخلاص الودّ لهم؟. انتهى
(2)
.
(الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلِّي")؛ أي: أنه لا يكون مَن له ظل مجازًا، كما في الدنيا، وجاء في غير مسلم:"ظل عرشي". قال القاضي: ظاهره أنه في ظله من الحرّ، والشمس، ووَهَج الموقف، وأنفاس الخلق، قال: وهذا قول الأكثرين، وقال عيسى بن دينار: معناه: كَفّه من المكاره، وإكرامه، وجعله في كَنَفه، وسِتره، ومنه قولهم: السلطان ظلّ الله في الأرض، وقيل: يَحْتَمِل أن الظل هنا عبارة عن الراحة، والنعيم، يقال: هو في عيش ظليل؛ أي: طيّب، ذكره النوويّ
(3)
.
وقال ابن عبد البرّ: أراد -والله أعلم- في ظل عرشه، وقد يكون الظل كناية عن الرحمة، كما قال عز وجل:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ} [المرسلات: 41، 42]؛ يعني بذلك: ما هم فيه من الرحمة والنعيم، وقال:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وقد يكون كناية عن العذاب، كما قال عز وجل:{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)} [الواقعة: 43، 44]، ومن كان في ظل الله يوم الحساب وُقِي شرّ ذلك اليوم، جعلنا الله برحمته من المتحابين فيه، ولوجهه، المستقرين تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله، فإن ذلك من أفضل الأعمال، وأكرم الخلال. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اليوم أظلّهم في ظلّي يوم لا ظل إلا ظلّي"
(1)
"المفهم" 6/ 541.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 429.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 132.
(4)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 431 - 432.
قيل: هذه الإضافة إضافة تشريف، وإكرام؛ إذ الظلال كلها مُلكه تعالى، وخَلْقه.
قال القرطبيّ: وأَولى من هذا التأويل أنه يعني به ظل العرش، كما قد جاء في رواية أخرى، فيعني -والله تعالى أعلم-: أن في القيامة ظلالًا بحسب الأعمال الصالحة، تقي صاحبها من وَهَج الشمس، ولَفْح النار، وأنفاس الخَلْق، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كل امرئ في ظل صدقته حتى يُقضى بين الناس"
(1)
،
ولكن ظل العرش أعظم الظلال، وأشرفها، فيخصّ الله به من يشاء من صَالِح عباده، ومن جملتهم المتحابون لجلال الله.
[فإنْ قيل]: كيف يقال: في القيامة ظلالٌ بحسب الأعمال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه"، وهو ظلّ العرش المذكور في الحديث؟.
[قلنا]: يمكن أن يقال: كل ظل في القيامة إنما هو له؛ لأنَّه بخلقه، واختراعه، بحسب ما يريده تعالى، من إكرام من يخصّه به، فعلى هذا يكون كل واحد من هؤلاء السبعة في ظل يخصه، وكلّها ظل الله، لا ظل غيره؛ إذ ليس لغيره هنالك ظل، ولا يقدر له على سَبَب.
ويَحْتَمِل أن يقال: إنَّه ليس هنالك إلا ظل واحد، وبه يستظلّ المؤمنون، لكن لمّا كان الاستظلال بذلك الظلّ لا يُنال إلا بالأعمال الصالحات، نُسِب لكل عمل ظلّ؛ لأنه به وَصَل إليه، والله تعالى أعلم.
وهذا كلّه بناءٌ على أن الظلال حقيقةٌ، لا مجازٌ، وهو قول جمهور العلماء. وقال عيسى بن دينار: إن معناه: يُكِنهم من المكاره، ويجعلهم في كَنَفه، وسِتره، كما يقول: أنا في ظلّك؛ أي: في ذُراك، وسِترك. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الصواب ما قاله الجمهور من أن الظلال على ظاهرها، فإن النصوص الكثير واضحة في ذلك، فلا داعي لدعوى المجاز فيها، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد، وابن حبّان، وابن خزيمة، وغيرهم.
(2)
"المفهم" 6/ 542 - 543.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 6527](2566)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 952)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 5)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237 و 338 و 370 و 535)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2335)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 312)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(574)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 232) وفي "شُعب الإيمان"(6/ 483)، و (الربيع) في "مسنده"(1/ 46)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3462)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل التحابّ في الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يناديهم، فيكرمهم بإظلاله في ظلّه الكريم يوم لا ظلّ إلا ظلّه.
2 -
(ومنها): إثبات ظلّ لله تعالى يومة القيامة يُكْرِم به من يشاء من عباده الصالحين.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دليل لجواز قول الإنسان: الله يقول، وهو الصواب الذي عليه العلماء كافّةً، إلا ما قدّمناه في "كتاب الإيمان" عن بعض السلف من كراهة ذلك، وأنه لا يقال: يقول الله، بل يقال: قال الله، وقدَّمنا أنه جاء بجوازه القرآن، في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4]، وأحاديث صحيحة كثيرة. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: من أوثق عُرى الإسلام البغض في الله، والحبّ في الله، ثم أخرج بسنده عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله، وتُبغض في الله"، قال أبو عمر: فمن الحب في الله حب أولياء الله، وهم الأنقياء العلماء الفضلاء، ومن البغض في الله بغض من حادّ الله، وجاهر بمعاصيه، أو ألحد في صفاته، وكفر به، وكذّب رسله، أو نحو هذا كله. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 123.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 17/ 430.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6528]
(2567) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أتى عَلَيْه، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي في هَذهِ الْقَرْيَة، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عز وجل، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادِ) بن نصر الباهليّ مولاهم، أبو يحيى البصريّ، المعروف بالنَّرْسيّ - بفتح النون، وسكون الراء، وبالمهملة - ثقةٌ
(1)
، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقةٌ عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ - بضم الموحّدة، ونونين - أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابد [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيع الصائغ، المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 462.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
(1)
هذا هو الأَولى من قوله في "التقريب": لا بأس به، راجع ترجمته في:"تهذيب التهذيب".
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ) نُفيع الصائغ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلًا) لا يُعرف هو، ولا المَزُور
(1)
. (زَارَ أَخًا لَهُ)؛ أي: أراد أن يزوره، وهو أعمّ من كونه أخًا حقيقةً أو مجازًا، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كونه مجازًا هو الظاهر؛ لقوله في آخر الحديث: "غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عز وجل"؛ فإنه أَبُو كان أخاه مِن نَسَبه لقال: إنه أخي في النسب، وأحبه، والله تعالى أعلم.
(فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى)؛ أي: غير قرية الزائر، (فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ)؛ أي: وَكّل بحفظه، يقال: أرصده لكذا: إذا وكّله بحفظه، وقال النوويّ رحمه الله: معنى أرصده: أقعده يَرْقُبه، و"المدرجة" بفتح الميم، والراء: هي الطريق، سُمّيت بذلك؛ لأن الناس يَدرُجون عليها؛ أي: يمضون، ويمشون. انتهى
(3)
.
(عَلَى مَدْرَجَتِهِ)؛ أي: على قارعة طريقه، (مَلَكًا)؛ أي: هيأ على طريقه ملَكًا، وأقعده يرقُبه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأرصد الله على مدرجته"؛ أي: جعل الله ملَكًا على طريقه يرصُده؛ أي: يرتقبه، وينتظره ليبشّره، والْمَرْصَد: موضع الرّصَد، و"المدرجة" بفتح الميم: موضع الدرْج، وهو المشي. انتهى
(4)
.
(فَلَمَّا أتى) الرجل (عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الملك الْمُرْصَد، (قَالَ) له الملك:(أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ) الرجل: (أُرِيدُ أَخًا لِي)؛ أي: أقصد أن أزور أخًا لي (فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ) قال المناويّ: فإن قيل: السؤال عن القصد، والجواب غير مطابق له، قلنا: في الحديث بيان لِمَقْصِدِه، ومقصوده. انتهى
(5)
.
(قَالَ) الملَك للرجل: (هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَة)؛ أي: هل لك من حقّ واجب عليه من النعم الدنيوية (تَرُبُّهَا) - بفتح المثناة الفوقية، وضمّ الراء، وتشديد الموحّدة -؛ أي: تملكها، وتستوفيها، أو معناه: تقوم بها، وتسعى في
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 429.
(2)
"فيض القدير" 4/ 61.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 124.
(4)
"المفهم" 6/ 543.
(5)
"فيض القدير" 4/ 61.
صلاحها، وتَحْفظها، وتراعيها، كما يُرَبِّي الرجل ولده، قاله المناويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ: "تربّها"؛ أي: تقوم بها، وتُصلحها، فتتعاهده بسببها. انتهى.
(قَالَ) الرجل: (لَا)؛ أي: ليست لي عليه نعمة أَرُبّها، (غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عز وجل؛ أي: ليس لي داعية إلى زيارته إلا محبتي إياه ابتغاء مرضاة الله تعالى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقال: لا، غير أني أحببته في الله"؛ أي: لم أزره لغرض من أغراض الدنيا، ثم أخبر بأنه إنما زاره من أجل أنه أحبه في الله تعالى، فبشّره الملَك بأن الله تعالى قد أحبّه بسبب ذلك
(2)
.
(قَالَ) الملَك: (فَإنِّي رَسُولُ اللهِ)؛ أي: مرسلٌ منه تعالى (إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ) قال النوويّ: قال العلماء: محبة الله عبده هي رحمته له، ورضاه عنه، وإرادته له الخير، وأن يفعل به فعل المحب من الخير، وأصل المحبة في حقّ العباد ميل القلب، والله تعالى منزه عن ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول النوويّ: قال العلماء
…
إلخ يريد به علماء المتكلّمين، لا علماء السلف، فإنهم لا يؤوّلون صفة المحبّة بهذا التأويل، بل يثبتونها كما أثبتها الكتاب والسُّنَّة الصحيحة في هذا الحديث، وغيره، وأما هذا الذي ذكر من معنى للمحبّة فإنه من ثمراتها، ولوازمها، فالحقّ أن المحبّة ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلاله، ثم إذا ثبتت، فمن لوازمها أن يرحم من يحبّه، ويرضى عنه، ويريد له الخير.
والحاصل أن الحقّ إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة من المحبّة، والرضا، والغضب، والسخط، والتعجّب، والاستواء، والنزول، والمجيء، وغير ذلك، على ظا هرها، وتنزيهه عن مشابهة خَلْقه، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، بل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
[فائدة]: قال الغزاليّ رحمه الله: زيارة الإخوان في الله من جواهر عبادة الله
(1)
"فيض القدير" 4/ 61.
(2)
"المفهم" 6/ 543.
تعالى، وفيها الزلفى الكريمة إلى الله تعالى، مع ما فيها من ضروب الفوائد، وصلاح القلب، لكن بشرطين:
أحدهما: أن لا يخرج إلى الإكثار والافراط، كما أفاده الخبر الخر
(1)
.
الثاني: أن يحفظ حقّ ذلك بالتجنب عن الرياء، والتزين، وقول اللغو، والغِيبة، ونحو ذلك. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 6528](2528)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 5) وفي "الزهد"(1/ 247)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 292 و 408 و 462 و 482 و 508)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(350)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 114)، و (أبو يعلى) في "معجمه"(1/ 211)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(572 و 576)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 488)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3465)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(36/ 271) والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل المحبة في الله تعالى، وأنها سبب لحب الله تعالى العبد.
2 -
(ومنها): بيان فضيلة زيارة الصالحين، والأصحاب.
3 -
(ومنها): بيان أن الآدميين قد يرون الملائكة؛ إذا تشكّلوا بغير صورتهم الأصليّة.
4 -
(ومنها): بيان أن الحبّ في الله تعالى، والتزاور فيه من أفضل الأعمال، وأعظم القُرَب إلى الله تعالى؛ إذا تجرَّد ذلك عن أغراض الدنيا،
(1)
يعني: حديث "زُرْ غِبًّا تزدد حبًّا"، وقد صححه الألبانيّ رحمه الله لغيره، في "صحيح الترغيب والترهيب".
(2)
"فيض القدير" 4/ 61.
وأهواء النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من أحبّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ الشَّيْخُ أَبُو أَحْمَدَ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُوَيهْ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
هذا من زيادات الراوي عن أبي أحمد الْجُلُوديّ، وليس لمسلم، وذلك أنه وجد طريقًا عاليًا على طريق مسلم، فأورده بيانًا لعلوّه، وذلك لأنه وصل إلى عبد الأعلي بن حمّاد بواسطة واحدة؛ أي: أبي بكر محمد بن زنجويه، بينما هو وصل إليه عن طريق مسلم بواسطتين: أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان تلميذ مسلم، ومسلم صاحب الكتاب.
والحاصل أن أن أبا أحمد علا في هذا الحديث على طريق مسلم بدرجة، وقد مرّ له نظير هذا، فتفطّن.
و"أبو أحمد" هو محمد بن عيسى بن محمد الزاهد النيسابوريّ الجلوديّ المتوفّى سنة (368 هـ)، تقدّمت ترجمته في "شرح المقدمة"جـ 1 ص 63.
وأما ابن زنجويه، فهو محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغداديّ، أبو بكر الغزّال جار أحمد، ثقةٌ [11](ت 258)(4).
رَوَى عن جعفر بن محمد بن حمزة بن عون، وزيد بن الحباب، ويزيد بن هارون، وعبد الرزاق، وحسين بن محمد، وغيرهم.
وروى عنه الأربعة، وعبد الله بن أحمد، وابن أبي الدنيا، وموسى بن هارون، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وآخرون.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال ابن أبي حاتم: سمع منه أبي، وهو صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال مسلمة: ثقةٌ كثير الخطأ.
قال ابن مخلد: مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين ومائتين.
أخرج له الأربعة، وليس له في مسلم رواية، وإنما روى عنه أبو أحمد الجلوديّ طلبًا للعلوّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
والباقيان ذُكرا قبله.
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود في "سننه" 4/ 220.
[تنبيه]: هذا الذي ذكرته من كون أبي أحمد تلميذَ أبي إسحاق النيسابوريّ، تلميذِ مسلم هو الصواب، فما وقع في شرح الشيخ الهرريّ من أن أبا أحمد تلميذٌ لمسلم، فخطأ، ولذلك لم يعدّ هذا من عوالي أبي أحمد، بل قال: إنما أتى به لبيان المتابعة، ودونك نصّه: وهذه الرواية ليست من إخراج مسلم، وإنما ذكرها تلميذه الشيخ أبو أحمد الجلودي للمتابعة، فإنه سمعها من محمد بن زنجويه بمثل ما سمعها من الإمام مسلم، ولذلك لم يُعتَبر محمد بن زنجويه من رجال مسلم، ورَمَز إليه في "التهذيب" بالأربعة فقط. انتهى كلامه.
وهذا الكلام فيه صواب، وفيه خطأ أيضًا، فقوله:"وهذه الرواية ليست من إخراج مسلم" صواب، وقوله: "وإنما ذكرها تلميذه
…
إلخ"، وكذا قوله: "فإنه سمعها من مسلم
…
إلخ" خطأ، والصواب أنه تلميذ لتلميذ مسلم، أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ، وأنه سمعها من التلميذ المذكور، لا من مسلم، فهو بالنسبة للجلوديّ نازل بدرجة، فلذا أتى برواية ابن زنجويه؛ لعلوّها، وبيانُ هذا قد تقدّم في "مقدّمة شرح المقدّمة"، فراجعه تُزَل عنك الغشاوة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(13) - (بَابُ فَضْلِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ)
" العيادة" بالكسر مصدرٌ، يقال: عُدتُ المريضَ أعوده عيادةً: إذا زُرته، فالرجل عائدٌ، وجمعه عُوّاد، والمرأة عائدة، وجمعها عُوّدٌ بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى الجَمْعين المذكورين أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَه
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلّ لَامًا نَدَرَا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 436 - 437.
وقال القرطبيّ رحمه الله: العيادة: مصدر عاد يعود عَوْدًا، وعِيَادة، وعِيادًا، غير أنه قد خُصّت العيادة بالرجوع إلى المرضَى، والتكرار إليهم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6529]
(2568) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الزهْرَانِيُّ، قَالَا: حَدثنَا حَمَّاد - يَعْنِيَانِ ابْنَ زيدٍ - عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفَةِ الْجَنَّةِ حَتى يَرْجعَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، مصنِّف، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدة وثوقه به [10](ت 227) وقيل بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانيُّ) سليمان بن داود العَتَكيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدِ) بن درهم الأزديّ الجهضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ، ثبت، فقيه، من كبار [8](ت 179) وله إحدى وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء العباد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة"جـ 1 ص 305.
5 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضل كثير الإرسال، قال العجليّ: فيه نَصْبٌ يسير [3] مات بالشام هاربًا من القضاء (104) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(أَبُو أَسْمَاءَ) عمرو بن مَرْثد الرّحَبيّ الدمشقيّ، ويقال: اسمه عبد الله، ثقةٌ [3] مات في خلافة عبد الملك (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
(1)
"المفهم" 6/ 550.
7 -
(ثَوْبَانُ) بن بُجْدُد الهاشميّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء لهما، حيث سمعا عن حمّاد بن زيد مع جماعة، فلذا قالا: حدّثنا حمّاد، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالشاميين، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء.
شرح الحديث:
(عَنْ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه (قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ)؛ يعني: الزهرانيّ، شيخه الثاني، (رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: رفع حمّاد الحديث إليه صلى الله عليه وسلم؛ وهذه من صيغ الرفع، وإنما يقولها من ثبت لديه رفع الحديث، ولكن نسي صيغة الرفع، هل هي "قال رسول الله" كرواية سعيد، أو "سمعت"، أو "حدّثنا"، أو "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، أو نحو ذلك، فأتَى بصيغة تشمل كل هذا، فقال: "رفعه
…
إلخ".
(وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ)؛ يعني: ابن منصور شيخه الثاني، (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَائِدُ الْمَرِيضِ فِي مَخْرَفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ") وفي الرواية الثانية: "خُرْفة الجنة - بضم الخاء - قيل: يا رسول الله ما خرفة الجنة؟ قال: جَناها"؛ أي: يَؤُوْل به ذلك إلى الجنة، واجتناء ثمارها، واتّفق العلماء على فضل عيادة المريض، وسبق شرح ذلك واضحًا في بابه، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": وقوله في عائد المريض: "في مخرفة الجنة" رَوَيناه بفتح الميم والراء، وفي الحديث الخر:"في خُرْفة الجنة" فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه "جناها"، وقال الأصمعيّ: المخارف واحدها مَخْرَف، وهو جنى النخل، سُمّي بذلك؛ لأنه يُختَرف؛ أي: يُجنَى، وقال غيره: المخرفة سِكّة بين صفين من نخيل، يَخترف من أيها شاء، يريد: يَجني،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 124.
وقيل: المخرفة: الطريق؛ أي: على طريق يؤديه إلى الجنة، وعلى ما تقدم يكون معناه: في بساتين الجنة، وهو كله راجع إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"جناها"، وقوله أصحّ، وأثبت. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ عند قوله: "عائد المريض يمشي في مَخرفة الجنة، حتى يرجع من العيادة": أي: يمشي في التقاط فواكه الجنة، والْخُرفة بالضم: ما يُجتنَى من الثمار، وقد يُتجوز بها للبستان، من حيث إنه محلها، وهو المراد هنا على تقدير مضاف؛ أي: في محل خرفتها. ذكره البيضاويّ، وقال الزمخشريّ: معناه أن العائد فيما يحوزه من الثواب؛ كأنه على نخل الجنة، يخترق ثمارها، من حيث إن فعله يوجب ذلك. انتهى.
وقال ابن العربيّ: ممشاه إلى المريض لمّا كان له من الثواب على كل خطوة درجة، وكانت الخطا سببًا لنيل الدرجات في المقيم، عَبَّر بها عنها؛ لأنه سببها مُجازًا له إذا مشى على الخرفة، وهي بساتين الجنة، أن يخترف منها؛ أي: يقتطع، ويتنعم بالأكل
(2)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: قال ابن وهب: المَخْرَف: هي الجنينة الصغيرة، وقال غيره: هو ما يُخرف، ويخترف؛ أي: يحفظ، ويجتنَى، وهو الحائط الذي فيه ثمر قد طاب، وبدا صلاحه، قالوا: والحائط يقال له بالحجاز: الخارف، والخارف بلغة أهل اليمن: الذي يجتني لهم الرُّطَب.
وقال أبو عبيد: يقال للنخل بعينه: مَخْرف، قال: ومنه قول أبي طلحة: إن لي مَخرفًا.
قال: وقال الأصمعي في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "عائد المريض في مخارف الجنة": قال: واحدها مخرف، وهو جنَى النخل، وإنما سُمّي مَخرفًا؛ لأنه يُخرَف منه؛ أي: يُجتنَى منه.
وقال الأخفش: الْمِخرَف بكسر الميم: القطعة من النخل التي يُختَرف منها الثمر، والْمَخرَف بفتح الميم: النخل أيضًا. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 233.
(2)
"فيض القدير" 4/ 297.
(3)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 23/ 259.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: كتب الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله هنا ما نضه: ذكر مسلم حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة، ومن حديث هشيم، ويزيد بن زريع، كلاهما عن خالد الحذّاء، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من عاد مريضًا لم يزل في خُرْفة الجنّة حتى يرجع".
قال أبو عليّ: ويُروى إسناد هذا الحديث أيضًا عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء، ذَكَره مسلم أيضًا من حديث يزيد بن هارون، عن عاصم الأحول، عن ثوبان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من عاد مريضًا لم يزل في خُرفة الجنّة"، قيل: يا رسول الله وما خُرفة الجنّة؟ قال: "جَنَاهَا".
قال أبو عيسى الترمذيّ: سألت البخاريّ عن إسناد هذا الحديث، فقال: رواه أبو غِفَار، وعاصم، عن أبي قلابة، عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثوبان، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: وأحاديث أبي قلابة عن أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن ثوبان، ليس فيها أبو الأشعث إلا هذا الحديث الواحد.
وذكر أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنه قال: أبو قلابة وقع إلى الشام، وهو يروي عن أبي الأشعث، وأبي أسماء، وأُراه قد سمع منهما، ورَوَى أيضًا عن أبي الأشعث، عن أبي أسماء. انتهى كلام الجيّانيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما ذكره الجيّاني أن سَنَدَيْ أبي قلابة المذكورَين في هذا الباب صحيحان، فلا يضرّ الاختلاف المذكور؛ لإمكان الجمع بأن أبا قلابة رواه عن أبي أسماء بواسطة أبي الأشعث، ثم لقي أبا أسماء، فرواه عنه مباشرةً، أو سمعه من أبي أسماء نفسه، ثم ثبّته أبو الأشعث، ونظائر هذا كثيرة في أحاديث الثقات، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 6529 و 6530 و 6531 و 6532 و 6533](2568)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(967 و 968)، و (البخاريّ) في "الأدب
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 922 - 923.
المفرد" (521)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (1/ 132)، و (أحمد) في "مسنده" (5/ 276 و 277 و 279 و 283 و 284)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (3/ 233 - 234)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين" (4/ 45)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (2957)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب" (385)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (3/ 380) و"شُعَب الإيمان" (6/ 530)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (1408 و 149)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل عيادة المريض، قال القرطبيّ رحمه الله: عيادة المريض من أعمال الطاعات الكثيرة الثواب، العظيمة الأجر، كما دلت عليه هذه الأحاديث، وغيرها، وهي من فروض الكفايات؛ إذا مَنَع المرضُ من التصرف؛ لأنَّ المريض أَبُو لم يُعَدْ جملةً لضاع، وهلك، ولا سيما إن كان غريبًا، أو ضعيفًا، وأما من كان له أهل، فيجب تمريضه على من تجب عليه نفقته، فأمَّا من لا يجب ذلك عليه، فمن قام به منهم سقط عن الباقين. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث فضل عيادة المريض، وهذا على عمومه في الصالح وغيره، وفي المسلم وغيره، وقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرًا، وقد كَرِه بعض أهل العلم عيادة الكافر؛ لِمَا في العيادة من الكرامة، وقد أُمرنا أن لا نبدأهم بالسلام، فالعيادة أَولى أن لا تكون، فإن أتونا فلا بأس بحُسن تلقّيهم؛ لقول الله عز وجل:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 183] دخل فيه الكافر والمؤمن، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه"
(2)
.
وقد أكثر الناس في هذين المعنيين، وقد كان طاوس يسلم على كل من لَقِي، من مسلم، وذميّ، ويقول: هي للمسلم تحية، وللكافر ذمة. انتهى
(3)
.
3 -
(ومنها): أنه يستفاد من هذا الحديث أنه لا بأس بالعيادة في كل
(1)
"المفهم" 6/ 550.
(2)
حديث حسن، رواه ابن ماجه 2/ 1223.
(3)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 24/ 277.
وقت، وقد كرهها طائفة من العلماء في أوقات، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل- وقال له شيخ، كان يخدمه: تجيء إلى فلان - مريض سمّاه يعوده -، وذلك عند ارتفاع النهار في الصيف، فقال: ليس هذا وقت عيادة.
قال ابن عبد البرّ: لقد أحسن ابن حذار في نحو هذا، حيث يقول [من البسيط]:
إِنَّ الْعِيَادَةَ يَوْمٌ بَيْنَ يَوْمَيْنِ
…
وَاجْلِسْ قَلِيلًا كَلَحْظِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ
لَا تُبْرِمَنَّ مَرِيضًا فِي مُسَاءَلَةٍ
…
يَكْفِيكَ مِنْ ذَاكَ إِنْ تَسْأَلْ بِحَرْفَيْنِ
ذَكَر الحسن بن عليّ الحلوانيّ قال: حدّثنا أبو سعيد الجعفيّ قال: حدّثنا ضمرة، قال: حدّثني الأوزاعيّ قال: خرجت إلى البصرة أريد محمد بن سيرين، فوجدته مريضًا به البطن، فكنا ندخل عليه، نعوده قيامًا.
ثم أخرج عن ابن طاوس، عن أبيه قال: أفضلُ العيادة أخفّها.
وقال ابن وضاح في تفسير الحديث، أفضل العيادة أخفّها، قال: هو أن لا يُطَوِّل الرجل في القعود إذا عاد المريض. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: لا يتوقف مشروعيّة عيادة المريض على علمه بعائده، بل تندب عيادته، ولو مُغْمًى عليه؛ لأن وراء ذلك جَبْر خاطر أهله، وما يُرجى من بركة دعاء العائد، ووضع يده على بدنه، والنفث عليه عند التعويذ، وغير ذلك، ذكَره في "الفتح" وغيره
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": قوله صلى الله عليه وسلم: "عودوا المريض"
(3)
يدلّ على مشروعية العيادة لكل مريض، لكن استثنى بعضهم الأرمد؛ لكون عائده قد يرى ما لا يراه هو، وهذا الأمر خارجيّ قد يأتي مثله في بقية الأمراض؛ كالْمُغْمَى عليه، وقد عقّبه البخاريّ به.
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 24/ 277.
(2)
"فيض القدير" 4/ 297.
(3)
أي: فيما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُكّوا العاني -يعني: الأسير- وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض".
وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني، أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم، وهو عند البخاريّ في "الأدب المفرد"، وسياقه أتمّ.
وأما ما أخرجه البيهقيّ، والطبرانيّ مرفوعًا:"ثلاثة ليس لهم عيادة: العين، والدُّمّل، والضرْس"، فصحح البيهقيّ أنه موقوف على يحيى بن أبي كثير.
ويؤخذ من إطلاقه أيضًا عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه، وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في "الأحياء" بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أخرجه ابن ماجه عن أنس:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يعود مريضًا إلا بعد ثلاث"، وهذا حديث ضعيف جدًّا، تفرّد به مسلمة بن عليّ، وهو متروك، وقد سئل عنه أبو حاتم، فقال: هو حديث باطل.
قال الحافظ: ووجدت له شاهدًا من حديث أبي هريرة، عند الطبرانيّ في "الأوسط"، وفيه راو متروك أيضًا.
قال الجامع عفا الله عنه: لا ينقضي عجبي من صنيع الحافظ الذي يعتمد عليه جلّ من جاء بعده؟ كيف ساغ له أن يذكر لحديث فيه راو متروك، شاهدًا فيه راو متروك أيضًا؟ إن هذا لهو العجب العجاب.
بل الحقّ والصواب أن انفراد متروكَيْن بحديث مما يوهن أمره، لا مما يقويه، بل الظنّ أن ذلك الحديث مما عملته يداهما، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وَيلتحق بعيادة المريض تعهّده، وتفقّد أحواله، والتلطف به، وربما كان ذلك في العادة سببًا لوجود نشاطه، وانتعاش قوته.
قال: وفي إطلاق الحديث أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طَرَفَي النهار، وترجم البخاريّ في "الأدب المفرد":"العيادةُ في الليل"، وساق عن خالد بن الربيع قال: لمّا ثَقُل حُذيفة أتوه في جوف الليل، أو عند الصبح، فقال: أيُّ ساعة هذه؟ فأخبروه، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار
…
الحديث.
ونقل الأثرم عن أحمد أنه قيل له بعد ارتفاع النهار في الصيف: تعود فلانًا؟ قال: ليس هذا وقت عيادة.
ونقل ابن الصلاح عن الفُراويّ أن العيادة تستحب في الشتاء ليلًا، وفي الصيف نهارًا، وهو غريب.
ومن آدابها: أن لا يُطيل الجلوس حتى يُضجر المريض، أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس، كما في حديث جابر رضي الله عنه
(1)
.
قال: وقد ورد في فضل العيادة أحاديث كثيرة جياد، منها عند مسلم، والترمذيّ، من حديث ثوبان رضي الله عنه:"إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة الجنة"، وخُرْفة بضم المعجمة، وسكون الراء، بعدها فاء، ثم هاء: هي الثمرة؛ إذا نَضِجت، شَبَّه ما يحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه الذي يجتني الثمر، وقيل: المراد بها هنا: الطريق، والمعنى: أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة، والتفسير الأول أَولى، فقد أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" من هذا الوجه، وفيه: قلت لأبي قلابة: ما خُرفة الجنة؟ قال: جَناها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع.
وأخرج البخاريّ أيضًا
(2)
من طريق عُمر بن الحكم، عن جابر رفعه:"من عاد مريضًا خاض في الرحمة، حتى إذا قعد استقرّ فيها"، وأخرجه أحمد، والبزار، وصححه ابن حبان، والحاكم من هذا الوجه، وألفاظهم فيه مختلفة، ولأحمد نحوه، من حديث كعب بن مالك، بسند حسن. انتهى ما في "الفتح"
(3)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(1)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ عن ابن المنكدر، سمع جابر بن عبد الله يقول:"مَرِضتُ مرضًا، فأتاني النبيّ صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر، وهما ماشيان، فوجداني أُغمي عليّ، فتوضأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم صبّ وضوءه عليّ، فأفقت، فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث". انتهى.
(2)
أي: في "الأدب المفرد" فتنبّه.
(3)
"الفتح" 13/ 21 - 22، كتاب "المرضى" رقم (5649).
[تنبيه]: قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب وجوب عيادة المريض"، قال في "الفتح": كذا جزم بالوجوب على ظاهر الأمر بالعيادة، وتقدّم حديث أبي هريرة في "الجنائز": "حقّ المسلم على المسلم خمس
…
"، فذكر منها عيادة المريض، ووقع في رواية مسلم: "خمس تجب للمسلم على المسلم
…
"، فذكرها منها.
قال ابن بطال: يَحْتَمِل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية؛ كإطعام الجائع، وفكّ الأسير، ويَحْتَمِل أن يكون للندب؛ للحثّ على التواصل، والأُلفة، وجزم الداوديّ با لأول، فقال: هي فرض يَحْمِله بعض الناس عن بعض.
وقال الجمهور: هي في الأصل نَدْب، وقد تصل إلى الوجوب في حقّ بعض دون بعض، وعن الطبريّ تتأكد في حقّ من ترجى بركته، وتسنّ فيمن يراعَى حاله، وتباح فيما عدا ذلك، وفي الكافر خلاف، قال: ونقل النوويّ الإجماع على عدم الوجوب؛ يعني: على الأعيان. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن القول بوجوب عيادة المريض هو الحقّ، كما هو مذهب البخاريّ رحمه الله؛ لظواهر النصوص، لا سيّما وقد صرّح في مسلم بقوله:"خمس تجب للمسلم على المسلم"، وكذا قوله: "حقّ المسلم
…
إلخ"، وقوله: "عودوا المريض" بلفظ الأمر، والأمر للوجوب، ولكن الظاهر من الوجوب هو الوجوب الكفائيّ، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أؤلَ الكتاب قال:
[6530]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الْجَنَّة، حَتى يَرْجعَ").
(1)
"الفتح" 13/ 21 - 22، كتاب "المرضى" رقم (5649).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(هُشَيْمُ) - بالتصغير - ابن بَشِير - بوزن عَظِيم - ابن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم - بمعجمتين - الواسطيّ، ثقةٌ ثبت، كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
3 -
(خَالِدُ) بن مِهْران أبو الْمُنازل - بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي - البصريّ الحذّاء
(1)
وهو ثقةٌ، يرسل، أشار حماد بن زيد إلى أنّ حِفظه تغير لَمّا قَدِم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان [5](ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَمْ يَزَلْ فِي خرْفَةِ الْجَنَّةِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هو بضم الخاء المعجمة، وسكون الراء، وقد فسّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم بما هو المعروف في اللغة، فقال:"جناها"؛ أي: ما يجتنى منها، وفي "الصحاح": الخرفة - بالضم -: ما يُجتنى من الفواكه، ويقال: التمر خُرفة الصائم، وأما رواية من رواها "مخرفة" بفتح الميم، وسكون الخاء، وفتح الراء: فهو البستان، والْمَخْرَفة، والْمَخْرَف: الطريق، أما الْمِخْرَف، والْمِخْرَفة - بكسر الميم -: فهو الوعاء الذي يُجتنَى فيه التمر.
ومعنى هذا الحديث: أن عائد المريض بما يناله من أجر العيادة، وثوابها الموصل إلى الجنة؛ كأنه يجتني ثمرات الجنة، أو كأنه في مَخْرَف الجنة؛ أي: في طريقها الموصل إلى الاختراف، وسُمّي الخريف بذلك؛ لأنَّه فَصْلٌ تُخْتَرَف فيه الثمار. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(1)
بفتح الحاء المهملة، وتشديد الذال المعجمة، قيل له ذلك؛ لأنه كان يجلس عندهم، وقيل: لأنه كان يقول: احذُ على هذا النحو.
(2)
"المفهم" 6/ 549 - 550.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6531]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدثنَا خَالِدٌ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، لَمْ يَزَلْ في خُرْفَةِ الْجَنَّة، حَتى يَرْجعَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) هو: يحيى بن حبيب بن عربيّ، أبو زكريّا البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) - بتقديم الزاي، مصغرًا - العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبت [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ) الْخُرفة، بضم الخاء، وسكون الراء، وفتح الفاء، قال الهرويّ في "غريبه": الخرفة: ما يُختَرف من النخل حين يُدرك ثمره، وقال أبو بكر بن الأنباريّ: شَبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحوزه عائد المريض من الثواب، بما يحوز المخترف من الثمر، وحَكَى الهرويّ عن بعضهم أن المراد بذلك الطريق، فيكون معناه: أنه طريق يؤديه إلى الجنة، كذا في "قوت المغتذي"
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6532]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْب، جَمِيعًا عَنْ يَزِيدَ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَاصِمٍ الأَحوَلُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ أَبُو قِلَابَةَ - عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: "جَنَاهَا").
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 4/ 36.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُوَنَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَاصِمٌ الأَحْوَلُ) هو: عاصم بن سليمان، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ، لم يتكلم فيه إلا القطان، فكأنه بسبب دخوله في الولاية [4] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
5 -
(أَبُو الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ) شَرَاحيل بن آدةَ - بالمدّ، وتخفيف الدال - ويقال: آدةُ جدّ أبيه، وهو ابن شُرَحبيل بن كُلَيب، ثقةٌ [2] شَهِد فتح دمشق (بخ م 4) تقدم في "البيوع" 36/ 4054.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("جَنَاهَا") بفتح الجيم والنون، مقصورًا بوزن الحصى: ما يُجتنى من الثمر، قال الفيّوميّ رحمه الله: جَنَيْتُ الثمرة أَجْنِيهَا، واجْتَنَيْتُها، بمعناه، والجَنَى، مثل الْحَصَى: ما يُجْنَى من الشجر، ما دام غَضًّا، والجَنِيُّ على فَعِيل مثله، وأَجْنَى النخلُ بالألف: حان له أن يُجْنَى، وأَجْنَتِ الأرضُ: كَثُرَ جَنَاهَا. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[5633]
( .. ) - (حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَل، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من
(1)
"المصباح المنير" 1/ 112.
حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن الحارث بن أسماء الفزاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ثمّ دمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
و"عاصم الأحول" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية عن عاصم الأحول هذه لم أجد من ساقها، فلْيُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6534]
(2569) - (حَذَثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ، فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ، فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ، فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ، لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تَسْقِه، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ، وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمِيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبت [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخه فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مرّ القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ) أضاف المرض إليه، والمراد مرض العبد تشريفًا له وتقريبًا، (فَلَمْ تَعُدْني)؛ أي: لم تزرني، بمعنى لم تزر عبدي المريض. (قَالَ) ابن آدم:(يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟) حالٌ مقررٌ للإشكال الذي تضمّنه معنى "كيف"؛ أي: أن العيادة إنما هي للمريض العاجز، وذلك على المالك الحقيقيّ محال، فكيف أعودك، وأنت القادر القاهر القويّ المتين؟
(قَالَ) الله تعالى: (أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه؟ كـ"ألا"، (عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ، فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ)؛ أي: وجدت ثوابي وكرامتي في عيادته، ويدلّ على هذا قوله تعالى في تمام الحديث:"لو أطعمته لوجدت ذلك عندي"، "أَبُو سقيته لوجدت ذلك عندي"؛ أي: ثوابه، قاله النوويّ
(1)
.
وقيل: هذا خرج مخرج التنبيه على شرف المؤمن، والتعريف بحظوته عند ربه، وحثٌّ للخلْق على مواصلة العمل لذاته تعالى، والتحبب إليه، والإحسان لوجهه، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربه أن عيادة المؤمن لأخيه عيادة لله تعالى، من حيث إنها إنما فُعِلت لوجهه، والمجازُ والاستعارةُ في كلامهم باب واسع
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا تنزّل في الخطاب، ولُطف في العِتاب، ومقتضاه التعريف بعظيم فضل ذي الجلال، وبمقادير ثواب هذه الأعمال، ويستفاد منه أن الإحسان للعبيد، إحسان للسادة، فينبغي لهم أن يعرفوا ذلك، وأن يقوموا بحقه. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 126.
(2)
"فيض القدير" 2/ 313.
(3)
"المفهم" 6/ 551.
(يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ، فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ) ابن آدم: (يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟)؛ أي: كيف أطعمك؟ والإطعام إنما يَحتاج إليه الضعيف الذي يتقوّى به، فيقيم به صُلْبه، ويُصلح به عَجْزه، وأنت مربّي العالمين؟ (قَالَ) الله عز وجل:(أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ، لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي) قيل: قال في العيادة: "لوجدتني عنده"، وفي الإطعام، وكذا السقي:"لوجدت ذلك عندي" إشارةً إلى أن الزيارة، والعيادة أكثر ثوابًا منهما، وقال السبكيّ رحمه الله: سرّ ذلك أن المريض لا يروح إلى أحد، بل يأتي الناس إليه، فناسب قوله:"لوجدتني عنده" بخلاف ذينك، فإنهما قد يأتيان لغيرهما من الناس
(1)
.
(يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُكَ)؛ أي: طلبت منك أن تسقيني ماءً (فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟)؛ أي: كيف أسقيك، وإنما يظمأ ويحتاج للشرب العاجز المسكين المحتاج لتعديل أركانه، وطبيعته، وأنك غنيّ، منزهٌ، متعالٍ عن ذلك كله؟ (قَالَ) الله عز وجل:(اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تَسْقِه، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ، وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي")؛ أي: وجدت ثوابه عندي.
وقال الكَلاباذي رحمه الله: جعل الله أوصاف المؤمنين صفته، فقال:"مرضت"، و"استسقيتك"، و"استطعمتك"؛ لأن الوصلة إذا استحكمت، والمودة إذا تأكدت، صار فعل كل واحد من المتواصلين فعل الآخر، وكل ما فعله الحبيب فهو يَسُرّ حبيبه، ألا ترى قيسًا المجنون كان إذا أراد أن يَسْكن ما به ذُكِرت له ليلى، فينجلي ما هو فيه، ويتكلم بأحسن كلام، فيقال له: أتحب ليلى؟ فيقول: لا، فيقال: لم؟ فيقول: المحبة ذريعة الوصلة، وقد وقعت الوصلة، فسقطت الذريعة، فأنا ليلى، وليلى أنا، وقال [من الرمل]:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا
…
نَحْنُ رُوحَانِ حَلَلْنَا بَدَنَا
فَإِذَا أَبْصَرْتُنِي أَبْصَرْتُهُ .... وَإِذَا أَبْصَرْتُهُ كُنْتُ أَنَا
[تتمة]: سئل بعضهم عن تنزلات الحقّ في إضافة الجوع والظمأ لنفسه،
(1)
"فيض القدير" 2/ 313.
هل الأَولى إبقاؤها على ما وردت، أو تأويلها كما أَوَّلها الحقّ لعبده، حين قال: كيف أطعمك
…
إلخ؟.
فقال: الواجب تأويلها للعوامّ؛ لئلا يقعوا في جانب الحقّ بارتكاب محظور، وانتهاك حرمة، وأما العارف فعليه الإيمان بها على حدّ ما يعلمه الله، لا على حدّ نِسبتها للخَلْق؛ لاستحالته، وحقيقتُهُ تعالى مخالفة لسائر الحقائق، فلا يجتمع قط مع خَلْقه في جنس، ولا نوع، ولا شخص، ولا تلحقه صفة تشبيه؛ لأنها لا تكون إلا لمن يجتمع مع خَلْقه في حال من الأحوال، ولذا أبقاها السلف على ظاهرها؛ لئلا يفوتهم كمال الإيمان؛ لأنه ما كلّفهم إلا بالإيمان به، لا بما أوَّلوه، فقد لا يكون مرادًا للحقّ، فالأدب إضافتنا إليه كل ما أضافه لنفسه تعالى، كما قيل: إذا نزل الحق من عزّه إلى منزل الجوع، والمرحمة، فخذه على حدّ ما قاله، فإنّ به تحصل المكرمة، ولا تلقينّه على جاهل، فتحصل في موطن المذمّة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التحقيق الذي ذكره البعض تحقيق نفيسٌ جدًّا، غير قوله: الواجب تأويلها للعوامّ، فإنه مخالف لِمَا كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يلقي هذا الحديث، وأمثاله للعوامّ والخواص من غير فرق، اللَّهُمَّ إلا إن قلنا: إنه لمّا فسدت العقائد، واتّجه الناس اتجاهًا مخالفًا لهدي الكتاب والسُّنَّة، وكَثُر المشبّهون والمشكّكون للناس في عقائدهم كان عدم الإلقاء إلى من يُخاف عليهم أن يفهموا غير الصواب أَولى، كما قال عليّ رضي الله عنه:"حدّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذَّب الله، ورسوله؟ "، رواه البخاريّ، فيمن حمل هذا القول على مثل هذا، وإلا فالأصل أن يُلقى الحديث على الخواصّ والعوامّ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
راجع: "فيض القدير" للمناويّ 2/ 313.
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 6534](2569)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(517)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(269 و 944)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 115)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 534)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): هذا الحديث قد يستشكله بعض الناس، وليس بمُشكِل؛ لأنه حديث مفسَّر بنفسه، فقد فسّر الله عز وجل المرض، والجوع، والعطش تفسيرًا واضحًا لا لَبْس فيه، ولا يُتوهّم معه إلى تشبيه، ولا تمثيل، وأنا أنقل قول المحقّقين في هذا الموضوع - إن شاء الله تعالى -:
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى": وهذا صريح في أن الله سبحانه لم يَمْرَض ولم يَجُع، ولكن مَرِض عبده، وجاع عبده، فجعل جوعه جوعَه، ومرضَه مرضَه، مفسرًا ذلك بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عُدْته لوجدتني عنده، فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل. انتهى
(1)
.
وقال وليد الشعلان في "القواعد المذاعة في مذهب أهل السُّنَّة والجماعة" في الرد على قولهم: إن هذا الحديث معارض للعقل من كل وجه: فإن العقل يوجب لله تعالى صفات الكمال، وهذا الحديث فيه وَصْف الله تعالى بالجوع، والظمأ، والمرض، فالواجب هو اطّراحه، كذا قالوا ولبئس ما قالوا، هذا هو دَأب القوم يجعلون عقولهم الناقصة، وأهواءهم النتنة حاكمة على نصوص الكتاب والسُّنَّة، فأيّ نصّ يعارضها رَمَوا به عُرض الحائط غير آبهين به.
والجواب عما ذكروه أن يقال: الدليل لنا لا لكم؛ فالسند مثل الشمس فقد رواه مسلم، وأما معناه الصحيح، فيفسِّره آخر الحديث، فإن في آخره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أما علمت أن عبدي فلانًا مرض، فلم تَعُدْه؟ أما إنك أَبُو عدته لوجدتني عنده، أما علمت أن عبدي فلانًا، استطعمك فلم تطعمه؟ أما إنك أَبُو أطعمته لوجدت ذلك عندي، أما علمت أن عبدي فلان استسقاك فلم تَسْقِه؟ أما إنك لو أسقيته لوجدت ذلك عندي"، فهذا الكلام فيه تصريح لأهل العقول
(1)
"مجموع الفتاوى" 3/ 44.
السليمة أن الله تعالى لم يَمْرَض ولم يَجُعْ، ولم يَظمأ، وإنما الذي جاع هو المخلوق، والذي عَطِش، واستطعم هو المخلوق، فهذا موافق للعقل السليم أتمّ الموافقة، والفروع على هذه القاعدة كثيرة، وإنما المقصود الإشارة، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الدكتور عبد العزيز آل عبد اللطيف في "تقريرات ابن تيمية في بيان ما يُشكل من الرسالة التدمرية": أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبَّرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه:"عبدي مرضت فلم تَعُدْني، فيقول: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض؟ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده"، فنَفْس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض، وإنما الذي مرض عبده المؤمن .. ومثل هذا لا يُقال: ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قُرن به ما يبيّن معناه، كان ذلك هو ظاهره. انتهى
(2)
.
وقال ابن تيميّة رحمه الله في "كتاب الاستغاثة" بتلخيص ابن كثير له: وأما الخبر الذي استشهد به من قوله: "استطعمتك" فلفظه في الصحيح: "يقول الله تعالى: عبدي جُعْت، فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع؟ فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مَرِضت فلم تَعُدْني، فيقول: رب كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض؟ فلو عُدْته لوجدتني عنده"، وهذا الخبر ليس فيه فِعل للعبد، وإنما فيه جوعه، ومرضه، ولكن ظنّ أن لفظة استطعمتك، وأنه جعل استطعام العبد استطعام الرب، وأيضًا فالخبر مقيَّد لم يُطلق الخطاب إطلاقًا، وإنما بيَّن أن عبده هو الذي مرض، وهو الذي جاع، وقال: لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولم يقل: لَوَجَدْتَنِي أكلتُهُ، وقال: أَبُو عُدْته لوجدتني عنده، ولم يقل لوجدتني إياه، والحديث خطاب مفسَّر مُبَيَّن أن الرب عز وجل ليس هو العبد، ولا صفته صفته،
(1)
"القواعد المذاعة في مذهب أهل السُّنَّة والجماعة" 1/ 10.
(2)
"تقريرات ابن تيمية في بيان ما يُشكل من الرسالة التدمرية" 1/ 39.
ولا فِعله فِعله، أكثر ما فيه استعمال لفظ الجوع والمرض مقيَّدًا مبيّنًا للمراد، فلم يُطلق الخطاب إطلاقًا.
وأيضًا فقد عَلمَ المخاطب أن الرب تعالى لا يجوع، ولا يمرض، فلم يكن فيه تلبيس، لا من جهة السمع، ولا من جهة العقل، بل المتكلم بَيّن فيه مراده، والمستمع له لم يشتبه عليه، بخلاف ما إذا أضيف لفعل العبد الذي يمكن منه الفعل، والفعل قد قام به، فإنه إذا جعل فِعله فِعل الرب لم يعقل هذا، إلا إذا أريد أنه خالقه، وإذا أُريد ذلك فالصواب أن يقال: فِعْل العبد مخلوق للرب تعالى، ومفعول له لا يُطلق أنه فِعله لِمَا فيه من التلبيس، ولمَا فيه من نفي فِعل الرب، ولمَا فيه من نفي كون العبد فاعلًا. انتهى
(1)
.
وقال ابن تيميّة رحمه الله أيضًا في "درء تعارض العقل والنقل": (فإنه لا يجوز لعاقل أن يقول: إن دلالة هذا الحديث مخالفة لعقل ولسمع، إلا من يظن أنه قد دلّ على جواز المرض والجوع على الخالق - ومن قال هذا فقد كذب على الحديث، - ومن قال: إن هذا ظاهر الحديث، أو مدلوله، أو مفهومه، فقد كذب، فإن الحديث قد فسَّره المتكلم به، وبيَّن مراده بيانًا زالت به كل شبهة، وبيَّن فيه أن العبد هو الذي جاع، وأكل، ومرض، وعاده العُوَّاد، وأن الله سبحانه لم يأكل، ولم يُعَدْ)
(2)
.
وفي موضع آخر من "درء تعارض العقل والنقل": (فهذا الحديث قد قَرَن به الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه، وفَسَّر معناه، فلم يَبْقَ في ظاهره ما يدلّ على باطل، ولا يحتاج إلى معارضة بعقل، ولا تأويل، يُصرف فيه ظاهره إلى باطنه بغير دليل شريرّ، فأما أن يقال: إن في كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما ظاهره كُفْر هالحاد من غير بيان من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لِمَا يزيل الفساد، ويبيّن المراد، فهذا هو الذي يقوله أعداء الرسل الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وهو الذي لا يوجد في كلام الله أبدًا)
(3)
.
(1)
كتاب "الاستغاثة". انظر: "تلخيص ابن كثير" له 1/ 344.
(2)
"درء تعارض العقل والنقل" 1/ 150.
(3)
"درء تعارض العقل والنقل" 5/ 233.
وقال أيضًا في "درء تعارض العقل والنقل": (أما النصوص التي يزعمون أن ظاهرها كفر، فإذا تدبرت النصوص وجدتها قد بيّنت المراد، وأزالت الشبهة، فإن الحديث الصحيح لفظه: "عبدي مرضت فلم تَعُدْني، فيقول: كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض؟ فلو عُدْتَه لوجدتني عنده"، فنفس ألفاظ الحديث نصوص في أن الله نفسه لا يمرض، وإنما الذي مرض عبده المؤمن، ومثل هذا لا يقال: ظاهره أن الله يمرض، فيحتاج إلى تأويل؛ لأن اللفظ إذا قُرن به ما يُبيِّن معناه كان ذلك هو ظاهره؛ كاللفظ العامّ؛ إذا قُرن به استثناء، أو غاية، أو صفة؛ كقوله: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14]، وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92]، ونحو ذلك، فإن الناس متفقون على أنه حينئذ ليس ظاهره ألفًا كاملة، ولا شهرين سواءٌ كانا متفرقين، أو متتابعين)
(1)
.
ولمّا احتَجَّ بعض الاتحادية بهذا الحديث ردّ عليهم شيخ الإسلام رحمه الله في رسالة "الرد الأقوم على ما في كتاب فصوص الحكم"، فقال: فقوله: "جعت ومرضت" لفظ اتحاد يثبت الحقّ. وقوله: "لوجدتني عنده ووجدت ذلك عندي" نفي للاتحاد العيني بنفي الباطل وإثبات لتمييز الرب عن العبد. وقوله: "لوجدتني عنده" لفظ ظرف؛ وبكل يثبت المعنى الحقّ من الحلول الحقّ؛ الذي هو بالإيمان لا بالذات، ويفسّر قوله:"مرضت فلم تَعُدْني" فلو كان الرب عين المريض والجائع لكان إذا عاده وإذا أطعمه يكون قد وجده إياه وقد وجده قد أكله، وفي قوله في المريض:"وجدتني عنده" وفي الجائع: "لوجدت ذلك عندي" فرقان حسن؛ فان المريض الذي تُستحب عيادته ويجد الله عنده: هو المؤمن بربه الموافق لإلهه الذي هو وليّه؛ وأما الطاعم فقد يكون فيه عموم لكل جائع يُستحب إطعامه، فإن الله يقول:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فمن تصدق بصدقة واجبة أو مستحبة: فقد أقرض الله سبحانه بما أعطاه لعبده. وقد ثبت في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا
(1)
"درء تعارض العقل والنقل" 5/ 235، 236.
الطيب - فإن الله يأخذها بيمينه، فيربيها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، أو فصيله حتى تكون مثل الجبل العظيم"، وقال: "إن الصدقة لتقع بيد الحق قبل أن تقع بيد السائل"، لكن الأشبه: أن هذا العبد المذكور في الجوع هو المذكور في المرض، وهو العبد الولي الذي فيه نوع اتحاد، وإن كان الله يثيب على طعام الفاسق والذمي. ونظير القرض: النصر في مثل قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] ونحو ذلك لكن النصر فيه معنى؛ لكن لا يقال في مثله: جِعت، فقد ذكر الله في القرآن القرض والنصر وجعله له هذا في الرزق وهذا في النصر، وجاء في الحديث: العيادة، وهذه الثلاثة هي المذكورة في قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] وقوله: {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] وإنما في الحديث أمْر البأساء والضراء فقط؛ لأن ذلك ينفرد به الواحد المخاطَب بقوله: "عبدي مرضت وَجِعت" فلذلك عاتبه. وأما النصر: فيحتاج في العادة إلى عدد؛ فلا يعتب فيه على أحد معيّن غالبًا، أو المقصود بالحديث التنبيه، وفي القرآن النصر والرزق وليس فيه العيادة؛ لأن النصر والقرض فيه عموم لا يختص بشخص دون شخص. وأما العيادة: فإنما تكون لمن يجد الحق عنده.
[فصل]
فهذان المعنيان صحيحان ثابتان بل هما حقيقة الدين واليقين والإيمان.
أما الأول - وهو كون الله في قلبه بالمعرفة والمحبة -: فهذا فرض على كل أحد ولا بد لكل مؤمن منه؛ فإن أدى واجبه فهو مقتصد، وإن ترك بعض واجبه فهو ظالم لنفسه، وإن تركه كله فهو كافر بربه.
وأما الثاني - وهو موافقة ربه فيما يحبه ويكرهه ويرضاه ويسخطه - فهذا على الإطلاق إنما هو للسابِقِين المقرَّبين: الذين تقربوا إلى الله بالنوافل - التي يحبها ولم يفرضها - بعد الفرائض التي يحبها ويفرضها ويعذب تاركها. ولهذا كان هؤلاء لمَّا أتوا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة المنتظمة للمعارف والأحوال والأحمال: أحبهم الله تعالى. فقال: "ولا يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه" فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل مناسب له مناسبة المعلول لعلته، ولا يتوهم أن المراد بذلك: أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله؛ فإن هذا ممتنع، وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة؛ والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف: "قوة المؤمن في قلبه، وضَعْفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه" ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحب"، "وقال: إن بالمدينة لرجالًا، ما سرتم مسيرًا، ولا قطعتم واديًا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر"، وقال: "فهما في الأجر سواء" في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه الذي قال: "لو أن لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل" فإنهما لمّا استويا في عمل القلب، وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد، أو سافر كُتب له من العمل مثل ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم")
(1)
.
وفي رسالة شيخ الإسلام إلى نصر الدين بن المنجى
(2)
قال: (ففسَّرّ ما تكلم به في هذا الحديث أنه جوع عبده ومحبوبه لقوله: "لوجدت ذلك عندي"، ولم يقل: لوجدتني قد أكلته، ولقوله: "لوجدتني عنده" ولم يقل: لوجدتني إياه، وذلك لأن المحب يتّفق هو ومحبوبه بحيث يرضى أحدهما بما يرضاه الآخر، ويأمر بما يأمر به، ويبغض ما يبغضه، ويكره ما يكرهه، وينهى عما ينهى عنه، وهؤلاء هم الذين يرضى الحقّ لرضاهم، ويغضب لغضبهم، والكامل المطلق في هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10]، وقال: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]). انتهى الغرض من كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة: في بحثه المتعلّق بحديث: "عبدي جُعتُ، فلم تُطعمني
…
إلخ".
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من تحقيق شيخ الإسلام رحمه الله،
(1)
"درء تعارض العقل والنقل" 5/ 235، 236.
(2)
(1/ 5).
في تحقيق معنى هذا الحديث - فلقد أعطاه حقّه، ووفّاه مستحقّه، فجزاه الله تعالى خيرًا على ما قام به من خدمة الكتاب والسُّنَّة -.
تبيّن أن الحديث ليس من المتشابه، بل هو واضح المعنى، ظاهر الدلالة، ومبيّنٌ، ومفسّر، وموضّح بنفسه، فلا حاجة إلى التكلّف بالتأويل المتعسّف.
وخلاصة القول: أن المريض، والجائع، والعطشان في هذا الحديث هو العبد، لا الله سبحانه وتعالى، وإنما المعنى: أن العبد لمّا كان محبوبًا لله سبحانه وتعالى كان إطعامه، وسَقْيه، وعيادته كأنما حصلت لله عز وجل، فلا إشكال، ولا التباس، إلا على من لا يتدبّر النصوص على وجهها الصحيح، فتأمل بالإمعان، والإنصاف، والله تعالى أعلم.
(14) - (بَابُ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِ فِيمَا يُصِيبُهُ مِنْ مَرَضٍ، أَو حُزْنٍ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6535]
(2570) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ مَكَانَ الْوَجَعِ: وَجَعًا).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ، وله أوهام [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
6 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير عائشة رضي الله عنهما، فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، الأعمش، وأبو وائل، ومسروق، ورواية الأخيرين من رواية الأقران، فإنهما مخضرمان، وفيه عائشة رضي الله عنهما، وقد مضى القول فيها غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ مَسْرُوقٍ)؛ أنه (قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنهما: (مَا) نافية، (رَأَيْتُ رَجُلًا) ولفظ البخاريّ:"أَحدًا"، (أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ) المراد بالوجع: المرض، والعرب تسمّي كلَّ وجع مرضًا
(1)
، (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "عليه الوجع " مبتدأ، وخبره "أشدُّ
…
إلخ"، والجملة هي المفعول الثاني لـ "رأيتُ"؛ لأنها من نواسخ المبتدأ والخبر. انتهى بتصرّف
(2)
.
قد خَصّ الله تعالى أنبياءه عليه السلام بشدة الأوجاع، والأوصاب؛ لِمَا خَصّهم به من قوة اليقين، وشدة الصبر، والاحتساب؛ لِيَكْمُل لهم الثواب، ويعمّ لهم الخير
(3)
.
وقال القاري: شدّة الموت ليست من المنذرات بسوء العاقبة، بل لرفع الدرجات العالية. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 13/ 18.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1339.
(3)
"عمدة القاري" 21/ 211.
(4)
"شرح سنن ابن ماجه" 1/ 117.
وقال القاضي عياض رحمه الله
(1)
: قولها: "ما رأيت رجلًا أشدّ عليه الوجه من رسول الله صلى الله عليه وسلم" تريد: المرض، والعرب تسمّي كل مرض وجعًا، وهذا يفسّره قوله في الحديث الآخر:"ذلك بأن لك أجرين؟ قال: أجل"، متّفق عليه، وقوله في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه: قال: قلت: يا رسول الله؛ أيّ: الناس أشدّ بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى العبدُ على حَسَب دينه، فإن كان دينه صَلْبًا اشتدّ بلاءه، وإن كان في دينه رِقّة ابتُلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما به خطيئةٌ"، رواه الترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وقال الترمذيّ: حديث حسن صحيح، وصححه ابن حبّان.
وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه؛ أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مَوْعُوك، عليه قطيفة، فوضع يده عليه، فوجد حرارتها فوق القطيفة، فقال أبو سعيد: ما أشدّ حُمّاك يا رسول الله؟ قال: "إنا كذلك يشتدّ علينا البلاء، ويضاعَف لنا الأجر"، فقال: يا رسول الله أيّ الناس أشدّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الصالحون، وقد كان أحدهم يُبتلَى بالفقر، حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، فيلبسها، ويبتلى بالقمل، حتى يقتله، ولَأحدهم كان أشدّ فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء"
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ عُثْمَانَ)؛ أي: ابن أبي شيبة شيخ الأول، (مَكَانَ الْوَجَعِ: وَجَعًا) بيّن به اختلاف شيخيه، فقال عثمان:"وجعًا" بالتنكير بدل قول إسحاق: "الوجع" بالتعريف.
وقال في "المشارق": قوله: "وفي رواية عثمان مكان الوجع: وجعًا" فيه نقصٌ، وتمامه مكان "عليه الوجع": وجعًا، فتأتي رواية عثمان: ما رأيت أحدًا أشدّ وجعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يستقيم الكلام، وعلى لفظ الكتاب يكون أشدّ عليه وجعًا، وليس هو وجه الكلام. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 40.
(2)
حديث صحيح، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" 1/ 179.
(3)
"مشارق الأنوار" 2/ 403.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6535 و 6536](2570)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5646)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2399)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1622)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 181)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 207)، وفوائد الحديث تأتي في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه الآتي، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6536]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ (ح) وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَام، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَش، بإسنادِ جَرِيرٍ، مِثْلَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغرِب [10](3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد الأربعين ومائتين (م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
4 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
5 -
(مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ) الْخَثْعميّ مولاهم، أبو عبد الله الكوفيّ، صدوقٌ، له أوهام [9](ت 203)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"محمد بن جعفر" هو غندر، و"عبد الرحمن" هو ابن مهديّ، و"سفيان" هو الثوريّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة: معاذ بن معاذ، وابن أبي عديّ، ومحمد بن جعفر غُندر رووا هذا الحديث عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ) ضمير التثنية لعبد الرحمن بن مهديّ، ومصعب بن المقدام، فكلاهما رويا هذا الحديث عن سفيان الثوريّ، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنهما.
[تنبيه]: رواية شعبة، عن الأغمش ساقها البخاريّ رحمه الله فقال:
(5322)
- حدّثني بِشْر بن محمد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشةوإنها قالت: ما رأيت أحدًا أشدّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
ورواية عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان الثوريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(25520)
- حدّثنا عبد الرحمن، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن مسروق، عن عائشة، قالت: ما رأيت إنسانًا قطّ أشدّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
ورواية مصعب بن المقدام، عن سفيان ساقها ابن ماجه رحمه الله بسند المصنّف، فقال:
(1622)
- حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، ثنا مُصعب بن الْمِقدام، ثنا سفيان، عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق، قال: قالت عائشة: ما رأيت
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2138.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 181.
أحدًا أشدّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6537]
(2571) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُويدٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُوعَكُ، فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كلمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ"، قَالَ: فَقُلْتُ: ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصِيبُهُ أَذًى، مِنْ مَرَضٍ، فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيَئَاتِه، كَمَا تَحُط الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِي) هو: إبراهيم بن يزيد بن شَريك أبو أسماء الكوفيّ، العابد، ثقةٌ، إلا أنه يرسل، ويدلّس [5](ت 92) وله أربعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
2 -
(الْحَارِثُ بْنُ سُويدٍ) التيميّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ ثبت [2] مات بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الأشربة" 6/ 5161.
3 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لاختلافهم في كيّفيّة التحكّم والأداء، كما أوضحته غير مرّة، وأنه
(1)
"سنن ابن ماجه" 1/ 518.
مسلسل بالكوفيين، سوى شيخيه: زهير، فبغداديّ، وإسحاق، فمروزيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه عبد الله مهملًا، وقد قدّمنا أن القاعدة أن السند إذا كوفيًّا، فهو ابن مسعود رضي الله عنه، وقد ذكر تلك القاعدة السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر"، فقال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ عَبْدُ اللَّهِ فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَو جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
وفيه ابن مسعود رضي الله عنه أحد السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، وأمَّره عمر رضي الله عنهما على الكوفة.
شرح الحديث:
(عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُويدٍ) التيميّ الكوفيّ، وقد قدّمت في "الأشربة" 6/ 5161 أن له في هذا الكتاب أربعة أحاديث فقط. (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُوعَكُ) وفي رواية للبخاريّ:"أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه"، والوَعْك - بفتح الواو، وسكون العين المهملة، وقد تُفتح -: الْحُمَّى، وقيل: ألَمُ الْحُمّى، وقيل: تَعَبها، وقيل: إرعادُها الموعوكَ، وتحريكها إياه، وعن الأصمعيّ: الوعك: الحرّ، فإن كان محفوظًا، فلعل الْحُمَّى سُمِّيت وَعْكًا؛ لحرارتها، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "وهو يوعك" جملة حالية، بفتح العين، يقال: وُعِك الرجلُ يوعَك، فهو موعوك، والوَعْك بسكون العين، وفتحها: الْحُمَّى، وقيل: ألَمُها وتَعَبها، وقال صاحب "المطالع": الوعك قيل: هو إرعاد الحمَّى، وتحريكها إياه، وقال الأصمعيّ: الوعك شدّة الحرّ، فكانه أراد حرّ الحمى، وشدّتها، وفي "المحكم": الوعك: الألم يجده الإنسان من شدّة التعب. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ: الوعك: تمريغ الحمّى، وهو ساكن العين، يقال: وعكته
(1)
"الفتح" 13/ 19، كتاب "المرضى" رقم (5648).
(2)
"عمدة القاري"21/ 212.
الحمّى تَعِكه وعكًا، فهو موعوك، وأوعكتِ الكلابُ الصيدَ، فهو مُوعَكٌ: إذا مرّغته في التراب، والوعكة: السقطة الشديدة في الجري، والوعكة أيضًا: معركة الأبطال في الحروب. انتهى
(1)
.
(فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي) بكسر السين الأولى، وفَتْحها، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَسِسْتُهُ، من باب تَعِبَ، وفي لغة مَسَسْتُهُ مَسًّا، من باب قَتَلَ: أفضيت إليه بيدي، من غير حائل، هكذا قيَّدوه، والاسم: المَسِيسُ، مثل كَرِيم، ومَاسَّهَا مُمَاسَّة كذلك، ومَسَّتِ الحاجةُ إلى كذا: ألجأت إليه، ومَاسَّهُ مُمَاسَّةً، ومِسَاسًا، من باب قاتل: بمعنى مَسَّهُ، وتَمَاسَّا: مسّ كلُّ واحد الآخرَ، ومَسَّ الماءُ الجسدَ مَسًّا: أصابه، ويتعدى إلى ثانٍ بالحرف، وبالهمزة، فيقال: مَسِسْتُ الجسدَ بماء، وأَمْسَسْتُ الجسدَ ماءً. انتهى
(2)
.
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ) كَنَعَم وزنًا ومعنًى، (إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ"، قَالَ) عبد الله: (فَقُلْتُ: ذَلِكَ) إشارة إلى تضاعف الْحُمَّى، (أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟) بفتح همزة "أنّ" بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأن لك أجرين، ويَحْتَمِل أن يكون بكسرها على أن الجملة تعليليّة، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أَجَلْ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا مِنْ مُسْلِمٍ) "ما" نافية، و"من" زائدة، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّْ
…
نَكِرَةً كَـ "كَمَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّْ"
وقوله: (يُصِيبُهُ أَذًى) جملة في محل رفع صفة لـ "مسلم"، قال ابن العربيّ: وذِكر الأذى عبارة عما يظهر على البدن، من آثار الآلام الباطنة، من نحو تغيير لون، أو يصيبه من الأعراض الخارجة، من نحو جرح
(3)
، وقوله:(مِنْ مَرَضِ) بيان لـ "أذى"، (فَمَا سِوَاهُ)؛ أي: غير المرض، من الهمّ، والحزن، وغير ذلكَ، ففي حديث أبي سعيد، وأبي هريرة الآتي:"مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ". (إِلَّا حَطَّ)؛ أي: أزال (اللهُ) سبحانه وتعالى (بِهِ)؛ أي: بسبب ما أصابه مما ذُكر،
(1)
"المفهم" 6/ 544.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 572.
(3)
"فيض القدير" 1/ 518.
(سَيِّئَاتِهِ) منصوب على المفعوليّة لـ "حَطَّ"، (كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا") قال الطيبيّ رحمه الله: شبّه حال المريض، وإصابة المرض جسده، ثم محو السيئات عنه سريعًا بحالة الشجرة، وهبوب الرياح الخريفيّة، وتناثر الأوراق منها سريعًا، وتجرّدها عنها، فهو تشبيهٌ تمثيليّ؛ لانتزاع الأمور المتوهّمة في المشبّه من المشبَّه به، فوجه التشبيه الإزالة الكليّة على سبيل السرعة، لا الكمال والنقصان؛ لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله، وإزالة الأوراق عن الشجرة سبب نقصانها. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "إلا كفّر الله بها سيّئاته، كما تحطّ الشجرة ورقها"، قال في "الفتح": معنى قوله: "أذًى، شوكةٌ" التنوين فيه للتقليل، لا للجنس؛ ليصحّ ترتّب فوقها ودونها في العِظَم، والحقارة عليه بالفاء، وهو يَحْتَمِل فوقها في العظم، ودونها في الحقارة، وعكسه.
وقوله: "كما تحُطّ" بفتح أوله، وضم المهملة، وتشديد الطاء المهملة؛ أي: تُلقيه منتثرًا.
والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتدّ ضاعف الأجر، ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها.
أو المعنى قال: نَعَم شدّة المرض ترفع الدرجات، وتحط الخطيئات أيضًا، حتى لا يبقى منها شيء، ويشير إلى ذلك حديث سعد بن أبي وقاص الذي تقدّم ذكره:"حتى يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة". ومثله حديث أبي هريرة، عند أحمد، وابن أبي شيبة، بلفظ:"لا يزال البلاء بالمؤمن، حتى يلقى الله، وليس عليه خطيئة، قال أبو هريرة: ما من وجع يصيبني أحب إليّ من الحمى، إنها تدخل في كل مَفْصِل من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطه من الأجر"
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ أيضًا: "ما من مسلم يصيبه أذى، إلا حاتّ الله عنه خطاياه، كما تحاتّ ورق الشجر"، وقوله:"حاتّ الله" بفتح الحاء المهملة،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1339.
(2)
"الفتح" 13/ 19، كتاب "المرضى" رقم (5648).
وبعد الألف تاء مثناة مشدّدة، وهو من باب المفاعلة، وأصله حاتت، فأُدغمت التاء في التاء؛ أي: نثر الله عنه خطاياه، يقال: تحاتّ الشيءُ؛ أي: تناثر، قوله:"كما تحات"؛ أي: كما يسقط ورق الشجر، وقال ابن الأثير: حاتت عنه ذنوبه؛ أي: تساقطت.
وقال الكرمانيّ: فإن قلت: هذا يدلّ على ما صدّقه بقوله: "أجل
…
إلخ"، يدلّ على أن في المرض زيادة الحسنات، وهذا يدلّ على أنه يحطّ الخطيئات.
قلت: أجل تصديق لذلك الخبر، فصدقّه أوّلًا، ثم استأنف الكلام، وزاد عليه شيئًا آخر، وهو حطّ السيئات، فكأنه قال: نعم يزيد الدرجات، ويحطّ الخطيئات أيضًا.
واختَلَف العلماء فيه، فقال أكثرهم: فيه رفع الدرجة، وحطّ الخطيئة، وقال بعضهم: إنه يكفّر الخطيئة فقط، ذكره في "العمدة"
(1)
.
وقوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ: فَمَسِسْتُهُ بِيَدِي) أشار به إلى اختلاف شيوخه، ففي رواية عثمان، وإسحاق:"فمسسته بيدي"، وليس هذا في رواية زهير، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: ذكر الدارقطنيّ رحمه الله في "العلل" الاختلاف في حديث ابن مسعود هذا، ونصّ "العلل":
(785)
- وسئل عن حديث علقمة، عن عبد الله:"دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه ليوعك، فقلت: ما أشدّ حُمّاك؟ فقال: إني لأوعك كما يوعك رجلان منكم، أما إنه ليس من عبد، ولا أمة، يَمْرَض مرضًا إلا حطّ الله بها خطاياه، كما تتحاتّ عن الشجرة ورقها".
فقال: يرويه الأعمش، واختُلف عنه، فرواه النضر بن إسماعيل، عن
(1)
"عمدة القاري" 21/ 212.
الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، ورواه شَريك، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن الأسود وهمام، عن عبد الله، قال ذلك يزيد بن هارون، عن شريك، ورواه عمرو بن عبد الغفار، عن الأعمش، عن خيثمة، عن عبد الله.
ورواه أبو معاوية، وجرير، وعَبِيدة بن حُميد، وابن فضيل، وعيسى بن يونس، والثوريّ، وابن نُمير، ويعلى بن عُبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله، وهو الصحيح. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما ذكره الدارقطنيّ رحمه الله أن رواية مسلم من طريق جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله رضي الله عنه، صحيحة؛ لاتفاق هؤلاء الحفّاظ الثمانية الذين ذكرهم آنفًا عليها، وما خالفها فهو ضعيف، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6537 و 6538](2571)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5647 و 5648 و 5660 و 5661 و 5667)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 381 و 441 و 455)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 440)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(1/ 241)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 81)، و (الدارميّ) في "سننه"(6/ 312)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2937)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 99)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 128)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(2/ 207 و 208)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 372) وفي "شُعَب الإيمان"(7/ 141)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1431 و 1432)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان رفعة قَدْر النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، حيث ضاعف له الأجر بمرضه، قال القرطبيّ رحمه الله: ومضاعفة المرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ليضاعف له الأجر في الآخرة، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "أشدّ الناس بلاء
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 153 - 154.
الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه"، وفي الحديث الآخر: "نحن معاشر الأنبياء يشتدّ علينا البلاء، ويعظم لنا الأجر". انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن البلاء بالنسبة للمؤمن نعمة من الله عز وجل ينبغي أن يشكره عليه، فلذا كان الأنبياء أشدّ الناس بلاء؛ لِمَا لهم به من الزلفى والقرب من ربهم عز وجل.
3 -
(ومنها): أن الأمراض ونحوها ترفع الدرجات، كما تحطّ الخطيئات، فتجمع بين الاثنين، كما هو رأي الجمهور، وخالف في ذلك بعضهم، فجعلها للحطّ فقط، والصواب الأول.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: في الحديث دلالة على أن القويّ يَحْمِل ما حُمِّل، والضعيف يُرفَق به، إلا أنه كلما قويت المعرفة بالمبتلي هان عليه البلاء، ومنهم من ينظر إلى أجر البلاء، فيهون عليه البلاء، وأعلى من ذلك درجة مَن يرى أن هذا تصرّف المالك في مُلكه، فيُسَلِّم، ولا يعترض، وأرفع منه من شغلته المحبة عن طلب رفع البلاء، وأنهى المراتب من يتلذذ به؛ لأنه عن اختياره نشأ، والله أعلم. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذه الأحاديث بشارةٌ عظيمةٌ للمسلمين، فإنه قلما ينفكّ الواحد منهم ساعةً من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض، والأسقام، ومصائب الدنيا، وهمومها، وإن قَلّت مشقتها، وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور، وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء، وحَكَى القاضي عياض عن بعضهم أنها تكفّر الخطايا فقط، ولا ترفع درجة، ولا تكتب حسنة، قال: ورُوي نحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: الوجع لا يُكتب به أجر، لكن تُكَفّر به الخطايا فقط، واعتَمَد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا، ولم تبلغة الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرِّحة برفع الدرجات، وكَتْب الحسنات.
قال العلماء: والحكمة في كون الأنبياء أشدّ بلاءً، ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر، وصحة الاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة
(1)
"المفهم" 6/ 544.
(2)
"كشف المشكل" 1/ 287.
من الله تعالى؛ لِيُتِمّ لهم الخيرَ، ويُضاعِف لهم الأجر، ويُظهر صبرهم، ورضاهم. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أن البخاريّ ترجم في "صحيحه" بقوله: "باب أشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وللنسفيّ:"الأول، فالأول"، وجَمَعهما المستملي، والمراد بالأول: الأولية في الفضل، والأمثل أفعل من المثالة، والجمع أماثل، وهم الفضلاء، وصَدْر هذه الترجمة لفظ حديث، أخرجه الدارميّ، والنسائيّ في "الكبرى"، وابن ماجه، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، والحاكم، كلهم من طريق عاصم بن بَهْدلة، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، "قال: قلت: يا رسول الله؛ أيُّ: الناس أشدّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه .. " الحديث، وفيه: "حتى يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة"، أخرجه الحاكم من رواية العلاء بن المسيَّب، عن مصعب أيضًا، وأخرج له شاهدًا من حديث أبي سعيد، ولفظه: "قال: الأنبياء، قال: ثم من؟ قال: العلماء، قال: ثم من؟ قال: الصالحون. . ." الحديث، وليس فيه ما في آخر حديث سعد، ولعل الإشارة بلفظ "الأول، فالأول" إلى ما أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان، أخت حذيفة: "قالت: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في نساء نَعُوده، فإذا بسقاء يقطر عليه من شدّة الحمى، فقال: إن من أشدّ الناس بلاءً الأنبياءَ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
قال: ووجه دلالة حديث الباب على الترجمة
(2)
من جهة قياس الأنبياء على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإلحاق الأولياء بهم؛ لِقُرْبهم منهم، وإن كانت درجتهم منحطة عنهم، والسرّ فيه أن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، كان بلاؤه أشدّ، ومِن ثم ضوعف حدّ الحرّ على العبد، وقيل لأمهات المؤمنين:{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30]. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 128 - 129.
(2)
يعني: الحديث أخرجه مسلم هنا.
(3)
"الفتح" 13/ 18 - 20.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "أشدّ الناس بلاءً الأنبياء"؛ أي: مِحْنةً، ويُطلق على المنحة، لكن المراد هنا بقرينة السياق: المحنة، فإن أصله الاختبار، لكن لمّا كان اختبار الله تعالى لعباده تارةً بالمحنة، وتارة بالمنحة، أُطلق عليهما.
وقوله: "الأنبياء": المراد بهم ما يشمل الرسل، وذلك لتتضاعف أجورهم، وتتكامل فضائلهم، ويظهر للناس صبرهم ورضاهم، فيُقتدَى بهم، ولئلا يُفتتن الناس بدوام صحتهم، فيعبدوهم. وقوله:"ثم الأمثل، فالأمثل"؛ أي: الأشرف، فالأشرف، والأعلى، فالأعلى؛ لأن البلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعمة الله عليه أكثر، فبلاؤه أشدّ، ولهذا ضوعف حدّ الحرّ على العبد، فهم مُعَرَّضون للمحن، والمصائب، وضُروب المنغّصات والمتاعب، قال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} الآية [البقرة: 155].
وقال بعضهم: جَعَل مقام المبتلى يلي مقام النبوة، ولم يفصل بين بلاء الأبدان، وبلاء الأعراض، فيشمل كل ما يتأذى به الإنسان.
قال الطيبيّ: و"ثُمّ" للتراخي في الرتبة، والفاء للتعاقب على سبيل التوالي تنزّلًا من الأعلى إلى الأسفل.
وقوله: "يُبتلَى الرجل" بيان للجملة الأُولى، والتعريف في "الأمثل" للجنس، وفي "الرجل" للاستغراق في الأجناس المتوالية، "على حسب دينه"؛ أي: بقدر قوّة إيمانه، وشدّة إيقانه، وضَعْف ذلك، "فإن كان في دينه صلبًا"؛ أي: قويًّا، "اشتد بلاؤه"؛ أي: عَظُم للغاية، "وإن كان في دينه رِقّة"؛ أي: ضَعف، وليْن، "ابتلي على قدر دينه"؛ أي: ببلاء هَيِّن لَيِّن، والبلاء في مقابلة النعمة، كما مرّ، ومن ثم قيل لأمهات المؤمنين:{يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)} [الأحزاب: 30]، "فما يبرح البلاء بالعبد"؛ أي: الإنسان، "حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة" كناية عن سلامته من الذنوب، وخلاصه منها؛ كأنه كان محبوسًا، فامع طلق، وخُلِّي سبيله، فهو يمشي، وما عليه بأس، ومن ظن أن شدّة البلاء هوان بالعبد، فقد ذهب لبّه، وعَمِي قلبه، فقد ابتُلي من الأكابر ما لا يحصى.
ألا ترى إلى ذبح نبيّ الله يحيى بن زكريا، وقَتْل الخلفاء الثلاثة، والحسين، وابن الزبير، وابن جبير، وقد ضُرِب أبو حنيفة، وحُبس، ومات بالسجن، وجُرِّد مالك، وضُرب بالسياط، وجُذبت يده، حتى انخلعت من كتفه، وضُرب أحمد، حتى أغمي عليه، وقُطّع من لحمه، وهو حيّ، وأُمر بصَلْب سفيان، فاختفى، ومات البويطيّ مسجونًافي قيوده، ونُفي البخاريّ من بلده، ومات ابن تيميّة في السجن، إلى غير ذلك مما يطول
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6538]
(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَاق، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، كلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَش، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، نَحْوَ حَدِيثِه، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ: قَالَ: "نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم - بمعجمتين - الضرير الكوفيّ، عَمِي وهو صغير، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، وقد رُمِي بالإرجاء، من كبار [9](ت 195) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همَّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نَزَل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل: سنة إحدى وتسعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
(1)
"فيض القدير" 1/ 518 - 519 بزيادة، وتغيير يسير.
6 -
(يَحْيَى بْن عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ) - بفتح الغين المعجمة، وكسر النون، وتشديد التحتانية - الْخُزَاعيّ، أبو زكريّا الكوفيّ، أصله من أصبهان، صدوقٌ، له أفراد، من كبار [9].
رَوَى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، والأعمش، وهشام بن عروة، وأبي حيان التيميّ، والثوريّ، وغيرهم.
وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معين، وسُريج بن يونس، وأبو بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان شيخًا ثقة، له هيئة رجلًا صالِحًا، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ثقةٌ، وقال العجليّ: ثقةٌ، رجلٌ صالح، حدّثني أبي، قال: قيل ليحيى بن عبد الملك: دواء عينيك تَرْك البكاء، قال: فما خيرهما إذًا، قال أبو داود: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وأبوه ثقةٌ، وقال ابن عديّ: بعض حديثه لا يتابَع عليه، وهو ممن يُكتب حديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات".
قال الواقديّ: مات سنة ست، أو سبع وثمانين ومائة، وكان ثقةً صالحَ الحديث، وقال مطين: مات سنة ثمان وثمانين.
أخرج له البخاريّ، وقَرَنه بغيره، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكِروا في الباب وقبله، و"سفيان" هو الثوريّ.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: كل هؤلاء الأربعة: أبو معاوية، وسفيان وعيسى بن يونس، ويحيى بن عبد الملك رووا هذا الحديث عن الأعمش، عن جرير بن عبد الحميد، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(10800)
- حدّثنا
(1)
أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدّثنا أبو معاوية، عن
(1)
هذا قول الراوي عن ابن أبي شيبة، فتنبّه.
الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله قال: دخلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو يُوعَك، قال: فمسسته، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وَعْكًا شديدًا؟، فقال:"أَجَلْ، إني أُوعك كما يوعك رجلان منكم"، فقلت: لأن لك الأجر مرتين؟ فقال: "نعم، والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلم، يصيبه أَذى، فما سواه، إلا حَطّ الله به عنه خطاياه، كما تَحُطّ الشجرة ورقها". انتهى
(1)
.
وقد ساقها النسائيّ في "الكبرى" بسند مسلم هنا، فقال:
(7503)
- أخبرنا محمد بن العلاء، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك، فمسسته، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وَعْكًا شديدًا؟ فقال: "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، وفي الحديث: قلت: إن لك لأجرين؟ قال: "نعم، والذي نفسي بيده، ما على الأرض مسلم، يصيبه أَذى، من مرض، فما سوى ذلك، إلا حَطّ الله عنه خطاياه، كما تحطّ الشجرة ورقها". انتهى
(2)
.
وأما رواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5337)
- حدّثنا قَبِيصة، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرضه، فمسسته، وهو يوعك وَعْكًا شديدًا، فقلت: إنك لتوعك وَعْكًا شديدًا، وذلك أن لك أجرين؟ قال:"أَجَلْ، وما من مسلم، يصيبه أَذى، إلا حاتت عنه خطاياه، كما تحات ورق الشجر"، وفي لفظ:"إلا حاتّ الله عنه خطاياه، كما تحات ورق الشجر". انتهى
(3)
.
وأما رواية عيسى بن يونس، ويحيى بن عبد الملك كلاهما عن الأعمش،
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 440.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 357.
(3)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2143.
فساقها أبو نعيم في "الحلية" وذكر معهما جريرًا
(1)
، فقال: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة بن عمارة، ثنا أبو يعلى، ثنا عبد الغفار بن عبد الله، ثنا عليّ بن مُسهر (ح) وحدّثنا أبو أحمد محمد بن أحمد، ثنا عبد الله بن شيرويه، ثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا عيسى بن يونس، وجرير، ويحيى بن عبد الملك، قالوا: عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يوعك وَعْكًا شديدًا، فمسسته، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكًا شديدًا؛ قال:"إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قال: قلت: ذلك بأن لك أجرين؟ قال: "وذاك بذاك - ثم قال -: ما من مسلم يصيبه أذًى، من شوك، فما سواه، إلا حَطّ الله عنه خطاياه، كما تَحُطّ الشجرة ورقها"، قال: لفظ أبي يعلى. انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6539]
(2572) - (حَدَّثنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَد، قَالَ: دَخَلَ شَبَابٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى عَائِشَةَ، وَهِيَ بِمِنًى، وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَتْ: مَا يُضْحِكُكُمْ؟ قَالُوا: فُلَانٌ خَرَّ عَلَى طُنُبِ
(2)
فُسْطَاطٍ، فَكَادَتْ عُنُقُهُ، أَو عَيْنُهُ أَنْ تَذْهَبَ، فَقَالَتْ: لَا تَضْحَكُوا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً
(3)
، فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمِر بن عبد الله السلَمِيّ، أبو عَتّاب - بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة - الكوفي، ثقةٌ ثبث، وكان لا يدلّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ،
(1)
أي: وذكر لهم أيضًا عليّ بن مسهر متابعًا.
(2)
وفي نسخة: "عن طنب".
(3)
وفي نسخة: "بشوكة".
ثقةٌ، فقيهٌ، إلا أنه يرسل كثيرًا [5](ت 96) وهو ابن خمسين، أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
3 -
(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس بن عبد الله النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثز فقيهٌ [2] مات سنة أربع، أو خمس وسبعين (ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى شيخيه، وعائشة رضي الله عنهما، كما تقدّم قريبًا، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض على من يقول إن منصورًا تابعيّ صغير، وفيه عائشة رضي الله عنها، تقدّم القول فيها.
شرح الحديث:
(عَنِ الأَسْوَدِ) بن يزيد النخعيِّ؛ أنه (قَالَ: دَخَلَ شَبَابٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفهم، ولا الذي خرّ على الطنب. انتهى
(1)
. (مِنْ قُرَيْشٍ)؛ أي: هؤلاء الشباب من قبيلة قريش، (عَلَى عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنهما، وقوله:(وَهِيَ بِمِنًى) جملة حاليّة، وكذا قوله:"وهم يضحكون"، و"منى" يجوز صرفه باعتبار المكان، وعدمه باعتبار البقعة، وهو من الأماكن التي سُمع فيها الوجهان، قال الحريريّ في "مُلحته":
وَلَيْسَ مَصْرُوفًا مِنَ الْبِقَاعٍ
…
إِلَّا بِقَاعٌ جِئْنَ فِي السَّمَاعِ
مِثْلُ حُنَيْنٍ وِمِنًى وَبَدْرِ
…
وَوَاسِطٍ وَدَابِقٍ وَحِجْرِ
(وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما: (مَا يُضْحِكُكُمْ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء يحملكم على الضحك؟ (قَالُوا: فُلَان) تقدّم أنه لا يُعرف، (خَرَّ) من باب قَعَد؛ أي: سقط (عَلَى طُنُبِ فُسْطَاطٍ) ووقع في بعض النسخ: "عن طنب فسطاط"، و"الطنب" بضمّ النون، وإسكانها: هو الحبل الذي يُشَدّ به الفُسطاط، وهو الخباء، ونحوه، ويقال: فُستاط، بالتاء بدل الطاء، وفُسّاط،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 429.
بحذفها، مع تشديد السين، والفاء مضمومة، ومكسورة فيهنّ، فصارت ستّ لغات، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الطُّنُبُ بضمتين، وسكونُ الثاني لغةٌ: الحبل، تُشَدّ به الخيمة، ونحوها، والجمع أَطْنَابٌ، مثل عُنُق وأعناق، قال ابن السرّاج في موضع من كتابه: ولا يُجمع على غير ذلك، وقال في موضع: قالوا: عُنُقٌ وأَعْنَاق، وطُنُبٌ وأَطْنَابٌ، فيمن جمع الطُّنُبَ، فأفهم خلافًا في جواز الجمع، وأنه يُستعمل بلفظ واحد للمفرد والجمع، وعليه قوله [من البسيط]:
إِذَا أَرَادَ انْكِرَاسًا فِيهِ عَنَّ لَهُ
…
دُونَ الأُرُومَةِ مِنْ أَطْنَابِهَا طُنُبُ
فجَمَع بين اللغتين، فاستعمله مجموعًا ومفردًا، بنيّة الجمع. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ أيضًا: الِفُسْطَاطُ بضم الفاء، وكسرها: بيت من الشَّعْر، والجمع فَسَاطِيطُ، والِفُسْطَاطُ بالوجهين أيضًا: مدينة مصر قدِيْمًا، وبعضهم يقول: كلُّ مدينة جامعة فُسِطْاَطٌ، ووزنه فُعلالٌ، وبابه الكسر، وشذّ من ذلك ألفاظ جاءت بوجهين: الِفُسطَاطُ، والقُسطاس، والِقُرْطَاسُ. انتهى
(3)
.
(فَكَادَتْ عُنُقُهُ) بضمّتين، أو بضمّ، فسكون، قال الفيّوميّ: العُنُقُ: الرقبة، وهو مذكَّرٌ، والحجاز تؤنث، فيقال: هي العنق، والنون مضمومة للإتباع، في لغة الحجاز، وساكنة في لغة تميم، والجمع أَعْنَاق. انتهى
(4)
.
(أَو عَيْنُهُ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، (أَنْ تَذْهَبَ) اقتران خبر "كاد" بـ "أن" جائز، وإن كان الأغلب أن لا يقترن، كما في قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71]، قال في "الخلاصة":
وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى". . . نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا
(فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما: (لَا) ناهية، ولذا جُزم بها الفعل بعدها، (تَضْحَكُوا، فَإِنِّي) الفاء تعليليّة؛ أي: إنما نهيتكم عن الضحك؛ لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ) تقدّم أن "ما" نافية، و"من" زائدة، (مُسْلِمٍ) مبتدأ، وقوله:(يُشَاكُ) جملة في محلّ رفع صفة لـ "مسلم"، وقوله:(شَوْكَةً) قال المناويّ: أي
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 128.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 378 - 379.
(3)
"المصباح المنير"2/ 472.
(4)
"المصباح المنير"2/ 432.
أَلَم جَرْح شوكة، قال القاضي: والشوكة هنا المرّة من شاكه، ولو أراد واحدة النبات لقال: يشاك بها، والدليل على أنها المرّة من المصدر جَعْلُها غايةً للمعاني. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الظاهر أن المراد بالشوكة هنا النبات، يدلّ على ذلك ما وقع في بعض النسخ بلفظ:"بشوكة"، والله تعالى أعلم.
(فَمَا فَوْقَهَا) يَحْتَمل أن يكون المعنى: فما فوق الشوكة في العِظَم، وأن يكون فما فوقها في الدقّة، والحقارة، (إِلَّا كُتِبَتْ) بالبناء للمفعول، (لَهُ بِهَا)؛ أي: بسبب الشوكة، (دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ) بالبناء للمفعول أيضًا، (عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ") وفي رواية:"إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة"، وفي بعض النسخ:"وحط عنه بها" وفي رواية: "إلا كتب الله له بها حسنة، أو حُطَّت عنه بها خطيئة"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا متّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6539 و 6540 و 6541 و 6542 و 6543 و 6544 و 6545](2572)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5640)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(965)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 353)، و "مالك" في "الموطّأ"(2/ 941)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 197)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 442)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 39 و 48 و 88 و 167 و 185 و 203 و 248 و 257 و 261 و 279)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2906 و 2919 و 2925)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 19)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 137)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 373 و 374) و"شُعَب الإيمان"(7/ 156)، و "البغويّ" في "شرح السُّنَّة"(1422)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"فيض القدير" 5/ 497.
1 -
(منها): بيان فضل المصيبة للمسلم حيث إنها تُكفَّر بها خطاياه، وتُرفع بها درجاته، قال القرطبيّ رحمه الله: ومقصود هذه الأحاديث أن الأمراض، والأحزان، وإن دقّت، والمصائب، وإن قلّت، أُجِر المؤمن على جميعها، وكُفِّرت عنه بذلك خطاياه، حتى يمشي على الأرض، وليست له خطيئة، كما جاء في الحديث الآخر، لكن هذا كله إذا صبر المصاب، واحتسب، وقال ما أمر الله تعالى به في قوله:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 156]، فمن كان كذلك وصل إلى ما وعد الله تعالى به، ورسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أنه لا ينبغي الضحك من مسلم وقع منه مثل هذا، إلا أن يحصل غلبة، لا يمكن دَفْعه، وأما تعمّده فمذموم؛ لأن فيه شماتةً بالمسلم، وكسرًا لقلبه، قاله النوويّ رحمه الله
(2)
.
3 -
(ومنها): بيان أن هذا الفضل خاصّ بالمسلم، فليس للكافر فيه نصيب، بل هي بشرى عظيمة للمسلم؛ لأنه لا يخلو عن كونه متأذيًا بمصائب طول حياته، ففي كلّ مصيبة حطّ لخطيئته، ورَفْع لدرجته، فما أعظم النِّعَم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي هذا الحديث تعقُّب على الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام حيث قال: ظنّ بعض الجهلة أن المُصاب مأجور، وهو خطأ صريح، فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا.
ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقَدْر زائد، يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة.
قال القرافيّ: المصائب كفّارات جزمًا سواءٌ اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عَظُم التكفير، وإلا قلّ، كذا قال، والتحقيق أن المصيبة
(1)
"المفهم" 6/ 546.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 128.
كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عُوِّض عن ذلك من الثواب بما يوازيه.
وزعم القرافيّ أنه لا يجوز لأحد أن يقول للمصاب: جعل الله هذه المصيبة كفارةً لذنبك؛ لأن الشارع قد جعلها كفارةً، فسؤال التكفير طلب لتحصيل الحاصل، وهو إساءة أدب على الشارع، كذا قال، وتُعُقّب بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع؛ كالصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسؤال الوسيلة له.
وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يَرِد فيه شيءٌ، وأما ما وَرَدَ فهو مشروع؛ ليُثاب من أمتثل الأمر فيه على ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذَكَر في "الفتح" كلام القرافيّ، ثم تعقّبه، ثم أجاب عن ذلك التعقّب، وفيه نظر لا يخفى، بل الصواب جواز الدعاء بما ذُكر؛ إذ لم يَرِدْ نصّ يَمْنع من ذلك، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6540]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَاللَّفْظُ لَهُمَا (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ، فَمَا فَوْقَهَا، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَو حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلّهم ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6541]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصِيبُ الْمُؤْمِنَ شَوْكَةٌ، فَمَا فَوْقَهَا، إِلا قَصَّ اللهُ بِهَا مِنْ خَطِيئَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ) بن الفرافصة العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيه، ربما دَلّس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.
3 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (إِلَّا قَصَّ اللهُ بِهَا مِنْ خَطِيئَتِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "قَصّ"، وفي بعضها:"نقص"، وكلاهما صحيح، متقارب المعنى.
والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6542]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وقد ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: رواية أبي معاوبة عن هشام بن عروة هذه ساقها النسائيّ في "الكبرى"، فقال:
(7486)
- حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: ثنا أبو معاوية، قال: ثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يصيب المؤمن من شوكة، فما فوقها، إلا قَصّ الله عنه بها خطيئته". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6543]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 353.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) الأيليّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير أبي الطاهر، وابن وهب، ويونس، فمصريّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) وفي رواية البخاريّ: "عن الزهريّ قال: أخبرني عروة بن الزبير". (عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُصِيبَةٍ) أصل المصيبة: الرمية بالسهم، ثم استُعملت في كل نازلة، وقال الراغب: أصاب يُستعمل في الخير والشرّ، قال الله تعالى:{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} الآية [التوبة: 50]، قال: وقيل: الإصابة في الخير مأخوذة من الصَّوْب، وهو المطر الذي ينزل بقدر الحاجة، من غير ضرر، وفي الشرّ مأخوذة من إصابة السهم، وقال الكرمانيّ
(1)
: المصيبة في اللغة ما ينزل بالإنسان مطلقًا، وفي العُرف ما نزل به من مكروه خاصّةً، وهو المراد هنا
(2)
.
وقوله: (يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُ) ولفظ البخاريّ: "تصيب المسلم"، وفي رواية لأحمد:"ما من وجع، أو مرض، يصيب المؤمن"، (إِلَّا كُفِّرَ بِهَا عَنْهُ) وفي رواية أحمد:"إلا كان كفارة لذنبه"؛ أي: يكون ذلك عقوبة بسبب ما كان صدر منه من المعصية، ويكون ذلك سببًا لمغفرة ذنبه.
(1)
راجع: "شرح البخاريّ" للكرمانيّ 20/ 175 - 176.
(2)
"الفتح" 13/ 7.
ووقع في الرواية السابقة من طريق الأسود، عن عائشة:"إلا رفعه الله بها درجةً، وحَطّ عنه بها خطيئةً".
وهذا يقتضي حصول الأمرين معًا، حصول الثواب، ورفع العقاب، وشاهِدُه ما أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من وجه آخر عن عائشة، بلفظ:"ما ضُرب على مؤمن عِرْق قط، إلا حَطّ الله به عنه خطيئة، وكتب له حسنة، ورفع له درجة"، وسنده جيّد.
وأما ما يأتي لمسلم من طريق عمرة عن عائشة رضي الله عنها: "إلا كتب الله له بها حسنة، أو حط عنه بها خطيئة" كذا وقع فيه بلفظ "أو"، فيَحْتَمِل أن يكون شكًّا من الراوي، ويَحْتَمِل التنويع، وهذا أوْجَه، ويكون المعنى: إلا كتب الله له بها حسنة، إن لم يكن عليه خطايا، أو حطّ عنه خطايا، إن كان له خطايا، وعلى هذا فمقتضى الأول أن من ليست عليه خطيئة يزاد في رَفْع درجته بقدر ذلك، والفضل واسع.
[تنبيه]: وقع لهذا الحديث سببٌ أخرجه أحمد، وصححه أبو عوانة، والحاكم، من طريق عبد الرحمن بن شيبة العبدريّ، أن عائشة أخبرته:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَرَقه وَجَعٌ، فجعل يتقلب على فراشه، ويشتكي، فقالت له عائشة: لو صَنَع هذا بعضنا لوجدت عليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن الصالحين يُشدَّد عليهم، وإنه لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة، فما فوق ذلك، إلا حُطَّت به عنه خطيئة، ورُفعت بها درجةٌ".
(حَتَّى الشَّوْكَةِ) جَوّزوا فيه الحركات الثلاث، فالجرّ بمعنى الغاية؛ أي: حتى ينتهي إلى الشوكة، أو عطفًا على لفظ "مصيبة"، والنصب بتقدير عامل؛ أي: حتى وجدانِهِ الشوكةَ، والرفع عطفًا على الضمير في "تصيب"، وقال القرطبيّ: قيَّده المحققون بالرفع، والنصب، فالرفع على الابتداء، ولا يجوز على المحلّ، كذا قال، ووَجّهه غيره بأنه يسوغ على تقدير أن "من" زائدة
(1)
.
(يُشَاكُهَا") بضم أوله؛ أي: يشوكه غيره بها، وفيه وَصْل الفعل؛ لأن الأصل: يُشاكُ بها، وقال ابن التين: حقيقة هذا اللفظ؛ يعني: قوله: "يشاكها"
(1)
"الفتح" 13/ 7 - 8.
أن يُدخلها غيره، وتعقّبه الحافظ، قائلًا: ولا يلزم من كونه الحقيقة أن لا يراد ما هو أعمّ من ذلك، حتى يَدخل ما إذا دخلت هي بغير إدخال أحد.
وقد وقع في رواية هشام بن عروة عند مسلم: "لا يصيب المؤمن شوكةٌ" فإضافة الفعل إليها هو الحقيقة، ويَحْتَمِل إرادة المعنى الأعمّ، وهي أن تدخل بغير فعل أحد، أو بفعل أحد، فمن لا يمنع الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز باللفظ الواحد يُجَوِّز مثل هذا.
و"يشاكها" ضُبِط بضم أوله، ووقع في نسخة الصغانيّ بفتحه، ونَسَبها بعض شراح "المصابيح" لـ "صحاح الجوهريّ"، لكن الجوهريّ إنما ضبطها لمعنى آخر، فقدّم لفظ "يشاك" بضم أوله، ثم قال: والشوكة حِدّة الناس، وحِدّة السلاح، وقد شاك الرجلُ يَشاك شوكًا: إذا ظهرت فيه شوكته، وقويت. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّمت مسائله قبل ثلاثة أحاديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6544]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ مُصِيبَةٍ، حَتَّى الشَّوْكَةِ، إِلَّا قُصَّ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ، أَو كُفِّرَ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"، لَا يَدْرِي يَزِيدُ أَيَّتُهُمَا قَالَ عُرْوَةُ؟).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ) هو: يزيد بن عبد الله بن خُصيفة - بخاء معجمة، ثم صاد مهملة - ابن عبد الله بن يزيد الكنديّ المدنيّ، نُسب هنا لجدّه، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1003.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"الفتح" 13/ 8.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6545]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ، حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَو حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ، أبو حفص المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح التُّجيبيّ، أبو زرعة المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ) هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجاريّ - بالنون، والجيم - المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.
5 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سَعْد بن زُرارة الأنصاريّة المدنية، أكثرت عن عائشة رضي الله عنها، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ)"أو" يَحْتَمِل أن تكون للشكّ من الراوي، وأن تكون للتنويع، فلا تغفل.
والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6546]
(2573) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهِمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقة ثبت، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ) المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، ثم الكوفيّ، صدوقٌ عارف بالمغازي، رُمي برأي الخوارج [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ) القرشيّ العامريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود العشرين ومائة، ووَهِم من قال: إن القطان تَكَلَّم فيه، أو إنه خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن. فإن ذاك هو ابن عمرو بن علقمة (ع) تقدم في "الحيض" 23/ 797.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2] (ت 94) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ) الْخُدريّ سعد بن مالك بن سِنان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصغر بأحد، ثم شَهِد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخيه، وأبي أسامة، فكوفيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه صحابيّان كلاهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية، (يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ) بفتح الواو، والصاد المهملة، ثم الموحّدة؛ أي: كالمرض وزنًا ومعنى، وقيل: هو المرض اللازم، (وَلَا نَصَبٍ)
بفتح النون، والصاد المهملة، ثم موحّدة: هو التعب وزنًا، ومعنًى، (وَلَا سَقَمٍ) بفتحتين؛ كالمرض وزنًا ومعنًى، ويقال فيه: السُّقْم، بضمّ، فسكون، قال الفيّوميّ رحمه الله: سَقِمَ سَقَمًا، من باب تَعِبَ: طال مرضه، وسَقُمَ سُقْمًا، من باب قَرُب، فهو سَقِيمٌ، وجَمْعه سِقَامٌ بالكسر، مثلُ كَرِيم وكِرَام، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، والسَّقَامُ بالفتح: اسم منه. انتهى
(1)
.
(وَلَا حَزَنٍ) بفتحتين، وبضمّ، فسكون، قال الفيّوميّ: حَزِن حَزَنًا، من باب تَعِب، والاسم: الحُزْنُ، بالضمّ، فهو حَزِين، ويتعدى في لغة قريش بالحركة، يقال: حَزَنَنِي الأمرُ يَحْزُنُنِي، من باب قَتَل، قاله ثعلب، والأزهريّ، وفي لغة تميم بالألف، ومَثَّل الأزهريّ بِاسْم الفاعل والمفعول في اللغتين، على بابهما، ومنع أبو زيد استعمالَ الماضي من الثلاثيّ، فقال: لا يقال: حَزَنَهُ، وإنما يُستعمل المضارع من الثلاثيّ، فيقال: يَحْزُنُهُ. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: الحُزْنُ بالضم، ويحَرَّكُ: الهَمُّ، جَمْعه: أحْزَانٌ، حَزِنَ؛ كفَرِحَ، وتَحَزَّنَ، وتَحازَنَ، واحْتَزَنَ، فهو حَزْنانٌ، ومِحْزانٌ، وحَزَنَهُ الأَمْرُ حُزْنًا بالضمّ، وأحْزَنَهُ، أو أحْزَنَهُ: جَعَلَهُ حَزينًا، وحَزَنَهُ: جَعَلَ فيه حُزْنًا، فهو مَحْزونٌ، ومُحْزَنٌ، وحَزِينٌ، وحَزِنٌ بكسر الزاي، وضَمِّها، جَمْعه: حِزانٌ، وحُزَناءُ. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "نصب، ولا وصبٌ" قال في "النهاية": النصب: التعب، والوَصب: دَوْم الوجع ولزومه، وقوله:"ولا همّ، ولا حزن" قال التوربشتيّ: الهمّ الحزن الذي يُذيب الإنسان، من قولهم: هممتُ الشحمَ، فالهمّ والحَزَن خشونة في النفس لِمَا يحصل فيها من الغمّ أخذًا من حُزونة الأرض، فعلى هذا الهمّ أخصّ، وأبلغ من الحَزَن، وقيل: الهمّ يختصّ بما هو آتٍ، والحزن بما مضى.
روى الترمذيّ أن وكيعًا قال: لم يُسمع في الهمّ أنه كفّارة إلا في هذا الحديث.
وقال المظهر: الغمّ: الحزن الذي يغمّ الرجل؛ أي: يصيّره بحيث يقرب
(1)
"المصباح المنير" 1/ 280.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 134.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 1535.
أن يُغمى عليه، والحزن أسهل منه. انتهى
(1)
.
(حَتَّى الْهَمِّ) يَحْتَمِل الجرّ، والرفع، أما الجرّ فبـ "حتى"؛ لأنها جارّة للغاية؛ أي: حتى ينتهي إلى الهمّ، أو بالعطف بـ "حتّى" على لفظ ما قبله، وأما الرفع فبالعطف على موضعه؛ لأن "من" زائدة، أو يكون مبتدأ على أن "حتّى" ابتدائيّة، كما في قول الشاعر [من الطويل]:
فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا
…
بِدِجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أَشْكَلُ
فيكون الخبر محذوفًا؛ أي: يثاب عليه، أو الخبر قوله:(يُهِمُّهُ) بفتح أوله، من الهمّ ثلاثيًّا، أو بضمّها، من الإهمام رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: الهَمُّ: الحزن، وأَهَمَّنِي الأمرُ بالألف: أقلقني، وهَمَّنِي هَمًّا، من باب قَتَل مثله. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: الهَمُّ: الحَزَنُ، جَمْعه: هُمومٌ، وما هَمَّ به في نفسه، وهَمَّه الأَمْرُ هَمًّا، ومَهَمَّةً: حَزَنَه؛ كأَهَمَّه، فاهْتَمَّ، والسُّقْمُ جِسْمَه: أذابَهُ، وأذْهَبَ لَحْمَه، والشَّحْمَ: أذابه، فانْهَمَّ. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "الوصب": الوجع اللازم، ومنه قوله تعالى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} ؛ أي: لازم ثابت، و"النصب": التعب، وقد نَصِبَ يَنْصَب نَصَبًا؛ كفَرِح يَفْرَح فَرَحًا، ونَصَبه غيره، وأنصبه، لغتان، و"السقم": بضم السين، وإسكان القاف، وفَتْحهما، لغتان، وكذلك الْحُزْن والْحَزَن، فيه اللغتان، و"يهمه" قال القاضي: هو بضم الياء، وفتح الهاء، على ما لم يُسَمّ فاعله، وضبطه غيره يَهُمه، بفتح الياء، وضم الهاء؛ أي: يَغُمّه، وكلاهما صحيح. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الوصب": المرض، يقال منه: وَصِبَ الرجلُ، يَوْصَبُ، فهو وصيب، وأوصبه الله، فهو مُوصَبٌ، و"النصب": التعب، والمشقة، يقال منه: نَصِب الرجلُ - بالكسر - يَنصَب - بالفتح - وأنصبه غيره:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1338 - 1339.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 641.
(3)
"القاموس المحيط" 1/ 1512.
(4)
"شرح النووي" 16/ 130.
إذا أتعبه، فهو مُنصَبٌ، وهَمّ ناصبٌ؛ أي: ذو نصب، و"السقم": المرض الشديد، يقال منه: سَقِم يَسْقَمُ، فهو سقيم، و"الهم": الحزن، والجمع: الهموم، وأهمَّني الأمر: إذا أقلقني، وحَزَنني، والمهِمّ: الأمر الشديد، وهمّني المرض: أذابني.
قال القرطبيّ: هذا نقلُ أهل اللغة، وقد سوُّوا فيه بين الحزن والهم، وعلى هذا فيكون الحزن والهم المذكوران في الحديث مترادفين، ومقصود الحديث ليس كذلك، بل مقصوده: التسوية بين الحزن الشديد، الذي يكون عن فَقْد محبوب، والهمّ الذي يُقلق الإنسان، ويشتغل به فكره من شيء يخافه، أو يكرهه في أنّ كل واحد منهما يكفّر به، كما قد جمع في هذا الحديث نفسه بين الوَصَب، وهو المرض، وبين السّقم، لكن أطلق الوصب على الخفيف منه، والسقم على الشديد، ويرتفع الترادف بهذا القدر. انتهى
(1)
.
ولفظ البخاريّ رحمه الله: "ما يصيب المسلم، من نصب، ولا وصب، ولا همّ، ولا حزن، ولا أذًى، ولا غمّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه". انتهى
(2)
، قال في "الفتح": قوله: "من نصب" بفتح النون، والمهملة، ثم موحّدة: هو التعب، وزنه ومعناه، وقوله:"ولا وصب" بفتح الواو، والمهملة، ثم الموحّدة؛ أي: مرض، وزنه ومعناه، وقيل: هو المرض اللازم، وقوله:"ولا همّ، ولا حزن": هما من أمراض الباطن، ولذلك ساغ عَطْفهما على الوصب، قوله:"ولا أذى": هو أعمّ مما تقدم، وقيل: هو خاصّ بما يَلحق الشخص من تعدّي غيره عليه، وقوله:"ولا غمّ" بِالْغين المعجمة: هو أيضًا من أمراض الباطن، وهو ما يَضيق على القلب، وقيل في هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهمّ، والغمّ، والحزن: إن الهمّ ينشأ عن الفكر فيما يُتوقع حصوله، مما يُتأذَّى به، والغمّ كرب يَحدُث للقلب بسبب ما حصل، والحزن يَحدُث لِفَقْد ما يَشُقّ على المرء فَقْده، وقيل: الهمّ، والغمّ بمعنى واحد.
وقال الكرمانيّ
(3)
: الغمّ يَشمل جميع أنواع المكروهات؛ لأنه إما بسبب
(1)
"المفهم" 6/ 545 - 546.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2137.
(3)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 20/ 176 - 177.
ما يَعرِض للبدن، أو النفس، والأول إما بحيث يُخرِج عن المجرى الطبيعيّ، أو لا، والثاني إما أن يلاحظ فيه الغير، أو لا، وإما أن يظهر فيه الانقباض، أو لا، وإما بالنظر إلى الماضي، أو لا. انتهى
(1)
.
(إِلَّا كُفِّرَ) بضمّ الكاف، وتشديد الفاء، مبنيًّا للمفعول، يقال: كفّر الله عنه الذنب؛ أي: محاه، ومنه الكفّار؛ لأنها تكفّر الذنب
(2)
. (بِهِ)؛ أي: بسبب ما أصابه من هذه الأشياء المذكورة، وقوله:(مِنْ سَيِّئَاتِهِ") متعلّق بـ "كفّر"، ولفظ البخاريّ:"من خطاياه"، وظاهره أن "من" للتبعيض، ويَحْتَمِل أن تكون زائدة على رأي من يجوّز زيادتها في الإثبات، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6546](2573)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5641 و 5642) وفي "الأدب المفرد"(1/ 173)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(966)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 38 و 303 و 335 و 3/ 18019 و 48 و 402)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 298)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2905)، و (البيهقي) في "الكبرى"(3/ 373)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1421)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6547]
(2574) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا
(1)
"الفتح" 13/ 10، و"عمدة القاري" 21/ 209.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 535.
شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا، أَوِ الشَّوْكَةِ
(1)
يُشَاكُهَا".
قَالَ مُسْلِمٌ: هُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنِ، مِنْ أَهْلِ مَكّةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْن مُحَيْصِنٍ شَيْخٍ مِنْ قُرَيْشٍ) هو: عُمر بن عبد الرحمن بن مُحَيصن - بمهملتين، مصغّرًا، آخره نون - السهميّ، أبو حفص، قارئ أهل مكة، قال البخاريّ: ومنهم من قال: محمد بن عبد الرحمن، ثقة
(2)
[5].
رَوَى عن أبيه، وصفية بنت شيبة، ومحمد بن قيس بن مخرمة، وأبي سلمة بن سفيان.
ورَوَى عنه ابن جُريج، وإسحاق بن حازم المدنيّ، وعبد الله بن المؤمل، وشِبْل بن عَبّاد، والسفيانان، وهشيم.
قال الدُّوريّ عن ابن معين: عمر بن عبد الرحمن بن محيصن، وقد اختُلف في اسمه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال صاحب "الكمال": في القراءات كان قرين ابن كثير، قرأ على مجاهد، وغيره، وكان مجاهد يقول: ابن محيصن يَبْنِي، ويَرُصّ؛ يعني: أنه عالم بالعربية، والأثر، قال: ومات سنة ثلاث وعشرين ومائة.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ) بن المطلب المطلبيّ، يقال: له رؤيةٌ، وقد وثقه أبو داود، وغيره [2](م مد ت س) تقدم في "الجنائز" 33/ 2256.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"سفيان" هو ابن عيينة.
(1)
وفي نسخة: "والشوكة".
(2)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، والذهبيّ في "تذهيب التهذيب"، وأخرج له مسلم هنا في "الصحيح"، ولم يتكلّم أحد بجرحه، فهو ثقة بلا تردّد، راجع: ما ذكره صاحب "تحرير تقريب التهذيب" 3/ 79.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمكيين، غير شيخيه، فالأول بغلانيّ، والثاني كوفيّ، والصحابيّ، فمدنيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]) قال أبو جعفر الطبريّ رحمه الله في تفسير هذه الآية بعد أن ذكر أقوالًا في تفسيرها ما نصّه: وأَولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية: التأويل الذي ذكرناه عن أُبَيّ بن كعب، وعائشة، وهو أن كلَّ من عَمِل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا، من مؤمن أو كافر جوزي به.
وإنما قلنا: ذلك أَولى بتأويل الآية؛ لعموم الآية كلَّ عامل سوء، من غير أن يُخَصّ، أو يُستثنَى منهم أحد، فهي على عمومها؛ إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول.
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وكيف يجوز أن يُجازي على ما قد وعد تكفيره؟.
قيل: إنه لم يَعِدْ بقوله: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ترك المجازاة عليها، وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهل الشرك والنفاق.
فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب؛ ليكفّرها عنهم بها؛ ليوافوه، ولا ذنب لهم، يستحقون المجازاة عليه، فإنما وَفّى لهم بما وعدهم بقوله:{نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، وأنجز لهم ما ضَمِن لهم بقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [النساء: 57].
قال: وبنحو الذي قلنا في ذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أورد حديث الباب، وأحاديث أخرى
(1)
، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"تفسير الطبريّ" 5/ 293.
(بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَارِبُوا)؛ أي: اقصدوا أقرب الأمور فيما تعبدتم به، ولا تغلوا فيه، ولا تقصِّروا، وقيل: هو من قولهم: قاربت الرجلَ: لاطفتُه بكلام حسنٍ لطيف، قاله المناويّ رحمه الله
(1)
، وقال النوويّ رحمه الله:"قاربوا"؛ أي: اقتصدوا، فلا تغلو، ولا تقصّروا، بل توسّطوا. انتهى
(2)
. (وَسَدِّدُوا)؛ أي: اقصدوا السَّداد، وهو الصواب في كلّ أمر، (فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفارَةٌ، حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا) هي مثل العثرة يَعثُرها برجله، وربما جُرحت إصبعه، وأصل النكب الكبّ، والقلب، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: النكبة: المصيبة، والجمع نَكَبات، مثلُ سجدة وسجَدات. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى النكبة ينكبها، والشوكة يُشاكها" يجوز فيه الوجهان؛ يعني: الجرّ، والرفع، كذلك قيّدهما المحققون، غير أن رفع "الشوكة" لا يجوز إلا على الابتداء خاصّة؛ لأنَّ ما قبلها لا موضع للرفع فيه، فتأمّله.
قال الجامع عفا الله عنه: يجوز فيه الوجهان، بل يجوز فيه ثلاثة أوجه: الجرّ، والنصب، والرفع، على ما أسلفناه في قوله:"حتى الهمّ يُهَمّه"، فتأمله بالإمعان.
قال: وقيّده القاضي: يُهمّه بضم الياء، وفتح الهاء على ما لم يُسَمَّ فاعله، وكذا وجدته مقيّدًا بخط شيخي أبي الصبر أيوب، والذي أذكر أنّي قرأت به
(5)
على من أثق به بفتح يَهُمّه - بفتح الياء، وضم الهاء، مبنيًّا للفاعل - ووجهه واضحٌ؛ إذ معناه: حتى الهم يُصيبه، أو يطرأ عليه، والنكبة بالباء: العثرة، والسقطة، و"يُنكبها" - بضم الياء، وفتح الكاف -: مبنيًّا للمفعول. انتهى
(6)
.
(1)
"فيض القدير" 4/ 468.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 130.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 130 - 131.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 624.
(5)
هكذا النسخة، والظاهر: قرأته، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(6)
"المفهم" 6/ 547.
(أَوِ الشَّوْكَةِ)"أو" هنا للتنويع، لا للشكّ، ووقع في بعض النُّسخ:"والشوكة" بالواو، وقوله:(يُشَاكُهَا") حال من "الشوكة"، أو صفة له؛ لأن المعرّف بـ "أل" الجنسيّة كالنكرة، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
…
فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لَا يَعْنِينِي
فـ "يسبّني" صفة لـ "اللئيم".
وقال الطيبيّ: قوله: "حتى الشوكة يُشاكها" قال في "الكشّاف": شُكتُ الرجلَ أشوكه؛ أي: أدخلت في جسده شوكةً، وَشِيك - على ما لم يُسمّ فاعله - يُشاك شوكةً.
وقال المظهر: يجوز رفع "الشوكة" على الابتداء، والخبر "يُشاكها"، وجرّها على أن "حتى" عاطفةٌ، أو بمعنى "إلى"، والضمير في "يشاكها" مفعوله الثاني، والمفعول الأول ضمير أقيم مقام الفاعل، والمعنى: حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكةَ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ذَكر الرفع، والجرّ في "الشوكة"، وقد قدّمنا أنه يجوز فيه النصب أيضًا بتقدير ناصب؛ أي: حتى وجدانِهِ الشوكة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ مُسْلِمٌ) من كلام المصنّف نفسه، وهو الظاهر، ويَحْتمل أن يكون من كلام أبي إسحاق تلميذه، والله تعالى أعلم.
(هُوَ)؛ أي: "ابن محيصن"، (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِنٍ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ)، وقد تقدّم الخلاف في اسمه في ترجمته.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عن ابن محيصن، شيخ من قريش، قال مسلم: هو عُمر بن عبد الرحمن بن محيصن"، وهكذا هو في معظم نسخ بلادنا أن مسلمًا قال: هو عمر بن عبد الرحمن، وفي بعضها: هو عبد الرحمن، وكذا نقله القاضي عن بعض الرواة، وهو غلط، والصواب الأول، ومحيصن بالنون في آخره، ووقع في بعض نُسخ المغاربة بحذفها، وهو تصحيف. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 130.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: انتقد بعضهم سند هذا الحديث، قال أبو الفضل بن عمّار الشهيد رحمه الله في "علله": ووجدت فيه - يعني: صحيح مسلم - حديث ابن عيينة، عن ابن مُحيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة، قال: لمّا نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} الحديث، فذكر بعض شيوخنا أنه سأل أبا عبد الله السكريّ، وكان أبو عبد الله أحفظ أهل زمانه عن هذا الحديث، فقال: هذا مرسلٌ، محمد بن قيس لم يسمع من أبي هريرة شيئًا. انتهى
(1)
.
وقد أجاب عن هذا الانتقاد أبو الحسن رشيد الدين ابن العطار رحمه الله في "غرره": فقال ما نصّه: وقد ذكر بعض الحفاظ أن محمد بن قيس هذا لم يسمع من أبي هريرة.
قال ابن العطّار: وذكر غير واحد من العلماء أن محمد بن قيس هذا حجازيّ، وأنه سمع من عائشة، فسماعه من أبي هريرة جائز، ممكن؛ لأنهما متعاصران، ويجمعهما قُطر واحد، فعلى مذهب مسلم تُحْمل روايته عنه على السماع، إلا أن يقوم دليل بَيِّن على خلافه، والله عز وجل أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة جواب ابن العطار عن مسلم أن الحديث صحيح عنده؛ لأنه وُجد شرط الصحّة لديه، وهو أن الراوي إذا عاصر من روى عنه، ولم يمنع مانع من لقيّه له، فحديثه صحيح محمول على الاتصال، ومن هنا كذلك، كما بيّنه ابن العطار، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6547](2574)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3038)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 328)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 248)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 410)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 440)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 485)، و (البيهقيّ) في
(1)
"علل الحديث في كتاب الصحيح" 1/ 115.
(2)
"غرر الفوائد" 1/ 258.
"الكبرى"(3/ 373) وفي "شُعب الإيمان (7/ 150)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
2 -
(ومنها): أن هذا الحديث يدلّ على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتمسكون بالعمومات في العِلْميّات، كما كانوا يتمسكون بها في العَمَليات.
3 -
(ومنها): أن فيه الردَّ على من توقف في ألفاظ العموم، وأن {مَنْ} من ألفاظه، وكذلك النكرة في سياق الشرط، فإنَّهم فَهِموا عموم الأشخاص من {مَنْ} وعموم الأفعال السيّئة من {سُوءًا} المذكور في سياق الشرط.
4 -
(ومنها): أنه إنما عَظُم موقع هذه الآية على الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنَّ ظاهرها أنه ما من مكلّف يصدر عنه شرّ كائنًا ما كان إلا جُوزي عليه يوم الجزاء، وأن ذلك لا يُغفر، وهذا أمر عظيم، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم شدّة ذلك عليهم سكّنّهم، وأرشدهم وبشّرهم، فقال:"قاربوا، وسدّدوا"؛ أي: قاربوا في أفهامكم، وسدّدوا في أعمالكم، ولا تُقلّوا، ولا تُشدّدوا على أنفسكم، بل أبشِروا، واستبشروا بأن الله تعالى بلطفه قد جعل المصائب التي لا ينفكّ عنها أحد في هذه الدار سببًا لكفّارة الخطايا والأوزار، حتى يَرِد عليه المؤمن يوم القيامة، وقد خلّصه من تلك الأكدار، وطهّره من أذى تلك الأقذار؛ فضلًا من الله تعالى، ونعمةً، ولطفًا، ورحمة، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6548]
(2575) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْر، حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّب، فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَو يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ ". قَالَت: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا، فَقَالَ: "لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ").
(1)
"المفهم" 6/ 546 - 547.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10](ت 235) على الأصحّ، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) أبو معاوية العيشيّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(الْحَجَّاجُ الصَّوَّافُ) هو: الحجاج بن أبي عثمان ميسرة، أو سالم، أبو الصَّلْت الكِنْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 143)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، إلا أنه يدلِّس [4](ت 126) تقدم في "الإيمان"(ع) 4/ 119.
5 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ ثم السَّلَميّ -بفتحتين - الصحابيّ ابن الصحابيّ، غزا تسع عشرة غزوةً، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى أبي الزبير، فمكيّ، والصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، وأنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، وأن صحابيّه من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، أَو) للشكّ من الراوي، (أُمِّ الْمُسَيَّبِ) قال في "الإصابة": أم السائب الأنصارية، قال أبو عمر: روى عنها أبو قلابة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الْحُمّى، وقال بعضهم فيها: أم المسيّب، كذا قال، والذي في "صحيح مسلم"، وعند ابن سعد، وأبي يعلى، وغيرهما من طريق حجاج الصوّاف، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب. . . الحديث.
قال: وأخرج أبو نعيم من طريق الحسن بن أبي جعفر، وأبي الزبير، عن جابر، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار، يقال لها: أم
المسيّب، فذكر نحوه، وقال: رواه داود بن الزِّبْرِقان عن أيوب، عن أبي الزبير، فقال: أم السائب، وصله ابن منده من طريق داود، فقال: أم السائب جزمًا، وأسنده من طريق الثقفيّ، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ على أم السائب، فذكر الحديث نحوه، قال الحافظ: ولم أر في شيء من طرقه أنها أنصارية، بل ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَا لَكِ)"ما" استفهاميّة؛ أي؛ أيُّ شيء ثبتٌ لك (يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَوْ) تقدّم أنها للشكّ، (يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟ ") بزايين بصيغة المعلوم والمجهول؛ لأنه لازِم ومتعدّ، ويروى براءين علي بناء الفاعل، قال الطيبيّ: رفرف الطائر بجناحية إذا بسطهما عند السقوط على شيء، والمعنى: ما لكِ ترتعدين؟ ويُروى بالزاي، من الزفزفة، وهي الارتعاد من البرد، والمعنى: ما سبب هذا الارتعاد الشديد؟ أفاده القاري
(2)
.
وقال القاضي عياض: "تزفزفين" بضم التاء، وفتح الزايين؛ أي: تُرعَدين، والزفزفة: الرِّعْدة، ورواه بعضهم بالراء والقاف، قال أبو مروان بن سراج: هما صحيحان بمعنى واحد. انتهى
(3)
.
وقال ابن الجوزيّ: أصل الزفزفة: تحريك الرياح الحشيش حتى يُصَوِّت. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ: قوله: "تزفزفين" بزاءين معجمتين، وفاءين، والتاء مضمومة، قال القاضي: تُضمّ، وتُفتح، هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادّعَى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم، ووقع في بعض نُسخ بلادنا بالراء، والفاء، ورواه بعضهم في غير مسلم بالراء، والقاف، ومعناه:
(1)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 215.
(2)
"المرقاة في شرح المشكاة" 4/ 23 - 24.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 312.
(4)
"غريب الحديث" لابن الجوزي 1/ 438.
تتحركين حركة شديدةً؛ أي: ترعدين. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "تزفزفين" جميع رواة مسلم روى هذه الكلمة بالزاي والفاء فيهما، ويقال: بضم التاء، وفتحها، من الزفزفة، وهو صوت حفيف الريح، يقال: زفزفت الريحُ الحشيشَ؛ أي: حرّكته، وزفزف النّعَام في طيرانه؛ أي: حرّك جناحية، وقد رواه بعض الرواة بالقاف والراء، قال أبو مروان بن سرّاج: يقال: بالقاف، وبالفاء بمعنى واحد، بمعنى تُرعَدين.
قال القرطبيّ: ورواية الفاء أعرف روايةً، وأصحّ معنًى، وذلك أن الْحُمَّى تكون معها حركة ضعيفة، وحسّ صوتٍ يشبه الزفزفة، التي هي حركة الريح، وصوتها في الشجر، وقالوا: ريحٌ زفزافة، وزَفْزَفٌ. وأما الرقرقة بالراء، والقاف: في التلألؤ، واللّمَعان، ومنه: رَقْراق السّراب، ورقراق الماء: ما ظهر من لمعانه، غير أنه لا يظهر لمعانه، إلا إذا تحرّك، وجاء، وذهب، فلهذا حَسُن أن يقال: مكان الرقراقة، لكن تُفارق الزفزفة الرقرقة بأن الزفزفة معها صوت، وليس ذلك مع الرقرقة، فانفصلا. انتهى
(2)
.
(قَالَتِ) المرأة: (الْحُمَّى) مفعول لفعل محذوف؛ أي: أصابتني الحمّى، وهي فُعْلَى، غير منصرفة؛ لألف التأنيث، والجمع حُمّيات
(3)
، وقال القاري: الحمّى؛ أي: النوع المركّب من البلغم والصفراء الموجب لانزعاج البدن، وشدّة تحرّكه. انتهى
(4)
.
وقولها: (لَا بَارَكَ اللهُ فِيهَا) دعاء على الحمى التي زفزفتها بأن لا تُبارَك.
وقال القاري: "الحمّى لا بارك الله فيها" مبتدأ وخبره، والجملة تتضمّن الجواب، أو تقديره: تأخذني الحمّى، أو الحمّى معي، والجملة بعده دعائيّة. انتهى
(5)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم نهيًا لها عن هذا الدعاء: ("لَا تَسُبِّي الْحُمَّى) قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال هذا مع أنها لم تصرّح بسبّ الحمّى، وإنما دَعَتْ عليها
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 131.
(2)
"المفهم" 6/ 548.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 153.
(4)
"المرقاة في شرح المشكاة" 4/ 24.
(5)
"المرقاة في شرح المشكاة" 4/ 24.
بأن لا يُبارَك فيها، غير أن مثل هذا الدعاء يتضمّن تنقيص المدعوّ عليه وذمّه، فصار ذلك كالتصريح بالذمّ والسّبّ. انتهى
(1)
.
(فَإِنَّهَا) الفاء للتعليل؛ أي: لأنها (تُذْهِبُ) بضمّ أوله، من الإذهاب رباعيًّا؛ أي: تمحو، وتكفّر، وتزيل (خَطَايَا بَنِي آدَمَ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإنها. . . إلخ" تعليل لِمَنْعِ سبّ الْحُمَّى لِمَا يكون عنها من الثواب، فيتعدَّى ذلك لكل مشقّة، أو شدّة يرتجى عليها ثواب، فلا ينبغي أن يُذمّ شيء من ذلك، ولا يُسبّ، وحِكمة ذلك أن سبّ ذلك إنما يصدر في الغالب عن الضجر، وضعف الصبر، أو عدمه، وربما يفضي بصاحبه إلى السخط المحرَّم، مع أنه لا يفيد ذلك فائدةً، ولا يُخفِّف أَلَمًا. انتهى
(2)
.
(كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ) بالرفع على الفاعليّة، و"الكِير" بكسر الكاف: كير الحدّاد، وهو المبنيّ من الطين، وقيل: الزقّ الذي يُنفخ به النار، والمبنيّ الكور، قالها الطيبيّ رحمه الله
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الكِيرُ بالكسر: زِقّ الحدّاد الذي يَنفُخ به، ويكون أيضًا من جِلْد غليظ، وله حافات، وجَمْعه كِيَرَةٌ، مثلُ عِنَبَة، وأَكَيارٍ، وقال ابن السكِّيت: سمعت أبا عمرو يقول: الكُورُ بالواو: المبنيّ من الطين، والكِيرُ بالياء: الزِّقّ، والجمع أَكْيَارٌ، مثلُ حِمْل وأحمال. انتهى
(4)
.
وقوله: (خَبَثَ الْحَدِيدِ") بفتح الخاء المعجمة، والموحّدة؛ أي: وَسَخه، وهو منصوب على المفعوليّة، قال بعضهم: ما أجمل هذا التشبيه، فإن الكير يُذهب الصدأ بحرارته، كما أن الحمّى تكفّر الخطايا بسخونتها
(5)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المفهم" 6/ 548.
(2)
"المفهم" 6/ 548 - 549.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1341.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 545.
(5)
راجع: "تكملة فتح الملهم" 5/ 380.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 6548](2575)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(516)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(1063)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2083 و 2173)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2938)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 377) وفي "شُعب الإيمان"(7/ 159)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الحمّى، حيث إنها تكفّر خطايا العبد.
2 -
(ومنها): بيان النهي عن سب الحمّى، ومثلها الأمراض الأخرى؛ لأنها بالنسبة للمؤمن نعمة عُظمى، حيث إنها تكفّر خطاياه.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إن فيه ما يدلّ على أن التعريض، والتضمين كالتصريح في الدلالة، فيُحَدُّ كل من يُفْهَم عنه القذف من لفظه، وإن لم يُصَرِّح به، وهو مذهب مالك، كما تقدَّم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي استنبطه القرطبيّ من الحديث من ثبوت الحدّ بالتعريض، فيه نظر لا يخفى، فقد أخرج الشيخان، عن أبي هريرة أن أعرابيًّا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل لك من إبل؟ " قال: نعم، قال:"فما ألوانها؟ " قال: حُمْرٌ، قال:"هل فيها من أورق؟ " قال: إن فيها لَوُرْقًا، قال:"فأَنَّى ترى ذلك جاءها؟ " قال: يا رسول الله عِرْق نَزَعها، قال:"ولعل هذا عرق نزعه"، ولم يُرَخّص له في الانتفاء منه.
فهذا قد عرَّض بأن امرأته زنت، وهذا الولد من الزنا، لكن لمّا لم يصرّح بالقذف، لم يُحدّ لها، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6549]
(2576) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَبِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَا: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي
(1)
"المفهم" 6/ 548.
رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ، أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ لِي، قَالَ:"إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ، وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ"، قَالَتْ: أَصْبِرُ، قَالَتْ: فَإنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الإمام البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبت عابد [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(عِمْرَانُ أَبُو بَكْرٍ) هو: عمران بن مسلم الْمِنقَريّ - بكسر الميم، وسكون النون - القصير البصريّ، صدوقُ، ربما وَهِم [6]
(1)
(خ م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 28/ 1810.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) أسلم القرشيّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيه فاضل، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114) على المشهور، وقيل: إنه تغير بأَخَرَةٍ، ولم يكثر ذلك منه (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات سنة ثمان وستين بالطائف (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
و"شيخه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث، وبالبصريين، غير عطاء، فمكيّ، والصحابيّ، فمدنيّ، بصريّ، مكيّ، طائفيّ، وفيه أن صحابيّه، ذو مناقب جمّة، فهو صحابيّ ابن صحابيّ، ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر والحبر؛ لسعة علمه،
(1)
وقال في "الفتح"(13/ 24): بصريّ تابعيّ صغير.
وترجمان القرآن، وقال عُمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحدٌ، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة، وأحد العبادلة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
عن عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ؛ أنه (قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما: (أَلَا) - بفتح الهمزة، وتخفيف اللام - أداة عرض وتحضيض، ذكر ابن هشام من معاني "ألا" العرضَ، والتحضيض، وقال: معناهما: طلب الشيء، لكن العرض طلبٌ بلينٍ، والتحضيض طلب بحثّ، وتختص "ألَا" هذه بالفعلية، نحو:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، و {أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} [التوبة: 13]. انتهى
(1)
.
(أُرِيكَ) بضمّ الهمزة، من الإراءة، (امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)؛ أي: مَنْ أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها من أهل الجنّة، قال عطاء:(قُلْتُ: بَلَى)؛ أي: أخبرني، تقدّم أن "بَلَى" حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بَلَى، فمعناه: إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلت: بَلَى، فمعناه: التقرير، والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، إما في أول الكلام كما تقدم، وإما في أثنائه؛ كقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} [القيامة: 3، 4]، والتقدير: بلى نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون كما تقدم، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات
(2)
. (قَالَ) ابن عبّاس: هي (هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ) في رواية جعفر المستغفريّ في "كتاب الصحابة"، وأخرجه أبو موسى في "الذيل" من طريقه، ثم من رواية عطاء الْخُرَسانيّ، عن عطاء بن أبي رَبَاح، في هذا الحديث:"فأراني حَبَشيّة صفراء، عظيمة، فقال: هذه سُعيرة الأسدية". (أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ) بضمّ الهمزة، مبنيًّا للمفعول، و"الصرع": علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعًا غير تامّ، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ، أو بخار رديء، يرتفع إليه من بعض الأعضاء، وقد يتبعه تشنّج في الأعضاء، فلا يبقى الشخص معه منتصبًا، بل
(1)
"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 25.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 62.
يسقط، ويَقذف بالزَّبَد؛ لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجنّ، ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الإنسية، وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يُثبته جميع الأطباء، ويذكرون علاجه، والثاني يَجحده كثير منهم، وبعضهم يُثبته، ولا يعرف له علاجًا إلا بمقاومة الأرواح الخيّرة العلوية؛ لتندفع آثار الأرواح الشِّرِّيرة السُّفْلية، وتبطل أفعالها، وممن نَصّ منهم على ذلك أبقراط، فقال لمّا ذكر علاج المصروع: هذا إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من الأرواح فلا، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ) بمثناة، وتشديد المعجمة، من التكشف، وبالنون الساكنة، مخفّفًا، من الانكشاف، والمراد أنها خَشِيت أن تَظهَر عورتها، وهي لا تشعر، (فَادْعُ اللهَ لِي)؛ أي: بالشفاء من هذا الصرع. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ)؛ أي: عليه (وَلَكِ الْجَنَّةُ)؛ أي: جزاء صبرك عليه دخول الجنّة، (وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ")؛ أي: يبرئك منه. (قَالَتْ) المرأة: (أَصْبِرُ) عليه؛ لأفوز بالجنّة. (قَالَتْ: فَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللهَ أَنْ لَا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا) صلى الله عليه وسلم بذلك، فلم تتكشّف بعد ذلك.
ثم أخرج البخاريّ بعدُ عن عطاء؛ "أنه رأى أمّ زُفر تلك المرأة. الطويلة السوداء على ستر الكعبة"، قال في "الفتح": قوله: "أنه رأى أم زفر" بضم الزاي، وفتح الفاء، وقوله:"تلك المرأة" في رواية الكشميهنيّ: "تلك امرأة"، وقوله:"على ستر الكعبة" بكسر المهملة؛ أي: جالسة عليها معتمدة، ويجوز أن يتعلق بقوله:"رأى". قال: ثم وجدت الحديث في "الأدب المفرد" للبخاري، ولفظه:"على سُلّم الكعبة"، فالله أعلم.
وعند البزار من وجه آخر، عن ابن عباس في نحو هذه القصة:"أنها قالت: إني أخاف الخبيث أن يُجَرِّدني، فدعا لها، فكانت إذا خَشِيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة، فتتعلق بها".
وقد أخرج عبد الرزاق، عن ابن جريج هذا الحديث مطوّلًا، وأخرجه ابن عبد البرّ في "الاستيعاب" من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، أنه سمع طاوسًا يقول: "كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين،
(1)
"الفتح" 13/ 23 - 24، كتاب "المرضى" رقم (5652).
فيَضرب صَدْر أحدهم، فيبرأ، فأُتي بمجنونة، يقال لها: أم زُفَر، فضرب صدرها، فلم تبرأ"، قال ابن جريج: وأخبرني عطاء، فذكر كالذي هنا، وأخرجه ابن منده في "المعرفة" من طريق حنظلة بن أبي سفيان، عن طاوس، فزاد: "وكان يُثني عليها خيرًا"، وزاد في آخره: "فقال: إن يتبعها في الدنيا، فلها في الآخرة خير".
قال الحافظ: وعُرِف مما أوردته أن اسمها سُعيرة وهي بمهملتين، مصغرًا، ووقع في رواية ابن منده بقاف بدل العين، وفي أخرى للمستغفريّ بالكاف، وذكر ابن سعد، وعبد الغنيّ في "المبهمات" من طريق الزبير أن هذه المرأة هي ماشطة خديجة التي كانت تتعاهد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالزيارة.
وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتها أن الذي كان بأم زفر كان مِنْ صَرَع الجنّ، لا مِن صَرَع الخلط، وقد أخرج البزار وابن حبان من حديث أبي هريرة شبيهًا بقصتها، ولفظه:"جاءت امرأة بها لَمَمٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله، فقال: إن شئت دعوت الله، فشفاك، وإن شئت صبرت، ولا حساب عليك، قالت: بل أصبر، ولا حساب عليّ"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا متفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [14/ 6549](2576)، و (البخاري) في "صحيحه"(5/ 240)، و (النسائي) في "الكبرى"(4/ 353)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 72)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل من يُصْرَع، وأن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة.
2 -
(ومنها): بيان أن الأخذ بالشدّة أفضل من الأخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة، ولم يَضْعُف عن التزام الشدّة.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز ترك التداوي.
4 -
(ومنها): أن علاج الأمراض كلها بالدعاء، والالتجاء إلى الله تعالى أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، وأن تأثير ذلك، وانفعال البدن عنه أعظم من
تأثير الأدوية البدنية، ولكن إنما ينجع بامرين: أحدهما: من جهة العليل، وهو صِدْق القصد، والآخر: من جهة المداوي، وهو قوّة توجّهه، وقوّة قلبه بالتقوى، والتوكل على الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(15) - (بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6550]
(2577) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيَّ - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تبارك وتعالى، أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ محرّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ، إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي، فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
(1)
، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَن أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ، إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ
(2)
، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا
(1)
وفي نسخة: "واحد منكم".
(2)
وفي نسخة: "أحصيها عليكم".
نَفْسَهُ"، قَالَ سَعِيدٌ: كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ الدَّارِمِيّ) السَّمَرْقنديّ، أبو محمد الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ) الأسديّ الطّاطَرِيّ، ثقةٌ [9](ت 210) وله ثلاث وستون سنةً (م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) التَّنُوخيّ الدمشقيّ، ثقةٌ إمامٌ، سوّاه أحمد بالأوزاعيّ، وقدّمه أبو مسهر، لكنه اختَلَط في آخر أمره [7] (ت 167) وقيل: بعدها، وله بضع وسبعون سنةً (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
4 -
(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ) الدمشقيّ، أبو شُعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
5 -
(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائذ الله بن عبد الله، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة، ومات سنة ثمانين، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء [2](ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
6 -
(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جُنْدُب بن جُنَادة على الأصح، وقيل: بُرَير بموحّدة مصغرًا، أو مكبَّرًا، واختُلف في أبيه، فقيل: جندب، أو عَشْرقة، أو عبد الله، أو السكن، تقدّم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه كثيرة جدًّا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالدمشقيين، سوى شيخه، فسَمَرْقنديّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذُو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة الغفاريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ) قال القاضي عياض: وفي قول أبي ذرّ رضي الله عنه: "فيما روى عن الله" وقد جاء مثل هذا في غير حديث عن ابن عبّاس وغيره حجة في جواز إطلاق هذا اللفظ في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه
(1)
. (تَبَارَكَ)؛ أي: تكاثر خيره، وظهر في هذا الخبر بعض أثره، (وَتَعَالَى)؛ أي: ارتفع عن مشابهة المخلوقين؛ (أَنَّهُ) قيل: ضُبط بفتح الهمزة، وكسرها، (قَالَ) الله سبحانه وتعالى:("يَا عِبَادِي) قال البيضاويّ: الخطاب مع الثقلين خاصّةً؛ لاختصاص التكليف، وتعاقُب التقوى والفجور فيهم، ولذا خصّ المخاطَبين بالإنس والجنّ، ويَحْتمل أن يكون عامًّا شاملًا لذوي العلم كلّهم، من الملائكة والثقلين، ويكون ذِكر الملائكة مطويًّا مدرجًا في قوله:"وجِنِّكم"؛ لشمول الاجتنان لهم، وتوجُّه هذا الخطاب نحوهم لا يتوقّف على صدور الفجور منهم، ولا على إمكانه؛ لأنه كلام صادر على سبيل الفرض والتقدير.
قال الطيبيّ: يمكن أن يكون الخطاب عامًّا، ولا يدخل الملائكة في الجنّ؛ لأن الإضافة في "جنّكم" تقتضي المغايرة، فلا يكون تفصيلًا، بل إخراجًا للقبيلين اللذين يصحّ اتّصاف كلّ منهما بالتقوى والفجور. انتهى
(2)
.
(إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي) قال النوويّ: معناه: تقدستُ عنه، وتعاليتُ، والظلم مستحيل في حق الله سبحانه وتعالى، كيف يجاوز سبحانه حدًّا، وليس فوقه من يطيعه؟، وكيف يتصرف في غير مُلك، والعالم كله في مُلكه وسلطانه؟ وأصل التحريم في اللغة المنع، فسمّي تقدّسه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهته للممنوع في أصل عدم الشيء. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله تعالى: "إني حرمت الظلم على نفسي"؛ أي: لا ينبغي لي، ولا يجوز عليّ، كما قال سبحانه وتعالى:{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92]، وقد اتفق العقلاء على أن الظلم على الله تعالى محال، وإنما
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 47.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1837.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 132.
اختلفوا في الطريق، فالقائلون بالتقبيح والتحسين عقلًا يقولون: يستحيل عليه؛ لِقُبحه، ومن لا يقول بذلك يقولون: يستحيل عليه؛ لاستحالة شرطه في حقه تعالى، وذلك أن الظلم إنما يتصوّر في حقّ من حدّت له حدود، ورُسمت له مراسم، فمن تعدّاها كان ظالِمًا، والله تعالى هو الذي حدّ الحدود، ورَسَم الرسوم؛ إذ لا حاكم فوقه، ولا حاجر عليه، فلا يجب عليه حكم، ولا يترتّب عليه حقّ، فلا يُتصوّر الظلم في حقه. انتهى
(1)
.
(وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا)؛ أي: حكمت بتحريمه عليكم، وألزمته إيّاكم (فَلَا تَظَالَمُوا) بفتح التاء، أصله: تتظالموا، حُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيّنُ الْعِبَرْ"
أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله تعالى:"وجعلته بينكم محرّمًا"، وزيادة تغليظ في تحريمه.
(يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ)؛ أي: عن كلّ كمال وسعادة دينيّة، ودنيويّة، (إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: لمّا كان الخطاب بعدَ "يا عبادي" معنيًّا به، مهتمًّا بشأنه كرّره تنبيهًا على فخامته، ونسبة الضلال إلى الكلّ بحسب مراتبهم. انتهى
(2)
.
وقال المازريّ: ظاهر هذا أنهم خُلقوا على الضلال، إلا من هداه الله تعالى، وفي الحديث المشهور:"كلُّ مولود يولد على الفطرة". قال: فقد يكون المراد بالأول: وَصْفهم بما كانوا عليه قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أنهم لو تُركوا، وما في طباعهم من إيثار الشهوات والراحة، وإهمال النظر لضلُّوا، وهذا الثاني أظهر.
وفي هذا دليل لمذهب أصحابنا وسائر أهل السُّنَّة أن المهتدي هو من هداه الله، وبهدي الله اهتدى، وبإرادة الله تعالى ذلك، وأنه سبحانه وتعالى إنما أراد هداية
(1)
"المفهم" 6/ 552.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1837.
بعض عباده، وهم المهتدون، ولم يُرد هداية الآخرين، ولو أرادها لاهتَدَوا؛ خلافًا للمعتزلة في قولهم الفاسد: إنه سبحانه وتعالى أراد هداية الجميع، جلّ الله أن يريد ما لا يقع، أو يقع ما لا يريد. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كلّكم ضالّ إلا من هديته" قيل في معناه قولان:
أحدهما: أنهم لو تُركوا مع العادات، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الراحات، وإهمال النظر المؤدِّي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات، والطباع، فضلّوا عن الحقّ، فهذا هو الضلال المعنيّ، لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول؛ وأعانه على الوصول إلى ذلك، وعلى العمل بمقتضاه، وهذا هو الهُدَى الذي أمرنا الله تعالى بسؤاله.
وثانيهما: أن الضلال ها هنا يُعنَى به الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرُّسل من الشرك، والكفر، والجهالات، وغير ذلك، كما قال تعالى:{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]؛ أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل، فأرسل الله الرسل؛ ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال، ويبيّنوا لهم مرادَ الحقّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم، فمن نبّهه الحقّ سبحانه وتعالى، وبصّره، وأعانه فهو المهتدي، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال.
وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى: "كلكم ضال إلا من هديته"، وبين قوله:"كلّ مولود يولد على الفطرة"؛ لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئ على الفطرة الأولى المغيِّر لها، الذي بيّنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتمثيل في بقية الخبر، حيث قال:"كما تُنتج البهيمة بهيمة جمعاء"، وبقوله:"خلق الله الخلق على معرفته، فاجتالتهم الشياطين".
وهذا الحديث حجَّة لأهل الحقّ على قولهم: إن الهدى والضلال خَلْقه، وفِعله، يختص بما شاء منهما من شاء مِنْ خَلْقه، وأن ذلك لا يقدر عليه إلا
(1)
"شرح النووي" 16/ 132 - 133.
هو، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]، وكما قال:{وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وكما قال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].
وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ريبٌ لذي فهم سليم بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25]، فعمّ الدعوة، وخصّ بالهداية من سبقت له العناية.
وحاصل قوله: "كلكم ضالّ إلا من هديته. . . إلخ" التنبيه على فقرنا، وعجزنا عن جلب منافعنا، ودفع مضارّنا بأنفسنا، إلا أن ييسّر الله ذلك لنا، بأن يخلق ذلك لنا، ويعيننا عليه، ويصرف عنا ما يضرّنا، وهو تنبيه على معنى قوله:"لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم"، ومع ذلك، فقال في آخر الحديث:"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"؛ تنبيهًا على أن عدم الاستقلال بإيجاد الأعمال لا يناقض خطاب التكليف بها، إقدامًا عليها، وإحجامًا عنها، فنحن، وإن كنا نعلم أنّا لا نستقلّ بأفعالنا نُحِسّ بوجدان الفرق بين الحركة الضرورية، والاختيارية، وتلك التفرقة راجعة إلى تمكّن محسوس، وتأتّ معتادٍ يوجد مع الاختيارية، ويُفقد مع الضرورية، وذلك هو المعبَّر عنه بالكسب، وهو مورد التكليف، فلا تناقض، ولا تعنيف. انتهى
(1)
.
[فائدة]: ذكر الراغب الأصفهانيّ في "مفرداته" بحثًا نفيسًا في "الضلال"، فقال رحمه الله: الضلال: العدول عن الصراط المستقيم، وتضادّه الهداية، قال تعالى:{فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108]، ويقال: الضلال لكل عدول عن المنهج، عمدًا كان أو سهوًا، يسيرًا كان أو كثيرًا، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صَعْبٌ جدًّا، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"استقيموا، ولن تحصوا. . ." الحديث
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 553 - 555.
(2)
حديث صحيح، وهو حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا، ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن"، =
وقال بعض الحكماء: كوننا مصيبين من وجه، وكوننا ضالين من وجوه كثيرة، فإن الاستقامة والصواب يجري مجرى الْمُقَرْطس من الْمَرْمَى، وما عداه من الجوانب كلها ضلال.
ولما قلنا: روي عن بعض الصالحين أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في منامه فقال: يا رسول الله يروى لنا أنك قلت: "شيَّبتني سورة هود، وأخواتها، فما الذي شيَّبك منها؟ فقال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] ".
وإذا كان الضلال تَرْك الطريق المستقيم عمدًا كان أو سهوًا، قليلًا كان أو كثيرًا، صحّ أن يُستعمل لفظ الضلال ممن يكون منه خطأٌ ما، ولذلك نُسب الضلال إلى الأنبياء، وإلى الكفار، وإن كان بين الضلالين بَوْنٌ بعيدٌ، ألا ترى أنه قال في النبيّ صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7]؛ أي: غير مهتدٍ لِمَا سيق إليك من النبوة، وقال في يعقوب:{قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95]، وقال أولاده:{إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 8]، إشارة إلى شغفه بيوسف، وشوقه إليه، وكذلك:{قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف: 30]، وقال عن موسى عليه السلام:{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20]، تنبيهٌ أن ذلك منه سهوٌ، وقوله:{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282]؛ أي: تنسى، وذلك من النسيان الموضوع عن الإنسان.
والضلال من وجه آخر ضربان: ضلالٌ في العلوم النظرية؛ كالضلال في معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة النبوة، ونحوهما المشار إليهما بقوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
وضلال في العلوم العملية؛ كمعرفة الأحكام الشرعية التي هي العبادات، والضلال البعيد إشارة إلى ما هو كفر؛ كقوله على ما تقدم من قوله:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ} [النساء: 136]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)} [النساء: 167]، وكقوله:{فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [سبأ: 8]؛ أي: في عقوبة الضلال البعيد، وعلى ذلك قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ
= أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 34، وأحمد 5/ 280، والحاكم 1/ 130، والدرامي من طرق صحاح 1/ 168.
كَبِيرٍ} [الملك: 9]، {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وقوله:{أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10]، كناية عن الموت، واستحالة البدن، وقوله:{وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، فقد قيل: عُني بالضالين: النصارى
(1)
، وقوله:{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]؛ أي: لا يضل عن ربي، ولا يضل ربي عنه؛ أي: لا يُغفله، وقوله:{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)} [الفيل: 2]؛ أي: في باطل وإضلال لأنفسهم.
والإضلال ضربان: أحدهما: أن يكون سببه الضلال، وذلك على وجهين: إما بأن يَضِلّ عنك الشيء كقولك: أضللت البعير؛ أي: ضلّ عني، وإما أن تحكم بضلاله، والضلال في هذين سبب الإضلال.
والضرب الثاني: أن يكون الإضلال سببًا للضلال، وهو أن يُزَيَّن للإنسان الباطلُ؛ ليضلّ كقوله:{لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 113]؛ أي: يتحرَّون أفعالًا يقصدون بها أن تَضِلّ، فلا يحصل من فعلهم ذلك إلا ما فيه ضلال أنفسهم، وقال عن الشيطان:{وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} [النساء: 119]، وقال في الشيطان:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس: 62]، {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وإضلال الله تعالى للإنسان على أحد وجهين:
أحدهما: أن يكون سببه الضلال، وهو أن يَضِلّ الإنسان فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويَعْدِل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة، وذلك إضلال هو حقٌّ وعدلٌ، فالحكم على الضال بضلاله، والعدول به عن طريق الجنة إلى النار عدلٌ وحقّ.
والثاني من إضلال الله: هوأن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة إذا راعى طريقًا، محمودًا كان أو مذمومًا، أَلِفه، واستطابه، ولَزِمه، وتعذَّر
(1)
أخرج أحمد، والترمذيّ وحسّنه، وابن حاتم 1/ 23 عن عديّ بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المغضوب عليهم: اليهود، وإن الضالين: النصارى". راجع: "المسند" 4/ 378.
صرفه، وانصرافه عنه، ويصير ذلك كالطبع الذي يأبى على الناقل، ولذلك قيل: العادة طبع ثان، وهذه القوة في الإنسان فعل إلهيّ، وإذا كان كذلك - وقد ذُكر في غير هذا الموضع أن كل شيء يكون سببًا في وقوع فعل - صح نسبة ذلك الفعل إليه، فصح أن يُنسب ضلال العبد إلى الله من هذا الوجه، فيقال: أضله الله، لا على الوجه الذي يتصوره الجهلة، ولِمَا قلناه جَعَل الإضلال المنسوب إلى نفسه للكافر، والفاسق، دون المؤمن، بل نفى عن نفسه إضلال المؤمن، فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115]، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4، 5]، وقال في الكافر والفاسق:{فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 8]، {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 74]، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، وعلى هذا النحو تقليب الأفئدة في قوله:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} [الأنعام: 110]، والختم على القلب في قوله:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7]، وزيادة المرض في قوله:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10]. انتهى كلام الراغب رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(فَاسْتَهْدُونِي)؛ أي: اطلبوا منّي الهداية، (أَهْدِكُمْ) بفتح الهمزة، مضارع هدى ثلاثيًّا، وبضمها، فإنه مضارع أهدى رباعيًّا، ولا يُناسِب هنا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
ولَمّا فرغ من الامتنان بالأمور الدينيّة، شرع في الأمور الدنيويّة تكميلًا للمرتبتين، مقتصرًا على الأمرين الأهمّين منها، وهما: الأكل واللبس؛ كقوله تعالى في وصف الجنّة: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119]، ولعلّه تَرَك الظمأ اكتفاء بدلالة المقابلة، نحو قوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81]؛ أي: والبرد، وترك المأوى لشمول الكسوة التي هي السترة له إيماءً، أو إشارةً، قاله القاري
(2)
.
وعبارة الطيبيّ: ولَمّا فرغ من الامتنان بأمور الدين شرع في الامتنان بأمور
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 21/ 509 - 512.
(2)
"المرقاة" 5/ 155.
الدنيا، وذكر منها ما هو أصلٌ فيها، ومكمِّل لمنافعها، من الشِّبَع، واللُّبس، ولا يُستغنى عنهما، ومن ثمّ وصف الجنّة بقوله:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118]
(1)
.
(يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ)؛ أي: محتاج إلى الطعام (إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ)؛ أي: بسطت عليه الرزق، وأغنيته، (فَاسْتَطْعِمُونِي)؛ أي: اطلبوا الطعام من جنابي، وتيسير القوت والقوّة من بابي، (أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي) كرّره للتنبيه على فخامته، والاعتناء بشأنه، (كُلُّكُمْ عَارٍ)؛ أي: محتاج إلى ستر عورته، وإلى التنعّم بأنواع اللباس، وزينته، (إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي)؛ أي: اطلبوا مني الكسوة (أَكْسُكُمْ) بضمّ السين، من باب غزا يغزو، قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: ما معنى الاستثناء في قوله: "إلا من أطعمته"، و"إلا من كسوته"؛ إذ ليس أحد من الناس محرومًا عنهما؟.
قلت: الإطعام والكسوة لَمّا كانا معبِّرَين عن النفع التّامّ، والبسط في الرزق، وعدمهما عن التقتير والتضيّق، كما قال تعالى:{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52] ظهر من هذا أنه ليس المراد من إثبات الجوع والعري في المستثنى منه نفي الشبع، والكسوة بالكليّة، وليس في المستثنى إثبات الشبع والكسوة مطلقًا، بل المراد بَسْطهما، وتكثيرهما. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله ببعض تصرّف
(2)
.
(يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ) قال النوويّ رحمه الله: الرواية المشهورة: "تُخطئون" بضم التاء، ورُوي بفتحها، وفتح الطاء، يقال: خَطِئَ يَخْطَأ: إذا فَعَل ما يأثم به، فهو خاطئ، ومنه قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97]، ويقال في الإثم أيضًا: أخطأ، فهما صحيحان. انتهى
(3)
.
وعبارة الفيّوميّ رحمه الله: "الخَطَأُ": مهموز بفتحتين: ضدّ الصواب، ويُقصر، ويُمدّ، وهو اسم من أَخْطَأَ، فهو مُخْطِئٌ، قال أبو عبيدة: خَطِئَ خِطْئًا، من باب
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1838.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1838.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 133 - 134.
عَلِمَ، وأَخْطَأَ: بمعنى واحد لمن يُذنب على غير عمد، وقال غيره: خَطِئَ في الدِّين، وأَخْطَأَ في كلّ شيء عامدًا كان، أو غير عامد، وقيل: خَطِئَ: إذا تعمَّد ما نُهي عنه، فهو خَاطِئٌ، وأَخطَأ: إذا أراد الصواب، فصار إلى غيره، فإن أراد غير الصواب، وفَعَله، قيل: قَصَده، أو تعمَّده، والخِطْءُ: الذنب؛ تسميةً بالمصدر، وخَطَّأْتُهُ بالتثقيل: قلت له: أَخْطَأْتُ، أو جعلته مُخْطِئًا، وأَخْطَأَهُ الحقّ: إذا بَعُد عنه، وأَخْطَأَهُ السهمُ: تجاوزه، ولم يُصبه، وتخفيف الرباعي جائز. انتهى
(1)
.
وقوله: (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)؛ أي: في هذين الزمانين، وأما تخصيص النهار في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60]؛ لغَلَبة الذنب فيه
(2)
.
(وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)؛ أي: بالتوبة، أو ما عدا الشرك إن شاء، جمعًا بين آيتي الزمر والنساء، أو بالاستغفار والأذكار، ونحوهما
(3)
. (فَاسْتَغْفِرُونِي)؛ أي: اطلبوا منّي مغفرة ذنوبكم (أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي)، وقوله:(فَتَضُرُّونِي) منصوب بعد الفاء السببيّة في جواب النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَو طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهَا حَتْمٌ نَصبْ
والمحذوف منه نون الرفع، والموجودة هي نون الوقاية، ومثله قوله:"فتنفعوني". (وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي، فَتَنْفَعُونِي) قال الطيبيّ؛ أي: لن تبلغوا لعجزكم إلى مضرّتي، ولا يستقيم، ولا يصحّ منكم أن تضرّوني، أو تنفعوني، حتى أتضرّر، أو أنتفع بكم؛ لأنكم لو اجتمعتم على عبادتي أقصى ما يمكن ما نفعتموني، ولا زدتم في ملكي شيئًا، ولو اجتمعتم كلّكم على عصياني ما ضررتموني، ولا نقصتم من ملكي شيئًا، فالقرينتان الأخيرتان كالنشر للأوَّلَيْن. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 174 - 175.
(2)
"المرقاة" 5/ 156.
(3)
"المرقاة" 5/ 156.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1838.
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ)؛ أي: الموجودين، (وَآخِرَكُمْ) ممن سيوجد، وقيل؛ أي: من الأموات والأحياء، والمراد: جميعكم، (وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ) تعميم بعد تعميم؛ للتأكيد، أو تفصيل وتبيين
(1)
. (كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ)؛ أي: لو كنتم على غاية التقوى، بأن تكونوا جميعًا على تقوى أتقى قلب رجل واحد منكم، قاله القاري
(2)
.
وقال البيضاويّ؛ أي: على تقوى قلب رجل، أو على أتقى أحوال رجل واحد، قال الطيبيّ بعد نقل كلام البيضاويّ هذا: أقول: لا بُدّ من هذا التقدير ليستقيم أن يقع "أتقى" خبرًا لـ "كان"، ثم إنه لم يُرَد أن كلّهم بمنزلة رجل واحد، هو أتقى من الناس، بل كلّ واحد من الجمع بمنزلته؛ لأن هذا أبلغ؛ كقولك: ركبوا فرسهم، وعليه قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] في وجه.
ثم إضافة "أفعل" إلى نكرة مفردة تدلّ على أنك لو تقضيت قلب رجل رجل من كل الخلائق لم تجد أتقى قلبًا من هذا الرجل. انتهى
(3)
.
قال القاري بعد نقل كلام الطيبيّ المذكور ما نصّه: ولهذا فُسّر بقلب نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وقلب الأشقى بقلب إبليس. انتهى
(4)
.
(مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا) قال القاري: "شيئًا" إما مفعول به، أو مصدرٌ، وهذا راجع إلى "لن تبلغوا"، ففي "فتنفعوني" نشر مشوّشٌ؛ اعتمادًا على فهم السامع، ولمقاربة المناسبة بين المتوسّطين، ويُسمّى ترقّيًا، وتدلّيًا، ونظيره قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} الآية [آل عمران: 106]. انتهى
(5)
.
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ)؛ أي: فجور أفجر، أو على أفجر أحواله، (قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ) زاد في بعض النُّسخ:"منكم"، (مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا) قال الطيبيّ:"شيئًا" يجوز أن
(1)
"المرقاة" 5/ 156.
(2)
"المرقاة" 5/ 156.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1838 - 1839.
(4)
"المرقاة" 5/ 156.
(5)
"المرقاة" 5/ 156.
يكون مفعولًا به، إن قلنا: إن "نقص" متعدّ، ومفعولًا مطلقًا، إن قلنا: إنه لازم؛ أي: نقص نُقصانًا قليلًا، فالتنكير فيه للتحقير بقرينة قوله في الحديث الآخر:"جناح بعوضة"
(1)
. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار الطيبيّ رحمه الله إلى أن "نقص" يتعدّى، ويلزم، وعبارة الفيّوميّ رحمه الله: نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَل، ونُقْصَانًا، وانْتَقَصَ: ذهب منه شيء بعد تمامه، ونَقَصْتُهُ، يتعدى، ولا يتعدى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نَقَصْتُ زيدًا حَقَّهُ، وانْتَقَصْتُهُ مثله، ودرهم نَاقِصٌ: غير تام الوزن. انتهى
(3)
.
وقال القاري: وهذا - يعني: قوله: "ما نقص. . . إلخ" - راجع إلى قوله: "لن تبلغوا ضرّي، فتضرّوني".
(يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا)؛ أي: وقفوا، أو استمرّوا (فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ) الصعيد وجه الأرض، قال البيضاويّ: قيّد السؤال بالاجتماع في مقام واحد؛ لأن تزاحم السُّؤَال، وازدحامهم مما يُدهش المسؤول، ويَبْهَته، ويعسر عليه إنجاح مآربهم، والإسعاف إلى مطالبهم. انتهى
(4)
.
(فَسَأَلُونِي)؛ أي: كلهم أجمعون، (فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ)؛ أي: في آن واحد، ومكان واحد، (مَا نَقَصَ ذَلِكَ) الإعطاء (مِمَّا عِنْدِي) {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]، (إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ)"ما" مصدريّة، أو مؤولة؛ أي: كالنقص، أو الشيء الذي ينقصه (الْمِخْيَطُ)
(1)
أي: في رواية ابن ماجه، فإنه وقع عنده في الموضعين بلفظ:"جناح بعوضة" برقم (4257).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1839.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 621.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1839.
بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة: الإبرة، (إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ) ببناء الفعل للمفعول، و"البحرَ" منصوب على أنه مفعول ثانٍ.
قال الطيبيّ: غَمْس المخيط في البحر، وإن لم يَخْلُ عن نقصٍ ما، لكنه لَمّا لم يَظهر ما ينقصه للحسّ، ولم يَعتدّ به العقل، وكان أقرب المحسوسات نظيرًا ومثالًا، شبّه به صرفَ ملتمسات السائلين مما عنده، فإنه لا يَغيضه مثل ذلك، ولا أقلّ منه
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "المخيط": بكسر الميم، وفتح الياء: هو الإبرة، قال العلماء: هذا تقريب إلى الأفهام، ومعناه: لا ينقص شيئًا أصلًا، كما قال في الحديث الآخر:"لا يَغيضها نفقةٌ"؛ أي: لا ينقصها نفقةٌ؛ لأن ما عند الله لا يدخله نقص، وإنما يدخل النقص المحدودَ الفانيَ، وعطاءُ الله تعالى من رحمته، وكرمه، وهما صفتان قديمتان، لا يتطرق إليهما نقص، فضَرَب المثل بالمخيط في البحر؛ لأنه غاية ما يُضْرَب به المثل في القلّة، والمقصود: التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه، فإن البحر من أعظم المرئيات عيانًا، وأكبرها، والإبرة من أصغر الموجودات، مع أنها صقيلة، لا يتعلق بها ماء، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ، أُحْصِيهَا لَكُمْ) وفي بعض النسخ: "عليكم"؛ أي: أحفظها، وأكتبها، (ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا) التوفية إعطاء حقّ كلّ واحد على التمام، قال البيضاويّ؛ أي: هي جزاء أعمالكم، فأحفظها لكم، ثم أؤدّيها إليكم تامّة وافيةً، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ.
وقال المظهر: "أعمالكم" تفسير لضمير المؤنّث في قوله: "إنما هي"؛ يعني: إنما نُحصي أعمالكم؛ أي: نعدّ، ونكتب أعمالكم من الخير والشرّ؛ توفيةً لجزاء عمل أحدكم على التمام.
وقال الطيبيّ: يمكن أن يرجع الضمير إلى ما يُفهم من قوله: "أتقى قلب رجل"، و"أفجر قلب رجل"، وهي الأعمال الصالحات، والطالحات، ويشهد
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1839.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 133.
له لفظ "إنما"، فإنها تستدعي الحصر؛ أي: ليس نفعها، وضرّها راجعًا إليّ، بل أحصيها لكم؛ لأجازيكم بها، (فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا)؛ أي: توفيقًا للخير من ربّه، وعَمَلَ خيرٍ من نفسه، (فَلْيَحْمَدِ اللهَ)؛ أي: ليشكره على ذلك الخير؛ لأنه تعالى هو هادي الضّلّال، وموفّقهم للخيرات. (وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ)؛ أي: وجد الشرّ، (فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ") لأنه صدر من نفسه، أو لأنه باق على ضلاله الذي أشار إليه بقوله:"كلّكم ضالّ".
قال ابن تيميّة رحمه الله: فقد بيَّن هذا الحديث أن من وجد خيرًا بالعمل الصالح، فليحمد الله تعالى، فإنه هو الذي أنعم عليه بذلك، وإن وجد غير ذلك، إما شرًّا له عقاب، وإما عَبَثًا لا فائدة فيه، فلا يلومنّ إلا نفسه، فإنه هو الذي ظلم نفسه، وكل حادث فبقدرة الله ومشيئته. انتهى.
وقوله: (قَالَ سَعِيدٌ) هو سعيد بن عبد العزيز الراوي عن ربيعة بن يزيد، والظاهر أنه أخذه عن ربيعة؛ لأنه لم يُدرك أبا إدريس، فإنه مات سنة ثمانين من الهجرة، ووُلد سعيد سنة تسعين من الهجرة، على ما نُقل عن أبي مسهر
(1)
، فيكون ولادته بعد عشر سنين من موت أبي إدريس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ) عائذ الله بن عبد الله (الْخَوْلَانِيُّ) بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو: نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن يشجب بن عَريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وبعض خولان يقولون: خولان بن عمرو بن إلحاف بن قُضاعة، وهكذا قال ابن الكلبيّ، واسم خولان: أَفْكل، وهي قبيلة نزلت الشام، قاله في "اللباب"
(2)
. (إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ) إجلالًا لهذا الحديث القدسيّ الشريف، وتعظيمًا له، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
راجع: "تهذيب التهذيب" 2/ 32.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6550 و 6551 و 6552](2577)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(490)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2495)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4257)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(463)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 160)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 441)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 192)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(619)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 241)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 125 - 126)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 93)، و (الرافعيّ) في "أخبار قزوين"(2/ 176)، و (ابن عساكر) في "تاريخه"(26/ 138 و 38/ 224)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(اعلم) أن الحافظ ابن رجب رحمه الله شرح هذا الحديث شرحًا موسّعًا في كتابه "جامع العلوم والحكم"، وذكر فوائده خلال الشرح، فأجاد، وأفاد، أحببت نَقْله هنا؛ لكثرة فوائده، وغزارة عوائده، قال - بعد أن أورد سياق مسلم - ما نصّه:
هذا الحديث خرّجه مسلم من رواية سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ذرّ، وفي آخره: قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس الخولانيّ إذا حدّث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، وخرّجه مسلم أيضًا من رواية قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يَسُقْه بلفظهم، ولكنه قال: وساق الحديث بنحو سياق أبي إدريس، وحديث أبي إدريس أتمّ، وخرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وابن ماجه، من رواية شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: "يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاسألوني الْهُدَى أَهْدِكم، وكلكم فقير إلا من أغنيته، فاسألوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيته، فمن عَلِم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، واستغفرني غفرت له، ولا أبالي، ولوأن أولكم وآخركم، وحيَّكم وميتكم، ورَطْبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي، ما زاد ذلك في ملكي
جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم، وحيّكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فيسأل كل إنسان منكم ما بلغت أُمنيته، فأعطيت كل سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي، إلا كما لوأن أحدكم مَرّ بالبحر، فغمس فيه إبرةً، ثم رفعها إليه، ذلك بأني جواد واجد ماجد، أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون"، وهذا لفظ الترمذيّ، وقال: حديث حسن.
وخرّجه الطبرانيّ بمعناه، من حديث أبي موسى الأشعريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أن إسناده ضعيف، وحديث أبي ذرّ قال الإمام أحمد: هو أشرف حديث لأهل الشام.
فقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي"؛ يعني: أنه منع نفسه من الظلم لعباده، كما قال عز وجل:{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]، وقال:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، وقال:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31]، وقال:{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، وقال:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112]، والهضم أن ينقص من جزاء حسناته، والظلم أن يعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثير في القرآن.
وهو مما يدلّ على أن الله قادر على الظلم، ولكن لا يفعله فضلًا منه وَجُودًا وكَرَمًا وإحسانًا إلى عباده.
وقد فسَّر كثير من العلماء الظلم بأنه وَضْع الأشياء في غير مواضعها، وأما من فسَّره بالتصرف في مُلك الغير بغير إذنه، وقد نُقل نحوه عن إياس بن معاوية وغيره، فإنهم يقولون: إن الظلم مستحيل عليه، وغير متصوَّر في حقه؛ لأن كل ما يفعله فهو تصرُّف في ملكه، وبنحو ذلك أجاب أبو الأسود الدؤلي لعمران بن حصين، حين سأله عن القَدَر.
وخرّج أبو داود، وابن ماجه، من حديث أبي سنان سعيد بن سنان، عن وهب بن خالد الحمصيّ، عن ابن الديلميّ، أنه سمع أُبَيّ بن كعب يقول: لو أن الله تعالى عَذّب أهل سمواته، وأهل أرضه، لعذّبهم، وهو غير ظالم لهم،
ولو رحمهم، لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، وأنه أَتَى ابن مسعود، فقال له مثل ذلك، ثم أتى زيد بن ثابت، فحدّثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك
(1)
.
وفي هذا الحديث نظر، ووهب بن خالد ليس بذلك المشهور بالعلم
(2)
، وقد يُحمَل على أنه لو أراد تعذيبهم لقدّر لهم ما يعذبهم عليه، فيكون غير ظالم لهم حينئذ، وكونه خَلَق أفعال العباد، وفيها الظلم، لا يقتضي وَصْفه بالظلم سبحانه وتعالى، كما أنه لا يوصف بسائر القبائح التي يفعلها العباد، وهي خَلْقه، وتقديره، فإنه لا يوصف إلا بأفعاله، ولا يوصف بأفعال عباده، فإن أفعال عباده مخلوقاته، ومفعولاته، وهو لا يوصف بشيء منها، إنما يوصف بما قام به من صفاته، وأفعاله، والله أعلم.
وقوله: "وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا"؛ يعني: أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كلّ عبد أن يظلم غيره، مع أن الظلم في نفسه محرَّم مطلقًا، وهو نوعان:
أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فإن المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، فعبده، وتألّهه، فهو وَضْع الأشياء في غير مواضعها، وأكثر ما ذُكر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أريد به المشركون، كما قال الله عز وجل:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها، من كبائر، وصغائر.
والثاني: ظُلم العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع:"إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، ورُوي
(1)
رواه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وصحّحه ابن حبّان (727).
(2)
هكذا قال ابن رجب، وهذا منه عجيب، فإن وهب بن خالد هو الحميريّ، أبو خالد الحمصيّ، ثقة من السابعة، قاله في "التقريب"، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، والحديث صحيح، وقد بيّنت ذلك في "شرح ابن ماجه" برقم (77)، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
عنه أنه خطب بذلك في يوم النحر من عرفة، وفي يوم النحر، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية ثم قال:"اسمعوا مني، تعيشوا، ألا لا تظالموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه"
(1)
، وفي "الصحيحين" عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الظلم ظلمات يوم القيامة"، وفيهما عن أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لَيُمْلي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفْلِته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102] "، وفي "صحيح البخاريّ" عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كانت عنده مظلمة لأخيه، فليتحلل منها، فإنه ليس ثَمّ دينار، ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات، أُخذ من سيئات أخيه، فطُرحت عليه".
قوله: "يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم".
هذا يقتضي أن جميع الخلق مفتقرون إلى الله تعالى في جَلْب مصالحهم، ودَفْع مضارّهم في أمور دينهم ودنياهم، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم شيئًا من ذلك كلّه، وأن من لم يتفضل الله عليه بالْهُدى والرزق، فإنه يُحْرَمهما في الدنيا، ومن لم يتفضل الله عليه بمغفرة ذنوبه، أوبقته خطاياه في الآخرة، قال الله تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، ومثل هذا كثير في القرآن، وقال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]، وقال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقال تعالى حاكيًا عن آدم وزوجه عليهما السلام أنهما قالا:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وعن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
(1)
رواه أحمد 5/ 72، وفيه عليّ بن زيد بن جُدعان، وهو ضعيف.
وقد استَدَلّ إبراهيم الخليل عليه السلام بتفرّد الله بهذه الأمور على أنه لا إله غيره، وأن كل ما أُشرك معه باطل، فقال لقومه:{قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 75 - 83]، فإن من تفرَّد بخلق العبد، وبهدايته، وبرزقه، وإحيائه، وإماتته في الدنيا، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة مستحقّ أن يُفْرد بالإلهية، والعبادة، والسؤال، والتضرع، والاستكانة له، قال الله عز وجل:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)} [الروم: 40].
وفي الحديث دليل على أن الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم، من الطعام، والشراب، والكسوة، وغير ذلك، كما يسألونه الهداية، والمغفرة، وفي الحديث:"لِيَسْأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى شِسَع نَعْله إذا انقطع"
(1)
.
وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه، حتى مِلْح عجينه، وعَلَفَ شاتِه، وفي الإسرائيليات أن موسى عليه السلام قال:"يا رب إنه ليَعْرض لي الحاجة من الدنيا، فأستحي أن أسألك، قال: سَلْني حتى ملح عجينك، وعلف حمارك"، فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله، فقد أظهر حاجته فيه، وافتقاره إلى الله، وذاك يحبه الله، وكان بعض السلف يستحي من الله أن يسأله شيئًا من مصالح الدنيا، والاقتداء بالسُّنَّة أَولى.
وقوله: "كلكم ضالّ إلا من هديته" قد ظنّ بعضهم أنه معارِض لحديث عياض بن حمار، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل:"خلقت عبادي حنفاء - وفي رواية - مسلمين، فاجتالتهم الشياطين"
(2)
وليس كذلك، فإن الله خلق بني آدم، وفَطَرهم على قبول الإسلام، والميل إليه دون غيره، والتهيؤ، والاستعداد له بالقوّة، لكن لا بدّ للعبد من تعلّم الإسلام بالفعل، فإنه قبل التعلّم جاهل لا يعلم،
(1)
حسّنه بعضهم.
(2)
رواه مسلم، وأحمد، وابن حبّان.
كما قال عز وجل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} [الضحى: 7]، والمراد: وجدك غير عالم بما علّمك من الكتاب والحكمة، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، فالإنسان يولد مفطورًا على قبول الحقّ، فإن هداه الله تعالى سبّب له من يُعَلِّمه الهدى، فصار مهديًّا بالفعل، بعد أن كان مهديًّا بالقوة، وإن خذله الله قيّض له من يعلّمه ما يغيّر فطرته، كما قال صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه، ويمجّسانه"
(1)
.
وأما سؤال المؤمن من الله الهداية، فإن الهداية نوعان: هداية مجملة، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلة للمؤمن، وهداية مفصّلة، وهي هداية إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كل مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كل ركعة من صلاتهم قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل:"اهدني لِمَا اختُلف فيه من الحقّ بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"، ولهذا يُشَمَّت العاطس، فيقال له:"يرحمك الله"، فيقول:"يَهديكم الله"، كما جاءت به السُّنَّة، وإن أنكره من أنكره من فقهاء العراق ظنًّا منهم أن المسلم لا يحتاج أن يُدْعَى له بالهدى، وخالفهم جمهور العلماء؛ اتّباعًا للسُّنَّة في ذلك، وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليًّا أن يسأل الله السَّدَاد، والهدى، وعَلّم الحسن أن يقول في قنوت الوتر:"اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت".
وأما الاستغفار من الذنوب فهو طلب المغفرة، والعبد أحوج شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرر في القرآن ذِكر التوبة والاستغفار، والأمر بهما، والحثّ عليهما، وخرّج الترمذيّ، وابن ماجه، من حديث أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".
وخرّج البخاريّ من حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه، كلَّ يوم مائة مرّة".
(1)
متّفقٌ عليه.
وخرّج من حديث الأغرّ المزنيّ، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرّة"، وخرّجه النسائيّ، ولفظه:"يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، واستغفروه، فإني أتوب إلى الله، وأستغفره كل يوم مائة مرّة"، وخرّج الإمام أحمد، من حديث حذيفة، قال: كان في لساني ذَرَبٌ على أهلي، لم أَعْدُه إلى غيره، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أين أنت من الاستغفار يا حذيفة؟ إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة"
(1)
، ومن حديث أبي موسى، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إني أستغفر الله مائة مرة، وأتوب إليه"
(2)
، وخرّج النسائيّ من حديث أبي موسى، قال: كنا جلوسًا، فجاء النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما أصبحت غداةً قط إلا استغفرت الله مائة مرّة"، وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، من حديث ابن عمر قال: إن كنا لنعُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقول: "رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التواب الرحيم"
(3)
، وخرّج النسائيّ من حديث أبي هريرة قال: لم أر أحدًا أكثر أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
(4)
، وخرّج الإمام أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:"اللَّهُمَّ اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا"
(5)
.
وقوله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري، فتضروني، ولن تبلغوا نفعي، فتنفعوني"؛ يعني: أن العباد لا يقدرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا، فإن الله تعالى في نفسه غنيّ حميد، لا حاجة له بطاعات العباد، ولا يعود نفعها إليه، وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرر بمعاصيهم، وإنما هم يتضررون بها، قال الله تعالى:{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 176]، وقال:{وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144]،
(1)
صححه ابن حبّان، والحاكم، وفي سنده عبيد الله بن أبي المغيرة، وهو مجهول، كما في "التقريب".
(2)
إسناده حسن.
(3)
صححه ابن حبّان.
(4)
صححه ابن حبّان، وفيه الوليد بن مسلم، وهو مدلّس، وقد عنعنه.
(5)
في سنده علي بن زيد بن جُدعان، ضعيف.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "ومن يعص الله ورسوله، فقد غَوَى، ولا يضرّ إلا نفسه، ولا يضرّ الله شيئًا"، وقال الله عز وجل:{وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]، وقال حاكيًا عن موسى:{وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)} [إبراهيم: 8]، وقال:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال:{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37]؛ والمعنى: أنه تعالى يحبّ من عباده أن يتقوه، ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشدّ من فَرَح مَن ضلّت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطَلَبها حتى أعيى، وأَيِس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينه، فنام، واستيقظَ، وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده، وتوباتهم إليه، وإنه إنما يعود نَفْعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده، وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودَفْع الضرّ عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه، ويحبوه، ويخافوه، ويتقوه، ويطيعوه، ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذرّ لهذا الحديث:"من عَلِم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، ثم استغفرني غفرت له، ولا أبالي".
وفي "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال:"يا رب إني فعلت ذنبًا، فاغفر لي، فقال الله: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنوب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي"، وفي حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه لمّا ركب دابته، حمد الله ثلاثًا، وكبّر ثلاثًا، وقال:"سبحانك إني ظلمت نفسي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، وقال: إن ربك لَيَعْجب من عبده، إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري"، خرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ، وصححه، وفي "الصحيح"، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"واللهِ لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها"، كان بعض أصحاب ذي النون يطوف ينادي: آه أين قلبي؟ من وجد قلبي؟ فدخل يومًا بعض السكك، فوجد صبيًّا يبكي، وأمه تضربه، ثم أخرجته من الدار، وأغلقت الباب
دونه، فجعل الصبيّ يلتفت يمينًا وشمالًا، لا يدري أين يذهب؟ ولا أين يقصد؟ فرجع إلى باب الدار، فجعل يبكي، ويقول: يا أماه من يفتح لي الباب، إذا أغلقت بابك عني؟ ومن يدنيني إذا طردتيني؟ ومن الذي يدنيني إذا غضبتِ عليّ؟ فرحمته أمه، فنظرت من خلل الباب، فوجدت ولدها تجري الدموع على خديه، متمعكًا في التراب، ففتحت الباب، وأخذته حتى وضعته في حجرها، وجعلت تقبّله، وتقول: يا قرة عيني، ويا عزيز نفسي، أنت الذي حملتني على نفسك، وأنت الذي تعرضت لِمَا حلّ بك، لو كنت أطعتني لم تلق مني مكروهًا، فتواجد الفتى، ثم صاح، وقال: قد وجدت قلبي، قد وجدت قلبي.
وتفكروا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجأون إليه، ويعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خُلِّفوا:{حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فرتّب توبته على ظنهم أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق هرب منه، وفرّ إلى غيره، وأما من خاف من الله فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهرب يهرب إليه، إلا هو، فيهرب منه إليه، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه:"لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك"، وكان يقول:"أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك"، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: ما من ليلة اختلط ظلامها، وأرخى الليل سربال سِترها، إلا نادى الجليل جل جلاله: مَن أعظم مني جودًا؟ والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم؛ كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم؛ كأنهم لم يذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاني، فلم أستجب إليه؟، أم من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أم من الذي أناخ ببابي فنحّيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، أنا الجواد، ومني الجود، وأنا الكريم، ومني الكرم، ومن كرمي أن أغفر للعاصين بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب؛
كأنه لم يعصني، فأين إلى غيره يهرب الخلائق؟ وأين عن بابه يتنحّى العاصون؟ خرّجه أبو نعيم
(1)
.
ولبعضهم في المعنى قائلًا [من الطويل]:
أَسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ تَائِبًا
…
وَأَنَّى لِعَبْدٍ عَنْ مَوَالِيهِ يَهْرُبُ
يُؤَمِّلُ غُفْرَانًا فَإِنْ خَابَ ظَنُّهُ
…
فَمَا أَحَدٌ مِنْهُ عَلَى الأَرْضِ أَخْيَبَ
فقوله بعد هذا: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" هو إشارة إلى أن مُلكه لا يزيد بطاعة الخلق، ولو كانوا كلهم بَرَرَةً أتقياء، قلوبهم على قلب أتقى رجل منهم، ولا ينقص مُلكه بمعصية العاصين، ولو كان الجنّ والإنس كلهم عُصاةً فجرةً، قلوبهم على قلب أفجر رجل منهم، فإنه سبحانه الغنيّ بذاته عمن سواه، وله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فمُلكه مُلك كاملٌ لا نقص فيه بوجه من الوجوه، على أيّ وجه كان.
ومن الناس من قال: إن إيجاده لخلقه على هذا الوجه الموجود أكمل من إيجاده على غيره، وهو خير من وجوده على غيره، وما فيه من الشرّ فهو شرّ إضافيّ نسبيّ بالنسبة إلى بعض الأشياء دون بعض، وليس شرًّا مطلقًا، بحيث يكون عدمه خيرًا من وجوده من كل وجه، بل وجوده خير من عدمه، وقال: هذا معنى قوله: "بيده الخير"، ومعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والشرّ ليس إليك"؛ يعني: أن الشرّ المحض الذي عَدَمُه خير من وجوده ليس موجودًا في ملكك، فإن الله تعالى أوجد خلقه على ما تقتضيه حكمته وعدله، وخصّ قومًا من خَلْقه بالفضل، وترك آخرين منهم في العدل؛ لِمَا له في ذلك من الحكمة البالغة.
وهذا فيه نظر، وهو يخالف ما في الحديث من أن جميع الخلق لو كانوا على صفة أكمل خَلْقه من البرّ والتقوى لم يزد ذلك في ملكه شيئًا، ولا قَدْر جناح بعوضة، ولو كانوا على صفة أنقص خَلْقه من الفجور لم ينقص ذلك من
(1)
"حلية الأولياء" 8/ 92 - 93.
ملكه شيئًا، فدلّ على أن ملكه كامل على أيّ وجه كان، لا يزداد، ولا يكمل بالطاعة، ولا ينقص بالمعاصي، ولا يؤثّر فيه شيئًا.
وفي هذا الكلام دليل على أن الأصل في التقوى والفجور هي القلوب، فإذا برّ القلب، واتقى برّت الجوارح، وإذا فَجَر القلب فَجَرَت الجوارح، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التقوى ههنا"، وأشار إلى صدره.
فقوله: "لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر"، المراد بهذا ذِكْر كمال قدرته سبحانه، وكمال ملكه، وأن ملكه، وخزائنه لا تنفذ، ولا تنقص بالعطاء، ولو أَعطى الأولين والآخرين، من الجنّ والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، وفي ذلك حثّ الخلق على سؤاله، وإنزال حوائجهم به، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يَدُ الله ملأى، لا تغيضها نفقةٌ، سحّاءُ الليلَ والنهارَ، أفرأيتم ما أنفق ربكم منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دعا أحدكم، فلا يقل: اللَّهُمَّ اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم، ولْيُعَظِّم الرغبةَ، فإن الله لا يتعاظمه شيء".
وقال أبو سعيد الخدريّ: "إذا دعوتم الله، فارفعوا في المسألة، فإن ما عنده لا يُنفِده شيء، وإذا دعوتم فاعزموا، فإن الله لا مستكرِه له".
وفي بعض الآثار الإسرائيليّة: يقول الله عز وجل: أَيُؤَمَّل غيري للشدائد، والشدائد بيدي، وأنا الحيّ القيوم، ويُرجَى غيري، ويُطرق بابه بالبكرات، وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني، من ذا الذي أمّلني لنائبة، فقطعت به؟ أو من ذا الذي رجاني لعظيم، فقطعت به؟ أو من ذا الذي طرق بابي، فلم أفتحه له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني، أبخيل أنا فيُبْخِلني عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة، والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤمّلوني؟، لو جمعت أهل السماوات والأرض، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبَلَّغت كل واحد أمَله، لم ينقص ذلك من
ملكي عضو ذَرّة، كيف ينقص مُلك أنا قيّمه؟ فيا بؤسًا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسًا لمن عصاني، وتَوَثَّب على محارمي.
وقوله: "ولم ينقص ذلك مما عندي، إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" لتحقيق أن ما عنده لا ينقص البتةَ، كما قال تعالى:{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]، فإن البحر إذا غُمست فيه إبرة، ثم أُخرجت لم ينقص من البحر بذلك شيءٌ، وكذلك لو فُرض أنه شرب منه عصفور مثلًا، فإنه لا ينقص البحر البتةَ، ولهذا ضَرَب الخَضِر لموسى عليهما السلام هذا المثل في نسبة عِلمهما إلى علم الله عز وجل، وهذا لأن البحر لا يزال تُمِدّه مياه الدنيا، وأنهارها الجارية، فمهما أُخذ منه لم ينقصه شيءٌ؛ لأنه يمده ما هو أزْيد مما أُخذ منه، وهكذا طعام الجنة، وما فيها، فإنه لا ينقص، كما قال تعالى:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)} [الواقعة: 32، 33]، وقد جاء:"أنه كلما نُزعت ثمرة عاد مكانها مثلها"، وروي:"مثلاها"، فهي لا تنقص أبدًا، ويشهد لذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبة الكسوف:"ورأيت الجنة، فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا"، خرّجاه في "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وخرّجه الإمام أحمد من حديث جابر رضي الله عنه، ولفظه:"ولو أتيتكم به لأَكَل منه مَن بين السماء والأرض، لا ينقصونه شيئًا".
وهكذا لحم الطير الذي يأكله أهل الجنة، يُستخلف، ويعود كما كان حيًّا، لا ينقص منه شيءٌ، وقد روي هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه فيها ضَعف، وقاله كعب، وروي أيضًا عن أبي أمامة الباهليّ من قوله، قال أبو أمامة: وكذلك الشراب يشرب منه حتى ينتهي نَفَسه، ثم يعود مكانه، ورؤي بعض العلماء الصالحين بعد موته بمدّة في المنام، فقال: ما أكلت منذ فارقتكم إلا بعض فرخ، أما علمتم أن طعام الجنة لا ينفد.
وقد بُيِّن في الحديث الذي خرّجه الترمذيّ وابن ماجه، السبب الذي لأجله لا ينقص ما عند الله بالعطاء بقوله:"ذلك بأني جوادٌ واجدٌ ماجدٌ أفعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردت إنما أقول له كن فيكون"
(1)
،
(1)
حديث أخرجه الترمذيّ مطوّلًا، وقال: حديث حسن.
وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40].
وفي "مسند البزار" بإسناد فيه نظر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خزائن الله الكلام، فإذا أراد الله شيئًا قال له: كن فكان"، فهو سبحانه إذا أراد شيئًا من عطاء، أو عذاب، أو غير ذلك قال له: كن فيكون، فكيف يُتصور أن ينقص هذا؟ وكذلك إذا أراد أن يخلق شيئًا قال له: كن فيكون، كما قال:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59].
وفي بعض الآثار الإسرائيلية: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تخافنّ غيري ما دام لي السلطان، وسلطاني دائم، لا ينقطع، يا موسى لا تهتمنّ برزقي أبدًا، ما دامت خزائني مملوءة، لا تفنى أبدًا، يا موسى لا تأنس بغيري، ما وجدتني أنيسًا لك، متى طلبتني وجدتني، يا موسى لا تأمن مكري، ما لم تَجُز الصراط إلى الجنة، وقال بعضهم [من البسيط]:
لَا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ
…
فَإِنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بِالدِّينِ
وَاسْتَرْزِقِ اللَّهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ
…
فَإِنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ
وقوله: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها"؛ يعني: أنه سبحانه يُحصي أعمال عباده، ثم يُوَفّيهم إياها بالجزاء عليها، وهذا كقوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8]، وقوله:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقوله:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30]، وقوله:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6].
وقوله: "ثم أوفّيكم إياها" الظاهر أن المراد: توفيتها يوم القيامة، كما قال تعالى:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]، ويَحْتَمِل أن المراد: يوفّي عباده جزاء أعمالهم في الدنيا والآخرة، كما في قوله:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه فَسَّر ذلك بأن
المؤمنين يُجَازَون بسيئاتهم في الدنيا، وتُدَّخَر لهم حسناتهم في الآخرة، فيوفّون أجورهم، وأما الكافر فإنه يُعَجَّل له في الدنيا ثواب حسناته، وتدّخر له سيئاته، فيعاقب بها في الآخرة.
وتوفية الأعمال هي توفية جزائها من خير أو شرّ، فالشر يجازى به مثله من غير زيادة، إلا أن يعفو الله عنه، والخير تضاعَف الحسنة عنه بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، لا يعلم قَدْرها إلا الله، كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" إشارة إلى أن الخير كله فضل من الله تعالى على عبده من غير استحقاق له، والشرّ كله من عند ابن آدم من اتّباع هوى نفسه، كما قال عز وجل:{مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وقال عليّ رضي الله عنه: لا يرجونّ عبد إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، فالله سبحانه إذا أراد توفيق عبد، وهدايته أعانه، ووفّقه لطاعته، وكان ذلك فضلًا منه ورحمة، وإذا أراد خذلان عبد وكَّله إلى نفسه، وخَلَّى بينه وبينها، فأغواه الشيطان؛ لغفلته عن ذِكر الله تعالى، واتّبع هواه، وكان أمْره فُرُطًا، وكان ذلك عدلًا منه، فإن الحجة قائمة على العبد بإنزال الكتاب، وإرسال الرسول، فما بقي لأحد من الناس على الله حجة بعد الرسل، فقوله بعد هذا:"فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه" إن كان المراد: مَن وجد ذلك في الدنيا، فإنه يكون حينئذ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاء الأعمال الصالحة الذي عُجِّل له في الدنيا كما قال:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} [النحل: 97]، ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فعلت من الذنوب التي وَجَد عاقبتها في الدنيا، كما قال تعالى:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)} [السجدة: 21]، فالمؤمن إذا أصابه في الدنيا بلاء رجع إلى نفسه باللوم، ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة والاستغفار.
وفي "المسند"، و"سنن أبي داود" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن إذا
أصابه سقم، ثم عافاه الله منه، كان كفارةً لِمَا مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل من عمره، وإن المنافق إذا مَرِض، وعوفي كان كالبعير عَقَله أهله، وأطلقوه، لا يدري لِمَ عقلوه؟، ولا لِمَ أطلقوه؟ "
(1)
، وقال سلمان الفارسيّ: إن المسلم ليبتلى، فيكون كفارة لِمَا مضى، ومستعتبًا فيما بقي، وإن الكافر يبتلى، فمثله كمثل البعير أُطلق فلم يَدْر لِمَ أُطلق؟، وعُقل فلم يَدْر لِمَ عُقل؟.
وإن كان المراد: من وجد خيرًا أو غيره في الآخرة، كان إخبارًا منه بأن الذين يجدون الخير في الآخرة يحمدون الله على ذلك، وأن من وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه حين لا ينفعه اللوم، فيكون الكلام لَفْظه لَفْظ الأمر، ومعناه الخبر؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار"، والمعنى: أن الكاذب عليه يتبوأ مقعده من النار.
وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنهم يحمدون الله على ما رزقهم من فضله، فقال:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74]، وقال تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 34، 35]، وأخبر عن أهل النار أنهم يلومون أنفسهم، ويمقتونها أشدّ المقت، فقال تعالى:{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)} [غافر: 10].
وقد كان السلف الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة حَذَرًا من لوم النفس عند انقطاع الأعمال على التقصير.
وفي الترمذيّ عن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من ميت يموت إلا نَدِم إن كان
(1)
في سنده أبو منظور الشاميّ: مجهول، كما في "التقريب".
محسنًا ندم على أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب".
وقيل لمسروق: لو قصرت عن بعض ما تصنع من الاجتهاد، فقال: والله لو أتاني آت، فأخبرني أن لا يعذبني، لاجتهدت في العبادة، قيل: كيف ذاك؟ قال: حتى تعذرني نفسي إن دخلت النار أن لا ألومها، أما بلغك في قول الله تعالى:{وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)} [القيامة: 2] إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم، فاعتنقتهم الزبانية، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورُفعت عنهم الرحمة، وأقبل كل امرئ منهم يلوم نفسه.
وكان عامر بن عبد قيس يقول: والله لأجتهدنّ، ثم والله لأجتهدنّ، فإن نجوت فبرحمة الله، وإلا لم أَلُمْ نفسي.
وكان زياد بن عياش يقول لابن المنكدر، ولصفوان بن سليم: الجَدّ الجدّ، والحَذَر الحذر، فإن يكن الأمر على ما نرجو، كان ما عملتما فضلًا، وإلا لم تلوما أنفسكما.
وكان مطرف بن عبد الله يقول: اجتهدوا في العمل، فإن يكن الأمر ما نرجو من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات، وإن يكن الأمر شديدًا كما نخاف ونحذر، لم نقل:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث الشريف
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في ذِكر رسالة شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في شرح هذا الحديث، فقد شرحه شرحًا مطوّلًا، فأجاد، وأفاد، أحببت إيراده هنا؛ لأن كتابي موضوع لاستيفاء المسائل حسب الاستطاعة، فلا أترك بحثًا مفيدًا يتعلّق به إلا وأوردته فيه، ثم إن إيراد النصّ أضمن، وأحسن، وأوفى بالمراد من تغييره باختصار، أو نحوه، فهاك نصّ الرسالة:
[سئل شيخ الإسلام] عن معنى حديث أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله تبارك وتعالى، أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا بينكم، فلا تظالموا. . ." إلى آخر الحديث.
(1)
"جامع العلوم والحكم" للحافظ ابن رجب رحمه الله 2/ 33 - 55.
فأجاب رحمه الله:
الحمد لله ربّ العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أما قوله تعالى:"يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي" ففيه مسألتان كبيرتان، كل منهما ذات شُعَب وفروع:
إحداهما: في الظلم الذي حرّمه الله على نفسه، ونفاه عن نفسه بقوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [الزخرف: 76]، وقوله:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء: 40]، وقوله:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، ونفى إرادته بقوله:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108]، ونفى خوف العباد له بقوله:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112].
فإن الناس تنازعوا في معنى هذا الظلم تنازعًا صاروا فيه بين طرفين، متباعدين، ووَسَط بينهما، وخيار الأمور أوساطها، وذلك بسبب البحث في القَدَر، ومجامعته للشرع؛ إذ الخوض في ذلك بغير علم تامّ أوجب ضلال عامة الأمم، ولهذا نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أصحابه عن التنازع فيه.
فذهب المكذّبون بالقدر، القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد، ولم يُرِد أن يكون إلا ما أمر بأن يكون، وغُلَاتهم المكذبون بتقدّم علم الله، وكتابه بما سيكون من أفعال العباد، من المعتزلة وغيرهم إلى أن الظلم منه هو نظير الظلم من الآدميين، بعضهم لبعض، وشبّهوه ومثّلوه في الأفعال بأفعال العباد، حتى كانوا هم ممثّلة الأفعال، وضربوا لله الأمثال، ولم يجعلوا له المَثَل الأعلى، بل أوجبوا عليه، وحرّموا ما رأوا أنه يجب على العباد، ويحرم بقياسه على العباد، وإثبات الحكم في الأصل بالرأي، وقالوا عن هذا: إذا أمَر العبدَ، ولم يُعِنْه بجميع ما يقدر عليه من وجوه الإعانة، كان ظالِمًا له، والتزموا أنه لا يقدر أن يهدي ضالًّا، كما قالوا: إنه لا يقدر أن يُضلّ مهتديًا، وقالوا عن هذا: إذا أمر اثنين بأمر واحد، وخصّ أحدهما بإعانته على فعل المأمور، كان ظالِمًا، إلى أمثال ذلك من الأمور التي هي من باب الفضل والإحسان، جعلوا تَرْكه لها ظلمًا.
وكذلك ظنوا أن التعذيب لمن كان فِعله مقدَّرًا ظُلم له، ولم يفرقوا بين التعذيب لمن قام به سبب استحقاق ذلك، ومن لم يقم، وإن كان ذلك الاستحقاق خَلَقه لحكمة أخرى عامّة، أو خاصة.
وهذا الموضع زلّت فيه أقدام، وضلّت فيه أفهام، فعارض هؤلاء آخرون من أهل الكلام المُثْبتين للقَدَر، فقالوا: ليس للظلم منه حقيقة يمكن وجودها، بل هو من الأمور الممتنعة لذاتها، فلا يجوز أن يكون مقدورًا، ولا أن يقال: إنه هو تارك له باختياره، ومشيئته، وإنما هو من باب الجمع بين الضدين، وجَعْل الجسم الواحد في مكانين، وقَلْب القديم مُحْدَثًا، والمحدَث قديمًا، وإلا فمهما قُدِّر في الذهن، وكان وجوده ممكنًا، والله قادر عليه، فليس بظلم منه، سواء فَعَله، أو لم يفعله.
وتلقى هذا القول عن هؤلاء طوائف من أهل الإثبات من الفقهاء، وأهل الحديث، من أصحاب مالك، والشافعيّ، وأحمد، وغيرهم، ومن شرّاح الحديث، ونحوهم، وفَسَّروا هذا الحديث بما ينبني على هذا القول، وربما تعلقوا بظاهر من أقوال مأثورة، كما روينا عن إياس بن معاوية أنه قال: ما ناظرت بعقلي كله أحدًا إلا القَدَرية، قلت لهم: ما الظلم؟ قالوا: أن تأخذ ما ليس لك، أو أن تتصرف فيما ليس لك، قلت: فلِلَّه كل شيء، وليس هذا من إياس إلا ليبيّن أن التصرفات الواقعة هي في مُلكه، فلا يكون ظلمًا بموجب حدّهم، وهذا مما لا نزاع بين أهل الإثبات فيه، فإنهم متفقون مع أهل الإيمان بالقَدَر على أن كل ما فَعَله الله فهو عدلٌ.
وفي حديث الكرب الذي رواه الإمام أحمد، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب عبدًا قطّ هَمٌّ، ولا حزنٌ، فقال: اللَّهُمَّ إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فِيّ حكمك، عَدْل فِيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حُزْني، وذهاب همّي وغمّي، إلا أذهب الله همّه وغمّه، وأبدله مكانه فرحًا، قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهنّ؟ قال: بلى، ينبغي لمن سمعهنّ أن يتعلمهنّ".
فقد بَيَّن أن كل قضائه في عبده عدلٌ، ولهذا يقال: كل نعمة منه فضلٌ، وكل نقمة منه عدلٌ، ويقال: أطعتك بفضلك، والمنّة لك، وعصيتك بعلمك، أو بِعَدْلك، والحجة لك، فأسالك بوجوب حجتك عليّ، وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي.
وهذه المناظرة من إياس كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لغيلان حين قال له غيلان: نشدتك الله، أترى الله يحبّ أن يُعْصَى؟ فقال: نشدتك الله، أترى الله يُعْصَى قسرًا؛ يعني: قهرًا، فكأنما ألقمه حجرًا، فإن قوله: يحب أن يُعْصَى لفظ فيه إجمال، وقد لا يتأتى في المناظرة تفسير المُجمَلات؛ خوفًا من لَدَد الخصم، فيؤتى بالواضحات، فقال: أفتراه يُعْصَى قسرًا؟ فإن هذا إلزام له بالعجز الذي هو لازم للقدَرية، ولمن هو شرّ منهم من الدهريّة الفلاسفة، وغيرهم.
وكذلك إياس رأى أن هذا الجواب المطابق لحدّهم خاصم لهم، ولم يدخل معهم في التفصيل الذي يطول.
وبالجملة فقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)} [طه: 112] قال أهل التفسير من السلف: لا يخاف أن يُظْلَم، فيَحْمِل عليه سيئات غيره، ولا يُهْضَم، فيُنقص من حسناته، ولا يجوز أن يكون هذا الظلم هو شيء ممتنَع غير مقدور عليه، فيكون التقدير: لا يخاف ما هو ممتنع لذاته، خارج عن الممكنات، والمقدورات، فإن مثل هذا إذا لم يكن وجوده ممكنًا، حتى يقولوا: إنه غير مقدور، ولو أراد؛ كخلق المِثْل له، فكيف يُعقل وجوده فضلًا أن يُتصور خوفه، حتى يُنفَى خوفه؟ ثم أيّ فائدة في نفي خوف هذا؟ وقد عُلم من سياق الكلام أن المقصود بيان أن هذا العامل المحسن لا يُجزَى على إحسانه بالظلم والهضم، فعُلم أن الظلم والهضم المنفيّ يتعلق بالجزاء، كما ذكره أهل التفسير، وإن الله لا يجزيه إلا بعمله، ولهذا كان الصواب الذي دلّت عليه النصوص أن الله لا يعذِّب في الآخرة إلا من أذنب، كما قال:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)} [ص: 85]، فلو دخلها أحد من غير أتباعه لم تمتلئ منهم، ولهذا ثبت في "الصحيحين" في حديث: تحاجّ الجنة والنار، من حديث أبي هريرة وأنس: أن النار لا تمتلئ ممن كان
أُلقي فيها حتى يَنْزَوِي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، بعد قولها: هل من مزيد، وأما الجنة فيبقى فيها فضل عمن يدخلها من أهل الدنيا، فيُنشئ الله لها خلقًا آخر، ولهذا كان الصواب الذي عليه الأئمة فيمن لم يُكَلَّف في الدنيا من أطفال المشركين، ونحوهم، ما صحّ به الحديث، وهو أن الله أعلم بما كانوا عاملين، فلا نحكم لكل منهم بالجنة، ولا لكل منهم بالنار، بل هم ينقسمون بحسب ما يظهر من العلم إذا كُلِّفوا يوم القيامة في العرضات، كما جاءت بذلك الآثار.
وكذلك قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت: 46] يدلّ الكلام على أنه لا يظلم محسنًا، فينقصه من إحسانه، أو يجعله لغيره، ولا يظلم مسيئًا، فيجعل عليه سيئات غيره، بل لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، وهذا كقوله:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 36 - 39]، فأخبر أنه ليس على أحد من وِزْر غيره شيء، وأنه لا يستحقّ إلا ما سعاه، وكلا القولين حقّ على ظاهره، وإن ظنّ بعض الناس أن تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ينافي الأول، فليس كذلك؛ إذ ذلك النائح يعذَّب بِنَوْحه، لا يَحْمِل الميت وِزره، ولكن الميت يناله ألمٌ مِن فِعل هذا، كما يتألم الإنسان من أمور خارجة عن كسبه، وإن لم يكن جزاء الكسب والعذاب أعمّ من العقاب، كما قال:"السفر قطعة من العذاب".
وكذلك ظنّ قوم أن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحيّ ينافي قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} فليس الأمر كذلك، فإن انتفاع الميت بالعبادات البدنية من الحيّ بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالعبادات المالية، ومن ادّعَى أن الآية تُخالف أحدهما دون الآخر، فقوله ظاهر الفساد، بل ذلك بالنسبة إلى الآية كانتفاعه بالدعاء والاستغفار، والشفاعة، وقد بينّا في غير هذا الموضع نحوًا من ثلاثين دليلًا شرعيًّا يبيّن انتفاع الإنسان بسعي غيره؛ إذ الآية إنما نفت استحقاق السعي ومُلكه، وليس كل ما لا يستحقه الإنسان، ولا يملكه لا يجوز أن يُحسن إليه مالكه ومستحقه بما ينتفع به منه، فهذا نوع، وهذا نوع، وكذلك ليس كل ما لا يملكه الإنسان لا يحصل له من جهته منفعة، فإن هذا كَذِب في الأمور الدينية، والدنيوية.
وهذه النصوص النافية للظلم تُثبت العدل في الجزاء، وأنه لا يُبخَس عامل عمله، وكذلك قوله فيمن عاقبهم:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، وقوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)} [الزخرف: 76] بَيَّن أن عقاب المجرمين عدلًا
(1)
لذنوبهم، لا لأنّا ظلمناهم، فعاقبناهم بغير ذنب.
والحديث الذي في "السنن": "لو عذّب الله أهل سماواته، وأهل أرضه لعذّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم" يبيّن أن العذاب لو وقع لكان لاستحقاقهم ذلك، لا لكونه بغير ذنب، وهذا يبيّن أن من الظلم المنفيّ عقوبة من لم يذنب، وكذلك قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} [غافر: 30، 31]، يبيّن أن هذا العقاب لم يكن ظلمًا لاستحقاقهم ذلك، وأن الله لا يريد الظلم، والأمر الذي لا يمكن القدرة عليه لا يصلح أن يمدح الممدوح بعدم إرادته، وإنما يكون المدح بترك الأفعال إذا كان الممدوح قادرًا عليها، فعُلم أن الله قادر على ما نزّه نفسه عنه من الظلم، وأنه لا يفعله، وبذلك يصحّ قوله:"إني حرمت الظلم على نفسي" وأن التحريم هو المنع، وهذا لا يجوز أن يكون فيما هو ممتنِع لذاته، فلا يصلح أن يقال: حرّمت على نفسي، أو منعت نفسي من خَلْق مِثلي، أو جعل المخلوقات خالقة، ونحو ذلك من المحالات، وأكثر ما يقال في تأويل ذلك ما يكون معناه: إني أخبرت عن نفسي بأن ما لا يكون مقدورًا، لا يكون مني، وهذا المعنى مما يتيقن المؤمن أنه ليس مراد الربّ، وأنه يجب تنزيه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن إرادة مثل هذا المعنى الذي لا يليق الخطاب بمثله؛ إذ هو مع كونه شِبْه التكرير، وإيضاح الواضح ليس فيه مدح، ولا ثناء، ولا ما يستفيده المستمِع، فعُلم أن الذي حرّمه على نفسه هو أمر مقدور عليه، لكنه لا يفعله؛ لأنه حرّمه على نفسه، وهو سبحانه منزّه عن فِعله، مقدَّس عنه.
يبيّن ذلك أن ما قاله الناس في حدود الظلم يتناول هذا دون ذلك؛ كقول
(1)
هكذا النسخة بالنصب، والظاهر أنه "عدلٌ" بالرفع، فتأمله.
بعضهم: الظلم وَضْع الشيء في غير موضعه؛ كقولهم: من أشبَه أباه فما ظلم؛ أي: فما وَضَع الشَّبَه غير موضعه، ومعلوم أن الله سبحانه حَكمٌ عدلٌ لا يضع الأشياء إلا مواضعها، ووضْعها غير مواضعها ليس ممتنعًا لذاته، بل هو ممكن، لكنه لا يفعله؛ لأنه لا يريده، بل يكرهه، ويُبغضه؛ إذ قد حرّمه على نفسه.
وكذلك من قال: الظلم إضرار غير مستحقّ، فإن الله لا يعاقب أحدًا بغير حقّ، وكذلك من قال: هو نقص الحقّ، وذَكَر أن أصله النقص؛ كقوله:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33].
وأما من قال: هو التصرف في ملك الغير، فهذا ليس بمطّرد، ولا منعكس، فقد يتصرف الإنسان في مُلك غيره بحقّ، ولا يكون ظالِمًا، وقد يتصرف في ملكه بغير حقّ، فيكون ظالِمًا، وظُلم العبد نفسه كثير في القرآن، وكذلك من قال: فِعل المأمور خلاف ما أُمر به، ونحو ذلك، إن سُلِّم صحة مثل هذا الكلام، فالله سبحانه قد كَتَب على نفسه الرحمة، وحَرَّم على نفسه الظلم، فهو لا يفعل خلاف ما كَتَب، ولا يفعل ما حَرَّم.
وليس هذا الجواب موضع بسط هذه الأمور التي نبّهنا عليها فيه، وإنما نشير إلى النَّكَت، وبهذا يتبيّن القول المتوسط، وهو أن الظلم الذي حرّمه الله على نفسه، مثل أن يترك حسنات المحسن، فلا يَجزيه بها، ويعاقب البريء على ما لم يفعل من السيئات، ويعاقب هذا بذنب غيره، أو يحكم بين الناس بغير القسط، ونحو ذلك، من الأفعال التي ينزّه الربّ عنها؛ لِقِسْطه، وعَدْله، وهو قادرٌ عليها، وإنما استحقَّ الحمد والثناء؛ لأنه ترك هذا الظلم، وهو قادر عليه، وكما أن الله منزَّه عن صفات النقص والعيب، فهو أيضًا منزَّه عن أفعال النقص والعيب.
وعلى قول الفريق الثاني ما ثَمّ فعلٌ يجب تنزيه الله عنه أصلًا، والكتاب، والسُّنَّة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها يدلّ على خلاف ذلك، ولكن متكلمو أهل الإثبات لمّا ناظروا متكلمة النفي، ألزموهم لوازم لم ينفصلوا عنها، إلا بمقابلة الباطل بالباطل، وهذا مما عابه الأئمة، وذمّوه، كما عاب الأوزاعيُّ، والزُّبَيديّ، والثوريُّ، وأحمد بن حنبل، وغيرهم، مقابلة القَدَرية بالغلوّ في
الإثبات، وأَمروا بالاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، وكما عابوا أيضًا على من قابل الجهمية نفاة الصفات بالغلوّ في الإثبات، حتى دخل في تمثيل الخالق بالمخلوق، وقد بسطنا الكلام في هذا وهذا، وذكرنا كلام السلف، والأئمة في هذا في غير هذا الموضع.
ولو قال قائل: هذا مبنيّ على مسألة تحسين العقل وتقبيحه، فمن قال: العقل يُعْلَم به حُسن الأفعال وقُبحها، فإنه ينزّه الربّ عن بعض الأفعال، ومن قال: لا يُعلم ذلك إلا بالسمع، فإنه يجوز جميع الأفعال عليه؛ لعدم النهي في حقه.
قيل له: ليس بناء هذه على تلك بلازم، وبتقدير لزومها، ففي تلك تفصيل وتحقيق، قد بسطناه في موضعه، وذلك إنّا فرضنا أنّا نعلم بالعقل حُسن بعض الأفعال وقُبحها، لكن العقل لا يقول: إن الخالق كالمخلوق، حتى يكون ما جعله حَسَنًا لهذا، أو قبيحًا له، جَعَله حسنًا للآخر، أو قبيحًا له، كما يفعل مِثل ذلك القَدَرية؛ لِمَا بين الربّ والعبد من الفروق الكثيرة، وإنْ فرضنا أن حسن الأفعال وقبحها لا يُعلم إلا بالشرع، فالشرع قد دلّ على أن الله قد نَزَّه نفسه عن أفعال وأحكام، فلا يجوز أن يفعلها تارةً بخبره مثنيًا على نفسه، بأنه لا يفعلها، وتارة بخبره أنه حرّمها على نفسه.
وهذا يبيِّن المسألة الثانية، فنقول:
الناس لهم في أفعال الله باعتبار ما يصلح منه، ويجوز، وما لا يجوز منه، ثلاثة أقوال: طرفان، ووسط.
فالطرف الواحد: طَرَف القدرية، وهم الذين حجروا عليه أن يفعل إلا ما ظنّوا بعقلهم أنه الجائز له، حتى وضعوا له شريعة التعديل والتجويز، فأوجبوا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، وحرّموا عليه بعقلهم أمورًا كثيرة، لا بمعنى أن العقل آمر له ونَاهٍ، فإن هذا لا يقوله عاقل، بل بمعنى أن تلك الأفعال مما عُلم بالعقل وجوبها وتحريمها، ولكن أدخلوا في ذلك المنكرات ما بنوه
(1)
على بدعتهم في التكذيب بالقدر، وتوابع ذلك.
(1)
كذا النسخة، ولعلّ الأَولى: مما بنوه. . . إلخ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
والطرف الثاني: طرف الغُلاة في الرد عليهم، وهم الذين قالوا: لا ينزه الربّ عن فِعل من الأفعال، ولا نعلم وجه امتناع الفعل منه، إلا من جهة خبره، أنه لا يفعله، المطابق لعلمه، بأنه لا يفعله، وهؤلاء منعوا حقيقة ما أخبر به من أنه كَتَب على نفسه الرحمة، وحرّم على نفسه الظلم، قال الله تعالى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لمّا قضى الخلق، كتب على نفسه كتابًا، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"، ولم يعلم هؤلاء أن الخبر المجرد المطابق للعلم، لا يبيّن وَجْه فِعله وترْكه؛ إذ العلم يطابق المعلوم، فعِلمه بأنه يفعل هذا، وأنه لا يفعل هذا، ليس فيه تعرّض؛ لأنه كتب هذا على نفسه، وحرّم هذا على نفسه، كما لو أخبر عن كائن مَن كان أنه يفعل كذا، ولا يفعل كذا، لم يكن في هذا بيان لكونه محمودًا ممدوحًا على فِعل هذا، وترْك هذا، ولا في ذلك ما يبيّن قيام المقتضي لهذا، والمانع من هذا، فإن الخبر المحض كاشف عن المخبَر عنه، ليس فيه بيان ما يدعو إلى الفعل، ولا إلى الترك، بخلاف قوله:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 12]، وحرّم على نفسه الظلم، فإن التحريم مانع من الفعل، وكتابته على نفسه داعية إلى الفعل، وهذا بَيِّن واضح؛ إذ ليس المراد بذلك مجرد كتابته أنه يفعل، وهو كتابة التقدير، كما قد ثبت في "الصحيح":"أنه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء"، فإنه قال:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ، ولو أريد كتابة التقدير لكان قد كتب على نفسه الغضب، كما كتب على نفسه الرحمة؛ إذ كان المراد مجرّد الخبر عما سيكون، ولكان قد حرّم على نفسه كل ما لم يفعله من الإحسان، كما حرّم الظلم.
وكما أن الفرق ثابت في حقنا بَيْنَ قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]، وبيْن قوله:{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)} [القمر: 52]، وقوله:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]، وقوله: "فيُبعث إليه الملَك، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال
له: اكتب رزقه، وأجَله، وعمله، وشقيٌّ، أو سعيد"، فهكذا الفرق أيضًا ثابت في حقّ الله تعالى.
ونظير ما ذكره من كتابته على نفسه كما تقدم، قوله تعالى:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"يا معاذ أتدري ما حقّ الله على عباده؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"حقّه عليهم أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، أتدري ما حقّ العباد على الله، إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم، قال:"حقهم عليه ألا يعذبهم"، ومنه قوله في غير حديث: كان حقًّا على الله أن يفعل به كذا، فهذا الحقّ الذي عليه هو أَحَقَّه على نفسه بقوله.
ونظير تحريمه على نفسه، وإيجابه على نفسه، ما أخبر به من قَسَمه ليفعلنّ، وكلمته السابقة؛ كقوله:{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [يونس: 19]، وقوله:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18]، {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 13]، {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 195]، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} [الأعراف: 6]، ونحو ذلك من صيغ القَسَم المتضمنة معنى الإيجاب، والمعنى، بخلاف القَسَم المتضمن للخبر المحض، ولهذا قال الفقهاء: اليمين إما أن توجب حقًّا، أو منعًا، أو تصديقًا، أو تكذيبًا، وإذا كان معقولًا في الإنسان أنه يكون آمرًا مأمورًا؛ كقوله:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، وقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)} [النازعات: 40] مع أن العبد له آمر وناهٍ فوقه، والربّ الذي ليس فوقه أحد لَأَنْ يُتصوّر أن يكون هو الآمر الكاتب على نفسه الرحمة، والناهي المحرِّم على نفسه الظلم أَولى وأحرى، وكتابته على نفسه ذلك تستلزم إرادته لذلك، ومحبته له، ورضاه بذلك، وتحريمه الظلم على نفسه، يستلزم بغضه لذلك، وكراهته له وإرادته، ومحبّتُهُ للفعل توجب وقوعه منه، وبغضه له، وكراهته لأن يفعله يمنع وقوعه منه، فأما ما يحبه، ويبغضه من أفعال عباده، فذلك نوع آخر، ففَرْق بين فعله هو، وبين ما هو مفعول مخلوق له، وليس في مخلوقه ما هو ظلم منه، وإن كان بالنسبة إلى فاعله الذي هو الإنسان هو ظلم، كما أن أفعال الإنسان
هي بالنسبة إليه تكون سرقة، وزنا، وصلاةً، وصومًا، والله تعالى خالقها بمشيئته، وليست بالنسبة إليه كذلك؛ إذ هذه الأحكام هي للفاعل الذي قام به هذا الفعل، كما أن الصفات هي صفات للموصوف الذي قامت به، لا للخالق الذي خلقها، وجعلها صفات، والله تعالى خلق كل صانع وصُنعته، كما جاء في الحديث، وهو خالق كل موصوف وصفته.
ثم صفات المخلوقات ليست صفات له؛ كالألوان، والطعوم، والروائح؛ لعدم قيام ذلك به، وكذلك حركات المخلوقات ليست حركات له، ولا أفعالًا له بهذا الاعتبار؛ لكونها مفعولات، هو خلقها، وبهذا الفرق تزول شبهٌ كثيرة، والأمر الذي كتبه على نفسه يستحق عليه الحمد والثناء، وهو مقدَّس عن تَرْك هذا الذي لو تُرك لكان تَرْكه نقصًا، وكذلك الأمر الذي حرّمه على نفسه يستحق الحمد والثناء على ترْكه، وهو مقدّس عن فعله الذي لو كان لأوجب نقصًا.
وهذا كله بَيِّنٌ - ولله الحمد - عند الذين أوتوا العلم والأيمان، وهو أيضًا مستقرّ في قلوب عموم المؤمنين، ولكن القدرية شبّهوا على الناس بشبههم، فقابلهم مَن قابلهم بنوع من الباطل؛ كالكلام الذي كان السلف والأئمة يذمونه، وذلك أن المعتزلة قالوا: قد حصل الاتفاق على أن الله ليس بظالم، كما دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة، والظالم مَن فَعل الظلم، كما أن العادل من فعل العدل، هذا هو المعروف عند الناس، من مسمى هذا الاسم سمعًا وعقلًا، قالوا: ولو كان الله خالقًا لأفعال العباد التي هي الظلم لكان ظالِمًا، فعارضهم هؤلاء بأن قالوا: ليس الظالم من فعل الظلم، بل الظالم من قام به الظلم، وقال بعضهم: الظالم من اكتسب الظلم، وكان منهيًّا عنه، وقال بعضهم: الظالم من فعل محرّمًا عليه، أو ما نُهي عنه.
ومنهم من قال: من فعل الظلم لنفسه، وهؤلاء يَعْنون أن يكون الناهي له والمحرِّم عليه غيره الذي يجب عليه طاعته، ولهذا كان تصوّر الظلم منه ممتنعًا عندهم لذاته؛ كامتناع أن يكون فوقه آمر له وَنَاهٍ، ويمتنع عند الطائفتين أن يعود إلى الربّ من أفعاله حُكم لنفسه، وهؤلاء لم يمكنهم أن ينازعوا أولئك في أن العادل مَن فَعَل العدل، بل سلّموا ذلك لهم، وإن نازعهم بعض الناس منازعة عناديّةً، والذي يكشف تلبيس المعتزلة أن يقال لهم: الظالم والعادل الذي يعرفه
الناس، وإن كان فاعلًا للظلم والعدل، فذلك يأثم به أيضًا، ولا يعرف الناس من يسمى ظالِمًا، ولم يقم به الفعل الذي به صار ظالِمًا، بل لا يعرفون ظالمًا إلا من قام به الفعل الذي فَعَله، وبه صار ظالمًا، وإن كان فِعْله متعلقًا بغيره، وله مفعول منفصل عنه، لكن لا يعرفون الظالم إلا بأن يكون قد قام به ذلك، فكونكم أخذتم في حدّ الظالم أنه من فعل الظلم، وعَنَيْتم بذلك مَن فَعله في غيره، فهذا تلبيس، وإفساد للشرع والعقل واللغة، كما فعلتم في مسمى المتكلم حيث قلتم: هو من فعل الكلام، ولو في غيره، وجعلتم من أحدث كلامًا منفصلًا عنه قائمًا بغيره متكلمًا، وإن لم يقم به هو كلام أصلًا، وهذا من أعظم البهتان والقرمطة والسفسطة، ولهذا ألزمهم السلف أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات، وكذلك أيضًا ما خلقه في الحيوانات، ولا يفرق حينئذ بين نَطَقَ وأنطق، وإنما قالت الجلود: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء، ولم تقل: نطق الله بذلك، ولهذا قال من قال من السلف؛ كسليمان بن داود الهاشميّ وغيره ما معناه: أنه على هذا يكون الكلام الذي خُلق في فرعون حتى قال: أنا ربكم الأعلى؛ كالكلام الذي خُلق في الشجرة حتى قالت: إنني أنا الله لا إله إلا أنا، فإما أن يكون فرعون محقًّا، أو تكون الشجرة كفرعون، وإلى هذا المعنى ينحو الاتحادية من الجهمية، ويُنشدون:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ
…
سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وهذا يستوعب أنواع الكفر، ولهذا كان من الأمر البيّن للخاصة والعامة أن من قال: المتكلم لا يقوم به كلامٌ أصلًا، فإن حقيقة قوله: أنه ليس بمتكلم؛ إذ ليس المتكلم إلا هذا، ولهذا كان أَوَّلُوهم يقولون: ليس بمتكلم، ثم قالوا: هو متكلم بطريق المجاز، وذلك لِمَا استقرّ في الفِطَر أن المتكلم لا بدّ أن يقوم به كلام، وإن كان مع ذلك فاعلًا له، كما يقوم بالإنسان كلامه، وهو كاسب له، أما أن يجعل مجرد إحداث الكلام في غيره كلامًا له، فهذا هو الباطل.
وهكذا القول في الظلم، فَهَبْ أن الظالم مَن فعل الظلم، فليس هو مَن فَعَله في غيره، ولم يَقُم به فِعل أصلًا، بل لا بدّ أن يكون قد قام به فعلٌ، وإن كان متعديًا إلى غيره، فهذا جوابٌ، ثم يقال لهم: الظلم فيه نسبة وإضافة، فهو
ظلم من الظالم، بمعنى أنه عدوان، وبَغْيٌ منه، وهو ظلم للمظلوم، بمعنى أنه بغيٌ، واعتداء عليه، وأما من لم يكن مُتَعَدًّى عليه به، ولا هو منه عدوان على غيره، فهو في حقه ليس بظلم، لا منه، ولا له، والله سبحانه إذا خلق أفعال العباد، فذلك من جنس خَلْقه لصفاتهم، فهم الموصوفون بذلك، فهو سبحانه إذا جعل بعض الأشياء أسود، وبعضها أبيض، أو طويلًا، أو قصيرًا، أو متحركًا، أو ساكنًا، أو عالِمًا، أو جاهلًا، أو قادرًا، أو عاجزًا، أو حيًّا، أو ميتًا، أو مؤمنًا، أو كافرًا، أو سعيدًا، أو شقيًّا، أو ظالمًا، أو مظلومًا، كان ذلك المخلوق هو الموصوف بأنه الأبيض، والأسود، والطويل، والقصير، والحيّ، والميت، والظالم، والمظلوم، ونحو ذلك، والله سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وإنما إحداثه للفعل الذي هو ظُلم من شخص، وظلم لآخر بمنزلة إحداثه الأكل، والشرب، الذي هو أَكْل من شخص، وأكل لآخَر، وليس هو بذلك آكلًا، ولا مأكولًا.
ونظائر هذا كثيرة، وإن كان في خلق أفعال العباد لازِمها ومتعديها حِكَمٌ بالغة، كما له حِكْمة بالغةٌ في خَلْق صفاتهم، وسائر المخلوقات، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك، وقد ظهر بهذين الوجهين تدليس القدريّة.
وأما تلك الحدود التي عورضوا بها، فهي دعاوٍ، ومخالفة أيضًا للمعلوم من الشرع واللغة والعقل، أو مشتملة على نوع من الإجمال، فإن قول القائل: الظالم من قام به الظلم، يقتضي أنه لا بدّ أن يقوم به، لكن يقال له: وإن لم يكن فاعلًا له، آمرًا له، لا بدّ أن يكون فاعلًا له مع ذلك، فإن أراد الأول كان اقتصاره على تفسير الظالم بمن قام به الظلم كاقتصار أولئك على تفسير الظالم في فِعل الظلم، والذي يعرفه الناس عامّهم وخاصّهم، أن الظالم فاعل للظلم، وظُلمه فعلٌ قائم به، وكل من الفريقين جَحَد بعض الحقّ.
وأما قولهم: من فعل محرّمًا عليه، أو منهيًّا عنه ونحو ذلك، فالإطلاق صحيح، لكن يقال: قد دل الكتاب والسُّنَّة على أن الله تعالى كَتَب على نفسه الرحمة، وكان حقًّا عليه نَصْر المؤمنين، وكان حقًّا عليه أن يجزي المطيعين، وأنه حرّم الظلم على نفسه، فهو سبحانه الذي حرَّم بنفسه على نفسه الظلم، كما أنه هو الذي كتب بنفسه على نفسه الرحمة، لا يمكن أن يكون غيره محرّمًا
عليه، أو موجبًا عليه فضلًا عن أن يعلم ذلك بعقل أو غيره، وإذا كان كذلك فهذا الظلم الذي حرّمه على نفسه، هو ظُلم بلا ريب، وهو أمر ممكن مقدور عليه، وهو سبحانه يتركه مع قدرته عليه بمشيئته واختياره؛ لأنه عادل، ليس بظالم، كما يترك عقوبة الأنبياء والمؤمنين، وكما يترك أن يُحَمِّل البريء ذنوب المعتدين.
[فصل]
قوله: "وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا" ينبغي أن يُعْرَف أن هذا الحديث شريف القَدْر، عظيم المنزلة، ولهذا كان الإمام أحمد يقول: هو أشرف حديث لأهل الشام، وكان أبو إدريس الخولانيّ إذا حدّث به جثا على ركبتيه، وراويه أبو ذرّ الذي ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجةً منه، وهو من الأحاديث الإلهية التي رواها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وأخبر أنها من كلام الله تعالى، وإن لم تكن قرآنًا، وقد جمع في هذا الباب زاهر السحاميّ، وعبد الغنيّ المقدسيّ، وأبو عبد الله المقدسيّ، وغيرهما
(1)
.
وهذا الحديث قد تضمَّن من قواعد الدين العظيمة في العلوم، والأعمال، والأصول، والفروع، فإن تلك الجملة الأولى، وهي قوله:"حَرَّمت الظلم على نفسي" تتضمَّن جُلّ مسائل الصفات والقَدَر؛ إذا أُعطيت حقّها من التفسير، وإنما ذكرنا فيها ما لا بدّ من التنبيه عليه، من أوائل النكت الجامعة.
وأما هذه الجملة الثانية، وهي قوله:"وجعلته بينكم محرّمًا بينكم، فلا تظالموا"، فإنها تجمع الدين كلّه، فإن ما نهى الله عنه راجع إلى الظلم، وكلّ ما أمر به راجع إلى العدل.
ولهذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25]، فأخبر أنه أرسل الرسل، وأنزل الكتاب والميزان؛ لأجل قيام الناس بالقسط، وذكر أنه أنزل الحديد الذي به يُنصر هذا
(1)
هكذا النسخة، والظاهر: وغيرهم، والله تعالى أعلم.
الحقّ، فالكتاب يهدي، والسيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.
ولهذا كان قِوَام الناس بأهل الكتاب، وأهل الحديد، كما قال من قال من السلف: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء، والعلماء، وقالوا في قوله تعالى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] أقوالًا تجمع العلماء والأمراء، ولهذا نصّ الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية؛ إذ كلٌّ منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله، وكان نوّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته؛ كعليّ، ومعاذ، وأبي موسى، وعَتّاب بن أَسِيد، وعثمان بن أبي العاص، وأمثالهم، يجمعون الصنفين، وكذلك خلفاؤه من بعده؛ كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ونوابهم.
ولهذا كانت السُّنَّة أن الذي يصلي بالناس صاحب الكتاب، والذي يقوم بالجهاد صاحب الحديد، إلى أن تفرّق الأمر بعد ذلك، فإذا تفرّق صار كل من قام بأمر الحرب من جهاد الكفار، وعقوبات الفجار، يجب أن يطاع فيما يأمر به، من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بجمع الأموال، وقَسْمها يجب أن يطاع فيما يأمر به من طاعة الله في ذلك، وكذلك من قام بالكتاب بتبليغ أخباره، وأوامره، وبيانها، يجب أن يصدَّق، ويطاع فيما أخبر به من الصدق في ذلك، وفيما يأمر به، من طاعة الله في ذلك.
والمقصود هنا أن المقصود بذلك كلّه هو أن يقوم الناس بالقسط، ولهذا لمّا كان المشركون يُحَرِّمون أشياء، ما أنزل الله بها من سلطان، ويأمرون بأشياء، ما أنزل الله بها من سلطان، أنزل الله في "سورة الأنعام"، و"الأعراف"، وغيرهما يذمّهم على ذلك، وذَكَر ما أمر به هو، وما حرّمه هو، فقال:{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].
وهذه الآية تجمع أنواع المحرّمات، كما قد بيّناه في غير هذا الموضع، وتلك الآية تجمع أنواع الواجبات، كما بيّناه أيضًا.
وقوله: {أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أمَر مع القسط بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا أصل الدين، وضدّه هو الذنب الذي لا يُغفر، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وهو الدِّين الذي أمر الله به جميع الرسل، وأرسلهم به إلى جميع الأمم، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)} [الأنبياء: 25]، وقال تعالى:{وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)} [المؤمنون: 51، 52].
ولهذا ترجم البخاريّ في "صحيحه": "باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد"، وذكر الحديث الصحيح في ذلك، وهو الإسلام العامّ الذي اتفق عليه جميع النبيين، قال نوح عليه السلام:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]، وقال تعالى في قصة إبراهيم:{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)} [البقرة: 131، 132]، {وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)} [يونس: 84]، وقال تعالى:{قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 52]، وقال في قصة بلقيس:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44]، وقال:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44].
وهذا التوحيد الذي هو أصل الدين، هو أعظم العدل، وضدّه، وهو الشرك أعظم الظلم، كما أخرجاه في "الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود قال: لمّا أُنزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقّ ذلك على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال: "ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم"، وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا،
وهو خلقك" قلت: ثم أيّ؟ قال: "ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك" قلت: ثم أيّ؟ قال: "أن تزاني بحليلة جارك"، فأنزل الله تصديق ذلك:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68].
وقد جاء عن غير واحد من السلف، ورُوي مرفوعًا:"الظلم ثلاثة دواوين: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا، فهو الشرك، فإن الله لا يغفر أن يُشرَك به، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا، فهو ظُلم العباد بعضهم بعضًا، فإن الله لا بُدّ أن يُنصف المظلوم من الظالم، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا، فهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه"؛ أي: مغفرة هذا الضرب ممكنة بدون رضا الخلق، فإن شاء عذّب هذا الظالم لنفسه، وإن شاء غفر له.
وقد بسطنا الكلام في هذه الأبواب الشريفة، والأصول الجامعة في القواعد، وبيَّنا أنواع الظلم، وبيَّنا كيف كان الشرك أعظم أنواع الظلم، ومسمى الشرك جليله ودقيقه، فقد جاء في الحديث:"الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل".
ورُوي أن هذه الآية نزلت في أهل الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وكان شداد بن أوس يقول: يا بقايا العرب، يا بقايا العرب، إنما أخاف عليكم الرياء، والشهوة الخفية. قال أبو داود السجستانيّ، صاحب "السنن" المشهورة: الخفية حبّ الرياسة، وذلك أن حب الرياسة هو أصل البغي والظلم، كما أن الرياء هو من جنس الشرك، أو مبدأ الشرك.
والشرك أعظم الفساد، كما أن التوحيد أعظم الصلاح، ولهذا قال تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص: 4] إلى أن ختم السورة بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83]، وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} [الإسراء: 4]، وقال:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وقالت الملائكة:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30].
فأصل الصلاح: التوحيد والإيمان، وأصل الفساد: الشرك والكفر، كما قال عن المنافقين:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} [البقرة: 11، 12]، وذلك أن صلاح كل شيء أن يكون بحيث يحصل له، وبه المقصود الذي يراد منه، ولهذا يقول الفقهاء: العقد الصحيح ما ترتَّب عليه أثره، وحصل به مقصوده، والفاسد ما لم يترتب عليه أثره، ولم يحصل به مقصود، والصحيح المقابل للفاسد في اصطلاحهم هو الصالح.
وكان يكثر في كلام السلف: هذا لا يصلح، أو يصلح، كما كَثُر في كلام المتأخرين: يصحّ، ولا يصحّ، والله تعالى إنما خلق الإنسان لعبادته، وبدنه تَبَع لقلبه، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فَسَدَ لها سائر الجسد، ألا وهي القلب"، وصلاح القلب في أن يحصل له وبه، المقصود الذي خُلق له من معرفة الله تعالى ومحبته وتعظيمه، وفساده في ضدّ ذلك، فلا صلاح للقلوب بدون ذلك قطّ.
والقلب له قوّتان: العلم، والقصد، كما أن للبدن: الحسّ، والحركة الإرادية، فكما أنه متى خرجت قوى الحسّ والحركة عن الحال الفطريّ الطبيعيّ فَسَدَت، فإذا خرج القلب عن الحال الفطرية التي يولد عليها كل مولود، وهي أن يكون مقرًّا لربه، مريدًا له، فيكون هو منتهى قصده، وإرادته، وذلك هي العبادة؛ إذ العبادة كمالُ الحبّ بكمال الذلّ، فمتى لم تكن حركة القلب، ووَجْهه، وإرادته لله تعالى، كان فاسدًا، إما بأن يكون معرضًا عن الله، وعن ذِكره، غافلًا عن ذلك، مع تكذيب، أو بدون تكذيب، أو بأن يكون له ذِكر وشعور، ولكن قَصْده وإرادته غيره؛ لكون الذِّكر ضعيفًا، لم يجتذب القلب إلى إرادة الله ومحبته وعبادته، وإلا فمتى قَوِي عِلم القلب وذِكره، أوجب قَصْده
وعِلمه، قال تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30] فأمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بأن يُعرض عمن كان معرضًا عن ذِكر الله، ولم يكن له مراد إلا ما يكون في الدنيا، وهذه حال من فسد قلبه، ولم يذكر ربه، ولم يُنب إليه، فيريد وجهه، ويخلص له الدين، ثم قال:{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} ، فأخبر أنهم لم يحصل لهم عِلم فوق ما يكون في الدنيا، فهي أكبر همّهم، ومبلغ علمهم، وأما المؤمن فأكبر همه هو الله، وإليه انتهى علمه، وذِكره، وهذا الآن
(1)
باب واسع عظيم قد تكلمنا عليه في مواضعه.
وإذا كان التوحيد أصل صلاح الناس، والإشراك أصل فسادهم، والقسط مقرون بالتوحيد؛ إذ التوحيد أصل العدل، وإرادة العلوّ مقرونة بالفساد؛ إذ هو أصل الظلم، فهذا مع هذا، وهذا مع هذا كالملزوزين في قَرَنٍ، فالتوحيد، وما يَتْبعه من الحسنات، هو صلاح وعدل، ولهذا كان الرجل الصالح هو القائم بالواجبات، وهو البِرّ، وهو العدل، والذنوب التي فيها تفريط، أو عدوان في حقوق الله تعالى، وحقوق عباده هي فساد وظلم، ولهذا سمى قُطاع الطريق مفسدين، وكانت عقوبتهم حقًّا لله تعالى؛ لاجتماع الوصفين، والذي يريد العلوّ على غيره من أبناء جنسه هو ظالم له باغٍ؛ إذ ليس كونك عاليًا عليه بأَولى من كونه عاليًا عليك، وكلاكما من جنس واحد، فالقسط والعدل أن يكونوا إخوةً كما وصف الله المؤمنين بذلك.
والتوحيد، وإن كان أصل الصلاح، فهو أعظم العدل، ولهذا قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)} [آل عمران: 64] ولهذا كان تخصيصه بالذكر في مثل قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29] لا يمنع أن يكون داخلًا في القسط، كما أن ذِكر العمل الصالح بعد الإيمان لا يمنع أن يكون داخلًا في الإيمان، كما في قوله:{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]، و {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب: 7] هذا إذا قيل
(1)
كذا النسخة، والظاهر أنه مصحّف من: هذا الباب، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
إن اسم الإيمان يتناوله، سواء قيل إنه في مثل هذا يكون داخلًا في الأول، فيكون مذكورًا مرتين، أو قيل: بل عَطْفه عليه يقتضي أنه ليس داخلًا فيه هنا، وإن كان داخلًا فيه منفردًا، كما قيل مئل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين، وأمثال ذلك، مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران، لكن المقصود أن كل خير فهو داخل في القسط والعدل، وكل شرّ فهو داخل في الظلم.
ولهذا كان العدل أمرًا واجبًا في كل شيء، وعلى كل أحد، والظلم محرّمًا في كل شيء، ولكل أحد، فلا يحلّ ظلم أحد أصلًا، سواء كان مسلمًا، أو كافرًا، أو كان ظالمًا، بل الظلم إنما يباح، أو يجب فيه العدل عليه أيضًا، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة: 8]- أي: لا يحملنّكم - {شَنَآنُ} [المائدة: 8]- أي: بُغض - {قَوْمٍ} - وهم الكفار - {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} - على عدم العدل - {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].
وقد دلّ على هذا قوله في الحديث: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا"، فإن هذا خطاب لجميع العباد أن لا يظلم أحدٌ أحدًا، وأَمْرُ العالم في الشريعة مبنيّ على هذا، وهو العدل في الدماء، والأموال، والأبضاع، والأنساب، والأعراض، ولهذا جاءت السُّنَّة بالقِصاص في ذلك، ومقابلة العادي بمثل فعله، لكن المماثلة قد يكون عِلمها، أو عملها متعذّرًا، أو متعسرًا، ولهذا يكون الواجب ما يكون أقرب إليها بحسب الإمكان، ويقال: هذا أمثل، وهذا أشبه، هذه الطريقة المثلى، لمّا كان أمثل بما هو العدل والحقّ في نفس الأمر؛ إذ ذاك معجوز عنه، ولهذا قال تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، فذكر أنه لم يكلف نفسًا إلا وُسْعها حين أمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط؛ لأن الكيل لا بدّ له أن يَفْضل أحد المكيلين على الآخر، ولو بحبة أو حبات، وكذلك التفاضل في الميزان، قد يحصل بشيء يسير، لا يمكن الاحتراز منه، فقال تعالى:{لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأعراف: 42].
ولهذا كان القصاص مشروعًا إذا أمكن استيفاؤه من غير جَنَف؛ كالاقتصاص في الجروح التي تنتهي إلى عَظْم، وفي الأعضاء التي تنتهي إلى مفصل، فإذا كان الجنف واقعًا في الاستيفاء عُدل إلى بَدَله، وهو الدية؛ لأنه أشبه بالعدل من إتلاف زيادة في المقتصّ منه، وهذه حجة من رأى من الفقهاء أنه لا قَوَد إلا بالسيف في العنق، قال: لأن القتل بغير السيف، وفي غير العنق لا نعلم فيه المماثلة، بل قد يكون التحريق والتغريق والتوسيط، ونحو ذلك أشدّ إيلامًا، لكن الذين قالوا: يُفعل به مثل ما فَعَل قولهم أقرب إلى العدل، فإنه مع تحرّي التسوية بين الفعلين يكون العبد قد فَعل ما يقدر عليه من العدل، وما حصل من تفاوت الألم خارج عن قدرته.
وأما إذا قَطع يديه، ورجليه، ثم وَسَطَه، فقوبل ذلك بضرب عنقه بالسيف، أو رَضَّ رأسه بين حجرين، فضرب السيف، فهنا قد تيقنا عدم المعادلة والمماثلة، وكنا قد فعلنا ما تيقّنا انتفاء المماثلة فيه، وأنه يتعذر معه وجودها، بخلاف الأول، فإن المماثلة قد تقع؛ إذ التفاوت فيه غير متيقن.
وكذلك القصاص في الضربة، واللطمة، ونحو ذلك عَدَل عنه طائفة من الفقهاء إلى التعزير؛ لعدم إمكان المماثلة فيه، والذي عليه الخلفاء الراشدون، وغيرهم من الصحابة، وهو منصوص أحمد، ما جاءت به سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثبوت القصاص به؛ لأن ذلك أقرب إلى العدل والمماثلة، فإنا إذا تحرينا أن نفعل به من جنس فِعله، ونقرّب القَدْر مِن القَدْر، كان هذا أمثل من أن نأتي بجنس من العقوبة تخالف عقوبته جنسًا وقدْرًا وصفةً.
وهذا النظر أيضًا في ضمان الحيوان، والعقار، ونحو ذلك بمثله تقريبًا، أو بالقيمة، كما نصّ أحمد على ذلك في مواضع ضمان الحيوان وغيره، ونصّ عليه الشافعيّ فيمن خَرَّب حائط غيره أنه يبنيه كما كان، وبهذا قضى سليمان عليه السلام في حكومة الحرث التي حكم فيها هو وأبوه، كما قد بُيِّن ذلك في موضعه.
فجميع هذه الأبواب المقصود للشريعة فيها تحري العدل بحسب الإمكان، وهو مقصود العلماء، لكن أفْهَمهم من قال بما هو أشبه بالعدل في نفس الأمر، وإن كان كل منهم قد أُوتي علمًا وحكمًا؛ لأنه هو الذي أنزل الله
به الكتب، وأرسل به الرسل، وضدّه الظلم، كما قال سبحانه:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا".
ولمّا كان العدل لا بدّ أن يتقدمه علم؛ إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل؟ والإنسان ظالم جاهل، إلا من تاب الله عليه، فصار عالمًا عادلًا، صار الناس من القضاة وغيرهم ثلاثة أصناف: العالم الجائر، والجاهل الظالم، فهذان من أهل النار، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجل عَلِم الحقّ، وقضى به، فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار، ورجل عَلِم الحقّ، وقضى بخلافه، فهو في النار"، فهذان القسمان كما قال: من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ، ومن قال في القرآن برأيه فأخطأ، فليتبوأ مقعده من النار.
وكلُّ من حكم بين اثنين فهو قاض، سواء كان صاحب حرب، أو متولي ديوان، أو منتصبًا للاحتساب بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى الذي يحكم بين الصبيان في الخطوط، فإن الصحابة كانوا يعدّونه من الحكام، ولمّا كان الحكام مأمورين بالعدل والعلم، وكان المفروض إنما هو بما يَبْلُغه جهد الرجل، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم، فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر".
[فصل]
فلما ذكر في أول الحديث ما أوجبه من العدل، وحرّمه من الظلم على نفسه، وعلى عباده، ذَكَر بعد ذلك إحسانه إلى عباده، مع غناه عنهم، وفقرهم إليه، وأنهم لا يقدرون على جلب منفعة لأنفسهم، ولا دفع مضرّة إلا أن يكون هو الميسّر لذلك، وأمر العباد أن يسألوه ذلك، وأخبر أنهم لا يقدرون على نفعه، ولا ضرّه، مع عِظَم ما يوصل إليهم من النعماء، ويدفع عنهم من البلاء، وجلبُ المنفعة، ودفعُ المضرة إما أن يكون في الدين، أو في الدنيا، فصارت أربعة أقسام: الهداية والمغفرة، وهما جلب المنفعة، ودفع المضرّة في الدين، والطعام والكسوة، وهما جلب المنفعة، ودفع المضرّة في الدنيا، وإن شئت قلت: الهداية والمغفرة يتعلقان بالقلب الذي هو مَلِك البدن، وهو الأصل في
الأعمال الإرادية، والطعام والكسوة يتعلقان بالبدن، الطعام لجلب منفعته، واللباس لدفع مضرته.
وفَتَحَ الأمر بالهداية، فإنها وإن كانت الهداية النافعة هي المتعلقة بالدين، فكل أعمال الناس تابعة لهدى الله عز وجل إياهم، كما قال سبحانه:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]، وقال موسى:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]، وقال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [البلد: 10]، وقال:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)} [الإنسان: 3].
ولهذا قيل: الهدى أربعة أقسام:
أحدها: الهداية إلى مصالح الدنيا، فهذا مشترك بين الحيوان الناطق، والأعجم، وبين المؤمن والكافر.
والثاني: الهدى بمعنى دعاء الخلق إلى ما ينفعهم، وأمْرهم بذلك، وهو نَصْب الأدلة، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فهذا أيضًا يشترك فيه جميع المكلفين، سواء آمنوا، أو كفروا، كما قال تعالى:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال تعالى:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وقال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، فهذا مع قوله:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] يبيّن أن الهدى الذي أثبته هو البيان، والدعاء، والأمر، والنهي، والتعليم، وما يتبع ذلك، ليس هو الهدى الذي نفاه، وهو القسم الثالث الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
والقسم الثالث: الهدى الذي هو جَعْلُ الهدى في القلوب، وهو الذي يسميه بعضهم بالإلهام، والإرشاد، وبعضهم يقول: هو خلق القدرة على الإيمان؛ كالتوفيق عندهم، ونحو ذلك، وهو بناء على أن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل، فمن قال ذلك من أهل الإثبات جعل التوفيق والهدى ونحو ذلك خَلْق القدرة على الطاعة، وأما من قال: إنهما استطاعتان:
إحداهما: قبل الفعل، وهي الاستطاعة المشروطة في التكليف، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم
تستطع، فعلى جَنْب"، وهذه الاستطاعة يقترن بها الفعل تارةً، والترك أخرى، وهي الاستطاعة التي لم تَعرف القدرية غيرها، كما أن أولئك المخالفين لهم من أهل الإثبات لم يعرفوا إلا المقارنة، وأما الذي عليه المحققون من أئمة الفقه والحديث والكلام وغيرهم، فإثبات النوعين جميعًا، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع، فإن الأدلة الشرعية والعقلية تُثبت النوعين جميعًا.
والثانية: المقارنة للفعل، وهي الموجبة له، وهي المنفية عمن لم يفعل في مثل قوله:{مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وفي قوله:{لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 101]، وهذا الهدى الذي يكثر ذكره في القرآن في مثل قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6]، وقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وفي قوله:{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17]، وأمثال ذلك.
وهذا هو الذي تنكر القدرية أن يكون الله هو الفاعل له، ويزعمون أن العبد هو الذي يهدي نفسه، وهذا الحديث وأمثاله حجة عليهم، حيث قال:"يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم" فأمَر العباد بأن يسألوه الهداية، كما أمرهم بذلك في "أم الكتاب" في قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6] وعند القدرية أن الله لا يقدر من الهدى إلا على ما فعله من إرسال الرسل، ونَصْب الأدلة، وإزاحة العلة، ولا مزية عندهم للمؤمن على الكافر في هداية الله تعالى، ولا نعمة له على المؤمن أعظم من نعمته على الكافر في باب الهدى.
وقد بَيَّن الاختصاص في هذه بعد عموم الدعوة في قوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)} [يونس: 25].
فقد جمع الحديث تنزيهه عن الظلم الذي يُجَوِّزه عليه بعض المثبتة، وبيان أنه هو الذي يهدي عباده ردًّا على القدرية، فأخبر هناك بعدله الذي يذكره بعض المثبتة، وأخبر هنا بإحسانه وقدرته الذي تنكره القدرية، وإن كان كل منهما قصده تعظيمًا لا يعرف ما اشتمل عليه قوله.
والقسم الرابع: الهدى في الآخرة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)} [الحج: 23، 24]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} [يونس: 9]، فقوله:{يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} [يونس: 9]، كقوله:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، على أحد القولين في الآية، وهذا الهدى ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قَصْد الشرّ في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار، كما قال تعالى:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)} [الصافات: 22، 23]، وقال:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]، وقال:{. . . فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} [طه: 123]، وقال:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} الآية [الإسراء: 97]، فأخبر أن الضالين في الدنيا يُحشرون يوم القيامة عُميًا وبُكمًا وصُمًّا، فإن الجزاء أبدًا من جنس العمل، كما قال:"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وقال:"ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة، ومن يسَّر على مُعْسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقال:"من سئل عن علم يعلمه، فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار"، وقد قال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وقال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَو تُخْفُوهُ أَو تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)} [النساء: 149]، وأمثال هذا كثير في الكتاب والسُّنَّة.
ولهذا أيضًا يُجْزَى الرجلُ في الدنيا على ما فَعَله من خير الهدى بما يفتح عليه من هدى آخر، ولهذا قيل: من عَمِل بما عَلِم ورّثه الله علم ما لم يعلم، وقد قال:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} - إلى قوله سبحانه وتعالى: {مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68]، وقال: {. . . قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ
مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15، 16]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد: 28]، وقال:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، فسّروه بالنصر والنجاة؛ كقوله:{يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال: 41]، وقد قيل: نور يفرّق به بين الحقّ والباطل، ومثله قوله:{. . . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، وَعَد المتقين بالمخارج من الضيق، وبرزق المنافع.
ومن هذا الباب قوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 17]، وقوله:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، ومنه قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} [الفتح: 1 - 3].
وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدّمة، كما قال الله:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 88]، وقال:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقال:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} - إلى قوله -: {لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109]- إلى قوله -: {يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وهذا باب واسع.
ولهذا قال من قال من السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئة السيئةَ بعدها.
وقد شاع في لسان العامة أن قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] من الباب الأول، حيث يستدلّون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول رَبْط الجزاء بالشرط، فلم يقل: واتقوا الله يعلمكم، ولا قال: فيعلمكم، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني، وقد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم، كما يقال: زرني وأزورك، وسلّم علينا ونسلّم عليك، ونحو ذلك مما يقتضيه اقتران الفعلين، والتعاوض من الطرفين، كما لو قال لسيده: أعتقني ولك عليّ ألف، أو قالت المرأة لزوجها:
طلقني ولك ألف، أو اخلعني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف، أو على ألف.
وكذلك أيضًا لو قال: أنت حرّ، وعليك ألف، أو أنتِ طالق، وعليك ألف، فإنه كقوله: على ألف، أو بألف عند جمهور الفقهاء، والفرق بينهما قول شاذّ، ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا، وآخذ هذا، ونحو ذلك من العبارات، فيقول الآخر: نعم، وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر دون العكس، فقوله:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} قد يكون من هذا الباب، فكلٌّ من تعليم الربّ، وتقوى العبد يقارب الآخر، ويلازمه، ويقتضيه، فمتى علّمه الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتّقاه زاده من العلم، وهَلُمّ جَرّا.
[فصل]
وأما قوله: "يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، وكلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسُكم" فيقتضي أصلين عظيمين.
أحدهما: وجوب التوكل على الله في الرزق المتضمن جلب المنفعة؛ كالطعام، ودفع المضرّة؛ كاللباس، وأنه لا يقدر غير الله على الإطعام والكسوة قدرةً مطلقةً، وإنما القدرة التي تحصل لبعض العباد تكون على بعض أسباب ذلك، ولهذا قال:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقال:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] فالمأمور به هو المقدور للعباد، وكذلك قوله:{أَو إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَو مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد: 14 - 16]، وقوله:{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، وقوله:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وقال:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] فذَمّ من يترك المأمور به اكتفاءً بما يجري به القَدَر.
ومن هنا يُعرف أن السبب المأمور به، أو المباح لا ينافي وجوب التوكل
على الله في وجوب السبب، بل الحاجة والفقر إلى الله ثابتة مع فعل السبب؛ إذ ليس في المخلوقات ما هو وحده سبب تامّ لحصول المطلوب، ولهذا لا يجب أن تقترن الحوادث بما قد يُجعل سببًا إلا بمشيئة الله تعالى، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
فمن ظنّ الاستغناء بالسبب عن التوكل فقد ترك ما أوجب الله عليه من التوكل، وأخلّ بواجب التوحيد، ولهذا يُخذل أمثال هؤلاء إذا اعتمدوا على الأسباب، فمن رجا نصرًا أو رزقًا من غير الله خذله الله، كما قال عليّ رضي الله عنه: لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافنّ إلا ذنبه، وقد قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس: 107]، وقال:{. . . قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوأَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)} [الزمر: 38].
وهذا كما أن من أخذ يدخل في التوكل تاركًا لِمَا أُمر به من الأسباب، فهو أيضًا جاهل ظالم عاصٍ لله بترك ما أَمره، فإنّ فعلَ المأمور به عبادةٌ لله، وقد قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]، وقال:{قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، وقال شعيب عليه السلام:{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، وقال:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)} [الشورى: 10]، وقال:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)} [الممتحنة: 4]، فليس مَن فَعَل شيئًا أُمر به، وتَرَك ما أُمر به من التوكل بأعظم ذنبًا ممن فَعَل ما تُرك به توكلًا، وتَرَك فِعلَ ما أمر به من السبب؛ إذ كلاهما مُخِلّ ببعض ما وجب عليه، وهما مع اشتراكهما في جنس الذنب،
فقد يكون هذا أَلْوَم، وقد يكون الآخر، مع أن التوكل في الحقيقة من جملة الأسباب.
وقد رَوَى أبو داود في "سننه" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضيّ عليه: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيِّس، فإن غلبك أمر فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المؤمن القويّ خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرِصْ على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قَدَّر الله، وما شاء فَعَل، فإن "لَوْ" تفتح عمل الشيطان"، ففي قوله صلى الله عليه وسلم:"احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز" أمْر بالتسبب المأمور به، وهو الحرص على المنافع، وأمْر مع ذلك بالتوكل، وهو الاستعانة بالله، فمن اكتفى بأحدهما، فقد عصى أحد الأمرين، ونَهَى عن العجز الذي هو ضدّ الكَيْس، كما قال في الحديث الآخر:"إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس".
وكما في الحديث الشاميِّ: "الكَيِّس من دان نفسه، وعَمِل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله"، فالعاجز في الحديث مقابل الكيِّس، ومن قال: العاجز هو مقابل البرِّ فقد حَرّف الحديث، ولم يفهم معناه، ومنه الحديث:"كلُّ شيء بقَدَر، حتى العجز والكَيْس".
ومن ذلك ما رَوَى البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجُّون، ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكلون، فإذا قَدِموا سألوا الناس، فقال الله تعالى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، فمن فعل ما أُمر به من التزود، فاستعان به على طاعة الله، وأحسنَ منه إلى من يكون محتاجًا، كان مطيعًا لله في هذين الأمرين، بخلاف من ترك ذلك ملتفتًا إلى أزواد الحجيج، كَلًّا على الناس، وإن كان مع هذا قلبه غير ملتفت إلى معيّن، فهو ملتفت إلى الجملة، لكن إن كان المتزوّد غير قائم بما يجب عليه من التوكل على الله، ومواساة المحتاج، فقد يكون في تَرْكه لِمَا أُمر به من جنس هذا التارك للتزوّد المأمور به.
وفي هذه النصوص بيان غَلَط طوائف: طائفة تُضَعِّف أمْر السبب المأمور به، فتعدّه نقصًا، أو قدحًا في التوحيد والتوكل، وأن تَرْكه من كمال التوكل والتوحيد، وهم في ذلك ملبوس عليهم، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوى في إخلاد النفس إلى البطالة، ولهذا تجد عامة هذا الضرب التاركين لِمَا أُمروا به من الأسباب، يتعلقون بأسباب دون ذلك، فإما إن يُعَلِّقوا قلوبهم بالخلق رغبةً ورهبةً، وإما أن يتركوا لأجل ما تَبَتَّلُوا له من الغلوّ في التوكل واجبات، أو مستحبات، أنفع لهم من ذلك؛ كمن يصرف همّته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء، أو نيل رزقه بلا سعي، فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف، والسعي اليسير، وصَرْف تلك الهمة، والتوجه في عمل صالح أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه مِن تبتّله لهذا الأمر اليسير الذي قَدْره درهم أو نحوه.
وفوق هؤلاء من يجعل التوكل والدعاء أيضًا نقصًا، وانقطاعًا عن الخاصّة، ظنًّا أن ملاحظة ما فُرغ منه في القَدَر هو حال الخاصّة.
وقد قال في هذا الحديث: "كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم"، وقال:"فاستكسوني أكسكم"، وفي الطبرانيّ أو غيره، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليسأل أحدكم ربه حاجته كلّها، حتى شِسْع نعله، إذا انقطع، فإنه إن لم ييسره لم يتيسر"، وهذا قد يلزمه أن يجعل أيضًا استهداء الله، وعَمَله بطاعته من ذلك.
وقولهم يوجب دَفْع المأمور به مطلقًا، بل دَفْع المخلوق والمأمور، وإنما غَلِطوا من حيث ظنّوا أن سبق التقدير يمنع أن يكون بالسبب المأمور به؛ كمن يتزندق، فيترك الأعمال الواجبة بناءً على أن القَدَر قد سبق بأهل السعادة، وأهل الشقاوة، ولم يعلم أن القَدَر سَبَق بالأمور على ما هي عليه، فمن قدّره الله من أهل السعادة، كان مما قدّره الله تيسيره لعمل أهل السعادة، ومن قدّره من أهل الشقاوة، كان مما قدَّره أنه يُيسره لعمل أهل الشقاء، كما قد أجاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال في حديث عليّ بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وسراقة بن جُعشم، وغيرهم رضي الله عنهم.
ومنه حديث الترمذيّ: حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن الزهريّ، عن أبي خِزامة، عن أبيه، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت
أدوية نتداوى بها، ورُقًى نسترقي بها، وتُقاة نتقيها، هل تردّ من قَدَر الله شيئًا؟ فقال:"هي من قدر الله".
وطائفة تظنّ أن التوكل إنما هو من مقامات الخاصّة المتقربين إلى الله بالنوافل، وكذلك قولهم في أعمال القلوب، وتوابعها؛ كالحبّ، والرجاء، والخوف، والشكر، ونحو ذلك، وهذا ضلال مبين، بل جميع هذه الأمور فروض على الأعيان باتفاق أهل الإيمان، ومن تَرَكها بالكلية فهو إما كافر، وإما منافق، لكن الناس هم فيها كما هم في الأعمال الظاهرة، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، ونصوص الكتاب والسُّنَّة طافحة بذلك، وليس هؤلاء المعرضون عن هذه الأمور علمًا وعملًا بأقلّ لومًا من التاركين لِمَا أُمروا به من أعمال ظاهرة، مع تلبّسهم ببعض هذه الأعمال، بل استحقاق الذم والعقاب يتوجه إلى من تَرَك المأمور من الأمور الباطنة والظاهرة، وإن كانت الأمور الباطنة مبتدأ الأمور الظاهرة، وأصولها، والأمور الظاهرة كمالها، وفروعها التي لا تتم إلا بها.
وأما قوله: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا"، وفي رواية:"وأنا أغفر الذنوب، ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم"، فالمغفرة العامّة لجميع الذنوب نوعان:
أحدهما: المغفرة لمن تاب، كما في قوله تعالى {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]- إلى قوله -: {ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]، فهذا السياق مع سبب نزول الآية يُبَيِّن أن المعنى: لا ييأس مذنب من مغفرة الله، ولو كانت ذنوبه ما كانت، فإن الله سبحانه وتعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لعبده التائب، وقد دخل في هذا العموم الشرك وغيره من الذنوب، فإن الله تعالى يغفر ذلك لمن تاب منه، قال تعالى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]- إلى قوله -: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]، وقال في الآية الأخرى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقال:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} [المائدة: 73]- إلى قوله -: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)} [المائدة: 74].
وهذا القول الجامع بالمغفرة لكل ذنب للتائب منه، كما دلّ عليه القرآن والحديث، هو الصواب عند جماهير أهل العلم، وإن كان من الناس من يستثني بعض الذنوب؛ كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تُقبل باطنًا للحديث الإسرائيليّ الذي فيه: فكيف من أضللت؟، وهذا غلطٌ، فإن الله قد بَيَّن في كتابه، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع، وقد قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج: 10]، قال الحسن البصريّ: انظروا إلى هذا الكرم، عذبوا أولياءه، وفَتَنُوهم، ثم هو يدعوهم إلى التوبة، وكذلك توبة القاتل، ونحوه، وحديث أبي سعيد المتّفق عليه في الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، يدلّ على قبول توبته، وليس في الكتاب والسُّنَّة ما ينافي ذلك، ولا نصوص الوعيد فيه، وفي غيره من الكبائر بمنافية لنصوص قبول التوبة، فليست آية الفرقان بمنسوخة بآية النساء؛ إذ لا منافاة بينهما، فإنه قد عُلِم يقينًا أن كل ذنب فيه وعيد، فإن لحوق الوعيد مشروط بعدم التوبة؛ إذ نصوص التوبة مبيّنة لتلك النصوص؛ كالوعيد في الشرك، وأكْل الربا، وأكْل مال اليتيم، والسحر، وغير ذلك من الذنوب، ومن قال من العلماء: توبته غير مقبولة فحقيقة قوله التي تلائم أصول الشريعة أن يراد بذلك: أن التوبة المجردّة تُسقط حقّ الله من العقاب، وأما حق المظلوم فلا يسقط بمجرد التوبة، وهذا حقّ، ولا فرق في ذلك بين القاتل، وسائر الظالمين، فمن تاب من ظلم لم يسقط بتوبته حقّ المظلوم، لكن من تمام توبته أن يُعَوِّضه بمثل مظلمته، وإن لم يعوضه في الدنيا فلا بدّ له من العِوَض في الآخرة، فينبغي للظالم التائب أن يستكثر من الحسنات، حتى إذا استوفى المظلومون حقوقهم لم يَبْقَ مفلسًا، ومع هذا فإذا شاء الله أن يعوّض المظلوم من عنده فلا رادّ لفضله، كما إذا شاء أن يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ولهذا في حديث القصاص الذي ركب فيه جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس شهرًا، حتى شافهه به، وقد رواه الإمام أحمد، وغيره، واستشهد به البخاريّ في "صحيحه"، وهو من جنس حديث الترمذيّ صحاحه، أو حسانه، قال فيه: "إذا كان يوم القيامة، فإن الله يجمع الخلائق في صعيد واحد، يُسمعهم الداعي، ويَنفذُهم البصر، ثم يناديهم بصوت يسمعه
مَن بَعُد كما يسمعه من قَرُب: أنا الملِك، أنا الديّان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حقّ حتى أقصّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حقّ حتى أقصّه منه"، فبيَّن في الحديث العدل والقصاص بين أهل الجنة وأهل النار.
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد: "إن أهل الجنة إذا عَبَروا الصراط، وُقِفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتصّ لبعضهم من بعض، فإذا هُذِّبوا، ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة"، وقد قال سبحانه وتعالى لمّا قال:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] والاغتياب من ظلم الأعراض، قال:{أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، فقد نبّههم على التوبة من الاغتياب، وهو من الظلم.
وفي الحديث الصحيح: "من كان عنده لأخيه مظلمة في دم، أو مال، أو عِرض، فليأته، فليستحلّ منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار، إلا الحسنات والسيئات، فإن كان له حسنات، وإلا أُخذ من سيئات صاحبه، فطُرحت عليه، ثم يُلقَى في النار"، أو كما قال، وهذا فيما عَلِمه المظلوم من العوض
(1)
، فأما إذا اغتابه، أو قذفه، ولم يعلم بذلك، فقد قيل: من شرط توبته إعلامه، وقيل: لا يُشترط ذلك، وهذا قول الأكثرين، وهما روايتان عن أحمد، لكن قوله مثل هذا أن يفعل مع المظلوم حسنات؛ كالدعاء له، والاستغفار، وعمل صالح يُهدى إليه يقوم مقام اغتيابه وقَذْفه، قال الحسن البصريّ: كفارة الغِيبة أن تستغفر لمن اغتبته.
وأما الذنوب التي يُطلق الفقهاء فيها نفي قبول التوبة، مثل قول أكثرهم: لا تُقبل توبة الزنديق، وهو المنافق، وقولهم: إذا تاب المحارب قبل القدرة عليه تَسقط عنه حدود الله، وكذلك قول كثير منهم، أو أكثرهم في سائر الجرائم، كما هو أحد قولي الشافعيّ، وأصح الروايتين عن أحمد، وقولهم في
(1)
هكذا النسخة، ولعل الأَولى إسقاط "من العوض"، أو أنها مصحّفة من لفظ آخر، والله تعالى أعلم.
هؤلاء: إذا تابوا بعد الرفع إلى الإمام لم تُقبل توبتهم، فهذا إنما يريدون به رَفْع العقوبة المشروعة عنهم؛ أي: لا تُقبل توبتهم بحيث يُخَلَّى بلا عقوبة، بل يعاقب، إما لأن توبته غير معلومة الصحة، بل يُظَنّ به الكذب فيها، وإما لأن رفع العقوبة بذلك يفضي إلى إنتهاك المحارم، وسدّ باب العقوبة على الجرائم، ولا يريدون بذلك أن من تاب من هؤلاء توبة صحيحة، فإن الله لا يقبل توبته في الباطن؛ إذ ليس هذا قول أحد من أئمة الفقهاء، بل هذه التوبة لا تُمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} الآية [النساء: 17، 18].
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقالوا لي: كلّ من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت، فهذا كفرعون الذي قال أنا الله، فلما {. . . أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)} [يونس: 90]، قال الله تعالى:{آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)} [يونس: 91]، وهذا استفهام إنكار بَيّن به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها، فإن استفهام الإنكار، إما بمعنى النفي، إذا قابل الإخبار، وإما بمعنى الذمّ والنهي إذا قابل الإنشاء، وهذا من هذا.
ومثله قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر: 83 - 85]، بَيّن أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وإن هذه سُنَّة الله التي قد خَلَتْ في عباده؛ كفرعون وغيره، وفي الحديث:"إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"، ورُوي:"ما لم يعايِن".
وقد ثبت في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم عَرَض على عمه التوحيد في مرضه الذي مات فيه، وقد عاد يهوديًّا كان يخدُمه، فعرض عليه الإسلام، فأسلم، فقال:"الحمد لله الذي أنقذه بي من النار"، ثم قال لأصحابه:"آووا أخاكم".
ومما يبيّن أن المغفرة العامّة في "الزُّمَر" هي للتائبين أنه قال في "سورة النساء": {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فقيّد المغفرة بما دون الشرك، وعلّقها على المشيئة، وهناك أطلق، وعمّم، فدلّ هذا التقييد والتعليق على أن هذا في حقّ غير التائب، ولهذا استدَلّ أهل السُّنَّة بهذه الآية على جواز المغفرة لأهل الكبائر في الجملة خلافًا لمن أوجب نفوذ الوعيد بهم من الخوارج والمعتزلة، وإن كان المخالفون لهم قد أسرف فريق منهم من المرجئة، حتى توقفوا في لحوق الوعيد بأحد من أهل القبلة، كما يُذكر عن غُلاتهم أنهم نفوه مطلقًا، ودين الله وَسَط بين الغالي فيه والجافي عنه، ونصوص الكتاب والسُّنَّة مع اتفاق سلف الأمة، وأئمتها متطابقة على أن من أهل الكبائر من يعذَّب، وأنه لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان.
النوع الثاني من المغفرة العامّة التي دل عليها قوله: "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر لكم الذنوب جميعًا": المغفرة بمعنى تخفيف العذاب، أو بمعنى تأخيره إلى أجل مسمى، وهذا عامّ مطلقًا، ولهذا شَفَع النبيّ صلى الله عليه وسلم في أبي طالب، مع موته على الشرك، فنُقل من غَمْرة من نار، حتى جُعل في ضَحْضَاح من نار، في قدميه نعلان من نار، يَغلِي منهما دماغه - قال -:"ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"، وعلى هذا المعنى دلّ قوله سبحانه وتعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30].
[فصل]
وأما قوله عز وجل: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"، فإنه هو بَيّن بذلك أنه ليس هو فيما يُحْسِن به إليهم من إجابة الدعوات، وغفران الزلات بالمستعيض بذلك منهم جَلْب منفعة، أو دَفْع مضرّة، كما هي عادة المخلوق الذي يعطي غيره نفعًا؛ ليكافئه عليه بنفع، أو يدفع عنه ضررًا؛ ليتقي بذلك ضرره، فقال: "إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا
ضرّي فتضروني"، فلست إذًا أخصكم بهداية المستهدي، وكفاية المستكفي المستطعم، والمستكسي بالذي أطلب أن تنفعوني، ولا أنا إذا غفرت خطاياكم بالليل والنهار أتقي بذلك أن تضروني، فإنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ إذ هم عاجزون عن ذلك، بل ما يقدرون عليه من الفعل لا يقدرون عليه إلا بتقديره وتدبيره، فكيف بما لا يقدرون عليه، فكيف بالغنيّ الصمد الذي يمتنع عليه أن يستحقّ من غيره نفعًا أو ضرًّا، وهذا الكلام كما بَيَّن أن ما يفعله بهم من جلب المنافع، ودفع المضارّ، فإنهم لن يبلغوا أن يفعلوا به مثل ذلك، فكذلك يتضمن أن ما يأمرهم به من الطاعات، وما ينهاهم عنه من السيئات، فإنه لا يتضمن استجلاب نفعهم؛ كأمر السيّد لعبده، أو الوالد لولده، والأمير لرعيته، ونحو ذلك، ولا دَفْع مضرّتهم كنهي هؤلاء أو غيرهم لبعض الناس عن مضرّتهم، فإن المخلوقين يَبْلُغ بعضَهم نفعُ بعض، ومضرّة بعض، وكانوا في أمْرهم ونهيهم قد يكونون كذلك، والخالق سبحانه وتعالى مقدَّس عن ذلك، فبَيَّن تنزيهه عن لحوق نَفْعهم وضرّهم في إحسانه إليهم بما يكونون من أفعاله بهم، وأوامره لهم، قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليهم، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلًا به عليهم، ولكن أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم.
[فصل]
ولهذا ذكر هذين الأصلين بعد هذا، فذكر أن بِرّهم وفجورهم الذي هو طاعتهم ومعصيتهم، لا يزيد في مُلكه، ولا ينقص، وأن إعطاءه إياهم غايةَ ما يسألونه نِسبته إلى ما عنده أدنى نسبة، وهذا بخلاف الملوك وغيرهم، ممن يزداد مُلكه بطاعة الرعيّة، وينقص مُلكه بالمعصية، وإذا أعطى الناس ما يسألونه أنفد ما عنده، ولم يُغنهم، وهم في ذلك يبلغون مضرّته ومنفعته، وهو يفعل ما يفعله من إحسان، وعفو، وأمر، ونهيٍ لرجاء المنفعة، وخوف المضرّة، فقال:
"يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك من مُلكي
شيئًا"؛ إذ مُلكه هو قدرته على التصرف، فلا تزداد بطاعتهم، ولا تنقص بمعصيتهم، كما تزداد قدرة الملوك بكثرة المطيعين لهم، وتنقص بقلّة المطيعين لهم، فإن مُلكه متعلّق بنفسه، وهو خالق كل شيء، وربه، ومليكه، وهو الذي يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء.
والمُلك قد يراد به القدرة على التصرف والتدبير، ويراد به نفس التدبير والتصرف، ويراد به المملوك نفسه الذي هو محل التدبير، ويراد به ذلك كلّه، وبكل حال فليس بِرّ الأبرار، وفجور الفجّار موجبًا لزيادة شيء من ذلك، ولا نقصه، بل هو بمشيئته وقدرته يخلق ما يشاء، فلو شاء أن يخلق مع فجور الفجار ما شاء لم يمنعه من ذلك مانع، كما يمنع الملوك فجور رعاياهم التي تعارض أوامرهم عما يختارونه من ذلك، ولو شاء أن لا يخلق مع برّ الأبرار شيئًا مما خَلَقه، لم يكن برّهم محوجًا له إلى ذلك، ولا مُعِينًا له، كما يحتاج الملوك، ويستعينون بكثرة الرعايا المطيعين.
[فصل]
ثم ذكر حالهم في النوعين، سؤال برّه وطاعة أمره اللَّذَين ذكرهما في الحديث، حيث ذَكَر الاستهداء، والاستطعام، والاستكساء، وذكَرَ الغفران، والبرّ، والفجور، فقال:"لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، كانوا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كلَّ إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر"، والْخِياط والْمَخيط: ما يُخاط به؛ إذ الفِعَال والْمِفعَل والْمِفعَال من صيغ الآلات التي يُفعل بها؛ كالْمِسْعَر، والْمِخلاب، والمنشار، فبَيَّن أن جميع الخلائق إذا سألوا، وهم في مكان واحد، وزمان واحد، فأعطى كل إنسان منهم مسألته لم ينقصه ذلك مما عنده، إلا كما ينقص الخياط، وهي الإبرة إذا غُمس في البحر.
وقوله: "لم ينقص مما عندي" فيه قولان:
أحدهما: أنه يدلّ على أن عنده أمورًا موجودة يعطيهم منها ما سألوه إياه، وعلى هذا، فيقال: لفظ النقص على حاله؛ لأن الإعطاء من الكثير، وإن كان قليلًا، فلا بدّ أن ينقصه شيئًا ما، ومن رواه: لم ينقص من ملكي، يَحْمِل
على ما عنده، كما في هذا اللفظ، فإن قوله:"مما عندي" فيه تخصيص، ليس هو في قوله:"من ملكي"، وقد يقال: الْمُعْطَى إما أن يكون أعيانًا قائمةً بنفسها، أو صفات قائمة بغيرها، فأما الأعيان فقد تُنقل من محل إلى محلّ، فيظهر النقص في المحل الأول، وأما الصفات فلا تنقل من محلها، وإن وُجد نظيرها في محلّ آخر، كما يوجد نظير علم المعلِّم في قلب المتعلِّم من غير زوال علم المعلم، وكما يتكلم المتكلم بكلام المتكلم قبله، من غير انتقال كلام المتكلم الأول إلى الثاني، وعلى هذا فالصفات لا تُنقص مما عنده شيئًا، وهي من المسؤول؛ كالهدى.
وقد يجاب عن هذا بأنه هو من الممكن في بعض الصفات أن لا يثبت مثلها في المحل الثاني حتى تزول عن الأول؛ كاللون الذي ينقص، وكالروائح التي تعبق بمكان، وتزول كما دعا النبيّ على حُمَّى المدينة أن تنقل إلى مَهْيَعة، وهي الجحفة، وهل مثل هذا الانتقال بانتقال عين العَرَض الأول، أو بوجود مثله من غير انتقال عينه؟ فيه للناس قولان، إذ منهم من يجوّز انتقال الأعراض، بل من يجوّز أن تُجعل الأعراض أعيانًا، كما هو قول ضرار، والنجار، وأصحابهما؛ كبرغوث، وحفص الفرد، لكن إن قيل: هو بوجود مثله من غير انتقال عينه، فذلك يكون مع استحالة العَرَض الأول، وفنائه، فيُعدَم عن ذلك المحلّ، ويوجد مثله في المحلّ الثاني.
والقول الثاني: أن لفظ النقص هنا كلفظ النقص في حديث موسى والخضر الذي في "الصحيحين" من حديث ابن عباس، عن أُبَيّ بن كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه أن الخضر قال لموسى لَمّا وقع عصفور على قارِب السفينة، فنقر في البحر، فقال: يا موسى ما نقص علمي وعِلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ومن المعلوم أن نفس علم الله القائم بنفسه، لا يزول منه شيء بتعلم العباد، وإنما المقصود أن نسبة علمي وعلمك إلى علم الله؛ كنسبة ما عَلِق بمنقار العصفور إلى البحر.
ومن هذا الباب كون العلم يُورَث؛ كقوله: "العلماء ورثة الأنبياء"، ومنه قوله:{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16]، ومنه توريث الكتاب أيضًا؛ كقوله:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32]، ومثل هذه العبارة من
النقص ونحوه تُستعمل في هذا، وإن كان العلم الأول ثابتًا، كما قال سعيد بن المسيِّب لقتادة، وقد أقام عنده أسبوعًا سأله فيه مسائل عظيمة، حتى عَجِب مِنْ حِفظه، وقال: نزفتني يا أعمى، وإنزاف القَليْب ونحوه هو رَفْع ما فيه، بحيث لا يبقى فيه شيء، ومعلوم أن قتادة لو تعلّم جميع عِلم سعيد لم يزل عِلمه من قلبه، كما يزول الماء من القليب، لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام، والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها، مما يكون بالمحلّ، ويزول عنه، ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم، كما قال تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف: 5].
ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث، ولم يُخرج هذا، فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحلّ، وهذا نزيف، وخروج، كان كلام سعيد بن المسيِّب على حقيقته، ومضمونه أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه، وكلّمه فارقه أمور قامت به، من حركات، وأصوات، بل ومن صفات قائمة بالنفس، كان ذلك نزيفًا، ومما يقوِّي هذا المعنى أن الإنسان، وإن كان عِلْمه في نفسه، فليس هو أمرًا لازمًا للنفس لزوم الألوان للمتلونات، بل قد يذهل الإنسان عنه، ويغفل، وقد ينساه، ثم يذكره، فهو شيء يحضر تارةً، ويغيب أخرى، وإذا تكلم به الإنسان وعلمه، فقد تَكِلّ النفس، وتعي حتى لا يقوى على استحضاره، إلا بعد مدّة، فتكون في تلك الحال خالية عن كمال تحققه، واستحضار الذي يكون به العالم عالمًا بالفعل، وإن لم يكن نفس ما زال هو بعينه القائم في نفس السائل والمستمع، ومن قال هذا يقول: كون التعليم يُرَسِّخ العلم من وجه، لا ينافي ما ذكرناه، وإذا كان مثل هذا النقص والنزيف معقولًا في علم العباد، كان استعمال لفظ النقص في علم الله بناء على اللغة المعتادة في مثل ذلك، وإن كان هو سبحانه منزهًا عن اتصافه بضدّ العلم بوجه من الوجوه، أو عن زوال علمه عنه، لكن في قيام أفعال به، وحركات نزاع بين الناس من المسلمين، وغيرهم، وتحقيق الأمر أن المراد: ما أَخَذ علمي وعلمك من علم الله، وما نال علمي وعلمك من علم الله، وما أحاط علمي وعلمك من علم الله، كما قال:{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] إلا كما نقص، أو أخذ، أو نال هذا
العصفور من هذا البحر؛ أي: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا، وإن كان المشبَّه به جسمًا ينتقل من محلّ إلى محل، ويزول عن المحلّ الأول، وليس المشبَّه كذلك، فإن هذا الفرق هو فرق ظاهر يعلمه المستمع من غير التباس، كما قال:"إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، فشبَّه الرؤية بالرؤية، وهي وإن كانت متعلقة بالمرئيّ في الرؤية المشبَّهة، والرؤية المشبَّه بها، لكن قد عَلِم المستمعون أن المرئيّ ليس مثل المرئيّ، فكذلك هنا شبَّه النقص بالنقص، وإن كان كل من الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبَّه به ليس مثل الناقص والمنقوص والمنقوص منه المشبَّه به.
ولهذا كل أحد يعلم أن المعلّم لا يزول علمه بالتعليم، بل يشبّهونه بضوء السراج الذي يحدُث يقتبس منه كل أحد، ويأخذون ما شاؤوا من الشُّهُب، وهو باقٍ بحاله، وهذا تمثيل مطابق، فإن المستوقد من السراج يُحْدِث الله في فتيلته، أو وقوده نارًا من جنس تلك النار، وإن كان قد يقال: إنها تستحيل عن ذلك الهواء مع أن النار الأولى باقية، كذلك المتعلم يجعل في قلبه مثل علم المعلم، مع بقاء علم المعلم، ولهذا قال عليّ رضي الله عنه: العلم يزكو على العمل، أو قال: على التعليم، والمال ينقصه النفقة، وعلى هذا فيقال في حديث أبي ذرّ: إن قوله: "مما عندي"، وقوله:"من ملكي" هو من هذا الباب، وحينئذ فله وجهان:
أحدهما: أن يكون ما أعطاهم خارجًا عن مسمى مُلكه، ومسمى ما عنده، كما أن علم الله لا يدخل فيه نَفْس علم موسى والخضر.
والثاني: أن يقال: بل لفظ المُلك، وما عنده يتناول كلّ شيء، وما أعطاهم فهو جزء من مُلكه، ومما عنده، ولكن نِسبته إلى الجملة هذه النسبة الحقيرة.
ومما يحقق هذا القول الثاني أن الترمذيّ رَوَى هذا الحديث من طريق عبد الرحمن بن غَنْم، عن أبي ذرّ مرفوعًا، فيه: "لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، ورطبكم ويابسكم، سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم، فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كمغرز إبرة، لو غمسها أحدكم في البحر، وذلك أني جواد، ماجد، واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما
أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون"، فذِكْرُهُ سبحانه أن عطاءه كلام، وعذابه كلام، يدلّ على أنه هو أراد بقوله: "من ملكي"، و"مما عندي"؛ أي: من مقدوري، فيكون هذا في القدرة؛ كحديث الخضر في العلم، والله أعلم.
ويؤيّد ذلك أن في اللفظ الآخر الذي في نسخة أبي مسهر: "لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقص البحر"، وهذا قد يقال فيه: إنه استثناء منقطع؛ أي: لم ينقص من ملكي شيئًا، لكن يكون حاله حال هذه النسبة، وقد يقال: بل هو تامّ، والمعنى على ما سبق.
[فصل]
ثم ختمه بتحقيق ما بيّنه فيه من عدله وإحسانه، فقال:"يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"، فبَيَّن أنه محسن إلى عباده في الجزاء على أعمالهم الصالحة إحسانًا يستحقّ به الحمد؛ لأنه هو المنعم بالأمر بها، والإرشاد إليها، والإعانة عليها، ثم إحصائها، ثم توفية جزائها، فكل ذلك فَضْل منه وإحسان؛ إذ كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدلٌ، وهو وإن كان قد كتب على نفسه الرحمة، وكان حقًّا عليه نَصْر المؤمنين، كما تقدم بيانه، فليس وجوب ذلك كوجوب حقوق الناس بعضهم على بعض الذي يكون عدلًا لا فضلًا؛ لأن ذلك إنما يكون لكون بعض الناس أحسن إلى البعض، فاستحق المعاوضة، وكان إحسانه إليه بقدرة المحسن دون المحسَن إليه، ولهذا لم يكن المتعاوضان ليخصّ أحدهما بالتفضل على الآخر؛ لتكافؤهما، وهو قد بَيَّن في الحديث أن العباد لن يبلغوا ضرّه فيضرّوه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، فامتنع حينئذ أن يكون لأحد من جهة نفسه عليه حقّ، بل هو الذي أحقّ الحقّ على نفسه بكلماته، فهو المحسن بالإحسان وبإحقاقه، وكتابته على نفسه، فهو في كتابة الرحمة على نفسه، وإحقاقه نصر عباده المؤمنين، ونحو ذلك محسن إحسانًا مع إحسان.
فليتدبر اللبيب هذه التفاصيل التي يتبيَّن بها فصل الخطاب في هذه المواضع التي عظم فيها الاضطراب، فمن بَيْنِ موجِبٍ على ربه بالمنع أن يكون
محسنًا متفضلًا، ومن بَيْنِ مسوٍّ بين عدله وإحسانه، وما تنزه عنه من الظلم والعدوان، وجاعل الجميع نوعًا واحدًا، وكل ذلك حَيْدٌ عن سَنَن الصراط المستقيم، والله يقول الحقّ، وهو يهدي السبيل.
وكما بَيّن أنه محسن في الحسنات، متمّ إحسانه بإحصائها، والجزاء عليها، بَيَّن أنه عادل في الجزاء على السيئات، فقال:"ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"، كما تقدم بيانه في مثل قوله:{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]، وعلى هذا الأصل استقرّت الشريعة الموافقة لفطرة الله التي فطر الناس عليها، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاريّ، عن شداد بن أوس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللَّهُمَّ أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك، ما استطعتُ، أعوذ بك من شرّ ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، ففي قوله:"أبوء لك بنعمتك عليّ" اعتراف بنعمته عليه في الحسنات، وغيرهما، وقوله:"وأبوء بذنبي" اعتراف منه بأنه مذنبٌ ظالم لنفسه، وبهذا يصير العبد شكورًا لربه، مستغفرًا لذنبه، فيستوجب مزيد الخير، وغفران الشرّ من الشكور الغفور الذي يشكر اليسير من العمل، ويغفر الكثير من الزلل.
وهنا انقسم الناس ثلاثة أقسام في إضافة الحسنات والسيئات التي هي الطاعات والمعاصي إلى ربهم، وإلى نفوسهم، فشرّهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القَدَر، واعتذر بأن القدر سبق بذلك، وأنه لا خروج له على القدر، فرَكَّب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك إلى نفسه، ونسي نعمة الله عليه في تيسيره لليسرى، وهذا ليس مذهب طائفة من بني آدم، ولكنه حال شرار الجاهلين الظالمين الذين لا حَفِظوا حدود الأمر والنهي، ولا شَهِدوا حقيقة القضاء والقدر، كما قال فيهم الشيخ أبو الفرج ابن الجوزيّ: أنت عند الطاعة قدريّ، وعند المعصية جَبْريّ أيُّ مذهب وافق هواك تمذهبت به.
وخير الأقسام، وهو القسم المشروع، وهو الحقّ الذي جاءت به الشريعة، أنه إذا أحسن شُكر نعمة الله عليه، وحَمِده؛ إذ أنعم عليه بأن جعله محسنًا، ولم يجعله مسيئًا، فإنه فقير محتاج في ذاته وصفاته، وجميع حركاته
وسكناته إلى ربه، ولا حول ولا قوة إلا به، فلو لم يَهْده لم يَهتد، كما قال أهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 43] وإذا أساء اعترف بذنبه، واستغفر ربه، وتاب منه، وكان كأبيه آدم الذي قال:{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، ولم يكن كإبليس الذي قال:{بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39، 40]، ولم يحتجّ بالقَدَر على ترك مأمور، ولا فِعل محظور، مع إيمانه بالقدر خيره وشرّه، وإن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه يهدي من يشاء، ويُضِلّ من يشاء، ونحو ذلك.
وهؤلاء هم الذين أطاعوا الله في قوله في الحديث الصحيح: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"، ولكن بَسَط ذلك، وتحقيق نسبة الذنب إلى النفس، مع العلم بأن الله خالق أفعال العباد فيه أسرار، ليس هذا موضعها، ومع هذا فقوله تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78، 79] ليس المراد بالحسنات والسيئات في هذه الآية الطاعات والمعاصي، كما يظنه كثير من الناس، حتى يحرّف بعضهم القرآن، ويقرأ:{فَمِنْ نَفْسِكَ} ومعلوم أن معنى هذه القراءة يناقض القراءة المتواترة، وحتى يُضمر بعضهم القول على وجه الإنكار له، وهو قول الله الحقّ، فيجعل قول الله الصدق الذي يحمد ويرضى قولًا للكفار، يكذّب به ويذُمّ، ويسخط بالإضمار الباطل الذي يدّعيه من غير أن يكون في السياق ما يدلّ عليه.
ثم إن من جَهْل هؤلاء ظنّهم أن في هذه الآية حجةً للقدرية، واحتجاج بعض القدرية بها، وذلك أنه لا خلاف بين الناس في أن الطاعات والمعاصي سواء من جهة القَدَر، فمن قال: إن العبد هو الموجد لفعله دون الله، أو هو الخالق لفعله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد، فلا فرق عنده بين الطاعة والمعصية، ومن أثبت خلق الأفعال، وأثبت الجبر، أو نفاه، أو أمسك عن نفيه وإثباته مطلقًا، وفصل المعنى، أو لم يفصله، فلا فرق عنده بين الطاعة
والمعصية، فتبيّن أن إدخال هذه الآية في القَدَر في غاية الجهالة، وذلك أن الحسنات والسيئات في الآية المراد بها المسارّ والمضارّ، دون الطاعات والمعاصي، كما في قوله تعالى:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]، وهو الشرّ والخير في قوله:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
وكذلك قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} [آل عمران: 120]، وقوله تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50]، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)} [الأعراف: 94، 95]، وقال تعالى:{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف: 131].
فهذه حال فرعون وملئه مع موسى ومن معه؛ كحال الكفار والمنافقين والظالمين مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا أصابهم نعمة وخير قالوا: لنا هذه، أو قالوا: هذه من عند الله، وإن أصابهم عذاب وشرّ تطيَّروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقالوا: هذه بذنوبهم، وإنما هي بذنوب أنفسهم، لا بذنوب المؤمنين، وهو سبحانه ذكر هذا في بيان حال الناكلين عن الجهاد الذين يلومون المؤمنين على الجهاد، فإذا أصابهم نَصْر ونحوه قالوا: هذا من عند الله، وإن أصابتهم محنة قالوا: هذه من عند هذا الذي جاءنا بالأمر والنهي والجهاد، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]- إلى قوله -: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72]- إلى قوله -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} [النساء: 77]- إلى قوله تعالى -: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 78]- أي: هؤلاء المذمومين - {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78]؛ أي: بسبب أمرك ونهيك، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ} [النساء: 78، 79]- أي: من نعمة - {فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ
نَفْسِكَ} [النساء: 79]؛ أي: فبذنبك، كما قال:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الشورى: 48].
وأما القسم الثالث في هذا الباب، فهم قوم لَبَسوا الحقّ بالباطل، وهم بين أهل الإيمان أهل الخير، وبين شرار الناس، وهم الخائضون في القدر بالباطل، فقوم يرون أنهم هم الذين يَهدون أنفسهم، ويُضلّونها، ويوجبون لها فعل الطاعة، وفعل المعصية، بغير إعانة منه تعالى، وتوفيق للطاعة، ولا خذلان منه في المعصية، وقوم لا يثبتون لأنفسهم فعلًا، ولا قدرةً، ولا أمرًا.
ثم من هؤلاء من ينحلّ عن الأمر والنهي، فيكون أكفر الخلق، وهم في احتجاجهم بالقدَر متناقضون؛ إذ لا بدّ من فعل يحبونه، وفعل يبغضونه، ولا بدّ لهم، ولكل أحد من دَفْع الضرر الحاصل بأفعال المعتدين، فإذا جعلوا الحسنات والسيئات سواسية، لم يمكنهم أن يذمّوا أحدًا، ولا يدفعوا ظالمًا، ولا يقابلوا مسيئًا، وأن يبيحوا للناس من أنفسهم كل ما يشتهيه مُشْتَهٍ
(1)
، ونحو ذلك من الأمور التي لا يعيش عليها بنو آدم؛ إذ هم مضطرون إلى شرع فيه أمر ونهي أعظم من اضطرارهم إلى الأكل واللباس.
وهذا باب واسع لشرحه موضع غير هذا، وإنما نبهنا على ما في الحديث من الكلمات الجامعة، والقواعد النافعة، بنُكَتٍ مختصرة تنبّه الفاضل على ما في الحقائق من الجوامع والفوارق التي تفصل بين الحقّ والباطل في هذه المضائق، بحسب ما احتملته أوراق السائل، والله ينفعنا، وسائر إخواننا المؤمنين بما عَلِمناه، ويعلّمنا ما ينفعنا، ويزيدنا علمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ منه إلا إليه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، وأستغفر الله العظيم لي ولجميع إخواننا المؤمنين.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد، وآله وسلم تسليمًا. انتهت رسالة شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله وهي رسالة ممتعة جدًّا، نافعة لكلّ من تأمَّلها، وعمل بما فيها، والله تعالى وليّ التوفيق، وهو الهادي إلى سواء
(1)
هكذا العبارة، وتحتاج إلى تأمل؟؟؟، والله تعالى أعلم.
الطريق، "اللَّهُمَّ رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِمَا اختُلِف فيه من الحقّ، فإنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6551]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ مَرْوَانَ أَتَمُّهُمَا حَدِيثًا).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق الصَّغَانيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 27)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
2 -
(أَبُو مُسْهِرٍ) عبد الأعلى بن مُسهر الغَسّانيّ الدمشقيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من كبار [10](ت 218) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "البيوع" 19/ 3942.
و"سعيد بن عبد العزيز" ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: رواية أبي مسهر عن سعيد بن عبد العزيز هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(11283)
- حدّثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهانيّ إملاءً، أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصريّ بمكة في المسجد الحرام سنة أربعين وثلاثمائة، حدّثنا العباس بن عبد الله الترقفيّ، ثنا أبو مُسهر عبد الأعلى بن مسهر، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الله عز وجل: "أنه قال: إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا، يا عبادي إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار، وأنا الذي أغفر الذنوب، ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمت، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنّكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، لم يزد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسألوني، ثم أعطيت كل إنسان منهم ما سأل، لم ينقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقص البحر يُغمس فيه المخيط غمسةً واحدةً، يا عبادي إنما هي أعمالكم، أحفظها عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه". انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ)؛ يعني: تلميذ مسلم، إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه النيسابوريّ المتوفّى في رجب سنة (308 هـ)، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
وقائل: "قال" هو تلميذ أبي إسحاق، أبو أحمد الجلوديّ؛ لأنه المشهور بالرواية عنه، ويَحتمل أن يكون غيره، أو هو من كلام أبي إسحاق نفسه، والله تعالى أعلم.
(حَدَّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا بِشْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو مُسْهِرٍ، فَذَكَرُوا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ).
قال الجامع عفا الله عنه: إنما ألحق أبو إسحاق هذا بعد إسناد مسلم؛ إشارةً إلى علوّ إسناده على إسناد مسلم؛ لأنه وصل إلى أبي مسهر بواسطة واحدة، وهم شيوخه الثلاثة: الحسن، والحسين ابنا بشر، ومحمد بن يحيى الذهليّ، ثلاثتهم عن أبي مسهر، بينما كان وصوله إليه عن طريق مسلم بواسطتين، مسلم، وشيخه أبي بكر بن إسحاق.
والحاصل أن أبا إسحاق علا في هذا الحديث بدرجة على إسناد مسلم، فلذلك ألحق في هذا الكتاب، والله تعالى أعلم.
أما الحسن بن بشر، فهو السلميّ قاضي نيسابور، صدوقٌ، لم يصحّ أن مسلمًا رَوَى عنه، وإنما روى عنه أبو إسحاق بن سفيان الراوي عن مسلم مواضع علا فيها إسناده في "الوصايا"، و"الإمارة"، وغيرهما [11](ت 244)، تقدّم في "الطلاق" 3/ 3679.
وأما الحسين بن بشر أخوه، فلم أجد ترجمته، والله تعالى أعلم.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 6/ 93.
وأما محمد بن يحيى، فهو ابن محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذُّهليّ النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ جليلٌ [11](ت 258) على الصحيح، وله ست وثمانون سنةً (خ 4) لم يرو عنه مسلم في "الصحيح"، وإنما روى عنه تلميذه أبو إسحاق، وتقدّم في "المقدّمة" 6/ 73.
[تنبيه]: كون محمد بن يحيى هنا هو الذهليَّ هو الذي يترجّح عندي، وقد ذكر بعض الشرّاح
(1)
أنه محمد بن يحيى بن سعيد القطّان، ولي فيه نظر؛ لأمرين:
أحدهما: أنه متقدّم الوفاة، مات سنة (233)، والظاهر أنه لم يلقه أبو إسحاق.
والثاني: أن صاحبَي "التهذيبين" لم يذكرا أبا إسحاق فيمن روى عن محمد بن يحيى القطّان، وإنما ذكراه فيمن روى عن محمد بن يحيى الذهليّ، وهو الظاهر؛ لأن الذهليّ متأخّر الوفاة، كما أسلفناه آنفًا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6552]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى: "إِنِّي حَرَّمْتُ عَلَى نَفْسِي الظُّلْمَ، وَعَلَى عِبَادِي، فَلَا تَظَالَمُوا"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي إِدْرِيسَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَتَمُّ مِنْ هَذَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقة، ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقة رُبّما وَهِم [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
(1)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 24/ 348.
والباقون ذُكروا في هذا الباب، والبابين قبله، و"أَبُو قِلَابَةَ" هو: عبد الله بن زيد بن عمرو الجرميّ، و"أبو أسماء الرحبيّ" هو: عمرو بن مرثد الدمشقيّ.
[تنبيه]: رواية أبي أسماء الرَّحَبيّ، عن أبي ذرّ رضي الله عنه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21458)
- حدّثنا عبد الرحمن، وعبد الصمد، المعنى قالا: ثنا همّام، عن قتادة، قال عبد الصمد: ثنا قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، وقال عبد الصمد: الرَّحَبيّ، عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل: "إني حرّمت على نفسي الظلم، وعلى عبادي، ألا فلا تَظَالموا، كلّ بني آدم يخطئ بالليل والنهار، ثم يستغفرني، فأغفر له، ولا أبالي، وقال: يا بني آدم كلكم كان ضالًّا، إلا من هَدَيتُ، وكلكم كان عاريًا، إلا من كسوت، وكلكم كان جائعًا، إلا من أطعمتُ، وكلكم كان ظمآنًا، إلا من سقيت، فاستهدوني أَهدكم، واستكسوني أَكسكم، واستطعموني أُطعمكم، واستسقوني أُسقكم، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وجنّكم وإنسكم، وصغيركم وكبيركم، وذَكَركم وأنثاكم - قال عبد الصمد -: وعَيِيّكم
(1)
، وبَيِّنكم، على قلب أتقاكم رجلًا واحدًا لم تزيدوا في ملكي شيئًا، ولو أن أولكم وآخركم، وجنّكم وإنسكم، وصغيركم وكبيركم، وذَكَركم وأنثاكم، على قلب أكفركم رجلًا، لم تنقصوا من ملكي شيئًا، إلا كما ينقص رأس المخيط من البحر". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6553]
(2578) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي: ابْنَ قَيْسٍ - عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ، فَإن الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ").
(1)
قال السنديّ: ضُبط بفتح العين، وكسرها، وتشديد الياء، وهو العاجز عن الكلام، و"البيّن" بفتح، وتشديد الياء: الفصيح القادر على الكلام. انتهى.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 160.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ) القرشيّ الفرّاء، أبو سليمان المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِقْسَمٍ) المدنيّ، ثقةٌ مشهورٌ [4](خ م د س ق) تقدم في "الجنائز" 23/ 2222.
4 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (500) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بصريًّا إلا أنه مدنيّ الأصل، وقد سكنها مدّة، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتَّقُوا الظُّلْمَ)؛ أي: اجعلوا بينكم وبينه وقاية تمنعكم من الوقوع فيه.
قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: الظلم عند أهل اللغة، وكثير من العلماء: وَضْع الشيء في غير موضعه المختصّ به؛ إما بنقصان، أو بزيادة؛ وإما بعدول عن وقته، أو مكانه، ومن هذا يقال: ظلمت السِّقَاءَ: إذا تناولته في غير وقته، ويسمى ذلك اللَّبَن: الظَّلِيم، وظلمت الأرضَ: حفرتها، ولم تكن موضعًا للحفر، وتلك الأرض يقال لها: المظلومة، والتراب الذي يخرج منها: ظَليم. والظلم يقال في مجاوزة الحقّ الذي يجري مجرى نقطة الدائرة، ويقال فيما يكثر، وفيما يقلّ من التجاوز، ولهذا يُستعمل في الذنب الكبير، وفي الذنب الصغير، ولذلك قيل لآدم في تعدّيه: ظالم، وفي إبليس: ظالم، وإن كان بين الظلمين بَوْن بعيد، قال بعض الحكماء: الظلم ثلاثة:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه: الكفر والشرك والنفاق، ولذلك قال:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وإياه قصد بقوله:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31]، في آي كثيرة.
والثاني: ظلم بينه وبين الناس، وإياه قصد بقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] إلى قوله: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الآية [الشورى: 40].
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإياه قَصَد بقوله:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32]، وقوله:{ظَلَمْتُ نَفْسِي} [النمل: 44]، {إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء: 64]، وغيرها من الآيات.
وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظُلم للنفس؛ فإن الإنسان في أول ما يَهُمّ بالظلم فقد ظلم نفسه، فإذًا الظالم أبدًا مبتدئ في الظلم، ولهذا قال تعالى في غير موضع:{وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 33]، {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57]، وغير ذلك. انتهى كلام الراغب رحمه الله
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: الظلم هو مجاوزة الحدّ والتعدّي على الخلق، قال: وذلك لأن الشرائع تطابقت على قبحه، واتفقت جميع الملل على رعاية حفظ الأنفس، فالأنساب، فالأعراض، فالعقول، فالأموال.
والظلم يقع في هذه، أو في بعضها، وأعلاه الشرك:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات، {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، ويدخل فيه ظُلم الإنسان لنفسه بارتكاب المعاصي؛ إذ العصاة ظُلّام أنفسهم، وأقبح أنواعه ظلم من ليس له ناصر إلا الله تعالى، قال ابن عبد العزيز
(2)
: إياك إياك أن تظلم من لا ينتصر عليك إلا بالله، فإنه تعالى إذا عَلِم التجاء عبده إليه بصدق واضطرار، انتصر له فورًا، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. انتهى
(3)
.
(فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قال القاضي عياض: قيل: هو على ظاهره، فيكون ظلمات على صاحبه، لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم، وبأيمانهم، ويَحْتَمِل أن الظلمات هنا الشدائد، وبه فسَّروا قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63]؛ أي:
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 21/ 87.
(2)
لم يتبيّن لي من هو؟ والله تعالى أعلم.
(3)
"فيض القدير" 1/ 134.
شدائدهما، ويَحْتَمِل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الأرجح حَمْل الحديث على ظاهره، كما استظهره القرطبيّ
(2)
؛ لأن حَمْل النصوص على ظاهرها هو الصواب، إلا لدليل يصرفها عن ظاهرها، ولا دليل هنا، فيكون الظلم ظلمات على أصحابه يوم القيامة، ولا ينافي هذا إرادة الاحتمال الثاني معه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال المناويّ ما معناه: إن الظلم في الدنيا ظلمات على أصحابه، بمعنى: أنه يورث ظلمة في القلب، فإذا أظلم القلب تاه، وتحيّر، وتجبّر، فذهبت الهداية والبصيرة، فخَرِب القلب، فصار صاحبه في ظلمة يوم القيامة، فالظلمة معنوية، لَمّا كان الظلم مفضيًا بصاحبه إلى الضلال الذي هو ضدّ الهدى، كان جديرًا بالتشبيه بالظُّلمة، كما في ضدّه من تشبيه الهداية بالنور، وقيل: حسيّة، فيكون ظلمه ظلمات عليه، فلا يهتدي في القيامة بسببه، وغيره من المؤمنين يسعى نوره بين يديه.
قال الحرانيّ: والظلمة ما يطمس الباديات حسًّا أو معنى.
وقال الزمخشريّ: هي عدم النور، وانطماسه بالكلية، وقيل: عرض ينافي النور، من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا؛ أي: ما مَنَعك، وشَغَلك؛ لأنها تَسُدّ البصر، وتمنع الرؤية. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ: أفرد المبتدأ - يعني: قوله: "فإن الظلم" - وجَمَع الخبر - يعني: قوله: "الظلمات" - دلالةً على إرادة الجنس، واختلاف أنواع الظلم الذي هو سبب لأنواع الشدائد في القيامة، من الوقوف في العرصات، والحساب، والمرور على الصراط، وأنواع العقاب في النار، ثم عَطَف الشحّ الذي هو نوع من أنواع الظلم على الظلم؛ ليُشعر بأن الشحّ أعظم أنواعه؛ لأنه من نتيجة حبّ الدنيا وشهواتها، ومن ثَمّ علّله بقوله:"فإن الشحّ أهلك من كان قبلكم"، ثم علّله بقوله:"حملهم على أن سفكوا الدماء" على سبيل
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 48.
(2)
"المفهم" 6/ 556.
(3)
"فيض القدير" 1/ 134.
الاستئناف، فإن استحلال المحارم جامع لجميع أنواع الظلم، من الكفر، والمعاصي، وعَطْفُهُ على سفك الدماء مِنْ عَطْف العامّ على الخاصّ عكس الأول، وإنما كان الشحّ سبب سفك الدماء، واستحلال المحارم؛ لأن في بذل الأموال، ومواساة الإخوان التحابَّ والتواصلَ، وفي الإمساك والشحّ التهاجرَ والتقاطعَ، وذلك يؤدّي إلى التشاجر، والتغاور مِنْ سَفْك الدماء، واستباحة المحارم. انتهى
(1)
.
(وَاتَّقُوا الشُّحَّ) بالضمّ: البخل، وشحّ يشِحّ، من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب، وتَعِبَ، فهو شحيحٌ، وقومٌ أشحّاء، وأشحّة، وتشاحّ القوم بالتضعيف: إذا شَحّ بعضهم على بعض، قاله الفيّوميّ
(2)
.
وقال القرطبيّ: الشحّ: الحرص على تحصيل ما ليس عندك، والبخل: الامتناع من إخراج ما حصل عندك. وقيل: إن الشحّ هو البخل مع حرص. يقال منه: شَحِحتُ بالكسر أَشَحّ، أو شَحَحت بالفتح أَشُحّ، بالضم، ورجل شحيح، وقوم شِحاحٌ، وأشحّاء. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ: قال جماعة: الشحّ: أشدّ البخل، وأبلغ في المنع من البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ عامّ، وقيل: البخل في أفراد الأمور، والشحّ بالمال والمعروف، وقيل: الشحّ: الحرص على ما ليس عنده، والبخل بما عنده. انتهى
(4)
.
(فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)؛ أي: من بني إسرائيل، وغيرهم، (حَمَلَهُمْ)؛ أي: أغراهم الشحّ (عَلَى أَنْ سَفَكُوا)؛ أي: أراقوا (دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا هو الهلاك الذي حَمَل عليه الشحّ؛ لأنَّهم لمّا فعلوا ذلك أتلفوا دنياهم وأخراهم، وهذا كما قال في الحديث الآخر: "إياكم والشحّ، فإنَّه أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1525 - 1526.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 306.
(3)
"المفهم" 6/ 557.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 134.
فبَخِلوا، وأمَرَهم بالقطيعة فقَطَعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا"
(1)
؛ أي: حَمَلهم على ذلك. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن هذا الهلاك هو الهلاك الذي أخبر عنهم به في الدنيا بأنهم سفكوا دماءهم، ويَحْتَمِل أنه هلاك الآخرة، وهذا الثاني أظهر، ويَحْتَمِل أنه أهلكهم في الدنيا والآخرة. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6553](2578)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(483 و 484)، و (النسائيّ) في "جزء الإملاء"(1/ 45)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 323)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 256)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 134) و"شُعب الإيمان"(7/ 424) وفي "الأربعين الصغرى"(1/ 169)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الظلم.
2 -
(ومنها): أن الظلم يكون ظلمات على صاحبه يوم القيامة.
3 -
(ومنها): بيان تحريم الشحّ، وهو أشدّ من البخل، وأبلغ في المنع منه، وقيل: هو البخل مع الحرص، وقيل غير ذلك، مما أسلفناه قريبًا.
4 -
(ومنها): بيان اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمر أمته، فيرشدها إلى ما فيه صلاحها في الدنيا والآخرة، ويُحذّرها عما فيه هلاكها، فقد حذّرها في هذا الحديث عن الشحّ؛ لأنه أهلك الأمم السابقة، وذلك لأنه سبب التهاجر،
(1)
حديث صحيح، رواه أبو داود (1698).
(2)
"المفهم" 6/ 557.
(3)
"إكمال المعلم" 8/ 48.
والتقاطع، والتباغض، والتحاسد، وينشأ منها المقاتلة، وسفك الدماء، واستحلال ما حرّم الله تعالى، فلا ينبغي للأمة المرحومة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تتبّع طريقهم، وتسلك مسلكهم، فتهلك مهلكهم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6554]
(2579) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(شَبَابَةُ) بن سَوّار المدائنيّ، أصله من خُرَاسان، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ) - بكسر الجيم، بعدها معجمة مضمومة - هو: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدير، ثقةٌ فقيهٌ مُصَنِّف [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) المدنيّ مولى ابن عمر، تقدّم قريبًا.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدّم القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") وزاد أحمد في روايته من طريق محارب بن دثار، عن ابن عمر في أوله:"يا أيها الناس اتقوا الظلم"، وفي رواية:"إياكم والظلم"، وأخرجه البيهقيّ في "الشعب" وزاد فيه:"قال محارب: أظلم الناس مَنْ ظَلَمَ لغيره".
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: الظلم يَشتمل على معصيتين: أَخْذ مال الغير
بغير حقّ، ومبارزة الربّ بالمخالفة، والمعصيةُ فيه أشدّ من غيرها، لأنه لا يقع غالبًا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب؛ لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى، اكتنفت ظلماتُ الظلمِ الظالمَ حيث لا يُغني عنه ظلمه شيئًا. انتهى
(1)
.
وقال المهلَّب: الذي يدلّ عليه القرآن أنها ظلمات على البصر حتى لا يهتدي سبيلًا، قال الله تعالى في المؤمنين:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، وقال في المنافقين:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فأثاب الله المؤمن بلزوم نور الإيمان لهم، ولذَّذهم بالنظر إليه، وقَوَّى به أبصارهم، وعاقب الكفار والمنافقين بأن أظلم عليهم، ومَنَعهم لذّة النظر إليه.
وقال القزّاز: الظلم هنا الشرك؛ أي: هو عليهم ظلام وعَمًى، ومن هذا زعم بعض اللغويين أن اشتقاق الظلم من الظلام؛ كأن فاعله في ظلام عن الحقّ، والذي عليه الأكثرون أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ذكر هذا كلّه في "العمدة"
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6554](2579)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2447)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2031)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 257)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 192)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 105 و 137 و 156)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 97)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 93 و 10/ 134) و"شُعَب الإيمان"(6/ 46)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(19/ 95)، والله تعالى أعلم.
(1)
"كشف المشكل" 2/ 559 - 560.
(2)
"عمدة القاري" 12/ 293.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6555]
(2580) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(لَيْثُ) بن سعد، أبو الحارث الفهميّ المصريّ الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
2 -
(عُقَيْلُ) بن خالد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من الزهريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ) بن عبد الله (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ) قال في "الفتح": هذه أخوّة الإسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يُطلق بينهما اسم الإخوة، ويشترك في ذلك الحرّ والعبد، والبالغ والمميِّز. انتهى
(1)
.
(لَا يَظْلِمُهُ)؛ أي: لا ينقصه حقّه، أو يمنعه إياه، وهو خبر بمعنى الأمر، (وَلَا يُسْلِمُهُ) بضمّ أوله، من الإسلام؛ أي: لا يتركه مع من يؤذيه، ولا فيما يؤذيه، بل ينصره، ويدفع عنه، وهذا أخصّ من تَرْك الظلم، وقد يكون ذلك واجبًا، وقد يكون مندوبًا، بحسب اختلاف الأحوال.
(1)
"الفتح" 10/ 482.
وقال في "الفتح": قوله: "ولا يسلمه" بضم أوله، يقال: أسلم فلانٌ فلانًا: إذا ألقاه إلى الهلكة، ولم يَحمِهِ من عدوّه، وهو عامّ في كل من أسلم لغيره، لكن غَلَب في الإلقاء إلى الهلكة. انتهى
(1)
.
(مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ)؛ أي: ساعيًا في قضائها، (كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ)؛ أي: قضاها الله تعالى له؛ إذ الجزاء من جنس العمل، (وَمَنْ فَرَّجَ) بتخفيف الراء، وتشديدها، يقال: فَرَجَ الله الغمّ يَفْرِجه، من باب ضرب: كشفه؛ كفرّجه بالتشديد، قاله المجد رحمه الله
(2)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَرَّجَ اللهُ الغمّ بالتشديد: كشفه، والاسم: الفَرَجُ، بفتحتين، وفَرَجَهُ فرْجًا، من باب ضرب لغةٌ، وقد جمع الشاعر اللغتين، فقال [من البسيط]:
يَا فَارِجَ الكَرْبِ مَسْدُولًا عَسَاكِرُهُ
…
كَمَا يُفَرِّجُ غَمَّ الظُّلْمَةِ الفَلَقُ
(3)
وأزال (عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً) بضمّ الكاف: اسم من الكرب، والجمع كُربٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف
(4)
، وقال في "الفتح": قوله: "كُربة"؛ أي: غُمّةً، والكَرْب: هو الغمّ الذي يأخذ النَّفْس، (فَرَّجَ) بالتخفيف، والتشديد، كما مرّ آنفًا، (اللهُ عَنْهُ بِهَا)؛ أي: بسبب تلك الكربة التي كشفها عن أخيه المسلم، (كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ولفظ البخاريّ:"من كربات يوم القيامة"، قال في "الفتح": الكُربات بضم الراء: جمع كُرْبة، ويجوز فتح راء كربات، وسكونها. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: يعني: أن راء "كربات" يجوز ضمّها؛ إتباعًا للكاف، وفَتْحها؛ تخفيفًا، وسكونها كذلك، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
وَالسَّالِمَ الْعَيْنِ الثُّلَاثِي اسْمًا أَنِلْ
…
إِتْبَاعَ عَيْنِ فَاءَهُ بِمَا شُكِلْ
إِنْ سَاكِنَ الْعَيْنِ مُؤَنَّثًا بَدَا
…
مُخْتَتَمًا بِالتَّاءِ أَوْ مُجَرَّدَا
وَسَكِّنِ التَّالِيَ غَيْرَ الْفَتْحِ أَوْ
…
خَفِّفْهُ بِالْفَتْحِ فَكُلًّا قَدْ رَوَوْا
(وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا)؛ أي: رآه على قبيح، فلم يُظهره؛ أي: للناس، وليس في هذا ما يقتضي تَرْك الإنكار عليه، فيما بينه وبينه، ويُحْمَلُ الأمر في جواز
(1)
"الفتح" 6/ 261.
(2)
"القاموس المحيط" ص 982.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 466.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 529.
الشهادة عليه بذلك، على ما إذا أنكر عليه، ونصحه فلم يَنْتهِ عن قبيح فعله، ثم جاهَر به، كما أنه مأمور بأن يستتر إذا وقع منه شيء، فلو توجه إلى الحاكم، وأقرّ لم يمتنع ذلك، والذي يظهر أن السَّتر محله في معصية قد انقضت، والإنكار في معصية قد حصل التلبس بها، فيجب الإنكار عليه، وإلا رفعه إلى الحاكم، وليس من الغِيبة المحرّمة، بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى تَرْك الغيبة؛ لأن من أظهر مساوئ أخيه لم يستره، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ومن ستر مسلمًا. . . إلخ" هذا حضّ على سَتْر مَن سَتَر نفسه، ولم تَدْعُ الحاجة الدينية إلى كشفه، فأمَّا من اشتهر بالمعاصي، ولم يبال بفعلها، ولم ينته عما نُهي عنه، فواجب رفعه للإمام، وتنكيله، وإشهاره للأنام؛ ليرتدع بذلك أمثاله، وكذلك من تدعو الحاجة إلى كَشْف حالهم من الشهود، والمجرَّحين، فيجب أن يُكشف منهم ما يقتضي تجريحهم، ويحرم سترهم؛ مخافةَ تغيير الشرع، وإبطال الحقوق. انتهى
(2)
.
(سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذيّ:"ستره الله في الدنيا والآخرة"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6555](2580)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2442)، و (أبو داود) في "الأدب"(4893)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1426)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 91)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(533)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 287)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 132)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 94 و 8/ 330) و"شُعب الإيمان"(6/ 104 و 7/ 105 و 507)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 195)،
(1)
"الفتح" 6/ 262، كتاب "المظالم" رقم (2442).
(2)
"المفهم" 6/ 558.
و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3518 و 3549)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(15/ 210 و 54/ 143)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الحضّ للمسلم على مراعاة أخيه المسلم، والتعاون، وحسن التعاشر، والأُلفة.
2 -
(ومنها): بيان شدّة عناية الإسلام في ربط المجتمع، وتأكيد تآخيهم، ونَبْذ الخلافات، والفرقة وراء ظهورهم.
3 -
(ومنها): بيان أن الْمُجازات تقع في الآخرة من جنس الطاعات في الدنيا.
4 -
(ومنها): بيان مشروعيّة السَّتر على المسلم، وتَرْك التسميع به، والإشهار لذنوبه بين الناس، قال الكرمانيّ: الستر إنما هو في معصية وقعت، وانقضت، أما فيما تَلَبّس به الشخص فيجب المبادرة بإنكارها، ومَنْعه منها، وأما ما يتعلق بجرح الرواة والشهود، فلا يحلّ الستر عليهم، وليس هذا من الغيبة المحرّمة، بل من النصيحة الواجبة
(1)
.
5 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن من حلف أن فلانًا أخوه، وأراد أُخُوّة الإسلام لم يحنث، وقد ثبت ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود في "سننه" عن سُويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدوّ له، فتحرّج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخُلِّي سبيله، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أن القوم تحرّجوا أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، قال:"صَدَقت، المسلم أخو المسلم"
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6556]
(2581) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟ "، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ،
(1)
"عمدة القاري" 12/ 289.
(2)
حديث صحيح، رواه أبو داود في "سننه" 3/ 224.
وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِن الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي
(1)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ: فِي النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) - بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم - ابن إياس السَّعْديّ المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
3 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الْحُرقيّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ الْحُرقيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخيه، فالأول بَغْلانيّ، والثاني مروزيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ) الخطاب للصحابة الحاضرين أمامه صلى الله عليه وسلم؛ أي: أتعلمون؟ (مَا الْمُفْلِسُ؟ ") قال الطيبيّ رحمه الله: كذا في "صحيح مسلم"، و"جامع الترمذيّ"، و"كتاب الحميديّ"، و"جامع الأصول"، و"شرح السُّنَّة" - أي: بلفظ: "ما المفلس؟ " - فعلى هذا السؤال عن
(1)
وفي نسخة: "يأتي" بحذف "من".
وَصْف المفلس، لا عن حقيقته، ومن ثَمّ أجاب صلى الله عليه وسلم بوصفه بقوله:"شتم"، و"أكل"، و"قذف"، وفي "مشارق الأنوار"، وبعض نُسخ "المصابيح":"من المفلس؟ "، وهذا السؤال سؤال إرشاد، لا استعلام، ولذلك قال:"إن المفلس كذا وكذا. . .". انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وتعقّبه القاري قائلًا: قلت: الظاهر أن المراد بقوله: "ما المفلس؟ ": من المفلس؟ بدليل ما بعده في جواب الصحابة رضي الله عنهم، وفي كلامه صلى الله عليه وسلم أيضًا من التعبير بـ "مَنْ". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حاصل تعقّب القاري أن "ما" هنا بمعنى التي هي للعاقل؛ لأنها تُستعمل للعاقل، كما قوله تعالى:{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، والله أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أتدرون ما المفلس؟ " كذا صحت الرواية بـ "ما"، فقد وقعت هنا على من يعقل، وأصلها لِمَا لا يعقل، والمفلس: اسم فاعل من أفلس: إذا صار مفلسًا؛ أي: افتتر، وكأنه صارت دراهمه فلوسًا، كما يقال: أجبن الرجل: إذا صار أصحابه جبناء، وأقطف: إذا صارت دابته قَطُوفًا - أي: بطيئةً -. انتهى
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أن هذا حقيقة المفلس، وأما من ليس له مال، ومن قلّ ماله، فالناس يسمّونه مفلسًا، وليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول، وينقطع بموته، وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث، فهو الهالك الهلاكَ التامَّ، والْمُعْدِم الإعدام المقطوع، فتؤخذ حسناته لغرمائه، فإذا فَرَغت حسناته أُخذ من سيئاتهم، فوُضع عليه، ثم أُلقي في النار، فتمَّت خسارته، وهلاكه، وإفلاسه.
قال المازريّ: زعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارِضٌ لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] وهذا الاعتراض غَلَطٌ منه، وجهالة بَيِّنة؛ لأنه إنما عوقب بفعله، ووِزره، وظُلمه، فتوجهت عليه حقوقٌ لغرمائه، فدُفعت
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3255.
(2)
"المرقاة شرح المشكاة" 8/ 850.
(3)
"المفهم" 6/ 563.
إليهم من حسناته، فلمّا فرغت، وبقيت بقية قوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خَلْقه، وعَدْله في عباده، فأُخذ قَدْرها من سيئات خصومه، فوُضع عليه، فعوقب به في النار، فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظُلمه، ولم يعاقَب بغير جناية، وظُلم منه، وهذا كله مذهب أهل السُّنَّة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الذين وُجّه إليهم السؤال: (الْمُفْلِسُ فِينَا) معاشر بني آدم، (مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ، وَلَا مَتَاعَ) له؛ أي: مما يحصل به التمتع، من الأقمشة، والعَقار، والمواشي، ونحو ذلك، أجابوه بما هو معروف لديهم بحسب عُرْف أهل الدنيا، كما يدلّ عليه قولهم:"فينا"، وكان الأَولى بهم فعل ما كانوا عليه في غالب الأحوال في مثل هذا السؤال، وهو قولهم: الله ورسوله أعلم؛ لأن ما أجابوا به كان واضحًا لا يخفى عليه صلى الله عليه وسلم، (فَـ) ــلما أجابوه بهذا (قَالَ) صلى الله عليه وسلم مبيّنًا لهم ما هو الجواب الصحيح المطلوب منهم أن يعلموه:("إِنَّ الْمُفْلِسَ) بكسر "إنّ" لوقوعها محكيّة بـ "قال"؛ أي: إن المفلس الحقيقيّ، وهو المفلس في الآخرة، (مِنْ أُمَّتِي)؛ أي: أمة الإجابة، ولو كان غنيًّا في الدنيا بالدرهم والمتاع، (مَنْ يَأْتِي
(2)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ) الباء للمصاحبة؛ أي: مصاحبًا لصلاة (وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ)؛ أي: مقبولات؛ لأن غير المقبول لا اعتبار به، (وَيَأْتِي) حال كونه (قَدْ شَتَمَ هَذَا) الشخص، (وَقَذَفَ هَذَا)؛ أي: رماه بالزنا ونحوه، (وَأَكَلَ) بالباطل (مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ)؛ أي: أراق (دَمَ هَذَا) بغير حقّ، (وَضَرَبَ هَذَا) بغير استحقاق، أو بالزيادة على ما يستحقّه، والمراد: أنه جمع بين تلك العبادات، وهذه السيّئات، ويَحْتَمِل أن تكون الواو بمعنى "أو"، لكن لفظ المفلس يلائم كثرة المعاصي الموجبة لإفلاسه، قاله القاري رحمه الله
(3)
. (فَيُعْطَى) بالبناء للمفعول، (هَذَا) المظلوم (مِنْ حَسَنَاتِهِ)؛ أي: بعض حسنات الظالم، (وَهَذَا)؛ أي: ويُعطى هذا المظلوم الآخَر (مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ) بكسر النون، من باب تَعِب، (حَسَنَاتُهُ)؛ أي: حسنات الظالم، من الصلاة،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 135 - 136.
(2)
وفي نسخة: "يأتي" بحذف "من".
(3)
"المرقاة شرح المشكاة" 8/ 850.
والصيام، والزكاة، (قَبْلَ أَنْ يُقْضَى) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله قوله:(مَا عَلَيْهِ)؛ أي: قبل أن يؤدَّى الذي استقرّ عليه من المظالم، (أُخِذَ) بالبناء للمفعول أيضًا، (مِنْ خَطَايَاهُمْ)؛ أي: من سيّئات المظلومين، (فَطُرِحَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: رُميت، وأُلقيت تلك الخطايا (عَلَيْهِ)؛ أي: على الظالم الذي فنِيت حسناته قبل قضاء ما عليه، (ثُمَّ طُرِحَ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: رُمي، وألقي ذلك الظالم (فِي النَّارِ") بسبب ما طُرح عليه من سيّئات المظلومين.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة" الحديث؛ أي: هذا أحقّ باِسْم المفلس؛ إذ تؤخذ منه أعماله التي تَعِب في تصحيحها بشروطها، حتى قُبلت منه، فلما كان وقت فَقْره إليها أُخذت منه، ثم طُرح في النار، فلا إفلاس أعظم من هذا، ولا أخسر صفقةً ممن هذه حاله، ففيه ما يدلّ على وجوب السعي في التخلي من حقوق الناس في الدنيا بكل ممكن، والاجتهاد في ذلك، فإنْ لم يجد إلى ذلك سبيلًا فالإكثار من الأعمال الصالحة، فلعله بعد أَخْذ ما عليه تبقى له بقيّة راجحةٌ، والمرجوّ من كرم الكريم لمن صحّت في الأداء نيّته، وعَجز عن ذلك قُدْرته أن يُرضي الله عنه خصومه، فيغفر للمطالب والمطلوب، ويوصلهم إلى أفضل محبوب، وقد تقدَّم ذِكر من قال: إن الصوم لا يؤخذ مما عليه من الحقوق، وبيّنّا ما يَرُدّ عليه، وبماذا ينفصل عنه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "لمن صحّت نيّته. . . إلخ" قد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أَدَّى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله". انتهى
(2)
.
والحاصل أن من أخذ أموال الناس بنيّة صالحة، من أدائها إليهم إذا طلبوها منه، ثم لم يستطع على أدائها لهم، فإن الله تعالى يؤدّيها عنه بنيّته الصالحة، وذلك بأن يعوّض الله سبحانه وتعالى أصحاب الحقوق من الجنة ما يرضون عنه، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
(1)
"المفهم" 6/ 563 - 564.
(2)
"صحيح البخاريّ" 2/ 841.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6556](2581)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2418)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 303 و 334 و 371 و 372)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4411 و 7359)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 385)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 93) و"شُعَب الإيمان"(1/ 303)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4164)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(4/ 23)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة حقوق الناس، فمن اعتدى عليها، فسوف يُجازى أصعب المجازاة، وذلك بأن تؤخذ حسناته، فتعطى أصحاب الحقوق، فإن وَفَّت فبها، وإلا أُخذت خطاياهم، فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار، فيا خسارة من هذه حاله، وهذا مآله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
2 -
(ومنها): ما قيل: إن هذا الحديث لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ لأنه إنما يعاقَب بسبب فِعله، وظُلمه، ولم يعاقَب بغير جناية منه، بل بجنايته، فقوبلت الحسنات بالسيئات على ما اقتضاه عَدْل الله تعالى في عباده
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه قد تعلق بعض الذاهبين إلى صحة الإبراء من المجهول بهذا الحديث، وقال ابن بطال: بل فيه حجة لاشتراط التعيين؛ لأن قوله: "مظلمةٌ" يقتضي كونها معلومة القَدْر، وقال ابن المنيِّر: إنما وقع في الخبر حيث يقتصّ المظلوم من الظالم، حتى يأخذ منه بقَدْر حقه، وهذا متفق عليه، إنما الخلاف فيما لو أسقط المظلوم حقه في الدنيا، هل يشترط معرفة قَدْره؟ والحديث مطلقٌ. انتهى
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله البيهقيّ رحمه الله: احتج بهذا الحديث من قال بإحباط
(1)
"فيض القدير" 4/ 26.
(2)
"فيض القدير" 4/ 26.
السيئة الحسنة، ووجهه عندي - والله تعالى أعلم - أنه يعطى خصماؤه من أجر حسناته ما يوازي عقوبة سيئاته، فإن فنيت حسناته؛ أي: أجر حسناته الذي قوبل بعقوبة سيئاته، أُخذ من خطاياهم، فطُرحت عليه، وطُرح في النار، كي يُعذَّب بها إن لم يُغفر له، حتى إذا انتهت عقوبة تلك الخطايا رُدّ إلى الجنة بما كُتب له من الخلود، ولا يعطى خصماؤه ما زاد من الأجر على ما قابل عقوبة سيئاته؛ لأن ذلك فضل من الله تعالى يَخُصّ به من وافى يوم القيامة مؤمنًا، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقال القاريّ رحمه الله: وهذا من ضرورة قضية العدل الثابت له تعالى بالنقل والعقل، فإن الظالم إذا أكثر من الحسنات، وثقلت موازينه منها، وغلبت على سيئاته، فإن أدخل الجنة يبقى حق المظلوم ضائعًا، وإن أدخل النار ينافي قوله تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)} [المؤمنون: 102]، وسيأتي أن حقوق العباد مما لا يتركه الله تعالى، فلا بدّ من أحد الأمرين: إما أخْذ الحسنات، وإما وَضْع السيئات، حتى يتحقق خفة ميزان عمله، فيدخل النار، فيعذَّب بقدر استحقاقه، ثم يخرج، ويدخل الجنة بسبب الحسنات الباقية، إن كانت هناك، وإلا فببركة الإيمان، فـ {. . . إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30]، وهذا من البراهين الواضحة المؤيَّدة بالشواهد والأدلة اللائحة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6557]
(2582) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ ثقة عابدٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
(1)
"شُعَب الإيمان" 1/ 68.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 441.
والباقون ذُكروا في الحديث الماضي، ولطائف الإسناد ذُكر هناك.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتُؤَدُّنَّ) اللام فيه هي الموطّئة للقسم؛ أي: والله لتؤدنّ، بفتح الدال المشدّدة، مبنيًّا للمفعول، وقيل: بضمّها مبنيًّا للفاعل، فقوله:(الْحُقُوقُ) بالرفع على الأول على أنه نائب الفاعل، وبالنصب على الثاني على أنه مفعول به.
وقال التوربشتيّ هو على بناء المجهول، و"الحقوق" مرفوع، هذه هي الرواية المعتدّ بها، ويزعم بعضهم ضم الدال، ونَصْب "الحقوق"، والفعل مسند إلى الجماعة الذين خوطبوا به، والصحيح ما قدمناه. انتهى.
وتعقّبه الطيبيّ، فقال: إن كان الردّ لأجل الرواية فلا مقال، وإن كان بحسب الدراية، فإن باب التغليب واسع، فيكون قد غَلّب العقلاء على غيرهم، وجَعَل قوله:"حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" غاية بحسب التغليب، كما في قوله تعالى:{جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11]، فالضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} راجع إلى الأناسي والأنعام على تغليب المخاطبين العقلاء على الغيب والأنعام. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لتؤدّنّ الحقوق. . . إلخ" هذا جواب قَسَم محذوف؛ كأنه قال: والله لتؤدن، والحقوق: جَمْع حقّ، وهو ما يَحِقّ على الإنسان أن يؤدّيه، وهو يعمّ حقوق الأبدان، والأموال، والأعراض، وصغير ذلك، وكبيره، كما قال تعالى:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49]، وكما قال:{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]. انتهى
(2)
.
وقوله: (إِلَى أَهْلِهَا) متعلّق بـ "تؤدنّ"، وكذا قوله:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُقَادَ)؛ أي: يقتصّ (لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ) بفتح الجيم، وسكون اللام، بعدها حاء
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 443، و"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3255.
(2)
"المفهم" 6/ 564.
مهملة: هي التي لا قرون لها، وفي رواية:"الجمّاء" بالجيم، ثم الميم المشدّدة، والمعنى واحد. (مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ) التي لها قَرْن، قال ابن الملك؛ أي: لو نطحت شاة قرناء شاة جلحاء في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة يؤخذ القرن من القرناء، ويعطى الجلحاء حتى تقتص لنفسها من الشاة القرناء.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال: "يؤخذ القرن. . . إلخ"، أخْذ القرن من القرناء، وإعطاؤه للجلحاء لا يدلّ عليه سياق الحديث، فيحتاج إلى دليل، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: [فإن قيل]: الشاة غير مكلفة، فكيف يقتص منها؟.
[قلنا]: إن الله تعالى فعّال لِمَا يريد، ولا يُسأل عما يفعل، والغرض منه إعلام العباد بأن الحقوق لا تضيع، بل يُقتص حق المظلوم من الظالم. انتهى.
قال القاري: وهو وجه حسنٌ، وتوجيه مستحسنٌ، إلا أن التعبير عن الحكمة بالغرض وقع في غير موضعه، وجملة الأمر أن القضية دالّة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافّة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: وقد حُكي: أن أبا هريرة رضي الله عنه حَمَل هذا الحديث على ظاهره، فقال: يؤتى بالبهائم، فيقال لها: كوني ترابًا، وذلك بعدما يقاد للجمّاء من القرناء، وحينئذ يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا.
وقد قيل في معنى الحديث: إن المقصود منه التمثيل على جهة تعظيم أمر الحساب والقصاص، والإغياء فيه حتى يُفهم منه أنه لا بُدّ لكل أحد منه، وأنه لا محيص له عنه، ويتأكّد هذا بما جاء في هذا الحديث عن بعض رواته من الزيادة، فقال:"حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء، وللحجر لِمَ ركب على الحجر؟ وعلى العود لِمَ خَدَش العود؟ "، فظهر من هذا أن المقصود منه التمثيل المفيد للإغياء والتهويل؛ لأنَّ الجمادات لا يُعقل خطابها، ولا ثوابها، ولا عقابها، ولم يَصِر إليه أحد من العقلاء، ومُتَخيِّله من جملة المعتوهين الأغبياء،
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 444.
ونظير هذا التمثيل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية [الرعد: 31]، وقوله:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} الآية [الحشر: 21] فتدبّر وجه التنظير، والله بحقائق الأمور عليم خبير. انتهى كلام القرطبيّ
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى على من تأمل القول الثاني الذي ذكره القرطبيّ من أن معنى الحديث التمثيل، وليس حقيقة، كونه غير صحيح، وتقرير القرطبيّ له، وتأييده بأثر لا يُعرف من أخرجه، وحال إسناده
(2)
شيء عجيب، وكذا قوله: إن الجمادات لا يُعقل خطابها، كيف يقول هذا من يقرأ قوله تعالى:{يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)} [الزلزلة: 4، 5]، وغير ذلك من الآيات؟ وأعجب من ذلك قوله: ومُتَخيِّله من جملة المعتوهين الأغبياء، كيف يكون من يعتقد ما أخبر الله به معتوهًا غبيًّا؟ بل الأمر بالعكس، فالمعتوه من يستبعد وقوع ما أخبر الله تعالى بوقوعه، وسيأتي ذِكر ما قاله النوويّ رحمه الله في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
والحاصل أن الصحيح في معنى الحديث أنه على ظاهره، كما عزاه القرطبيّ إلى أبي هريرة رضي الله عنه، وأن القصاص بين البهائم سيقع، فنصدّق بذلك، ونؤمن به، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6557](2582)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(183)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2420)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 301 و 323 و 372 و 411)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7363)،
(1)
"المفهم" 6/ 564.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: ثم وجدت الخطيب البغداديّ أخرجه في كتابه "الرحلة في طلب العلم" وفي سنده عمر بن صبح بن عمران التميمي الخراسانيّ أحد الكذّابين، كذّبه إسحاق بن راهويه، وكذّبه الأزديّ أيضًا، وقال الدارقطنيّ: متروك، راجع:"تهذيب التهذيب"، فهذا حال الحديث، فلتتبصّر.
و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 395)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1182)، و (تمّام) في "فوائده"(1/ 338)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 93)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة الحقوق، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى فيها القصاص، حتى بين البهائم، فكيف بالعقلاء المكلّفين؟ فالواجب على العاقل المبادرة بالتخلُّص من الحقوق قبل ذلك اليوم، ولبعضهم شعرًا [من الكامل]:
فَخَفِ الْقَضَاءَ غَدًا إِذَا وَافَيْتَ
…
مَا كَسَبَتْ يَدَاكَ الْيَوْمَ بِالْقِسْطَاسِ
أَعْضَاؤُهُمْ فِيهِ الشُّهُودُ وَسِجْنُهُمْ
…
نَارٌ وَحَاكِمُهُمْ شَدِيدُ الْبَاسِ
فِي مَوْقِفْ مَا فِيهِ إِلَّا شَاخِصٌ
…
أَوْ مُهْطِعٌ أَوْ مُقْنِعٌ لِلرَّاسِ
إِنْ تُمْطِلِ الْيَوْمَ الْحُقُوقَ مَعَ الْغِنَى
…
فَغَدًا تُؤَدِّيهَا مَعَ الإِفْلَاسِ
(1)
2 -
(ومنها): أن فيه إثبات البعث والنشور في الآخرة، وأن الخلائق كلهم يُحشرون، عقلاؤهم، وغير عقلائهم.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا تصريح بحشر البهائم يوم القيامة، وإعادتها يوم القيامة كما يعاد أهل التكليف من الآدميين، وكما يعاد الأطفال، والمجانين، ومن لم تبلغه دعوة، وعلى هذا تظاهرت دلائل القرآن، والسُّنَّة، قال الله تعالى:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)} [التكوير: 5]، وإذا ورد لفظ الشرع، ولم يَمنع من إجرائه على ظاهره عقلٌ، ولا شرعٌ، وجب حَمْله على ظاهره.
قال العلماء: وليس من شَرْط الحشر والإعادة في القيامة المجازاة، والعقاب، والثواب، وأما القصاص من القرناء للجلحاء فليس هو من قصاص التكليف؛ إذ لا تكليف عليها، بل هو قصاص مقابلة. انتهى كلام النوويّ
(2)
.
وتعقّبه القاري في قوله: "قصاص مقابلة"، فقال: فيه نظر لا يخفى؛ لأن
(1)
"شرح حديث لبيك" للحافظ ابن رجب رحمه الله 1/ 106.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 136 - 137.
قصاص المقابلة نحن مكلفون به أيضًا. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6558]
(2583) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، حَدَّثَنَا بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل يُمْلِي لِلظَّالِمِ، فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ"، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102]).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(بُرَيْدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) هو: بُريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
2 -
(أَبُوهُ) المراد به جدّه، وهو: أبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
3 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابيّ المشهور، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، فأبو موسى رضي الله عنه سكن الكوفة، كما سكن البصرة، وفيه رواية الابن عن جدّه، عن أبيه، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، ذو مناقب جمّة، أَمَّره عمر بن الخطّاب، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الحكمين بصِفِّين، وقد أثنى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم بحُسن صوته، فقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه يقرأ من الليل، فوقف، فاستمع لقراءته، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود"، وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" عن ابن
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 444.
شهاب، أن أبا سلمة بن عبد الرحمن أخبره، أن أبا هريرة حدّثه أنه سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قراءةَ أبي موسى الأشعريّ، قال:"لقد أوتي هذا من مزامير آل داود"، قال أبو سلمة: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى، وهو جالس في المجلس: يا أبا موسى ذَكِّرنا ربنا، فيقرأ عنده أبو موسى، وهو جالس في المجلس، ويتلاحن.
شرح الحديث:
(عن بُرَيْدِ) بن عبد الله (بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ)؛ أي: عن جدّه أبي بردة، ففيه تجوّز بإطلاق الأب على الجدّ، وكذا وقع عند البخاريّ، قال في "الفتح": قوله: "عن أبيه" كذا وقع لأبي ذرّ، ووقع لغيره:"عن أبي بردة" بدل "عن أبيه"، وهو أصوب؛ لأن بريدًا هو ابن عبد الله بن أبي بردة، فأبو بُردة جدّه، لا أبوه، لكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازًا. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل يُمْلِي لِلظَّالِمِ) ولفظ البخاريّ: "ليملي للظالم" واللام فيه للتأكيد، و"يملي" بضمّ حرف المضارعة، من الإملاء، وهو الإمهال والتأخير، يقال: أمليت له في الأمر: أخّرت، وفي التنزيل:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وأمليت للبعير في القيد: أرخيتُ له، ووسّعتُ
(2)
.
وقال النوويّ: معنى "يملي": يُمْهِل، ويؤخِّر، ويطيل له في المدّة، وهو مشتق من الْمُلْوَة، وهي المدّة، والزمان، بضم الميم، وكسرها، وفتحها. انتهى
(3)
.
ووقع في رواية الترمذيّ عن أبي كُريب، عن أبي معاوية:"إن الله يُملي، وربما قال: يُمْهِل"، ورواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ، عن أبي أسامة، عن بُرَيد قال:"يملي"، ولم يشكّ.
(1)
"الفتح" 10/ 225.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 580.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 137.
(فَإِذَا أَخَذَهُ) ولفظ البخاريّ: "حتى إذا أخذه"، (لَمْ يُفْلِتْهُ")؛ أي: لم يُطلقه، ولم ينفلت منه، قال أهل اللغة: أفلته: أطلقه، وانفلت: تخلّص منه، قاله النوويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": "لم يُفلته" بضمّ أوله من الرباعيّ؛ أي: لم يُخَلِّصه؛ أي: إذا أهلكه لم يرفع عنه الهلاك، قال الحافظ: وهذا على تفسير الظلم بالشرك على إطلاقه، وإن فُسِّر بما هو أعمّ، فيُحْمَل كل على ما يليق به، وقيل: معنى لم يُفلته: لم يؤخره، وفيه نظرٌ؛ لأنه يَتبادر منه أن الظالم إذا صُرف عن منصبه، وأُهين لا يعود إلى عزّه، والمشاهَد في بعضهم بخلاف ذلك، فالأَولى حَمْله على ما قدّمته، والله أعلم. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَرَأَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك من كتاب الله عز وجل ({وَكَذَلِكَ}) الكاف لتشبيه الأخذ المستقبل بالأخذ الماضي، ({أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} أتى باللفظ الماضي موضع المضارعة، على قراءة طلحة بن مُصَرّف "أخذ" بفتحتين في الأول كالثاني مبالغةً في تحققه، وقوله: ({وَهِيَ ظَالِمَةٌ}) جملة حاليّة من "القرى"، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}) قال إمام المفسّرين أبو جعفر الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": يقول تعالى ذِكْرُهُ: وكما أخذتُ أيها الناس أهل هذه القرى التي اقتصصت عليكم نبأ أهلها بما أخذتهم به من العذاب على خلافهم أمري، وتكذيبهم رسلي، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرى وأهلها، وإذا أخَذْتهم بعقابي، وهم ظَلَمة لأنفسهم بكفرهم بالله، وإشراكهم به غيره، وتكذيبهم رسله، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ} يقول: إن أخْذ ربكم بالعقاب مَن أَخَذه أليم، يقول: موجع شديد الإيجاع، وهذا أمْر من الله تعالى، تحذير لهذه الأمة أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيَحِلّ بهم ما حَلّ بهم من الْمَثُلات. انتهى
(3)
.
وقال أبو السعود رحمه الله في "تفسيره": {وَكَذَلِكَ} ؛ أي: ومثلُ ذلك الأخذِ الذي مرّ بيانه، وهو رفع على الإبتداء، وخبره قوله:{أَخْذُ رَبِّكَ} وقرئ: أَخَذَ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 137.
(2)
"الفتح" 10/ 225.
(3)
"تفسير الطبريّ" 12/ 114.
ربُّك، فمحل الكاف النصب على أنه مصدر مؤكد، {إِذَا أَخَذَ الْقُرَى}؛ أي: أهلها، وإنما أسند إليها؛ للإشعار بسريان أثره إليها، حسبما ذكر، وقرئ:"إذ أخذ"، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} حال من القرى، وهي في الحقيقة لأهلها، لكنها لمّا أُقيمت مقامهم في الأخذ أُجريت الحال عليها، وفائدتها الإشعار بأنهم إنما أُخذوا بظلمهم؛ ليكون ذلك عبرة لكل ظالم، {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وجيعٌ صَعْبٌ على المأخوذ، لا يرجى منه الخلاص، وفيه ما لا يخفى من التهديد، والتحذير. انتهى
(1)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} ؛ أي: كما أخذ هذه القرى التي كانت لنوح، وعاد، وثمود، يأخذ جميع القرى الظالمة.
وقرأ عاصم الجحدريّ، وطلحة بن مُصَرِّف:"وكذلك أَخَذَ ربُّك إِذْ أَخَذَ القرى"، وعن الجحدريّ أيضًا:"وكذلك أَخْذُ ربك" كالجماعة "إِذْ أَخَذَ القرى".
قال المهدويّ: من قرأ: "وكذلك أخْذ ربك إذ أخَذ" فهو إخبار عما جاءت به العادة في إهلاك من تقدم من الأمم، والمعنى: وكذلك أخْذ ربك من أخَذه من الأمم المهلكة إذ أخَذَهم.
وقراءة الجماعة على أنه مصدر، والمعنى: كذلك أخْذ ربك من أراد إهلاكه متى أخَذه، فـ "إذ" لِمَا مضى؛ أي: حين أخذ القرى، و"إذا" للمستقبل، {وَهِيَ ظَالِمَةٌ}؛ أي: وأهلها ظالمون، فحُذف المضاف مثل:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
{إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ؛ أي: عقوبته لأهل الشرك موجعةٌ غليظةٌ. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"تفسير أبي السعود" 4/ 240.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 9/ 95.
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6558](2583)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4686)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3109)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 365)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4067)، و (أحمد) في "الزهد"(1/ 22)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 307)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 162)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 315)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 94) و"شُعَب الإيمان"(6/ 49)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تغليظ الظلم، وشدّة الوعيد فيه.
2 -
(ومنها): أن فيه تسليةً للمظلوم، ووعيدًا للظالم، وأنه لا يغتر بالإمهال، فإنه ليس بإهمال، وإنما هو إمهال مدّة قليلة.
3 -
(ومنها): ما قاله المناويّ رحمه الله: فيه دليلٌ على أن من أقدم على ظلم، فإنه يجب عليه أن يتدارك ذلك بالتوبة والإنابة، وردّ الحقوق إلى أهلها، إن كان الظلم للخلق؛ لئلا يقع في هذا الوعيد العظيم، والعذاب الشديد، ولا يظنّ أن هذه الآية حُكمها مختصّ بظالمي الأمم الماضية، بل هو عامّ في كلّ ظالم، كما بيّنه الحديث
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن رجب رحمه الله: ظلم العباد شرّ مكتسب؛ لأن الحقّ فيه لآدميّ مطبوع على الشحّ، فلا يترك من حقّه شيئًا، لا سيما مع شدّة حاجته يوم القيامة، فإن الأمّ تفرح يومئذ إذا كان لها حقّ على ولدها لتأخذه منه.
كان بعض أكابر التابعين قال لرجل: يا مفلس، فابتُلي القائل بالدَّين، والحبس بعد أربعين سنة.
وضَرَب رجل أباه، وسَحَبه إلى مكان، فقال الذي رآه: إلى ها هنا رأيت هذا المضروب قد ضرب أباه، وسَحَبه إليه.
وصادر بعض وزراء الخلفاء رجلًا، فأخذ منه ثلاثة آلاف دينار، فبعد مدّة غضب الخليفة على الوزير، وطلب منه عشرة آلاف دينار، فجَزِع أهله من
(1)
"فيض القدير" 2/ 264.
ذلك، فقال: ما يأخذ مني أكثر من ثلاثة آلاف، كما كنت ظلمت، فلما أَدَّى ثلاثة آلاف دينار وَقَّع الخليفة بالإفراج عنه، فسبحان من هو قائم على كل نفس بما كسبت، إن ربك لبالمرصاد، حاكم العدل، لا يجور، وإنما يجازي بالعدل، وميزان عدله لا يحابي أحدًا، بل يتحرر فيه مثاقيل الذرّ، ومثاقيل الخردل، وكما تدين تدان، قال بعضهم [من البسيط]:
فَجَانِبِ الظُّلْمَ لَا تَسْلُكْ مَسَالِكَهُ
…
عَوَاقِبُ الظُّلْمِ تُخْشَى وَهْيَ تُنْتَظَرُ
وَكُلُّ نَفْسٍ سَتُجْزَى بِالَّذِي عَمَلَتْ
…
وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ مِنْ دَيَّانِهِمْ وَطَرُ
(1)
والله تعالى أعلم.
(16) - (بَابُ نَصْرِ الأَخِ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6559]
(2584) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ: غُلَامٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَغُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَنَادَى الْمُهَاجِرُ، أَوِ الْمُهَاجِرُونَ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَنَادَى الأَنْصَارِيّ: يَا لَلأَنْصَارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَالَ: "مَا هَذَا؟ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ"، قَالُوا: لَا، يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا، فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، قَالَ: "فَلَا بَأْسَ، وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا، أَوْ مَظْلُومًا، إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ، فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد الله بن قيس التميميّ اليربوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
(1)
"شرح حديث لبيك" لابن رجب رحمه الله 1/ 107 - 108.
2 -
(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُدَيج، أبو خيثمة الجعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدرُس المكيّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (501) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: اقْتَتَلَ غُلَامَانِ: غُلَامٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ) هو جَهْجَاه بن مسعود، (وَغُلَامٌ مِنَ الأَنْصَارِ) سِنان بن وَبَر الجهنيّ، (فَنَادَى الْمُهَاجِرُ، أَوِ الْمُهَاجِرُونَ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَنَادَى الأَنْصَارِيّ: يَا لَلأَنْصَارِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النُّسخ: "يا ل" بلام مفصولة في الموضعين، وفي بعضها "يا للمهاجرين، ويا للأنصار" بوصلها، وفي بعضها:"يا آل المهاجرين" بهمزة، ثم لام مفصولة، واللام مفتوحة في الجميع، وهي لام الاستغاثة، والصحيح بلام موصولة، ومعناه: أدعو المهاجرين، وأستغيث بهم. انتهى
(1)
.
(فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَالَ: "مَا هَذَا؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء هذا النداء، والاستفهام للإنكار، وأتبعه بقوله:(دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ") خبر لمحذوف؛ أي: هذه دعواهم، والجاهلية ما قبل الإسلام؛ والمعنى: أن الانتصار، والاستنصار بقبيلة على قبيلة أخرى من سُنَّة الجاهليّة، فأما الإسلام فقد جعل أهله كلّهم إخوة، فينبغي أن يستنصر بإخوانه، أو بالمسلمين.
وقال النوويّ رحمه الله: وأما تسميته صلى الله عليه وسلم ذلك دعوى الجاهلية، فهو كراهة منه لذلك، فإنه مما كانت عليه الجاهلية من التعاضد بالقبائل في أمور الدنيا، ومتعلقاتها، وكانت الجاهلية تأخذ حقوقها بالعصبات، والقبائل، فجاء الإسلام
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 137.
بإبطال ذلك، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، فإذا اعتدى إنسان على آخر حَكَم القاضي بينهما، وألزمه مقتضى عدوانه، كما تقرر من قواعد الإسلام. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: دعوى الجاهلية: تَنادِيهِم عند الغضب، والاستنجاد: يا آل فلان! يا بني فلان! وهي التي عَنَاها صلى الله عليه وسلم بقوله: "دعوها فإنَّها منتنة"؛ أي: مستخبَثة، قبيحة؛ لأنَّها تثير التعصُّب على غير الحقّ، والتقاتل على الباطل، ثم إنها تجُرّ إلى النار، كما قال صلى الله عليه وسلم:"من دعا بدعوى الجاهلية، فليس منا، وليتبوأ مقعده من النار"
(2)
. وقد أبدل الله تعالى من دعوى الجاهلية دعوى المسلمين، فيُنادَى: يا للمسلمين! كما قال صلى الله عليه وسلم: "فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين"، وكما نادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين طُعن: يا لَله للمسلمين! فاذا دعا بها المسلم وجبت إجابته، والكشف عن أمره على كل من سمعه، فإن ظهر أنه مظلوم نُصِر بكل وجه ممكن شرعيّ؛ لأنه إنما دعا المسلمين لينصروه على الحقّ، وإن كان ظالِمًا كُفّ عن الظلم بالملاطفة، والرفق، فإن نَفَع ذلك، وإلا أُخذ على يده، وكُفّ عن ظلمه، فإنَّ الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب من عنده، ثم يدعونه فلا يستجاب لهم. انتهى.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون: (لَا)؛ أي: ليست هذه دعوة جاهليّة، (يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا أَنَّ غُلَامَيْنِ اقْتَتَلَا)؛ أي: تضاربا، (فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ) بسين مخففة، مهملة؛ أي: ضَرَب دُبُره، وعجيزته بيد، أو رِجْل، أو سيف، وغيره، قاله النوويّ رحمه الله.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 137.
(2)
أخرج أحمد، والترمذيّ عن الحارث الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آمركم بخمس: بالجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، وإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم، وإن صام وصلى، وزعم أنه مسلم"، وقال الترمذيّ: حسن صحيح، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان، والحاكم.
و"جثى جهنم" بضم الجيم، والقصر؛ أي: جماعتها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: في "الصحاح": الكسع: أن تضرب دُبُر الإنسان بيدك، أو بصدر قدمك، يقال: اتبع فلان أدبارهم يَكْسَعهم بالسيف، مثل: يكسؤهم؛ أي: يطردهم، ومنه قول الشاعر [من الكامل]:
كُسِعَ الشَّتَاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ
…
أَيَّامِ شَهْلَتِنَا مِنَ الشَّهْرِ
ووردت الخيلُ يكسع بعضُها بعضًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَلَا بَأْسَ)؛ أي: فلا شدّة فيما وقع، وقال النوويّ رحمه الله: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في آخر هذه القصة: "لا بأس" فمعناه: لم يحصل من هذه القصة بأس مما كنت خِفته، فإنه خاف أن يكون حدث أمر عظيم، يوجب فتنةً، وفسادًا، وليس هو عائدًا إلى رفع كراهة الدعاء بدعوى الجاهلية. انتهى
(2)
.
ثم أرشدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الطريق السويّ الذي يجب على المسلمين أن يسلكوه، وهو ما أوضحه بقوله:(وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ) الشخص، فليس خاصًّا بالرجل، بل المرأة كذلك، (أَخَاهُ) في الدِّين، أو النسب، حال كونه (ظَالِمًا) لغيره (أَوْ مَظْلُومًا) من غيره، ثم بيّن وجه نَصْره في الحالتين، فقال:(إِنْ كَانَ) الأخ (ظَالِمًا) لغيره (فَلْيَنْهَهُ)؛ أي: ليمنعه من الظلم، (فَإِنَّهُ)؛ أي: نهيه عن الظلم (لَهُ نَصْرٌ) حيث نصره على نفسه الأمّارة بالسوء، وعدوّه الشيطان، (وَإِنْ كَانَ) الأخ (مَظْلُومًا) من غيره (فَلْيَنْصُرْهُ") بمنع ظالمه مِن ظُلمه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "انصر أخاك ظالِمًا أو مظلومًا" هذا من الكلام البليغ الوجيز الذي قلّ من ينسج على مِنْوَاله، أو يأتي بمثاله، و"أو" فيه للتنويع والتقسيم، وإنما سُمّي نهي الظالم نصرًا؛ لأن النصر هو العون، ومنه قولهم: أرض منصورة؛ أي: معانة بالمطر، ومَنْع الظالم من الظلم عَوْن له على مصلحة نفسه، وعلى الرجوع إلى الحقّ، فكان أَولى بأن يُسمَّى نصرًا. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: حديث: "انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا" أخرجه البخاريّ في "صحيحه" من حديث أنس رضي الله عنه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك
(1)
"المفهم" 6/ 559.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 138.
(3)
"المفهم" 6/ 559.
ظالِمًا، أو مظلومًا" قالوا: يا رسول الله هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالِمًا؟ قال:"تأخذ فوق يديه".
وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالِمًا، أو مظلومًا"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالِمًا، كيف أنصره؟ قال:"تَحْجُزه - أو - تمنعه من الظلم، فإن ذلك نَصْره".
قال في "الفتح": قوله: "فقال: تأخذ فوق يديه" كَنَى به عن كفّه عن الظلم بالفعل، إن لم يكفّ بالقول، وعبّر بالفوقية إشارةً إلى الأخذ بالاستعلاء والقوّة، وفي رواية معاذ، عن حميد، عند الإسماعيليّ:"فقال: يكفّه عن الظلم، فذاك نَصْره إياه"، ولمسلم في حديث جابر نحو الحديث، وفيه:"إن كان ظالمًا فَلْيَنْهَه، فإنه له نَصْر".
قال ابن بطال: النصر عند العرب: الإعانة، وتفسيره لنصر الظالم بمنعه من الظلم، من تسمية الشيء بما يؤول إليه، وهو من وجيز البلاغة، قال البيهقيّ: معناه أن الظالم مظلوم في نفسه، فيدخل فيه ردع المرء عن ظلمه لنفسه حسًّا ومعنى، فلو رأى إنسانًا يريد أن يَجُبّ نفسه؛ لِظَنّه أن ذلك يزيل مفسدة طَلَبه الزنا مثلًا مَنَعه من ذلك، وكان ذلك نصرًا له، واتحد في هذه الصورة الظالم والمظلوم.
وقال ابن الْمُنَيِّر: فيه إشارة إلى أن الترك كالفعل في باب الضمان، وتحته فروع كثيرة.
[لطيفة]: ذكر المفضّل الضبيّ في كتابه "الفاخر" أن أول من قال: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا: جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم، وأراد بذلك ظاهره، وهو ما اعتادوه من حمية الجاهلية، لا على ما فسّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول شاعرهم [من الطويل]:
إِذَا أَنَا لَمْ أَنْصُرْ أَخِي وَهْوَ ظَالِمٌ عَلَى
…
الْقَوْمِ لَمْ أَنْصُرْ أَخِي حِينَ يُظْلَمُ
(1)
والحديث متّفقٌ عليه، ويأتي تمام البحث فيه في الحديث التالي - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"الفتح" 6/ 262 - 264، كتاب "المظالم" رقم (2443).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6560]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا؟ وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، قَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (502) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
عَن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ؛ أنه (قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو)؛ أي: ابن دينار، (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ) بفتح الغين المعجمة، اسم من الغزو، وسَمَّى ابنُ إسحاق هذه الغزوة غزوة بني المصطلِق، وكذا وقع عند
الإسماعيليّ من طريق ابن أبي عمر، عن سفيان، قال:"يرون أن هذه الغزاة غزاة بني المصطلق"، وكذا في مرسل عروة، قاله في "الفتح"
(1)
. (فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ) قال ابن التين: الْكَسْع أن تضرب بيدك على دُبُر شيء، أو برجلك، وقال القرطبيّ: أن تضرب عَجُز إنسان بقدمك، وقيل: الضرب بالسيف على المؤخَّر، وقال ابن القطاع: كَسَعَ القومَ: ضرب أدبارهم بالسيف، وكَسَعَ الرجلَ: ضرب دُبُره بظهر قدمه، وكذا إذا تكلم، فأَثَّر كلامه بما ساءه، ونحوه في "تهذيب الأزهريّ".
ووقع عند الطبريّ من وجه آخر، عن عمرو بن دينار، عن جابر أن رجلًا من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار برجله، وذلك عند أهل اليمن شديد، والرجل المهاجريّ هو جهجاه بن قيس، ويقال: ابن سعيد الغفاريّ، وكان مع عمر بن الخطاب يقود له فرسه، والرجل الأنصاريّ هو سنان بن وَبَرَة الجهنيّ، حليف الأنصار، وفي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، مرسلًا أن الأنصاريّ كان حليفًا لهم من جُهينة، وأن المهاجريّ كان من غِفار، وسمّاهما ابن إسحاق في "المغازي" عن شيوخه، وأخرج ابن أبي حاتم، من طريق عُقيل عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، وعمرو بن ثابت، أنهما أخبراه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع، وهي التي هَدَم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلَّل وبين البحر، فاقتتل رجلان، فاستعلى المهاجريّ على الأنصاريّ، فقال حليف الأنصار: يا معشر الأنصار، فتداعوا إلى أن حجز بينهم، فانكفأ كل منافق إلى عبد الله بن أُبَيّ، فقالوا: كنت تُرْجَى وتَدْفَع، فصرت لا تضرّ، ولا تنفع، فقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكر القصة بطولها، وهو مرسل جيّد، واتفقت هذه الطرق على أن المهاجريّ واحد، ووقع في حديث أبي الزبير، عن جابر، عند مسلم:"اقتتل غلامان من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجريّ: يا للمهاجرين، ونادى الأنصاريّ: يا للأنصار، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما هذا؟ أدعوى الجاهلية؟ "، قالوا: لا، إن غلامين اقتتلا، فكسع أحدهما الآخر،
(1)
"الفتح" 10/ 708، كتاب "التفسير"(ح 4905).
فقال: "لا بأس، ولينصرنّ الرجل أخاه ظالمًا أو مظلومًا" الحديث، ويمكن تأويل هذه الرواية بأن قوله "من المهاجرين" بيان لأحد الغلامين، والتقدير: اقتتل غلامان: غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار، فحذف لفظ غلام من الأول، ويؤيده قوله في بقية الخبر: فقال المهاجري، فأفرده فتتوافق الروايات.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ساق في "الفتح" رواية مسلم بقوله: "اقتتل غلامان من المهاجرين وغلام من الأنصار"، وهذا اللفظ لم أره في النُّسخ التي بين يديّ، فكلها متّفقة على لفظ:"اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار"، وهذا واضح لا يحتاج إلى تقدير، ولا إلى تأويل، ولعل الحافظ وقع في نسخته ما ذكره، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلأَنْصَارِ) بفتح اللام، وهي للاستغاثة؛ أي: أغيثوني، وكذا في قول الآخر: يا للمهاجرين، (وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ ")؛ أي: ما شأنها؟ وهو في الحقيقة إنكار، ومَنْعٌ عن قول: يا لفلان، ونحوه
(1)
. (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: "دَعُوهَا)؛ أي: اتركوا هذه المقالة، وهي دعوى الجاهليّة، (فَإِنَّهَا)؛ أي: دعوة الجاهلية، وأبعدَ من قال: المراد: الكسعة. (مُنْتِنَةٌ") بضم الميم، وسكون النون، وكسر المثناة، من النتن؛ أي: إنها كلمة قبيحة، خبيثة، وكذا ثبتت في بعض الروايات.
(فَسَمِعَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ) المنافق (فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا) استفهام بتقدير الأداة؛ أي: أَفعلوها؟؛ أي: الأثرة، أشركناهم فيما نحن فيه، فأرادوا الاستبداد به علينا، وفي مرسل قتادة:"فقال رجل منهم عظيم النفاق: ما مثَلنا ومثَلهم إلا كما قال القائل: سَمِّنْ كلبك يأكلك"، وعند ابن إسحاق:"فقال عبد الله بن أُبَيّ: أقد فعلوها؟ نافرونا، وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثَلنا وجلابيب قريش هذه، إلا كما قال القائل: سَمِّن كلبك يأكلك"
(2)
.
(وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) قال
(1)
"عمدة القاري" 19/ 241.
(2)
"الفتح" 10/ 708، كتاب "التفسير" رقم (4905).
الطبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذِكرُهُ: يقول هؤلاء المنافقون الذين وَصَف صفتهم قبلُ: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ فيها، ويعني بالأعزّ: الأشدّ والأقوى، قال الله جل ثناؤه: ولله العزة؛ يعني: الشدّة والقوّة، ولرسوله، وللمؤمنين بالله، ولكنّ المنافقين لا يعلمون ذلك. انتهى
(1)
.
(قَالَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه: (دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ) في مرسل قتادة: "فقال عمر: مُرْ معاذًا أن يضرب عنقه"، وإنما قال ذلك؛ لأن معاذًا لم يكن من قومه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ)"لا" نافية، والفعل بعدها مرفوع على الاستئناف، ويجوز أن تكون ناهية، والفعل مجزوم بها، إلا أنه كُسر لالتقاء الساكنين. (أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ")؛ أي: أتباعه، وفي مرسل قتادة:"فقال: لا والله، لا يتحدث الناس"، زاد ابن إسحاق:"فقال: مُرْ به معاذ بن بشر بن وقش، فليقتله، فقال: لا، ولكن أَذِّن بالرحيل، فراح في ساعة ما كان يرحل فيها، فلقيه أُسيد بن حُضير، فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال: فأنت يا رسول الله الأعزّ، وهو الأذلّ، قال: وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبيّ ما كان من أمْر أبيه فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلًا، فمُرْني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فقال: بل ترفق به، وتُحْسِن صحبته، قال: فكان بعد ذلك إذا أحدث الحدَثَ كان قومه هم الذين يُنكرون عليه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمر: كيف ترى؟ "، ووقع في مرسل عكرمة، عند الطبريّ:"أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله، قال: لا تقتل أباك"
(2)
.
وأخرج الطبريّ في "تفسيره" عن عكرمة، أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول، كان يقال له: حُباب، فسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد الله، فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تقتل أباك عبد الله"، ثم جاء أيضًا، فقال: يا رسول الله إن والدي يؤذي الله ورسوله، فذرني حتى أقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل
(1)
"تفسير الطبريّ" 28/ 112.
(2)
"الفتح" 10/ 708، كتاب "التفسير" رقم (4905).
أباك"، فقال: يا رسول الله فتَوَضَّأْ حتى أسقيه من وضوئك، لعل قلبه أن يلين، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه، فذهب به إلى أبيه، فسقاه، ثم قال له: هل تدري ما سقيتك؟ فقال له والده: نعم سقيتني بول أمك، فقال له ابنه: لا والله، ولكن سقيتك وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عكرمة: وكان عبد الله بن أبيّ عظيم الشأن فيهم
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6559 و 6560 و 6561](2584)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3518) و"التفسير"(4905 و 4907)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3315)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 271 و 6/ 143 و 243 و 492)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9/ 468)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1708)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1239)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 338)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1957 و 1959)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5990 و 6548)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(28/ 112 و 113)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 32) و"دلائل النبوّة"(4/ 53 - 54)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): النهي عن عادات الجاهليّة وتقاليدها، قولًا، أو فعلًا، فالإسلام جاء لإبعاد الناس عن ذلك، وهدايتهم إلى ما هو الصواب والحقّ لهم.
2 -
(ومنها): أنه لا بأس بقول: يا لَفلان إذا لم يكن القصد إثارة الفتنة، وإشعال نار العصبيّة، قال في "الفتح": ويستفاد من قوله: "لا بأس" جواز القول المذكور بالقصد المذكور، والتفصيل المبَيَّن، لا على ما كانوا عليه في
(1)
"تفسير الطبريّ" 28/ 113.
الجاهلية، من نصرة من يكون من القبيلة مطلقًا، سواء كان ظالِمًا أو مظلومًا.
3 -
(ومنها): وجوب نصر المسلم في حالتيه، ظالِمًا، أو مظلومًا، أما مظلومًا فظاهر بأن يُدفع عنه الظلم، وأما ظالِمًا، فبنهيه عن الظلم، والأخذ على يديه.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه المنافقون من بذاءة اللسان، والجراءة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه رضي الله عنهم.
5 -
(ومنها): ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه من شدّة الحِلم والصبر على ما يناله من أذيّة المنافقين.
6 -
(ومنها): أنه يستفاد من ترْك النبيّ صلى الله عليه وسلم قَتْل عبد الله بن أُبيّ، وإن كان يستحقّ القتل؛ لئلا يتحدّث الناس أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه أن للإمام أن يترك بعض من يستحقّ القتل لمصلحةٍ مّا إذا كانت المصلحة راجحة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يتحدّث الناس. . . إلخ" فيه دليل على أن المنافقين الذين عُلم نفاقهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مستحقين للقتل، لكن امتنع النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لئلا يكون قَتْلهم منفرًا لغيرهم عن الدخول في الإسلام؛ لأنَّ العرب كانوا أهل أَنَفَةٍ وكِبْر بحيث لو قَتَل النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء المنافقين لنَفَر من بَعُد عنهم، فيمتنع من الدخول في الدين، وقالوا: هو يقتل أصحابه، ولَغَضِب من قَرُب من هؤلاء المنافقين، فتهيج الحروب، وتكثر الفتن، ويُمْتَنَع من الدخول في الدين، وهو نقيض المقصود، فعفا النبيّ صلى الله عليه وسلم عنهم، ورَفَقَ بهم، وصبر على جفائهم، وأذاهم، وأحسن إليهم، حتى انشرح صدر من أراد الله هدايته، فرَسَخ في قلبه الإيمان، وتبيّن له الحقّ اليقين، وهَلَك عن بيّنة من أراد الله هلاكه، وكان من الخاسرين، ثم أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم مستصحبًا لذلك إلى أن توفّاه الله تعالى، فذهب النفاق وحكمه؛ لأنَّه ارتفع مسمَّاه، واسمه، ولذلك قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة عندنا اليوم، ويظهر من مذهبه أن ذلك الحكم منسوخ بقوله تعالى:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله تعالى: {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60، 61]، وبقوله تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} الآية [التوبة: 73]، فقد سوَّى بينهما في الأمر بالجهاد، وجهاد الكفار: قتالهم وقَتْلهم، فليكن جهاد
المنافقين كذلك، وفي الآيتين مباحث ليس هذا موضعها، وقد ذهب غير واحد من أئمتنا إلى أن المنافقين يُعفَى عنهم ما لم يُظهروا نفاقهم، فإن أظهروه قُتلوا، وهذا أيضًا يخالف ما جرى في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ منهم من أظهر نفاقه، واشتهر عنه حتى عُرف به، والله أعلم بنفاقه، ومع ذلك لم يُقتلوا؛ لِمَا ذكرناه، والله تعالى أعلم.
قال: وقد وضح من هذا الحديث إبطال قول من قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين؛ لأنَّه لم تقم بيّنة معتبَرة بنفاقهم؛ إذ قد نُصّ فيه على المانع من ذلك، وهو غير ما قالوه، وفيه ما يدلّ على أن أهون الشرّين يجوز العمل على مقتضاه، إذا اندفع به الشرّ الأعظم، وفيه دليل على القول بصحة سدّ الذرائع، وعلى تعليل نفي الأحكام في بعض الصور بمناسب لذلك النفي
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله
(2)
: في الحديث تَرْك تغيير المنكر إذا خاف أن يؤدّي إلى مفسدة أشدّ، واختُلف هل بقي جواز قتل المنافقين، والإغضاء عنهم، أو نُسخ بقوله تعالى:{جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} ؟ ومال غير واحد من أئمتنا - يعني: المالكيّة - وغيرهم إلى أنه إنما يجوز العفو عنهم ما لم يُظهروا نفاقهم، فإن أظهروه قُتلوا، واحتَجَّ بقوله تعالى:{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} الآية [الأحزاب: 60]، وهو يدلّ على أن المنافقين في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يستحقّون القتل لولا المانع المذكور، ولِمَا يُتّقى في قَتْلهم من غضب عشائرهم، فتثور الفتنة، ويُمْتَنَعُ من الدخول في الدين، وهو خلاف المقصود، والحديث يردّ على من يقول: إنما لم يقتلهم النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم تقُم بيّنة على نفاقهم؛ لأنه نصّ في هذا الحديث على المانع، وفيه القول بسدّ الذرائع، وارتكاب أخفّ الضررين، ومن قال من الأئمّة: إنهم إذا أظهروا النفاق يُقتلون يُرَدّ عليه أنه في عهده صلى الله عليه وسلم منهم من أظهر النفاق؛ كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، قالوا:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} ، واشتهر به، ومع ذلك لم يُقتل هو، ولا أصحابه، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 561 - 563.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 32 - 33.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6561]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ الْقَوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَمْرٌو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، أبو يعقوب المروزي، ثقة ثبت [11] تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّختيانيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"عبد الرزّاق" هو: ابن همّام الصنعانيّ.
وقوله: (فَسَأَلَهُ الْقَوَدَ)؛ أي: طلب الرجل الأنصاريّ المضروب أن يُقيده، و"القوَد" بفتحتين: القِصاص.
وقوله: ("دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ") الظاهر أن الضمير راجع إلى مسألة القود، وقال الأبيّ: راجع إلى دعوى الجاهليّة، قال: ولا يعارض قوله في الطريق الأول: "فلا بأس"؛ لأنه يجاب بأن معنى "لا بأس"؛ أي: مما يُخاف أن يقع من فتنة، أو فساد، والدعوى لم تزل منكرةً، أو أن قوله:"منتنة" راجعًا إلى القود. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "دعوها، فإنها منتنة"؛ أي: دعوى الجاهلية، وأبعدَ من قال: المراد: الكَسْعة، ومُنتنة بضمّ الميم، وسكون النون، وكسر المثناة، من النتن؛ أي: إنها كلمة قبيحة، خبيثةٌ، وكذا ثبتت في بعض الروايات. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 32.
(2)
"الفتح" 10/ 709.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: نَتُنَ الشّيءُ بالضّم نُتُونَةً، ونَتَانَةً، فهو نَتِينٌ، مثلُ قَرِيب، ونَتَنَ نَتْنًا، من باب ضَرَب، ونَتِنَ يَنْتَنُ، فهو نَتِنٌ، من باب تَعِبَ، وأَنْتَنَ إِنْتَانًا، فهو مُنْتِنٌ، وقد تُكسر الميم للإتباع، فيقال: مِنْتِنٌ، وضمّ التاء إتباعًا للميم قليلٌ. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ) هو إسحاق شيخه الثاني، (فِي رِوَايَتِهِ: عَمْرٌو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا) بيّن به أن إسحاق بن منصور قال في روايته: "عمرو" هو ابن دينار، فعمرو مبتدأ، خبره قوله:"قال: سمعت جابرًا"؛ يعني: أنه صرّح بسماع عمرو من جابر، وأما إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن رافع فعنعنا، وقالا: عن عمرو، عن جابر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية معمر، عن عمرو بن دينار ساقها عبد الرزّاق في "مصنّفه" مقرونًا بابن عيينة، فقال:
(18041)
- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، وابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا للأنصار، وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما بال دعوى الجاهلية"، فأخبروه بالذي كان، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوها، فإنها منتنة"، قال: وكان المهاجرون لَمّا قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقلّ من الأنصار، ثم إن المهاجرين كَثُروا بعدُ، فسمع بذلك عبد الله بن أُبَيّ، قال:"قد فعلوها؟ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذلّ". انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": قوله: "ثم إن المهاجرين كَثُروا بعدُ" هذا مما يؤيِّد تقدّم القصة، ويوضح وَهْمَ من قال: إنها كانت بتبوك؛ لأن المهاجرين حينئذ كانوا كثيرًا جدًّا، وقد انضافت إليهم مُسْلِمة الفتح في غزوة تبوك، فكانوا حينئذ أكثر من الأنصار، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 592.
(2)
"مصنَّف عبد الرزاق" 9/ 468.
(3)
"الفتح" 10/ 709.
(17) - (بَابُ تَرَاحُمِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَعَاطُفِهِمْ، وَتَعَاضُدِهِمْ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6562]
(2585) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، وَابْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُردة بن أبي موسى الأشعريّ، الكوفيّ، صدوقٌ [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
[تنبيه]: كون أبي عامر الأشعري هو عبد الله بن برّاد هو الصواب، وهو الذي نصّ عليه الحافظ المزّيّ في "الأطراف"
(1)
، وقد كتب بعض الشّرّاح
(2)
هنا، ترجمة عبد الملك بن عمرو القيسيّ العقديّ، وهو غلط؛ لأمور:
أحدها: أن عبد الملك لا يروي عنه مسلم إلا بواسطة؛ لأنه مات سنة (204 هـ) قبل ولادة مسلم بسنتين على الصحيح في ميلاده.
والثاني: أنه لا يقال لعبد الملك: أبو عامر الأشعريّ، وإنما يقال له: أبو عامر العقديّ، وقد نصّ مسلم هنا بأنه أبو عامر الأشعريّ.
والثالث: أن الحافظ أبا الحجّاج المزّيّ رحمه الله نصّ في "تحفته" بأنه عبد الله بن برّاد، راجع:"تحفة الأشراف"(6/ 437).
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأوديّ، بسكون الواو، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 437.
(2)
هو: الشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 24/ 363 - 364.
3 -
(ابْنُ الْمُبَارَكِ) عبد الله بن المبارك المروزيّ، مولى بني حنظلة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، إلا ابن المبارك، فمروزيّ، وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ بُرَيْدٍ) بصيغة تصغير، ابن عبد الله، وكنيته أبو بردة؛ كجدّه، (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) اسمه كنيته، وقيل: عامر، وقيل: الحارث، وفي رواية البخاريّ من طريق الثوريّ:"عن أبي بردة بُريد بن أبي بُردة، قال: أخبرني جدّي أبو بُردة عن أبيه" وفي رواية النسائيّ، من طريق يحيى القطّان:"حدّثنا سفيان، حدّثني أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة"، فذكره. (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ) اللام فيه للجنس، والمراد: بعض المؤمنين للبعض كالبنيان؛ أي: الحائط لا يتقوى في أمر دِينه ودنياه إلا بمعونة أخيه، كما أن بعض البنيان يَقْوَى ببعضه.
وقال القاري رحمه الله: "المؤمن للمؤمن" التعريف للجنس، والمراد: بعض المؤمن للبعض، ذَكَره الطيبيّ، ويمكن أن يكون للاستغراق؛ أي: كلّ مؤمن لكل مؤمن، والأظهر أنه للعهد الذهنيّ في الأول، وللجنس في الثاني؛ أي: المؤمن الكامل لمطلق المؤمن كالبنيان؛ أي: البيت المبنيّ يشدّ بعضه؛ أي: بعض البنيان بعضًا، والجملة حال، أو صفة، أو استئنافٌ، بيانٌ لوجه الشَّبَه، وهو الأظهر، ثم لا شك أن القويّ هو الذي يشدّ الضعيف، ويقوّيه، وحاصل معناه: أن المؤمن لا يتقوى في أمر دينه، أو دنياه، إلا بمعونة أخيه، كما أن بعض البناء يُقَوِّي بعضه بعضًا. انتهى
(1)
.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 235.
وقوله: (يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) بيان لوجه التشبيه، وقال الكرمانيّ: نصب "بعضًا" بنزع الخافض، وقال غيره: بل هو مفعول "يشُدّ" قال الحافظ: ولكلٍّ وجه.
وقال ابن بطال: والمعاونة في أمور الآخرة، وكذا في الأمور المباحة من الدنيا مندوب إليها، وقد ثبت حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "المؤمن للمؤمن كالبنيان. . . إلخ" تمثيل يفيد الحضّ على معونة المؤمن للمؤمن، ونُصرته، وأن ذلك أمرٌ متأكد، لا بُدّ منه، فإنَّ البناء لا يتمّ أمره، ولا تحصل فائدته، إلا بأن يكون بعضه يُمسك بعضًا، ويقوّيه، فإن لم يكن كذلك انحلّت أجزاؤه، وخَرِب بناؤه، وكذلك المؤمن لا يستقلّ بأمور دنياه ودينه، إلا بمعونة أخيه، ومعاضدته، ومناصرته، فإن لم يكن ذلك عجز عن القيام بكل مصالحه، وعن مقاومة مضادّه، فحينئذ لا يتم له نظام دنيا، ولا دين، ويلتحق بالهالكين. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ: "ثم شَبّك بين أصابعه"، قال في "الفتح": هو بيان لوجه التشبيه أيضًا؛ أي: يشدّ بعضهم بعضًا مثل هذا الشدّ، ويستفاد منه أن الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يُمَثِّلها بحركاته؛ ليكون أوقع في نفس السامع. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "ثم شبك بين أصابعه"؛ أي: يشدّ بعضهم بعضًا مثل هذا الشدّ، فوقع التشبيك تشبيهًا لِتعاضد المؤمنين بعضهم ببعض، كما أن البنيان المُمْسك بعضه ببعض يشدّ بعضه بعضًا، وذلك لأن أقواهم لهم ركن، وضعيفهم مستنِد لذلك الركن القويّ، فإذا والاه قَوِي. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 565.
(2)
"الفتح" 13/ 573 - 574، كتاب "الأدب" رقم (6026).
(3)
"فيض القدير" 6/ 252.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6562](2585)، و (البخاريّ) في "المساجد"(481) و"المظالم"(2446) و"الأدب"(6026)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1928)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5/ 79) وفي "الكبرى"(2/ 41)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 118)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(503)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 163 و 7/ 89)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 404 و 405)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 160)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 196)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 340)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(231)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 279 و 307)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 301)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(5/ 929)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(135 و 134 و 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 94) و"شُعَب الإيمان"(6/ 103)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وصف المؤمنين في التراحم بينهم، والتعاون على البرّ والتقوى، فقد جعلهم كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، قال الله عز وجل في وصف الصحابة رضي الله عنهم:{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال أيضًا:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
2 -
(ومنها): أن فيه تفضيلَ الاجتماع على الانفراد، ومدح الاتّصال على الانفصال، فإن البنيان إذا تفاصل بطل، وإذا اتَّصَل بعضه ببعض ثبت الانتفاع به بكل ما يراد منه.
[فائدة]: قال الراغب رحمه الله: إنه لمّا صَعُب على كل أحد أن يُحَصِّل لنفسه أدنى ما يحتاج إليه إلا بمعاونة عِدّة له، فلقمة طعام لو عَدَدْنا تَعَب تحصيلها، من زَرْع، وطَحْن، وخَبْز، وصِناع آلاتها لَصَعب حصره، فلذلك قيل: الإنسان
مدنيّ بالطبع، ولا يمكنه التفرد عن الجماعة بعيشه، بل يفتقر بعضهم لبعض في مصالح الدارَين، وعلى ذلك نبّه هذا الحديث. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن هذا الحديث، والحديث الآتي:"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم. . ." إلى آخره، وغيرها من الأحاديث صريحة في تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثّهم على التراحم، والملاطفة، والتعاضد في غير إثم، ولا مكروه
(2)
.
4 -
(ومنها): أن فيه جواز التشبيه، وضرب الأمثال؛ لتقريب المعاني إلى الأفهام.
5 -
(ومنها): أن فيه جوازَ تشبيك الأصابع، سواء في المسجد، أو غيره؛ لإطلاق الحديث، ولكن العلماء اختلفوا في تشبيك الأصابع في المسجد، وفي الصلاة، وكَرِه إبراهيم ذلك في الصلاة، وهو قول مالك، ورَخَّص في ذلك ابنُ عمر، وابنه سالم، فكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ذكره ابن أبي شيبة، وكان الحسن البصريّ يشبك بين أصابعه في المسجد، وقال مالك: إنهم لَيُنكرون تشبيك الأصابع في المسجد، وما به بأس، ذكره في "العمدة"
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6563]
(2586) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 6/ 252.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 139 - 140.
(3)
"عمدة القاري" 4/ 261.
حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
3 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فَيْروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يدلِّس، [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
4 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
5 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ) بن سعد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مدنيّ، سكن الشامٍ، ثم ولي إِمْرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 97/ 522.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنِ الشَّعْبِيِّ) وفي رواية البخاريّ: "حدّثنا زكريّاء، عن عامر، قال: سمعته يقول: سمعت النعمان بن بشير يقول"، فصرّح زكريّاء بالسماع عن الشعبيّ، فزالت عنه تهمة التدليس، فإنه مدلّس، كما مرّ في ترجمته آنفًا. (عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن أبي جمرة: المراد: من يكون إيمانه كاملًا
(1)
. (فِي تَوَادِّهِمْ) ولفظ البخاريّ: "ترى المؤمنين في تراحمهم، وتوادّهم"، و"التوادّ" بتشديد الدّال، أصله: التوادُدُ، فأُدغم الدال في الدال، وهو تفاعل، من المودّة، والوُدّ، والوداد بمعنى، وهو تقرّب شخص من آخر بما يحب
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "في توادّهم" هكذا صحيح الرواية: "في
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 158.
(2)
"الفتح" 13/ 555، كتاب "الأدب" رقم (6011).
توادّهم"، ومعناه واضح، وقد وقع في رواية: "توادّهم" بغير "في"، ويصحّ ذلك، ويكون مخفوضًا على أنه بدل اشتمال من "المؤمنين"، والتوادّ مصدر توادَد يتوادد توادُدًا، وتوادًّا إذا أَدْغَمتَ، ومقصود هذا التمثيلِ: الحضّ على ما يتعيّن من محبة المؤمن، ونصيحته، والتهمُّم بأمره. انتهى
(1)
.
(وَتَرَاحُمِهِمْ)؛ أي: رحمة بعضهم بعضًا، (وَتَعَاطُفِهِمْ) قال ابن أبي جمرة رحمه الله: الذي يظهر أن التراحم، والتوادّ، والتعاطف، وإن كانت متقاربة في المعنى، لكنْ بينها فرقٌ لطيفٌ، فأما التراحم فالمراد به: أن يرحم بعضهم بعضًا بأُخُوّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأما التوادّ فالمراد به: التواصل الجالب للمحبة؛ كالتزاور، والتهادي، وأما التعاطف فالمراد به: إعانة بعضهم بعضًا، كما يعطف الثوب عليه؛ ليقوّيه. انتهى ملخّصًا
(2)
.
(مَثَلُ الْجَسَدِ)؛ أي: بالنسبة إلى جميع أعضائه، ووجه التشبيه فيه: التوافق في التَّعَب والراحة، (إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ)؛ أي: الجسد، (عُضْوٌ) بالرفع على الفاعليّة، ويُروى "عضوًا" بالنصب، على التمييز، كما قال القاري رحمه الله
(3)
. (تَدَاعَى لَهُ)؛ أي: لذلك العضو؛ أي: دعا بعضه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت، أو كادت، قال الطيبيّ رحمه الله: ووجه التشبيه فيه: هو التوافق في المشقّة، والراحة، والنفع، والضرّ. انتهى
(4)
.
(سَائِرُ الْجَسَدِ)؛ أي: باقي أعضائه، (بِالسَّهَرِ) بفتحتين: عدم الرُّقاد، (وَالْحُمَّى") قال القاري رحمه الله؛ أي: بالحرارة، والتكسر، والضعف؛ ليتوافق الكلّ في العسر، كما كانوا في حال الصحة متوافقين في اليسر، ثم أصل التداعي أن يدعو بعضهم بعضًا؛ ليتفقوا على فعل شيء، فالمعنى أنه كما أن عند تألّم بعض أعضاء الجسد يسري ذلك إلى كله، كذلك المؤمنون كنفس واحدة، إذا أصاب واحدًا منهم مصيبة، ينبغي أن يغتمّ جميعهم، ويهتمّوا بإزالتها عنه. انتهى
(5)
.
(1)
"المفهم" 6/ 565.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 158.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 685.
(4)
"الكاشف" عن حقائق السنن" 10/ 3176.
(5)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 235.
وقال في "الفتح": قوله: "بالسهر، والْحُمَّى": أما السهر فلأن الألم يمنع النوم، وأما الْحُمّى، فلأن فَقْد النوم يُثيرها، وقد عَرَّف أهل الْحِذْق الْحُمّى بأنها حرارة غريزيّة تشتعل في القلب، فتَشُبّ منه في جميع البدن، فتشتعل اشتعالًا يضرّ بالأفعال الطبيعية
(1)
.
قال القاضي عياض رحمه الله: فتشبيهه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيل صحيحٌ، وفيه تقريب للفهم، وإظهار للمعاني في الصور المرئية، وفيه تعظيم حقوق المسلمين، والحضّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا. انتهى
(2)
.
وقال ابن أبي جمرة: شبَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بالجسد، وأهله بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصلٌ، وفروعه التكاليف، فإذا أَخَلّ المرء بشيء من التكاليف شَانَ ذلك الإخلالُ الأصلَ، وكذلك الجسد أصلٌ كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضوٌ من الأعضاء، اشتكت الأعضاء كلُّها كالشجرة، إذا ضُرِب غصنٌ من أغصانها اهتزّت الأغصان كلّها بالتحرك والاضطراب. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [17/ 6563 و 6564 و 6565 و 6566 و 6567](2586)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6011)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 9) وفي "الزهد"(1/ 252)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 268 و 270 و 271 و 274 و 276)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 89)، و (الحميديّ) في "مسنده"(919)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(790)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(233 و 297)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 455 و 456)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1366 و 1368)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 353) و"شُعب
(1)
"الفتح" 13/ 556، كتاب "الأدب" رقم (6011).
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 57.
(3)
"بهجة النفوس" 4/ 158.
الإيمان" (6/ 102 و 481)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3459 و 3460)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق" (22/ 168)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال المناويّ رحمه الله: أفاد هذا الحديث تعظيم حقوق المسلمين بعضهم على بعض، وحثّهم على التراحم، والتعاضد في غير إثم، ولا مكروه، ونُصرتهم، والذبّ عنهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم، وغير ذلك، وفيه مراعاة حقّ الأصحاب، والخدم، والجيران، والرفقاء في السفر، وكل ما تعلق بهم بسبب، حتى الهرة، والدجاجة، ذكره الزمخشريّ.
وقال ابن العربيّ: ومع هذا التمثيل، فأنْزِل كل أحد منزلته، كما تُعامِل كل عضو منك بما يليق به، وما خُلق له، فتغضّ بصرك عن أمر لا يعطيه السمع، وتفتح سمعك لشيء لا يعطيه البصر، وتَصْرِف يدك في أمر لا يكون لرجلك، وكذا جميع قُوَاك، فنزِّل كل عضو منك فيما خُلق له، وإذا ساويت بين المسلمين، فأعطِ العالِمَ حقّه من التعظيم، والإصغاء لِمَا يأتي به، والجاهل حقّه، من تذكيره، وتنبيهه على طلب العلم، والسعادة، والغافل حقّه، بأن توقظه من نوم غفلته بالتذكر لِمَا غفل عنه، مما هو عالم له غير مُستعمِل لعلمه فيه، والسلطان حقّه، من السمع والطاعة، فيما يباح، والصغير حقّه، من الرفق به، والرحمة، والشفقة، والكبير حقّه من التشريف، والتوقير. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6564]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد بن قُرط الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مُطَرِّفُ) - بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة - ابن
(1)
"فيض القدير" 6/ 259.
طَرِيف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، وإسحاق هو: ابن راهويه.
[تنبيه]: رواية مطرّف بن طريف عن الشعبيّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6565]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قريبًا.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل بابين.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) بفتح الراء، وضمّ الجيم: خلاف الأنثى.
وقوله: (إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ) بالرفع على الفاعليّة؛ أي: إن مرِض رأسه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6566]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ، إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حُميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسيّ، أبو عوف الكوفيّ، ثقة [8]، (ت 189) وقيل:(190) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الصلاة" 20/ 934.
2 -
(خَيْثَمَةُ) بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة الجعفيّ الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يرسل [3] مات بعد سنة ثمانين (ع) تقدم في "الزكاة" 12/ 2312.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث سبق القول فيه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6567]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وهم المذكورون قبله، والله تعالى أعلم.
(18) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ السِّبَابِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6568]
(2587) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل بابين، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُسْتَبَّانِ) بتشديد الموحّدة: تثنية اسم الفاعل، من باب الافتعال؛ أي: المتشاتمان، وهما اللذان سبّ كل منهما الآخرَ، لكن الآخر أراد ردّ الآخر، أو قال شيئًا من معائبه
الموجودة فيه، وهو مبتدأ أولُ، وقوله:(مَا قَالَا)؛ أي: إثم قولهما من السبّ والشتم، مبتدأ ثانٍ، وقوله:(فَعَلَى الْبَادِئِ) بالهمز؛ أي: على المبتدئ، خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، والفاء إما لكون "ما" شرطية، أو لأنها موصولة متضمنة للشرط
(1)
، وإنما كان الإثم كله عليه؛ لأنه كان سببًا لتلك المخاصمة، قال في "اللمعات": أما إثم ما قاله البادئ فظاهر، وأما إثم الآخَر؛ فلكونه الذي حمله على السبّ، وظلمه. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "المستبَّان ما قالا، فعلى البادئ. . . إلخ""المستبّان": تثنية مستبّ، من السبّ، وهو الشتم والذمّ، وهو مرفوع بالابتداء، و"ما" موصولة، وهي في موضع رَفْع بالابتداء أيضًا، وَصِلتها "قالا"، والعائد محذوف تقديره: قالاه، وقوله:"فعلى البادئ" خبر "ما"، ودخلت الفاء على الخبر؛ لِمَا تضمّنه الاسم الموصول من معنى الشرط، نحو قوله تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} الآية [النحل: 53]، و"ما" وخبرها خبر المبتدأ الأول الذي هو "المستبّان". انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ: يجوز أن تكون "ما" شرطية، وقوله:"فعلى البادئ" جزاؤها، أو موصولة "فعلى البادئ" خبرها، والجملة سببيّة، ومعناه: إثم ما قالاه على البادئ، إذا لم يَعْتَدِ المظلوم، فإذا تعدّى يكون عليهما، إلا إذا تجاوز غاية الحدّ، فيكون إثم القولين عليه. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فيكون إثم القولين عليه" فيه نظر لا يخفى؛ لأن الذي يقتضيه السياق أن عليه إثم ما تجاوز به، لا إثم القولين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: (مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ")"ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّة عدم اعتداء المظلوم على البادئ بمجاوزته الحدّ، بأن سبّه أكثر، أو أفحش منه، فإذا اعتدى كان إثم ما اعتدى عليه، والباقي على البادئ. كذا في "اللمعات".
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 98.
(2)
"عون المعبود" 13/ 162.
(3)
"المفهم" 6/ 566.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3114.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه أن إثم السباب الواقع من اثنين مختصّ بالبادئ منهما كلّه، إلا أن يتجاوز الثاني قدر الانتصار، فيقول للبادئ أكثر مما قال له. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "المستبّان"؛ أي: الذي يسبّ كل منهما الآخر، "ما قالا"؛ أي: إثم ما قالاه من السبّ والشتم، "فعلى البادئ منهما"؛ لأنه السبب لتلك المخاصمة، فللمسبوب أن ينتصر، ويسبّه بما ليس بقذف، ولا كذب، كيا ظالم، ولا يأثم، {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41]، والعفو أفضل.
[فإن قيل]: إذا لم يسكت المسبوب، ويرى البادئ من ظلمه بوقوع التقاصّ، فكيف صح أن يقدّر فيه إثم ما قالا؟.
[قلنا]: إضافته بمعنى "في"، والمعنى: الإثم الكائن فيما قالاه، وإثم الابتداء على البادئ، ويستمرّ هذا الحكم حتى يتعدى المظلوم؛ أي: يتعدى الحدّ في السب، فلا يكون الإثم على البادئ فقط، بل عليهما، وقيل: المراد أنه يحصل إثم ما قالا، وللبادئ أكثر من المظلوم، ما لم يَتَعَدَّ، فيربو إثم المظلوم، وقيل: المعنى: أنه إذا سبّه، فردَّ عليه كان كَفَافًا، فإن زاد بالغضب، والتعصب لنفسه، كان ظالِمًا، وكان كل منهما فاسقًا. انتهى
(2)
.
والحاصل أنه إذا سبّ كل واحد الآخر، فإثم ما قالا على الذي بدأ في السبّ، وهذا إذا لم يتعدّ ويتجاوز المظلوم الحدّ، وإلا فعليه إثم ما جاوز به.
[تنبيه]: أخرج ابن حبّان في "صحيحه" عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله الرجل يشتمني من قومي، وهو دوني، أعليَّ من بأس أن أنتصر منه؟ قال:"المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان"
(3)
.
قال أبو حاتم: أطلق صلى الله عليه وسلم اسم الشيطان على المستبّ على سبيل المجاورة؛ إذ الشيطان دلّه على ذلك الفعل، حتى تهاتر، وتكاذب، لا أن المستبّين يكونان شيطانين. انتهى
(4)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 140 - 141.
(2)
"فيض القدير" 6/ 267.
(3)
حديث صحيح.
(4)
"صحيح ابن حبان" 13/ 35.
وقال ابن الأثير رحمه الله: معنى "المستبّان شيطانان، يتهاتران، ويتكاذبان"؛ أي: يتقاولان، ويتقابحان في القول، من الْهِتْر بالكسر
(1)
، وهو الباطل، والسَّقَط من الكلام، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه: اللَّهُمَّ إني أعوذ بك أن أكون من المستهترين. يقال: استهتر فلان، فهو مستهتر: إذا كان كثير الأباطيل، والْهِتر: الباطل، قال ابن الأثير؛ أي: المُبْطلين في القول، والمسقطين في الكلام، وقيل: الذين لا يبالون ما قيل لهم، وما شتموا به، وقيل: أراد: المستهترين بالدنيا. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6568](2587)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(423)، و (أبو داود) في "الأدب"(4894)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1981)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 488 و 517)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 366 و 398)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5728 و 5729)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 235) و"شُعب الإيمان"(5/ 283)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3553)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الزجر عن التسابّ؛ لأن واجب المسلم تجاه أخيه المسلم نَصْره، واحترامه، وتعظيمه، لا خُذلانه، واحتقاره، وإيذاؤه، فقال صلى الله عليه وسلم:"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذُله، ولا يحقره".
2 -
(ومنها): بيان جواز الانتصار، قال النوويّ رحمه الله: ولا خلاف في جوازه، وقد تظاهرت عليه دلائل الكتاب والسُّنَّة، قال الله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ
(1)
قال في "القاموس المحيط" 1/ 637: الهَتْرُ - أي: بفتح، فسكون -: مَزْقُ العِرْضِ، وهَتَرَهُ يَهْتِرُهُ وهَتَّرَهُ، وبالكسر: الكذِبُ، والدَّاهِيَةُ، والأمْرُ العَجَبُ، والسَّقَطُ من الكلامِ، والخَطأُ فيه. انتهى.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 242، و"لسان العرب" 5/ 250.
بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39]، ومع هذا فالصبر، والعفو أفضل، قال الله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]، وللحديث المذكور بعد هذا:"ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا".
3 -
(ومنها): أن سباب المسلم بغير حقّ حرام، كما قال صلى الله عليه وسلم:"سِباب المسلم فسوق".
4 -
(ومنها): بيان أنه لا يجوز للمسبوب أن ينتصر إلا بمثل ما سبّه، ما لم يكن كذبًا، أو قذفًا، أو سبًّا لأسلافه، فمِن صُوَر المباح أن ينتصر بيا ظالم، يا أحمق، أو يا جافي، أو نحو ذلك؛ لأنه لا يكاد أحد ينفك من هذه الأوصاف، قال العلماء: إذا انتصر المسبوب استوفى ظُلامته، وبرئ الأول من حقّه، وبقي عليه إثم الابتداء، أو الإثم المستحقّ لله تعالى، وقيل: يرتفع عنه جميع الإثم بالانتصار منه، ويكون معنى "على البادئ"؛ أي: عليه اللوم، والذمّ، لا الإثم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى الحديث: أن المبتدئ بالسبّ هو المختصّ بإثم السبّ؛ لأنَّه ظالم به؛ إذ هو مبتدئ من غير سبّ، ولا استحقاق، والثاني منتصر فلا إثم عليه، ولا جناح، لقوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41]، لكن السبّ المنتصَر به وإن كان مباحًا للمنتصِر، فعليه إثم من حيث هو سبّ، لكنه عائد إلى الجاني الأول؛ لأنَّه هو الذي أحْوَج المنتصر إليه، وتسبّب فيه، فيرجع إثمه عليه، ويَسْلَم المنتصر من الإثم؛ لأنَّ الشرع قد رَفَع عنه الإثم، والمؤاخذة، لكن ما لم يكن من المنتصِر عدوان إلى ما لا يجوز له، كما قال:"ما لم يَعْتَدِ المظلوم"؛ أي: ما لم يجاوز ما سبّ به إلى غيره، إما بزيادة سبّ آخر، أو بتكرار مثل ذلك السبّ، وذلك أن المباح في الانتصار أن يردّ مثل ما قال الجاني، أو يقاربه؛ لأنَّه قصاص، فلو قال له: يا كلب مثلًا فالانتصار أن يردّ عليه بقوله: بل هو الكلب، فلو كرّر هذا اللفظ مرتين، أو ثلاثًا لكان متعديًا بالزائد على الواحدة، فله الأُولى،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 141.
وعليه إثم الثانية، وكذلك لو ردّ عليه بأفحش من الأُولى، فيقول له: خنزير مثلًا كان كل واحد منهما مأثومًا؛ لأنَّ كلًّا منهما جانٍ على الآخر، وهذا كلّه مقتضى قوله تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية [البقرة: 194]، وقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآية [الشورى: 40].
قال: وكلُّ ما ذكرناه من جواز الانتصار، إنما هو فيما إذا لم يكن القول كذبًا، أو بهتانًا، وإلا فلا يجوز أن يتكلّم بذلك، لا ابتداءً، ولا قصاصًا، وكذلك لو كان قَذْفًا، فلو ردّه كان كلّ واحد منهما قاذفًا للآخَر، وكذلك لو سبّ المبتدئ أبا المسبوب، أو جدّه لم يَجُز له أن يردّ ذلك؛ لأنَّه سبٌّ لمن لم يَجْنِ عليه، فيكون الردّ عدوانًا، لا قصاصًا.
قال بعض علمائنا: إنما يجوز الانتصار فيما إذا كان السبّ مما يجوز سبّ المرء به عند التأديب؛ كالأحمق، والجاهل، والظالم؛ لأنَّ أحدًا لا ينفكّ عن بعض هذه الصفات، إلا الأنبياء، والأولياء، فهذا إذا كافاه بسبّه، فلا حرج عليه، ولا إثم، وبقي الإثم على الأول بابتدائه، وتعرّضه لذلك.
قال الجامع عفا الله عنه: تخصيص هؤلاء السبّ بهذا النوع الذي ذكروه محلّ نظر؛ إذ النصّ عامّ، فلا ينبغي تخصيصه إلا بدليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ظاهر قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)} [الشورى: 41] أن الانتصار مباح، وعلى ذلك يدلّ الحديث المذكور، لكنّ قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)} [الشورى: 39] مَدْح من الله تعالى للمنتصِر، والمباح لا يُمدح عليه، فاختَلَف العلماء في ذلك، فقال السّدّيّ: إنما مَدَح الله من انتصر ممن بَغَى عليه من غير زيادة على مقدار ما فَعَل به؛ يعني: أنه إنما مُدِح من حيث أنه اتقى الله في انتصاره؛ إذ أوقعه على الوجه المشروع، ولم يفعل ما كانت الجاهلية تفعل، من الزيادة على الجناية.
وقال غيره: إنما مَدَح الله من انتصر من الظالم الباغي الْمُعْلِن بظلمه الذي يعمّ ضرره، فالانتقام منه أفضل، والانتصار عليه أَولى، قال معناه إبراهيم النّخعيّ، ولا خفاء في أن العفو عن الجناة، وإسقاط المطالبة عنهم بالحقوق
مندوب إليه، مُرَغَّب فيه على الجملة، لقوله تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى: 43]، ولقوله:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} الآية [الشورى: 40]، وقوله:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وقوله:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} الآية [البقرة: 237]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا"
(1)
، وقوله:"تعفو عمن ظلمك، وتعطي مَن حَرَمك، وتَصِل من قطعك"
(2)
، ونحوه كثير. انتهى، والله تعالى أعلم
(3)
.
(19) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الْعَفْوِ، وَالتَّوَاضُعِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6569]
(2588) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبله، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا) نافية، (نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ)"من" زائدة، أو تبعيضية، أو بيانية؛ أي: ما نقصت صدقة مالًا، أو بعضَ مال، أو شيئًا من مال، بل تزيد أضعاف ما يُعطَى منه، بأن ينجبر بالبركة
(1)
رواه مسلم برقم (2588).
(2)
رواه البزّار، وقال الهيثميّ: وفيه سليمان بن داود اليماميّ: متروك. انتهى. "مجمع الزوائد" 8/ 154.
(3)
"المفهم" 6/ 568.
الخفيّة، أو بالعطيّة الجليّة، أو بالمثوبة العليّة
(1)
.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: معناه: لا تُنقص الصدقة المال؛ لأنه مال مباركٌ فيه، إذ أُدِّيت زكاته، وتَطَوَّع منه صاحبه؛ لأن الصدقة تُضاعَف إلى سبعمائة ضعف، ويجدها صاحبها وقت الحاجة إليها كجبل أُحُد، مضاعفةً أضعافًا كثيرةً، فأيُّ نقصان مع هذا؟. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ما نقصت صدقة من مال": ذكروا فيه وجهين:
أحدهما: معناه أنه يبارَك فيه، ويُدفَع عنه المضرّات، فينجبر نقص الصورة بالبركة الخفيّة، وهذا مُدْرَك بالحس والعادة.
والثاني: أنه وإن نقصت صورته كان في الثواب المرتَّب عليه جَبْر لنقصه، وزيادة إلى أضعاف كثيرة. انتهى
(3)
.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: "ما نقصت صدقة من مال" بل يزيد الله فيه ما نقص منه، ويَحْتَمِل أنه وإن نقص، فله في الآخرة من الأجر ما يجبر ذلك النقص، ويَحتمل أن يُجمع له الأمران، قاله عياض.
وقال الطيبيّ: يَحْتَمِل أن "مِنْ" زائدة؛ أي: ما نقصت صدقة مالًا، ويَحتمل أنها صلة لـ "نقصت"، والمفعول الأول محذوف؛ أي: ما نقصت شيئًا من مال، بل يزيد في الدنيا بالبركة فيه، ودَفْع المفاسد عنه، والإخلافِ عليه بما هو أجدى، وأنفع، وأكثر، وأطيب، {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، أو في الآخرة بإجزال الأجر، وتضعيفه، أو فيهما، وذلك جائز لإضعاف ذلك النقص، بل وقع لبعض العلماء أنه تصدَّق من ماله، فلم يجد فيه نقصًا، قال الفاكهانيّ: أخبرني من أثق به أنه تصدَّق من عشرين درهمًا بدرهم، فوَزَنَها فلم تنقص، قال: وأنا وقع لي ذلك.
وقول الكلاباذيّ: يراد بالصدقة: الفرض، وبإخراجها ما لم ينقص ماله؛ لكونها دَينًا، فيه بُعْدٌ لا يخفى. انتهى
(4)
.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 149.
(2)
"الاستذكار" 8/ 612.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 141.
(4)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 548 - 549.
(وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ)؛ أي: بسبب عفوه عن شيء من المظلمة، وتجاوُزه عن الانتصار مع قدرته على الانتقام، (إِلَّا عِزًّا)؛ أي: رفعة في الدنيا، فإن من عُرف بالعفو عَظُم في القلوب، أو في الآخرة، بأن يَعْظُم ثوابه، أو فيهما.
وقال النوويّ قوله: "ما زاد الله عبدأ بعفو إلا عزًّا" فيه أيضًا وجهان:
أحدهما: أنه على ظاهره، وأنَّ من عُرف بالصّفح، والعفو سادَ، وعَظُم في القلوب، وزاد عزّه، وإكرامه.
والثاني: أن يكون أجره وثوابه وَجَاهُه وعزّه في الآخرة أكثر.
(وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ) بأن أنزل نفسه عن مرتبة يستحقّها؛ لرجاء التقرب إلى الله، دون غرض غيره.
وقال النوويّ: فيه أيضًا وجهان:
أحدهما: يرفعه في الدنيا، ويُثْبت له بتواضعه في القلوب منزلةً، ويرفعه الله عند الناس، ويُجِلّ مكانه.
والثاني: أن المراد: ثوابه في الآخرة، ورَفْعه فيها بتواضعه في الدنيا، قال العلماء: وهذه الأوجه في الألفاظ الثلاثة موجودة في العادة، معروفة، وقد يكون المراد الوجهين معًا في جميعها في الدنيا والآخرة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وفي رواية "الموطّأ": "وما تواضع عبد"، قال المناويّ
(2)
: وما تواضع أحد لله من المؤمنين رِقًّا وعبوديةً في ائتمار أمره، والانتهاء عن نهيه، ومشاهدته لحقارة النفس، ونفي العجب عنها، (إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ") في الدنيا، بأن يُثبت له في القلوب بتواضعه منزلة عند الناس، ويُجلّ مكانه، وكذا في الآخرة على سرير خُلْد لا يفنى، ومنبر مُلك لا يبلى.
وقد ظهر صِدق الحديث، فإن هذه الوجوه كلها موجودة في الدنيا، وفي هذا كله ردّ قولَ من يقول: الصبر، والحِلم والذلّ، ومن قاله من الأجلّة، فإنما أراد أنه يُشْبهه في الاحتمال، وعدم الانتصار، قاله عياض.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله"، التواضع:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 142.
(2)
"فيض القدير" 5/ 504.
الانكسار، والتذلّل، ونقيضه: التكبّر، والترفع، والتواضع يقتضي متواضَعًا له، فإنْ كان المتواضَع له هو الله تعالى، أو من أَمَر الله بالتواضع له؛ كالرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام، والحاكم، والوالد، والعالم، فهو التواضع الواجب المحمود الذي يرفع الله تعالى به صاحبه في الدنيا والآخرة، وأما التواضع لسائر الخلق فالأصل فيه أنه محمودٌ، ومندوب إليه، ومُرغّبٌ فيه، إذا قُصد به وجه الله تعالى، ومن كان كذلك رَفَع الله تعالى قَدْره في القلوب، وطيّب ذِكره في الأفواه، ورَفَع درجته في الآخرة، وأما التواضع لأهل الدنيا، ولأهل الظلم، فذلك هو الذلّ الذي لا عزّ معه، والخسّة التي لا رفعة معها، بل يترتب عليها ذلّ الآخرة، وكلُّ صفقة خاسرة - نعوذ بالله من ذلك. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال غيره: من تواضع لله في تحمّل مُؤَن خَلْقه، كفاه الله مؤنة ما يرفعه إلى هذا المقام، ومن تواضع في قبول الحقّ ممن دونه قَبِل الله منه مدخول طاعته، ونَفَعه بقليل حسناته، وزاد في رَفْع درجاته، وحَفِظه بمعقّبات رحمته، من بين يديه، ومِنْ خلفه.
[واعلم]: أن من جِبِلّة الإنسان الشحَّ بالمال، ومشايعة السبعية من إيثار الغضب، والانتقام، والاسترسال في الكِبْر الذي هو من نتائج الشيطنة، فأراد الشارع أن يَقْلَعَها، فحثّ أوّلًا على الصدقة؛ ليتحلى بالسخاء والكرم، وثانيًا على العفو؛ ليتعزز بعزّ الْحِلْم والوقار، وثالثًا على التواضع؛ ليرفع درجاته في الدارين
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: حديث العلاء بن عبد الرحمن هذا أسنده عن مالك جماعة، وهو في "الموطأ" من قول العلاء، وكان مالك يشكّ في رَفْعه، ومثله لا يكون رأيًا، وهو محفوظ مسندٌ: مالك، عن العلاء بن
(1)
"المفهم" 6/ 575.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 549.
عبد الرحمن، أنه سمعه يقول:"ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله"، قال مالك: لا أدري أَيُرفَع هذا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لا؟.
هكذا رَوَى هذا الحديث جماعة الرُّواة عن مالك، منهم ابن وهب، وابن القاسم، والقعنبيّ، ومعن بن عيسى، وغيرهم، وهو حديث محفوظ للعلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، رواه عنه جماعة هكذا، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فلذلك كلّه ذكرناه، وبالله التوفيق. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6569](2588)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(2029)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 1000)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 235 و 386 و 438)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 396)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2438)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3248)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 205)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 344)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 187 و 8/ 162 و 10/ 235) و"شُعب الإيمان"(3/ 233)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1633)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الصدقة، وأنها لا تنقص من المال، بل تكون سببًا لزيادته، ونمائه، وزيادة صاحبها فضلًا ورفعةً عند الله تعالى، ومحمدة عن الناس.
2 -
(ومنها): بيان فضل العفو والصفح عمن أساء، وأن من فعل ذلك يزيده الله تعالى عزًّا، ورفعةً في الدنيا والآخرة.
3 -
(ومنها): بيان فضل التواضع لله سبحانه وتعالى، وأن من تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله في الدنيا والآخرة، وقد ورد الأمر به، ففي "صحيح مسلم"
(2)
من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، مرفوعًا: "وإن الله أوحى إليّ أنْ تواضَعوا، حتى لا
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 20/ 269.
(2)
"صحيح مسلم" 4/ 2198.
يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد"، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في محاللة الحقوق:
قال أبو العبّاس القرطبيّ في "المفهم": اختَلَف العلماء في المحاللة من الحقوق، فقال سعيد بن المسيِّب: لا أحلِّل أحدًا، وظاهره أنه كان لا يُجيز أن يعفو عن حقّ وجب له، ولا يُسقطه، ولم يفرّق بين الظالم، ولا غيره، وهذا هو الذي فَهِمه مالك عنه.
وذهب غيره إلى أنه تجوز المحاللة من جميع الحقوق، وإسقاطها، وإليه ذهب محمد بن سيرين، والقاسم بن محمد كان يُحلّل مَن ظلمه، ويكره لنفسه الخصوم.
وفرّق آخرون بين الظالم، فلم يحللوه، وبين غيره، فحلّلوه، وإليه ذهب إبراهيم النخعيّ، وهو ظاهر قول مالك، وقد سئل، فقيل له: أرأيت الرجل يموت، ولك عليه دَين، ولا وفاء له به؟ قال: أفضل عندي أن أحلّله، وأما الرجل يظلم الرجل فلا أرى ذلك، قال الله عز وجل:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية [الشورى: 42] فظاهر هذا: أن الظالم لا يجوز أن يُحلَّل، ولم يفرّق بين الحقوق، فيكون مذهبه كمذهب النخعيّ المتقدّم، غير أنه قد رُوي قول مالك هذا بلفظ آخر، فقال: أما الرجل يغتاب الرجل، وينتقصه، فلا أرى ذلك، ففَهِم بعضُ أصحابنا من هذا أن ترك المحاللة إنما مَنَعه في الأعراض خاصّة، وأما في سائر الحقوق فيجوز. وسبب هذا الخلاف، هل تلك الأدلة مُبْقاةٌ على ظواهرها من التعميم، أو هي مُخَصّصة، فيخرج منها الظالم؛ لأنَّ تحليله من المظالم يجرّؤه على الإكثار منها، وهو ممنوع بالإجماع، ثم ذلك عون له على الإثم والعدوان، وقد قال تعالى:{وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} الآية [المائدة: 2]؟ وأما الفرق بين الأعراض وغيرها فمبالغة في سدّ ذريعة الأعراض ليَسَارتها، وتساهُل الناس في أمرها، فاقتضى ذلك المبالغة في الردع عنها، فاذا عَلِم الذي يريد أن يغتاب مسلمًا أن الغِيبة، وأعراض المسلمين لا يُعفَى عنها، ولا يُخرج منها، امتنع من الوقوع فيها. قال القرطبيّ رحمه الله: ويردّ على هذه التخصيصات سؤالات يطول الكلام بإيرادها، والانفصال عنها، والتمسك بالعموم هو الأصل المعلوم، لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أيعجز أحدكم
أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا أصبح يقول: اللَّهُمَّ إني تصدقت بعرضي على عبادك"
(1)
، ومع الأصل الكليّ في حقوق بني آدم من جواز تصرّفهم فيها بالإعطاء، والمنع، والأخذ والإسقاط، والله تعالى أعلم.
[تفريع]: القائلون بجواز التحلّل، وإسقاط الحقوق، اختلفوا هل تُسقط عن الظالم مطالبة الآدميّ فقط، ولا تسقط عنه مطالبة الله عز وجل؟، أو يَسْقُط عنه الجميع؟ لأهل العلم فيه قولان. انتهى كلام أبي العبّاس القرطبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف العلماء في التحليل، فكان ابن المسيِّب لا يحلل أحدًا من عرض، ولا مال، وكان سليمان بن يسار، ومحمد بن سيرين يحللان من العرض والمال، ورأى مالك التحليل من المال دون العرض، رَوَى ابن القاسم، وابن وهب عن مالك، وسئل عن قول سعيد بن المسيِّب: لا أُحلِّل أحدًا، فقال: ذلك يَختلف، فقلت له: يا أبا عبد الله، الرجل يُسلِف الرجلَ، فيهلك ولا وفاء له؟ قال: أرى أن يحلّله، وهو أفضل عندي، فإن الله تعالى يقول:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18].
فقيل له: الرجل يظلم الرجل؟ فقال: لا أرى ذلك، هو عندي مخالف للأول، يقول الله تعالى:{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} ، ويقول تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، فلا أرى أن يجعله مِن ظُلمه في حِلّ.
قال ابن العربيّ: فصار في المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يحلِّله بحال، قاله سعيد بن المسيِّب.
الثاني: يحلله، قاله محمد بن سيرين.
الثالث: إن كان مالًا حلّله، وإن كان ظلمًا لم يُحلّله، وهو قول مالك.
وجه الأول: ألا يحلل ما حرّم الله، فيكون كالتبديل لحكم الله.
ووجه الثاني: أنه حقه، فله أن يُسقط كما يُسقط دمه، وعرضه.
ووجه الثالث: الذي اختاره مالك هو أن الرجل إذا غُلب على أداء
(1)
صححه الشيخ الألباني موقوفًا، وضعّفه مرفوعًا.
(2)
"المفهم" 6/ 566 - 569.
حقك، فمن الرفق به أن تتحلله، وإن كان ظالمًا فمن الحقّ ألا تتركه؛ لئلا تغترّ الظَّلَمة، ويسترسلوا في أفعالهم القبيحة.
وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي الْيَسَر الطويل، وفيه:"أنه قال لغريمه: اخرُجْ إليّ، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقال: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أُحَدِّثك ثم لا أكذبك، خشيت والله أن أحدّثك، فأكذبك، وأن أعدك، فأُخلفك، وكنتَ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنتُ والله مُعْسِرًا، قال: قلت: آلله؟ قال: الله، قال: فأتى بصحيفته، فمحاها، فقال: إن وجدت قضاءً فاقضني، وإلا فأنت في حِلّ. . ."، وذكر الحديث.
قال ابن العربي: وهذا في الحي الذي يُرجى له الأداء لسلامة الذمة، ورجاء التحلّل، فكيف بالميت الذي لا محاللة له، ولا ذمة معه؟. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح أن التحلّل جائز في الحقوق كلّها، مالِهَا، وعِرْضِها؛ - كما مال إليه القرطبيّ في كلامه السابق - لإطلاق النصوص في ذلك، مثلُ قوله عز وجل:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقوله:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فهذه الآيات قد عمّمت، ولم تخصّ حقًّا دون حقّ.
وقد أخرج البخاريّ في "صحيحه": عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأحد من عِرضه، أو شيء، فليتحلّله منه اليوم، قبل أن لا يكون دينار، ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقَدْر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فحُمِل عليه".
فهذا الحديث أصرح النصوص في هذه المسألة؛ إذ نصَّ على العِرْض، ثم عمّم جميع الحقوق بقوله:"أو شيء".
والحاصل أن التحلّل مشروع مطلقًا، فتبصَّر، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 16/ 42 - 43.
(20) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6570]
(2589) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ "، قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَقَدْ بَهَتَّهُ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور في الحديثين السابقين، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ ") بكسر الغين المعجمة، قيل: معناه: أتعلمون ما جواب هذا السؤال؟، والأظهر أن يقال: أتدرون ما الغيبة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12]؟ قاله القاري
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: كأن هذا السؤال صدر عنه صلى الله عليه وسلم بعد أن جرى ذِكر الغيبة، ولا يبعد أن يكون ذلك بعد نزول قوله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، ففسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الغِيبة المنهيّ عنها، ووَزْنها فِعْلةٌ، وهي مأخوذة من الغيبة، بفتح الغين مصدر غاب؛ لأنَّها ذِكر الرجل في حال غَيبته بما يكرهه لو سمعه، يقال من ذلك المعنى: اغتاب فلانٌ فلانًا يغتابه اغتيابًا، واسم ذلك المعنى: الْغِيبة.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون لديه صلى الله عليه وسلم: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("ذِكْرُكَ)؛ أي: أن تذكر أيها المخاطب خطابًا عامًّا بلفظ، أو كتابة، أو رمز، أو إشارة، أو محاكاة، (أَخَاكَ) في الدِّين في غَيْبته (بِمَا يَكْرَهُ")؛ أي: بالشيء
(1)
"المرقاة" 8/ 571.
الذي يكرهه أخوك لو بلغه في دِينه، أو دنياه، أو خَلْقه، أو خُلُقه، أو أهله، أو خادمه، أو ماله، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك، مما يتعلق به، سواء ذَكَره بلفظ، أو إشارة، أو رمز.
(قِيلَ) لم يُعرف القائل؛ أي: قال بعض الصحابة: (أفَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني يا رسول الله (إِنْ كَانَ) موجودًا (فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟)؛ أي: من المَنقصة، والمعنى: أيكون حينئذ ذِكره بها أيضًا غيبة؟ كما هو المتبادَر من عموم ذِكره بما يَكره، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ)؛ أي: من العَيب، (فَقَدِ اغْتَبْتَهُ)؛ أي: لا معنى للغيبة إلا هذا، وهو أن تكون المنقصة موجودة فيه، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) ما قلته موجودًا (فِيهِ)؛ أي: في أخيك، (فَقَدْ بَهَتَّهُ") بفتح الهاء المخففة، وتشديد التاء، على الخطاب؛ أي: قذفته بالباطل، وافتريت عليه، وهو أشدّ من الغيبة، يقال: بَهَتَه بَهْتًا، من باب نَفَعَ: قذفه بالباطل، وافترى عليه الكذب، والاسم: الْبُهتان، واسم الفاعل بَهُوتٌ، والجمع: بُهُتٌ، مثلُ رَسُول ورُسُل، والْبَهْتَة مثلُ البهتان، أفاده الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقد بهتّه" هو بتخفيف الهاء، وتشديد التاء؛ لإدغام تاء المخاطب في التاء التي هي لام الفعل، وكذلك رَوَيْتُه، ويجوز أن تكون مخففة على إسقاط تاء الخطاب، يقال: بَهَتَّه بَهَتًا، وبَهْتًا، وبُهتانًا؛ أي: قال عليه ما لم يَقُل، وهو بهّات، والمقول مبهوت، ويقال: بَهِت الرجل - بالكسر - إذا دُهش، وتحيّر، وبَهُت - بالضم - مثله، وأفصح منها: بُهِت، كما قال تعالى:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]؛ لأنَّه يقال: رجل مبهوت، ولا يقال: باهت، ولا بَهِيت، قاله الكسائيّ
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 63.
(2)
"المفهم" 6/ 571.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 6570](2589)، و (أبو داود) في "الأدب"(4874)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1934)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 384 و 386)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 297)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5758 و 5759)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 247) وفي "الأدب"(154) و"شُعب الإيمان"(5/ 300)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في تعريف الغيبة:
قال في "الفتح": قد اختُلِف في حدّ الغيبة، فقال الراغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره من غير مُحْوِج إلى ذِكر ذلك.
وقال الغزاليّ: حدّ الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه.
وقال ابن الأثير في "النهاية": الغيبة أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء، وإن كان فيه.
وقال النوويّ في "الأذكار" تبعًا للغزاليّ: ذِكر المرء بما يكرهه، سواء كان ذلك في بدن الشخص، أو دِينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقه، أو خُلُقه، أو ماله، أو والده، أو ولده، أو زوجته، أو خادمه، أو ثوبه، أو حركته، أو طلاقته، أو عُبوسته، أو غير ذلك، مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ، أو بالإشارة والرمز.
قال النوويّ: وممن يستعمل التعريض في ذلك كثيرٌ من الفقهاء في التصانيف، وغيرها؛ كقولهم: قال بعض من يَدَّعي العلم، أو بعض من يُنسب إلى الصلاح، أو نحو ذلك، مما يَفهَم السامعُ المراد به، ومنه قولهم عند ذِكره: الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.
وتمسَّك من قال: إنها لا يُشترط فيها غَيْبَةُ الشخصِ بالحديث المشهور الذي أخرجه مسلم، وأصحاب "السنن" عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:"ذِكْرُك أخاك بما يكرهه"، قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان في أخيك ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهتّه"، وله شاهد مرسَل عن المطلب بن
عبد الله عند مالك، فلم يقيد ذلك بغَيبة الشخص، فدلّ على أن لا فرق بين أن يقول ذلك في غَيبته، أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغَيبة؛ مراعاةً لاشتقاقها، وبذلك جزم أهل اللغة.
قال ابن التين: الغيبةُ: ذكر المرء بما يكرهه بظهر الغيب، وكذا قيّده الزمخشريّ، وأبو نصر القشيريّ، في "التفسير" وابن خميس في جزء له مفرد في الغيبة، والمنذريّ، وغير واحد من العلماء، من آخرهم الكرمانيّ قال: الغيبة أن تتكلم خلف الإنسان بما يكرهه لو سمعه، وكان صدقًا، قال: وحُكم الكناية، والإشارة مع النية كذلك، وكلام من أطلق منهم محمول على المقيّد في ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال: إن الغيبة لا يُشترط فيها غَيبة الشخص هو الأظهر عندي؛ لظاهر حديث الباب، وأما تقوّل الحافظ خلافه بقول أهل اللغة، فليس مما ينبغي؛ لأن ظاهر النص لا يُعارَض إلا بمثله، أو بالإجماع، ولا يوجد هنا لا هذا، ولا هذا، فيترجّح القول بالإطلاق، فتأمل بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الرابعة): في بيان حكم الغيبة:
قال النوويّ رحمه الله: الغيبة من أقبح القبائح، وأكثرها انتشارًا في الناس، حتى لا يَسْلَم منها إلا القليل من الناس، وذِكرك أخاك بما يكرهه عامّ سواء كان في بدنه، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خَلْقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو ثوبه، أو مشيه، وحركته، وبشاشته، وعبوسته، وطلاقته، أو غير ذلك، مما يتعلق به، سواءٌ ذكرته بلفظك، أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، ونحو ذلك، وضابطه أن كلَّ ما أفهمتَ به غيرك نقصان مسلم، فهو غيبة محرَّمة، ومن ذلك المحاكاة، بأن يمشي متعارجًا، أو مطأطئًا، أو على غير ذلك من الهيئات، مريدًا حكاية هيئة من ينقصه بذلك. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: لا شك في أن الغيبة محرّمة، وكبيرة من الكبائر
(1)
"الفتح" 13/ 606.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 142.
بالكتاب والسُّنَّة، فالكتاب قوله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الآية [الحجرات: 12]، وأما السُّنَّة فكثيرة مِن أنصّها: ما أخرجه أبو داود، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر استطالةَ المرء في عرض رجل مسلم بغير حقّ"
(1)
.
وفي كتابه أيضًا من حديث أنس عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفارُ نُحاس يَخْمِشون بها وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم"
(2)
.
قال في "الفتح": وأما حُكمها فقال النوويّ في "الأذكار": الغيبة والنميمة محرّمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، وذكر في "الروضة" تبعًا للرافعيّ أنها من الصغائر، وتعقّبه جماعة، ونَقَل أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره" الإجماع على أنها من الكبائر؛ لأن حدّ الكبيرة صادق عليها؛ لأنها مما ثبت الوعيد الشديد فيه، وقال الأذرعيّ: لم أر من صَرَّح بأنها من الصغائر إلا صاحب "العدة"، والغزاليّ، وصرّح بعضهم بأنها من الكبائر، وإذا لم يثبت الإجماع فلا أقلّ من التفصيل، فمن اغتاب وليًّا لله، أو عالمًا ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلًا، وقد قالوا: ضابطُها ذِكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتدّ تأذّيه بذلك، وأذى المسلم محرّم.
وذَكر النوويّ من الأحاديث الدالة على تحريم الغيبة حديث أنس رضي الله عنه، رفعه:"لمّا عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يَخْمِشون بها وجوههم، وصدورهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم"، أخرجه أبو داود، وله شاهد عن ابن عباس عند أحمد، وحديث سعيد بن زيد، رفعه:"إن من أربى الربا الاستطالةَ في عِرْض المسلم بغير حقّ"، أخرجه أبو داود.
وله شاهد عند البزار، وابن أبي الدنيا، من حديث أبي هريرة، وعند أبي
(1)
حديث ضعيف، رواه أبو داود برقم (4877).
(2)
حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (4878).
يعلى، من حديث عائشة، ومن حديث أبي هريرة، رفعه: "من أكل لحم أخيه في الدنيا، قُرِّب له يوم القيامة، فيقال له: كله ميتًا كما أكلته حيًّا، فيأكله، ويَكْلَح
(1)
، ويصيح"، سنده حسن.
وفي "الأدب المفرد" عن ابن مسعود، قال: ما التقم أحد لقمة شرًّا من اغتياب مؤمن، الحديث.
وفيه أيضًا، وصححه ابن حبان، من حديث أبي هريرة، في قصة ماعز، ورَجْمه في الزنا، وأن رجلًا قال لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم يَدَع نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فقال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كُلَا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نِلتما من عِرض هذا الرجل أشدّ من أكْل هذه الجيفة".
وأخرج أحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد" بسند حسن، عن جابر قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهاجت ريح منتنة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين".
وهذا الوعيد في هذه الأحاديث يدلّ على أن الغيبة من الكبائر، لكن تقييده في بعضها بغير حقّ قد يُخرج الغيبة بحقّ لِمَا تقرر أنها ذِكر المرء بما فيه، ذكره في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما ذُكر من الأدلّة أن القول الراجح أن الغيبة من كبائر الذنوب؛ لوضوح الأدلّة على ذلك، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في ذكر ما يُستثنى من الغيبة:
قال القرطبيّ رحمه الله: إذا تقررت حقيقة الغيبة، وأن أصلها على التحريم، فاعلم أنها قد تَخرج عن ذلك الأصل صُوَرٌ، فتجوز الغيبة في بعضها، وتجب في بعضها، ويُندب إليها في بعضها:
فالأُولى: كغيبة الْمُعْلِن بالفسق، المعروف به، فيجوز ذكره بفسقه، لا بغيره، مما يكون مشهورًا به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"بئس أخو العشيرة" كما يأتي،
(1)
أي: يتكشّر في عُبُوس.
(2)
"الفتح" 13/ 607 - 608.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا غيبة لفاسق"
(1)
، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لَيُّ الواجد يُحِلّ عرضه، وعقوبته"
(2)
.
والثاني: جرحُ شاهد عند خوف إمضاء الحكم بشهادته، وجرح المحدِّث الذي يُخاف أن يُعمل بحديثه، أو يُروَى عنه، وهذه أمور ضرورية في الدين معمول بها، مجمَع من السلف الصالح عليها، ونحو ذلك ذِكر عيب من استُنصِحتَ في مصاهرته، أو معاملته، فهذا يجب عليك الإعلام بما تعلم من هَنَاته عند الحاجة إلى ذلك على جهة الإخبار، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أما معاوية فصُعلوك، لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه"
(3)
.
وقد يكون من هذين النوعين ما لا يجب، بل يُندب إليه؛ كفعل المحدِّثين حين يُعَرِّفون بالضعفاء؛ مخافةَ الاغترار بحديثهم، وكتحريز مَن لم يسأل مخافةَ معاملة من حاله تُجهَل.
وحيث حكمنا بوجوب النصّ على الغيبة، فإنما ذلك إذا لم نجد بُدًّا من التصريح والتنصيص، فأمَّا لو أغنى التعريض، والتلويح، لَحَرُم التنصيص، والتصريح، فإنَّ ذلك أمرٌ ضروريّ، والضرورة تُقدَّر بقدر الحاجة، والله تعالى أعلم. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: تباح الغيبة لغرض شرعيّ، وذلك لستة أسباب:
أحدها: التظلُّم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان، والقاضي، وغيرهما، ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان، أو فعل بي كذا.
الثاني: الاستغاثة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته: فلان يعمل كذا، فازجره عنه، ونحو ذلك.
الثالث: الاستفتاء، بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان، أو أبي، أو أخي، أو زوجي بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، ودَفْع ظلمه عني، ونحو ذلك، فهذا جائز؛ للحاجة، والأجود أن يقول فيه: رجل، أو زوج، أو
(1)
حديث مُنكَر، بل قال بعضهم: باطل.
(2)
حديث صحيح.
(3)
رواه مسلم.
(4)
"المفهم" 6/ 570 - 571.
والد، أو ولد، كان من أمره كذا، ومع ذلك فالتعيين جائز؛ لحديث هند، وقولها: إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ.
الرابع: تحذير المسلمين من الشرّ، وذلك من وجوه:
منها: جرح المجروحين من الرواة، والشهود، والمصنفين، وذلك جائز بالإجماع، بل واجب؛ صونًا للشريعة.
ومنها: الإخبار بعيبه عند المشاورة في مواصلته.
ومنها: إذا رأيت من يشتري شيئًا مَعِيبًا، أو عبدًا سارقًا، أو زانيًا، أو شاربًا، أو نحو ذلك، تَذْكُره للمشتري، إذا لم يعلمه؛ نصيحةً، لا بقصد الإيذاء والإفساد.
ومنها: إذا رأيت متفقهًا يتردد إلى فاسق، أو مبتدع، يأخذ عنه علمًا، وخِفْت عليه ضرره، فعليك نصيحته ببيان حاله؛ قاصدًا النصيحة.
ومنها: أن يكون له ولايةٌ لا يقوم بها على وجهها؛ لعدم أهليته، أو لِفِسقه، فيذكره لمن له عليه ولاية؛ ليستدلّ به على حاله، فلا يغتر به، ويُلزم الاستقامة.
الخامس: أن يكون مجاهرًا بفسقه، أو بدعته؛ كالخمر، ومصادرة الناس، وجباية المكوس، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذِكره بما يُجاهر به، ولا يجوز بغيره، إلا بسبب آخر.
السادس: التعريف، فإذا كان معروفًا بلقب؛ كالأعمش، والأعرج، والأزرق، والقصير، والأعمى، والأقطع، ونحوها، جاز تعريفه به، ويحرم ذكره به تنقّصًا، ولو أمكن التعريف بغيره، كان أَولى، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت هذه المواضع، فقلت:
يَا طَالِبًا فَائِدَةً جَلِيلَهْ
…
اعْلَمْ هَدَاكَ اللهُ لِلْفَضِيلَهْ
أَنَّ اغْتِيَابَ الشَّخْصِ حَيًّا أَوْ لَا
…
مُحَرَّمٌ قَطْعًا بِنَصٍّ يُتْلَى
لَكِنَّهُ لِغَرَضٍ صَحِيحِ
…
أُبِيحَ عَدَّهَا أُلُو التَّرْجِيحِ
فَذَكَرُوهَا سِتَّةً تَظَلَّمِ
…
وَاسْتَفْتِ وَاسْتَعِنْ لِرَدْعِ مُجْرِمِ
(1)
شرح النوويّ" 16/ 142 - 143.
وَعِبْ مُجَاهِرًا بِفِسْقٍ أَوْ بِدَعْ
…
بِمَا بِهِ جَاهَرَ لَا بِمَا امْتَنَعْ
وَعَرِّفَنْ بِلَقَبٍ مَنْ عُرِفَا
…
بِهِ كَقَوْلِكَ رَأَيْتُ الأَحْنَفَا
(1)
وَحَذِّرَنْ مِنْ شَرِّ ذِي الشَّرِّ إِذَا
…
تَخَافُ أَنْ يُلْحِقَ بِالنَّاسِ الأَذَى
وَفِي سِوَى هَذَا احْذَرَنْ لَا تَغْتَبِ
…
تَكُنْ مُوَفَّقًا لِنَيْلِ الأَرَبِ
(21) - (بَابُ بِشَارَةِ مَنْ سَتَرَ اللهُ تَعَالَى عَيْبَهُ فِي الدُّنْيَا بِأَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6571]
(2590) - (حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ - حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامٍ الْعَيْشِيُّ) - بالياء، والشين المعجمة - أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشي، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(رَوْحُ) بن القاسم التميميّ العنبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا. و"أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين،
(1)
"الأحنف"؛ هو: الأعرج، أو الذي يمشي على ظهر قدميه.
والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، سبق القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَسْتُرُ اللهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا) بأن لم يفضحه بإظهار ذنبه بين الناس، (إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") قال القاضي عياض رحمه الله: يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: أن يستر معاصيه، وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف.
والثاني: تَرْك محاسبته عليها، وتَرْك ذِكرها، قال: والأول أظهر؛ لِمَا جاء في الحديث الآخر: يقرّره بذنوبه، يقول: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أشار بقوله في الحديث الآخر إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن صفوان بن مُحْرِز المازنيّ قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما، آخِذٌ بيده، إذ عَرَض رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يُدني المؤمن، فيضع عليه كَنَفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعْطَى كتاب حسناته، وأما الكافر، والمنافق، فيقول الأشهاد: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] "، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، وسيأتي مطوّلًا برقم (2699).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 61.
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 6571](2590)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 388 و 404)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 217)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة فضل الله سبحانه وتعالى، وعظيم كرمه، حيث إنه يستر عباده على ذنوبهم.
2 -
(ومنها): الحثّ على سَتْر الإنسان نفسه إذا وقع في معصية؛ لينال هذا الفضل العظيم.
3 -
(ومنها): أنه يستفاد منه من لم يستر على نفسه لم يستره الله عز وجل؛ لأنه من المجاهرين، والمجاهرة بالمعاصي مبارَزة لله تعالى.
أخرج البخاريّ في "صحيحه" عن سالم بن عبد الله قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ أمتي مُعَافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهَرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح، وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عَمِلت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف سِتر الله عنه"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6572]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، وربما وَهِمَ، وقال ابن معين: أنكرناه في صفر سنة تسع عشرة، ومات بعدها بيسير (220) من كبار [10](ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عجلان الباهليّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رفع الفعل بعدها، (يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا)؛ أي: على عيوبه، ومعاصيه (فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ)؛ أي: سَتَر عيوبه، وذنوبه عن الملائكة، والإنس والجنّ، فلا يطّلع عليها أحد إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه يضع عليه كَنَفه، ثم يقرّره ذنوبه، ثم يقول له: سترتها عنك في الدنيا، وأنا أغفرها اليوم. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") قال النوويّ رحمه الله: السَّتر المندوب إليه هنا المراد به السَّتر على ذوي الهيئات، ونحوهم، ممن ليس هو معروفًا بالأذى والفساد، فأما المعروف بذلك، فيستحبّ أن لا يستر عليه، بل تُرفع قضيته إلى وليّ الأمر، إن لم يُخَفْ من ذلك مفسدة؛ لأن السَّتر على هذا يُطمعه في الإيذاء والفساد، وانتهاك الحرمات، وجَسارة غيره على مثل فعله، هذا كله في سَتْر معصية وقعت، وانقضت، أما معصية رآه عليها، وهو بَعْدُ متلبِّس بها، فتجب المبادرة بإنكارها عليه، ومنعه منها على من قَدَر على ذلك، ولا يحلّ تأخيرها، فإن عجز لزمه رَفْعها إلى وليّ الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة، وأما جرح الرواة، والشهود، والأمناء على الصدقات، والأوقاف، والأيتام، ونحوهم، فيجب جَرْحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم، إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرّمة، بل من النصيحة الواجبة، وهذا مجمَع عليه، قال العلماء في القسم الأول الذي يُستر فيه: هذا الستر مندوب، فلو رَفَعه إلى السلطان ونحوه، لم يأثم بالإجماع، لكن هذا خلاف الأَولى، وقد يكون في بعض صُوَره ما هو مكروه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تكلّم الكلام في السَّتر في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما الماضي برقم [15/ 6555]، (2580)، وسيأتي أيضًا في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "كتاب الذكر والدعاء" برقم (2699)
(2)
- إن شاء الله تعالى -.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 135.
(2)
هذا الرقم للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 6572](2590)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 388 و 404)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 425)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 72)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(7/ 105)، و (ابن عبد البرّ) في "التمهيد"(23/ 130)، والله تعالى أعلم.
(22) - (بَابُ مُدَارَاةِ مَنْ يُتَّقَى فُحْشُهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6573]
(2591) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كُلُّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - وَهُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ - عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ، أَنَّ رَجُلًا اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "ائْذَنُوا لَهُ، فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ"، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ، قَالَ: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَدَعَهُ، أَوْ تَرَكَهُ النَّاسُ؛ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل خمسة أبواب.
5 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
6 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام الشهير، تقدّم قبل خمسة أبواب.
7 -
(ابْنُ الْمُنْكَدِرِ) هو: محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الْهُدير - بالتصغير - التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
8 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أبو عبد الله الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.
9 -
(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق أم المؤمنين رضي الله عنهما، تقدّمت قريبًا أيضًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة أخْذه عنهم، وهو السماع منهم، ولذا قال:"حدّثنا"، ثم فصّل بعدُ؛ لاختلافهم فيما ذُكر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن) محمد (بْنِ الْمُنْكَدِرِ)؛ أنه (سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ) حال كونه (يَقُولُ: حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، (أَنَّ رَجُلًا) قال ابن بطال رحمه الله
(1)
: هو عُيينة بن حِصْن بن حُذيفة بن بدر الْفَزاريّ، وكان يقال له: الأحمق المطاع، ورجا النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقباله عليه تألّفه؛ لِيُسْلِم قومه؛ لأنه كان رئيسهم، وكذا فسَّره به عياض
(2)
، ثم القرطبيّ
(3)
، والنوويّ
(4)
جازمين بذلك، ونقله ابن التين عن الداوديّ، لكن احتمالًا لا جزمًا، وقد أخرجه عبد الغنيّ بن سعيد في "المبهمات" من طريق عبد الله بن عبد الحكم، عن مالك، أنه بلغه عن عائشة رضي الله عنها:"استأذن عُيينة بن حِصن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بئس ابن العشيرة. . ." الحديث، وأخرجه ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق الأوزاعيّ، عن يحيى بن أبي كثير:"أن عيينة استأذن. . ."، فذكره مرسلًا، وأخرج عبد الغنيّ أيضًا من طريق أبي عامر الخراز، عن أبي يزيد المدنيّ، عن عائشة:"قالت: جاء مخرمة بن نوفل، يستأذن، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم صوته قال: بئس أخو العشيرة. . ." الحديث.
(1)
"شرح البخاري" لابن بطال 9/ 230.
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 62.
(3)
"المفهم" 6/ 572.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 143.
قال الحافظ: وهكذا وقع لنا في أواخر الجزء الأول من فوائد أبي إسحاق الهاشميّ، وأخرجه الخطيب، فيُحْمَل على التعدد.
وقد حكى المنذريّ في "مختصره" القولين، فقال: هو عيينة، وقيل: مخرمة، وأما ابن الْمُلَقِّن فاقتصر على أنه مخرمة، وذكر أنه نقله من حاشية بخطّ الدمياطيّ، فقصر، لكنه حَكَى بعد ذلك عن ابن التين أنه جَوَّز أنه عيينة، قال: وصَرَّح به ابن بطال، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بأن يدخل عليه، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("ائْذَنُوا لَهُ) بالدخول، (فَلَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ، أَوْ بِئْسَ رَجُلُ الْعَشِيرَةِ") وفي رواية معمر التالية: "بئس أخو القوم، وابن العشيرة"، وفي رواية البخاريّ:"بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة"، والمعنى واحد، قال عياض: المراد بالعشيرة الجماعة، أو القبيلة، وقال غيره: العشيرة: الأدنى إلى الرجل من أهله، وَهُمْ وَلَد أبيه وجدّه.
وقال في "العمدة"؛ أي: بئس هذا الرجل منها، وهو كقولك: يا أخا العرب لرجل منهم، وهذا الكلام من أعلام النبوة؛ لأنه ارتدّ بعده صلى الله عليه وسلم، وجيء به أسيرًا إلى أبي بكر رضي الله عنه
(2)
.
(فَلَمَّا دَخَلَ) الرجل (عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ) وفي رواية البخاريّ: "فلما جلس تَطَلّق النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه"، و"تطلّق" - بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام -؛ أي: أبدى له طَلاقة وجهه، يقال: وَجْهُهُ طَلْق، وطَلِيق؛ أي: مسترسِل، منبسِط، غير عَبوس، ووقع في رواية ابن عامر:"بَشّ في وجهه"، ولأحمد من وجه آخر، عن عائشة:"واستأذن آخر، فقال: نِعْم أخو العشيرة، فلما دخل لم يهشّ له، ولم ينبسط كما فعل بالآخر، فسألته. . ."، فذكر الحديث.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها: (فَقُلْتُ) بعدما خرج الرجل من المجلس: (يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ الَّذِي قُلْتَ)؛ تعني: قوله صلى الله عليه وسلم: "ائذنوا له، فلبئس أخو العشيرة"، وفي رواية البخاريّ: "فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا
(1)
"الفتح" 13/ 579 - 580، كتاب "الأدب" رقم (6032).
(2)
"عمدة القاري" 22/ 117.
رسول الله، حين رأيت الرجل، قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه، وانبسطت إليه؟ "، (ثُمَّ) لمّا دخل عليك (أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ)؛ أي: كلّمته بكلام ليّن لطيف، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَا عَائِشَةُ) وفي رواية البخاريّ: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحّاشًا"، وفي رواية:"فاحشًا"، وقوله:(إِنَّ شَرَّ النَّاسِ) استئناف كلام؛ كالتعليل لِتَرْكه صلى الله عليه وسلم مواجهته بما ذَكَره في غيبته، قاله في "الفتح"
(1)
. (مَنْزِلَةً) منصوب على التمييز، (عِنْدَ اللهِ) تعالى (يَوْمَ الْقِيَامَةِ، مَنْ وَدَعَهُ) بفتحات، قال المازريّ
(2)
: ذكر بعض النحاة أن العرب أماتوا مصدر يَدَعَ، وماضيه، والنبيّ صلى الله عليه وسلم أفصح العرب، وقد نَطَق بالمصدر في قوله:"لينتهينّ أقوام عن وَدْعِهم الجُمعات"، وبماضيه في هذا الحديث، وأجاب عياض
(3)
بأن المراد بقولهم: أماتوه؛ أي: تركوا استعماله إلا نادرًا، قال: ولفظ "أماتوا" يدلّ عليه، ويؤيد ذلك أنه لم يُنقل في الحديث إلا في هذين الحديثين، مع شكّ الراوي في حديث الباب، مع كثرة استعمال "ترك"، ولم يقل أحد من النحاة: إنه لا يجوز. انتهى
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من وَدَعه، أو تركه الناس. . . إلخ" هذا شكٌّ من بعض الرواة في أيّ اللفظين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن كان الصحيح "وَدَعَه"، فقد تكلّم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأصل المرفوض، كما قد تكلّم به الشاعر الذي هو أنس بن زُنيم في قوله [من الرمل]:
سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ
…
عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَعَهْ
وقد حُكي عن بعض السلف أنه قرأ: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3]، بتخفيف الدال، وقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه تكلّم بمصدر ذلك المرفوض، حيث قال:"لينتهينّ أقوام عن وَدْعهم الجمعات، أو ليختمنّ الله على قلوبهم"
(5)
، وهذا كلّه يردّ على من قال من النحويين: إن العرب قد أماتت ماضي هذا الفعل، ومصدره، ولا يُتكلّم به استغناءً عن ذلك بتركه، فإن أراد به
(1)
"الفتح" 13/ 609.
(2)
"المعلم" 3/ 167.
(3)
"إكمال المعلم" 8/ 63.
(4)
"الفتح" 13/ 579 - 580.
(5)
رواه مسلم.
هذا القائل أنه لا يوجد في كلامهم، فقد كذّبه النقل الصحيح، وإن أراد أن ذلك يقع، ولكنه قليل، وشاذّ في الاستعمال، فهو صحيح. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وَدَعْتُهُ أَدَعُهُ وَدْعًا: تركته، وأصل المضارع الكسر، ومن ثم حُذفت الواو، ثم فُتح؛ لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدّمين: وزعمت النّحاة أن العرب أماتت ماضي "يَدَعُ"، ومصدره، واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد، وعروة، ومقاتل، وابن أبي عَبْلة، ويزيد النَّحويُّ:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} بالتّخفيف، وفي الحديث:"لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الجُمُعَاتِ"؛ أي: عن تركهم، فقد رُويت هذه الكلمة عن أفصح العرب، ونُقلت من طريق القرّاء، فكيف يكون إماتةً، وقد جاء الماضي في بعض الأشعار، وما هذه سبيله فيجوز القول بقلّة الاستعمال، ولا يجوز القول بالإماتة. انتهى
(2)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي، كما تقدّم عن القرطبيّ، (تَرَكَهُ النَّاسُ؛ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ")؛ أي: لأجل الاتّقاء عن فُحشه، ونصب "اتّقاء" على أنه مفعول لأجله؛ لاستكمال شروطه، التي ذكرها ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:
يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصْدَرُ إِنْ
…
أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ "جُدْ شُكْرًا وَدِنْ"
وَهْوَ بِمَا يَعْمَلُ فِيهِ مُتَّحِدْ
…
وَقْتًا وَفَاعِلًا وَإِنْ شَرْطٌ فُقِدْ
فَاجْرُرْهُ بِالْحَرْفَ وَلَيْسَ يَمْتَنِعْ
…
مَعَ الشُرُوطِ كَـ "لِزُهْدٍ ذَا قَنِعْ"
و"الفُحش" بضمّ، فسكون: القبيح، وهو بمعنى الرواية الأخرى:"اتّقاء شرّه"، قال الفيّوميّ رحمه الله: فَحُشَ الشيءُ فُحْشًا، مثلُ قَبُح قُبْحا، وزنًا ومعنًى، وفي لغة من باب قَتَل، وهو فَاحِشٌ، وكلّ شيء جاوز الحدّ، فهو فَاحِشٌ، ومنه غَبْنٌ فَاحِشٌ: إذا جاوزت الزيادة ما يُعتاد مثله، وأَفْحَشَ الرجلُ: أتى بِالفُحْشِ، وهو القول السّيّئ، وجاء بِالفَحْشَاءِ مثله، ورماه بِالفَاحِشَةِ، وجَمْعها فَوَاحِشُ، وأفحش بالألف أيضًا: بَخِلَ، وقوله تعالى:{إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} [النساء: 19] قيل: معناه إلا أن يَزْنِين، فَيُخْرَجن للحدّ، وقيل: إلا أن يرتكبن الفاحشة بالخروج بغير إذن. انتهى
(3)
.
(1)
"المفهم" 6/ 573 - 574.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 653.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 463.
وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر ذِكْر الفُحْش، والفاحِشة، والفواحش في الحديث، وهو كل ما يَشْتدّ قُبْحه من الذنوب، والمعاصي، وكثيرًا ما تَرِدُ الفاحِشة بمعنى الزّنا، وكل خَصْلة قبيحة فهي فاحِشة، من الأقوال، والأفعال، ومنه الحديث: قال لعائشة: لا تقَولِي ذلك، فإن الله لا يُحِبّ الفُحْش، ولا التفَاحُش، أراد بالفُحْش: التَّعَدّي في القَول والجواب، لا الفحشَ الذي هو من قَذَع الكلام، ورَدِيئه، والتَّفَاحُش: تَفَاعُل منه، وقد يكون الفُحْش بمعنى الزيادة والكَثْرة، ومنه قول بعضهم، وقد سُئل عن دَمِ البراغِيث، فقال: إن لم يكن فاحشًا فلا بأس. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "اتّقاء شرّه"؛ أي: قُبح كلامه؛ لأن الرجل المذكور كان من جُفاة الأعراب.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام الشرّاح أن المعنيّ بمن تركه الناس اتّقاء فحشه: هو الرجل الداخل الذي قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بئس أخو العشيرة"، وقال القاري بعد أن ذكر المعنى الأول: وقيل: المعنى إنما ألنت له القول؛ لأني لو قلت له في حضوره ما قلته في غيبته لتركني اتّقاء فُحْشي، فأكون أشرّ الناس. انتهى
(2)
.
قال الجامع: وهذا المعنى الثاني عندي هو الأقرب، والأظهر، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ: في هذا الحديث إشارة إلى أن عيينة المذكور خُتم له بسوء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم اتقى فُحشه، وشَرّه، وأخبر أن من يكون كذلك يكون شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة.
وتعقّبه الحافظ - وأجاد في ذلك - فقال: ولا يخفى ضَعف هذا الاستدلال، فإن الحديث ورد بلفظ العموم، فمن اتصف بالصفة المذكورة فهو الذي يتوجه عليه الوعيد، وشَرْط ذلك أن يموت على ذلك، ومن أين له أن عيينة مات على ذلك؟ واللفظ المذكور يَحْتَمِل لأن يقيّد بتلك الحالة التي قيل فيها ذلك، وما المانع أن يكون تاب وأناب؟ وقد كان عيينة ارتدّ في زمن
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 3/ 790.
(2)
"المرقاة" 8/ 574.
أبي بكر رضي الله عنه، وحارب، ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله عنه، وله مع عمر قصةٌ
(1)
، وفيها ما يدلّ على جفائه.
والحديث الذي فيه أنه "أحمق مطاع" أخرجه سعيد بن منصور، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعيّ قال:"جاء عيينة بن حصن إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنده عائشة، فقال: من هذه؟ قال: أم المؤمنين، قال: ألا أنزل لك عن أجمل منها؟ فغضبت عائشة، وقالت: من هذا؟ قال: هذا أحمق مطاع"
(2)
.
ووصله الطبرانيّ من حديث جرير، وزاد فيه:"اخرج، فاستأذن، قال: إنها يمين عليّ أن لا أستأذن على مضريّ"، وعلى تقدير أن يُسَلَّم له ذلك، وللقاضي قبله في عيينة، لا يُسَلَّم له ذلك في مخرمة بن نوفل. انتهى
(3)
.
(1)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ في "التفسير"، فقال:
(4366)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِم عيينة بن حِصن بن حُذيفة، فنزل على ابن أخيه الْحُرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر، ومشاورته، كهولًا كانوا، أو شُبّانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحرّ لعيينة، فأَذِن له عمر، فلما دخل عليه، قال: هِيْ يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر، حتى هَمّ به، فقال له الحرّ: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقّافًا عند كتاب الله. انتهى.
(2)
وقال أبو عمر بن عبد البرّ في "الاستيعاب" 3/ 1250: وفي غير هذه الرواية في هذا الخبر أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وأين الإذن؟ " فقال: ما استأذنت على أحد من مضر، وكانت عائشة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم جالسةً، فقال: من هذه الحميراء؟ فقال: "أم المؤمنين" قال: أفلا أنزل لك عن أجمل منها؟ فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: "هذا أحمق مطاع، وهو على ما تَرَيْن سيّد قومه". انتهى.
(3)
"الفتح" 13/ 582.
والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 6573 و 6574](2591)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6032 و 6054 و 6131)، و (أبو داود) في "الأدب"(4791)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1996)، و (عبد الرّزاق) في "مصنّفه"(20144)، و (الحميديّ) في "مسنده"(249)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 38)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4538)، و (الحاكم) في "معرفة علوم الحديث"(1/ 163)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 245)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3563)، و (الخطيب البغداديّ) في "الأسماء المبهمة"(ص 372) و"الكفاية"(ص 38 - 39)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان جواز مداراة من يُتَّقَى فحشه، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب المداراة مع الناس"، قال في "الفتح": المداراة بغير همز، وأصله الهمز؛ لأنه من الدرء، وهو المدافعة، والمراد به: الدفع برفق، وأشار البخاريّ بالترجمة إلى ما ورد فيه على غير شرطه، فقد ورد فيه حديث جابر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مداراة الناس صدقة"، أخرجه ابن عديّ، والطبرانيّ في "الأوسط"، وفي سنده يوسف بن محمد بن المنكدر ضعفوه، وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وأخرجه ابن أبي عاصم في "آداب الحكماء" بسند أحسن منه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه:"رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس"، أخرجه البزار بسند ضعيف. انتهى
(1)
.
قال ابن بطال رحمه الله: المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، ولِيْن الكلمة، وتَرْك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب
(1)
"الفتح" 13/ 702، كتاب "الأدب" رقم (6131).
الأُلفة، وظَنّ بعضهم أن المداراة هي المداهنة، فغَلِط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرّمة، والفرق أن المداهنة من الدِّهَان، وهو الذي يَظهر على الشيء، ويستر باطنه، وفسَّرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق، وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، وترك الإغلاظ عليه، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل، ولا سيما إذا احتيج إلى تألّفه، ونحو ذلك. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان جواز غيبة الفاسق المعلن بفسقه، ومن يحتاج الناس إلى التحذير منه، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها المذكور في الباب مستدلًا على الترجمة، قال في "الفتح": وقد نوزع في كون ما وقع من ذلك غيبةً، وإنما هو نصيحةٌ؛ لِيَحْذَر السامع، وإنما لم يواجه المقول فيه بذلك؛ لِحُسْن خُلُقه صلى الله عليه وسلم، ولو واجه المقول فيه بذلك، لكان حسنًا، ولكن حصل القصد بدون مواجهة، والجواب أن المراد أن صورة الغيبة موجودة فيه، وان لم يتناول الغيبة المذمومة شرعًا، وغايته أن تعريف الغيبة المذكور أوّلًا هو اللغويّ، وإذا استُثني منه ما ذُكر كان ذلك تعريفها الشرعيّ. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": هذا الحديث أصل في المداراة، وفي جواز غيبة أهل الكفر، والفسق، والظلمة، وأهل الفساد. انتهى.
وقال في "الفتح": ويُستنبط منه أن المجاهر بالفسق والشرّ، لا يكون ما يُذكر عنه من ذلك من ورائه من الغيبة المذمومة، قال العلماء: تباح الغيبة في كل غَرَض صحيح شرعًا، حيث يتعيّن طريقًا إلى الوصول إليه بها؛ كالتظلم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتحذير من الشرّ، ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود، وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده، وجواب الاستشارة في نكاح، أو عَقْد من العقود، وكذا من رأى
(1)
"شرح البخاريّ" لابن بطّال 9/ 305.
(2)
"الفتح" 13/ 609.
متفقهًا يتردد إلى مبتدع، أو فاسق، ويخاف عليه الاقتداء به، وممن تجوز غِيبتهم من يتجاهر بالفسق، أو الظلم، أو البدعة. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله الخطابيّ رحمه الله: جَمَع هذا الحديث علمًا وأدبًا، وليس في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور التي يسميهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه أن يبيّن ذلك، ويفصح به، ويعرّف الناس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة، والشفقة على الأمة، ولكنه لِمَا جُبل عليه من الكرم، وأُعطيه من حُسن الخُلُق، أظهر له البشاشة، ولم يجبهه بالمكروه؛ لتقتدي به أمته في اتقاء شرّ مَن هذا سبيله، وفي مداراته؛ لِيَسْلَموا من شرّه وغائلته.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وظاهر كلامه أن يكون هذا من جملة الخصائص، وليس كذلك، بل كلُّ من اطّلع من حال شخص على شيء، وخشي أن غيره يغترّ بجميل ظاهره، فيقع في محذورٍ مّا، فعليه أن يُطلعه على ما يحذر من ذلك؛ قاصدًا نصيحته، وإنما الذي يمكن أن يَختصّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُكشف له عن حال من يغترّ بشخص من غير أن يُطلعه المغترّ على حاله، فيذم الشخص بحضرته؛ ليتجنبه المغترّ؛ ليكون نصيحةً، بخلاف غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن جواز ذمّه للشخص يتوقف على تحقّق الأمر بالقول، أو الفعل، ممن يريد نُصحه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: في الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو الفحش، ونحو ذلك من الجور في الحكم، والدعاء إلى البدعة، مع جواز مداراتهم اتقاء شرّهم، ما لم يؤدّ ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، ثم قال تبعًا لعياض: والفرق بين المدارة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا لصلاح الدنيا، أو الدين، أو هما معًا، وهي مباحة، وربما استُحِبّت، والمداهنة: تَرْك الدِّين لصلاح الدنيا، والنبيّ صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه حُسن عشرته، والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول، فلم يناقض قوله فيه فِعله، فإن قوله فيه قولٌ حقّ، وفِعله معه حسنُ عِشْرة، فيزول مع هذا التقرير الإشكال بحمد الله تعالى.
وقال عياض: لم يكن عُيينة - والله أعلم - حينئذ أسلم، فلم يكن القول
(1)
"الفتح" 13/ 610.
فيه غيبةً، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحًا، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيّن ذلك؛ لئلا يغترّ به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده أمور، تدلّ على ضَعف إيمانه، فيكون ما وصفه به النبيّ صلى الله عليه وسلم من جملة علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل، فعلى سبيل التألّف له، ذكره في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6574]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَاهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "بِئْسَ أَخُو الْقَوْمِ، وَابْنُ الْعَشِيرَةِ
(2)
").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل خمسة أبواب، غير "عبد بن حميد" فتقدّم قبل ثلاثة عشر بابًا.
[تنبيه]: رواية معمر عن ابن المنكدر هذه ساقها عبد بن حميد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1511)
- أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن ابن المنكدر، عن عروة، عن عائشة، أتى رجل، فاستأذن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"بئس أخو القوم، وابن العشيرة هذا"، فلما دخل أقبل عليه بوجهه، وحدّثه، فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول الله، قلتَ فيه ما قلتَ، ثم أقبلت عليه بوجهك، وحديثك، فقال:"إن من شرّ الناس منزلةً عند الله يوم القيامة رجل اتّقاه الناس لشرّه - أو قال -: لِفُحشه"
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 580 - 581، كتاب "الأدب" رقم (6032).
(2)
وفي نسخة: "أو ابن العشيرة".
(3)
"مسند عبد بن حميد" 1/ 437.
(23) - (بَابُ فَضْلِ الرِّفْقِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6575]
(2592) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الإمام الناقد البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمِر، أبو عتّاب الكوفيّ الثبت الحجة، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(تَمِيمُ بْنُ سَلَمَةَ) السلميّ الكوفيّ، ثقةٌ [3](ت 100)(خت م د س ق) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1734.
6 -
(عَبْدُ الرُّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ)
(1)
الْعَبْسيّ - بالموحّدة - الكوفيّ، ثقةٌ [3](بخ م د س ق) تقدم في "الزكاة" 8/ 2298.
7 -
(جَرِيرُ) بن عبد الله بن جابر الْبَجَليّ الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من سفيان، والباقيان بصريّان، وأن شيخه أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وعلى من قال: إن منصورًا تابعيّ صغير،
(1)
وقع في نسخ "التقريب": "ابن أبي هلال"، وهو غلط، والصواب ما هنا:"ابن هلال"، فتنبّه.
ففيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وأن صحابيّه من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وفي "الصحيحين" عنه قال:"ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم"، وسمّاه عمر رضي الله عنه: يوسف الأمة؛ لجماله، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ) شرطيّة، أو موصولة مبتدأ، (يُحْرَمِ) بالبناء للمفعول، وجزمه، على الشرطيّة، ويَحْتَمِل الرفع على أن "من" موصولة، وقوله:(الرِّفْقَ) منصوب على أنه مفعول ثان، والرفق بكسر الراء، وسكون الفاء، بعدها قاف: هو لِيْن الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل، وهو ضد العُنْف، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القاري: الرفق بالكسر: ضدّ العُنف، وهو المداراة مع الرفقاء، ولِيْن الجانب، واللطف في أخذ الأمر بأحسن الوجوه، وأيسرها. انتهى
(2)
.
وقوله: (يُحْرَمِ الْخَيْرَ) بالجزم، لكنه مكسور لالتقاء الساكنين، وهو جواب "من" على أنها شرطيّة، وخبرها على أنها موصولة، والمعنى: أن من يَصِر محرومًا من الرفق يُحْرَم الخير كله، ففيه فضل الرفق والحث على التخلق به وذم العنف وإن الرفق سبب كل خير
(3)
.
وقال في "المبارق": "يُحرم" من الحرمان، وهو متعدّ إلى مفعولين، أحدهما الضمير النائب عن الفاعل، والثاني "الرفق" في الأول، و"الخير" في الثاني، واللام في "الرفق" للحقيقة، وهو ضدّ العنف؛ أي: من يُحرم الرفق صار محرومًا من الخير، واللام فيه للعهد الذهنيّ، وهو الخير الحاصل من الرفق. انتهى.
وقال القاضي: يدلّ أن الرفق خير كلّه، وسبب كلّ خير، وجالب كلّ نفع، وضدّه الخَرْق، والاستعجال، والعُنف، وهو مفسد للأعمال، وموجب
(1)
"الفتح" 10/ 449.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 373.
(3)
"الفتح" 10/ 449.
لسوء الأحوال، قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وقال القرطبيّ: معناه: من يُحرم الرفق يفضي به إلى أن يُحرم خير الدنيا والآخرة. انتهى، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6575 و 6576 و 6577](2592)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(463)، و (أبو داود) في "الأدب"(4809)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3687)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 510 و 511 و 512)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 366)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2454 و 2455)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(548)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 193)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6576]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ - يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ - كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لَهُمَا - قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عُمر الكوفيّ،
القاضي، ثقة فقيه، تغيَّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، وقبل خمسة أبواب، و"أبو سعيد الأشجّ" هو: عبد الله بن سعيد الكِنْديّ الكوفيّ، و"أبو كُريب" هو: محمد بن العلاء، و"إسحاق" هو: ابن راهويه، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: رواية وكيع عن الأعمش ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3687)
- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا وكيع، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال العبسيّ، عن جرير بن عبد الله البجليّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يُحْرَم الرفق يحرم الخير". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي معاوية عن الأعمش، فساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(2058)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يُحرم الرفق يُحرم الخير". انتهى
(2)
.
وأما رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:
(2452)
- حدّثنا الحسين بن إسحاق التستريّ، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من يُحرم الرفق، يُحرم الخير". انتهى
(3)
.
وأما رواية حفص بن غياث عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فلْيُنظَر، والله تعالى أعلم.
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1216.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 193.
(3)
"المعجم الكبير" 2/ 347.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6577]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حُرِمَ الرِّفْقَ حُرِمَ الْخَيْرَ، أَوْ مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقة [8] (ت 176) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ) راشد السلميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 142)(م د س) تقدم في "الزكاة" 8/ 2298.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَوْ مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"من حُرم" بصيغة الماضي، أو قال:"من يُحرَم" بصيغة المضارع، والشكّ من محمد بن أبي إسماعيل، أو مَن دونه.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبله.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6578]
(2593) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ - يَعْنِي: بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ، يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ) بن مسلم، أبو محمد المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حَيْوَةُ) بن شُريح بن صفوان التُّجيبي، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
4 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
5 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ حَزْمٍ) هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ النجاريّ - بالنون والجيم - المدنيّ القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يُكْنَى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.
6 -
(عَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سَعْد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، أكثرت عن عائشة رضي الله عنها، ثقةٌ [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّم في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين إلى حيوة، والباقون مدنيّون، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجر على البدليّة، (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ)؛ أي: لطيف بعباده، يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فيكلفَهم فوق طاقتهم، بل يسامحهم، ويلطف بهم، قيل: لا يجوز إطلاق الرفيق على الله تعالى اسمًا؛ لأن أسماءه تعالى إنما تثبت بالتواتر، ولم يُستعمل هنا على قصد التسمية، وإنما أخبر به عنه تمهيدًا للحكم الذي بعده، لكن قال النوويّ: الأصح جواز تسميته تعالى رفيقًا وغيره مما يثبت بخبر الواحد. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 504.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صححه النوويّ رحمه الله من جواز تسميته تعالى بما ثبت في خبر الآحاد هو الحقّ؛ فإن خبر الآحاد تثبت به الأحكام الشرعيّة، سواء كان في باب العقائد، أو العبادات، أو المعاملات، واشتراط كون الأخبار متواترة في باب العقائد مذهب الطوائف الزائغة، فتبصّر لذلك، فإنه من مزالّ الأقدام، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الله رفيق يحب الرفق"؛ أي: يأمر به، ويحضّ عليه، وقد تقدّم أن حبّ الله للطاعة شَرْعه لها، وترغيبه فيها، وحبّ الله لمن أحبه من عباده: إكرامه له.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم الردّ على القرطبيّ وغيره في تأويلهم صفة المحبّة بالإكرام ونحوه، فالحقّ أن صفة المحبّة ثابتة لله تعالى على ظاهرها، كما يليق بجلاله، فتنبه فإن هذا من مزالّ الأقدام، والله تعالى أعلم.
(يُحِبُّ الرِّفْقَ) بالكسر: لِيْن الجانب بالقول والفعل، والأخذ بأيسر الوجوه، وأحسنها؛ أي: يحب أن يَرْفُق بعضكم ببعض، وقال الباجيّ: يريد ما يحاوله الإنسان من أمر دينه، ودنياه
(1)
.
(وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ) في الدنيا من الثناء الجميل، ونيل المطالب، وتسهيل المقاصد، وفي العقبى من الثواب الجزيل، (مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ) بتثليث العين، وضمّها أشهر، وبسكون النون: الشدة، والمشقة، فكل ما في الرفق من الخير، ففي العنف من الشر مثله، ونبّه به على وطاءة الأخلاق، وحسن المعاملة، وكمال المجاملة، وفيه إيذان بأن الرفق أنجح الأسباب، وأنفعها بأسرارها، ووَصَفَ الله سبحانه وتعالى بالرفق إرشادًا وحَثًّا لنا على تحري الرفق في كل أمر
(2)
، وقوله:(وَمَا لَا يُعْطِي)؛ أي: ويُعطي الذي لا يعطيه (عَلَى مَا)؛ أي: على الخُلق الذي هو (سِوَاهُ")؛ أي: غير الرفق، ففيه تعميم بعد التخصيص، وقال القاري: قوله: "على ما سواه"؛ أي: سوى الرفق، وهو العنف، ففي الكلام زيادة مبالغة وتأكيد للحكم، والأظهر أن التقدير: ما سوى الرفق، من الخصال الحسنة.
(1)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 504.
(2)
"فيض القدير" 2/ 237.
وإنما ذكر قوله: "وما لا يعطي على ما سواه" بعد قوله: "ما لا يعطي على العنف"؛ ليدلّ على أن الرفق أنجح الأسباب كلها، وأنفعها بأسرها، قال الطيبيّ: وفي معناه قول الشاعر [من الكامل]:
يَا طَالِبَ الرِّزْقِ الْهَنِيِّ بِقُوَّةٍ
…
هَيْهَاتَ أَنْتَ بِبَاطِلٍ مَشْغُوفُ
أَكَلَ الْعُقَابُ بِقُوَّةٍ جِيَفَ الْفَلَا
…
وَرَعَى الذُّبَابُ الشَّهْدَ وَهْوَ ضَعِيفُ
والمعنى: ينبغي للمرء أن لا يحرص في رزقه، بل يَكِل أمره إلى الله تعالى الذي تولى القسمة في خَلْقه، فالنَّسْر يأكل الجيفة بعنفه، والنحل يرعى العسل برفقه.
قال التوربشتيّ: فإن قيل: فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت رفيق، والله الطبيب"
(1)
؟.
قلنا: الطيب الحاذق بالشيء الموصوف، ولم يُرد بهذا القول نفي هذا الاسم عمن يتعاطى ذلك، وإنما حوّل المعنى من الطبيعة إلى الشريعة، وبيّن لهم أن الذي يرجون من الطبيب فالله فاعله، والمنّان به على عباده، وهذا كقوله:"فإن الله هو الدهر"، وليس الطبيب بموجود في أسماء الله سبحانه، ولا الرفيق، فلا يجوز أن يقال في الدعاء: يا طبيب، ولا يا رفيق. انتهى.
وفيه إيماء إلى أنه يجوز أن يقال: هو الطبيب، وهو رفيق على منوال ما ورد، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه عند خروجه من الدنيا:"الرفيق الأعلى" فيَحْتَمِل أن يراد به الله، وأن يراد به الملأ الأعلى، فمع الاحتمال لا يصحّ الاستدلال. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن ما ثبت في الحديث الصحيح من
(1)
أشار به إلى ما أخرجه الحميديّ في "مسنده" 2/ 382 بسند جيّد عن إياد بن لقيط، عن أبي رِمْثة السلميّ قال: دخلت مع أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أبي الذي بظهره، فقال: دعني أُعالج الذي بظهرك، فإني طبيب، فقال:"إنك رفيق، والله الطبيب. . ." الحديث.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 797 - 798.
تسمية الله تعالى به، جائز الاستعمال، مثل قوله:"رفيق" فنفي التوربشتي الجواز غير مقبول، فتبصّر بالإنصاف.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "ما لا يعطي على العنف" العنف بضم العين، وفتحها، وكسرها، حكاهن القاضي وغيره، والضم أفصح، وأشهر، وهو ضد الرفق، ومعنى "يعطي على الرفق"؛ أي: يثيب عليه ما لا يثيب على غيره، وقال القاضي: معناه: يتأتى به من الأغراض، ويسهل من المطالب ما لا يتأتى بغيره.
وقال القاضي عياض في "المشارق": الرفق في صفات الله تعالى وأسمائه بمعنى اللطيف الذي في القرآن، والرفق واللطف: المبالغة في البرّ على أحسن وجوهه، وكذلك في كل شيء، والرفق في كل أمر: أخْذه بأحسن وجوهه، وأقربها، وهو ضد العنف. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف" معناه: أن الله تعالى يعطي عليه في الدنيا من الثناء الجميل، وفي الآخرة من الثواب الجزيل، ما لا يعطي على العنف الجائز، وبيان هذا بأن يكون أمرٌ مّا من الأمور سَوَّغ الشرع أن يُتوصّل إليه بالرفق، وبالعنف، فسلوك طريق الرّفق أَولى؛ لِمَا يحصل عليه من الثناء على فاعله بحُسن الخلق، ولِمَا يترتّب عليه من حُسن الأعمال، وكمال منفعتها، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"ما كان الرفق في شيء إلا زانه"، وضدّه الخرق، والاستعجال، وهو مفسد للأعمال، وموجب لسوء الأحدوثة، وهو المعبّر عنه بقوله:"ولا نُزِع من شيء إلا شانه"؛ أي: عابه، وكان له شينًا، وأما الخرق والعنف فمفوِّتان مصالح الدنيا، وقد يفضيان إلى تفويت ثواب الآخرة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"من يُحرم الرفق يُحرم الخير"؛ أي: يفضي ذلك به إلى أن يُحرم خير الدنيا والآخرة. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 296.
(2)
"المفهم" 6/ 578.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6578](2593)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(552)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 193)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 262)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3492)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(63/ 43)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الرفق، والحثّ على التخلق، وذمّ العنف، والرفق سبب كل خير.
وقال وليّ الدين رحمه الله: فيه الحثّ على الرفق، والصبر، والحلم، وملاطفة الناس ما لم تَدْع حاجة إلى المخاشنة.
2 -
(ومنها): بيان عظيم خُلُق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكمال حِلمه، وذلك أن سبب هذا الحديث أن قومًا من اليهود دخلوا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليك، فسمعت عائشة رضي الله عنها ذلك منهم، فقالت: بل عليكم السام، واللعنة، فقال:"يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله. . ." الحديث.
3 -
(ومنها): بيان تسمية الله عز وجل، ووَصْفه بالرفيق، قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقرّر في غير موضع: أن العلماء اختلفوا في أسماء الله تعالى، هل الأصل فيها التوقيف، فلا يسمّى إلا بما سمّى به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أو بإجماع عليه؟، أو الأصل جواز تسميته تعالى بكل اسمٍ حسنٍ، إلا أن يمنع منه مانع شرعيّ؟ الأول لأبي الحسن الأشعريّ، والثاني للقاضي أبي بكر، ومثار الخلاف: هل الألف واللام في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الآية [الأعراف: 180] للجنس، أو للعهد؟ ثم إذا تنزّلنا على رأي الشيخ أبي الحسن، هل نقتبس أسماءه تعالى من أخبار الآحاد، أو لا؟ اختَلَف المتأخرون من الأشعرية، في ذلك على قولين، والصحيح قبول أخبار الآحاد في ذلك؛ لأنَّ إطلاق الأسماء على الله تعالى حكم شرعيّ عمليّ، فيُكْتَفى فيه بخبر الواحد، والظواهر؛ كسائر الأحكام العملية.
فأما معنى الاسم، فإن شَهِد باتصاف الحقّ به قاطعٌ عقليّ، أو سمعيّ وجب قبوله، وعلمه، وإلا لم يَجِب.
ثم هل يُكتفى في كون الكلمة اسمًا من أسماء الله تعالى بوجودها في كلام الشارع من غير تكرار، ولا كثرة، أم لا بُدّ منهما؟ فيه رأيان، وقد سبق القول في ذلك. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ ثبوت الأسماء والصفات لله تعالى باخبار الآحاد، كما يأتي تحقيقه، فتبصّر، وبالله تعالى التوفيق.
وقال المازريّ: لا يوصف الله سبحانه وتعالى إلا بما سمى به نفسه، أو سمّاه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أجمعت الأمة عليه، وأما ما لم يَرِدْ إذن في إطلاقه، ولا وَرَدَ مَنْع في وصْف الله تعالى به، ففيه خلاف، منهم من قال: يبقى على ما كان قبل ورود الشرع، فلا يوصف بحِلّ، ولا حرمة، ومنهم من مَنَعه، قال: وللأصوليين المتأخرين خلاف في تسمية الله تعالى بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بخبر الآحاد، فقال بعض حُذّاق الأشعرية: يجوز؛ لأن خبر الواحد عنده يقتضي العمل، وهذا عنده من باب العمليات، لكنه يمنع إثبات أسمائه تعالى بالأقيسة الشرعية، وإن كانت يُعمل بها في المسائل الفقهية، وقال بعض متأخريهم: يُمنع ذلك، فمن أجاز ذلك فَهِمَ من مسالك الصحابة رضي الله عنهم قبولَهم ذلك في مثل هذا، ومن مَنَع، ولم يسلّم ذلك، ولم يثبت عنده إجماع فيه، فبقي على المنع، قال المازريّ: فإطلاق "رفيق" إن لم يثبت بغير هذا الحديث الآحاد جرى في جواز استعماله الخلاف الذي ذكرنا، قال: ويَحْتَمِل أن يكون "رفيق" صفة فعل، وهي ما يخلقه الله تعالى من الرفق لعباده. انتهى كلام المازريّ.
قال النوويّ بعد نقل كلام المازريّ هذا: والصحيح جواز تسمية الله تعالى رفيقًا وغيره مما ثبت بخبر الواحد، وقد قدمنا هذا واضحًا في "كتاب الإيمان" في حديث:"إنّ الله جميل يحب الجمال" في "باب تحريم الكبر"، وذَكَرنا أنه اختيار إمام الحرمين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي صححه النوويّ رحمه الله من ثبوت تسمية الله تعالى بخبر الواحد هو الحقّ الذي تؤيّده النصوص، وهذه المسألة قد استوفيت بحثها في "كتاب الإيمان" عند شرح حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
(1)
"المفهم" 6/ 576.
برقم [41/ 272](91): "إن الله جميل يحبّ الجمال. . ." الحديث
(1)
، وقلت: الحقّ جواز تسمية الله تعالى ووَصْفه بما ورد في أخبار الآحاد، مثل هذا الحديث، وأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مما يوجب العلم والعمل معًا، والقول بأنه لا يوجب العلم، واشتراط التواتر في باب العقائد قول باطلٌ، وإن كثر به القائلون من المتكلّمين، وممن سار على دربهم، وقد حقّقت ذلك في "التحفة المرضيّة" في الأصول، حيث قلت:
قَدْ أَجْمَعَ السَّلَفُ أَنْ يُحْتَجَّ فِي
…
بَابِ الْعَقَائِدِ بِهِ فَهْوَ يَفِي
كَبَابِ الأحْكَامِ لأَنَّ الْحُجَجَا
…
كِلَيْهِمَا تَعُمُّ خُذْهُ مَنْهَجَا
ثُمَّتَ رَدُّ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي
…
بَابِ الْعَقَائِدِ فَسَادُهُ وَفِي
إِذْ فِيهِ إِبْطَالُ أَحَادِيثَ تَصِحّْ
…
بِهَا الْعَقَائِدُ ثُبُوتُهَا يَضِحْ
وَأَجْمَعَ الصَّحْبُ الْكِرَامُ وَالتَّبَعْ
…
عَلَى قَبُولِهَا وَنِعْمَ الْمُتَّبَعْ
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْعَقَائِدِ
…
أَحْدَثَهُ أُولُو اتِّجَاهٍ فَاسِدِ
فَلَيْسَ يُعْرَفُ عَنِ الصَّحْبِ وَلَا
…
مَنْ بَعْدُ مِنْ ذَوِي الْعُلُوم الْفُضَلَا
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عَنْ رُؤُوسِ
…
أَهْلِ الْهَوَى وَالْمَذْهَبِ الْمَنْحُوسِ
وَهُوَ حُجَّةٌ لِكُلِّ بَابِ
…
مِنْ دُونِ فَرْقٍ لِذَوِي الأَلْبَابِ
لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا تَعُمُّ الْبَلْوَى
…
وَغَيْرِهِ لَدَى ثُبُوتِ الْفَتْوَى
وَبَيْنَ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ أَوْ
…
زَادَ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ قَدْ رَأَوْا
أَوْ خَالَفَ الْقِيَاسَ إِذْ أَدِلَّةُ
…
وُجُوبِ أَخْذِنَا سَوَاءٌ عَامَةُ
(2)
هَذَا الَّذِي مَضَى عَلَيْهِ مَنْ سَلَفْ
…
وَمَا عَنِ الْبَعْضِ أَتَى أَنْ قَدْ عَزَفْ
عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أُوِّلَ عَلَى
…
عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِهِ أَوْ وَصَلَا
عَنْ غَيْرِ مَوْثُوقٍ أَوِ الْمُعَارِضُ
…
قَامَ لَدَيْهِمُ فَعَنْهُ أَعْرَضُوا
ثُمَّ اعْلَمَنْ بِأَنَّ تَقْسِيمَ الْخَبَرْ
…
لِمُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ يَقَرّْ
فِيهِ اعْتِبَارَانِ صَحِيحٌ يُقْبَلُ
…
وَبَاطِلٌ يُرَدُّ أَنَّها الأَوَّلُ
تَقْسِيمُهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى كَمَا
…
سَبَقَ فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ عُلِمَا
(1)
راجع: "البحر المحيط" 3/ 102 - 118.
(2)
بتخفيف ميم "عامة" للوزن.
وَالثَّانِ تَقْسِيمُهُ
(1)
مِنْ حَيْثُ الْعَمَلْ
…
وَالاحْتِجَاجِ فَهْوَ تَقْسِيمٌ بَطَلْ
فَمَنْ يَقُلْ نَقْبَلُ مَا تَوَاتَرَا
…
لَا خَبَرَ الْوَاحِدِ عَمْدًا افْتَرَى
إِذِ الْقَبُولُ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ
…
لِكِلَي الْقِسْمَيْنِ دُونَ فَحْصِ
وَقَدْ جَرَى بِذَاكَ إِجْمَاعُ السَّلَفْ
…
وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ سِوَى مَنِ انْحَرَفْ
ثُمَّ الَّذِي بِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ
…
هُوَ الَّذِي صَحَّ وَإِلَّا فَاحْظُلِ
فَالاحْتِجَاجُ بِالضَّعِيفِ مُطْلَقَا
…
غَيْرُ مُسَوَّغٍ فَكُنْ مُحَقِّقَا
وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ مَا صَحَّ وَذَا
…
رَوَاهُ عَدْلٌ ضَابِطٌ يَا حَبَّذَا
مُتَّصِلُ الإِسْنَادِ دُونَ عِلَّةِ
…
فَذَا هُوَ الْحُجَّةُ دُونَ مِرْيَةِ
(2)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6579]
(2594) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْمِقْدَامِ - وَهُوَ ابْنُ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ - عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ الْعَنْبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بنُ الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(الْمِقْدَامُ بْنُ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئِ) الحارثيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.
5 -
(أَبُوهُ) شُريح بن هانئ بن يزيد الحارثيّ الصائديّ، أبو المقدام الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ قُتل مع ابن أبي بكرة بسجستان (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.
و"عائشة رضي الله عنها" ذُكرت قبله.
(1)
بترك الوصل للوزن.
(2)
راجع: "التحفة المرضيّة" ص 55 - 57.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، غير عائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه رواية الابن عن أبيه في موضعين، وفيه عائشة رضي الله عنها.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجر على البدليّة، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ) من الذوات، أو الأعراض، (إِلَّا زَانَهُ)؛ أي: جعل فيه الزَّين، وهو نقيض الشَّيْن، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يكون" يَحْتَمِل أن تكون تامّةً، و"في شيء" متعلق بها، وأن تكون ناقصة، و"في شيء" خبرها، فالاستثناء مُفَرَّغ من أعمّ وصْف الشيء؛ أي: لا يكون الرفق مستقرًّا في شيء يتّصف بوصف من الأوصاف، إلا بصفة الزينة، والشيء عامّ في الأعراض، والذوات. انتهى
(1)
.
وقد بيّن في الرواية التالية سبب قوله صلى الله عليه وسلم لها ذلك، فقال:"ركبت عائشة بعيرًا، فكانت فيه صعوبة، فجعلت تردّده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكِ بالرفق. . ." الحديث، وفي رواية البيهقيّ: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت على جَمَل، فجعلت تضربه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا عائشة عليك بالرفق، فإنه لم يكن في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه". (وَلَا يُنْزَعُ) بالبناء للمفعول؛ أي: لا يُفقَد، ولا يُعْدَم (مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ") من باب باع؛ أي: عابه، وتنقّصه، والشَّين خلاف الزَّيْن، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6579 و 6580](2594)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(469 و 475)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2478) و"الأدب"
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3230.
(2478 و 4808)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 112 و 125 و 171)، و (البزّار) في "مسنده"(1966)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(550)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 193) و"شُعب الإيمان"(6/ 336)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3493)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6580]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: رَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرًا، فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ، فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (رَكِبَتْ عَائِشَةُ بَعِيرًا) - بفتح الموحّدة، وقد تُكْسَر -: مِثلُ الإنسان، يقع على الذكر والأنثى، يقال: حلبتُ بَعِيرِي، والجَمَلُ بمنزلة الرَّجُل، يختصّ بالذكر، والنَّاقَةُ بمنزلة المرأة، تختص بالأنثى، والبَكْرُ، والبَكْرَةُ، مثل الفتى والفتاة، والقَلُوصُ كالجارية، قاله الفيّوميّ
(1)
.
وقوله: (فَكَانَتْ فِيهِ صُعُوبَةٌ)؛ أي: شدّة؛ يعني: أنه لا ينقاد لراكبه.
[تنبيه]: أخرج أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها هذا في "سننه" من طريق شريك، عن المقدام بن شُريح، عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة؟ فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِّلاع، وإنه أراد البداوة مرّةً، فأرسل إليّ ناقةً مُحَرَّمةً من إبل الصدقة، فقال لي:"يا عائشة ارفُقي، فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه، ولا نُزع من شيء قطّ إلا شانه"
(2)
.
قوله: "عن البداوة"؛ أي: الخروج إلى البدو، والمقام به، وفيه لغتان:
(1)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(2)
"سنن أبي داود" 3/ 3.
كَسْر الباء، وفَتْحها، قاله الخطابي. "يبدو"؛ أي: يخرج إلى البادية لحصول الخلوة وغيرها، "إلى هذه التلاع" بكسر التاء: مجاري الماء من أعلى الأرض إلى بطون الأودية، واحدتها تَلْعَة بفتح، فسكون، وقيل: هو من الأضداد، يقع على ما انحدر من الأرض، وما ارتفع منها. "ناقة مُحَرَّمة" بفتح الراء، من التحريم، قال الخطابيّ: الناقة المُحَرَّمة: التي لم تُركب، ولم تُذَلّل، فهي غير وطئة. "ارفقي"؛ أي: لا تصعُبي على الناقة
(1)
.
وقوله: (فَجَعَلَتْ تُرَدِّدُهُ)؛ أي: تُزعجه، وتحرّكه، وفي رواية البيهقيّ:"فجعلت تضربه".
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(25425)
- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، قال: سمعت المقدام بن شُريح بن هانئ، يحدّث عن أبيه، عن عائشة، قال: ركبت عائشة بعيرًا، وكان منه صعوبة، فجَعَلت ترَدِّده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكِ بالرفق، فإنه لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه". انتهى
(2)
.
(24) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ لَعْنِ الدَّوَابِّ، وَغَيْرِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6581]
(2595) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ، فَضَجِرَتْ، فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ
(1)
"عون المعبود" 7/ 112.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 171.
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"خذُوا مَا عَلَيْهَا، وَدَعُوهَا، فَإنَّهَا مَلْعُونَةٌ"، قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ، مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بِشْر البصريّ المعروف بابن عُلَيّة، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن ثلاث وثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
3 -
(أَبُو قِلَابَةَ) عبد الله بن زيد بن عَمْرو، أو عامر الْجَرْميّ البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، قال العجليّ: فيه نَصْبٌ يسير [3] مات بالشام هاربًا من القضاء سنة (104)(ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
4 -
(أَبُو الْمُهَلَّبِ) الْجَرْميّ البصريّ، عم أبي قِلابة، اسمه عمرو، أو عبد الرحمن بن معاوية، أو ابن عمرو، وقيل: النضر، وقيل: معاوية، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1296.
5 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجَيد - بنون، وجيم، مصغّرًا - الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصَحِب، وكان فاضلًا، وقَضَى بالكوفة، مات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفناه غير مرّة، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني بغداديّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قِلابة، عن أبي الْمُهلّب، ورواية الأولين من رواية الأقران.
شرح الحديث:
(عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف السَّفرة، ولا المرأة. انتهى
(1)
. (وَامْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ) هي الأنثى من الإبل، قال أبو عبيدة: ولا تُسمى ناقةً حتى تُجذِعَ، والجمع: أينُقٌ بالقلب المكانيّ، ونوقٌ، ونِياق
(2)
. (فَضَجِرَتْ) بفتح الضاد المعجمة، وكسر الجيم، يقال: ضَجِر منه، وبه؛ كفَرِحَ، وتضجّر: تبرّم، فهو ضَجِرٌ، قاله المجد رحمه الله
(3)
. (فَلَعَنَتْهَا) وفي حديث أبي بَرْزة الأسلميّ الآتي: "قال: بينما جارية على ناقة، عليها بعض متاع القوم، إذ بَصُرت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتضايق بهم الجبل، فقالت: حَلْ، اللَّهُمَّ العنها"، (فسَمِعَ ذَلِكَ)؛ أي: لَعْن المرأة للناقة، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("خُذُوا مَا عَلَيْهَا) من المتاع، والمرأة، (وَدَعُوهَا)؛ أي: اتركوها تمشي بلا حَمْل شيء عليها، وفي الرواية التالية:"فقال: خذوا ما عليها، وأعْرُوها"، وفي رواية أبي داود:"ضعوا عنها"؛ أي: ضَعُوا رحالها، وأعروها؛ لئلا تُركَب، وزعم بعض أهل العلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أمَرَهم بذلك فيها؛ لأنه قد استُجيب لها الدعاء عليها باللعن، واستَدَلّ على ذلك بقوله:"فإنها ملعونة"، وقد يَحْتَمِل أن يكون إنما فَعَل عقوبة لصاحبتها؛ لئلا تعود إلى مثل قولها. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه هذا الاحتمال الأخير هو الصواب؛ والأول لا دليل عليه، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
قال ابن الأثير رحمه الله: قيل: إنما فَعَل صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه استجيب دعاؤها فيها، وقيل: فَعَله عقوبةً لصاحبتها؛ لئلا تعود إلى مثلها، وليَعْتَبِر بها غيرها، وأصل اللعن: الطردُ والإبعاد من الله، ومن الخَلْق: السبّ والدعاء. انتهى
(5)
.
(فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ")؛ أي: لكونها ملعونةً، فلا ينبغي الحمل، ولا الركوب عليه، وهذا معاقبة لصاحبتها. (قَالَ عِمْرَانُ) بن حُصين رضي الله عنهما (فَكَأَنِّي أَرَاهَا الآنَ)؛
(1)
"تنبيه المعلم" ص 431.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 2/ 631.
(3)
"القاموس المحيط" ص 770.
(4)
"عون المعبود" 7/ 165.
(5)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 255.
أي: أستحضر في الوقت الحاضر ما وقع في تلك الساعة من أنَّها أُخذ ما عليها، فكانت (تَمْشِي فِي النَّاسِ)؛ أي: بينهم، (مَا) نافية، (يَعْرِضُ) بفتح أوله، وكَسْر ثالثه، من باب ضرب؛ أي: ما يتعرّض (لَهَا أَحَدٌ) بالحمل، ولا بالركوب؛ لِعِلْمهم بأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6581 و 6582](2595)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2561)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 252)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 429 و 431)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 265)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 286)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5740 و 5741)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 189 و 190 و 200)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 110)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 254)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(38/ 39)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الزجر عن لعن شيء من الدوابّ وغيرها، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم علة المنع بأنه مخافة أن يوافق ساعة الإجابة، فيستجاب الدعاء، فيتضرّر بذلك صاحبه، فقد أخرج مسلم من حديث جابر رضي الله عنه الطويل الآتي أواخر الكتاب، قال: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بُواط، وهو يطلب الْمَجْديّ بن عمرو الْجُهنيّ، وكان الناضح يعقبه منا الخمسة، والستة، والسبعة، فدارت عقبة رجل من الأنصار على ناضح له، فأناخه، فركبه، ثم بعثه، فتَلَدّن عليه بعض التلَدُّن، فقال له: شَأْ لَعَنَك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من هذا اللاعن بعيره؟ " قال: أنا يا رسول الله، قال:"انزِلْ عنه، فلا تصحبنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءٌ، فيستجيبَ لكم".
2 -
(ومنها): أنه يُستفاد من الحديث جواز العقوبة في المال لمن جنى فيه بما يناسب ذلك، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا لهذه المرأة زجرًا لها، ولغيرها، وكان قد سَبَق نهيها، ونهيُ غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة، والمراد: النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق، وأما بيعها، وذَبْحها، وركوبها في غير مصاحبته صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من التصرفات التي كانت جائزة قبل هذا، فهي باقية على الجواز؛ لأن الشرع إنما ورد بالنهي عن المصاحبة، فبقي الباقي كما كان. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: حَمَل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنها ملعونة" على ظاهره، فقال: أطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على أن هذه الناقة قد لَعَنها الله تعالى، وقد استُجيب لصاحبتها فيها، فإن أراد هذا القائل أن الله تعالى لعن هذه الناقة كما يلعن من استحقّ اللعنة من المكلّفين كان ذلك باطلًا؛ إذ الناقة ليست بمكلّفة، وأيضًا فإنَّ الناقة لم يصدُر منها ما يوجب لَعْنها، وإن أراد أن هذه اللعنة إنما هي عبارة عن إبعاد هذه الناقة عن مالكتها، وعن استخدامها إياها، فتلك اللعنة إنما ترجع لصاحبتها؛ إذ قد حيل بينها وبين مالها، ومُنعت الانتفاع بها، لا للناقة؛ لأنها قد استراحت من ثِقَل الحَمْل، وكَدّ السير.
فإنْ قيل: فلعلَّ معنى لعنة الله الناقة: أن تُترك، وأن لا يتعرّض لها أحد.
فالجواب: أن معنى تَرْك الناس لها إنما هو أنهم لم يؤووها إلى رحالهم، ولا استعملوها في حَمْل أثقالهم، فأمَّا أن يتركوها في غير مَرْعَى، ومن غير عَلَف حتى تَهْلِك، فليس في الحديث ما يدلّ عليه.
ثم هو مخالف لقاعدة الشرع في الأمر بالرفق بالبهائم، والنهي عن تعذيبها، وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم تأديبًا لصاحبتها، وعقوبةً لها فيما دَعَت عليها بما دَعَت به. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وممن ذهب إلى أن سبب قوله صلى الله عليه وسلم: "وَدَعُوها،
(1)
"المفهم" 6/ 581.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 147 - 148.
(3)
"المفهم" 6/ 580 - 581.
فإنها ملعونة" استجابة دعاء المرأة على تلك الناقة ابن حبّان في "صحيحه"، فإنه قال: أمْر المصطفى صلى الله عليه وسلم بتسييب الراحلة التي لُعنت أمْر أُضمر فيه سببه، وهو حقيقة استجابة الدعاء للّاعن، فمتى عُلم استجابة الدعاء من لاعنٍ مّا راحلةً له، أمرناه بتسييبها، ولا سبيل إلى علم هذا؛ لانقطاع الوحي، فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبدًا، ثم استدلّ على ذلك بحديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه المذكور هنا بعد هذا
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي أن سبب أمْره صلى الله عليه وسلم بتسييب تلك الناقة هو تأديب صاحبتها، ومعاقبتها عليها، كما ذهب إليه النوويّ، والقرطبيّ، وغيرهما، وليس حديث أبي برزة رضي الله عنه نصًّا فيما قاله ابن حبّان، فما قالوه أَولى، وأقرب مما قاله، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6582]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الثَّقَفِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوبَ، بِإِسْنَادِ إِسْمَاعِيلَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ حَمَّادٍ: قَالَ عِمْرَانُ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا نَاقَةً وَرْقَاءَ، وَفِي حَدِيثِ الثَّقَفِيِّ: فَقَالَ: "خُذُوا مَا عَلَيْهَا، وَأَعْرُوهَا، فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود الزهرانيّ العتكيّ، تقدَّم قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8](ت 194) عن نحوٍ من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
(1)
"صحيح ابن حبان" 13/ 53.
و"أيوب السختيانيّ" ذُكر قبله.
وقوله: (فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا)؛ أي: إلى تلك الناقة، (نَاقَةً) منصوب على الحاليّة، (وَرْقَاءَ) قال النوويّ: بالمدّ؛ أي: يخالط بياضها سواد، والذَّكر أورق، وقيل: هي التي لونها كلون الرماد. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَأَعْرُوهَا) - بقطع الهمزة، وبضمّ الراء - يقال: أعريته، وعَرَّيته إعراءً، وتعريةً، فتعرّي، والمراد هنا: خُذوا ما عليها من المتاع، ورَحْلها، وآلتها
(2)
.
[تنبيه]: رواية حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:
(2561)
- حدّثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الْمُهَلَّب، عن عمران بن حُصين، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فسمع لعنةً، فقال:"ما هذه؟ " قالوا: هذه فلانة لعنت راحلتها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ضَعُوا عنها، فإنها ملعونة"، فوضعوا عنها، قال عمران: فكأني أنظر إليها ناقةً ورقاء. انتهى
(3)
.
وأما رواية عبد الوهّاب الثقفيّ عن أيوب، فقد ساقها البيهقيّ في "الكبرى"، فقال:
(10112)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنا الربيع بن سليمان، أنا الشافعيّ، أنا عبد الوهاب الثقفيّ (ح) وأخبرنا أبو عبد الله، أنا أبو الفضل بن إبراهيم، ثنا أحمد بن سلمة، ثنا إسحاق بن إبراهيم، أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ، ثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي الْمُهَلَّب، عن عمران بن حُصين، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وامرأة من الأنصار على ناقة لها، فضَجِرت، فَلَعَنَتْها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خُذوا عنها، وعَرُّوها، فإنها ملعونة". قال: فكان لا يأويها أحدٌ.
قال: ورواه حماد بن زيد، عن أيوب، قال في الحديث: "ضَعُوا عنها،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 148.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 148.
(3)
"سنن أبي داود" 3/ 26.
فإنها ملعونة"، فوضعوا عنها، قال عمران: كأني أنظر إليها ناقةً ورقاء. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6583]
(2596) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ - يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ - حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيةٌ عَلَى نَاقَةٍ، عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ، إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَتَضَايَقَ بِهِمُ الْجَبَلُ، فَقَالَتْ: حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَاحِبُنَا نَاقَةٌ، عَلَيْهَا لَعْنَةٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، نَزَل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مَلّ - بلام ثقيلة، والميم مثلّثة - ابن عَمرو النَّهْديّ - بفتح النون، وسكون الهاء - الكوفيّ، ثم البصريّ، مشهور بكنيته، مخضرم، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، في كبار [2]، مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنةً، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ) نَضْلة - بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة - ابن عُبيد الصحابيّ الشهير، مشهور بكنيته، أسلم قبل الفتح، وغزا سبع غزوات، ثم نزل البصرة، وغزا خُرَاسان، ومات بها بعد سنة خمس وستين، على الصحيح (ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1036.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 5/ 254.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بَرْزَةَ) نَضْلَة بن عُبيد (الأَسْلَمِيِّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، قاله في "اللباب"
(1)
. (قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيةٌ) تقدّم غير مرّة أن "بينما" هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، (عَلَى نَاقَةٍ)؛ أي: راكبة عليها. (عَلَيْهَا)؛ أي: على تلك الناقة (بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ)؛ أي: محمول عليها، (إِذْ) بكسر الهمزة، وسكون الذال المعجمة هي الفجائيّة يُتلقّى بها جواب "بينما"، وهو قوله:(بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بضمّ الصاد المهملة، وتُكسر، قال الفيّوميّ رحمه الله: بصُرت بالشيء بالضمّ، والكسر لغةٌ بَصَرًا، بفتحتين: علمتُ، فأنا بصير به، يتعدّى بالباء، في اللغة الفصحى، وقد يتعدّى بنفسه. انتهى
(2)
.
وقال المجد رحمه الله: وبَصُرَ به، ككَرُمَ، وفَرِحَ بَصَرًا، وَبَصَارَةً، ويُكْسَرُ؛ ككِتَابةٍ: صار مُبْصِرًا. انتهى
(3)
.
(وَتَضَايَقَ بِهِمُ الْجَبَلُ)؛ أي: ضاق بهم الطريق في الجبل، (فَقَالَتْ: حَلْ) بفتح الحاء المهملة، وسكون اللام، كلمة تُزجر بها الإبل، يقال: حَلْ حَلْ بسكون اللام، ويقال أيضًا: حَلٍ حَلٍ، بكسر اللام فيهما منوّنةً، وغير منوّنة، قاله القرطبيّ رحمه الله
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "حل" كلمة زجر للإبل، واستحثاث، يقال: حل حل بإسكان اللام فيهما، قال القاضي: ويقال أيضًا: حلٍ حلٍ بكسر اللام فيهما، بالتنوين، وبغير تنوين. انتهى
(5)
.
(اللَّهُمَّ الْعَنْهَا)؛ أي: أبْعِدها من رحمتك. (قَالَ) أبو برزة رضي الله عنه: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُصَاحِبُنَا) الظاهر أن "لا" نافية، والفعل مرفوع، على الإخبار، والمراد به النهي، ويَحْتَمِل أن تكون "لا" ناهية، والفعل مجزوم بها. (نَاقَةٌ، عَلَيْهَا لَعْنَةٌ")؛ أي: عليها الدعاء باللعنة، وتقدّم أن الأظهر أن يكون هذا من
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 58.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 50.
(3)
"القاموس المحيط" ص 110.
(4)
"المفهم" 6/ 581.
(5)
"شرح النوويّ" 16/ 148.
النبيّ صلى الله عليه وسلم على سبيل الزجر، والعقوبة للمرأة حيث اعتدت على ناقة تنتفع بها بالركوب والحمل، فدَعَتْ عليها باللعنة، فعاقبها بعدم ركوبها، والحَمْل عليها، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6583 و 6584](2596)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 421 و 423)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5743)، و (ابن أبي الدنيا) في "الصمت"(1/ 291)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 254) و"شُعب الإيمان"(4/ 297)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6584]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ (ح) وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ الْمُعْتَمِرِ:"لَا ايْمُ اللهِ لَا تُصَاحِبُنَا رَاحِلَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ مِنَ اللهِ"، أَوْ كَمَا قَالَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصّنعانيّ البصريّ، ثقة [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطُّفَيل، ثقةٌ من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليَشْكُريّ، أبو قُدَامة السرخسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
4 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم في الباب الماضي.
و"سليمان التيميّ" ذُكر قبله.
وقوله: (لَا ايْمُ اللهِ)"لا" نافية مؤكّدة بـ "لا" الثانية، و"ايم الله" قَسَم
معترِض بينهما، وهو مبتدأ وخبره محذوف؛ أي: ايم الله قَسَمي، وهمزته همزة وصل لا يجوز فيها القطع عند الأكثرين، والأصل فيه: يمين الله، ثم جُمع اليمين على أيمُن، ولمّا كثر استعماله في كلامهم خفّفوه بحذف النون، فقالوا: ايم الله، وفيه لغات، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": "وايم الله" بكسر الهمزة، وبفتحها، والميم مضمومة، وحَكَى الأخفش كسرها، مع كسر الهمزة، وهو اسم عند الجمهور، وحرف عند الزجاج، وهمزته همزة وَصْل عند الأكثر، وهمزة قَطْع عند الكوفيين، ومَن وافقهم؛ لأنه عندهم جَمْع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته، وفتح ميمه، قال ابن مالك: فلو كان جمعًا لم تُحذف همزته، واحتج بقول عروة بن الزبير، لمّا أُصيب بولده ورجله: ليمنك، لئن ابتَلَيتَ، لقد عافيت، قال: فلو كان جمعًا لم يُتصرف فيه بحذف بعضه، قال: وفيه اثنتا عشرة لغة جمعتها في بيتين، وهما [من البسيط]:
هَمْزَ ايْمُ أَيْمُنُ فَافْتَحِ اكْسِرْ أَوْ أَمُ قُلْ
…
أَوْ قُلْ مُ أَوْ مَنُ بِالتَّثْلِيثِ قَدْ شُكِّلَا
وَأَيْمُنُ اخْتِمْ بِهِ وَاللَّهِ كُلًّا أَضِفْ
…
إلَيْهِ فِي قَسَمٍ تَسْتَوْفِ مَا نُقِلَا
قال ابن أبي الفتح تلميذ ابن مالك: فاته أَمُ، بفتح الهمزة، وهَيمُ بالهاء بدل الهمزة، وقد حكاها القاسم بن أحمد المعلم الأندلسيّ في "شرح المفصل".
وقال غيره: أصله يمين الله، وُيجمع: أيمنًا، فيقال: وايمن الله، حكاه أبو عبيدة، وأنشد لزهير بن أبي سُلْمَى [من الوافر]:
فَتُجْمَعُ أَيْمُنٌ مِنَّا وَمِنْكُمْ
…
بِمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بِهَا الدِّمَاءُ
وقالوا عند القَسَم: وأيمن الله، ثم كَثُر، فحذفوا النون، كما حذفوها من لم يكن، فقالوا: لم يك، ثم حذفوا الياء، فقالوا: أمُ الله، ثم حذفوا الألف، فاقتصروا على الميم، مفتوحةً، ومضمومةً، ومكسورةً، وقالوا أيضًا: مُنُ الله، بكسر الميم، وضمّها، وأجازوا في "أيمن" فتح الميم، وضمّها، وكذا في "ايم"، ومنهم من وَصَل الأَلِف، وجعل الهمزة زائدة، أو مسهَّلة، وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 100.
وقال الجوهريّ: قالوا: ايم الله، وربما حذفوا الياء، فقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومةً، فقالوا: م الله، وربما كسروها؛ لأنها صارت حرفًا واحدًا، فشبّهوها بالباء، قالوا: وألِفها ألِف وَصْل عند أكثر النحويين، ولم يجئ ألِف وصل مفتوحة غيرها، وقد تدخل اللام للتأكيد، فيقال: لَيْمُن الله، قال الشاعر [من الطويل]:
فَقَالَ فَرِيقُ الْقَوْمِ لَمَّا نَشَدتُهُمْ نَعَمْ
…
وَفَرِيقٌ لَيْمُنُ اللَّهِ مَا نَدْرِي
وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلى أن ألِفها ألِف قطع، وإنما خُفّفت همزتها، وطُرحت في الوصل؛ لكثرة الاستعمال.
وحكى ابن التين عن الداوديّ قال: ايم الله معناه: اسم الله، أُبدل السين ياءً، وهو غلط فاحش؛ لأن السين لا تُبْدل ياء.
وذهب المبرّد إلى أنها عِوَض من واو القَسَم، وأن معنى قوله:"وايم الله": والله لأفعلنّ، ونُقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله، ومنه قول امرئ القيس:
فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا
…
وَلَوْ قَطعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
(1)
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان عن سليمان التيميّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، مقرونًا بيزيد بن هارون، فقال:
(19805)
- حدّثنا يحيى بن سعيد عن التيميّ ويزيد، قال: أنا التيميّ، عن أبي عثمان، عن أبي برزة - قال يزيد -: الأسلميّ، قال: كانت راحلةٌ، أو ناقةٌ، أو بعيرٌ، عليها متاع لقوم، فأخذوا بين جبلين، وعليها جارية، فتضايق بهم الطريق، فأبصرت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجعلت تقول: حَلْ حَلْ اللَّهُمَّ العنها، أو العنه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تصحبني ناقة، أو راحلة، أو بعير، عليها، أو عليه لعنةٌ من الله تبارك وتعالى". انتهى
(2)
.
وأما رواية المعتمر عن أبيه سليمان التيميّ، فلم أجد من ساقها، فلْيُنظَر، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 15/ 258 - 259.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 423.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6585]
(2597) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ - وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ - عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) تقدّم قريبًا.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) أبو أيوب المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل باب، وقبل ثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ)؛ رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ) - بفتح الصاد المهملة، وتشديد الدال المهملة - فَعِيل، من صيغ المبالغة، والتكثير، وهو الكثير الصدق، والتصديق، كما قد تقرّر في صفة أبي بكر رضي الله عنه. (أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا) - بفتح اللام، وتشديد العين المهملة - فَعّال من صيغ المبالغة والتكثير أيضًا، وهو الكثير اللّعن، وقد تقدَّم أن أصل اللعن: الطرد والإبعاد، وهو في الشرع: البُعد عن رحمة الله تعالى وثوابه إلى نار الله وعقابه، وأن لعن المؤمن كبيرة من الكبائر، إذ قد قال صلى الله عليه وسلم:"لعن المؤمن كقتله"، متّفقٌ عليه.
ومعنى هذا الحديث: أن من كان صادقًا في أقواله، وأفعاله، مصدِّقًا بمعنى اللعنة الشرعية، لم تكن كثرة اللعن من خُلُقه؛ لأنه إذا لَعَن من لا يستحق اللعنة الشرعية، فقد دعا عليه بأن يُبْعَد من رحمة الله، وجنّته، ويدخل في ناره، وسَخَطه، والإكثار من هذا يناقض أوصاف الصّدّيقين، فإنَّ من أعظم صفاتهم الشفقة، والرحمة للحيوان مطلقًا، وخصوصًا بني آدم، وخصوصًا المؤمن، فإنَّ المؤمنين كالجسد الواحد، وكالبنيان؛ كما تقدَّم، فكيف يليق أن يُدْعَى عليهم باللعنة التي معناها الهلاك، والخلود في نار الآخرة، فمن كَثُر منه اللعن، فقد سُلِب منصب الصدّيقيّة، ومن سُلِبه فقد سُلب منصب الشفاعة، والشهادة الأخرويّة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يكون اللعّانون شفعاء، ولا شُهداء يوم القيامة".
وإنما خصّ اللعّان بالذكر، ولم يقل: اللاعن؛ لأن الصدّيق قد يلعن من أمر الشرع بلَعْنه، وقد يقع منه اللعن فَلْتَةً، ونُدْرةً، ثم يتراجع، وذلك لا يخرجه عن الصدّيقيّة.
ولا يفهم مِن نِسبتنا الصدّيقيّة لغير أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه مساواة غيره له في صدّيقيّته، فإنَّ ذلك باطل بما قد عُلِم أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تقدَّم، لكن المؤمنون الذين ليسوا بلعّانين لهم حظٌّ من تلك الصدّيقيّة، ثم هم متفاوتون فيها على حسب ما قُسِم لهم منها
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6585 و 6586](2597)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(317)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 337 و 365)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 52)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 193) و"شُعب الإيمان"(4/ 293)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان التحذير عن كثرة اللعن، وأنه ينافي صفة الإيمان، ولذا جاء في حديث الترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:"لا ينبغي للمؤمن أن يكون لَعّانًا"، وفي لفظ:"لا يكون المؤمن لَعّانًا"، قال الترمذيّ: حديث حسن، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا عند الترمذيّ أيضًا، وصححه ابن حبّان:"ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش".
2 -
(ومنها): بيان أن مرتبة الصدّيقين أرفع مراتب المؤمنين، حيث إنهم متّصفون بالرحمة، والشفقة على عباد الله، فلا يكونون لعّانين، ولا طعّانين، أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد"
(2)
، والبيهقيّ في "شُعب الإيمان"
(3)
عن
(1)
راجع: "المفهم" 6/ 579 - 580.
(2)
"الأدب المفرد" 1/ 118.
(3)
"شعب الإيمان" 4/ 294.
عائشة رضي الله عنها، أن أبا بكر لعن بعض رقيقه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا بكر اللعّانون، والصدّيقون، كلّا ورب الكعبة"، مرتين، أو ثلاثًا، فأعتق أبو بكر يومئذ بعض رقيقه، ثم جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أعود.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه الزجر عن اللعن، وأن من تخلَّق به لا يكون فيه هذه الصفات الجميلة؛ لأن اللعنة في الدعاء يراد بها الإبعاد من رحمة الله تعالى، وليس الدعاء بهذا من أخلاق المؤمنين الذين وصفهم الله تعالى بالرحمة بينهم، والتعاون على البرّ والتقوى، وجعلهم كالبنيان، يَشُدّ بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد، وأن المؤمن يُحِب لأخيه ما يحبّ لنفسه، فمن دعا على أخيه المسلم باللعنة، وهي الإبعاد من رحمة الله تعالى، فهو من نهاية المقاطعة والتدابر، وهذا غاية ما يَوَدّه المسلم للكافر، ويدعو عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح "لعنُ المؤمن كقتله"؛ لأن القاتل يقطعه عن منافع الدنيا، وهذا يقطعه عن نعيم الآخرة، ورحمةِ الله تعالى، وقيل: معنى لعن المؤمن كقتله في الإثم، وهذا أظهر. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله أيضًا: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّانًا"، و"لا يكون اللعانون شفعاء" بصيغة التكثير، ولم يقل: لاعنًا، ولا اللاعنون؛ لأن هذا الذمّ في الحديث إنما هو لمن كَثُر منه اللعن، لا لمرّة ونحوها، ولأنه يخرج منه أيضًا اللعن المباح، وهو الذي ورد الشرع به، وهو: لعنة الله على الظالمين، لَعَن الله اليهود والنصارى، لعن الله الواصلة، والواشمة، وشارب الخمر، وآكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، والمصوِّرين، ومن انتمى إلى غير أبيه، وتولّى غير مواليه، وغَيَّر منار الأرض، وغيرهم مما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة. انتهى، والله تعالى أعلم
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6586]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 148 - 149.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 148 - 149.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ - بفتح القاف، والطاء - أبو الهيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيع، وله أفراد، من كبار [10] (ت 213) وقيل: بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.
و"العلاء" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6587]
(2598) - (حَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ، بَعَثَ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنَ اللَّيْلِ، فَدَعَا خَادِمَهُ، فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ، فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الحدثَانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليّ - بالضم - أبو عُمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ، ربما وَهِم [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(أُمُّ الدَّرْدَاءِ) زوج أبي الدرداء، اسمها هُجيمة، وقيل: جُهيمة الأوصابيّة الدمشقيّة، وهي الصغري، وأما الكبرى فاسمها خَيْرة، ولا رواية لها
في الكتب الستّة، والصغرى ثقةٌ، فقيهةٌ [3] ماتت سنة إحدى وثمانين (ع) تقدمت في "الصيام" 19/ 2630.
5 -
(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس الأنصاريّ، مختلَف في اسم أبيه، وأما هو فمشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقبٌ، الصحابيّ الجليل، أول مشاهده أُحُدٌ، وكان عابدًا، مات في أواخر خلافة عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعية، والمرأة عن زوجها، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وهو ممن اشتهر هو وزوجته بالكنية.
شرح الحديث:
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) العدويّ المدنيّ؛ (أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ) بن الحكم بن أبي العاص الأُمويّ، أبو الوليد المدنيّ، ثم الدمشقيّ، كان طالب عِلم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها، فتغيّر حاله، مُلِّك ثلاث عشرة سنةً استقلالًا، وقبلها منازِعًا لابن الزبير، تسع سنين، ومات سنة ست وثمانين في شوال، وقد جاوز الستين، وليست له رواية في الكتب الستة، وأخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد". (بَعَثَ)؛ أي: أرسل (إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ)، هجيمة، أو جهيمة الوصّابيّة، زوج أبي الدرداء، (بِأَنْجَادٍ مِنْ عِنْدِهِ) - بفتح الهمزة، وبعدها نون، ثم جيم - وهو جمع نَجَد - بفتح النون، والجيم - وهو متاع البيت الذي يُزَيِّنه، من فُرُش ونَمارق، وسُتور، وقاله الجوهريّ بإسكان الجيم، قال: وجَمْعه نُجُود، حكاه عن أبي عبيد، فهما لغتان، ووقع في رواية ابن ماهان:"بخادم" بالخاء المعجمة، والمشهور الأول، قاله النوويّ
(1)
.
(فَلَمَّا أَنْ) زائدة، (كَانَ ذَاتَ لَيْلَةٍ)؛ أي: ليلة من الليالي، فـ "ذات" مقحمة، (قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ) بن مروان (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي تبعيضيّة، (فَدَعَا خَادِمَهُ) لم يُعرف الخادم، (فَكَأَنَّهُ أَبْطَأَ)؛ أي: تأخّر مجيئه
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 149 - 150.
(عَلَيْهِ، فَلَعَنَهُ)؛ أي: دعا عليه بأن يكون ملعونًا؛ أي: مطرودًا من رحمة الله تعالى، (فَلَمَّا أَصْبَحَ)؛ أي: دخل عبد الملك في الصباح، (قَالَتْ لَهُ أُمُّ الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُكَ اللَّيْلَةَ) منصوب على الظرفيّة، (لَعَنْتَ خَادِمَكَ حِينَ دَعَوْتَهُ)؛ أي: وقت دعائك إياه، (فَقَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ) عويمر بن زيد بن قيس رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا) نافية، (يَكُونُ اللَّعَّانُونَ)؛ أي: المكثرون من اللعن (شُفَعَاءَ) معناه: لا يشفعون يوم القيامة حين يشفع المؤمنون في إخوانهم الذين استوجبوا النار، (وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") فيه ثلاثة أقوال:
أصحّها وأشهرها: لا يكونون شهداء يوم القيامة على الأمم بتبليغ رُسُلهم إليهم الرسالات.
والثاني: لا يكونون شهداء في الدنيا؛ أي: لا تُقبل شهادتهم بفسقهم.
والثالث: لا يُرزقون الشهادة، وهي القتل في سبيل الله تعالى، كذا قال النوويّ
(1)
.
وقال الحاكم الترمذيّ في "نوادره": لا يكون اللعانون شهداء؛ لِمَا عندهم من الإِحْنة، والعداوة، والْجَور، ولا يكونون شفعاء؛ لأن قلوبهم خالية من الرحمة. انتهى
(2)
.
وقال البغويّ في "شرح السُّنَّة": معناه: لا يكونون في الجملة التي تُستشهد يوم القيامة على الأمم التي كذّبت أنبياءها عليهم السلام؛ لأن من فضيلة هذه الأمة أنهم يشهدون للأنبياء عليهم السلام بالتبليغ إذا كذّبهم قومهم. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6587 و 6588 و 6589](2598)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 117)، و (أبو داود) في "الأدب"
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 149.
(2)
"نوادر الأصول في أحاديث الرسول" 1/ 364.
(3)
"شرح السُّنَّة" 13/ 135.
(4907)
، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(10/ 412)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 448)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 99)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 574)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(13/ 56)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 111)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 259)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 193)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3556)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(47/ 94 و 70/ 164)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6588]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَعَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول التيميّ، أبو عمر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
والباقون ذُكروا في الباب والبابين الماضيين.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ) الضمير لمعتمر بن سليمان، وعبد الرزّاق.
[تنبيه]: رواية معمر عن زيد بن أسلم ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(27569)
- حدّثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن زيد بن أسلم، قال: كان عبد الملك بن مروان يُرسل إلى أم الدرداء، فتبيت عند نسائه، ويسألها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: فقام ليلة، فدعا خادمةً، فأبطأت عليه، فلَعَنها، فقالت: لا تلعن؛ فإن أبا الدرداء حدّثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللعانين
لا يكونون يوم القيامة شهداء، ولا شفعاء". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6589]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَأَبِي حَازِمٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ، وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُعَاوِيةُ بْنُ هِشَامٍ) القصّار، أبو الحسن الكوفيّ، مولى بني أسد، ويقال له: معاوية بن أبي العباس، صدوقٌ، له أوهام، من صغار [9](ت 204)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 91/ 491.
2 -
(هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ) أبو عَبّاد، أو أبو سعيد المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام، ورُمي بالتشيع، من كبار [7](ت 160) أو قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 87/ 463.
3 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةُ عابدٌ [5] مات في خلافة المنصور (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
والباقون ذُكروا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، ومسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6590]
(2599) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - يَعْنِيَانِ الْفَزَارِيَّ - عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: "إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً").
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 448.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ) مروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ودمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يُدَلِّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ) اليَشْكُريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنين - بنونين، مصغرًا - الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
4 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"ابْنُ أَبِي عُمَرَ" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قِيلَ) لم يُعرف القائل، (يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ) بالهلاك (عَلَى الْمُشْرِكِينَ) المراد بهم بنو عامر، فقد أخرج الطبرانيّ في "المعجم الكبير"
(1)
عن كريز بن سامة، وقد كان وَفَد إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: قيل: يا رسول الله ادع على بني عامر، فقال:"إني لم أُبعث لعّانًا"
(2)
، وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"، ولفظه: عن كرز بن سامة، قال: وكان وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ اهد بني عامر، اللَّهُمَّ اهد بني عامر" ثلاثًا، وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ادع على بني عامر، فقال:
(1)
قال الهيثميّ رحمه الله: وفي سنده من لم أعرفهم.
(2)
"المعجم الكبير" 19/ 189.
"إني لم أُبعث لعّانًا"، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم عقد راية بني سليم حمراء. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ) بالبناء للمفعول، حال كوني (لَعَّانًا) قال القرطبيّ رحمه الله: كان هذا منه صلى الله عليه وسلم بعد دعائه على رعل، وذكوان، وعصيّة الذين قَتَلوا أصحابه ببئر معونة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم شهرًا يدعو عليهم، ويلعنهم في آخر كلِّ صلاة من الصلوات الخمس، يقنت بذلك، حتى نزل عليه جبريل؛ فقال:"إن الله تعالى لم يبعثك لعّانًا، ولا سبّابًا، وإنما بعثك رحمةً، ولم يبعثك عذابًا"، ثم أنزل الله تعالى:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} [آل عمران: 128] على ما أخرجه أبو داود في "مراسيله"
(2)
من حديث خالد بن أبي عمران، وفي "الصحيحين" ما يؤيّد ذلك، ويشهد بصحته. انتهى
(3)
.
(وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً") قال القرطبيّ رحمه الله: هذا كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]؛ أي: بالرسالة العامة، والإرشاد للهداية، والاجتهاد في التبليغ، والمبالغة في النصح، والحرص على إيمان الجميع، وبالصبر على جفائهم، وتَرْك الدعاء عليهم؛ إذ لو دعا عليهم لهلكوا، وهذه الرحمة يشترك فيها المؤمن والكافر، أما رحمته الخاصّة، فلمن هداه الله تعالى، ونوّر قلبه بالإيمان، وزيَّن جوارحه بالطاعة، كما قال تعالى:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فهذا هو المغمور برحمة الله تعالى، المعدود في زمرة الكائنين معه صلى الله عليه وسلم في مُستَقَرّ كرامته، جعلنا الله تعالى منهم، ولا حال بيننا وبينهم. انتهى
(4)
.
وقال في "المرقاة": قوله: "بُعثت رحمةً"؛ أي: للناس عامّة، وللمؤمنين خاصّة متخلقًا بوصف الرحمة، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، قال ابن الملك: أما للمؤمنين فظاهر، وأما للكافرين فلأن العذاب رُفع عنهم في الدنيا بسببه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَمَا
(1)
"الآحاد والمثاني" 3/ 125.
(2)
رواه أبو داود في "مراسيل" برقم (89)، والبيهقيّ 2/ 210.
(3)
"المفهم" 6/ 582.
(4)
"المفهم" 6/ 582 - 583.
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآية [الأنفال: 33]، وتعقّبه القاري، فقال: بل عذاب الاستئصال مرتفع عنهم ببركته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله؛ أي: إنما بُعثت لأقرّب الناس إلى الله تعالى، وإلى رحمته، ولم أُبعث لِأُبعدهم عنه، فاللعن منافٍ لحالي، فكيف ألعن؟ انتهى
(2)
.
ورَوَى البخاري في "تاريخه" عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "إنما بُعثت رحمةً، ولم أُبعث عذابًا".
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إني لَمْ أُبعث لعّانًا"؛ أي: مبالغًا في اللعن؛ أي: الإبعاد عن الرحمة، والمراد: نفي أصل الفعل على وزان: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ} [فصلت: 46]؛ كما يعني: لو كنت أدعو عليهم لبَعُدوا عن رحمة الله، ولَصرت قاطعًا عن الخير.
وقوله: "وإنما بُعثت رحمةً" لمن أراد الله إخراجه من الكفر إلى الإيمان، أو لأُقَرِّب الناس إلى الله تعالى، وإلى رحمته، لا لأُبعدهم عنها، فاللعن مناف لحالي، فكيف ألعن؟ قال المظهري: وفي هذا الحديث مباحث، منها: أن معنى قوله: "رحمة" بهدايته للمسلم، وتأخير العذاب عن نوع من الكفار، وهم أهل الذمة، ومن عداهم أُمر بقتلهم، وغَنْم ما لهم، وذا من أشدّ عذاب الدنيا، وَهَبْ أن امتناعه هذا من الدعاء عليهم من جهة العموم، فما المانع من جهة الخصوص؟ ومنها: أن طلب الدعاء عليهم لا ينحصر في اللعن، فما موقع الجواب بقوله:"لم أُبعث لعّانًا"؟ ومنها: أن لعن الكفار جائز، وقد لَعَن الله الكافرين، والظالمين، وفى "الصحيحين" أنه دعا على قريش. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 483.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3705.
(3)
"فيض القدير" 3/ 13.
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6590](2599)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(321)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 35)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يبعثه الله تعالى لعّانًا لعباده، وإنما بعثه رحمة لهم، فهو صلى الله عليه وسلم رحيم بعباده كلّهم، فهو كما قال الله عز وجل في تحقيق وصفه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128]، ولقد أجاد من قال، وأحسن في المقال:
رَحْمَةٌ كُلُّهُ وَحَزْمٌ وَعَزْمٌ
…
وَعِصْمَةٌ وَوَقَارٌ وَحَيَاءُ
2 -
(ومنها): ما قاله بعضهم: "وإنما أنا رحمة"؛ أي: ذو رحمة، أو مبالغ في الرحمة حتى كأني عَيْنها؛ لأن الرحمة ما يترتب عليه النفع ونحوه، وذاته كذلك، وإذا كانت ذاته رحمة، فصفاته التابعة لذاته كذلك، "مهداة" بضم الميم؛ أي: ما أنا إلا ذو رحمة للعالمين أهداها الله تعالى إليهم، فمن قَبِل هديته أفلح، ونجا، ومن أبى خاب، وخسر، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم هو الواسطة لكل خير دنيويّ، أو أخروي، فمن خالف فعذابه من نفسه؛ كعين انفجرت، فانتفع قوم، وأهمل قوم، فهي رحمة لهم كلّهم.
ولا يشكل على الحصر وقوع الغضب منه صلى الله عليه وسلم كثيرًا؛ لأن الغضب لم يُقْصَد مِن بَعْثه صلى الله عليه وسلم، بل القصد بالذات الرحمة، والغضب بالتبعية، بل في حكم العدم، فانحصر فيها مبالغة، أو المعنى: أنه رحمة على الكلّ، لا غضبٌ على الكلّ، أو أنه رحمة في الجملة، فلا ينافي الغضب في الجملة، أنه رحمة في الجملة، ويكفي في المطلب إثبات الرحمة. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن هذا الحديث بمعنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يُخبر تعالى أن الله جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين؛ أي: أرسله رحمة لهم كلهم، فمَن قَبِل هذه الرحمة، وشكر هذه النعمة سَعِد في الدنيا والآخرة، ومن ردّها، وجحدها خسر
(1)
"فيض القدير" 2/ 572.
الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)} [إبراهيم: 28، 29]، وقال تعالى في صفة القرآن:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]، ثم أورد حديث مسلم هذا، ثم قال: وفي الحديث الآخر: "إنما أنا رحمة مهداةٌ".
[فإن قيل]: فأيّ رحمة حصلت لمن كفر به صلى الله عليه وسلم؟.
[فالجواب]: ما رواه أبو جعفر بن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} قال: من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف، والقذف. انتهى كلام ابن كثير باختصار
(1)
.
(25) - (بَابٌ مَنْ لَعَنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ سَبَّهُ، أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هُوَ أَهْلًا لِذَلِكَ، كَانَ لَهُ زَكَاةً، وَأَجْرًا، وَرَحْمَةً)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6591]
(2600) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ، فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ، فَأَغْضَبَاهُ، فَلَعَنَهُمَا، وَسَبَّهُمَا، فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَصَابَ
(2)
مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا أَصَابَهُ هَذَانِ، قَالَ:"وَمَا ذَاكِ؟ "، قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا، وَسَبَبْتَهُمَا، قَالَ:"أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً، وَأَجْرًا").
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 202 - 203.
(2)
وفي نسخة: "لمن أصاب".
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح - بالتصغير - الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
2 -
(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، مُخَضْرمٌ ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.
والباقون ذُكروا في البابين السابقين، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي الضحي، عن مسروق، وفيه عائشة رضي الله عنها، تقدّم القول فيها.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ) لم يُعرفا
(1)
. (فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِي مَا هُوَ)؛ أي: لا أعلم الشيء الذي كلّماه به، (فَأَغْضَبَاهُ) بذلك الكلام (فَلَعَنَهُمَا)؛ أي: دعا عليهما باللعنة (وَسَبَّهُمَا)؛ أي: شتمهما، (فَلَمَّا خَرَجَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَصَابَ) وفي بعض النسخ:"لَمَن أصاب"(مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا مَا) نافية، (أَصَابَهُ هَذَانِ)؛ أي: لَمْ يصب هذان الرجلان من الخير شيئًا، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الكلام من السهل الممتنع، وذلك أن معناه: أن هذين الرجلين ما أصابا منك خيرًا، وإن كان غيرهما قد أصابه، لكن تنزيل هذا المعنى على أفراد ذلك الكلام فيه صعوبة، ووجه التنزيل يتبيّن بالإعراب، وهو أن اللام في "لمن" هي لام الابتداء، وهي متضمنة للقَسَم، و"مَنْ" موصولة في موضع رَفْع بالابتداء، وَصِلتها "أصاب"، وعائدها المضمَر في "أصاب"، وما بعدها متعلق به، وخبره محذوف، تقديره:
(1)
"تنبيه المعلم" ص 432.
والله لرجلٌ أصاب منك خيرًا: فائزٌ، أو ناجٍ، ثم نَفَت عن هذين الرجلين إصابةَ ذلك الخير بقولها:"ما أصابه هذان"، ولا يصح أن يكون ما أصابه خبرًا لـ "مَنْ" المبتدإِ؛ لخلوّه عن عائد يعود على نفس المبتدأ، وأما الضمير في "أصابه" فهو للخير، لا لـ "مَن"، فتأمله يصحّ لك ما قلناه، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو مفيد.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَمَا ذَاكِ؟ ")؛ أي: ما سبب قولك هذا؟ (قَالَتْ: قُلْتُ: لَعَنْتَهُمَا)؛ أي: الرجلين، (وَسَبَبْتَهُمَا)؛ أي: فما سبب ذلك؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي؟)؛ أي: ما اشترطته عليه فيما يصدر مني من اللعن، أو نحوه، ثم بيّن تلك المشارطة بقوله:(قُلْتُ: اللَّهُمَّ)؛ أي: يا الله (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ذَكَره تمهيدًا لِمَعْذرته فيما يندُر عنه - صلوات الله وسلامه عليه - يعني: فيصدر مني ما يصدر من البشر، فأغضب نادرًا في بعض الأحيان بحكم البشرية، (فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْهُ)؛ أي: ما ذُكر مِن اللعن، أو السبّ (لَهُ)؛ أي: لمن لعنتُه، أو سببتُه، (زَكَاةً)؛ أي: طهارةً له من الذنوب، ونماء وبركة في الأعمال، والأموال، (وَأَجْرًا")؛ أي: ثوابًا ترفع به درجاته، قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا أنه خافَ أن يصدر عنه صلى الله عليه وسلم في حال غضبه شيء من تلك الأمور، فيتعلق به حقّ مسلم، فدعا الله تعالى، ورَغِب إليه في أنه إن وقع منه شيء من ذلك لغير مستحقّ في أن لا يفعل بالمدعوّ عليه مقتضى ظاهر ذلك الدعاء، وأن يُعَوّضه من ذلك مغفرة لذنوبه، ورفعة في درجاته، فأجاب الله تعالى طَلِبَةَ نبيّه صلى الله عليه وسلم، ووعده بذلك، فلزم ذلك بوعده الصدق، وقولِهِ الحقّ، وعن هذا عبّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"شارطت ربي"، و"شرط عليّ ربي"، و"اتخذت عنده عهدًا لن يُخلفنيه" لا أن الله تعالى يُشتَرط عليه شرطٌ، ولا يجب عليه لأحد حقّ، بل ذلك كلّه بمقتضى فضْله، وكَرَمه، على حَسَب ما سبق في علمه.
[فإنْ قيل]: فكيف يجوز أن يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم لَعْنٌ، أو سبّ، أو جلدٌ لغير مستحقّه، وهو معصوم من مثل ذلك في الغضب، والرضا؛ لأنَّ كل ذلك
(1)
"المفهم" 6/ 583.
محرّم وكبيرة، والأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر، إما بدليل العقل، أو بدليل الإجماع، كما تقدَّم؟
[قلت]: قد أشكل هذا على العلماء، ورَامُوا التخلص من ذلك بأوجه متعددة، أوضحها وجه واحد، وهو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما يغضب لِمَا يرى من المغضوب عليه من مخالفة الشرع، فغَضَبُه لله تعالى، لا لنفسه، فإنَّه ما كان يغضب لنفسه، ولا ينتقم لها، وقد قرّرنا في الأصول أن الظاهر من غضبه صلى الله عليه وسلم تحريم الفعل المغضوب من أجله، وعلى هذا فيجوز له أن يؤدّب المخالِف له باللعن، والسبّ، والجلد، والدعاء عليه بالمكروه، وذلك بحسب مخالفة المخالِف، غير أن ذلك المخالف قد يكون ما صدر منه فلتة، أوْجبتها غفلة، أو غلبة نفس، أو شيطان، وله فيما بينه وبين الله تعالى عمل خالص، وحالٌ صادق، يدفع الله عنه بسبب ذلك أثر ما صدر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم له من ذلك القول، أو الفعل، وعن هذا عبّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة، ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا، وزكاةً، وقربةً تقرّبه بها يوم القيامة"؛ أي: عَوِّضه من تلك الدعوة بذلك، والله تعالى أعلم.
قلت
(1)
: وقد يدخل في قوله: "أيّما أحد من أمتي دعوت عليه" الدعوات الجارية على اللسان من غير قَصْد للوقوع؛ كقوله: "تربت يمينك"، و"عقرى، حلقى"، ومن هذا النوع قوله لليتيمة:"لا كَبِرَ سنّك"، فإنَّ هذه لم تكن عن غضب، وهذه عادات غالبة في العرب، يَصِلُون كلامهم بهذه الدعوات، ويجعلونها دِعَامًا لكلامهم، من غير قَصْد منهم لمعانيها، وقد قدمنا في "كتاب الطهارة" في هذا كلامًا للبديع، وهو من القول البديع، وبما ذكرناه يرتفع الإشكال، ويحصل الانفصال. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
القائل هو القرطبيّ رحمه الله.
(2)
"المفهم" 6/ 584 - 585.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6591 و 6592](2600)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(2/ 251)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 214 و 215)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 225)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 71)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 78)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 61)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بشر من بني آدم، فله صفات بني آدم، فيغضب كما يغضبون، ويأسف كما يأسفون، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من الوقوع في المعاصي، وإن وقع منه بعض ما يعاتَب عليه، فقد ينبّهه الله تعالى، فيرجع في الحال.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة، وشدّة الرحمة، فإذا حصل له شيء من الصفات التي لا يخلو البشر عنها، من الغضب على بعض الناس لسوء أدبه، فسبّه، أو لعنه، أو نحو ذلك، فإنّه دعا الله تعالى أن يجعل ذلك له زلفى إلى الله تعالى، وصلاة وزكاة، وهذا مصداق قوله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107].
وقال في "الفتح": وفي الحديث كمالُ شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وجميل خُلُقه، وكرم ذاته، حيث قَصَد مقابلة ما وقع منه بالجبر، والتكريم، وهذا كلّه في حقِّ معيَّن في زمنه واضح، وأما ما وقع منه بطريق التعميم لغير معيَّن، حتى يتناول من لم يُدرك زمنه صلى الله عليه وسلم، فما أظنه يشمله، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث مُبَيِّنة ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته، والاعتناء بمصالحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما ينفعهم، وهذه الرواية المذكورة آخرًا - يعني: رواية: "وليس لها بأهل" - تبيّن المراد بباقي
(1)
"الفتح" 14/ 398، كتاب "الدعوات" رقم (6361).
الروايات المطلقة، وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمةً، وكفارةً، وزكاةً، ونحو ذلك، إذا لم يكن أهلًا للدعاء عليه، والسبّ، واللعن، ونحوه، وكان مسلمًا، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وسلم على الكفار، والمنافقين، ولم يكن ذلك لهم رحمةً.
[فإن قيل]: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه، أو يسبه، أو يلعنه، ونحو ذلك؟.
[فالجواب]: ما أجاب به العلماء، ومختصره وجهان:
أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى، وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مستوجب له، فيظهر له صلى الله عليه وسلم استحقاقه لذلك بأمارة شرعية، ويكون في باطن الأمر ليس أهلًا لذلك، وهو صلى الله عليه وسلم مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
والثاني: أن ما وقع من سبّه، ودعائه، ونحوه، ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وَصْل كلامها بلا نيّة؛ كقوله:"تربت يمينك"، و"عقرَى، حلقَى"، وفي هذا الحديث "لا كَبِرت سنُّك"، وفي حديث معاوية:"لا أشبع الله بطنه"، ونحو ذلك، لا يقصدون بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وسلم أن يصادف شيء من ذلك ساعة إجابة، فسأل ربه سبحانه وتعالى، ورَغِب إليه في أن يجعل ذلك رحمةً، وكفارةً، وقربةً، وطَهورًا، وأجرًا، وإنما كان يقع هذا منه في النادر والشاذّ من الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وسلم فاحِشًا، ولا متفحشًا، ولا لعّانًا، ولا منتقمًا لنفسه، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا: ادع على دوس، فقال:"اللَّهُمَّ اهد دوسًا"، وقال:"اللَّهُمَّ اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون"، والله أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان فضل هذه الأمة المحمّديّة، حيث جعلها الله تعالى أمة لهذا النبيّ الكريم عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، فإذا حصل لها شيء من التقصير حصل لها منه صلى الله عليه وسلم فضل كبير، حيث يدعو عليها، فتكون تلك الدعوة لها قربةً إلى الله تعالى، بخلاف الأمم السابقة، فإنها إذا أساءت إلى أنبيائها دعوا عليها، فهلكت، اللَّهُمَّ لك الحمد على هذه النعماء، ولك الشكر على مزيد
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 151 - 153.
الآلاء، اللَّهُمَّ أوزعنا شكرك، وألهمنا ذِكرك، ولا تجعلنا من الغافلين، آمين.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6592]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، جَمِيعًا عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عِيسَى: فَخَلَوَا بِهِ، فَسَبَّهُمَا، وَلَعَنَهُمَا، وَأَخْرَجَهُمَا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مَرْوَ، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) - بمعجمتين، وزانُ جعفر - المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، كوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8](ت 187 أو 191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) ضمير التثنية لأبي معاوية، وعيسى بن يونس.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(13161)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، نا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلان، فأغلظ لهما، فقلت: يا رسول الله لَمَن أصاب منك خيرًا، ما أصاب منك هذان خيرًا، فقال:"وما عَلِمْتِ، ما عاهدت عليه ربي؟ " قلت:
وما عاهدت عليه ربك؟ قال: "قلت: اللَّهُمَّ أَيُّما مؤمن سببته، أو لعنته، فاجعلها له مغفرةً، وعافيةً". انتهى
(1)
.
وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فساقها ابن راهويه في "مسنده"، فقال:
(1461)
- أخبرنا عيسى بن يونس، نا الأعمش، عن مسلم بن صُبيح، عن مسروق، عن عائشة، قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فخَلَوَا به، فسبّهما، ولعنهما، فلما خرجا من عنده، قلت: يا رسول الله لَمَنْ أصاب منك خيرًا، ما أصاب منك هذان، فقال: يا عائشة، أوَ ما عَلِمتِ ما شارطت عليه ربي؟، إني قلت: اللَّهُمَّ إنما أنا بشر، فمن سببته، أو لعنته، فاجعلها له زكاةً، وأجرًا". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6593]
(2601) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً، وَرَحْمَةً").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الله بن نمير، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى الأعمش، والباقيان مدنيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 7/ 61.
(2)
"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 819.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) وفي رواية: "اللَّهُمَّ إني اتخذت عندك عهدًا، لن تُخلفنيه، فأيما مؤمن سببته، أو جلدته، فاجعل ذلك كفارةً له يوم القيامة"، وفي رواية:"اللَّهُمَّ إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سببته، أو لعنته، أو جلدته، فاجعله له زكاةً، ورحمة"، وفي رواية:"فأيّ المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاةً، وزكاةً، وقربةً تُقرّبه بها إليك يوم القيامة"، وفي رواية:"اللَّهُمَّ إنما محمد بشر، يغضب كما يغضب البشر، وإني قد اتخذت عندك عهدًا. . ." الحديث، وفيه:"فأيما مؤمن آذيته"، والباقي بمعناه بلفظ "أو"
(1)
.
(فَأَيُّمَا رَجُلٍ) وفي الرواية الآتية: "فأيّ المؤمنين"، والفاء جواب الشرط المحذوف؛ لدلالة السياق عليه؛ أي: إن كنت سببت، أو لعنت، أو جلدت، فأيما رجل .. . إلخ، وقوله:(مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بيان لـ "أيّما رجل"، (سَبَبْتُهُ، أَوْ لَعَنْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ زَكَاةً) منصوب على أنه مفعول ثان لـ "اجعل"؛ أي: طهارةً، وقيل: نُمُوًّا في الجَنَّة، وقيل: صلاحًا، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال في "المشارق": زكاةً؛ أي: تطهيرًا وكفارةً، كما قال تعالى:{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وكذلك قوله:"أنت خير من زكّاها"؛ أي: طهَّرها، وهو أحد معاني الزكاة للمال، أنه طُهْرته، وقيل: طُهرة صاحبه، وقيل: سبب نمائه، وزيادته، والزكاة: النماء، وقيل: تزكية صا حبه، ودليل إيمانه، وزكاتِهِ عند الله تعالى، وفي التشهد:"الزاكيات لله"؛ أي: الأعمال الصالحة لله. انتهى
(3)
.
(وَرَحْمَةً") بالنصب عطفًا على "زكاةً".
قال في "العمدة": قيل: إذا كان مستحقًّا للسبّ لم يكن قربة له.
وأجيب بأن المراد به: غير المستحقّ له، بدليل الروايات الأُخَر الدّالة عليه كذا قاله الكرمانيّ. انتهى
(4)
.
(1)
ملخّص من "الفتح" 14/ 397.
(2)
"عمدة القاري" 22/ 310.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 310.
(4)
"عمدة القاري" 22/ 310.
وقال المازريّ: إن قيل: كيف يدعو صلى الله عليه وسلم بدعوة على من ليس لها بأهل؟ قيل: المراد بقوله: "ليس لها بأهل" عندك في باطن أمره، لا على ما يظهر مما يقتضيه حاله، وجنايته حين دعائي عليه، فكأنه يقول: من كان باطن أمره عندك أنه ممن ترضى عنه، فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهر لي من مقتضى حاله حينئذ طَهورًا، وزكاةً، قال: وهذا معنى صحيح، لا إحالة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان متعبَّدًا بالظواهر، وحساب الناس في البواطن على الله تعالى. انتهى
(1)
.
قال الحافظ: وهذا مبنيّ على قول من قال: إنه كان يجتهد في الأحكام، ويحكم بما أدَّى إليه اجتهاده، وأما من قال: كان لا يحكم إلا بالوحي، فلا يتأتى منه هذا الجواب
(2)
.
ثم قال المازريّ
(3)
: فإن قيل: فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وأغضب كما يغضب البشر"؟ فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعت بحكم سَوْرة الغضب، لا أنها على مقتضى الشرع، فيعود السؤال.
فالجواب: أنه يَحْتَمِل أنه أراد أنّ دَعْوته عليه، أو سبّه، أو جَلْده، كان مما خُيِّر بين فعله له عقوبةً للجاني، أو تَرْكه والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى، بَعَثَه على لَعْنه، أو جَلْده، ولا يكون ذلك خارجًا عن شَرْعه.
قال: ويَحْتَمِل أن يكون ذلك خرج مخرج الإشفاق، وتعليم أمته الخوف من تعدّي حدود الله، فكأنه أظهر الإشفاق من أن يكون الغضب يحمله على زيادة في عقوبة الجاني، لولا الغضب ما وقعت، أو إشفاقًا من أن يكون الغضب يحمله على زيادة يسيرة في عقوبة الجاني، لولا الغضب ما زادت، ويكون من الصغائر على قول من يُجَوِّزها، أو يكون الزجر يحصل بدونها.
ويَحْتَمِل أن يكون اللعن، والسب، يقع منه من غير قَصْد إليه، فلا يكون في ذلك؛ كاللعنة الواقعة رغبة إلى الله، وطلبًا للاستجابة.
(1)
"إكمال المعلم" 3/ 168.
(2)
"الفتح" 14/ 398، كتاب "الدعوات" رقم (6361).
(3)
"إكمال المعلم" 3/ 168.
وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتمال الأخير، فقال: يَحْتَمِل أن يكون ما ذَكَره من سبّ ودعاء غير مقصود، ولا منويّ، لكن جرى على عادة العرب في دَعْم كلامها، وَصِلة خطابها عند الحرج، والتأكيد للعتب، لا على نية وقوع ذلك؛ كقولهم: عَقْرَى، حَلْقَى، وتربت يمينك، فأشفق من موافقة أمثالها القدَرَ، فعاهد ربه، ورَغِب إليه أن يجعل ذلك القول رحمةً، وقربةً انتهى.
قال الحافظ: وهذا الاحتمال حسنٌ، إلا أنه يَرِد عليه قوله:"جلدته"، فإن هذا الجواب لا يتمشى فيه؛ إذ لا يقع الجَلْد عن غير قصد، وقد ساق الجميع مساقًا واحدًا، إلا إن حُمِل على الجلدة الواحدة، فيتجه.
ثم أبدى القاضي احتمالًا آخر، فقال: كان لا يقول، ولا يفعل صلى الله عليه وسلم في حال غضبه إلا الحقّ، لكن غضبه لله قد يحمله على تعجيل معاقبة مخالفه، وترك الإغضاء، والصفح، ويؤيِّده حديث عائشة رضي الله عنها:"ما انتَقَم لنفسه قطّ، إلا أن تُنتَهَك حُرُمات الله"، وهو في "الصحيح".
قال الحافظ: فعلى هذا، فمعنى قوله:"ليس لها بأهل"؛ أي: من جهة تعيّن التعجيل. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيق مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6593 و 6595 و 6596 و 6597 و 6598 و 6599 و 6600 و 6601](2601)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6361)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 71)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 390 و 488 و 496 و 3/ 400)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 406)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 61)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(4/ 89)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6594]
(2602) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ: "زَكَاةً، وَأَجْرًا").
(1)
"الفتح" 11/ 172.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
2 -
(جَابِرُ) بن عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في السند السابق.
[تنبيه]: حديث جابر رضي الله عنه هذا لم يَسُق المصنّف لفظه، بل أحاله على حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(29550)
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اللَّهُمَّ أيُّما مؤمن لعنته، أو سببته، أو جلدته، فاجعلها له زكاةً، وأجرًا". انتهى
(1)
.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" بسند المصنّف، إلا أنه قرنه بأبي معاوية، فقال:
(2271)
- حدّثنا ابن نُمير، حدّثنا أبو معاوية، وأبي قالا: حدّثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما مؤمن سببته، أو لعنته، فاجعلها له زكاةً، وأجرًا". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّل الكتاب قال:
[6595]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِإسْنَادِ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، مِثْلَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عِيسَى: جَعَلَ: "وَأَجْرًا" فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجَعَلَ:"وَرَحْمَةً" فِي حَدِيثِ جَابِرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلهم ذُكروا قبل حديثين.
[تنبيه]: أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه من رواية أبي معاوية عن الأعمش فساقه البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 71.
(2)
"مسند أبي يعلى" 4/ 184.
(13159)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أيُّما مؤمن سببته، أو جلدته، أو لعنته، فاجعلها له زكاةً، ورحمةً". انتهى
(1)
.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه من رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فساقه الإمام أحمد في "مسنده"، فقال:
(15329)
- حدّثنا عليّ بن بحر، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إنما أنا بشر، فأيُّما رجل من المسلمين سببته، أو جلدته، أو لعنته، فاجعلها له زكاةً، وأجرًا". انتهى
(2)
.
وأما حديث جابر رضي الله عنه من رواية أبي معاوية عن الأعمش، فساقه الإمام أحمد رحمه الله أيضًا في "مسنده"، فقال:
(15236)
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ أيّما مؤمن سببته، أو لعنته، أو جلدته، فاجعلها له زكاةً وأجرًا". انتهى
(3)
.
وأما حديث جابر رضي الله عنه من رواية عيسى بن يونس، فلم أجد من ساقه، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6596]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً، وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 7/ 61.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 400.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 391.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ، له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عَسْقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
2 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
3 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ عالمٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ من أهلها، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مرّ القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اللَّهُمَّ) أصله يا الله، فعُوّضت الميم من حرف النداء، ولا يُجمع بينهما إلا نادرًا، كما قال في "الخلاصة":
وَالأَكْثَرُ اللَّهُمَّ بِالتَّعْوِيضِ
…
وَشَذَّ يَا اللَّهُمَّ فِي قَرِيضِ
(1)
(إِنِّي أَتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا)؛ أي: وعدًا، وعَبَّر به عنه تأكيدًا، وإشعارًا بأنه من المواعيد التي لا يَتطَرَّق إليها الْخُلف؛ كالمواثيق، ولذا استعمل فيه الْخُلف، فقال:(لَنْ تُخْلِفَنِيهِ) للمبالغة، وزيادة التأكيد، ذَكَره القاضي، وقال التُّوربشتيّ: العهد هنا الأمان؛ أي: أسألك أمانًا لن تجعله خلاف ما أرتجيه، فوضَع الاتخاذ موضع السؤال؛ تحقيقًا للرجاء.
وقال الطيبيّ: أصله: طلبت منك حاجةً، تُسعفني إياها، ولا تخيّبني
(1)
أي: في الشعر، أشار به إلى قول الشاعر:
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا
…
أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا
فيها، فوقع العهد الموثَّق محلَّ الحاجة؛ مبالغةً في تحقيق قضائها، ووضع "لن تخلفنيه" محل لا تُخَيبني؛ نظرًا إلى أن الألوهية منافية لِخُلف الوعد
(1)
.
وقال في "المرعاة": أصل الكلام: إني طلبت منك حاجةً أسعِفني بها، ولا تخيّبني فيها، فوضَع العهد موضع الحاجة مبالغةً في كونها مقضيّة، ووضع "لن تخلفنيه" موضع "لا تخيبني".
وقيل: وضع العهد موضع الوعد مبالغةً، وإشعارًا بأنه وعْد لا يتطرق إليه الخُلف؛ كالعهد، ولذلك استَعْمل فيه الخُلف، لا النقض لزيادة التأكيد.
وقيل: أراد بالعهد الأمان؛ والمعنى: أسالك أمانًا لن تجعله خلاف ما أترقبه، وأرتجيه، بأن تجعل ما بدر مني مما يناسب ضَعف البشرية إلى مؤمن أذيّة أنْحُوها نحوه، أو دعوة أدعو بها عليه، قُربة تقربه بها إليك، فإنما أنا بشر، أتكلم في الرضا والغضب، فلا آمن أن أدعو على مسلم، فيستضر به، وهذه الرأفة التي أكرم الله بها وجهه صلى الله عليه وسلم حتى حَظِي بها المسيء، فما ظنك بالمحسن؟ وإنما وَضَع الاتخاذ موضع السؤال تحقيقًا للرجاء، بأنه حاصل؛ إذ كان موعودًا بإجابة الدعاء، ولهذا قال:"لن تخلفنيه"، أَحَلَّ العهد المسؤول محل الشيء الموعود، ثم أشار إلى أن وعْد الله لا يتأتى فيه الخُلف، فإن الألوهية تنافيه. انتهى
(2)
.
(فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)؛ أي: خَلْقٌ، إنسانٌ، قَدَّمه تمهيدًا لعذره؛ أي: يَصْدُر مني ما هو من لوازم البشرية، من الغضب، ثم شَرَع يبيّن، ويفصِّل ما التمسه بقوله:(فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ) وفي رواية: "فأيُّما مؤمن"، والفاء جواب شرط محذوف؛ أي: إن كنت سببت مؤمنًا، فأيما مؤمن (آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ) تعزيرًا له، (فَاجْعَلْهَا)؛ أي: الأذيّة (لَهُ)؛ أي: لذلك المؤمن الذي آذيته، (صَلَاةً)؛ أي: رحمةً، وإكرامًا، وتعطفًا (وَزَكَاةً)؛ أي: طهارةً من الذنوب، (وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") ولا تعاقبه بها في العقبى، والمراد: أسألك أن تجعله خلاف ما يُراد منه، بأن تجعل ما بدا مني تطهيرًا، ورَفْعَ درجة للمقول له ذلك.
(1)
"فيض القدير" 2/ 153.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 687.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6597]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: "أَوْ جَلَدُّهُ"، قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإِنَّمَا هِيَ: "جَلَدْتُهُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وقد ذُكر شيخه في الباب الماضي، وسفيان قبل بابين، وأبو الزناد في السند الماضي.
وقوله: (قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَهِيَ لُغَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَإنَّمَا هِيَ: "جَلَدْتُهُ")؛ يعني: أن "جلدّه" بتشديد الدال لغة أبي هريرة رضي الله عنه، وأما لغة عامّة العرب، فهي جلدته بسكون الدال، بعدها تاء المتكلّم، قال في "النهاية":"أو جلدُّهُ" هكذا رواه بإدغام التاء في الدال، وهي لُغَيّةٌ
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "جلدّه"، قال: وهي لغة أبي هريرة، وإنما هي جلدته، معناه: أن لغة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي المشهورة لعامّة العرب:"جلدته" بالتاء، ولغة أبي هريرة: جلدُّه بتشديد الدال، على إدغام المِثْلين، وهو جائز. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وجه لغة أبي هريرة رضي الله عنه في "جلدّه" أنه قلب التاء دالًا؛ لتقارُب مخرجيهما، ثم أدغم التاء في الدال، وهي على عكس اللغة المشهورة، فإنهم فيها قلبوا الدال تاء، ثم أدغموا التاء في التاء، وهو الأَولى. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد هذه ساقها الحميديّ في "مسنده"، فقال:
(1041)
- حدّثنا
(4)
الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إني مُتَّخِذٌ عندك
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 285.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 153.
(3)
"المفهم" 6/ 585 - 586.
(4)
هذا قول الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
عهدًا، لن تُخْفِره، أيّما رجل من المسلمين آذيته، جلدُّه، أو لعنته، فاجعلها له صلاةً، وزكاةً، دعاء له"، قال أبو الزناد: فهي لغة أبي هريرة، وإنما هي "جلدته، لعنته". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6598]
(. . .) - (حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدِ) بن كوسجان - بمهملة، ثم جيم - المروزيّ، أبو داود السِّنْجيّ - بكسر السين المهملة، بعدها نون ساكنة، ثم جيم - ثقةٌ، صاحب حديث، رَحّالٌ، أَدِيب [11](ت 257)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) الأزديّ الواشحيّ - البصريّ - قاضي مكة، ثقةٌ إمامٌ حافظٌ [9](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 68.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"أيوب" هو: السَّخْتيانيّ.
[تنبيه]: رواية أيوب السختيانيّ عن عبد الرحمن الأعرج هذه لم أجد من ساقها، فلْيُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6599]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ، يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، وَإِنِّي قَدِ اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيه
(2)
، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ، أَوْ سَبَبْتُهُ، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لَهُ كَفَّارَةً، وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
(1)
"مسند الحميديّ" 2/ 450.
(2)
وفي نسخة: "لم تخلفنيه".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(لَيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم قريبًا.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ) كيسان المقبريّ، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود العشرين ومائة، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
3 -
(سَالِمٌ مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ) هو: سالم بن عبد الله النَّصْريّ - بالنون - أبو عبد الله المدنيّ، يقال له: مولى النصريين، ومولى مالك بن أوس، ومولى دَوْس، ومولى الْمَهْريّ، ومولى شدّاد، والدوسيّ، وسالم سَبَلان - بفتح السين المهملة، والموحّدة - صدوقٌ [3](ت 110)(م د س ق) تقدم في "الطهارة" 9/ 572.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (مَوْلَى النَّصْرِيِّينَ) بفتح النون، وسكون الصاد المهملة، بعدها راء: نسبة إلى قبيلة، وجَدّ، ومحلّة، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقوله: (بَشَرٌ)؛ أي: من بني آدم، والبشر بفتحتين، واحده بشرة، مثلُ قصبة، وقَصَب، وأصله ظاهر الجلد، ثم أُطلق على الإنسان، واحده وجمعه، لكن العرب ثَنَّوْه، ولم يَجمعوه، وفي التنزيل:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} الآية [المؤمنون: 47]
(2)
.
وقوله: (يَغْضَبُ) من باب فَرِح يفرَحُ.
وقوله: (كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ) قال النوويّ رحمه الله: قد يقال: ظاهره أن السبّ ونحوه، كان بسبب الغضب، وجوابُهُ ما ذكره المازريّ قال: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن دعاءه، وسبّه، وجَلْده، كان مما يُخَيَّر فيه بين أمرين: أحدهما: هذا الذي فعله، والثاني: زَجْره بأمر آخر، فحمَله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخيَّر فيهما، وهو سبّه، أو لعنه، وجَلْده، ونحو ذلك، وليس ذلك خارجًا عن حكم الشرع، والله أعلم
(3)
.
وقوله: (لَنْ تُخْلِفَنِيه) وفي بعض النسخ: "لم تُخلفنيه".
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 311.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 49.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 153.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6600]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا عَبْدٍ مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وَهْب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، من كبار [3] اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6601]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمِّهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ
(1)
، أَوْ جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
(1)
وفي نسخة: "فأيما مؤمن آذيته، أو سببته".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ) هو: محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهريّ المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [7] (ت 152) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ) وفي بعض النسخ: "فأيما مؤمن آذيته، أو سببته، أو جلدته".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6602]
(2602) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي عز وجل: أَيُّ عَبْدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبَبْتُهُ، أَوْ شَتَمْتُهُ، أَن يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ زَكَاةً، وَأَجْرًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال البزّاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المصيصيّ الأعور، أبو محمد، ترمذي الأصلِ،
نزل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه اختلط في آخر عمره لَمّا قَدِم بغداد قبل موته [9] مات ببغداد (ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، وكان يُدَلِّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين، وقيل: جاز المائة، ولم يثبت (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) ذُكر في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنّ ابن جريج، وأبا الزبير، وإن كانا مدلّسين، فقد صرّحا بالإخبار، والسماع، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.
شرح الحديث:
عن أبي الزُّبَيْرِ محمد بن مسلم المكيّ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) الأنصاريّ السَّلَميّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ)؛ أي: واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية، وهذا إشارة إلى قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، فقد ساوى البشرَ في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي تبليغ الأمور الدينية.
وقال المناويّ: "إنما أنا بشر"؛ أي: أنا مقصور على الموصوف بالبشرية بالنسبة إلى الظواهر، وهذا من باب الحصر المجازيّ؛ لأنه حصر خاصّ؛ أي: باعتبار عِلم البواطن، ويسمى عند علماء البيان قصرَ قلبٍ؛ لأنه أتى به ردًّا على من زَعَم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، فيَطَّلع على البواطن، فلا يخفى عليه شيء، فأشار إلى أن الوضع البشريّ يقتضي أن لا يُدرِك من الأمور إلا ظواهرها، فإنه خُلِق خَلْقًا لا يَسْلَم من قضايا تحجبه عن حقائق الأشياء، فإذا تُرك على ما جُبل عليه، ولم يطرأ عليه تأييد بالوحي السماويّ طرأ عليه ما يطرأ
على سائر البشر، قاله المناويّ رحمه الله
(1)
.
(وَإِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي عز وجل)؛ يعني: سألته، فأعطاني، وقال في "الزاهر": معنى اشترطت عليه: جعلت بيني وبينه علامةً، ومنه قولهم: نحن في أشراط الفتنة؛ أي: في علاماتها. (أَيُّ عَبْدٍ) برفع "أيُّ" على الابتداء، خبره "أن يكون. . . إلخ"، (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) بيان لـ "أيُّ عبدٍ"، وقوله:(سَبَبْتُهُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "عبدٍ"، (أَوْ شَتَمْتُهُ)"أو" هنا عاطفة للتنويع، لا للشكّ، (أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ)؛ أي: ما حصل مني من السبّ، أو الشتم، (لَهُ زكَاةً)؛ أي: نماءً، وزيادةً في الخير، (وَأَجْرًا")؛ أي: ثوابًا عظيمًا منه تعالى، وهذا من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على الخَلْق، واتساعه في معرفة الحقّ
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6602 و 6603](2602)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 333 و 384)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 61)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6603]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) هو: محمد بن أحمد بن أبي خَلَف السّلميّ، أبو عبد الله البغداديّ القَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237) وله سبع وستون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
2 -
(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 567.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 567.
3 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحاك بن مَخْلد بن الضحاك بن مُسلم الشيبانيّ، أبو عاصم النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (جَمِيعًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ)؛ يعني: أن كلًّا من روح بن عبادة، وأبي عاصم روى هذا الحديث عن ابن جريج بسنده، ومتنه الماضي.
[تنبيه]: لم أجد من ساق روايتَيْ روح، وأبي عاصم عن ابن جريج، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6604]
(2603) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ يَتِيمَةٌ، وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ، فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَتِيمَةَ، فَقَالَ:"آنْتِ هِيَهْ؟ لَقَدْ كَبِرْتِ، لَا كَبِرَ سِنُّكِ"، فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ تَبْكِي، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دَعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي، فَالآنَ لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا - أَوْ قَالَتْ: قَرْنِي - فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ مُسْتَعْجِلَةً، تَلُوثُ خِمَارَهَا، حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ "، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟ قَالَ: "وَمَا ذَاكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ "، قَالَتْ: زَعَمَتْ أَنَّكَ دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، أَوْ لَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا
(1)
، قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ:"يَا أُمُّ سُلَيْمٍ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي أَنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ، أَنْ تَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا، وَزَكَاةً، وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وَقَالَ أَبُو مَعْنٍ: يُتَيِّمَةٌ، بِالتَّصْغِيرِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْحَدِيثِ).
(1)
وفي نسخة: "ولا يكبر قرنها" بالواو.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل حديثين.
2 -
(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
3 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص الْجُرَشيّ اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، ثقة، وهو ضعيف في يحيى بن أبي كثير ضعيف؛ لاضطرابه فيه، ولم يكن له كتاب [5] مات قُبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) هو: إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاريّ المدنيّ، أبو يحيى ثقةٌ حجةٌ [4] (ت 132) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكِ) بن النضر الأنصاريّ الخزرجيّ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خَدَمه عشر سنين، مات رضي الله عنه سنة اثنتين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، وله فيه شيخان، قرن بينهما، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، أنه قال:(حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ) هو إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، نُسب هنا لجدّه، قال:(حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سُلَيْمٍ) بنت مِلْحان بن خالد الأنصاريّة، والدة أنس الراوي عنها، اختُلف في اسمها، قيل: سهلة، أو رُميلة، أو رُميثة، أو مليكة، أو أنيثة، وهي الْغُميصاء، أو الرُّميصاء، اشتهرت بكنيتها، من الصحابيّات الفاضلات، ماتت في خلافة عثمان رضي الله عنهما، تقدّمت ترجمتها في "الحيض" 7/ 716، والجارّ والمجرور خبر مقدّم لـ "كان"، واسمها، قوله:
(يَتِيمَةٌ) لم يُعرف اسمها، قاله صاحب "التنبيه"
(1)
، واليتيمة: الصغيرة التي مات أبوها، قال الفيّوميّ رحمه الله: يَتُمَ يَيْتَمُ، من بابَي تَعِب، وقَرُب يَتْمًا، بضم الياء، وفتحها، لكن اليُتم في الناس من قِبَل الأب، فيقال: صغير يَتِيمٌ، والجمع أيْتَامٌ، ويَتَامَى، وصغيرة يَتِيمَةٌ، وجَمْعها يَتَامَى، وفي غير الناس مِن قِبَل الأمّ، وأَيْتَمَت المرأة إيتَامًا، فهي مُوِتمٌ: صار أولادها يَتَامَى، فإنْ مات الأبوان، فالصغير: لَطِيمٌ، وإن ماتت أمه فقط، فهو عَجِيٌّ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت ما ذُكر بقولي:
مَعْنَى الْيَتِيمِ فَاقِد الأَبِ إِذَا
…
كَانَ مِنَ النَّاسِ وَأُمٍّ غَيْرُ ذَا
وَسَمِّهِ اللَّطِيمَ إِنْ ذَيْنِ فَقَدْ
…
أَوْ أُمَّهُ الْعَجِيُّ فَافْهَمْ مَا وَرَدْ
(3)
وقوله: (وَهِيَ أُمُّ أَنَسٍ) ليس راجعًا لـ "يتيمة"، بل هو راجع لـ "أم سليم"؛ يعني: أن أم سليم هي أم أنس بن مالك الراوي عنها. (فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْيَتِيمَةَ)؛ أي: المذكورة؛ لأن القاعدة إذا أُعيدت النكرة معرفة، فهي عَيْن الأُولى؛ إلا لمانع، وقد ذكر السيوطيّ رحمه الله في "عقود الجمان" القاعدة بقوله:
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
شَاهِدُهَا الَّذِي رَوينَا مُسْنَدَا
…
"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدَا
وَنَقَضَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ
…
وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ
قال الجامع: قلت معقّبًا على كلام السبكي:
وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذْ ذِي تُحْمَلُ
…
عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ تُسْتَعْمَلُ
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لَمّا رآها كبيرة بعد فترة: ("آنْتِ) بالمدّ، وأصله: أأنت بهمزتين، الأُولى للاستفهام، والثانية همزة "أنتِ"، وهو مبتدأ، خبره قوله:(هِيَهْ؟) بفتح الياء، وإسكان الهاء، وهي هاء السكت، قال في "الخلاصة":
وَوَصْلَ ذِي الْهَاءِ أَجِزْ بِكُلِّ مَا
…
حُرِّكَ تَحْرِيكَ بِنَاءٍ لَزِمَا
(1)
"تنبيه المعلم" ص 432.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 679.
(3)
راجع: "الفوائد السميّة" ص 48.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الهاء في "هيهْ" للوقف، فإذا وَصَلْتَ حذفتها، وهذا الاستفهام على جهة التعجّب، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان قد رآها صغيرةً، ثم غابت عنه مدّةً، فرآها قد طالت، وعَبُلت
(1)
، فتعجّب من سُرعة ذلك، فقال لها ذلك القول متعجّبًا، فوصل كلامَهُ بقوله:"لا كبِر سنُّك" على ما قلناه من إطلاق ذلك القول من غير إرادة معناه، وهذا واضحٌ هنا.
ويَحْتَمِل أن يقال: إنما دعا عليها بأن لا يكبر سنها كِبَرًا تعود به إلى أرذل العمر، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من أن يُردَّ إلى أرذل العمر، والمعنى الأول أظهر من مساق بقيّة الحديث في اعتذاره صلى الله عليه وسلم عن ذلك. انتهى
(2)
.
(لَقَدْ كَبِرْتِ) بفتح الكاف، وكسر الموحّدة، قال الفيّوميّ رحمه الله: كَبِرَ الصبيّ وغيره يَكْبَرُ، من باب تَعِبَ مَكْبِرًا، مثلُ مَسْجِدٍ، وكِبَرًا، وزانُ عِنَبٍ، فهو كبِيرٌ، وجَمْعه كِبَارٌ، والأنثى كَبِيرَةٌ، وفي التفضيل هو الأكبرُ، وجَمْعه الأَكَابِرُ، وهي الكُبْرى، وجَمْعها كُبَرٌ، وكُبْرَيَاتٌ، وهذا أَكْبَرُ من زيد: إذا زادت سِنّه على سنّ زيد. انتهى
(3)
.
(لَا كَبِرَ سِنُّكِ") هذا لفظه لفظ دعاء عليها بأن لا يكبر سنّها، ولكن المراد به مجرّد تدعيم الكلام، على عادة العرب، كما أسلفنا تحقيقه. (فَرَجَعَتِ الْيَتِيمَةُ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ) رضي الله عنها، حال كونها (تَبْكِي) من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم عليها، (فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: مَا لَكِ)؛ أي؛ أيّ: شيء ثبت لك، حيث تبكين (يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتِ الْجَارِيَةُ: دعَا عَلَيَّ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنِّي) هذا هو ظنها الذي أداها إلى البكاء، (فَالآنَ)؛ أي: الوقت الحاضر؛ أي: ابتداء منه، (لَا يَكْبَرُ سِنِّي أَبَدًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: الأَبَدُ: الدَّهْر، ويقال: الدَّهْر الطويل الذي ليس بمحدود، قال الرُّمَّانيُّ: فإذا قلت: لا أكَلِّمُهُ أبدًا، فالأبَدُ من لَدُنْ تكَلَّمْت إلى آخر عمرك، وجَمْعه آبَادٌ، مثل سَبَبٍ وأسباب. انتهى
(4)
.
(أَوْ قَالَتْ)"أو" هنا للشكّ من الراوي فيما ذكرت الجارية، هل قالت: سنّي، أو قالت:(قَرْنِي) قال القرطبيّ رحمه الله: هو بفتح القاف، وتعني به السنّ،
(1)
أي: ضَخُمت.
(2)
"المفهم" 6/ 586.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 523.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 1.
وهو شكّ عَرَض لبعض الرواة، وأصله أن من ساوى آخر في سنّه كان قَرنُ رأسه محاذيًا لقرنه، وقرن الرأس: جانبه الأعلى، وهذا يدلّ على أن إجابة دعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معلومة بالمشاهدة عند كبارهم وصغارهم؛ لكثرة ما كانوا يشاهدون من ذلك، ولعِلمهم بمكانته صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وقال الأبيّ رحمه الله: السنّ والقرن - بفتح القاف - واحد، يقال: سنّه، وقرنه مماثِلُه في العمر، فكأنه قال لها: لا طال عمرك؛ لأنه إذا طال عمرها طال عُمُر أصل قرنها. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قولها: "قَرْني" بفتح القاف، وهو نظيرها في العمر، قال القاضي: معناه: لا يطول عمرها؛ لأنه إذا طال عمرها طال عُمُر قرنها.
وتعقّبه النووي، قائلًا: وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ لأنه لا يلزم من طول عُمُر أحد القرنين طول عُمُر الآخر، فقد يكون سنّهما واحدًا، ويموت أحدهما قبل الآخر.
قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم لها: "لا كبر سنك"، فلم يُرِد به حقيقة الدعاء، بل هو جارٍ على ما قدّمناه في ألفاظ هذا الباب. انتهى
(3)
.
(فَخَرَجَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ) رضي الله عنها حال كونها (مُسْتَعْجِلَةً، تَلُوثُ خِمَارَهَا)؛ أي: تديره على رأسها، وعُنُقها، فذهبت (حَتَّى لَقِيَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا لَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ ")؛ أي: أيّ شيء حَمَلك على أن جئت الآن؟ (فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَدَعَوْتَ عَلَى يَتِيمَتِي؟) بعدم كبر سنّها، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("وَمَا ذَاكِ) بكسر الكاف (يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ "، قَالَتْ: زَعَمَتْ)؛ أي: قالت اليتيمة (أَنَّكَ) بفتح الهمزة؛ لوقوعها مفعولًا به لـ "زعمت"، (دَعَوْتَ أَنْ لَا يَكْبَرَ سِنُّهَا، أَوْ لَا يَكْبَرَ قَرْنُهَا) وفي بعض النسخ: "ولا يكبر" بالواو، والأول أَولى. (قَالَ) أنس رضي الله عنه (فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) تعجّبًا من خوف أم سلمة رضي الله عنها من قبول دعائه صلى الله عليه وسلم على يتيمتها، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَمَا) بفتح الهمزة، وهي للاستفهام، و"ما" نافية؛ أي: ألست (تَعْلَمِينَ أَنَّ شَرْطِي عَلَى رَبِّي) الجارّ
(1)
"المفهم" 6/ 586.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 45.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 154 - 155.
والمجرور خبر "أنّ"؛ أي: كائن على ربّي، وقوله:(إِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي) بكسر همزة "إنّ" جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنها قالت له: ما شرطك على ربك يا رسول الله؟، فقال:"إني اشترطت. . . إلخ"، ووقع في بعض النسخ:"أما تعلمين أني اشترطت على ربي" بحذف جملة "شَرْطي على ربّي"، وعليه فهمزة "أنّي" مفتوحة؛ لسدّها مسدّ مفعولي "تعلمين". (فَقُلْتُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَرْضَى كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ)؛ أي: إنما أنا مجبول بما جُبل به البشر من الأحوال المختلفة؛ كالرضى، والغضب، (فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي، بِدَعْوَةٍ لَيْسَ لَهَا بِأَهْلٍ)؛ أي: ليس مستحقًّا لها، بأن كان ما صدر عنه مما أغضبني عليه لا يستحقّ تلك الدعوة، (أَنْ تَجْعَلَهَا)؛ أي: الدعوة، (لَهُ طَهُورًا) بفتح الطاء المهملة؛ أي: مطهّرة لذنوبه، وهو معنى الرواية الأخرى:"كفّارةً"، (وَزَكَاةً)؛ أي: زيادة ونماء في الأجر، كما مرّ التعبير في الرواية الأخرى بالأجر، (وَقُرْبَةً)؛ أي: سبب قُرب، وقال القرطبيّ: القربة: ما يقرّب إلى الله تعالى، وإلى رضوانه. (يُقَرِّبُهُ) الله سبحانه وتعالى (بِهَا)؛ أي: بسبب تلك الزكاة (مِنْهُ) تعالى (يَوْمَ الْقِيَامَةِ") خصَّه؛ لأنه محلّ استيفاء الأجور، قال الله عز وجل:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185].
وقوله: (وَقَالَ أَبُو مَعْنٍ)؛ يعني: شيخه الثاني، زيد بن يزيد، (يُتَيِّمَةٌ) بضمّ أوله، (بِالتَّصْغِيرِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْحَدِيثِ) بيّن به اختلاف شيخيه في ضبط هذه اللفظة:"يتيمة"، فرواها زهير بصيغة التكبير، وخالفه أبو معن، فرواها بصيغة التصغير، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6604](2603)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6514)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الخُلُق الكريم، حيث كان يلاطف الصغار، ويؤانسهم، قال الله سبحانه وتعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].
2 -
(ومنها): بيان الحثّ على الرحمة، والشفقة على اليتامى، والحنوّ عليهم، فقد انزعجت أم سليم رضي الله عنها بسبب بكاء يتيمتها، حتى جاءت النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستثبتت الخبر منه، فأزال بها من القلق والانزعاج.
3 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كمال الشفقة على أمته، حيث شارط ربه على أن من دعا عليه من أمته ممن لا يستحقّ الدعاء عليه أن يجعل ذلك له صلاة، وزكاة، وقربة إليه سبحانه وتعالى، وهو مصداق قوله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6605]
(2604) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وابْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى - قَالَا: حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الْقَصَّابِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَارَيْتُ خَلْفَ بَابٍ، قَالَ: فَجَاءَ، فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، وَقَالَ: "اذْهَبْ، وَادْعُ لِي مُعَاوِيةَ"، قَالَ: فَجِئْتُ، فقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي: "اذْهَبْ، وَادْعُ لِي مُعَاوِيةَ"، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ: "لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ"، قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: قُلْتُ لأُمَيَّةَ: مَا حَطَأَنِي؟ قَالَ: قَفَدَنِي قَفْدَةً).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود الْقَيْسيّ، أبو عبد الله البصريّ، أخو هُدْبة، وهو الكبير، صدوقٌ [9](ت 200 أو 201)(م ت س) تقدم في "فضائل الصحابة" 24/ 6330.
2 -
(أَبُو حَمْزَةَ الْقَصَّابِ) عمران بن أبي عطاء الأسديّ مولاهم أبو حمزة - بالحاء المهملة، والزاي - القصّاب الواسطيّ، صدوقٌ، له أوهام [4].
رَوَى عن أبيه، وابن عباس، وأنس، ومحمد ابن الحنفيّة.
ورَوى عنه يونس بن عبيد، وشعبة، والثوريّ، وهُشيم، وأبو عوانة، وغيرهم.
قال أحمد: ليس به بأسٌ، صالح الحديث، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال
أبو زرعة: بصريّ لَيِّن، وقال أبو حاتم، والنسائيّ: ليس بالقويّ، وقال الأجريّ عن أبي داود: يقال له: عمران الحلاب، ليس بذاك، وهو ضعيف، وقال ابن خلفون عن ابن نمير أنه وثّقه، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "جزء رفع اليدين"، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدموا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير أبي حمزة، فواسطيّ، وفيه أن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم المجموعون في قولي:
اشْتَرَكَ الأئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةُ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيعْقُوبُ وعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى
وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قولي أيضًا:
وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ
…
فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍو عَادَلَهْ
مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَنَجْلِ عُمَرَا
…
وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيْرَ هَذَا ذَكَرَا
فَبَعْضُهُمْ نَجْلَ الزُّبَيْرِ تَرَكَا
…
وَنَجْلَ مَسْعُودٍ فَرِيقٌ أَشْرَكَا
وَكُلُّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَاتَّبِعْ
…
سَبِيلَ مَنْ حَقَّقَ نَقْلًا تَنْتَفِعْ
وهو أيضًا أحد المكثرين السبعة المجموعين في قولي أيضًا:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الأَثَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّْ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ
وفيه "أبو حمزة"، قال النوويّ رحمه الله: أبو حمزة هذا بالحاء، والزاي، اسمه عمران بن أبي عطاء الأسديّ الواسطيّ القَصّاب، بَيّاع القصب، قالوا:
وليس له عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وله عن ابن عباس من قوله أنه يكره مشاركة المسلم اليهوديّ، وكل ما في "الصحيحين" أبو جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم، والراء، وهو نصر بن عمران الضُّبَعيّ، إلا هذا القصّاب، فله في مسلم هذا الحديث وحده، لا ذِكر له في البخاريّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إنما قيّد بـ "الصحيحين"؛ لأن شعبة يروي في غيرهما عن سبعة من الشيوخ كلّهم أبو حمزة، بالحاء، والزاي، إلا واحدًا، وهو أبو جمرة الذي ذكره النوويّ، فإنه بالجيم، والراء، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" حيث قال:
وَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ يَرْوِي شُعْبَةُ
…
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِزَايٍ عِدَّةُ
إِلَّا أَبَا جَمْرَةَ فَهْوَ بِالرَّاء
…
وَهْوَ الَّذِي يُطْلَقُ يُدْعَى نَصْرَا
[تنبيه آخر]: هذا الذي ذكرته في هذا الإسناد: "حدّثنا محمد بن المثنّى الْعَنَزيّ، وابنُ بشّار. . . إلخ" هو الصواب الذي وقع في "النسخة الهنديّة" وهي من أحسن النسخ، وأتقنها غالبًا، ووقع في معظم النسخ التي شرحها النوويّ، وغيره بلفظ:"حدّثنا محمد بن المثنّى الْعَنزيّ، (ح) وحدّثنا ابن بشّار. . . إلخ"، وهذا غلط؛ لأن عادة المصنّف رحمه الله في مثل هذا أن يعطف الشيخ الثاني على الأول دون أن يكتب (ح) ويكرّر لفظ "حدّثنا"؛ لعدم الاختلاف في كيفيّة التحمّل، والأداء، فإن الظاهر أنه سمع من لفظهما مع غيره، فلذا قال:"حدّثنا"، وأنهما سمعا أيضًا من لفظ شيخهما أميّة مع غيرهما، فلذا قالا جميعًا:"حدّثنا أُميّة. . . إلخ"، فالأَولى والأخصر في مثل هذا عدم كتابة (ح)، وعدم تكرار لفظ "حدّثنا"، وهو الذي جرت عليه عادته في هذا الكتاب، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَمْزَةَ) بالحاء المهملة، والزاي: عمران بن أبي عطاء، وقوله:(الْقَصَّابِ) بفتح القاف، وتشديد الصاد المهملة: نسبة إلى ذبح الغنم وغيرها، وبَيْع لحمها، قاله في "اللباب"
(2)
. (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: كُنْتُ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 155.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 39.
أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ) بكسر الصاد المهملة، وضمها: جَمْع صبيّ، (فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَارَيْتُ)؛ أي: اختفيت (خَلْفَ بَابٍ) قال القرطبيّ؛ أي: اختفيت بالباب، وكأنه استحيى من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهَابَه. (قَالَ) ابن عبّاس:(فَجَاءَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فَحَطَأَنِي حَطْأَةً) قال القرطبيّ رحمه الله: فسّره أمية بن خالد بقَفَدني قَفْدَةً، وكلاهما يحتاج إلى تفسير، فأمَّا حَطَأني: فهو بالحاء المهملة، وبالهمزة على قول شَمِر، وهو المحكيّ في الصّحاح، وهكذا قيّده أهل الإتقان، والضبط، وهو أن تضرب بيدك مبسوطة في القفا، أو بين الكتفين، وجاء به الهرويّ غيرَ مهموز، في باب الحاء، والطاء، والواو، وقال ابن الأعرابيّ: الحطو: تحريك الشيء متزعزعًا.
وأما القفد - بتقديم القاف على الفاء - فالمعروف عند اللغويين أنه المشي على صدور القدمين من قِبَل الأصابع، ولا تبلغ عَقِباه الأرض، يقال: رجل أقفد، وامرأة قفداء، هو الْقَفَد - بفتح القاف، والفاء -.
قال القرطبيّ: ولم أجد "قفدني" بمعنى "حطأني" إلا في تفسير أمية هذا.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من أنه لم يجد "قفد" بمعنى "حطأ" فيه نظر لا يخفى، فقد قال المرتضى في "التاج": قَفَدَه كضَرَبَه: صَفَع قَفَاه، وفي "الأَفْعَال" لابن القطّاع: ضَرَب رأْسَه بِبَاطِنِ كَفِّه. انتهى، فهذا قريب منه معنى الحطأة، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
قال: وهذا الضرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم لابن عبّاس تأديب له، ولعله لأجل اختفائه منه؛ إذ كان حقّه أن يجيء إليه، ولا يفرّ منه.
ويَحْتَمِل أن يكون هذا الضرب بعد أن أمَره أن يدعو له معاوية رضي الله عنه، فلم يؤكّد على معاوية الدعوة، وتراخى في ذلك، ألا ترى قوله في المرتين: هو يأكل، ولم يزد على ذلك، وكان حقّه في المرة الثانية أن لا يفارقه حتى يأتي به، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("اذْهَبْ، وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ") بن أبي سفيان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما المتوفّى في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين، تقدّمت
(1)
"المفهم" 6/ 587 - 588.
ترجمته في "الصلاة" 8/ 858. (قَالَ) ابن عبّاس: (فَجِئْتُ) إلى معاوية لأدعوه له صلى الله عليه وسلم، فوجدته يأكل، فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ)؛ يعني: أنه مشغول بالأكل عن المجيء. (قَالَ) ابن عبّاس: (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي: "اذْهَبْ، وَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ") رضي الله عنه. (قَالَ) ابن عبّاس: (فَجِئْتُ) مرّة ثانية؛ لأدعوه له، فما زال يأكل، فرجعت إليه صلى الله عليه وسلم (فَقُلْتُ: هُوَ يَأْكُلُ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم عند ذلك:("لَا أَشْبَعَ اللهُ بَطْنَهُ") قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون هذا من نوع: "لا كبر سنّك" كما قلناه، على تقدير أن يكون معاوية من الأكل في أمر كان معذورًا به، من شدّة الجوع، أو مخافة فساد الطعام، أو غير ذلك، وهذا المعنى تأوّل من أدخل هذا الحديث في مناقب معاوية رضي الله عنه، فكأنه كَنَى به عن أنه دعا عليه بسبب أمْر كان معذورًا به، فحَصَل له من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم الكفّارة، والرحمة، والقربة إلى الله تعالى التي دعا بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما ذكرناه.
ويَحْتَمَل أن يكون هذا الدعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته؛ تأديبًا لمعاوية رضي الله عنه على تثبّطه، وتأخّره عن إجابة دعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإجابةُ دعوته صلى الله عليه وسلم واجبة على الفور، بدليل حديث أبيّ رضي الله عنه الذي أنكر عليه في ترك إجابته، وكان أُبَيّ في الصلاة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: وقوله: "حطأةً" بفتح الحاء، وإسكان الطاء، بعدها همزة، وهو الضرب باليد مبسوطة بين الكتفين، وإنما فَعَل صلى الله عليه وسلم هذا بابن عباس رضي الله عنهما ملاطفةً، وتأنيسًا، وأما دعاؤه على معاوية رضي الله عنه أن لا يشبع حين تأخر ففيه الجوابان السابقان:
أحدهما: أنه جرى على اللسان بلا قصد.
والثاني: أنه عقوبة له لتأخره، وقد فَهِم مسلم رحمه الله من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقًّا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية رضي الله عنه؛ لأنه في الحقيقة يصير دعاءً له. انتهى.
وقوله: (قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى)؛ أي: محمد بن المثنّى شيخه الأول في هذا الحديث، (قُلْتُ لأُمَيَّةَ: مَا حَطَأَنِي؟ قَالَ: قَفَدَنِي قَفْدَةً) قال الأبيّ رحمه الله: الحطأة
(1)
"المفهم" 6/ 588 - 589.
قيل: لا تكون إلا بالضرب باليد مبسوطةً، وتفسير أميّة لها بالقفد قريبٌ منه؛ لأن القفد صفع القفا، وقيل: صفع الرأس. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: أخرج هذا الحديث العقيليّ في "الضعفاء الكبير"(3/ 299) في ترجمة أبي حمزة القصّاب، وقال: عن ابن عبّاس، لا يتابع على حديثه، ولا يُعرف إلا به. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: أبو حمزة القصّاب روى عن جماعة، وروى عنه جماعة، ووثقه جماعة، منهم ابن معين، وابن نمير، وابن حبّان، وقال أحمد: ليس به بأسٌ، صالح الحديث، وصححه حديث مسلم، حيث أخرجه هنا، فالحقّ أنه حسن الحديث، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6605 و 6606](2604)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 240 و 291 و 335 و 338)، و (الأصبهانيّ) في "طبقات المحدّثين"(3/ 33)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): جواز ترك الصبيان يلعبون بما ليس بحرام؛ لتنشط نفوسهم، وتتقوّى أعضاؤهم، وتشتد أرجلهم.
2 -
(ومنها): مشروعيّة الاعتماد على الصبي فيما يُرسَل فيه، من دعاء إنسان، ونحوه، من حَمْل هدية، وطلب حاجة، وأشباه ذلك.
3 -
(ومنها): جواز إرسال صبيّ غيره ممن يُدِلّ عليه في مثل هذا، ولا يقال: هذا تصرف في منفعة الصبيّ؛ لأن هذا قَدْر يسير، وَرَدَ الشرع بالمسامحة به؛ للحاجة، واطّرَد به العُرف، وعَمَلُ المسلمين به.
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 47.
4 -
(ومنها): جواز تأديب الصغار بالضرب الخفيف، الذي يليق بهم، وبحسب ما يصدر عنهم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6606]
(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: كُنْتُ أَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَبَأْتُ مِنْهُ، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مَرْوَ، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية النضر بن شُميل عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة - عفا الله عنه وعن والديه -:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم - المسمَّى - البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"، وقت الضحى من يوم الخميس المبارك، وهو اليوم العشرون من شهر جمادى الأولى
(1)
(20/ 5/ 1433 هـ الموافق 12 أبريل 2012 م).
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة شهران، و (25) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الواحد والأربعون مفتتحًا بـ (26) - (بَابُ ذَمِّ ذِي الْوَجْهَيْنِ، وَتَحْرِيمِ فِعْلِهِ)[6607](2526).
"سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *