الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: بدأتُ بكتابة الجزء الواحد والأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" يوم الخميس من شهر جمادى الأولى المبارك (20/ 5/ 1433 هـ)
(26) - (بَابُ ذَمِّ ذِي الْوَجْهَيْنِ، وَتَحْرِيمِ فِعْلِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6607]
(2526) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، اَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
والباقون تقدّموا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك، وفيه مالك أحد الأئمة الأربعة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ) كلِّهم، وحَمْلُه على ذلك أبلغ في الذمّ من حَمْله على من ذُكر من الطائفتين
المتضادتين خاصّةً، وفي رواية للإسماعيليّ:"من شر خلق الله"، وللبخاريّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة:"يوم القيامة عند الله تعالى". (ذَا الْوَجْهَيْنِ) مجازٌ عن الجهتين، مثل المدحة، والمذمة، لا حقيقةٌ، وفسّره بقوله:(الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ) القوم (بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ) القوم (بِوَجْهٍ") فيظهر عند كلٍّ أنه منهم، ومخالف للآخَرين، مُبغض لهم، وعند الإسماعيليّ:"الذي يأتي هؤلاء بحديث هؤلاء، وهؤلاء بحديث هؤلاء".
قال القرطبيّ: إنما كان من شرّ الناس؛ لأن حاله حال المنافقين؛ إذ هو يَتَملّق بالباطل، وبالكذب، مُدخِل للفساد بين الناس.
وقال النوويّ: لأنه يأتي كل طائفة بما يُرضيها، فيُظهر لها أنه منها، ومخالف لضدّها، فصنيعه نفاق محضٌ، وكذبٌ، وخِداعٌ، وتحيّل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مُداهنة محرَّمة.
وقال القاضي عياض، وغيره: فأما من قصد بذلك الإصلاح المرَغَّب فيه، فيأتي لكلٍّ بكلام فيه صلاح، واعتذار لكل واحد عن الآخَر، ويَنقُل له الجميل، فمحمود، مُرَغَّب فيه.
وقال القرطبيّ: ذو الوجهين في الإصلاح محمود، وإن كان كاذبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الكاذب الذي يُصلح بين الناس، يقول خيرًا، ويَنمي خيرًا"، وبَيَّن تعبيرُه بـ "مِن" أن قوله في رواية للشيخين عن عراك بن مالك، عن أبي هريرة:"إن شر الناس ذو الوجهين" محمولة على رواية "مِنْ". قاله الزرقانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن من شر الناس ذي الوجهين"؛ يعني به: الذي يدخل بين الناس بالشرّ والفساد، ويواجه كلّ طائفة بما يتوجه به عندها مما يرضيها من الشرّ، فإنْ رَفَع حديثَ أحدهما إلى الآخَر على جهة الشرّ، فهو ذو الوجهين النمّام، وأما من كان ذا وجهين في الإصلاح بين الناس، فيواجه كل طائفة بوجه خير، وقال لكل واحدة منهما من الخير خلاف ما يقول للأخرى، فهو الذي يسمى بالمصلح، وفِعله ذلك يسمَّى: الإصلاح، وإن كان
(1)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 529.
كاذبًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فيقول خيرًا، وينمي خيرًا". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى في "كتاب الفضائل":"باب خيار الناس"[49/ 6433](2526)، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6608]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّ شَرَّ النَّاسٍ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التُّجِيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) المصريّ، أبو رجاء، واسم أبيه سُويد، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [5](ت 128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الْغِفَاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"الليث" هو: ابن سعد الإمام المصريّ الشهير.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه في الذي قبله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6609]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ
(1)
"المفهم" 6/ 589.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(1)
(ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَجِدُونَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ ذَا الْوَجْهَيْنِ، الَّذِي يَأْتي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ، وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ").
قال الجامع عفا الله عنه: أما الإسناد الأول، فقد مضى نفسه في الباب الماضي، وأما الإسناد الثاني، فقد ذُكروا في الباب، وقبل باب، سوى:
1 -
(عُمَارَةَ) بن القعقاع بن شُبْرُمة الضّبّيّ الكوفيّ، ثقةٌ أرسل عن ابن مسعود [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
2 -
(أَبِي زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(27) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْكَذِبِ، وَبَيَانِ مَا يُبَاحُ مِنْهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6610]
(2605) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُولُ خَيْرًا، وَيَنْمِي خَيْرًا"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ: كَذِبٌ، إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَربُ، وَالإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا).
(1)
وفي نسخة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال".
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3]
(1)
(ت 105) على الصحيح، وقيل: إن روايته عن عمر مرسلة (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
2 -
(أُمُّهُ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ) الأُمَويّة، أخت عثمان بن عفّان لأمه، أسلمت قديمًا، وبايعت، وحُبست عن الهجرة، إلى أن هاجرت سنة سبع في الْهُدْنة، تزوجها زيد بن حارثة، فقُتل عنها، ثم الزبير بن العوّام، ثم طلقها، فتزوجها عمرو بن العاص، فماتت عنده، رَوَت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ليس الكاذب من أصلح بين الناس. . ." الحديث، وعن بُسرة بنت صفوان، وروى عنها ابناها: إبراهيم، وحميد ابنا عبد الرحمن بن عوف، وذكر البلاذريّ أنها كانت مع عمرو بمصر، ماتت في خلافة عليّ رضي الله عنهم.
أخرج لها البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس لها عندهم إلا حديث الباب.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أمه.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) بصيغة التصغير، (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ) بضم الهمزة، وفتح الواو: جمع أُولى، (اللَّاتِي بَايَعْنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) على الإسلام، (أَخْبَرَتْهُ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ:) جملة في محلّ نصب على الحال ("لَيْسَ الْكَذَّابُ) بصيغة المبالغة، وفي رواية:"ليس الكاذب"، وقال في "العمدة": معنى قوله: "ليس الكذّاب" أنه من باب ذي كذا؛ أي: ليس بذي كذب، كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا
(1)
قال في "التقريب": من الثانية، والظاهر أنه من الثالثة، راجع ترجمته في:"تت".
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ أي: وما ربك بذي ظلم؛ لأن نفي الظلامية لا يستلزم نفي كونه ظالِمًا، فلذلك يقدَّر كذا؛ لأن الله تعالى لا يظلم مثقال ذرّة؛ يعني: ليس عنده ظلم أصلًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ) في محل نصب على أنه خبر "ليس"، و"يصلح" بضم الياء من الإصلاح.
وقال المناويّ رحمه الله: "ليس الكذّاب"؛ أي: ليس يأثم في كذبه، من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، "بالذي"، وفي رواية:"الذي يصلح" بضم الياء، "بين الناس"؛ أي: من يَكْذب لإصلاح المتشاجرين، أو المتباغضين.
[فإن قيل]: هذا الحديث يعارضه خبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى الكذّاب يعذَّب بالكَلُّوب من حديد.
[قلنا]: العذاب على الكذب عامّ فيه كلِّه، وما جاء في غيره فهو تخصيص للعامّ، وهذا هو الذي تناوله الحديث، وكذا كلُّ كذب يؤدي إلى خير، كما أشار إليه بقوله:"فينمي" بفتح أوله، وكسر الميم، مخفّفًا؛ أي: يبلغ "خيرًا" على وجه الإصلاح، "ويقول خيرًا"؛ أي: يُخبر بما عمله المخبَر عنه من الخير، ويسكت عما عمله من الشرّ، فإن ذلك جائزٌ، بل محمود، بل قد يُندَب، بل قد يجب، لكن في اشتراط قَصْد التورية خُلْف.
وليس المراد: نفي ذات الكذب، بل نفي إثمه، فالكذب كذبٌ، وإن قيل لإصلاح، أو غيره، كذا قرره جمع.
وقال البيضاوي: قوله: "ينمي خيرًا"؛ أي: يُبلغ خير ما يسمعه، ويَدَع شرّه، يقال: نميته الحديثَ مخفّفًا في الإصلاح، ونمّيته مثقّلًا في الإفساد، الأول من النماء؛ لأنه رفعٌ لِمَا يبلغه، والثاني من النميمة.
وإنما نُفي عن المصلح كونه كذّابًا باعتبار قَصْده، وهذه أمور قد يَضطرّ الإنسان فيها إلى زيادة القول، ومجاوزة الصدق؛ طلبًا للسلامة، ودفعًا للضرر، ورُخّص في اليسير من الفساد؛ لِمَا يؤمّل فيه من الصلاح، والكذبُ في الإصلاح بين اثنين أن يَنمي من أحدَهما إلى صاحبه خيرًا، ويُبلغه جميلًا، وإن
(1)
"عمدة القاري" 13/ 268.
لم يكن سمعه منه بقصد الإصلاح، والكذب في الحرب أن يُظهر في نفسه قوّة، ويتحدث بما يُقَوِّي به أصحابه، ويكيد عدوه، والكذب للزوجة أن يَعِدها، ويُمَنِّيها، ويُظهر لها أكثر مما في نفسه؛ ليستديم صحبتها، ويُصلح به خُلُقها.
قال النوويّ: وقد ضبط العلماء ما يباح من الكذب، وأحسن ما رأيته في ضَبْطه قول الغزاليّ: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود، يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعًا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب، ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح لمباح، وواجب لواجب. انتهى كلام المناويّ رحمه الله
(1)
.
(وَيَقُولُ خَيْرًا، وَيَنْمِي خَيْرًا") بفتح حرف المضارعة، وكسر الميم؛ أي: يبلغ، تقول: نميت الحديث أنميه: إذا بلّغته على وجه الإصلاح، وطَلَب الخير، فإذا بلّغته على وجه الإفساد، والنميمة، قلت: نَمّيته بالتشديد، كذا قاله الجمهور، وادَّعَى الحربيّ أنه لا يقال إلا نَمّيته بالتشديد، قال: ولو كان ينمي بالتخفيف للزم أن يقول: خيرٌ بالرفع، وتعقبه ابن الأثير بأن خيرًا انتصب بينمي، كما بينتصب بِقَال، وهو واضح جدًّا يُستغرب من خفاء مثله على الحربيّ.
ووقع في رواية "الموطأ": يُنمي، بضم أوله، وحكى ابن قرقول عن رواية ابن الدباغ بضم أوله، وبالهاء بدل الميم، قال: وهو تصحيف، ويمكن تخريجه على معنى يُوصل، تقول: أنهيت إليه كذا: إذا أوصلته.
وفي رواية البخاريّ: "فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا"، قال في "الفتح": قوله: "أو يقول خيرًا" هو شك من الراوي، قال العلماء: المراد هنا: أنه يُخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشرّ، ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وهذا ساكت، ولا يُنسب لساكت قول، ولا حجة فيه لمن قال: يُشترط في الكذب القصد إليه؛ لأن هذا ساكت. انتهى
(2)
.
(1)
"فيض القدير" 5/ 359.
(2)
"الفتح" 6/ 575، كتاب "الصلح" رقم (2692).
(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) هذا صريح في أن هذا الكلام من الزهريّ، وليس لأم كلثوم، فهو مدرج في الروايات الأخرى. (وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ) بالبناء للمفعول، (فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ: كَذِبٌ، إِلَّا فِي ثَلَاثٍ)؛ أي: ثلاث خصال: أحدها (الْحَرْبُ) بأن يكذب على عدوّه حتى يتمكن من غلبته له، (وَالإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ) بأن يذكر لأحد الخصمين أن خصمه يذكره بخير، ويُثني عليه، وكذا يقول للآخر مثله، (وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ) بأن يَعِدَها ما يسرّ قلبها من الزينة ونحوها، (وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا) بأن تخبره بأنه أحبّ الناس إليها، حتى يكسب كلّ منهما مودّة الآخر.
قال في "الفتح": وما زاده مسلم، والنسائيّ من رواية يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، في آخره:"ولم أسمعه يُرَخِّص في شيء مما يقول الناس: إنه كذب إلا في ثلاث. . ."، فذكرها، وهي الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين الناس، وأورد النسائي أيضًا هذه الزيادة من طريق الزُّبيديّ، عن ابن شهاب، وهذه الزيادة مُدْرَجة بَيَّن ذلك مسلم في روايته من طريق يونس، عن الزهريّ، فذكر الحديث، قال: وقال الزهريّ: وكذا أخرجها النسائيّ مفردة من رواية يونس، وقال: يونس أثبت في الزهريّ من غيره، وجزم موسى بن هارون وغيره بإدراجها.
قال الحافظ: ورويناه في "فوائد بن أبي ميسرة" من طريق عبد الوهاب بن رُفيع، عن ابن شهاب، فساقه بسنده، مقتصرًا على الزيادة، وهو وَهَمٌ شديد. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقول أم كلثوم: "ولم أسمعه يرخَّص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث" تعني بذلك: أنه لم يرخص في شيء مما يكذب الناس فيه إلا في هذه الثلاث، وقد جاء لفظ الكذب نصًّا في كتاب الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ الكذب إلا في ثلاث: يحدّث الرجل امرأته لِيُرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس"، فهذه الأحاديث قد أفادت: أن الكذب كلّه محرّم لا يحل
(1)
"الفتح" 6/ 575.
منه شيء إلا هذه الثلاثة، فإنَّه رخّص فيها لِمَا يحصل بذلك من المصالح، ويندفع به من المفاسد، والأَولى ألا يكذب في هذه الثلاثة، إذا وجد عنه مندوحة، فإنْ لم توجد المندوحة أُعملت الرّخصة، وقد يجب ذلك بحسب الحاجة إلى تلك المصلحة، والضرورة إلى دفع تلك المفسدة، وما ذكرته هو - إن شاء الله - مذهب أكثر العلماء، وقد ذهب الطبريّ إلى أنه لا يجوز الكذب الصريح بشيء من الأشياء، لا في هذه الثلاثة، ولا في غيرها، متمسِّكًا بالقاعدة الكليّة في تحريمه، وتأوّل هذه الأحاديث على التورية والتعريض، وهو تأويل لا يعضده دليل، ولا تعارُض بين العموم والخصوص، كما هو عن العلماء منصوص، وأما كَذْبَةٌ تُنجي ميتًا، أو وليًّا، أو أُممًا، أو مظلومًا ممن يريد ظُلمه، فذلك لا تختلف في وجوبه أمة من الأمم، لا العرب، ولا العجم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي معيط رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [27/ 6610 و 6611 و 6612](2605)، و (البخاريّ) في "الصلح"(2692) وفي "الأدب المفرد"(385)، و (أبو داود) في "الأدب"(4920 و 4921)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1938)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 193 و 351)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1656)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20196)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 403 و 404)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5733)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 86)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(5/ 478)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 188) و"الأوسط"(8/ 286)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 197 - 198) وفي "الآداب"(131) و"شُعب الإيمان"(4/ 202 و 7/ 490)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3539)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 591 - 592.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في الكذب المذكور في الحديث:
قال القاضي عياض رحمه الله: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور المذكورة في هذا الحديث، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو؟ فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع؛ للمصلحة، وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرّة، واحتجوا بقول إبراهيم عليه السلام:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، وقوله:{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله:"إنها اختي"، وقول منادي يوسف عليه السلام:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70]، قالوا: ولا خلاف أنه لو قَصَد ظالم قَتْل رجل هو عنده مختفٍ، وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو؟.
وقال آخرون، منهم الطبريّ: لا يجوز الكذب في شيء أصلًا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المرادُ به التورية، واستعمال المعاريض، لا صريح الكذب، مثل أن يَعِد زوجته أن يُحسن إليها، ويكسوها كذا، وينوي إن قَدّر الله ذلك.
وحاصله: أن يأتي بكلمات مُحْتَمِلة، يَفهم المخاطَب منها ما يُطَيِّب قلبه، وإذا سعى في الإصلاح نَقَل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلامًا جميلًا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك، ووَرَّى، وكذا في الحرب، بأن يقول لعدوّه: مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدًا يأتينا مددٌ؛ أي: طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة، فكل هذا جائز، وتأولوا قصة إبراهيم، ويوسف، وما جاء من هذا على المعاريض، والله أعلم.
وأما كَذِبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الودّ والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك، فأما المخادعة في مَنْع ما عليه، أو عليها، أو أخْذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام وإجماع المسلمين، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قال الطبريّ: اختَلف العلماء في هذا الباب، فقالت طائفة: الكذب المرخَّص فيه في هذه هو جميع معاني الكذب، فحمَله قوم على
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 157 - 158.
الإطلاق، وأجازوا قول ما لم يكن في ذلك؛ لِمَا فيه من المصلحة؛ فإن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرّة للمسلمين، واحتجوا بما رواه عبد الملك بن ميسرة، عن النّزّال بن سَبْرة، قال: كنا عند عثمان، وعنده حذيفة، فقال له عثمان: بلغني عنك أنك قلت كذا وكذا، فقال حذيفة: والله ما قلته، قال: وقد سمعناه قال ذلك، فلما خرج قلنا له: أليس قد سمعناك تقوله؟ قال: بلى، قلنا: فلِمَ حلفت؟ فقال: إني أستر دِيني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله.
وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء من الأشياء، ولا الخبر عن شيء بخلاف ما هو عليه، وما جاء في هذا إنما هو على التورية، وطريق المعاريض، تقول للظالم: فلان يدعو لك، وتنوي قوله: اللَّهُمَّ اغفر لجميع المسلمين، ويَعِد زوجته، وبنته، ويريد في ذلك: إن قدّر الله تعالى، أو إلى مدّة، وكذلك الإصلاح بين الناس، وحديث المرأة زوجها يَحْتَمِل أنه مما يحدّث أحدهما الآخر من وُدّه له، واغتباطه به، والكذب في الحرب هو أن يُظهر من نفسه قوّة، ويتحدث بما يَشْحَذ به بصيرة أصحابه، ويكيد به عدوّه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحرب خَدْعَة".
وقال المهلَّب: ليس لأحد أن يعتقد إباحة الكذب، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الكذب نهيًا مطلقًا، وأخبر أنه مخالف للإيمان، فلا يجوز استباحة شيء منه، وإنما أطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم للمصلح بين الناس؛ أن يقول ما عَلِم من الخير بين الفريقين، ويسكت عما سمع من الشرّ بينهم، ويَعِد أن يسهّل ما صَعُب، ويقرّب ما بعُد، لا أنه يُخبِر بالشيء على خلاف ما هو عليه؛ لأن الله قد حرّم ذلك، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الرجل يَعِدُ المرأة، ويُمَنِّيها، وليس هذا من طريق الكذب؛ لأن حقيقته الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، والوعد لا يكون حقيقة حتى يُنجَز، والأنجاز مرجوّ في الاستقبال، فلا يصلح أن يكون كذبًا، وكذلك في الحرب، إنما يجوز فيها المعاريض، والأبهام بألفاظ تَحْتَمِل وجهين، فيُوَرِّي بها عن أحد المعنيين؛ ليغترّ السامع بأحدهما عن الآخر، وليس حقيقته الإخبار عن الشيء بخلافه وضدّه، ونحوُ ذلك، ما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مازح عجوزًا، فقال:"إن العُجَّز لا يدخلن الجنة"، فأوهمها
في ظاهر الأمر أنهن لا يدخلن الجنة أصلًا، وإنما أراد أنهن لا يدخلن الجنة إلا شبابًا، فهذا وشِبْهه من المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، وأما صريح الكذب فليس بجائز لأحد، وأما قول حذيفة رضي الله عنه فإنه خارج من معاني الكذب الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أَذِن فيها، وإنما ذلك من جنس إحياء الرجل نفسه عند الخوف، كالذي يضطرّ إلى الميتة، ولحم الخنزير، فيأكل ليُحيي نفسه، وكذلك الخائف له أن يُخَلِّص نفسه ببعض ما حَرَّم الله تعالى عليه، وله أن يحلف على ذلك، ولا حرج عليه، ولا إثم.
قال عياض: وأما المخادعة في مَنْع حقّ عليه، أو عليها، أو أخْذ ما ليس له، أو لها، فهو حرام بالإجماع. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن القول الأول، وهو حَمْل الكذب المذكور في هذا الحديث على ظاهره هو الحقّ؛ لأنه مقتضى ظاهر الحديث، فلا حاجة إلى العدول عنه، فيكون مخصوصًا من عموم تحريم الكذب، وأما تأويل أهل القول الثاني بما سبق، فإخراج للحديث عن معناه الظاهر، فلا يعَوّل عليه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "باب الكذب في الحرب"، ثم ذكر فيه حديث جابر رضي الله عنه في قصة قتل كعب بن الأشرف
(2)
.
قال ابن الْمُنَيِّر: الترجمة غير مطابقة؛ لأن الذي وقع منهم في قتل كعب بن الأشرف، يمكن أن يكون تعريضًا؛ لأن قولهم:"عنّانا"؛ أي: كلّفنا بالأوامر، والنواهي، وقولهم:"سألَنا الصدقة"؛ أي: طلبها منّا ليضعها مواضعها، وقولهم:"فنكره أن ندعه إلخ"؛ معناه: نَكْرَه فراقه، ولا شك أنهم كانوا يحبون الكون معه أبدًا. انتهى.
(1)
"عمدة القاري" 13/ 269 - 270.
(2)
وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله"، قال محمد بن مسلمة: أتحبّ أن أقتله يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قال: فأتاه، فقال: إن هذا - يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عَنّانا، وسألَنا الصدقة، قال: وأيضًا والله لتملنّه، قال: فإنا قد اتبعناه، فنكره أن نَدَعه، حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه، حتى استمكن منه، فقتله. انتهى.
قال الحافظ: والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه بشيء من الكذب أصلًا، وجميع ما صدر منهم تلويح، كما سبق، لكن ترجم بذلك لقول محمد بن مسلمة للنبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلًا: ائذن لي أن أقول، قال:"قل"، فإنه يدخل فيه الإذن في الكذب تصريحًا وتلويحًا، وهذه الزيادة وإن لم تُذكر في سياق حديث الباب، فهي ثابتة فيه، كما في الباب الذي بعده، على أنه لو لم يُرِد ذلك لَمَا كانت الترجمة منافرة للحديث؛ لأن معناها حينئذ: باب الكذب في الحرب، هل يسوغ مطلقًا، أو يجوز منه الإيماء، دون التصريح؟ وقد جاء من ذلك صريحًا ما أخرجه الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد، مرفوعًا:"لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدُّث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس"، وكذا حديث أم كلثوم بنت عقبة المذكور في الباب.
قال النوويّ: الظاهر إباحة حقيقة الكذب في الأمور الثلاثة، لكن التعريض أَولى.
وقال ابن العربيّ: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنصّ، رفقًا بالمسلمين؛ لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجالٌ، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالًا. انتهى.
ويقويه ما أخرجه أحمد، وابن حبان، من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الحجاج بن علاط الذي أخرجه النسائيّ، وصححه الحاكم في استئذانه النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأَذِن له النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإخباره لأهل مكة أن أهل خيبر هَزَموا المسلمين، وغير ذلك مما هو مشهور فيه.
ولا يعارض ذلك ما أخرجه النسائيّ من طريق مصعب بن سعد، عن أبيه، في قصة عبد الله بن أبي سرح، وقول الأنصاريّ للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا كفَّ عن بيعته: هلّا أومأت إلينا بعينك، قال:"ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين"؛ لأن طريق الجمع بينهما: أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصّةً، وأما حال المبايعة فليست بحال حرب.
وتعقّبه الحافظ، فقال: كذا قال، وفيه نظر؛ لأن قصة الحجاج بن علاط أيضًا لم تكن في حال حرب.
والجواب المستقيم أن نقول: المنع مطلقًا من خصائص النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يتعاطى شيئًا من ذلك، وإن كان مباحًا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة وَرَّى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرًا، فلا يظهره؛ كأن يريد أن يغزو وجهة الشرق، فيسأل عن أمر في جهة الغرب، ويتجهز للسفر، فيظن من يراه، ويسمعه أنه يريد جهة الغرب، وأما أن يصرح بإرادته الغرب، وإنما مراده الشرق فلا، والله أعلم.
وقال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث، فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون من المعاريض، لا التصريح بالتأمين مثلًا، قال: وقال المهلَّب: موضع الشاهد للترجمة من حديث الباب قول محمد بن مسلمة: "قد عنّانا، وسألَنا الصدقة"؛ لأن هذا الكلام يَحْتَمِل أن يُفْهَم أن اتّباعهم له إنما هو للدنيا، فيكون كذبًا محضًا، ويَحْتَمِل أن يريد أنه أتعبنا بما يقع لنا من محاربة العرب، فهو من معاريض الكلام، وليس فيه شيء من الكذب الحقيقيّ الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، ثم قال: ولا يجوز الكذب الحقيقيّ في شيء من الدِّين أصلًا، قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: "من كذب عليّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا إشكال في حديث: "من كذب عليّ متعمِّدًا إلخ"، فإن الذي قاله هو الذي قال:"ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس إلخ"، فكلٌّ من عند الله تعالى، فلا تعارُض، بل الكذب المحرّم هو الذي لا يتضمّن جلب مصلحة، أو دَفْع مفسدة، وأما الذي يجوز من الكذب، فهو المتضمّن لذلك، وليس فيه إضاعة حقّ لمسلم، فافهم الفرق، تعرف الحقّ.
والحاصل: أن الصواب أن الحديث على ظاهره، فيحلّ الكذب في الأشياء الثلاثة التي استثناها الشارع في تحريم الكذب ولو كان صريحًا، لكن إذا وجد مندوحة، فالأَولى أن يستعمله، وإلا فالصريح جائز، وقد تقدم عن القرطبيّ ترجيح هذا القول، وعَزَاه إلى أكثر العلماء، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 7/ 284 - 285، كتاب "الجهاد" رقم (30 - 31).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6611]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: وَقَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ، إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، بِمِثْلِ مَا جَعَلَهُ يُونُسُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
4 -
(صَالِحُ) بن كَيْسان الغِفَاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدِّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد سنة ثلاثين ومائة، أو بعد الأربعين (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
و"ابن شهاب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(27313)
- حدثنا يعقوب، قال: حدّثنا أبي، عن صالح بن كيسان، قال: ثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، أن حُميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره؛ أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته؛ أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا". وقالت: لم أسمعه يُرَخِّص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: في الحرب،
والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها. وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
وساقها البخاريّ أيضًا في "صحيحه"، إلا أنها مختصرة، قال:
(2546)
- حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، أن حُميد بن عبد الرحمن أخبره، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ليس الكذّاب الذي يُصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6612]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، إِلَى قَوْلِهِ: "وَنَمَى خَيْرًا
(3)
"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عُليّة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد البصريّ، ثم اليمنيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(27314)
- حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنا معمرٌ، عن الزهريّ، عن حُميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وكانت من المهاجرات الأُوَل، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذّاب من أصلح بين الناس، فقال خيرًا، أو نَمَى خيرًا - وقال مرّةً -: ونَمَى خيرًا". انتهى
(4)
.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 403.
(2)
"صحيح البخاريّ" 2/ 958.
(3)
وفي نسخة: "ونما خيرًا".
(4)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 403.
(28) - (بَابُ تَحْرِيمِ النَّمِيمَةِ)
[6613]
(2606) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ"، وَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد، وقيل غير ذلك، الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، يدلّس، واختلط بأَخَرَةٍ [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك، (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
3 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلة - بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة - الْجُشَميّ الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3] قُتِل في ولاية الحجّاج على العراق (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان، وهما من مشايخ الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ إذ هما من الطبقة الثالثة، وفيه عبد الله بن مسعود من جلّة أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، يُلقى بها للمخاطب، تنبيهًا له، وإزالةً لغفلته. (أُنَبِّئُكُمْ) بضمّ
أوله، وتشديد الموحّدة، من التنبيء، ويَحْتَمِل أن يكون بتخفيف الموحّدة، من الإنباء؛ أي: ألا أُخبركم (مَا الْعَضْهُ؟)"ما" استفهاميّة مبتدأ، خبرها "العضه"، وهو بفتح العين المهملة، وسكون الضاد المعجمة: البُهتان الذي يُحَيِّر، قال في "الصحاح": الْعَضْه: الرمي بالبهتان، وقال في "القاموس": عَضَهَ، كمَنَعَ: كَذَبَ، وجاء بالإفك والبهتان، وفلانًا: أبهته، وقال فيه ما لم يكن، وسَخِرَ، ونَمّ. انتهى
(1)
.
وعَنْوَنَ بـ "ألا"؛ تنبيهًا على فَخامة ما يُلقيه من الكلام، وإشارةً إلى أنه يتعيّن معرفته، ويَقْبح الجهل به، والله تعالى أعلم.
(هِيَ النَّمِيمَةُ) ثم فسّرها بقوله: (الْقَالَةُ)؛ أي: القول (بَيْنَ النَّاسِ")؛ أي: هي نَقْل أقوال الناس بينهم على وجه الإفساد، وهو من الكبائر، قال الغزاليّ رحمه الله: النميمة: كَشْف ما يُكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه، أو المنقول إليه، أو ثالثٌ، وسواء كان بقول، أو كتابة، أو رمز، أو إيماء، وسواء كان عيبًا، أو نقصًا على المنقول عنه، أو لا، بل حقيقةُ النميمة إفشاء السرّ، وهَتْك السِّتر عما يُكره كشفه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "النميمة": هي نَقْل كلام الناس بعضهم إلى بعض، على جهة الإفساد، وقوله:"ما العضه؟ " هذه اللفظة رَووها على وجهين:
أحدهما: العِضَةُ بكسر العين، وفتح الضاد المعجمة، على وزن الْعِدَة، والزِّنَةِ.
والثاني: الْعَضْه، بفتح العين، وإسكان الضاد، على وزن الْوَجْه، وهذا الثاني هو الأشهر في روايات بلادنا، والأشهر في كتب الحديث، وكُتب غريبه، والأول أشهر في كتب اللغة، ونقل القاضي أنه رواية أكثر شيوخهم، وتقدير الحديث - والله أعلم -: ألا أنبئكم ما العضه الفاحشُ الغليظ التحريم؟ انتهى
(3)
.
(1)
"فيض القدير" 1/ 114.
(2)
"فيض القدير" 1/ 114.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 159.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ألا أنبئكم ما العضه؟ " هكذا أذكر أني قرأته بفتح العين، وإسكان الضاد، والهاء، وهذا عند الجيّانيّ، وهو مصدر عَضَهه يَعْضَهه عَضْهًا: إذا رماه بكذب، وبهتان، وقد رواه أكثر الشيوخ:"ما الْعِضَةُ" - بكسر العين، وفتح الضاد، والتاء المنقلبة في الوقف هاءً، وهي أصوب -؛ لأنَّ العِضَة اسم، والنميمة اسم، فصحّ تفسير الاسم بالاسم، والعَضْهُ مصدرٌ، ولا يَحْسُن تفسير المصدر بالاسم، فالرواية الثانية أَولى، والذي يبيِّن لك أن الْعِضَةَ اسم ما قاله الكسائيّ، قال: العضه: الكذب، والبهتان، وجَمْعها عِضُون، مثل عِزَة وعِزين، وقد بيّنا أن الْعَضْهَ: المصدرُ، فصحّ ما قلناه، وقد تقدَّم القول في حُكم ذي الوجهين، والنمّام، وقد فسَّر النبيّ صلى الله عليه وسلم العضه بالنميمة؛ لأنَّ النميمة لا تنفكّ عن الكذب، والبهتان غالبًا. انتهى
(1)
.
وأما قوله: (وَإِنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ يَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا") فسيأتي شرحه في الباب التالي - إن شاء الله تعالى -.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [28/ 6613](2606)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 430 و 437)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 245)، و (ابن أبي الدنيا) في "الصمت"(1/ 154 و 251)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 246) و"شُعب الإيمان"(7/ 493)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 590.
(29) - (بَابُ قُبْحِ الْكَذِبِ، وَحُسْنِ الصِّدْقِ، وَفَضْلِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6614]
(2607) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا
(1)
، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم، وهو مسلسل بالكوفيين، سوى شيخيه: زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، فبغداديّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، على قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصِّدْقَ) - بكسر الصاد، وسكون الدال -: خلاف الكذب، قال الراغب
(1)
وفي نسخة: "حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا" في الموضعين.
الأصفهانيّ: الصدق والكذب أصلهما في القول، ماضيًا كان أو مستقبلًا، وعدًا كان أو غيره، ولا يكونان بالقصد الأول إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخبر دون غيره من أصناف الكلام، وقد يكونان بالْعَرَض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام، والأمر، والدعاء، وذلك نحو قول القائل: أَزَيْد في الدار؟ فإن في ضمنه إخبارًا بكونه جاهلًا بحال زيد، وكذا إذا قال: واسني في ضمنه أنه محتاج إلى المواساة، وإذا قال: لا تؤذني ففي ضمنه أنه يؤذيه. والصدق: مطابقة القول الضميرَ والْمُخْبَرَ عنه معًا، ومتى انخرم شَرْط من ذلك لم يكن صدقًا، بل إما أن لا يوصف بالصدق، وإما أن يوصف تارة بالصدق، وتارة بالكذب على نَظَرَين مختلفين، كقول الكافر من غير اعتقاد: محمد رسول الله، فإن هذا يصحّ أن يقال: صِدقٌ لكون الْمُخْبَر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال: كَذِبٌ لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذابُ الله تعالى المنافقين حيث قالوا:{نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية [المنافقون: 1].
والصِّدّيق من كَثُر منه الصدق. وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطّ لتعوّده الصدق. وقيل: لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصدق. وقيل: بل لمن صَدَقَ بقوله واعتقاده، وحَقَّقَ صِدْقه بفعله.
وقد يُستعمل الصدق والكذب في كل ما يَحِقُّ ويَحْصُل في الاعتقاد، نحو: صَدَقَ ظَنِّي، ويُستعملان في أفعال الجوارح، فيقال: صَدَقَ في القتال إذا وفّى حقّه، وفعلَ ما يجب كما يجبُ، وكَذَبَ في القتال إذا كان بخلاف ذلك، قال الله عز وجل:{رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب: 23]؛ أي: حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقال عز وجل:{لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} الآية [الأحزاب: 8]؛ أي: يسأل من صَدَق بلسانه عن صِدْق فِعله تنبيهًا أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقال عز وجل:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} الآية [الفتح: 27]: فهذا صِدق بالفعل، وهو التحقيق؛ أي: حقَّقَ رؤيته، وعلى ذلك قوله عز وجل:{وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} الآية [الزمر: 33]؛ أي: حقّق ما أورده قولًا بما تحرّاه فعلًا.
ويُعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا بالصدق، فيُضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به، نحو قوله عز وجل:{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 55]،
وعلى هذا قوله عز وجل: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية [يونس: 2]، وقوله عز وجل:{أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الآية [الإسراء: 80]، وقوله عز وجل:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} [الشعراء: 84]، فإن ذلك سؤال أن يجعله الله تعالى صالحًا، بحيث إذا أثنى عليه مَنْ بَعدَهُ لم يكن ذلك الثناء كذبًا، بل يكون كما قال الشاعر [من الطويل]:
إِذَا نَحْنُ أَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِصَالِحٍ
…
فَأَنْتَ الَّذِي نُثْنِي وَفَوْقَ الَّذِي نُثْنِي
انتهى المقصود من كلام الراغب
(1)
.
(يَهْدِي) بفتح أوله، من الهداية، وهي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، هكذا وقع أول الحديث من رواية منصور، عن أبي وائل، ووقع في أوله من رواية الأعمش، عن أبي وائل الآتية عند مسلم، وأبي داود، والترمذيّ:"عليكم بالصدق، فإن الصدق"، وفيه:"وإياكم والكذب، فإن الكذب إلخ"، (إِلَى الْبِرِّ) بكسر الموحّدة، أصله التوسع في فعل الخير، وهو اسم جامع للخيرات كلّها، ويُطلق على العمل الخالص الدائم
(2)
.
وقيل: هو العمل الصالح الخالص من كلّ مذموم. قال ابن العربيّ: إذا تحرّى الصدق لم يَعص الله؛ لأنه إن أراد أن يفعل شيئًا من المعاصي خاف أن يقال: أفعلت كذا؟ فإن سكت لم يَأمن الريبة، وإن قال: لا كَذَب، وإن قال: نعم فَسَق، وسقطت منزلته، وانتُهكت حرمته. انتهى
(3)
.
(وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ) قال ابن بطال: مصداقه في كتاب الله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار: 13]، (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ) زاد في الرواية الآتية:"ويتحرّى الصدق". قال القرطبيّ: معنى "يتحرّى الصدق": يقصد إليه، ويتوخّاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب حتى يكون الصدق غالب حاله، فيُكتب من جملة الصدّيقين، ويُثبتُ في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب،
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 478 - 479.
(2)
"الفتح" 10/ 524.
(3)
راجع: "شرح السنديّ" على ابن ماجه 1/ 36.
وأصل الكَتْب: الضمّ والجمع، ومنه: كَتَبْتُ البغلةَ إذا جمعت بين شُفريها
(1)
بحلقة. انتهى
(2)
.
(حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا) وفي بعض النُّسخ: "حتى يُكتب عند الله صدّيقًا". قال ابن بطال: المراد أنه يتكرر منه الصدق، حتى يستحقّ اسم المبالغة في الصدق، (وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ) بالضمّ مصدر فَجَر يفجُر من باب قَعَد، يقال: فَجَر العبد فُجُورًا: إذا فسق، وزنى، وفَجَر الحالف فُجورًا: إذا كذب. قاله الفيّوميّ
(3)
.
وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: أصل الفَجْر: الشقّ، فالفجور شَقّ سِتر الديانة، ويُطلق على المَيْل إلى الفساد، وعلى الانبعاث في المعاصي، وهو اسم جامع للشرّ. انتهى بتصرّف
(4)
.
وقال السنديّ رحمه الله: قيل: لعلّ الكذب بخاصيّته يُفضي بالإنسان إلى القبائح، والصدق بخلافه، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالفجور هو نفس ذلك الكذب، وكذلك البرّ نفس ذلك الصدق، والهداية إليه باعتبار المغايرة الاعتباريّة في المفهوم والعنوان، كما يقال: العلم يؤدّي إلى الكمال، وإليه يشير آخر الحديث. انتهى
(5)
.
(وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ)؛ أي: يوصل إليها، ومِصداق هذا في كتاب الله تعالى قوله عز وجل:{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)} [الانفطار: 14].
(وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا") قال في "الفتح": المراد بالكتابة: الحُكم عليه بذلك، وإظهاره للمخلوقين من الملأ الأعلى، وإلقاء ذلك في قلوب أهل الأرض، وقد ذكره مالك بلاغًا عن ابن مسعود، وزاد فيه زيادة مفيدة، ولفظه:"لا يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، فيُنكت في قلبه نكتةٌ سوداءُ، حتى يسوَدّ قلبه، فيُكتب عند الله من الكاذبين"
(6)
، والله تعالى أعلم.
(1)
أي: جانب فَرْجها، وهو بالضمّ جَمْعه أشفار، كقُفْل وأقفال.
(2)
"المفهم" 6/ 592.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 462.
(4)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 626.
(5)
"شرح السنديّ" 1/ 36.
(6)
"الفتح" 13/ 669، كتاب "الأدب" رقم (6094).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [29/ 6614 و 6615 و 6616 و 6617](2607)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6094)، و (أبو داود) في "الأدب"(4989)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1972)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(46)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 116)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(273 و 274)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 217)، و (هناد بن السريّ) في "مسنده"(2/ 631)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 388)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 32) و"الكبير"(9/ 96 و 97)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 71 و 245)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(3/ 135)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 195 و 243) و"شُعَب الإيمان"(4/ 199 و 200)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 39)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 263)، و (ابن أبي الدنيا) في "الصمت"(1/ 234 و 258)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): التحذير عن الكذب، وأنه لا يجوز لا بجدّ، ولا بهزل. قال القرطبيّ: وفيه حجة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا، فلا يجوز لرجل أن يَعِد صبيّه بشيء، ثم لا يفي به؛ لأنه من الكذب المحرّم، قال القرطبيّ: وفيه ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير.
2 -
(ومنها): أن الكذب باب الفجور، وأن الفجور باب النار، أعاذنا الله سبحانه وتعالى منها بمنّه وكَرَمه آمين.
3 -
(ومنها): أن الصدق باب البرّ، وأن البرّ باب الجنّة، جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها آمين.
4 -
(ومنها): أن الصادق يستحقّ أن يوصف بالصدق والبرّ، والكاذب يوصف بالكذب والفجور.
5 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله، قال العلماء: في هذا الحديث حَثّ على تحري الصدق، وهو قصدُهُ، والاعتناءُ به، وعلى التحذير من الكذب، والتساهل فيه، فإنه إذا تساهل فيه كَثُرَ منه، فَيُعرَف به.
قال الحافظ: والتقييد بالتحري وقع في رواية أبي الأحوص، عن منصور عند مسلم، ولفظه:"وإن العبد لَيَتَحَرَّى الصدق"، وكذا قال في الكذب، وعنده أيضًا في رواية الأعمش، عن شقيق، وهو أبو وائل، وأوله عنده:"عليكم بالصدق"، وفيه:"وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق"، وقال فيه:"وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب. . ."، فذكره.
قال: وفي هذه الزيادة إشارة إلى أن من تَوَقَّى الكذب بالقصد الصحيح إلى الصدق، صار له الصدق سَجِيّةً حتى يَستحقَّ الوصف به، وكذلك عكسه، وليس المراد أن الحمد والذمّ فيهما يَختص بمن يَقصد إليهما فقط، وإن كان الصادق في الأصل ممدوحًا، والكاذب مذمومًا.
ثم قال النووي: واعلَم أن الموجود في نُسخ البخاريّ ومسلم في بلادنا وغيرها، أنه ليس في متن الحديث إلا ما ذكرناه، قاله القاضي عياض، وكذا نَقَله الحميديّ، ونَقَل أبو مسعود عن كتاب مسلم في حديث ابن المثنى وابن بشار زيادة، وهي:"إن شر الرَّوَايا رَوَايا الكذب؛ لأن الكذب لا يصلح منه جِدٌّ ولا هزل، ولا يَعِدُ الرجل صبيّه، ثم يُخلِفه".
فذكر أبو مسعود أن مسلمًا رَوَى هذه الزيادة في كتابه، وذكرها أيضًا أبو بكر الْبَرْقاني في هذا الحديث، قال الحميديّ: وليست عندنا في كتاب مسلم.
والرَّوَايا جَمْع رَوِيّة بالتشديد، وهو ما يَتَرَوَّى فيه الإنسان قبل قوله أو فِعله، وقيل: هو جَمْع رَاوية؛ أي: للكذب، والهاء للمبالغة
(1)
.
قال الحافظ: لم أر شيئًا من هذا في "الأطراف" لأبي مسعود، ولا في
(1)
وقال القرطبيّ: الروايا: جمع راوية - يعني به حامل الكذب، وراويَهُ، والهاء فيه للمبالغة - كعلّامة، ونسّابة - أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكتاب لحمله إياه بالراوية الحاملة للماء. انتهى. "المفهم" 6/ 593.
"الجمع بين الصحيحين" للحميدي، فلعلهما ذكراه في غير هذين الكتابين. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أن العبد إذا تحرّى الكذب ولازَمه، كَتَبه الله سبحانه وتعالى من الكذابين، وبغّضه إلى خَلْقه أجمعين، وكذلك الصادق إذا تحرّى الصدق ولازَمه، كَتَبه الله تعالى من الصادقين، وحبَّبه إلى خلقه أجمعين، وهذا هو معنى الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأَحِبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض"، هذا لفظ البخاريّ، ولفظ مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا، دعا جبريل فيقول: إني أُبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6615]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا"، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
(1)
"الفتح" 10/ 524 - 525.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) - بكسر الراء الخفيفة - ابن مُصعب التميميّ، أبو السريّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 243) وله إحدى وتسعون سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
3 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بيّن به اختلاف شيخيه، فقال هنّاد بن السريّ:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وخالف أبو بكر بن أبي شيبة، فرواه بـ "عن"، فقال:"عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6616]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، قَالَا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الرُّؤَاسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، إلخ) قال القرطبيّ رحمه الله: "يهدي": يُرشد ويوصل، والبرّ: العمل الصالح، أو الجنة كما قدّمناه. والفجور: الأعمال السيّئة. و"عليكم" من ألفاظ الإغراء المصرّحة بالإلزام، فحقٌّ على كل مَن فَهِم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لَحِقَ بالأبرار، ووصل إلى رضا الغفّار، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك كله بقوله عند ذِكر أحوال الثلاثة التائبين
(1)
، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، والقول في الكذب المحذَّر عنه على الضدّ من القول في الصدق، وقد تقدَّم القول في البرّ، والفجور، والهدى.
وقوله: (وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا) قال القرطبيّ رحمه الله: "يتحرى الصدق": يقصد إليه، ويتوخّاه، ويجتنب نقيضه الذي هو الكذب، حتى يكون الصدق غالب حاله، فيُكتب من جملة الصدِّيقين، ويُثْبَت في ديوانهم، وكذلك القول في الكذب، وأصل الكَتْب: الضمّ، والجمع، ومنه: كتبت البغلة: إذا جمعت بين شُفْريها بِحَلقة.
وقوله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] جَمَعه، وثَبَّته، و {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]؛ أي: حكم وأوجب، فكأنه جمع ما حَكَم به في المحكوم عليه، وكتبتُ الكتاب: جمعت فيه المكتوب وثبّتّه، وقد تقدَّم القول في الصّديق، وخرّج أبو مسعود الدمشقيّ حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا، وزاد فيه: "وإن شرّ الرَّوَايا روايا الكذب، وإن
(1)
هم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أُميّة الواقفيّ، وكلهم من الأنصار رضي الله عنهم.
الكذب لا يصلح فيه جِدّ، ولا هَزْل، ولا يَعِد الرجل صاحبه، فيُخلفه"، وذكر أبو مسعود: أن مسلمًا خرّج هذه الزيادة.
قال القرطبيّ: ولم تقع لنا هذه الزيادة، ولا لأحد من أشياخنا فيما علمناه، وقال أبو عبد الله الحميديّ: وليست عندنا.
والرَّوَايا: جمع راوية؛ يعني به: حامل الكذب، وراويه، والهاء فيه للمبالغة، كعلّامة، ونسّابة، أو يكون استعارةً، شبّه حامل الكذب لِحَمْله إياه بالراوية الحاملة للماء.
وفيه حجَّة للطبريّ في تحريمه الكذب مطلقًا وعمومًا، وفيه ما يدلّ على وجوب الوفاء بالوعد، ولو كان بالشيء الحقير مع الصبيّ الصغير. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6617]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ عِيسَى:"وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُسْهِرٍ:"حَتَّى يَكْتُبَهُ اللهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) هو: منجاب - بكسر أوله، وسكون ثانية، ثم جيم، ثم موحّدة - ابن الحارث بن عبد الرَّحمن التميميّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.
2 -
(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ بن مُسهر - بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء - القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
3 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب. والباقيان ذُكرا في الباب.
(1)
"المفهم" 6/ 592 - 593.
[تنبيه]: روايتا علي بن مسهر، وعيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(30) - (بَابُ فَضْلِ مَنْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَذْهَبُ الْغَضَبُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6618]
(2658) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ - وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ - قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ "، قَالَ: قُلْنَا: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ: "لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوب، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا"، قَالَ: "فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟ "، قَالَ: قُلْنَا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ، قَالَ: "لَيْسَ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قتيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ) هو: إبراهيم بن يزيد بن شَريك، أبو أسماء الكوفيّ ثقةٌ عابد، إلَّا أنه يرسل ويدلّس [5](ت 92) وله أربعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 406.
3 -
(الْحَارِثُ بْنُ سُويدٍ) التيميّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [3] مات بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الأشربة" 6/ 5161.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير قتيبة، فبغلانيّ، وفيه ثلاثة من التابعين الكوفيين، روى بعضهم عن بعض.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا)
استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء (تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ) بفتح الراء، (فِيكُمْ؟ " قَالَ) ابن مسعود (قُلْنَا: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ، قَالَ:"لَيْسَ ذَاكَ بِالرَّقُوب، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يُقَدِّمْ مِنْ وَلَدِهِ شَيْئًا") قال القاضي عياض رحمه الله: أجابوه بمقتضى اللفظة في اللغة، فأجابهم هو بمقتضاها في المعنى في الآخرة؛ لأنَّ من لَمْ يَعِشْ له وَلَد يَأْسَف عليهم، فقال: بل يجب أن يسمى بذلك، ويأسف من لَمْ يجدهم في الآخرة؛ لِمَا فاته من أجر تقديمهم بين يديه، وأصيب بذلك، وهذا من تحويل الكلام إلى معنى آخر، كقوله: في الصُّرَعة، والمحروب مَنْ حُرِب. انتهى
(1)
.
وقال الأثير رحمه الله: الرَّقوب في اللغة: الرجل والمرأة ما لَمْ يعش لهما ولد؛ لأنه يَرقُب موته، ويرصُده خوفًا عليه، فَنَقَله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الذي لَمْ يُقَدِّم من الولد شيئًا؛ أي: يموت قبله؛ تعريفًا أن الأجر والثواب لمن قَدَّم شيئًا من الولد، وأن الاعتداد به أكثر، والنفع فيه أعظم، وإنّ فَقْدهم، وإنْ كان في الدنيا عظيمًا، فإنّ فَقْد الأجر والثواب على الصبر، والتسليم للقضاء في الآخرة أعظم، وأن المسلم وَلَده في الحقيقة من قدَّمه، واحتسبه، ومن لَمْ يُرزَق ذلك فهو كالذي لا وَلَد له، ولم يقله صلى الله عليه وسلم إبطالًا لتفسيره اللغويّ، كما قال: إنما المحروب من حُرب دينه، ليس على أنَّ من أُخذ ماله غير محروب. انتهى
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَمَا تَعُدُّونَ الصُّرَعَةَ) بضمّ الصاد المهملة، وفتح الراء، من يصرع الناس، ويطرحهم على الأرض؛ لشدّة بأسه، قال المجد رحمه الله: الصَّرْعُ ويُكسرُ: الطَّرْحُ على الأرْض، كالمَصْرَع، كمَقعدٍ، وهو مَوْضِعهُ - أيضًا، وقد صَرَعهُ، كمَنَعه، والصِّرْعَةُ بالكسر: للنَّوْع، ومنه المَثَلُ: سُوءُ الاسْتمساكِ خيرٌ من حُسنِ الصِّرْعَة، ويُرْوَى بالفتح بمعنَى المَرَّة، وبالضم: من يَصْرَعهُ الناسُ كثيرًا، وكهُمَزةٍ: من يَصْرَعُهُم، كالصِّرِّيع، والصُّرَاعة، كسِكِّينٍ، ودُرَّاعَةٍ، وكأميرٍ: المَصْروعُ، جَمْعه: صَرْعَى. انتهى
(3)
.
(فِيكُمْ؟ ")؛ أي: في معاشر الناس، (قَالَ: قُلْنَا: الَّذِي لَا يَصْرَعُهُ الرِّجَالُ)؛ أي: لا يُلقونه، ولا يطرحونه على الأرض؛ لشدّة بأسه. " (قَالَ: لَيْسَ) الصُّرَعة
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 298.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 249.
(3)
"القاموس المحيط" ص 951.
(بِذَلِكَ) لا يصرعه الناس، (وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ")؛ أي: لا تغلبه نفسه، بل يكفّها، ويتغلّب عليها؛ لئلا ترتكب جريمة بسبب الغضب.
قال النوويّ رحمه الله: أما الرقوب فبفتح الراء، وتخفيف القاف، والصَّرَعة بضم الصاد، وفتح الراء، وأصله في كلام العرب: الذي يَصْرَع الناس كثيرًا، وأصل الرَّقُوب في كلام العرب: الذي لا يعيش له وَلَد.
ومعنى الحديث: إنكم تعتقدون أن الرقوب المحزون هو المصاب بموت أولاده، وليس هو كذلك شرعًا، بل هو من لَمْ يمت أحد من أولاده في حياته، فيحتسبه، ويُكتب له ثواب مصيبته به، وثواب صَبْره عليه، ويكون له فَرَطًا، وسَلَفًا، وكذلك تعتقدون أن الصُّرَعة الممدوح القويَّ الفاضل هو القويّ الذي لا يَصْرَعه الرجال، بل يَصْرَعهم، وليس هو كذلك شرعًا، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الفاضل الممدوح الذي قَلَّ من يقدر على التخلق بخُلُقه، ومشاركته في فضيلته، بخلاف الأول. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الرَّقُوب: فَعُول، وهو الكثير المراقبة، كضروب، وقتول، لكنه صار في عُرْف استعمالهم عبارة عن المرأة التي لا يعيش لها ولدٌ، كما قال عبيد بن الأبرص:
بَاتَتْ عَلَى إِرَمٍ عَذُوبًا
…
كَأنَّهَا شَيْخَةٌ رَقُوبُ
قلت
(2)
: هذا نقلُ أهل اللغة، ولم يذكروا أن الرّقوب يقال على من لا يولد له، مع أنه قد كان معروفًا عند الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك أجابوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس يقتضيه؛ لأنَّ الذي لا يولَد له يكثر ارتقابه للولد، وانتظاره له، وَيطمع فيه إذا كان ممن يرتجى ذلك، كما يقال على المرأة التي ترقُب موت زوجها: رقُوب، وللناقة التي ترقُب الحوض، فتنفر منه، ولا تقربه: رَقُوب.
قلت
(3)
: ويَحْتَمِل أن يُحمل قولهم في الرقُوب: إنه الذي لا يولد له بعد فَقْد أولاده؛ لوصوله من الكِبَر إلى حال لا يولد له، فتجتمع عليه مصيبة الفقد، ومصيبة اليأس، وهذا هو الأَلْيق بمساق الحديث، ألا ترى قوله: "ليس ذلك
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 162.
(2)
القائل هو القرطبيّ.
(3)
القائل هو القرطبيّ.
الرقُوب، ولكنه الرجل الذي لا يقدِّم من ولده شيئًا"؛ أي: هو أحقّ باسم الرقُوب من ذلك؛ لأنَّ هذا الذي أصيب بفَقْد أولاده في الدنيا ينجبر في الآخرة بما يُعوَّض على ذلك من الثواب، وأما من لَمْ يمت له ولدٌ، فيفقد في الآخرة ثواب فَقْد الولد، فهو أحقّ باسم الرّقُوب من الأول، وقد صدر هذا الأسلوب من النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا، كقوله:"ليس المسكين بالطوّاف عليكم"، و"ليس الشديد بالصُّرَعة"، و"ليس الواصل بالمكافئ"، ومثله كثير، ولم يُردْ بهذا السلبِ سلب الأصل، لكن سلب الأَولى، والأحقّ.
و"الصُّرَعَةُ" بفتح الواء: هو الذي يَصْرَع الناس كثيرًا، وبالسكون: هو الذي يَصْرَعه الناس، وكذلك: هُزَأَةٌ، وهُزْأَةٌ، وسُخَرَةٌ، وسُخْرَةٌ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 6618 و 6619](2608)، و (أبو داود) في "الأدب"(4779)، و (معمر بن راشد) في "الجامع"(11/ 140)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(11/ 140)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 382)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 66)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 96)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2950)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 260)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 68) و "شُعب الإيمان"(6/ 306 و 7/ 136)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته ما يحذرونه، مما يؤدي إلى اعتداء بعضهم على بعض، وذلك في حالة الغضب، فبيّن لهم أن
(1)
"المفهم" 6/ 594 - 595.
أقوى الناس وأشدّهم هو الذي يملك نفسه عند الغضب، فلا تجري على مقتضى غضبها، بل يكفّها، ويردّ جماحها، فتقف عند ما حدّ الشرع لها.
2 -
(ومنها): بيان فضل موت الأولاد، والصبر عليهم، قال النوويّ: ويتضمن الدلالة لمذهب من يقول بتفضيل التزوج، وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحابنا، وسبقت المسألة في "النكاح"
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان فضل كظم الغيظ، وإمساك النفس عند الغضب عن الانتصار، والمخاصمة، والمنازعة.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي هذا الحديث من الفقه فضل الحلم، وفيه دليل على أنَّ الحلم كتمان الغيظ، وأن العاقل من ملَك نفسه عند الغضب؛ لأنَّ العقل في اللغة ضَبْط الشيء، وحَبْسه، ومنه قيل: عقال الناقة، ومعناه في الشريعة مِلْكُ النفس، وصرفها عن شهواتها الْمُرْدِية لها، وحَبْسها عما حَرَّم الله عليها، قال: وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي يملك نفسه ويغلبها، من القوّة ما ليس للذي يغلب غيره، وفيه دليل على أنَّ مجاهدة النفس أصعب مرامًا، وأفضل من مجاهدة العدوّ
(2)
.
ومما قيل فيمن يملك نفسه عند الغضب، ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وروينا عن محمد بن جُحادة قال: كان الشعبي من أولع الناس بهذا البيت [من الرمل]:
لَيْسَ
(3)
الأَحْلَامُ فِي حِينِ الرِّضَا
…
إِنَّمَا الأَحْلَامُ فِي حَالِ الْغَضَبْ
وقال غيره [من البسيط]:
لَا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إِلَّا سَاعَةَ الْغَضَبِ
وقال أبو العتاهية [من الطويل]:
أُقَلِّبُ طَرْفِي مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ
…
لِأَعْلَمَ مَا فِي النَّاسِ وَالْقَلْبُ يَنْقَلِبْ
فَلَمْ أَرَ كَنْزًا كَالْقُنُوعِ لِأَهْلِهِ
…
وَأَنْ يُجْمِلَ الْإنْسَانُ مَا عَاشَ فِي الطَّلَبْ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 162 - 163.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 322 - 323.
(3)
لعلّ الصواب: "ليست الأحلام"، فليُحرّر.
وَلَمْ أَرَ فَضْلًا صَحَّ إَلَّا عَلَى التُّقَى
…
وَلَمْ أَرَ عَقْلَا تَمَّ إِلَّا عَلَى أَدَبْ
وَلَمْ أَرَ فِي الأعْدَاءِ حِينَ خَبَرْتُهُمْ
…
عَدُوًّا يَفْعَلُ أَعْدَى مِنَ الْغَضَبْ
(1)
5 -
(ومنها): ما نقله صاحب "التكملة" عن الغزاليّ أنه قد أطال في بيان حقيقة الغضب، وأقسامه، وذمّ ما يُذمّ منها، وعلاج ذلك، وحاصله: أن الغضب غريزة أودعها الله تعالى في قلب كل ذي روح، يغلي بها دم قلبه، وينتشر في العروق، ويرتفع إلى أعالي البدن، فلذلك ينصبّ إلى الوجه، ويحمرّ الوجه والعين، وإنما خلق الله هذه الغريزة؛ ليدافع بها الإنسان عن نفسه، وماله، وعِرْضه، فكلما استعمل الإنسان هذه الغريزة في أفعال مشروعة، كالجهاد، والدفاع عن نفسه، وأهله، كان حسنًا، وكلما استعملها في أفعال غير مشروعة، وصدر منه في ثوران الغضب ما لا يجوز فعله، كان قبيحًا، ومَن مَلَكَ نفسه في حالة ثوران الغضب، فأمسك نفسه عن العمل بمقتضاه، فهو القويّ الذي مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، فمجرّد الغضب الذي يثور في قلب الإنسان بدون اختياره لا مؤاخذة عليه، ولكنّه إنما يؤاخذ بما يصدر منه في هذه الحالة، من أفعال غير مشروعة، فيحتاج إلى رياضة، ومجاهدة.
انتهى
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6619]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَ مَعْنَاهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1)
"الاستذكار" 8/ 287.
(2)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 423 - 424.
(3626)
- حَدَّثَنَا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ " قال: قالوا: يا رسول الله ما منّا أحد إلَّا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال:"اعلموا أنه ليس منكم أحد إلَّا مال وارثه أحب إليه من ماله، مَا لَكَ مِن مَالِك إلَّا ما قَدَّمت، ومال وارثك ما أخرت". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَعُدُّون فيكم الصُّرَعة؟ " قال: قلنا الذي لا يصرعه الرجال، قال: قال: "لا ولكن الصُّرَعة الذي يملك نفسه عند الغضب". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تَعُدُّون فيكم الرقوب؟ " قال: قلنا: الذي لا ولد له، قال:"لا، ولكن الرقوب الذي لَمْ يُقَدِّم مِنْ وَلَده شيئًا". انتهى
(1)
.
وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6620]
(2609) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، قَالا كِلَاهُمَا: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَة، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ) الباهلي مولاهم، أبو يحيى البصري، ثقةٌ من كبار [10] تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 382.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، بل هو رأسهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ) بضم الصاد، وفتح الراء، وهو الذي يَصْرَع الناس، وَيكْثُر ذلك منه، قال الباجيّ: ولم يُرِدْ نفي الشدّة عنه، فإنه يُعْلَم بالضرورة شدّته، وإنما أراد أنه ليس بالنهاية في الشدّة، وأشدّ منه الذي يملك نفسه عند الغضب، أو أراد أنَّها شدّة لها كبير منفعة، وإنما الشدّة التي يُنتفع بها شدة الذي يملك نفسه عند الغضب، كقولهم: لا كريم إلَّا يوسف، لَمْ يُرَد به نفي الكرم عن غيره، وإنما أريدَ به إثبات مزيّة له في الكرم، وكذا لا سيف إلَّا ذو الْفَقَار، ولا شجاع إلَّا عليّ. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "الصُّرَعة": المبالغ في الصَّرْع الذي لا يُغْلَب، فنَقَله إلى الذي يملك نفسه عند الغضب؛ فإنه إذا مَلَكها كان قد قهر أقوى أعدائه، وشرّ خُصومه، ولذلك قال:"أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك"
(2)
، وهذا من الألفاظ التي نقلها عن وضعها اللغويّ بضرب من التوسّع والمجاز، وهو من فصيح الكلام؛ لأنه لما كان الغضبان بحالة شديدة من الغيظ، وقد ثارت عليه شهوة الغضب، فَقَهرها بحِلمه، وصَرَعها بثباته، كان كالصُّرَعَة الذي يصرع الرجال، ولا يصرعونه. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": "الصُّرَعة": الذي يَصْرَع الناس كثيرًا بقوّته، والهاء للمبالغة في الصفة، والصُّرْعة بسكون الراء بالعكس، وهو من يصرعه غيره كثيرًا، وكل ما جاء بهذا الوزن بالضم، وبالسكون، فهو كذلك، كهُمَزة،
(1)
" تنوير الحوالك" 1/ 213.
(2)
موضوع، راجع:"السلسلة الضعيفة" للشيخ الألبانيّ 3/ 308.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3243.
ولُمَزة، وحُفَظة، وخُدَعة، وضُحَكة، ووقع بيان ذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم، وأوله:"ما تعدُّون الصُّرَعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال".
قال ابن التين: ضبطناه بفتح الراء، وقرأه بعضهم بسكونها، وليس بشيء؛ لأنه عكس المطلوب، قال: وضُبط أيضًا في بعض الكتب بفتح الصاد، وليس بشيء.
(إِنَّمَا الشَّدِيدُ) المعتبَر شرعًا، (الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ") وفي رواية أحمد من حديث رجل لَمْ يسمه، شَهِد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصُّرَعة كلُّ الصُّرَعة - كررها ثلاثًا - الذي يغضب، فيشتدّ غضبه، ويحمرّ وجهه، فيَصرَع غَضَبَهُ. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: وأما قوله: "الصرعة"؛ فإنه يعني: الكثير القوّة الذي يَصْرَع كلَّ من صارعه، ومثله من قول العرب: هذا رجل نُوَمةٌ؛ يعني: كثير النوم، وحُفَظة؛ يعني: كثير الحفظ، وقال ابن حبيب: الصُّرَعة بتثقيل الكلمة بالحركات، معناه: الذي يصرع الناس، قال: والصُّرْعة بالتخفيف: الرجل الضعيف النحيف الذي يَصْرَعه الناس، حتى لا يكاد يَثْبت، وكذلك الضُّحَكَة بالتثقيل: الذي يَضْحَك بالناس، والضُّحْكَة بالتخفيف: الذي يَضْحك منه الناس، وبالله التوفيق. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 6620 و 6621 و 6622](2609)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6114) وفي "الأدب المفرد"(1/ 446)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 105) وفي "عمل اليوم والليلة"(394 و 395 و 396 و 397)، و (معمر بن راشد) في "جامعه"(11/ 188)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 188)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 906)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 268 و 517)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 216)، و (الربيع بن حبيب) في "مسنده"(1/ 274)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1212)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"
(1)
"الفتح" 10/ 519.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 323.
(3/ 25 و 4/ 184)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 235 و 241) وفي "الزهد"(371) و"شُعب الإيمان"(6/ 305)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6621]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ"، قَالُوا: فَالشَّدِيدُ أَيُّمَ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَاجِبُ بْنُ الْوَليدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدِّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ
(1)
[10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَوْلانيّ الحمصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
3 -
(الزُّبَيْدِيُّ) محمد بن الوليد بن عامر الزُّبيديّ، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبت، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (فَالشَّدِيدُ أَيُّمَ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟)"أيّ" اسم استفهام خبر مقدّم وجوبًا مرفوع بالضمة، و"م" أصلها "ما" زائدة زيدت تعويضًا عما فات "أيّ" من الإضافة، مبني بسكون على الألف المحذوفة؛ تشبيهًا لها بـ "ما" الاستفهاميّة التي دَخَل عليها جر الجرّ؛ لوقوعها بعد اسم الاستفهام، وقوله:"هو" مبتدأ مؤخّر
(2)
، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية الزُّبيديّ عن الزهريّ هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "مسند الشاميين"، فقال:
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": "صدوق". راجع ترجمته في: "تت".
(2)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" حفظه الله تعالى 24/ 427.
(1730)
- حَدَّثَنَا محمد بن الحسين الأنماطيّ، ثنا سالم بن قادم، ثنا محمد بن حرب الأبرش، عن الزُّبَيديّ، عن الزهريّ، عن حُميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرَعة"، قالوا: فمن الشديد يا رسول الله؟ قال: "الذي يملك نفسه عند الغضب". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6622]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(عَبْدُ الرَّزاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ) هو: عبد الله بن عبد الرَّحمن بن الفضل بن بَهْرَام السَّمَرْقَنْديّ، أبو محمد الدارميّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
6 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الْحَكَم بن نافع الْبَهْرانيّ الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبت، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولةٌ [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
7 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بِشْر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
(1)
"مسند الشاميين" 3/ 25.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لمعمر بن راشد، وشُعيب بن أبي حمزة.
[تنبيه]: أما رواية معمر عن الزهريّ، فقد ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20287)
- أخبرنا
(1)
عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرَعة"، قالوا: فمن الشديد يا رسول الله؟ قال: "الذي يملك نفسه عند الغضب". انتهى
(2)
.
وأما رواية شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهريّ، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "مسند الشاميين"، فقال:
(3065)
- حَدَّثَنَا أبو زُرعة، ثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، أخبرني حميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الشديد بالصُّرَعة"، قالوا: وما الشديد يا رسول الله؟ قال: "الذي يملك نفسه عند الغضب". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6623]
(2610) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ، وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَهَلْ تَرَى بِي مِنْ جُنُونٍ؟ قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ: فَقَالَ: وَهَلْ تَرَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ).
(1)
قائل "أخبرنا" هو: الراوي عن عبد الرزّاق، فتنبّه.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 88.
(3)
"مسند الشاميين" 4/ 183.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
2 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ) - بضمّ المهملة، وفتح الراء - ابن الْجَوْن الْخُزاعيّ، أبو مُطَرِّف الكوفيّ الصحابيّ، قُتِل بعين الوَرْدَة سنة خمس وستين (ع) تقدم في "الحيض" 10/ 746.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير يحيى بن يحيى، فنيسابوريّ، وقد دخل الكوفة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ) - بضمّ الصاد، وفتح الراء، بعدها دال مهملات - وهو ابن الْجَوْن بن أبي الْجَوْن الْخُزاعي صحابيّ شهير، يقال: كان اسمه يسار - بتحتانية، ومهملة - فغَيَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُكنَى أبا الْمُطَرِّف، وقُتل في سنة خمس وستين، وله ثلاث وتسعون سنةً، قاله في "الفتح"
(1)
(قَالَ) سليمان رضي الله عنه: (اسْتَبَّ رَجُلَانِ) قال الحافظ: لَمْ أعرف أسماءهما، ووقع في "صفة إبليس" من وجه آخر عن الأعمش، بهذا السند:"كنت جالسًا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبّان"
(2)
. (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ، وبدأ (أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ، وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ) بالفتح: جَمْع وَدَج بفتحتين، أو بفتح، فكسر، قال الفيّوميّ رحمه الله: الوَدَجُ بفتح الدال، والكسر لغةٌ: عِرْقُ الأخدع الذي يَقطعه الذّابح، فلا يبقى معه حياة، ويقال: في الجسد عِرْقُ واحد، حيثما قُطع مات صاحبه، وله في كل عضو اسم، فهو في العُنُق: الوَدَجُ، والوَرِيدُ أيضًا، وفي الظهر: النِيَاطُ، وهو عِرْق ممتدّ فيه، والأَبْهَرُ، وهو عِرْق مُستَبطِنُ الصُّلْب،
(1)
"الفتح" 13/ 602، كتاب "الأدب" رقم (6048).
(2)
"الفتح" 13/ 602.
والقلبُ متصلٌ به، والوَتِينُ في البطن، والنَّسَا في الفخذ، والأَبْجَلُ في الرِّجل، والأَكْحَلُ في اليد، والصَّافِنُ في السّاق، وقال في "المجرّد" أيضًا: الوريد عِرْقٌ كبيرٌ يدور في البدن، وذَكَر معنى ما تقدَّم، لكنَّه خالف في بعضه، ثم قال: والوَدَجَانِ: عِرْقان غَليظان، يكتنفان ثُغْرَة النّحر يمينًا ويسارًا، والجمع أَوْدَاجٌ، مثل سَبَبٍ وأَسْبَابٍ، ووَدَجْتُ الدّابّةَ وَدْجًا، من باب وَعَدَ: قَطَعْتُ وَدَجَها، ووَدَّجْتُهَا بالتّثقيل مبالغةٌ، وهو لها كالفصد للإنسان؛ لأنّه يقال: وَدَجْتُ المالَ: إذا أصلحته، ووَدَجْتُ بين القوم: أصلحتُ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت أسماء هذه العروق، فقلت:
يُقَالُ فِي الْجَسَدِ عِرْقٌ حَيْثُمَا
…
قُطِعَ صَاحِبُهُ مَاتَ أَلَمَا
لَهُ تَشَعُّبٌ بِأَعْضَاءِ الْجَسَدْ
…
فِي كُلِّ عُضْوٍ خُصَّ بِاسْمٍ انْفَرَدْ
فَخُصَّ فِي الْعُنُقِ بِالْوَرِيدِ
…
كَذَلِكَ الْوَدَجُ ذُو تَسْدِيدِ
فِي الظَّهْرِ بِالنِّيَاطِ يُدْعَى وَالَّذِي
…
اسْتَبْطَنَ الصُّلْبَ بَأَبْهَرٍ خُذِ
وَذَا بهِ الْقَلْبُ غَدَا يَتَّصِلُ
…
فِي الْبَطْنِ بِالْوَتِينِ صَارَ يُعْقَلُ
وَبِالنَّسَا فِي الْفَخْذِ وَالأبْجَلُ فِي
…
رِجْلٍ وَبِالأَكْحَلِ فِي الْيَدِ يَفِي
فِي السَّاقِ بِالصَّافِنِ يُدْعَى وَانْتَهَى
…
نَظْمِي لِمَنْ يَرْغَبُ مِنْ ذَوِي النُّهَى
(2)
وفي رواية البخاريّ: "فاشتدّ غضبه، حتى انتفخ وجهه، وتغيّر"، وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عند أحمد، وأصحاب "السنن":"حتى إنه ليُخَيَّل إليّ أن أنفه ليتمزَّع من الغضب".
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً) فيه إطلاق الكلمة على الكلام؛ لأن "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" جملة، وهو إطلاق لغويّ، وهو الذي عناه ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
......................
…
وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامٌ قَدْ يُؤَمّ
(لَوْ قَالَهَا)؛ أي: الكلمة، (لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ)؛ أي: وَجَده من شدّة الغضب، ثم بيّن الكلمة بقوله:(أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم، وأتحصّن (بِاللهِ مِنَ
(1)
"المصباح المنير"(2/ 652).
(2)
راجع: "الفوائد السميّة" ص 43 - 44.
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ") وفي حديث معاذ رضي الله عنه: "إني لأعلم كلمة لو يقولها هذا الغضبان، لذهب عنه الغضب، اللَّهُمَّ أني أعوذ بك من الشيطان الرجيم". (فَقَالَ الرَّجُلُ) بعدما كلّمه رجل بما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي الرواية التالية: "فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آنِفًا؟ فذكر له"، وفي رواية أبي داود ما يُبيّن أن الرجل الذي قام إليه هو معاذ بن جبل، ولفظه: "قال: فجعل معاذ يأمره، فأبي، وضَحِك، وجعل يزداد غضبًا"، وفي رواية البخاريّ: "فانطلق إليه الرجل، فأخبره بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: تعوّذ بالله من الشيطان"، قال في "الفتح": قوله: "وقال: تعوّذ بالله"، وفي رواية: "إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: تعوذ بالله"، وهو بالمعني، فإنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى ذلك، وليس في الخبر أنه أمَرهم أن يأمروه بذلك، لكن استفادوا ذلك من طريق عموم الأمر بالنصيحة للمسلمين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: "وليس في الخبر أنه أمرهم إلخ" هذا عجيب، أليس قوله: "إن النبيّ صلى الله عليه وسلم صريحًا، فتأمله بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.
فقال الرجل لمّا أخبروه بذلك: (وَهَلْ تَرَى) بفتح، وضبطه في "الفتح" بضمها؛ أي: أتظنّ (بِي مِنْ جُنُونٍ؟)"من" زائدة.
وفي رواية البخاريّ: "أمجنون أنا، اذهب"، وقوله:"اذهب" هو خطاب من الرجل للرجل الذي أمَره بالتعوّذ؛ أي: امْضِ في شغلك.
وأَخْلِق بهذا المأمور أن يكون كافرًا أو منافقًا، أو كان غلب عليه الغضب، حتى أخرجه عن الاعتدال، بحيث زجر الناصح الذي دلّه على ما يزيل عنه ما كان به من وَهَج الغضب بهذا الجواب السيئ.
وقيل: إنه كان من جُفاة الأعراب، وظنّ أنه لا يستعيذ من الشيطان إلَّا مَن به جنون، ولم يعلم أن الغضب نوع من شرّ الشيطان، ولهذا يخرج به عن صورته، ويزيّن إفساد ما له كتقطيع ثوبه، وكَسْر آنيته، أو الإقدام على من أغضبه، ونحو ذلك مما يتعاطاه من يخرج عن الاعتدال.
(1)
"الفتح" 13/ 599.
وقد أخرج أبو داود من حديث عطيّة المسعدي، رفعه:"إن الغضب من الشيطان. . ." الحديث.
وقوله: (قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ)؛ يعني: شيخه الثاني، (فَقَالَ)؛ أي: الرجل الغضبان: (وَهَلْ تَرَى، وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَ)؛ يعني: أنه قال: "فقال: وهل ترى بي من جنون"، وحَذَف لفظ "الرجل"، وحاصل ما أشار إليه بيان اختلاف شيخيه في هذا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سليمان بن صُرَد رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [30/ 6623 و 6624 و 6625](2610)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3282) و"الأدب"(6048) وفي "الأدب المفرد"(1/ 155)، و (أبو داود) في "الأدب"(4781)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 104) و"عمل اليوم والليلة"(1/ 307)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 533)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 394)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 441)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6488 و 6489)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5692)، و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(2/ 609)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الغضب في غير الله تعالى من نَزْغ الشيطان.
2 -
(ومنها): أنه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ، فيقول:"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فإنه سبب لزواله، كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك.
3 -
(ومنها): أن هذه الاستعاذة التي ذكرها النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي إحدى طرق علاج الغضب، وقد روى أبو داود، وصححه ابن حبّان عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "إذا غَضِب أحدكم، وهو قائم، فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع"
(1)
.
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذيّ.
وأخرج أبو داود عن عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ"
(1)
.
وأخرج ابن السنيّ عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، قال: كانت عائشة رضي الله عنها إذا غضبت عَرَكَ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنفها، ثم يقول:"يا عُويش، قولي: اللَّهُمَّ رب محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأَجِرْني من مُضلّات الفتن"
(2)
.
وأخرج ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من جُرْعة أعظم أجرًا عند الله، من جُرعةِ غيظٍ، كظمها عبدٌ ابتغاءَ وجه الله". انتهى
(3)
.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وأما قول هذا الرجل الذي اشتد غضبه: "هل ترى بي من جنون؟ " فهو كلام من لَمْ يفقه في دين الله تعالى، ولم يتهذّب بأنوار الشريعة المكرّمة، وتوهّم أن الاستعاذة مختصة بالمجنون، ولم يعلم أن الغضب من نزغات الشيطان، ولهذا يخرج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلم بالباطل، ويفعل المذموم، وينوي الحقد، والبغض، وغير ذلك، من القبائح المترتبة على الغضب، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم للذي قال له: أوصني: "لا تغضب"، فردّد مرارًا، قال:"لا تغضب"، فلم يزده في الوصية على "لا تغضب"، مع تكراره الطلب، وهذا دليل ظاهر في عِظَم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه.
ويَحْتَمِل أن هذا القائل: "هل ترى بي من جنون؟ " كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب، والله أعلم
(4)
.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أنَّ الشيطان
(1)
حديث ضعيف.
(2)
حديث ضعيف، رواه ابن السنّيّ في "عمل اليوم والليلة" 1/ 404.
(3)
صححه الشيخ الألباني: لغيره، راجع:"صحيح ابن ماجه" 2/ 1401.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 163.
له تأثيرٌ في تهييج الغضب، وزيادته، حتى يحمله على البطش بالمغضوب عليه، أو إتلافه، أو إتلاف نفسه، أو شرّ يفعله، يستحق به العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا تعوّذ الغضبان بالله من الشيطان الرجيم، وصحّ قَصْده لذلك، فقد التجأ إلى الله تعالى، وقَصَده، واستجار به، والله تعالى أكرم من أن يَخْذُل من استجار به، ولَمّا جَهِل ذلك الرجل ذلك المعنى، وظن أن الذي يحتاج إلى التعوّذ إنما هو المجنون، فقال:"أمجنونًا تراني؟ "، منكرًا على من نبّهه على ما يُصلحه، ورادًّا لِمَا ينفعه، وهذا من أقبح الجنون، والجنون فنونٌ، وكأن هذا الرجل كان من جُفاة الأعراب الذين قلوبهم من الفقه والفهم خراب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6624]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، سَمِعْتُ الأَعْمَشَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَدِيَّ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَغْضَبُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، فَقَامَ إِلَى الرَّجُلِ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَتَدْرِي مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم آنِفًا؟ قَالَ: "إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ ذَا عَنْهُ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَمَجْنُونًا تَرَانِي؟).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلِب للقضاء فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (آنِفًا) بالمدّ، والقصر، قال المجد رحمه الله: آنفًا، كصاحب، وكَتِفٍ، وقُرئ بهما؛ أي: مذ ساعة؛ أي: في أول وقت يَقْرُب منّا. انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 594.
(2)
"القاموس" ص 65.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6625]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ الكوفيّ القاضي، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية حفص بن غِياث عن الأعمش ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5701)
- حَدَّثَنَا عُمر بن حفص، حَدَّثَنَا أبي، حَدَّثَنَا الأعمش، قال: حدّثني عديّ بن ثابت، قال: سمعت سليمان بن صُرَد رجلًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: استَبّ رجلان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فغَضِب أحدهما، فاشتدّ غضبه، حتى انتفخ وجهه، وتغيَّر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إني لأعلم كلمةً، لو قالها لذهب عنه الذي يجد"، فانطلق إليه الرجل، فأخبره بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: تعوَّذ بالله من الشيطان، فقال: أترى بي بأسًا؟ أمجنونٌ أنا؟ اذهب. انتهى
(1)
.
(31) - (بَابٌ خُلِقَ الْإِنْسَانُ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6626]
(2611) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ، تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ، فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِه، يَنْظُرُ مَا هُوَ؟ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ، عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ").
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2248.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد المؤدِّب، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حِفظه بأَخَرَةٍ، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع وعشرين ومائة، وله ستّ وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
4 -
(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه تقدّم قريبًا.
وشيخه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أثبت الرواة في شيخه: حماد بن سلمة في ثابت، وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنةً، وفيه أنس منه من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا صَوَّرَ اللهُ) وفي رواية ابن حبّان: "لما خلق الله"(آدَمَ)؛ أي: خلق طينه، و"آدم" اسم سريانيّ، وهو عند أهل الكتاب آدام بإشباع فتحة الدال، بوزن خاتام، وزنه فاعال، وامتنع صرفه للعجمة والعَلَمية، وقال الثعلبيّ: التراب بالعبرانية آدام، فسمّي آدم به، وحُذفت الألف الثانية، وقيل: هو عربيّ، جزم به الجوهريّ، والجواليقيّ، وقيل: هو بوزن أفعل، من الأُدْمة، وقيل: من الأديم؛ لأنه خُلق من أديم الأرض، وهذا عن ابن عباس، ووجّهوه بأنه يكون كأعين، ومُنع الصرف؛ للوزن والعلمية، وقيل: هو من أَدَمت بين الشيئين: إذا خَلَطت بينهما؛ لأنه كان ماءً وطينًا، فخُلطا جميعًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 6/ 364.
(فِي الْجَنَّةِ) فيه أن آدم عليه السلام خُلق في الجنّة، (تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَتْرُكَهُ)"ما" هذه بمعنى المدّة، (فَجَعَلَ)؛ أي: فشَرَع من كمال تلبيسه، (إِبْلِيسُ) قال الفيّوميّ: أعجميّ، ولهذا لا ينصرف؛ للعجمة والعلميّة، وقيل: عربيّ مشتقّ من الإبلاس، وهو اليأس، ورُدّ بأنه لو كان عربيًّا لانصرف، كما ينصرف نظائره، نحو إِجْفيل، وإِخْريط. انتهى
(1)
.
(يُطِيفُ بِهِ) بضمّ حرف المضارعة، قال أهل اللغة: طاف بالشيء يطوف طَوْفًا وطَوَافًا، وأطاف يُطيف: إذا استدار حواليه
(2)
.
وقال المناويّ: "يُطيف به"؛ أي: يستدير حوله، ينظر إليه من جميع جهاته، وقوله:(يَنْظُرُ مَا هُوَ؟) استئناف بيانيّ، أو حال؛ أي: يتفكر في عاقبة أمره، ويتأمل ماذا يظهر منه؟
(3)
. (فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ) الأجوف الذي له جوف، قاله ابن الأثير، وقال النوويّ: الأجوف صاحب الجوف، وقيل: هو الذي داخله خالٍ
(4)
. (عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ")؛ أي: لا يتقوى بعضه ببعض، ولا قوّة له، ولا ثبات، بل يكون متزلزل الأمر، متغيّر الحال، متعرضًا للآفات، والتمالك: التماسك، وقيل: المعنى: لا يقدر على ضَبْط نفسه من المنع عن الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب، قاله القاري
(5)
.
وقال النوويّ: معنى "لا يتمالك": لا يملك نفسه، ويحبسها عن الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوسواس عنه، وقيل: لا يملك نفسه عند الغضب، والمراد: جنس بني آدم عليه السلام؛ أي: لا كلّهم؛ لأنَّ فيهم معصومين. انتهى
(6)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن الله تعالى لمّا صوّر طينة آدم، وشكّلها
(1)
"المصباح المنير" 1/ 60.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 164.
(3)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 328 - 329.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 164.
(5)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 328 - 329.
(6)
"شرح النوويّ" 16/ 164.
بشكله على ما سبق في علمه، فلما رآها إبليس أطاف بها؛ أي: دار حولها، وجعل ينظر في كيفيتها وأمرها، فلما رآها ذات جوف وقع له أنَّها مفتقرة إلى ما يسدّ جوفها، وأنها لا تتمالك عن تحصيل ما تحتاج إليه من أغراضها، وشهواتها، فكان الأمر على ما وقع. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ: قوله: "فلما رآه أجوف"؛ أي: صاحب جوف، والأجوف هو الذي داخله خالٍ، "عَرَف أنه خَلْق"؛ أي: مخلوق"لا يتمالك"؛ أي: لا يملك دفع الوسوسة عنه، أو لا يتقوى بعضه ببعض، ولا يكون له قوّة وثبات، بل يكون متزلزل الأمر، متغير الحال، مضطرب القال، مُعَرَّضًا للآفات، والتمالك: التماسك، أو لا يتماسك عن ما يسدّ جوفه، ويجعل فيه أنواع الشهوات الداعية إلى العقوبات، فكان الأمر كما ظنه.
قال التوربشتيّ: هذا الحديث مُشْكِل جدًّا، فقد ثبت بالكتاب والسُّنَّة أن آدم من أجزاء الأرض، وادخل الجَنَّة، وهو بشر حيّ، ويؤيّده المفهوم من نصّ الكتاب:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35].
وقال البيضاويّ: الأخبار متظاهرة على أنَّ الله تعالى خلق آدم من تراب، قبضه من وجه الأرض، وخَمَّره حتى صار طينًا، ثم تركه حتى صار صلصالًا، وكان مُلْقًى بين مكة والطائف، ببطن نعمان
(2)
، ولكن لا ينافي تصويره في الجَنَّة؛ لجواز أن تكون طينته لمّا خُمِّرت في الأرض، وتُركت فيها مضت عليها الأطوار، واستعدّت لقبول الصورة الإنسانية، حُملت إلى الجَنَّة، فصُوِّرت، ونفخ فيها الروح، وقوله تعالى:{يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35، الأعراف: 19] لا دلالة فيه أصلًا على أنه أُدخلها بعد نفخ الروح؛ إذ المراد بالسكون الاستقرار، والتمكن، والأمر به لا يجب كونه قبل الحصول في الجَنَّة، كيف وقد تظافرت الروايات على أنَّ حواء خُلقت من آدم في الجنّة، وهو أحد المأمورين به، ولعل آدم عليه السلام لمّا كانت مادّته التي هي البدن من
(1)
"المفهم" 6/ 596 - 597.
(2)
قال الجامع عفا الله عنه: هذا يحتاج إلى دليل صحيح، فليُنظر ما هو؟ والله تعالى أعلم.
العالم السفليّ، وصورته التي تميز بها عن سائر الحيوان، وضاهى بها الملائكة من العالم العلويّ، أضاف الرسول صلى الله عليه وسلم تكوّن مادته إلى الأرض؛ لأنَّها نشأت منها، وأضاف حصول صورته إلى الجَنَّة؛ لأنَّها منها. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [31/ 6626 و 6627](2611)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2024)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 152 و 229 و 240 و 254)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6163)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 457)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 37)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(1/ 27)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 386)، و (الأصبهانيّ) في "العظمة"(5/ 1558)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): هذا الحديث يدلّ على كيفيّة آدم عليه السلام، وكذلك وردت به أحاديث:
فمنها: ما رواه الترمذيّ، والنسائيّ، والبزار، وصححه ابن حبان، من طريق سعيد المقبريّ وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الله خلق آدم من تراب، فجعله طينًا، ثم تركه، حتى إذا كان حَمَأً مسنونًا، خَلَقه، وصوَّره، ثم تركه، حتى إذا كان صلصالًا كالفخار، كان إبليس يمرّ به، فيقول: لقد خُلقت لأمر عظيم، ثم نفخ الله فيه من روحه، وكان أول ما جرى فيه الروح بصره، وخياشيمه، فعطس، فقال: الحمد لله، فقال الله: يرحمك ربك. . ." الحديث.
ومنها: حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعًا: "إن الله خلق آدم من قبضة،
(1)
"فيض القدير" 5/ 297.
قَبَضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض. . ." الحديث، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وصححه ابن حبان.
2 -
(ومنها): بيان أن الجنّة مخلوقة موجودة، وأن الله تعالى خلق آدم عليه السلام فيها.
3 -
(ومنها): بيان عداوة إبليس لآدم وذرّيته من أول ما خُلق، ثم استمرّ إلى الآن، وسيستمرّ إلى قيام الساعة.
4 -
(ومنها): أن إبليس استدلّ بتمكّنه من إغواء آدم عليه السلام بكونه أجوف؛ لأنه يحتاج إلى رضي الله عنه قضاء شهوة بطنه، وبه يحصل له فتور وغفلة، فيكون ذلك مدخلًا له.
5 -
(ومنها): أن هذه الجنّة التي خُلق فيها آدم عليه السلام هي جنّة الخلد، قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": ولا التفات لِمَا ذهبت إليه المعتزلة، والقَدَرية، من أنه لَمْ يكن في جنة الخلد، وإنما كان في جنة بأرض عدن، واستدلّوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لَمَا وصل إليه إبليس، فإن الله يقول:{لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23]، وقال:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)} [النبأ: 35]، وقال:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25، 26].
وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48].
وأيضًا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قُدِّست عن الخطايا والمعاصي تطهيرًا لها، وقد لغا فيها إبليس، وكذب، وأخرج منها آدم، وحواء بمعصيتهما.
قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد، وهو في دار الخلد، والمُلك الذي لا يبلى؟.
فالجواب: أن الله تعالى عَرَّف الجَنَّة بالألف واللام، ومن قال: أسأل الله الجَنَّة، لَمْ يُفهم منه في تعارف الخَلْق إلَّا طلب جنة الخلد، ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجَنَّة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليه السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجَنَّة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنَّها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لردّ على موسى،
فلما سكت آدم على ما قرره موسى صحّ أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها.
وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها، وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء.
وقد أجمع أهل التأويل على أنَّ الملائكة يدخلون الجَنَّة على أهل الجَنَّة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس، ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ثم خرج منها، وأَخبر بما فيها، وأنها هي جنة الخلد حقًّا.
وأما قولهم: إن الجَنَّة دار القدس، وقد طهَّرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أنَّ الله تعالى قدّسها، وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب، ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس.
قال أبو الحسن بن بطال: وقد حَكَى بعض المشايخ أن أهل السُّنَّة مجمعون على أنَّ جنة الخلد هي التي أُهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم.
وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟، فيُعْكَس عليهم، ويقال: كيف يجوز على آدم، وهو في كمال عقله، أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء؟ هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو من أرجح الخلق عقلًا. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن جرير الطبريّ عند تفسير قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الآية قال: وفي هذه الآية دلالة واضحة على صحة قول من قال: إن إبليس أُخرج من الجَنَّة بعد الاستكبار عن السجود لآدم، وأسكنها آدم قبل أن يهبط إبليس إلى الأرض، ألا تسمعون الله جل ثناؤه يقول:
(1)
"تفسير القرطبيّ" 1/ 302 - 303.
فقد تبيَّن أن إبليس إنما أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعن، وأَظهر التكبر؛ لأنَّ سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نُفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6627]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع العبديّ، البصريّ، مشهور بكنيته، صدوق من صغار [10] مات بعد الأربعين ومائتين (م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
و"حمّاد" بن سلمة ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية بهز بن أسد عن حمّاد بن سلمة هذه ساقها الرويانيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1379)
- نا أبو عبد الله، نا بهزٌ، نا حماد، عن ثابت، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لَمّا خَلَق الله آدم، صَوَّره، ثم تركه في الجَنَّة، ما شاء أن يتركه، فجعل إبليس يُطيف به، فلما رآه أجوف، عَرَف أنه خلق لا يتمالك". انتهى
(2)
.
(1)
"تفسير الطبريّ" 1/ 229.
(2)
"مسند الرويانيّ" 2/ 389.
(32) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الْوَجْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6628]
(2612) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ - عَنِ أَبِي الزِّنَّاد، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الوَجْهَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبي البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون كلهم تقدّموا قبل خمسة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، وشيخه، وإن كان بصريًّا، إلَّا أن أصله من المدينة، وقد سكنها مدّة، وأنه من أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَاتَلَ) وفي الرواية الآتية: "إذا ضرب"(أَحَدُكُمْ أَخَاهُ) وفي رواية: "خادمه"، وفي لفظ:"عبده"، وذِكر الخادم في بعض الروايات، والعبد في بعضها، ليس للتخصيص، وإنما خَصّ؛ لأنَّ سبب ذِكره أن إنسانًا ضرب خادمه، وآخر عبده على وجهه، فالسبب خاصّ، والحكم عامّ، فشمل الحكم إذا ضرب حدًّا، أو تعزيرًا لله، أو لآدمي، وكذا الوليّ، والسيد، والزوج
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "قاتل": ضرب، وقد جاء كذلك في بعض رواياته، وقد قلنا: إن أصل المقاتلة المدافعة، ويعني بالأخوة هنا - والله أعلم -
(1)
"فيض القدير" 1/ 397.
أخوّة الآدمية، فإنَّ الناس كلّهم بنو آدم، ودلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنَّ الله خلق آدم على صورته"؛ أي: على صورة وجه المضروب، فكأنّ اللاطم في وجه أَحَد وَلَد آدم لَطَم وجه أبيه آدم، وعلى هذا فيحرم لَطْم الوجه من المسلم والكافر، ولو أراد الأخوّة الدينية لَمَا كان للتعليل بخلق آدم على صورته معنى.
لا يقال: الكافر مأمور بقتله، وضَرْبه في أي عضو كان؛ إذ المقصود إتلافه، والمبالغة في الانتقام منه، ولا شك في أن ضرب الوجه أبلغ في الانتقام، والعقوبة، فلا يُمنَع، وإنما مقصود الحديث إكرام وجه المؤمن؛ لِحُرمته.
لأنَّا نقول: مسلَّم أنّا مأمورون بقتل الكافر، والمبالغة في الانتقام منه، لكن إذا تمكّنّا من اجتناب وجهه اجتنبناه؛ لشرفيّة هذا العضو، ولأن الشرع قد نَزَّل هذا الوجه منزلة وجه أبينا، وقبيحٌ لطمُ الرجل وجهًا يُشبه وجه أبي اللاطم، وليس كذلك سائر الأعضاء؛ لأنَّها كلّها تابعة للوجه. انتهى
(1)
.
(فَلْيَجْتَنِبِ) وفي الرواية الآتية: "فليتّق"، وهو بمعنى "يجتنب"، وقوله:(الْوَجْهَ) منصوب على المفعوليَّة؛ أي: ضَرْب الوجه من كل مضروب معصوم وجوبًا؛ لأنه شينٌ، ومُثلة له؛ للطافته، وشَرَفه على جميع الأعضاء الظاهرة؛ لأنه الأصل في خلقة الإنسان، وغيره من الأعضاء خادم؛ لأنه الجامع للحواسّ التي بها تحصل الإدراكات المشتركة بين الأنواع المختلفة، ولأنه أول الأعضاء في الشخوص، والمقابلة، والتحدّث، والقصد، ولأنه مدخل الروح، ومخرجه، ومقرّ الجمال والحُسن، وبه قوام الحيوان كلّه ناطقه وغير ناطقة، فلما كان بهذه المثابة احترمه الشرع، وأمر بعدم التعرض له في عدَّة أخبار، بضرب، أو إهانة، أو تقبيح، أو تشويه، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "الفتح": وقد أخرجه مسلم من طريق أبي صالح، عن أبي هريرة، بلفظ:"فليتق" بدل: "فليجتنب"، وهي رواية أبي نعيم، وأخرجه مسلم أيضًا من طريق الأعرج، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا ضرب"، ومثله للنسائيّ من طريق عجلان، ولأبي داود من طريق أبي سلمة، كلاهما عن أبي هريرة،
(1)
"المفهم" 6/ 597 - 598.
(2)
"فيض القدير" 1/ 397.
وهو يفيد أن قوله: "قاتل" بمعنى قتل، وأن المفاعلة فيه ليست على ظاهرها، ويَحْتَمِل أن تكون على ظاهرها؛ ليتناول ما يقع عند دفع الصائل مثلًا، فينهَى دافعه عن القصد بالضرب إلى وجهه، ويدخل في النهي كل من ضرب في حدّ، أو تعزير، أو تأديب، وقد وقع في حديث أبي بكرة وغيره، عند أبي داود وغيره، في قصة التي زنت، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم برجمها، وقال:"ارمُوا، واتقوا الوجه"، وإذا كان ذلك في حقّ من تعيَّن إهلاكه، فمَن دونه أَولى.
قال النوويّ: قال العلماء: إنما نُهي عن ضرب الوجه؛ لأنه لطيف، يجمع المحاسن، وأكثر ما يقع الإدراك بأعضائه، فيُخشَى من ضربه أن تبطل، أو تتشوه كلّها، أو بعضها، والشين فيها فاحش؛ لظهورها، وبروزها، بل لا يسلم إذا ضربه غالبًا من شين. انتهى.
قال الحافظ: والتعليل المذكور حسنٌ، لكن ثبت عند مسلم تعليل آخر، فإنه أخرج الحديث المذكور من طريق أبي أيوب المراغيّ، عن أبي هريرة، وزاد:"فإن الله خلق آدم على صورته".
واختُلف في الضمير على من يعود، فالأكثر على أنه يعود على المضروب؛ لِمَا تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك، لَمْ يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها.
وقال القرطبيّ: أعاد بعضهم الضمير على الله؛ متمسكًا بما ورد في بعض طُرُقه: "إن الله خلق آدم على صورة الرَّحمن". قال: وكأن من رواه أورده بالمعنى؛ متمسكًا بما توهّمه، فغَلِط في ذلك.
وقد أنكر المازريّ، ومن تبعه صحة هذه الزيادة، ثم قال: وعلى تقدير صحتها، فيُحْمَل على ما يليق بالباري سبحانه وتعالى.
قال الحافظ: الزيادة أخرجها ابن أبي عاصم في "السُّنَّة"، والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات، وأخرجها ابن أبي عاصم أيضًا من طريق أبي يونس، عن أبي هريرة، بلفظٍ يرُدّ التأويل الأول، قال:"من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرَّحمن"، فتعيّن إجراء ما في ذلك على ما تقرر بين أهل السُّنَّة من إمراره كما جاء من غير اعتقاد تشبيه، أو من تأويله على ما يليق بالرحمن جل جلاله.
وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"خلق الله آدم على صورته. . ." الحديث.
وزعم بعضهم أن الضمير يعود على آدم عليه السلام؛ أي: على صفته؛ أي: خلقه موصوفًا بالعلم الذي فَضَل به الحيوان، وهذا مُحْتَمِلٌ.
وقد قال المازريّ: غَلِط ابن قتيبة، فأجرى هذا الحديث على ظاهره، وقال: صورة لا كالصور. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: دعوى الغلط على ابن قتيبة غلطٌ، فالصواب معه، كما هو مذهب السلف: أحمد، وإسحاق، وغيرهما، فتفطّن، وبالله تعالى التوفيق.
وقال حرب الكرمانيّ في "كتاب السُّنَّة": سمعت إسحاق بن راهويه يقول: صحّ أن الله خلق آدم على صورة الرَّحمن، وقال إسحاق الكوسج: سمعت أحمد يقول: هو حديث صحيح. وقال الطبرانيّ في "كتاب السُّنَّة": حَدَّثَنَا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: قال رجل لأبي: إن رجلًا قال: خلق الله آدم على صورته؛ أي: صورة الرجل، فقال: كذب، هو قول الجهمية. انتهى.
وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد"، وأحمد من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، مرفوعًا:"لا تقولنّ: قبّح الله وجهك، ووَجْه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته"، وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك، وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم أيضًا، من طريق أبي رافع، عن أبي هريرة، بلفظ:"إذا قاتل أحدكم، فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة وجهه".
ولم يتعرض النوويّ لحكم هذا النهي، وظاهره التحريم، ويؤيده حديث سُويد بن مُقَرِّن الصحابيّ أنه رأى رجلًا لطم غلامه، فقال: أوَ ما علمت أن الصورة محترمة. أخرجه مسلم وغيره. انتهى
(1)
، وسيأتي تمام البحث في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
(1)
"الفتح" 6/ 391 - 392، كتاب "العتق" رقم (2559).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [32/ 6628 و 6629 و 6630 و 6631 و 6632 و 6633](2612)، و (البخاريّ) في "العتق"(2559)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 384)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 251 و 313 و 244 و 434 و 449 و 463 و 519)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1121)، (وابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 36 و 37)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5604 و 5605)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 25)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 228 و 229 و 230)، (و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 314)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 290)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2573)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في مرجع الضمير في قوله: "على صورته":
(اعلم): أنه اختُلف في ذلك على ثلاثة أقوال:
[القول الأول]: أن الضمير يعود على المضروب، وإلى هذا ذهب ابن خزيمة رحمه الله في "كتاب التوحيد"، حيث قال: توهّم بعض من لَمْ يتحرَّ العلم أن قوله: "على صورته" يريد صورة الرَّحمن عزّ ربنا وجلّ عن أن يكون هذا معنى الخبر، بل معنى قوله:"خلق آدم على صورته" الهاء في هذا الموضع كناية عن اسم المضروب والمشتوم، أراد صلى الله عليه وسلم: أن الله خلق آدم على صورة هذا المضروب، الذي أمر الضارب باجتناب وجهه بالضرب، والذي قَبّح وجهه، فزجر صلى الله عليه وسلم أن يقول: ووجه من أشبه وجهك؛ لأنَّ وجه آدم شبيه وجوه بنيه، فإذا قال الشاتم لبعض بني آدم: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، كان مقبِّحًا وجه آدم - صلوات الله عليه وسلامه - الذي وجوه بنيه شبيهة بوجه أبيهم، فتفهّموا رحمكم الله معنى الخبر، لا تَغْلَطوا، فتضلوا عن سواء السبيل، وتحملوا على القول بالتشبيه الذي هو ضلال. انتهى
(1)
.
(1)
"التوحيد لابن خزيمة" 1/ 84 - 85.
ومثله قال أبو حاتم بن حبان حيث قال - بعد تخريج هذا الحديث -: يريد به صورة المضروب؛ لأنَّ الضارب إذا ضرب وجه أخيه المسلم ضَرَب وجهًا خلق الله آدم على صورته
(1)
.
قال الحافظ ابن حجر: واختُلف في الضمير على من يعود؟ فالأكثر على أنه يعود على المضروب لِمَا تقدم من الأمر بإكرام وجهه، ولولا أن المراد التعليل بذلك لَمْ يكن لهذه الجملة ارتباط بما قبلها
(2)
.
وقد رُدَّ هذا القول وأبطلوه:
قال ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث " - في سرد أقوال الأئمة في تأويل هذا الحديث - ومنها: أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه، قال: وهذا لا فائدة فيه، والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خَلْق ولده، وجهه على وجوههم، وزاد قوم في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مرَّ برجل يضرب وجه رجل آخر، فقال:"لا تضربه، فإن الله تعالى خَلْق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته"؛ أي: صورة المضروب، وفي هذا القول من الخلل ما في الأول
(3)
.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا -يعني الزيادة التي ذكرها ابن قتيبة - شيء لا أصل له، ولا يُعرف في شيء من كتب الحديث
(4)
.
وقال الطبراني في "كتاب السُّنَّة": حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قال رجل لأبي: إن رجلًا قال: خلق الله آدم على صورته؛ أي: صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا؟
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشيخ محمد الكرخي الشافعي أنه قال في كتابه: "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزامًا لذوي البدع
(1)
"صحيح ابن حبان" - كما في الإحسان - 12/ 420.
(2)
"فتح الباري" 5/ 183.
(3)
"تأويل مختلف الحديث" ص 319.
(4)
"بيان تلبيس الجهميّة" 6/ 424.
والفضول" ما نصه: فأما تأويل من لَمْ يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول، وإن صدر ذلك عن إمام معروف غير مجهول، نحو ما يُنسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في تأويل الحديث: "خلق آدم على صورته"، فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث، لِمَا رويناه عن أحمد رحمه الله، ولم يتابعه أيضًا مَن بعده
(1)
.
ثم قال شيخ الإسلام: قلت: فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جَمَعه من مناقب الإمام الملقّب بقوام السُّنَّة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التميمي صاحب كتاب "الترغيب والترهيب"، قال: سمعته يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا يُطعن عليه بذلك، بل لا يؤخذ عنه فحسب، قال أبو موسى: أشار بذلك إلى أنه قلَّ مِن إمام إلَّا وله زلة، فإذا تُرك ذلك الإمام لأجل زلّته، تُرك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يُفعل
(2)
.
وقال الذهبيّ في "سير أعلام النبلاء" - في ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة -: وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليُعْذَر مَن تأوّل بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفّوا، وفوّضوا عِلم ذلك إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولوأن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق - أهدرناه، وبدّعناه، لقلّ من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنّه وكرمه
(3)
.
وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهمية" ثلاثة عشر وجهًا لإبطال هذا القول:
* منها: أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير، فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم، فتخصيص واحد لَمْ يتقدم له ذِكر بأن الله خلق آدم على
(1)
"بيان تلبيس الجهميّة" 6/ 404 - 406.
(2)
"بيان تلبيس الجهميّة" 6/ 409 - 411.
(3)
"سير أعلام النبلاء" 14/ 374.
صورته في غاية البعد، لا سيما وقوله:"وإذا قاتل أحدكم .. وإذا ضرب أحدكم" عام في كل مضروب، والله خلق آدم على صُوَرهم جميعهم، فلا معنى لإفراد الضمير، وكذلك قوله:"لا يقولن أحدكم: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك" عام في كل مخاطب، والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم.
* ومنها: أن ذرية آدم خُلقوا على صورة آدم، لَمْ يخلق آدم على صُوَرهم، فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه: خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده، لا يقال؛ إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود، حما يقال: خلق الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا.
* ومنها: أنه إذا أُريدَ مجرد المشابهة لآدم وذريته لَمْ يَحْتَجْ إلى لفظ خلق على كذا، فإنّ هذه العبارة إنما تُستعمل فيما فُطِر على مثال غيره، بل يقال: إن وجهه يشبه وجه آدم، أو فإن صورته تُشْبه صورة آدم.
* ومنها: أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهى أيضًا عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء، لا يقولن أحدكم: قطع الله يدك ويد من أشبه يدك
…
إلخ ما ذكره
(1)
.
[القول الثاني]: أن الضمير يعود إلى آدم.
وهو مرويّ عن أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، ذكره القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة في ترجمة محمد بن علي الجرجاني، المعروف بحمدان أنه قال: سألت أبا ثور عن قول النبيّ: "إن الله خلق آدم على صورته"، فقال: على صورة آدم
(2)
.
ونقله الإمام أحمد عن بعض محدثي البصرة، كما في "بيان التلبيس" لشيخ الإسلام ابن تيمية.
وذكره البيهقيّ في "الأسماء والصفات" عن أبي سليمان الخطابيّ، وأقرَّه
(3)
.
(1)
بيان تلبيس الجهميّة" 6/ 423 - 432.
(2)
"طبقات الحنابلة" 1/ 359.
(3)
"الأسماء والصفات" 2/ 61 - 62.
ونَسَبه ابن قتيبة إلى أهل الكلام، فقال: فقال قوم من أصحاب الكلام: أراد: خلق آدم على صورة آدم، لَمْ يزد على ذلك
(1)
. وإليه ذهب العراقيّ في "طرح التثريب"
(2)
.
وقد ردّ الأئمة هذا القول وأبطلوه وبدّعوا قائله:
فقد قال الإمام أحمد - لمّا ذُكر له قول أبي ثور المتقدم -: من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟
(3)
.
وقال ابن قتيبة - بعد ذِكره لهذا القول -: ولو كان المراد هذا، ما كان في الكلام فائدة، ومن يشك في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته، والسِّباع على صورها، والأنعام على صورها؟
(4)
.
وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية لفساد هذا القول تسعة أوجه في كتابه "بيان تلبيس الجهميّة"، نقتصر على ذكر ثلاثة منها
(5)
؛ لأنَّها كافية في إبطاله:
* أحدها: أنه إذا قيل: إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم، أو لا تقبحوا الوجه، ولا يقل أحدكم: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورة آدم، كان هذا من أفسد الكلام، فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلًا، فإن كون آدم مخلوقًا على صورة آدم، فأي تفسير فسَّر به فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنيه، ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها، وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرّق الحديث المروي:"إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه" مفردًا، وروي قوله:"إن الله خلق آدم على صورته" مفردًا، أما مع أداء الحديث على وجهه فإن عود الضمير إلى آدم يمنع فيه، وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم أو كان فيه إخبار مجرد بالواقع فلا يناسب هذا الحكم.
* الوجه الثاني: أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم، فلو كان
(1)
"تأويل مختلف الحديث" ص 318.
(2)
"طرح التثريب" 8/ 104.
(3)
"طبقات الحنابلة" 1/ 309.
(4)
"تأويل مختلف الحديث" ص 318.
(5)
هي التي اقتصر عليها صاحب رسالة "حديث الصورة".
مانعًا من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعًا من ضرب سائر الوجوه وتقبيح سائر الصور، وهذا معلوم الفساد في العقل والدين، وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام، وإضافة ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلَّا عن جهل عظيم أو نفاق شديد؛ إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحُسن كلامه وبيانه.
* الوجه الثالث: أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه، وهذا من أعظم التناقض، وذلك أنهم تأولوا الحديث على أنَّ آدم لَمْ يُخلق من نطفة وعَلَقة ومضغة، وعلى أنه لَمْ يتكوّن في مدة طويلة بواسطة العناصر، وبَنُوه قد خُلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، وخُلقوا في مدة عناصر الأرض
…
، فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خُلق على ذلك الوجه، وهذه العلة منتفية في بَنِيه، فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بَنِيه وتقبيحها لانتفاء العلة فيها، فإن آدم هو الذي خُلق على صورة دونهم؛ إذ هم لَمْ يُخلقوا كما خُلق لآدم على صورهم التي هم عليها، بل نُقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة
(1)
.
[القول الثالث]: أن الضمير يعود على الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الإمام أحمد هذا القول فيما أملاه على بعض أصحابه من أقوال أهل السُّنَّة والجماعة، قال القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة - في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي -: نقلت من خط أحمد الشنجي بإسناده قال: سمعت محمد بن عوف يقول: أملى عليّ أحمد بن حنبل - فذكر جملة من المسائل التي أملاها عليه مما يعتقده أهل السُّنَّة والجماعة، ومنها -: وأن آدم صلى الله عليه وسلم خلق على صورة الرَّحمن كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(2)
.
وحكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عن جمهور السلف.
قال ابن قتيبة رحمه الله: والذي عندي - والله تعالى أعلم - أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنَّها لَمْ تأت في القرآن، ونحن نؤمن
(1)
"بيان تلبيس الجهميّة" 6/ 433.
(2)
"طبقات الحنابلة" 1/ 313.
بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حدّ
(1)
.
وقد انتصر لهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان تلبيس الجهميّة".
وقد ذهب بعض أهل السُّنَّة والجماعة إلى أن إضافة الصورة إلى الله من باب التشريف والتكريم، كقوله تعالى:{نَاقَةُ اللَّهِ} [الأعراف: 73]، وكما يقال في الكعبة: بيت الله، ونحو ذلك
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: أقرب هذه الأقوال عندي، وأرجحها هو ما ذهب إليه الكثيرون، وانتصر له شيخ الإسلام من إثبات الصورة لله تعالى بهذا الحديث، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فلا داعي للتأويلات المتعسّفة، بل ما دلّ عليه ظاهر النصّ هو المَحْمَل الصحيح، فتأمله بالإمعان، والإنصاف.
ومما يؤيّد ذلك، أن الصورة لله سبحانه وتعالى ثابتة في النصوص الصحيحة الأخرى، ومن أقواها وأبينها، ذلك ما أخرجه الشيخان
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ ناسًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله!، وفيه:"يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتّبعه، فيتّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتّبعونه. . ." الحديث.
فقد أثبت هذا الحديث الصحيح المتّفق عليه الصورة لله عز وجل، فنثبتها كما
(1)
"تأويل مختلف الحديث" ص 318.
(2)
راجع: "طرح التثريب" 8/ 105، وهو أحد الأجوبة التي أجاب بها الشيخ ابن عثيمين عن الحديث، انظر:"شرح العقيدة الواسطية" 1/ 159، قاله صاحب رسالة "حديث الصورة" ص 17.
(3)
أخرجه البخاريّ (6573، 7437)، ومسلم (182).
أثبتها، وننزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6629]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَاد، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ: "إِذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَمْرُو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ) الكوفيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
و"أبو الزناد" عبد الله بن ذكوان ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن أبي الزناد هذه ساقها الحُميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1121)
- حَدَّثَنَا
(1)
الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، فإن الله خَلَق آدم على صورته". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6630]
(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، أبو محمد، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطَرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
(1)
هذا من كلام الراوي عن الحميديّ، فتنبّه.
(2)
"مسند الحميديّ" 2/ 476.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وَضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6631]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلَا يَلْطِمَنَّ الْوَجْهَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ الْعَنْبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: وُلد أكمه، وهو رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
5 -
(أَبُو أَيُّوبَ) الْمَرَاغيّ الأزديّ، اسمه يحيى، ويقال: حبيب بن مالك، ثقةٌ [3] مات بعد الثمانين (خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1387.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبله.
وقوله: (فَلَا يَلْطِمَنَّ الْوَجْهَ") بفتح حرف المضارعة، وكسر الطاء، يقال: لَطَمت المرأة وجهها لَطْمًا، من باب ضرب: ضربَتْه بباطن كفّها، واللَّطْمة بالفتح: المرّة، قاله الفيوميّ رحمه الله
(1)
.
والحديث سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 553.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6632]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أبِي أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ حَاتِمٍ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(نَصْرُ بْنُ علَيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُوهُ) عليّ بن نصر بن عليّ الجهضميّ البصريّ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.
3 -
(الْمُثَنَّى بْنُ سَعِيدٍ) الضُّبَعيّ، أبو سعيد البصريّ القَسّام القصير، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1569.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ السَّمِين، صدوقٌ، رُبَّما وَهِمَ، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
5 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ إمام مشهور [9](ت 198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 388.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ) تقدّم تحقيق البحث فيه قريبًا، فلا تغفل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6633]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَالِكٍ الْمَرَاغِيِّ - وَهُوَ أَبُو أَيُّوبَ - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ رُبَّما وَهِمَ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (الْمَرَاغِيِّ) بفتح الميم، وقيل: بكسرها، والأول أصحّ: نسبة إلى قبيلة، قاله في "اللباب"
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة
(33) - (بَابُ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِمَنْ عَذَّبَ النَّاسَ بِغَيْرِ حَقٍّ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6634]
(2613) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: مَرَّ بِالشَّامِ عَلَى أُنَاسٍ، وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْس، وَصُبَّ عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: يُعَذَّبُونَ فِي الْخَرَاجِ، فَقَالَ: أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ الكوفيّ القاضي، تقدّم قبل بابين.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوام الأسديّ، أبو المنذر المدنيّ، ثقةٌ فقية، ربّما دلَّس [5](5 أو 146) وله سبع وثمانون سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 350.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامِ) بن خُويلد بن أسد بن عبد العُزّى بن
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 189.
قُصَيّ بن كلاب القرشيّ الأسديّ، وأمه زينب بنت العوّام أخت الزبير، كان هو وأبوه من مُسلِمة الفتح، ذكره ابن سعد فيهم، قال: وكان رجلًا مَهِيبًا.
رَوَى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه جُبير بن نُفير، وعروة بن الزبير، وقتادة السُّلَميّ.
قال الزهريّ: كان يأمر بالمعروف في رجال معه، وقال ابن وهب، عن مالك: كان هشام كالسائح، ما يتخذ أهلًا، ولا ولدًا، وقال مصعب الزبيريّ: كان له فضل، ومات قبل أبيه، وقال أبو نعيم الأصبهانيّ: استُشهِد بأَجنادين.
وتعقّبه الحافظ، قائلًا: وهذا غَلَطٌ من أبي نعيم، فإن الذي قُتل بأجنادين هشام بن العاص أخو عمرو، وأما هشام بن حكيم هذا فقد صحّ أنه كان بحمص، وعياض بن غَنْم وَالي عليها، وذلك بعد أجنادين بمدّة طويلة، وأيضًا فسماع عروة منه في "الصحيح"، وعروة إنما وُلد بعد أجنادين، وفي "الصحيحين" عن عمر:"سمعت هشام بن حكيم يقرأ "سورة الفرقان" على حروف لَمْ يُقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." الحديث، وهو هذا. انتهى
(1)
.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلَّا هذا الحديث، وكرّره هنا ثلاث مرّات.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من هشام بن عروة، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلَّا هذا الحديث عن مسلم، وأبي داود، والنسائيّ، راجع:"تحفة الأشراف"
(2)
.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ) رضي الله عنه (قَالَ) عروة: (مَرَّ) هشام بن حكيم رضي الله عنه (بِالشَّام) بهمزة، وساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة إليها شَأْميّ على الأصل، ويجوز شآمٍ، بالمدّ من غير ياء، مثلُ يمنيّ، وَيمَانٍ، قاله الفيّوميّ
(3)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 269.
(2)
"تحفة الأشراف" 9/ 70 - 71.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 328.
(عَلَى أُنَاسٍ) بضمّ الهمزة، قال الفيّوميّ رحمه الله: قيل: وزنه فُعَالٌ، بِضَمّ الفَاء، مُشْتَقٌّ مِنَ الأُنس، لكن يجوزُ حذف الهمزة تخفيفًا، على غير قياس، فيبقى النَّاسَ، وعنِ الكسائيّ أن الأَناسَ والنَّاسَ لُغَتانِ بمِعَنْىً واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، وهو الوجهُ؛ لأنهما مادَّتَانِ مُخْتلِفَتانِ في الاشْتِقَاق، والحذف تَغْيِيرٌ، وهو خِلاف الأَصْلِ. انتهى
(1)
.
وفي الرواية التالية: "قَالَ: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ، مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ".
وقوله: (وَقَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ) جملة في محل نصب على الحال، وكذا قوله:(وَصُبَّ) بضمّ الصاد المهملة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: أُريق (عَلَى رُؤُوسِهِمُ الزَّيْتُ) دُهن الزيتون، (فَقَالَ) هشام بن حكيم رضي الله عنه:(مَا هَذَا؟)؛ أي: أيُّ شيء هذا الذي يُعذَّبونه هؤلاء؟ (قِيلَ) له: (يُعَذَّبُونَ) خبر لمحذوف؛ أي: هم يُعذّبون (فِي الْخَرَاجِ)؛ أي: بسبب عدم دفعهم الخراج، فـ "في" سببيّة، كما في قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 160]، (فَقَالَ) هشام رضي الله عنه:(أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا"، (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في موضع الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ) سبحانه وتعالى (يُعَذِّبُ) يوم القيامة، وقوله:(الَّذِينَ) في محلّ نصب على المفعوليّة لـ "يُعذّب". (يُعَذِّبُونَ) وفي الرواية التالية: "يعذّبون الناس"، (فِي الدُّنْيَا") قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: إذا عذبوهم ظالمين، إما في أصل التعذيب، فيعذبونهم في موضع لا يجوز فيه التعذيب، أو بزيادة على المشروع في التعذيب، إما في المقدار، وإما في الصفة، كما بيّناه في الحدود. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على التعذيب بغير حقّ، فلا يدخل فيه التعذيب بحقّ، كالقصاص، والحدود، والتعزير، ونحو ذلك
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 26.
(2)
"المفهم" 6/ 599.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 167.
وقال المناويّ: رحمه الله: المراد أن لهم مزيد مزيّة على غيرهم من عُصاة المؤمنين الذين يعذبهم بذنوبهم، وقد يُدرك العفو من شاء الله عز وجل منهم، فلا يُعَذَّب أصلًا، وذِكْرُ الدنيا مع أنه لا يكون إلَّا فيها تتميمٌ، أو للمقابلة.
انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث هشام بن حكيم رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [33/ 6634 و 6635 و 6636 و 6637](2613)، و (أبو داود) في "الخراج"(3045)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 236)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 404)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 425)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 206)، و (ابن منده) في "الفوائد"(1/ 51)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 205)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الوعيد الشديد لمن يعذّب الناس بغير موجَب لذلك، فإن الله تعالى يعذّبه في نار جهنّم، وهي أشدّ حرًّا.
2 -
(ومنها): أنه يَحْرُم تعذيب الذميّ بعدم دفعه الجزية؛ إذا كان عاجزًا، وأما إذا كان قادرًا، فامتنع عن أدائها ظلمًا، فإنه يعاقَب بما يناسب حاله.
3 -
(ومنها): بيان أن العالِم يجب عليه إذا رأى ارتكاب ظلم ونحوه أن يذكر ما عنده من العلم، حتى يرتدع الناس به، وينكفّوا عن الظلم.
4 -
(ومنها): ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الصدع بالحقّ، من غير خوف، ولا استكانة، فقد دخل هذا الصحابيّ هشام بن حكيم على أمير فلسطين، وذكّره بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتذكّر، فخلّى سبيل المعذَّبين، وهكذا من حقّ المسلم أن يصدع بالحقّ، ولو كان عند ظالم، فقد أخرج أبو داود،
(1)
"فيض القدير" 2/ 304.
والترمذيّ، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر - أو - أمير جائر"، وهو حديث صحيح.
وأخرج النسائيّ عن طارق بن شهاب، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الْغَرْز: أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: "كلمة حق عند سلطان جائر"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6635]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَلَى أُنَاسٍ، مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّام، قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْس، فَقَالَ: مَا شَأْنُهُمْ؟ قَالُوَا: حُبِسُوا فِي الْجِزْيَة، فَقَالَ هِشَامٌ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.
وقوله: (مِنَ الأَنْبَاطِ بِالشَّامِ) بفتح الهمزة: هم فلّاحو المعجم، قاله النوويّ رحمه الله، وقال الفيّوميّ رحمه الله: النَّبَطُ: جِيل من الناس، كانوا ينزلون سَوَاد العراق، ثم استُعمل في أخلاط الناس، وعوامّهم، والجمع: أَنْبَاطٌ، مثل سَبَبٍ وأسباب، الواحد نُبَاطِيٌّ بزيادة ألف، والنونُ تُضَمّ، وتُفتح، قال الليث: ورجل نَبَطِيٌّ، ومنعه ابن الأعرابيّ، واسْتَنْبَطْتُ الحكمَ: استخرجتُه بالاجتهاد، وأَنْبَطْتُهُ إِنْبَاطًا مثله، وأصله من اسْتَنْبَطَ الحافرُ الماءَ، وأَنْبَطَهُ إِنْبَاطًا: إذا استخرجه بعمله. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأنباط": جمع نَبَط، وهم قوم ينزلون بالبطائح بين العراقَيْن، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنبِطون الماء؛ أي: يحفرون عليه، حتى يخرج
(1)
"المصباح المنير" 2/ 590 - 591.
على وجه الأرض، يقال: نبط الماءُ يَنبُط وينبِط، من بابي قتل، وضرب: إذا نبع، أنبط الحفّارُ الماءَ: إذا بلغ إليه، والاستنباط: استخراج العلوم، ويقال للنبط: نَبِيط أيضًا، وكانوا إذ ذاك أهل ذمّة، ولذلك عُذّبوا بالشمس، وصُبّ الزيت على رؤوسهم لأجل الجزية، وكأنهم امتنعوا من الجزية مع التمكّن، فعوقبوا لذلك، فأمَّا مع تبيّن عجزهم، فلا تحل عقوبتهم بذلك، ولا بغيره؛ لأنَّ من عجز عن الجزية سقطت عنه. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6636]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاق بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: قَالَ: وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْن سَعْدٍ، عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَلَ عَلَيْه، فَحَدَّثَهُ، فَأَمَرَ بِهِمْ، فَخُلُّوا).
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
وكلهم ذكروا في الباب، وقبل باب، إلَّا وكيعًا، فذكر قبل بابين، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.
وقوله: (وَأَمِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا صحَّت الرواية عند أكثر الشيوخ، وفي أكثر النُّسخ، وهو الصواب؛ لأنَّه عُمير بن سَعْد بن عُمر القارئ الأنصاريّ، من بني عمرو بن عوف، يكنى أبوه أبا زيد، وهوأحدُ من جَمَع القرآن الذي تقدَّم ذِكره في حديث أنس، الذي قال فيه أنس: أبو زيد أحد عمومتي، واختُلف في اسم أبي زيد هذا، فقيل: سعد - كما تقدم - وهو الأعرف، وقيل: سعيد، وكان عمر رضي الله عنه ولّى عُميرًا حمص، وكان يقال له: نَسيجُ وحده، ووقع في كتاب القاضي أبي علي الصدفيّ: عُمر بن سعيد، قال أهل النقل: وهو وَهَمٌ، وأما عمرو بن - سعيد فمعدود في الصحابة،
(1)
"المفهم" 6/ 598 - 599.
وهو عمرو بن سعيد، ربيب الْجَلّاس بن سُويد المنافق
(1)
، ويتيمه، حكاه القاضي أبو الفضل. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وأميرهم يومئذ عمير بن سعد" هكذا هو في معظم النسخ عُمير - بالتصغير - ابن سَعْد - بإسكان العين، من غير ياء - وفي بعضها عُمير بن سعيد، بكسر العين، وزيادة ياء، قال القاضي: الأول هو الموجود لأكثر شيوخنا، وفي أكثر النُّسخ، وأكثر الروايات، وهو الصواب، وهو عمير بن سعد بن عمير الأنصاريّ الأوسيّ، من بني عمرو بن عوف، ولّاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمص، وكان يقال له: نسيج وحده، وأبو زيد الأنصاريّ أحد الذين جمعوا القرآن، والله أعلم
(3)
.
وقال في "تهذيب التهذيب": عمير بن سعد الأنصاريّ الأوسيّ، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وعنه ابنه محمود، وأبو إدريس الخولانيّ، وحبيب بن عبيد، وغيرهم.
قال مصعب الزبيريّ عن عبد الله بن محمد بن عُمارة: عُميرُ بن سعد بن شَهِيد بن قيس بن النعمان بن عمرو بن أمية، له صحبة، وهو الذي رفع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كلام الْجَلّاس بن سُويد، وكان يتيمًا في حِجره، ولم يشهد شيئًا من المشاهد، وشَهِد فتوح الشام، واستعمله عمر على حمص، وكان من الزهاد، هكذا قال ابن القداح.
وأما ابن سعد فقال: عُمير بن سعد بن عُبيد بن النعمان بن قيس بن عمرو بن زيد بن أمية، كان أبوه ممن شَهِد بدرًا، وأبوه سعد القاري أبو زيد، واستُشهد بالقادسيّة، ولأبيه صحبة، وولّاه عمر على حمص، قال: ومات في خلافة معاوية، كذا قال ابن سعد، وقيل: إنه وَهِمَ في ذلك تبعًا للواقديّ، وأن الصواب ما قاله القدّاح، وقد فرّق بينهما غير واحد، وقال بعضهم: إن أبا زيد الأنصاريّ لَمْ يُعْقِب، وقال محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرَّحمن بن عُمير بن سعد، قال لي ابن عمر: ما كان من الصحابة
(1)
وهو الذي رفع كلام الجلاس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. "تت".
(2)
"المفهم" 6/ 599 - 600.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 168.
رجل أفضل من أبيك، وقال هشام بن حسان، عن ابن سيرين: كان عمر مُعْجَبًا به، وكان من عَجَبه به كان يُسَمِّيه نَسِيج وحده، ويقال: إن عمر قال لأصحابه: تَمَنَّوا، فتمنى كل رجل أمنية، فقال عمر: لكنني أتمنى أن يكون لي رجال مثل عُمير أستعين بهم على أمور المسلمين، ويقال: إنه مات في خلافة عمر، ويقال: في خلافة عثمان، وقيل غير ذلك، ومناقبه كثيرة، وقد تعقب ابن الأثير قول من قال: إنه ابن أبي زيد القاريّ، بأن أنس بن مالك كان يقول في أبي زيد: هو أحد عمومتي، وأنس من الخزرج، وعمير بن سعد هذا أوسيّ، فكيف يكون ابنه؟ قال الحافظ: وهو تعقب جَيِّد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي في قوله: "تعقّب جيّد" نظر، لماذا لا يكون أنس تجوّز في قوله:"أحد عمومتي"، أو أن عمومته كانت من جهة الرضاعة، فليُتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
وقوله: (عَلَى فِلَسْطِينَ) بكسر الفاء، وفتح اللام: هي بلاد بيت المقدس، وما حولها، قاله النوويّ
(2)
.
وقال المرتضى رحمه الله: فِلَسْطُونَ، وفِلَسْطِينُ، وقد تُفْتَحُ فاؤُهما: كُورَةٌ بالشَّام، في "نورِ النِّبْراس": هي: الرَّمْلَة، وغَزَّةُ، وبَيْتُ المَقْدِس، وما وَالَاها. وفي "النِّهايَةِ": هي مَا بَيْنَ الأُرْدُنِّ، ودِيارِ مِصْرَ، وأُمُّ بِلادِها بَيْتُ المَقْدِس. وفِلَسْطِينُ: قرية، وقيلَ: مدينةٌ بالعِراقِ. وفي "التَّهذيب": نُونُها زائِدَةٌ، وقالَ غيرُه: بَلْ هي كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، والعَرَبُ في إِعْرابِها عَلَى مَذْهَبَيْن، منهم مَنْ يَجْعَلُها بمَنْزِلَةِ الجمع، ويجعَلُ إِعْرابَها في الحَرْفِ الَّذي قبلَ النُّون، تَقولُ في حالِ الرَّفْعِ بالواو: هذه فِلَسْطونَ، وفي حالِ النَّصْبِ والجَرِّ بالياء، رأَيتُ فِلَسْطِينَ، ومَرَرْتُ بفَلَسْطينَ، أَو تجعَلُها بمنْزِلَةِ ما لا يَنْصَرِفُ، وتُلْزِمُها الياءَ في كلِّ حالٍ، فتَقُول: هذه فِلَسْطِينُ، ورَأَيْتُ فِلَسْطِينَ، ومَرَرْتُ بفِلَسْطِينَ، ومنهم من يَجْعلها بمنزلة الجمع، ويجعل إِعرابها في الحرف الَّذي قبل النُّون، فيقول: هذه فِلسطونَ، ورَأَيْتُ فِلَسْطِين، ومررت بفِلَسْطِينَ، والنُّونُ في كلِّ ذلِكَ مَفْتوحَةٌ، قالَ عَدِيُّ بن الرِّقاعِ [من الخفيف]:
(1)
"تهذيب التهذيب" 8/ 128.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 168.
فكأَنِّي من ذِكْرِهم خالَطَتْنِي
…
من فِلَسْطِينَ جَلْسُ خَمْرٍ عُقَارُ
عُتِّقَتْ في القِلَالِ من بَيْتِ رَأْسٍ
…
سَنَوَاتٍ وما سَبَتْها التِّجَارُ
والنِّسبَةُ إِليها فِلَسْطِيُّ، قالَ الأَعْشَى [الطويل]:
مَتَى تُسْقَ مِنْ أَنْيابِهَا بَعْدَ هَجْعَةٍ
…
من اللَّيْلِ شِرْبًا حينَ مالَت طُلَاتُهَا
تَخَلْهُ فِلَسْطِيًّا إِذا ذُقْتَ طَعْمَه
…
عَلَى رَبِذَاتِ النَّيِّ حُمْشٍ لِثَاتُها
وقال ابنُ هَرْمَةَ:
كَأْسٌ فِلَسْطِيَّةٌ مُعَتَّقَةٌ
…
شُجَّتْ بماءٍ من مُزْنَةِ السَّبَلِ
انتهى
(1)
.
وقوله: (فَدَخَلَ عَلَيْهِ إلخ)؛ أي: دخل هشام بن حكيم على عُمير بن سعد أمير فلسطين آنذاك، فَحَدَّثَهُ؛ أي: أخبره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا". وقوله: (فَأَمَرَ بِهِمْ)؛ أي: أمر عُمير بن سعد لمّا سمع الوعيد بإخلاء سبيلهم.
وقوله: (فَخُلُّوا) بضم الخاء المعجمة، واللام المشدّدة؛ أي: أُطلق سَرَاحهم، فانطلقوا إلى بيوتهم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فخلوا" ضبطوه بالخاء المعجمة، والحاء المهملة، والمعجمة أشهر، وأحسن. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6637]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ وَجَدَ رَجُلًا، وَهُوَ عَلَى حِمْصَ، يُشَمِّسُ نَاسًا مِنَ النَّبَطِ، فِي أَدَاءِ الْجزْيَة، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا").
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" ص 4955.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 168.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرْح المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب الحافظ المصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الشهير، تقدّم قبل بابين.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.
(34) - (بَابُ أَمْرِ مَنْ مَرَّ بِسِلَاحٍ فِي مَسْجِدٍ، أَو سُوقٍ، أَو غَيْرِهِمَا، مِنَ الْمَوَاضِعِ الْجَامِعَةِ لِلنَّاس، أَنْ يُمْسِكَ بِنِصَالِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6638]
(2614) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ بِسِهَامٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرُو) بن دينار المكيّ، أبو محمد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
2 -
(جَابِرُ) بن عبد الله الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقيه، وأنه مسلسلٌ بالمكيين، سوى شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني مروزيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو) بن دينار؛ أنه (سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ) لا يُعرف، كما قال صاحب "التنبيه"
(1)
. (فِي الْمَسْجِدِ بِسِهَامٍ) بالكسر: جَمْع سَهْم، بفتح، فسكون، وهو واحد النَّبْل، وقيل: السهوم: نفس النصل، قاله الفيّوميّ
(2)
، وقال في "الفتح": النَّبْلُ بفتح النون، وسكون الموحّدة، وبعدها لام: السهام العربيّة، وهي مؤنّثة، ولا واحد لها من لفظها. انتهى
(3)
. (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا")؛ أي: خذ بحديدتها، قال المرتضى رحمه الله: مَسَكَ به، وأَمسَكَ به، وَتماسَكَ، وَتمَسَّكَ، واسْتَمْسَكَ، ومَسَّكَ تَمْسِيكًا، كُلُّه بمَعْنى احْتَبَسَ، وفي "الصحاحِ": اعْتَصَمَ به، وفي "المُفْرَداتِ": إِمْساكُ الشيء: التَّعَلُّقُ به، وحِفْظُه، قال الله تعالَى:{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وقوله تعالى:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65]؛ أي: يَحْفَظُها، قالَ الله تَعالَى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف: 170]؛ أي: يَتَمَسَّكُونَ به، وقال خالِدُ بن زُهَيرٍ [من الطويل]:
فكُنْ مَعْقِلًا في قَوْمِكَ ابْنَ خُوَيْلِدٍ
…
ومَسِّكْ بأَسْبابٍ أَضاعَ رُعاتُها
(4)
و"النصال": بكسر النون: جمع نَصْل، بفتح، فسكون، وهو: حديدَةُ
السَّهم والرُّمح، وفي "التَّهذيبِ": النَّصْلُ: نَصْلُ السَّهْم، ونَصلُ السَّيف، والسّكِّين، ومثلُه في "الصحاح"، وفي "المُحكَم": هو حَديدَةُ السّيف، ما لَم يَكُنْ لهُ مَقْبِضٌ، فإذا كانَ لها مَقبِضٌ فهو سَيْفٌ، وقال أَبو زيادٍ: النَّصلُ: كُلُّ حديدَةٍ من حَدائدِ السِّهام، جَمْعه: أَنْصُل، كأَفْلُسٍ، ونِصالٌ، بالكَسْر، ونُصولٌ،
(1)
"تنبيه المعلم" ص 433.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 293.
(3)
"الفتح" 2/ 195، كتاب "الصلاة" رقم (451).
(4)
"تاج العروس" 1/ 6782.
بالضَّمِّ، وقال ابنُ شُمَيْلٍ: النَّصْلُ: السَّهْمُ العريضُ الطَّويلُ. انتهى مختصرًا من "التاج"
(1)
.
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه الآتية: "إذا مرّ أحدكم في مجلس، أو سوق، وبيده نبلٌ، فليأخذ بنصالها. . ." الحديث.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: في الحديث ذَكَر علّة ذلك، وهو خشية أن تصيب مسلمًا من حيث لا يَشعر صاحبها، وسَوَّى في ذلك بين السوق والمسجد؛ فإن الناس يجتمعون في الأسواق والمساجد، فليس للمسجد خصوصية بذلك حينئذ، لكن قَدْ يقال: إن المسجد يختص بقدر زائد عَن السوق، وَهُوَ أنه قَدْ رُوي النهي عن إشهار السلاح فيه، ونثر النبل.
خرّجه ابن ماجه، من رواية زيد بن جبيرة، عن داود بن الحصين، عن نافع، عن ابن عمر، مرفوعًا:"خصال لا ينبغين في المسجد: لا يُتخذ طريقًا، ولا يُشهر فيه سلاحًا، ولا يُنبض فيه بقوس، ولا يُنثر فيه نبل، ولا يُمر فيه بلحم نيئ، ولا يُضرب فيه حدّ، ولا يُقتمفيه من أحد، ولا يُتخذ سوقًا"، ورفْعه منكر، وزيد بن جبيرة ضعيف جدًّا، متفق على ضعفه. وخرَّج -أيضًا-: النهي عن سلّ السيوف في المسجد، من حديث واثلة، مرفوعًا بإسناد ضعيف جدًّا، وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: لا يُسلّ السيف في المسجد. خرَّجه وكيع في كتابه. وقال أصحابنا
(2)
: لا يُشهر السلاح في المسجد. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 6638 و 6639 و 6640](2614)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(451) و"الفتن"(7074)، و (أبو داود) في
(1)
"تاج العروس" 1/ 7553.
(2)
يعني: الحنبليّة.
(3)
"فتح الباري" لابن رجب 3/ 249.
"الجهاد"(2586)، و (النسائيّ) في "المساجد"(2/ 49)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3777)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(2/ 436)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1252)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 308 و 350)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 152 و 326)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1316)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1647 و 1648)، و (أبو بعلى) في "مسنده"(3/ 464)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(4/ 280)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 23)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان كريم خُلُقه صلى الله عليه وسلم، ورأفته بالمؤمنين، حيث يحذّر إلحاق بعضهم الضرر على بعض، فهو مصداق قوله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].
2 -
(ومنها): بيان الأدب لمن دخل مسجدًا، أو سوقًا، أو محل اجتماع المسلمين بسهام، وهو أن يُمسك بنصالها كي لا يخدش أحدًا من المسلمين.
3 -
(ومنها): تأكيد حرمة المسلمين؛ لأن المساجد مورودة بالخلق، لا سيما في أوقات الصلاة.
4 -
(ومنها): بيان تعظيم قليل الدم، وكثيرة.
5 -
(ومنها): أن المساجد يجوز إدخال السلاح فيها للحاجة.
6 -
(ومنها): استحباب التصدّق بالسهام، ونحوها من أداة الحرب؛ لما في الرواية الآتية أن ذلك الرجل الذي مرّ بالسهام في المسجد كان يتصدّق بها، وذلك لِمَا فيه من الإعانة على الجهاد في سبيل الله تعالى.
7 -
(ومنها): ما قيل: إن قوله في الرواية التالية: "كي لا يَخدِش مسلمًا" يدلّ على صحّة القول بالقياس، وعلى صحة تعليل الأحكام، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6639]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى -وَاللَّفْظُ لَهُ-: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، أَنَّ رَجُلًا مَرَّ بِأَسْهُمٍ فِي الْمَسْجِد، قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ بِنُصُولِهَا، كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو الرَّبِيعِ) سليمان بن داود العتكيّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، ولاحقه.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف اسمه.
وقوله: (قَدْ أَبْدَى نُصُولَهَا)؛ أي: أظهر حديدتها، بحيث يُخشى أن تصيب مسلمًا.
وقوله: (فَأُمِرَ إلخ) بالبناء للمفعول، والآمر هو النبيّ صلى الله عليه وسلم كل، كما بُيّن في الرواية السابقة.
وقوله: (كَيْ لَا يَخْدِشَ مُسْلِمًا) يقال: خدشه خَدْشًا، من باب ضرب: إذا جرحه في ظاهر الجِلد، سواء دَمِيَ الجلد، أو لا، قاله الفيّوميّ
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6640]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِبدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْر، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا كَانَ يَتَصَدَّقُ بِالنَّبْلِ فِي الْمَسْجِد، أَنْ لَا يَمُرَّ بِهَا، إِلَّا وَهُوَ آخِذٌ بِنُصُولِهَا، وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ: كَانَ يَصَّدَّقُ بِالنَّبْلِ).
(1)
"المصباح المنير" 1/ 165.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ) التجيبيّ المصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المصريّ الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (وَقَالَ ابْنُ رُمْحٍ: كَانَ يَصَّدَّقُ بِالنَّبْلِ) أشار به إلى اختلاف شيخيه، فقال قتيبة:"يتصدّق"، بالتاء، وقال محمد بن رُمح:"يصّدّق" بتشديد الصاد، وأصله يتصدّق، فأُدغمت التاء في الصاد بعد قلبها، وهو لغة فصيحة، كما في قوله عز وجل:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 18].
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6641]
(2615) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكمْ فِي مَجْلِسٍ، أَو سُوقٍ، وَبِيَدِهِ نَبْلٌ، فَلْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا"، قَالَ: فَقَالَ أَبُو مُوسَى: وَاللهِ مَا مُتْنَا حَتَّى سَدَّدْنَاهَا، بَعْضُنَا فِي وُجُوهِ بَعْضٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَذَابُ بْنُ خَالِدٍ) ويقال: هُدْبة بن خالد بن الأسود الْقَيسيّ أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس الصحابيّ الشهير، تقدّم رضي الله عنه أيضًا قريبًا.
والباقيان تقدّما قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين غير أبي بردة، فكوفيّ، وأبو موسى بصريّ كوفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ) قال في "الفتح": هذا فيه أن الحكم عامّ في جميع المكلفين، بخلاف حديث جابر، فإنه واقعة حال، لا تستلزم التعميم
(1)
. (فِي مَجْلِسٍ) من مجالس المسلمين (أَو سُوقٍ)"أو" هنا للتنويع، وقوله:(وَبِيَدِهِ نَبْلٌ)؛ أي: سهام، (فَلْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا) بكسر النون: جَمْع نصل، ويُجمع أيضًا على نصول، كما تقدّم، والنصل: حديدة السهم. (ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا، ثُمَّ لْيَأْخُذْ بِنِصَالِهَا") كرّره ثلاث مرّات تأكيدًا للأمر، وقال القرطبيّ رحمه الله: وتكراره: "فليأخذ بنصالها" ثلاث مرات على جهة التأكيد والمبالغة في سدّ الذريعة، وهو من جملة ما استدلّ به مالك على أصله في سدّ الذرائع. انتهى
(2)
.
وفي الرواية التالية: "فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ" وليس المراد خصوص ذلك، بل يَحْرِص على أن لا يُصيب مسلمًا بوجه من الوجوه، كما دل عليه التعليل بقوله:"أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ"
(3)
. (قَالَ) أبو بردة (فَقَالَ أَبُو مُوسَى) الأشعريّ: (وَاللهِ مَا) نافية، (مْتْنَا) بضمّ الميم، من مات يموت موتًا، من باب قال، وبكسرها من مات يمات موتًا، كخاف يخاف خوفًا. (حَتَّى سَدَّدْنَاهَا) بالسين المهملة، من السَّدَاد، يقال: سدّد الرامي السهم إلى الصيد بالتثقيل: وجّهه إليه، وسدّد رُمحه: وجّهه طولًا، خلاف عَرْضه، واستدّ الأمر على افتعل: انتظم، واستقام، قاله الفيّوميّ
(4)
.
وقوله: (بَعْضُنَا) بالرفع بدل من الضمير الفاعل في "متنا"، كما قال في "الخلاصة":
(1)
"الفتح" 16/ 469، كتاب "الفتن" رقم (7075).
(2)
"المفهم" 6/ 601.
(3)
"الفتح" 16/ 469.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 271.
وَمِنْ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ الظَّاهِرَ لَا
…
تُبْدِلْهُ إِلَّا مَا إِحَاطَةً جَلَا
أَوِ اقْتَضَى بَعْضًا أَوِ اشْتِمَالَا
…
كَـ "أَنَّكَ ابْتِهَاجَكَ اسْتَمَالَا"
وقوله: (فِي وُجُوهِ بَعْضٍ) متعلّق بـ "سدّدناها".
والمعنى: لم نمت حتى سدّد بعضنا تلك النصال، ووَجّهها إلى وجوه بعضنا، والمراد أننا بَدَلَ أن نقتل بها أعداءنا قَتَل بعضنا بعضًا، يريد بذلك: القتال الذي جرى بين الصحابة رضي الله عنهم في تلك الحروب الواقعة في الجمل وصِفين.
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني أبو موسى: أنه ما مات معظم الصحابة رضي الله عنهم حتى وقعت بينهم الفتن والمِحَن، فرَمَى بعضهم بعضًا بالسهام، وقاتل بعضهم بعضًا، ذَكَر هذا في مَعْرِض التأسّف على تغيّر الأحوال، وحصول الخلاف لمقاصد الشرع، من التعاطف، والتواصل، على قرب العهد، وكمال الجِدّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [34/ 6641 و 6642](2615)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(452) و"الفتن"(7075)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2587)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3823)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 391 و 392 و 397 و 400 و 413 و 418)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1482)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تأكيد حرمة المسلم، وتحريم قتاله، وقتله، وتغليظ الأمر فيه، وتعظيم قليل الدم، وكثيرة.
2 -
(ومنها): تحريم تعاطي الأسباب المفضية إلى أذيّته بكل وجه.
3 -
(ومنها): أن فيه حجةً للقول بسدّ الذرائع.
(1)
"المفهم" 21/ 133.
4 -
(ومنها): بيان جواز إدخال السلاح إلى المسجد، وفي "الأوسط" للطبرانيّ من حديث أبي سعيد قال:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقليب السلاح في المسجد"، والمعنى فيه ما تقدم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6642]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ اللهِ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَو فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّه، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ"، أَو قَالَ: "لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا").
رجال هذا الإسناد ستّة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ بَرَّادٍ الأَشْعَرِيُّ) هو: عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بُرْدة بن أبي موسى، أبو عامر الكوفيّ، صدوق [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.
وقوله: (أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا إلخ) بفتح "أن"، والتقدير: كراهيةَ أن يصيب، والرواية السابقة بلفظ:"كي لا يخدش مسلمًا"، تؤيّد هذا التقدير، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَو قَالَ: "لِيَقْبِضْ عَلَى نِصَالِهَا)"أولا هنا للشّكّ من الراوي، وفي بعض النسخ: "أو قال: ليقبضنّ".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(35) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ الإشَارَةِ بِالسِّلَاحِ إِلَى مُسْلِمٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6643]
(2616) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ عَمْرٌو: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عَمْرة البصريّ، ثقةٌ، ثبت، عابدٌ، كبير القدر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا قبل بابين، و"عمرو الناقد" هو: ابن محمد بن بُكير البغداديّ، نزيل الرّقّة.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَن) محمد (بْنِ سِيرِينَ) الأنصاريّ التابعيّ الشهير؛ أنه قال: (سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:) كنية النبيّ صلى الله عليه وسلم، كُني بولده القاسم الذي مات، وهو صغير. ("مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ)؛ أي: في الدِّين، (بِحَدِيدَةٍ)؛ أي: بسلاح، كسكين، وخنجر، وسيف، ورُمح، ونحو ذلك، من كل آلة للجرح، (فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ)؛ أي: تدعو عليه بالطرد، والبعد عن الجنة أولّ
الأمر، وعن الرحمة الكاملة السابقة، زاد في رواية:"حتى يدعه"؛ أي: لأنه ترويع للمسلم، وتخويف له، وهو حرام. (حَتَّى وَإِنْ كَانَ) المشير (أَخَاهُ)؛ أي: أخا المشار إليه، ويصحّ عكسه، (لأَبِيهِ وَأُمِّهِ")؛ يعني: وإن كان هازلًا، ولم يقصد ضربه، كأن كان شقيقه؛ لأن الشقيق لا يقصد قَتْل شقيقه غالبًا، فهو تعميم للنهي، ومبالغة في التحذير منه، مع كل أحد، وإن لم يُتّهَم، وقيّد بمطلق الأُخُوّة، ثم قيّد بأُخُوّة الأب والأم؛ إيذانأ بأن اللعب المحض العاري عن شَوْب قَصْد إذا كان حُكمه كذا، فما بالك بغيره؛ وإذا كان هذا يستحق اللعن بالإشارة، فما الظن بالإصابة؟
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الملائكة تلعنه حتى، وإن كان" هكذا في عامّة النسخ، وفيه محذوف، وتقديره: حتى يدعه، وكذا وقع في بعض النسخ. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإن الملائكة تلعنه حتى" كذا صحّت الرواية بالاقتصار على "حتّى"، ولم يذكر المجرور بها استغناءً عنه لدلالة الكلام عليه، تقديره: حتى يترك، أو يَدَعَ، وما أشبهه، ووقع عند بعض الرواة بعد "حتى":"وإن كان أخاه لأبيه وأمه"، وعليه فيكون ما بعده ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسقطت لبعضهم؛ يعني: فيكون ما بعده من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمجؤ بحكم أن مساق الكلام واحدٌ، ولَعْن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمشير بالسلاح دليل على تحريم ذلك مطلقًا، جِدًّا كان أو هزلًا، ولا يخفى وجه لَعْن من تعمّد ذلك؛ لأنَّه يريد قتل المسلم، أو جرحه، وكلاهما كبيرة، وأما إن كان هازلًا، فلأنه ترويع مسلم، ولا يحل ترويعه، ولأنه ذريعة إلى القتل، والجرح المحرَّمين، وقد نصّ في الرواية الأخرى على صحَّة مراعاة الذريعة، حيث قال:"فإنَّه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده، فيقع في حُفر من النار".
وقوله: "وإن كان أخاه لأبيه وأمه"؛ يعني: أن ذلك محرّم، وإن وقع من أشفق النّاس عليه، وأقربهم رحمًا، وهو يُشعر بمنع الهزل بذلك. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير" 6/ 63.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 170.
(3)
"المفهم" 6/ 600 - 601.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 6643 و 6644](2616)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2162)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 256 و 505)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5944 و 5947)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 290 و 6/ 378) و"مسند الشاميين"(2/ 264)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 33) وفي "الآداب"(599) و"شُعب الإيمان"(4/ 343)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تأكيد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه.
2 -
(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن كان أخاه لأبيه وأمه" مبالغةً في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواءٌ من يُتَّهَم فيه، ومن لا يُتَّهم، وسواء كان هذا هَزْلًا ولعبًا، أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح، كما صُرِّح به في الرواية الأخرى.
3 -
(ومنها): أن لعن الملائكة له يدلّ على أنه حرام
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6644]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
2 -
(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ
(1)
"شرح النوويّ" 6/ 169 - 170.
ثبتٌ فاضلٌ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.
والباقون ذُكروا في السند الماضي، وفي الباب الماضي.
[تنبيه]: رواية ابن عون عن محمد بن سيرين هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(15649)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ إملاءً، ثنا إبراهيم بن عبد الله، أنبأ يزيد بن هارون، أنبأ ابن عون، عن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تلعن أحدكم؛ إذا أشار إلى أخيه بحديدة، وإن كان أخاه لأبيه وأمه". انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6645]
(2617) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاح، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزعُ فِي يَدِه، فَيَقَعُ في حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد اليمني، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُتْبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أبو هريرة" رضي الله عنه تقدم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبّهٍ)؛ أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: ما يأتي من الأحاديث، وهو
مبتدأ خبره قوله: (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ)، وقوله (مِنْهَا) خبر مقدّم وقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) مبتدأ مؤخّر؛ لِقَصْد لفظه، ("لَا يُشِيرُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ: "لا يشير" بالياء بعد الشين، وهو صحيح، وهو نهي بلفظ الخبر، كقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233]، وقد قدّمنا مرّات أن هذا أبلغ من لفظ النهي. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "لا يشير" كذا فيه بإثبات الياء، وهو نفي بمعنى النهي، ووقع لبعضهم:"لا يُشِرْ" بغير ياء، وهو بلفظ النهي، وكلاهما جائز. انتهى.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "لا يشير" من الإشارة، وهو المعروف، ووقع أيضًا بإثبات الياء مرفوعًا، وهو نهي بلفظ الخبر، كقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وقوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} ، وهو أبلغ وآكد من صيغة النهي. انتهى
(2)
.
(أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاح، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ) قال النوويّ رحمه الله: "ينزع" ضبطناه بالعين المهملة، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات مسلم، وكذا هو في نُسخ بلادنا، ومعناه: يرمي في يده، ويُحَقِّق ضربته، ورَمْيَته، ورُوي في غير مسلم بِالْغين المعجمة، وهو بمعنى الإغراء؛ أي: يَحْمِل على تحقيق الضرب به، ويزيّن ذلك. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وروي في غير مسلم" هي رواية البخاريّ، ولفظه:"فإنه لا يدري لعلّ الشيطان ينزغ في يده". قال في "الفتح": قوله: "ينزغِ في يده" بالغين المعجمة، قال الخليل في "العين": نزغ الشيطان بين القوم نزْغًا: حَمَل بعضهم على بعض بالفساد، ومنه:{مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، وفي رواية الكشميهني بالعين المهملة، ومعناه قَلَعَ، ونَزَع بالسهم: رمى به، والمراد: أنه يُغري بينهم، حتى يضرب أحدهما الآخر بسلاحه، فيحقّق الشيطان ضربته له، وقال ابن التين:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 170.
(2)
"طرح التثريب" 7/ 445.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 170.
معنى ينزعه: يقلعه من يده، فيصيب به الآخر، أو يشدّ يده، فيصيبه. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "ينزع في يده" بكسر الزاي، وبالعين المهملة، ومعناه: يرمي في يده، ويحقّق ضربته، كأنه يرفع يده، ويحقق إشارته، والنزع: العمل باليد، كالاستقاء بالدلو، ونحوه، وأصله الجذب، والقلع، قال في "المشارق": وأصل فَعَلَ إذا كان عينه أو لامه حرف حلق أن يكون مستقبَله كذلك مفتوحًا، ولم يأت في المستقبَل مكسورًا إلا ينزع، ويهنئ، قلت
(2)
: ومثله يَرْجِع، وما ذكرناه من ضَبْط هذه اللفظة هو الذي حكاه القاضي عياض عن جميع روايات مسلم، ونقله النوويّ عن نُسخ بلادنا، وهو المشهور في رواية البخاريّ، ورُوي فيه أيضًا:"ينزغ" بفتح الزاي، وبِالغين المعجمة، وهو كذلك في رواية أبي ذرّ الهرويّ، ومعناه: يَحْمِله على تحقيق ضَرْبه، ويزيّن ذلك له، ونَزْغُ الشيطان: إغراؤه، وإغواؤه. انتهى
(3)
.
(فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ") قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: رَوَيناه في "صحيح البخاريّ" بالنصب، والرفع؛ لكونه في جواب الترجي، وقد قُرئ بهما قوله تعالى:{لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36 - 37] قرأ حفص عن عاصم بالنصب، والباقون بالرفع. انتهى
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فيقع في حفرة من النار" هو كناية عن وقوعه في المعصية التي تُفضي به إلى دخول النار، قال ابن بطال رحمه الله: معناه: إن أُنفذ عليه الوعيد.
وفي الحديث: النهي عما يفضي إلى المحذور، وإن لم يكن المحذور محقّقًا، سواءٌ كان ذلك في جدّ، أو هزل.
وقد وقع في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن أبي شيبة وغيره مرفوعًا، من رواية ضمرة بن ربيعة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عنه: "الملائكةُ
(1)
"الفتح" 13/ 467، كتاب "الفتن" رقم (7072).
(2)
القائل صاحب "طرح التثريب"، فتنبّه.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 445.
(4)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 445.
تلعن أحدكم إذا أشار إلى الآخر بحديدة، وإن كان أخاه لأبيه وأمه"، وأخرجه الترمذيّ من وجه آخر، عن أبي هريرة، موقوفًا من رواية أيوب، عن ابن سيرين، عنه، وأخرج الترمذيّ أصله موقوفًا من رواية خالد الحذاء، عن ابن سيرين، بلفظ: "من أشار إلى أخيه بحديدة، لعنته الملائكة"، وقال: حسن صحيح غريب، وكذا صححه أبو حاتم من هذا الوجه، وقال في طريق ضمرة: منكر.
وأخرج الترمذيّ بسند صحيح، عن جابر:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُتَعَاطَى السيفُ مسلولًا".
ولأحمد، والبزار، من وجه آخر، عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بقوم في مجلس يَسُلُّون سيفًا، يتعاطونه بينهم، غير مغمود، فقال: ألم أَزجُر عن هذا؟ إذا سَلّ أحدكم السيف، فليغمده، ثم ليُعْطِه أخاه".
ولأحمد، والطبرانيّ، بسند جيّد، عن أبي بكرة نحوه، وزاد:"لعن الله مَن فعل هذا؛ إذا سَلَّ أحدكم سيفه، فأراد أن يناوله أخاه، فليغمده، ثم يناوله إياه".
قال ابن العربيّ رحمه الله: إذا استحَقَّ الذي يشير بالحديدة اللعنَ، فكيف الذي يصيب بها؟ وإنما يستحقّ اللعن إذا كانت إشارته تهديدًا، سواء كان جادًّا أم لاعبًا، كما تقدم، وإنما أوخذ اللاعب؛ لِمَا أدخله على أخيه من الرَّوْع، ولا يخفى أن إثم الهازل دون إثم الجادّ، وإنما نُهي عن تعاطي السيف مسلولًا؛ لِمَا يخاف من الغفلة عند التناول، فيسقط، فيؤذي
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [35/ 6645](2617)، و (همام بن منبّه) في
(1)
"الفتح" 13/ 467، كتاب "الفتن" رقم (7072).
"صحيفته"(ص 100)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7072)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(18679)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5948)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 23) و"شُعَب الإيمان"(4/ 343)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2573)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه النهيَ عن الإشارة إلى المسلم بالسلاح، وهو نهي تحريم، فإن في الرواية السابقة:"من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه"، ولَعْن الملائكة لا يكون إلا بحقّ، ولا يستحق اللعن إلا فاعل المحرَّم، ولا فرق في ذلك بين أن يكون على سبيل الجدّ أو الهزل، وقد دلّ على ذلك قوله:"وإن كان أخاه لأبيه وأمه"، فإن الإنسان لا يشير إلى شقيقه بالسلاح على سبيل الجِدّ، وإنما يقع منه معه هزلًا، وبتقدير أن يكون ذلك على سبيل الجدّ، فتحريم ذلك أغلظ من تحريم غيره، فلا يصح جعله غايةً، فدلّ على أن المراد: الهزل، فإن تحريمه على طريق الجدّ واضح؛ لأنه يريد قَتْل مسلم أو جَرْحه، وكلاهما كبيرة، وأما الهزل؛ فلأنه ترويع مسلم، وأذى له، وذلك مُحَرَّم أيضًا، وقد جاء في الحديث:"لا يحل لمسلم أن يُرَوِّع مسلمًا"، قاله العراقيّ
(1)
.
2 -
(ومنها): أن المراد بالأخوّة أخوّة الإسلام، ويلتحق به الذميّ أيضًا؛ لتحريم أذاه، وخَرَج الحديث مخرج الغالب، ودخل في السلاح ما عَظُم منه، وصَغُر، وهل تدخل العصا في ذلك؟ فيه احتمال؛ لأن الترويع حاصل، وكذلك احتمال سقوطها من يده عليه، وقد يقال: لا يراد بذلك إلا ما له نصل، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"بحديدة"
(2)
.
3 -
(ومنها): فيه تأكد حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه، وتخويفه، والتعرض له بما قد يؤذيه.
4 -
(ومنها): أنه يَحْتَمِل أن يكون الحديث على ظاهره في أن الشيطان
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 446.
(2)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 446.
يتعاطى بيده جَرْح المسلم، أو يُغري المشير حتى يفعل ذلك على اختلاف الروايتين، ويَحْتَمِل أنه مجاز على طريق نسبة الأشياء القبيحة المستنكرة إلى الشيطان، والمراد: سَبْق السلاح بنفسه من غير قصد، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
(36) - (بَابُ فَضْلِ إِزَالَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6646]
(1914)
(2)
- (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ، وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيق، فَأَخَّرَهُ، فَشَكَرَ اللهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
3 -
(سُمَيٌّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ) بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6] مات سنة ثلاثين ومائة مقتولًا بقديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين سوى شيخه، فنيسابوريّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، رأس المكثرين السبعة.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 446.
(2)
هذا رقم مكرر، فقد مضى.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:)، وقوله:("بَيْنَمَا) تقدّم غير مرّة أن "بينما" هي "بين" الظرفيّة زيدت عليها "ما"، ويقال فيها أيضًا:"بينا" بإشباع الفتحة، فتتولّد منها الألف، وهما ظرفا زمان، بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل، ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتمّ به المعنى، ويقترن جوابهما كثيرًا بـ "إذ"، و "إذا"، فتقول: بينا زيد جالس إذ دخل عليه عمرو، وإذا دخل عليه، ومنه قول الْحُرَقة بنت النعمان [من الطويل]:
فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ
وقال السنديّ رحمه الله في "حاشيته على البخاريّ": قوله: "بينما رجل يمشي": "بينما" ظرف يضاف إلى جملة، و"رجل" مبتدأ، خبره جملة:"يمشي بطريق"، والجملة مضاف إليها الظرف، والعامل في الظرف:"وَجَدَ غُصن شوك"، والأفعال الثلاثة بعده معطوفة عليه، والظرف إذا أضيف إلى الجملة يكون في الحقيقة مضافًا إلى مضمون الجملة، وهو هاهنا: مشى رجل في الطريق، ولا يخفى أن "بين" تقتضي التعدد في المضاف إليه، ولا تعدد هاهنا، فيقدر مضاف يحصل به التعدد، وهو الأوقات، فيصير التقدير: بين أوقاتِ مَشْي رجل في الطريق، وَجَدَ ذلك الرجل غصن شوك إلخ، قال: والابتداء بالنكرة إما لأن المدار على الإفادة، والظاهر: أن من يشترط التخصيص في النكرة عند وقوعها مبتدأ إنما يشترطه فيها عند كونها في جملة مقصودة بالإفادة، لا عند كونها في جملة تابعة لجملة أخرى، هي المقصودة بالإفادة، كما هاهنا يدلّ عليه تعليلاتهم، ولو سُلِّم اشتراط التخصيص في النكرة مطلقًا، فالظاهر أن هاهنا يقدّر الصفة؛ أي: رجل مذنب، بقرينة المغفرة على أنهم عَدُّوا "إذا" التي للمفاجأة من المسوّغات، نَصّ عليه البعض، والله تعالى أعلم.
قال: وأما قول القسطلاني رحمه الله: إن قوله: "يمشي بطريق" صفة "رجلٌ" وخبره: "وَجَد غصن شوك"، والجملة مضافة للظرف، فعجيب؛ إذ لا يتمّ الكلام حينئذٍ أصلًا؛ إذ يصير تمام الحديث كلمةَ "بين" مع ما أُضيف إليها من الجملة، ولا يتم الكلام من المضاف والمضاف إليه، ولا يبقى للظرف عامل أصلًا، اللَّهُمَّ إلا أن يقال:"فأخَّره" عامل في الظرف، وليس بمعطوف على
قوله: "وَجَدَ"، وهذا مما يأتي عنه الفاء، وشهادة الذوق، فافهم. انتهى كلام السنديّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى على المصنف المتأمل أن إعراب السنديّ المذكور فيه تكلّف ظاهر، والصواب ما قاله القسطلّانيّ رحمه الله، ولا إشكال فيه، لمن تأملّه بالإمعان، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
فقوله: (رَجُلٌ) مبتدأ سوّغه الوصف بقوله: (يَمْشِي بِطَرِيقٍ)، وقوله:(وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ) خبر المبتدأ، و"الغصن": بضمّ الغين المعجمة، وسكون الصاد المهملة، آخره نون: ما تشعّب من ساق الشجر دِقاقها وغِلاظها، والصغيرة بِهاء، جَمْعه غُصُونٌ، وغِصَنَةٌ، وأغصان، قاله المجد رحمه الله
(2)
.
و"الشوك" بفتح الشين المعجمة، وسكون الواو: شوك الشجرة معروف، والواحدة شوكة، والجمع أشواك.
(عَلَى الطَّرِيقِ) متعلِّق بـ "وَجَدَ"، (فَأَخَّرَهُ)؛ أي: أبعد ذلك الشوك عن الطريق؛ لئلا يؤذي أحدًا من المسلمين، (فَشَكَرَ اللهُ لَهُ)؛ أي: أثنى عليه، يقال: شكرته، وشكرت له بمعنى واحد
(3)
، وقال المجد رحمه الله:"الشُّكْرُ" بالضمّ: عِرْفان الإحسان، ونشرُهُ، أو لا يكون إلا عن يَدٍ، ومن الله تعالى الْمُجَازاة، والثناء الجميل، شَكَره، وله شُكْرًا، وشُكُورًا، وشُكْرانًا، وشكر اللهَ، ولله، وبالله، ونِعمةَ الله، وبها. انتهى
(4)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شَكَرتُ للهِ: اعترفتُ بنعمه، وفعلتُ ما يجب من فعل الطاعة، وترك المعصية، ولهذا يكون الشكر بالقول والعمل، ويتعدّى في الأكثر باللام، فيقال: شكرت له شُكرًا، وشُكرانًا، وربّما تعدّى بنفسه، فيقال: شكرته، وأنكره الأصمعيّ، في السَّعَة، وقال: بابه الشعر، وقول الناس في القنوت:"نشكرك، ولا نكفرك" لم يثبُت في الرواية المنقولة عن عمر رضي الله عنه، على أن له وجهًا، وهو الازدواج، وتشكّرت له مثلُ شكَرتُ له. انتهى
(5)
.
(1)
"حاشية السنديّ على صحيح البخاريّ" 1/ 116.
(2)
"القاموس المحيط" ص 950.
(3)
"عمدة القاري" 5/ 171.
(4)
"القاموس المحيط" ص 750.
(5)
"المصباح المنير" 1/ 320.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فشكر الله له" أي: أظهر لملائكته، أو لمن شاء من خِلْقه الثناء عليه بما فعل من الإحسان لعبيده، وقد تقدَّم: أن أصل الشكر: الظهور، أو يكون جازاه جزاء الشاكر، فسمَّى الجزاء شكرًا، وعبّر عنه بِشَكَر، كما قال في الرواية الأخرى:"فأُدخل الجنة"، وكلّ ذلك إنما حصل لذلك الرجل بحسن نيته في تنحيته الأذى، ألا ترى قوله:"والله لأُنَحِّيَنّ هذا عن المسلمين، لا يؤذيهم". انتهى
(1)
.
(فَغَفَرَ لَهُ") بالبناء للفاعل، وفي رواية لابن حبّان:"حُوسب رجل ممن كان قبلكم، فلم يوجد له من الخير إلا غُصن شوك كان على الطريق، كان يؤذي الناس، فعزله، فغُفر له"، وفي رواية له:"غُفر لرجل أخذ غُصن شوك عن طريق الناس ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر".
قال النوويّ رحمه الله: وفيه فضيلة إماطة الأذى عن الطريق، وهو كلُّ مُؤْذٍ، وهذه الإماطة أدنى شُعَب الإيمان، كما سبق الحديث في ذلك في "كتاب الإيمان"
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [36/ 6646 و 6647 و 6648 و 6649](2617)، وتقدّم في "الإمارة"[51/ 4932](1914)، و (البخاريّ) في "الأذان"(652) و"المظالم"(2472) و"الجهاد"(2829) و"الطبّ"(5733)، و (أبو داود) في "الأدب"(5245)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1063) و"البرّ والصلة"(1958)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 363)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3682)، و (مالك) في "الموطأ"(1/ 131)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1134)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 324 و 325 و 533)، و (ابن حبّان) في
(1)
"المفهم" 6/ 603.
(2)
"شرح النوويّ" 13/ 62.
"صحيحه"(536 و 3188 و 540 و 538 و 539)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 169)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(384 و 4146)، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث تقدّم في "الإمارة" مطوّلًا برقم [51/ 4932]، وإنما أعدته؛ لكون تخريجه هناك مختصرًا، فتنبّه.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل إماطة ما يؤذي الناس عن طريقهم، وأن الشخص يؤجر على إماطة الأذى، وكل ما يؤذي الناس في الطريق.
2 -
(ومنها): أن فيه دلالةً على أن من طرح الشوك في الطريق، والحجارة، والكناسة، والمياه المفسدة للطرق، وكل ما يؤذي الناس يُخشى العقوبة عليه في الدنيا والآخرة، ولا شك أن نَزْع الأذى عن الطريق من أعمال البِرّ، وأن أعمال البرّ تكفّر السيئات، وتوجب الغفران، ولا ينبغي للعاقل أن يحقر شيئًا من أعمال البرّ، أما ما كان من شجر فقطعه، وألقاه، وأما ما كان موضوعًا فأماطه، والأصل في هذا كله قوله تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، وإماطة الأذى عن الطريق شعبة من شُعَب الإيمان.
3 -
(ومنها): التنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين، وأزال عنهم ضررًا، وأن قليل الأجر قد يغفر الله به كثير الذنوب.
4 -
(ومنها): أن فيه إثبات صفة الشكر لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، فهي كسائر صفاته التي أثبتتها النصوص الصحيحة، من الرضى، والرحمة، والقبول، والعجب، والمحبّة، وغير ذلك، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله في الحديث: أن إماطة الأذى عن الطريق من أعمال البرّ، وأنها توجب الغفران، فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يحتقر شيئًا من أعمال البرّ، فربما غُفر له بأقلّها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"الإيمان بضع وسبعون شعبةً، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"
(1)
، وقال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، وقال الشاعر [من الخفيف]:
(1)
متّفقٌ عليه، وهذا اللفظ لمسلم.
وَمَتَى تَفْعَلِ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْـ
…
رَ إِذَا كنْتَ تَارِكًا لِأَقَلِّهِ
(1)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6647]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأدْخِلَ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَاللهِ لأُنَحِّيَنَّ إلخ) من التنحية، وهي الإزالة؛ أي: لأُزيلنّ.
وقوله: (لَا ئؤْذِيهِمْ)؛ أي: لئلا يؤذي المسلمين، فالجملة تعليليّة.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6648]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، حَدَّثَنَا شَيْبَان، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْت رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ، قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيق، كَانَتْ تؤْذِي النَّاسَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ) بن موسى بن أبي المختار باذام العبسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ، كان يتشيع [9](ت 213) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
2 -
(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ مولاهم، النحويّ، أبو معاوية
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 12/ 22.
البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى "نحوة" بطنٍ من الأزد، لا إلى علم النحو [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ إلخ)؛ أي: يتنعّم في الجنّة بملاذّها بسبب قطعه الشجرة
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يتقلّب في الجنّة"؛ أي: يتقلّب في نعيم الجنة، وملابسها، وقصورها، وسائر ما أَعدّ الله فيها
(2)
.
والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6649]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ شَجَرَةً كَانَتْ تُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، فَجَاءَ رَجُلٌ، فَقَطَعَهَا، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو رَافِعٍ) نُفيع الصائغ، المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب
(3)
، و"بهزٌ" هو: ابن أسد العميّ البصريّ، و"ثابتٌ" هو: ابن أسلم البنانيّ البصريّ.
والحديث سبق شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6650]
(2618) - (حَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ صَمْعَةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْوَازِعِ، حَدَّثَنِي أَبُو بَرْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِه، قَالَ: "اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ").
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 171.
(2)
"المفهم" 6/ 601.
(3)
أي: في الباب الحادي والثلاثين، والثاني والثلاثين، فتنبّه.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبَانُ بْنُ صَمْعَةَ) - بمهملتين، مفتوحتين - الأنصاريّ البصريّ، قيل: إنه والد عتبة الغلام، ثقة
(1)
، إلا أنه تغيَّر آخرًا [7].
روى عن عكرمة، ومحمد بن سيرين، وأبي الوازع.
وروى عنه خالد بن الحارث، ووكيع، ويحيى، وأبو عاصم، وغيرهم.
قال ابن القطان: تغيَّر بآخره، وقال ابن مهديّ: أتيته، وقد اختلط البتة، قال ابن المدينيّ: قلت له: بكم؟ قال: بزمان، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال ابن عديّ: إنما عِيْب عليه الاختلاط لَمّا كَبِر، ولم يُنسب إلى الضَّعف؛ لأن مقدار ما يرويه مستقيم، وقال عبد الله بن أحمد، عن أبيه: صالحٌ، فقلت له: أليس قد تغيّر بآخره؟ قال: نعم، وقال أبو حاتم: صدوقٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ أُنكِر في آخر أيامه، وقال العجليّ، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال النسائيّ في موضع آخر: ليس به بأس، إلا أنه كان اختلط، وقال العقيليّ، والحربيّ: اختلط بآخره.
قال ابن منجويه: مات سنة (153)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وأرَّخ وفاته، ومنه نَقَل ابن منجويه.
روى له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(أَبُو الْوَازَعِ) جابر بن عمرو الرّاسِبِيّ، صدوق يَهِم [3](بخ م ت ق) تقدم في "فضائل الصحابة" 58/ 6474.
4 -
(أَبُو بَرْزَةَ) نضلة بن عبيد الأسلميّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
و"زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ" ذُكر قبل حديثين.
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": صدوقٌ، فقد وثّقه الأئمة، اقرأ ترجمته بعدُ يظهر لك الحقّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فبغداديّ، وأن أبا الوازع، وأبا برزة ممن اشتهر بكنيته.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبَانَ بْنِ صَمْعَةَ) الأنصاريّ البصري، قال النوويّ رحمه الله: أما أبان فقد سبق في مقدمة الكتاب أنه يجوز صرفه، وتركه، والصرف أجود، وهو قول الأكثرين، و"صمعة" بصاد مهملة مفتوحة، ثم ميم ساكنة، ثم عين مهملة، قيل: إن أبانا هذا هو والد عتبة الغلام الزاهد المشهور. انتهى
(1)
.
قال: (حَدَّثَنِي أَبُو الْوَازعِ) جابر بن عمرو الراسبيّ، قال:(حَدَّثَنِي أَبُو بَرْزَةَ) نضلة بن عُبيد الأسلميّ رضي الله عنه (قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِي الله، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ) وفي الرواية التالية: "قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَسَى أَنْ تَمْضِيَ، وَأَبْقَى بَعْدَكَ، فَزَوِّدْنِي شَيْئًا، يَنْفَعُنِي اللهُ بِهِ". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("اعْزِلِ) بوصل الهمزة، من عَزَلْتُ الشيءَ عن غيره عَزْلًا، من باب ضرب: نَحَّيته عنه، ومنه: عَزَلْتُ النائبَ، كالوكيل: إذا أخرجته عما كان له من الحكم، ويقال في المطاوع: فَعَزَلَ، ولا يقال: فَانْعَزَلَ؛ لأنه ليس فيه عِلاج، وانفعالٌ، نعم قالوا: انْعَزَلَ عن الناس: إذا تنحى عنهم جانبًا، قاله الفيوميّ رحمه الله
(2)
.
(الأذَى) بفتحتين: القَذَر، يقال: أَذِيَ الشيءُ أَذًى، من باب تَعِبَ: بمعنى قَذِرَ، قال الله تعالى:{قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]؛ أي: مستقذَرٌ، وأَذِيَ الرجلُ أَذًى: وصل إليه المكروه، فهو أَذٍ، مثل عَمٍ، ويُعَدَّى بالهمزة، فيقال: آذَيْتُهُ إِيْذَاءً، والأَذِيَّةُ اسم منه، فَتَأَذَّى هو، قاله الفيوميّ رحمه الله
(3)
.
(عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ") متعلّق بـ "اعزل"؛ أي: أزل عن طريق المسلمين ما يؤذيهم، كشوك، وحجر، فإن تنحية ذلك من شُعَب الإيمان، كما في عِدّة أخبار صحاح وحسان، والأمر للندب، وقد يجب، ونبّه بذلك على طلب إزالة
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 171.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 407.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 10.
كلّ مؤذٍ، من إنسان، أو حيوان، وفيه تنبيه على فضل فعل ما ينفع المسلمين، أو يزيل ضررهم، وإن كان يسيرًا حقيرًا، ويظهر أن المراد الطريق المسلوك، لا المهجور، وإن مُرّ فيه على ندور.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا، والذي يظهر لي أن الطريق عامّ يشمل المسلوك كثيرًا، وغيره، فلا وجه لتقييده بالمسلوك فقط، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وخرج بطريق المسلمين طريق أهل الحرب، ونحوهم، فلا يندب عزل الأذى عنها، بل يندب وضعه فيها، ويظهر أنه يُلحق بهم طريق القُطّاع، وإن كانوا مسلمين، حيث اختصت بهم، وقد يشمل الأذى قطّاع الطريق، والظَّلَمَة، لكن ذلك ليس إلا للإمام، والحكام، قاله المناويّ رحمه الله
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [36/ 6650 و 6651](2618)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(228)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3681)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 420 و 422)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 28)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(541)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 9292 و 306)، و (أبو نعيم) في "تاريخ أصبهان"(2/ 48)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6651]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْنُ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَبِي الْوَازِعِ الرَّاسِبِيِّ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ، أَنَّ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي لَا أَدْرِي لَعَسَى أَنْ تَمْضِيَ، وَأَبْقَى بَعْدَكَ، فَزَوِّدْنِي شيئًا، يَنْفَعُنِي اللهُ بِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "افْعَلْ كَذَا، افْعَلْ كَذَا -أَبُو بَكْرٍ نَسِيَهُ- وَأَمِرَّ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ").
(1)
"فيض القدير" 1/ 560.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ) -بمهملتين مفتوحتين، بينهما موحّدة ساكنة، وفي آخره موحّدة- الأزديّ المِعْوليّ البصريّ، قيل: اسمه عبد الله، ثقةٌ [7].
رَوَى عن أبيه، والشعبيّ، ويزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير، وأبي الوازع الراسبيّ، وغيرهم.
وروى عنه ابن أخيه صالح بن عبد الكبير بن شعيب، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، ومسلم بن إبراهيم، وقتيبة، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد: سئل أبي عنه؟ فقال: لا أعلم إلا خيرًا، هو شيخ، يُرْوَى عنه، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ليس به بأسٌ، وقال أبو داود: ثقةٌ، وقال النسائيّ في "الكنى": أنا سليمان بن الأشعث، قال: قلت لأحمد: أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب؟ قال: أرجو أنه ليس به بأس، وسمّاه البخاريّ، ومسلم، والدُّولابيّ، وأبو أحمد، وغيرهم: عبد الله.
تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وله عند الترمذيّ حديث واحد غير هذا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه.
وقوله: (الرَّاسِبِيِّ) بكسر السين المهملة، وبعدها باء موحّدة، وهي نسبة إلى بني راسب، قبيلة معروفة نزلت البصرة، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (الأَسْلَمِيِّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، قاله في "اللباب"
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 171 - 172.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 58.
وقوله: (لَعَسَى أَنْ تَمْضِيَ) كناية عن موته صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (أَبُو بَكْرٍ نَسِيَهُ)؛ يعني: أن أبا بكر بن شعيب نسي الشيء الذي أمر به صلى الله عليه وسلم أبا برزة، وأتى بالكناية عنه، فكال:"افعل كذا، افعل كذا".
وقوله: (وَأَمِرَّ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ")"أَمِرّ" بفتح الهمزة، وكسر الميم، وتشديد الراء، أمْر من الإمرار؛ أي: أَزِل، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النُّسخ، وكذا نقله القاضي عن عامّة الرواة بتشديد الراء، ومعناه: أزله، وفي بعضها:"وأَمز" بزاي مخفّفة، وهي بمعنى الأول. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأَمِرّ الأذى" هكذا روايتى، ورواية عامة الشيوخ بِراء مشدّدة، من المرور، بمعنى: نَحّ، وعند الطبريّ:"وأمِز" -بزاي معجمة- من الْمَيْزِ؛ أي: أزِلْ من الطريق، وميّزه عنه، وعند ابن ماهان:"أَخِّره"، وكلّها بمعنى واحد.
وفيه ما يدلّ على الترغيب في إزالة الأذى، والضرر عن المسلمين، وعلى إرادة الخير لهم، وهذا مقتضى الدِّين، والنصيحة، والمحبّة. انتهى
(2)
.
والحديث سبق البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(37) - (بَابُ تَحْرِيمِ تَعْذِيبِ الْهِرَّةِ، وَنَحْوِهَا، مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُؤْذِي)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6652]
(2242)
(3)
- (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ الضُّبَعِيُّ، حَدَّثَنَا جُويرِيَةُ -يَعْنِي: ابْنَ أَسْمَاءَ- عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 172.
(2)
"المفهم" 6/ 604.
(3)
تقدّم هذا الرقم، فهو مكرّر.
رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا، حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَسَقَتْهَا، إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ بْنِ عُبَيْدٍ الضُّبَعِيُّ) -بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ جليلٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.
2 -
(جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ) بن عبيد الضُّبَعيّ البصريّ، صدوقٌ [7](ت 173)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد الله المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أبو عبد الرحمن العدويّ، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (407) من رباعيّات الكتاب، وفيه عبد الله مهملًا، وهو ابن عمر، لِمَا أسلفناه غير مرّة أنه إذا أُطلق عبد الله في الصحابة، يُنظر في السند، فإن كان مدنيًّا، فهو ابن عمر، وإن كان مكيًّا، فهو ابن الزبير، وإن كان كوفيًّا، فهو ابن مسعود، وإن كان بصريًّا، فهو ابن عبّاس، وإن مصريًّا، أو شاميًّا، فهو ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر"، حيث قال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللَّهِ" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَو جَرَى
…
بِكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِو
وفيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، وكان من أشدّ الناس اتباعًا للأثر رضي الله عنه.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنف رحمه الله في "كتاب قتل الحيّات" برقم [4/ 5838](2242) واستوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فلا حاجة لإعادته، فراجعه، تستفد علمًا جمًّا، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: ("عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمها، ووقع في رواية:"أنها حِمْيريّة"، وفي أخرى:"أنها من بني إسرائيل"، ولا تضادّ بينهما؛ لأن طائفة من حمير كانوا قد دخلوا في اليهودية، فنُسبت إلى دِينها تارةً، وإلى قبيلتها أخرى، وقد وقع ما يدلّ على ذلك في "كتاب البعث" للبيهقيّ، وأبداه عياض احتمالًا، وأغرب النوويّ، فأنكره. انتهى
(1)
.
وقوله: (فِي هِرَّةٍ)؛ أي: بسبب هرّة، فـ "في" سببيّة، كما في قوله تعالى:{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68].
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "في هرة"؛ أي: لأجلها، أو بسببها، ذكره الزمخشريّ، وقال ابن مالك:"في" هنا بمعنى التعليل، وهو مما خَفِي على أكثر النحاة، وتعقبه الطيبيّ بأنهم يقدِّرون المضاف؛ أي: في شأن هرّة، أو في أمرها.
و"الهرّة": أنثى السِّنّور، جَمْعها هرَرٌ، كقِرْبة وقِرَب، والذَّكًر هِرّ، ويُجمع أيضًا على هِرَرَة، كقِرَدَة
(2)
.
وقوله: (سَجَنَتْهَا)؛ أي: حبستها عن الأكل والشرب.
وقوله: (فَدَخَلَتْ فِيهَا)؛ أي: بسببها.
وقوله: (مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ") بفتح الخاء المعجمة، ويجوز ضمها، وكسرها، وبمعجمتين، بينهما ألِف، الأُولى خفيفة، والمراد: هوامّ الأرض، وحشراتها، من فأرة، ونحوها، وحَكَى النوويّ أنه رُوي بالحاء المهملة، والمراد: نبات الأرض، قال: وهو ضعيف، أو غلط، ذكره في "الفتح"
(3)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).
(2)
"فيض القدير" 3/ 523.
(3)
"الفتح" 7/ 596، كتاب "بدء الخلق" رقم (3318).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6653]
(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ الله، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، جَمِيعًا عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيسَى، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ جُويرِيَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمّال البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ) بن بَرْمَك الْبَرْمكيّ، أبو محمد، نشأ بالبصرة، ثم سكن بغداد، ثقةٌ [11](م د) تقدم في "قتل الحيّات" 4/ 5840.
3 -
(مَعْنُ بْنُ عِيسَى) بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القَزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.
والباقون ذُكروا في السند الماضي، والباب الماضي.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ جُويرِيَةَ)؛ يعني: حديث مالك عن نافع بمعنى حديث جويرية بن أسماء عنه السابق.
[تنبيه]: رواية مالك عن نافع هذه، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2236)
- حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال:"عُذِّبت امرأة في هرّة حبستها، حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار، قال: فقال -والله أعلم-: لا أنتِ أطعمتِها، ولا سقيتِها، حين حبستِها، ولا أنتِ أرسلتِها، فأكلتْ من خشاش الأرض". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6654]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عُذِّبَتِ
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 834.
امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ أَوْثَقَتْهَا
(1)
، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَسْقِهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقةٌ [8](189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الْعُمَريّ المدنيّ، أبو عثمان، ثقةٌ ثبتٌ، قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5] مات سنة بضع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الطهارة" 28/ 222.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6655]
(. . .) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ) هو: سعيد بن أبي سعيد كيسان، أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود العشرين ومائة، وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
والباقون تقدموا قبله.
[تنبيه]: رواية سعيد المقبريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6656]
(2619) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا
(1)
وفي نسخة: "أوثقتها، أو ربطتها، فلم".
مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ، مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا -أَو هِرٍّ- رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا، تُرَمْرِمُ
(1)
مِنْ خَشَاشِ الأَرْض، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبِّهٍ) بصيغة اسم الفاعل المشدّد؛ أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: ما يأتي من الحديث، (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمها، فقيل: حِمْيريّة، وقيل: إسرائيلية، ولا تعارُض؛ لأن طائفة من حِمْيَر تهوّدت، فنُسبت إلى دِينها تارةً، وإلى قبيلتها أخرى. (النَّارَ، مِنْ جَرَّاءِ هِرَّةٍ لَهَا)؛ أي: من أجل هرّة، قال النوويّ: يُمَدّ، ويُقصر، يقال: من جرائك، ومن جراك، وجريرك، وأجْلِك بمعنى. انتهى
(2)
.
وقال المرتضى: وفَعَلتُهُ من جَرَاك ساكنة، مقصورة، وتُمَدّ؛ أي: من أجلك، كجَرّاك، بالتشديد، قال أبو النجم:
فَاضَتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ مِنْ جَرَّاهَا
(3)
(أَو هِرٍّ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال:"هرّة"، أو قال:"هرّ" وهو الذَّكر، أو هو لغة في الهرّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الهِرُّ: الذَّكَر، وجَمْعه هِرَرَةٌ، مثل قِرْدٍ وقِرَدَةٍ، والأنثى هِرَّةٌ، وجَمْعها هِرَرٌ، مثلُ سِدْرَة وسِدَر، قاله الأزهريّ، وقال ابن الأنباريّ: الهِرُّ يقع على الذَّكَر والأنثى، وقد يُدخلون الهاء في المؤنث، وتصغير الأنثى: هُرَيْرَةٌ، وبها كُنِي الصحابيّ المشهور رضي الله عنه. انتهى
(4)
.
(رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا) الفاء فيه تفصيل، وتفسير للربط، (وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا، تُرَمْرِمُ)؛ أي: تأكل، وأصلها من رَمّت الشاةُ، وارتمّت من الأرض:
(1)
وفي نسخة: "تُرَمِّمُ".
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 173.
(3)
"تاج العروس" 14/ 142.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 637.
إذا أكلت، والمرمّة -من ذوات الظلف- بالكسر، والفتح، كالفم من الإنسان، قاله ابن الأثير
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "تُرَمْرِمُ" هكذا هو في أكثر النُّسخ: "تُرَمْرِمُ" بضمّ التاء، وكسر الراء الثانية، وفي بعضها:"تُرَمِّم" بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وراء واحدة، وفي بعضها:"تَرَمَّمُ" بفتح التاء والميم؛ أي: تتناول ذلك بشفتيها. انتهى
(2)
.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "تَرَمَّمُ من خشاش الأرض": كذا للعذريّ، والسجزيّ، ويقال: بفتح التاء والميم، وبضم التاء، وكسر الميم، ورواه السمرقنديّ:"تُرَمْرِمُ"، وكلاهما بمعنى، وأصله: تأكل من الْمَرَمَّة، وهي الشفة، والرمرام: عُشْب الربيع؛ لأنه يُرَمَّم بالْمَرَمّة، بفتح الميم، وكسرها، وأصلها في ذوات الأظلاف. انتهى
(3)
.
(مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) بفتح الخاء المعجمة، وكسرها، وضمّها، حكاهنّ في "المشارق"، والفتح أشهر، ورُوي بالحاء المهملة، والصواب المعجمة، وهي هوامّ الأرض، وحشراتها، كما وقع في الرواية الأخرى، وقيل: المراد به: نبات الأرض، وهو ضعيف، أو غلط، قاله النوويّ
(4)
.
(حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا") بفتح الهاء، وضمّها؛ أي: ضَعفًا، قال المجد رحمه الله: الهُزالُ بالضم: نقيضُ السِّمَن، وهُزِلَ، كعُنِيَ هُزالًا، وهَزَلَ، كنَصَرَ هَزْلًا، ويُضَمُّ، وهَزَلْتُه أهْزِلُه، وهَزَّلْتُه، وأهْزَلُوا: هُزِلَتْ أمْوالهُم، كهَزَلُوا، كضَرَبوا، وحَبَسوا أمْوالَهُم عن شِدَّةٍ، وضِيقٍ. انتهى
(5)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: هَزَلْتُ الدابةَ أَهْزِلُهَا، من باب ضرب هُزْلًا، مثلُ قُفْلٍ: أضعفتُها بإساءة القيام عليها، والاسم: الهُزَالُ، وهُزِلَتْ بالبناء للمفعول، فهي مَهْزُولَةٌ، فإن ضَعُفَت من غير فِعل المالك قيل: أَهْزَلَ الرجلُ بالألف؛ أي: وقع في ماله الهُزَالُ. انتهى
(6)
.
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 263.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 173.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 291.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 173.
(5)
"القاموس المحيط" ص 1383.
(6)
"المصباح المنير" 2/ 638.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من جَرّاء هِرّة"؛ أي: من أجل، وفيه لغتان: المدّ، والقصر، وظاهر هذا: أن الهرّ يُملك؛ لأنَّه أضاف الهرّ للمرأة باللام التي هي ظاهرة في المُلك، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك، وفيه ما يدلّ على أن الواجب على مالك الهرّ أحد الأمرين: إما أن يطعمه، أو يتركه يأكل مِمَّا يجده من الخشاش، وهي: حشرات الأرض، وأحناشها، وقد يقال على صغار الطير، وهو بالخاء المعجمة، ويقال: بفتح الخاء، وكسرها، وحَكَى أبو عليّ القالي فيها الضمّ، فأمَّا الخشاش بالكسر لا غير: فهو الذي يُدخَل في أنف البعير من خشب، والْخَزامة من شَعْر، فأمَّا الخشاش بالفتح: فهو الماضي من الرجال، قال الجوهريّ: وقد يضمّ. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "من خشاش الأرض" بفتح الخاء المعجمة، أشهر مِن كسرها، وضمّها، كما في "الديباج " وغيره، وحَكَى النوويّ أنه رُوي بحاء مهملة، وغَلَّط قائله؛ أي: من حشراتها، وهوامّها، قال الزمخشريّ: الواحدة خشاشة، سُمّيت به؛ لاندساسها في التراب، من خَشَّ في الأرض: دخل فيها.
وقال الطيبيّ: وذِكر الأرض للإحاطة والشمول، مثله في آية:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38].
وظاهر الحديث: أنها عُذِّبت بالنار حقيقةً، أو بالحساب؛ لأن من نوقش عُذِّب، كذا ذكره بعضهم، وجزم القرطبيّ بالأول، وهذه المرأة هي التي رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم في النار، وهي امرأة طويلة، من بني إسرائيل، أو حِمْير، ويَحْتَمِل كونها كافرة، كذا ذكره جَمْعٌ، وحكاه عنهم الحافظ ابن حجر، وقال النوويّ: الذي يظهر أنها كانت مسلمة، وإنما دخلت النار بهذه المعصية، وتوبع على ذلك، وقال القرطبيّ: هل كانت كافرةً، أو مسلمة؟ كلٌّ مُحْتَمِلٌ، فإن كانت كافرة ففيه أن الكفار مخاطَبون بالفروع، ومعاقَبون على تركها، وإلا فقد تلخص أن سبب تعذيبها حبس الهرة، ففيه أن الهرّ لا يُملك، وأنه لا يجب إطعامه إلا على مَنْ حَبَسه، وكأنهم لم يَروُوا فيه شيئًا، وهو عجيبٌ، فقد ورد النصّ الصريح الصحيح بكفرها، قال علقمة: "كنا جلوسًا عند عائشة، فدخل أبو
(1)
"المفهم" 6/ 606.
هريرة، فقالت: أنت الذي تُحَدِّث أن امرأة عُذبت في هرة ربطتها إلخ؟ فقال: سمعت منه -يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: هل تدري ما كانت المرأة؟ إن المرأة مع ما فعلت كانت كافرة، وإن المؤمن أكرم على الله عز وجل أن يعذبه في هرة، فإذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر كيف تحدث؟ "، رواه أحمد، قال الحافظ الهيثميّ: رجاله رجال الصحيح.
وفيه تفخيم الذَّنْب، ولو صغيرًا، وأن تعذيب الحيوان حرام، وأنه يُسَلَّط يوم القيامة على ظالمه، وحِلُّ اتخاذ الهرّ ورباطها، بشرط إطعامها وسقيها، وأُلحق بها غيرها في معناها، وقول النوويّ: وإن نفقة الحيوان على مالكه نوزع فيه، بأنه ليس في الخبر ما يقتضيه. انتهى ما كتبه المناويّ رحمه الله
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى تخريجه، وتمام البحث فيه في "كتاب قتل الحيّات" برقم [4/ 5841](2243) فراجعه تستفد. وبالله تعالى التوفيق.
(38) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْكِبْرِ)
قال الغزاليّ رحمه الله في "الإحياء": (اعلم): أن الكِبْر ينقسم إلى باطن وظاهر، فالباطن هو خُلُق في النفس، والظاهر هوأعمال تصدر عن الجوارح، واسم الكبر بالخُلق الباطن أحقّ، وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخُلق، وخُلق الكبر موجب للأعمال، ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال: تكبّر، وإذا لم يظهر يقال: في نفسه كبر، فالأصل هو الخُلق الذي في النفس، وهو الاسترواح، والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبَّر عليه، فإن الكبر يستدعي متكبَّرًا عليه، ومتكبَّرًا به، وبه ينفصل الكبر عن العجب، فإن العجب لا يستدعي غير المعجَب، بل لو لم يُخلَق الإنسان إلا وحده تُصُوِّر أن يكون مُعْجَبًا، ولا يتصور أن يكون متكبرًا إلا أن يكون مع غيره، وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبرًا، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون
(1)
"فيض القدير" 3/ 523.
متكبرًا، فإنه قد يستعظم نفسه، ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه، أو مثل نفسه، فلا يتكبر عليه، ولا يكفي أن يستحقر غيره، فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر، ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر، بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خُلُق الكبر، لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر، بل هذه الرؤية، وهذه العقيدة تنفخ فيه، فيحصل في قلبه اعتداد، وهِزّة، وفرح، وركون إلى ما اعتقده، وعِزّ في نفسه بسبب ذلك، فتلك العزة، والهزة، والركون إلى العقيدة هو خُلُق الكبر.
وقد دلّ الكتاب والسُّنَّة، وإجماع العلماء أن الكبر من أرذل أخلاق الإنسان، وهو من الموبقات التيّ تجرّ إلى كثير من الخبائث. انتهى بتصرّف
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6657]
(2620) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الأغرِّ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ) أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بِحَمْدان، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 264) وله ثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 90.
[تنبيه]: قوله: "الأَزديّ" بفتح الهمزة: نسبة إلى أزد شنوءة، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) -بكسر المعجمة، وآخره مثلّثة - ابن طَلْق -بفتح الطاء، وسكون اللام- الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِمَ [10](ت 222)(خ م دت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.
(1)
"إحياء علوم الدين" 5/ 134.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 46.
3 -
(أَبُوهُ) حفص بن غياث بن طلق بن معاوية النّخَعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.
4 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم قبل باب.
5 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد، ويقال: عليّ، ويقال: ابن أبي شعيرة الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ -بفتح المهملة، وكسر الموحّدة- ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ اختَلَط بأخرة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
6 -
(أَبُو مُسْلِمٍ الأَغْرُّ) المدينيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ [3] وهو غير سلمان الأغرّ الذي يكنى أبًا عبد الله، وقد قلبه الطبرانيّ، فقال: اسمه مسلم، ويكنى أبا عبد الله (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1777.
7 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، والصحابيين، فمدنيّان، وفيه ثلاثة من التابعيين الكوفيين روى بعضهم عن بعض: الأعمش عن أبي إسحاق، عن أبي مسلم الأغرّ، وأن صحابييه كلاهما من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الأَغْرِّ) بالجرّ بدل، أو عَطْف بيان لِمَا قبله، وهو اسمه. (أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنهما؛ أنهما (قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْعِزُّ إِزَارُهُ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاؤُهُ، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَبْتُهُ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ، فالضمير في "إزاره، ورداؤه" يعود إلى الله تعالى؛ للعلم به، وفيه محذوف، تقديره: قال الله تعالى: ومن ينازعني ذلك أعذبه، ومعنى ينازعني يتخلّق بذلك، فيصير في معنى المشارِك، وهذا وعيد شديد في الكِبْر، مصرِّح بتحريمه، وأما تسميته إزارًا، ورداءً، فمجاز،
واستعارة حسنةٌ، كما تقول العرب: فلان شعاره الزهد، ودثاره التقوى، لا يريدون الثوب الذي هو شعار، أو دثار، بل معناه صفته كذا، قال المازريّ: ومعنى الاستعارة هنا: أن الإزار والرداء يَلْصَقان بالإنسان، ويلزمانه، وهما جمال له، قال: فضرب ذلك مَثَلًا لكون العزّ والكبرياء بالله تعالى أحقّ، وله ألزم، واقتضاهما جلاله، ومن مشهور كلام العرب: فلان واسع الرداء، وغَمْر الرداء؛ أي: واسع العطيّة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "العزّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذّبته" كذا جاء هذا اللفظ في كتاب مسلم مفتتحًا بخطاب الغيبة، ثم خرج إلى الحضور، وهذا على نحو قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22] فخرج من خطاب الحضور إلى الغيبة، وهي طريقة عربية معروفة، وقد جاء هذا الحديث في غير كتاب مسلم:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قصمته، ثم ألقيته في النار"
(2)
، وأصل الإزار: الثوب الذي يُشدّ على الوسط، والرداء ما يُجعل على الكتفين، ولمّا كان هذان الثوبان يخصّان اللابس بحيث لا يستغني عنهما، ولا يقبلان المشاركة عبّر الله تعالى عن العزّ بالإزار، وعن الكبرياء بالرداء، على جهة الاستعارة المستعملة عند العرب، كما قال:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى} [الأعراف: 26]، فاستعار للتقوى لباسًا، وكما قال صلى الله عليه وسلم:"من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها"
(3)
، وكما قال:"البسوا قِناع المخافة، وادّرعوا لباس الخشية"، وهم يقولون: فلان شعاره الزهد والورع، ودثاره التقوى، وهو كثير، ومقصود هذه الاستعارة الحسنة: أن العز، والعظمة، والكبرياء من أوصاف الله تعالى الخاصة به التي لا تنبغي لغيره، فمن تعاطى شيئًا منها أذلّه الله تعالى، وصغّره، وحقّره، وأهلكه، كما
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 173 - 174.
(2)
رواه أبو داود في "سننه"(4090).
(3)
رواه الطبرانيّ عن جندب بن سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسرّ عبدٌ سريرةٌ، إلا ألبسه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ"، قال الحافظ الهيثميّ: رواه الطبرانيّ في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه: حامد بن آدم، وهو كذاب. انتهى. "مجمع الزوائد" 10/ 225.
قد أظهر الله تعالى من سنّته في المتكبرين السابقين واللاحقين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن هذا الحديث من أحاديث الصفات التي أمر السلف، أن يؤمَن بها، وتمرّ كما وردت، وهو نظير حديث البخاريّ في "التفسير" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خلق الله الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فاخذت بِحِقْو الرحمن. . ." الحديث، وقد قال المحقّقون أن الواجب في مثل هذا أن يُمرّ كما جاء، ولا يؤوّل، ولا يمثّل، ولا يُعطّل، ومن ذلك ما قاله الشيخ البرّاك عند تعليقه على "فتح الباري" في شرح حديث الحقو المذكور قال: ومن خير ما يقال في هذا المقام قول الشافعيّ رحمه الله: آمنت بالله، وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله.
وقول شيخ الإسلام في "نقض التأسيس"(3/ 127): هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نصّ الأئمة على أنها تُمر كما جاءت، وردّوا على من نفى موجَبه. انتهى
(2)
.
والحاصل: أن الحقّ أن صفة الرداء والإزار ثابتتان لله عز وجل على ما يليق بجلاله، فلا حاجة إلى التأويلات المتعسّفة، ولا إلى التحريفات المكلّفة، كما خاض غمرة ذلك شُرّاح هذا الكتاب، وغيرهم، بل نثبتها كما أثبتها هذا النصّ، وننزّه الله تعالى عن مشابهة الخلق، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [38/ 6657](2620)، و (البخاريّ) في "الأدب
(1)
"المفهم" 6/ 606 - 607.
(2)
راجع ما كتبه الشيخ البرّاك على هامش "الفتح" 10/ 595 في تفسير "سورة محمد صلى الله عليه وسلم".
المفرد"، و (أبو داود) في "اللباس" (4095)، و (ابن ماجه) في "الزهد" (4227)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (2387)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (9/ 89)، و (الحميديّ) في "مسنده" (1149)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 248 و 376 و 414 و 427 و 442)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط" (5/ 69)، و (تمّام) في "فوائده" (2/ 149)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (328)، و (الحاكم) في "المستدرك" (1/ 61)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان" (6/ 280)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3592)، والله تعالى أعلم.
(39) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ تَقْنِيطِ الإِنْسَانِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6658]
(2621) - (حَدَّثَنَا سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيه، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"، أَو كَمَا قَالَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدثانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حَبِيب الأزديّ، أو الكِنْديّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من كبار [4] (ت 128) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
5 -
(جُنْدَبُ) بن عبد الله بن سفيان الْبَجَليّ، ثم الْعَلِقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربّما نُسِب إلى جدّه صحابيّ، مات رضي الله عنه بعد الستين، قال
البخاريّ: كان بالكوفة، ثم خرج إلى البصرة، ثم خرج منها
(1)
(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فحَدثانيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران.
شرح الحديث:
(عَنْ جُنْدَبٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَ: "أَنَّ رَجُلًا) لا يُعرف
(2)
، وَيحتَمِل أن يكون من هذه الأمة، أو من غيرهم. (قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ) قاله استكثارًا لذنبه، أو استكبارًا، أو تعظيمًا لنفسه، حين جنى عليه، كما يصدر عن بعض الجهلة
(3)
.
وقد بيّن في "شُعَب الإيمان" للبيهقيّ سبب قول الرجل هذا الكلام، ولفظه:"عن جندب قال: وَطِئ رجلٌ على عُنُق رجل، وهو يصلي، فقال الرجل: والله لا يغفر الله لك هذا أبدًا. . ." الحديث
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول المتألّي: "والله لا يغفر الله لفلان" ظاهر في أنه قطع بأن الله تعالى لا يغفر لذلك الرجل، وكأنه حَكَم على الله تعالى، وحَجَر عليه، وهذه نتيجة الجهل بالأحكام الإلهية، والادلال على الله تعالى بما اعتقد أن له عنده من الكرامة، والحظ، والمكانة، وكذلك المذنب من الخسّة والإهانة، فإن كان هذا المتألي مستحلّ لهذه الأمور، فهو كافر، فيكون إحباط عمله لأجل الكفر، كما يُحبط عمل الكفار، وأما إن لم يكن مستحلّ لذلك، وإنما غَلَب عليه الخوف، فحكم بإنفاذ الوعيد فليس بكافر، ولكنه مرتكب كبيرة، فإنَّه قانط من رحمة الله، فيكون إحباط عمله بمعنى: أن ما أوجبتْ له هذه الكبيرة من الإثم يربو على أجر أعماله الصالحة، فكأنه لم يبق له عملٌ صالح. انتهى
(5)
.
(1)
"التاريخ الكبير" 1/ 2/ 221.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 434.
(3)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
(4)
"شعب الإيمان" للبيهقيّ 5/ 289.
(5)
"المفهم" 6/ 607.
(وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى) بفتح الهمزة، وهو معطوف على "أن رجلًا"؛ أي: وحَدّث أن الله تعالى قال، وبكسرها على أن الجملة حاليّة؛ أي: والحال أن الله تعالى قال. (قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ) -بفتح الهمزة، وتشديد اللام المفتوحة-: أي: يتحكّم عليّ، ويحلف باسمي، من الأَلِيّة، وهي اليمين، يقال: آلى يُولي إيلاءً، وائتلى يأتلي ائتلاءً، وتَأَلَّى يَتَأَلَّى؛ أي: حَلَف، والاسم الأليّة
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: هذا وراد على الإنكار والتهديد، وكان من الظاهر أن يقال: أنت الذي تتألّى عليّ، يدلّ عليه الالتفات في قوله:"أحبطت عملك"، فعَدَل منه شاكيًا صنيعه لغيره، معرضًا عنه، فلا يجوز لأحد الجزم بالجنة، أو النار، أو عدم المغفرة، إلا لمن ورد فيه النصّ.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: يتألى بمعنى يحلف، والأليّة: اليمين، والإحباط: الإبطال، وهذا المتألي جَهِل سَعَة الكرم، فعوقب بإحباط العمل. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من ذا الذي يتألّى عليّ؟ " استفهام على جهة الإنكار، والوعيد، ويُستفاد منه تحريم الإدلال على الله تعالى، ووجوب التأدّب معه في الأقوال، والأحوال، وأن حقّ العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبوديّة، ومولاه بما يجب له من أحكام الإلهية، والربوبيّة. انتهى
(3)
.
(أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ) ترغيمًا لأنفك، (وَأَحْبَطْتُ)؛ أي: محوت، وأزلت من صحيفتك (عَمَلَكَ")؛ أي: العمل الصالح بسبب جريمتك هذه، وقال المظهر: أي: أبطلت قَسَمك، وجعلت حَلِفك كاذبًا؛ لِمَا ورد في حديث آخر:"من يتألَّى على الله يكذبه"، فلا مُتَمَسَّك للمعتزلة أن صاحب الكبيرة مع عدم الاستحلال يُخَلَّد في النار، كالكفر، يُحبط عمله، قال: لا يجوز لأحد الجزم بالجنة أو النار، إلا لمن ورد فيه نصّ، كالعشرة المبشرة بالجنة.
فإن قلنا: إن قوله هذا كفر، فأحبطتُ عملك ظاهر، وإن قلنا: إنه
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 73.
(2)
"كشف المشكل" 2/ 50.
(3)
"المفهم" 6/ 607.
معصية، فكذا على مذهب المعتزلة، وأما على مذهب أهل السُّنَّة، فيكون محمولًا على التغليظ. انتهى.
قال القاري: وفيه أنه يُبعد كونه كفرًا، وعلى التنزل فقوله ظاهر؛ أي: على مذهبنا؛ لأن في مذهب الشافعيّ يُشترط للإحباط موته على الكفر، ولا يُعرف في مذهب المعتزليّ أن كل معصية تُحبط جميع الأعمال، ثم حَمْله على ما ذكرناه أَولى من حمله على التغليظ، مع أنه لا ينافيه، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (أَو كَمَا قَالَ) شكّ من الراوي في نصّ الحديث، هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره ما ذكرته، أو قال مثل ذلك؟ وهو تنبيه على النقل بالمعنى؛ لئلا يُتوهَّم نَقْل اللفظ أيضًا، قال النوويّ رحمه الله: ينبغي للراوي، وقارئ الحديث إذا اشتبه عليه لفظة، فقرأها على الشكّ أن يقول عقبه:"أو كما قال"، وكذا يستحب لمن رَوَى بالمعنى أن يقول بعده:"أو كما قال"، أو "نحو هذا"، كما فعله الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدَهم، والله تعالى أعلم
(2)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [39/ 6658](2621)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 165)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 99) وفي "المفاريد" له (1/ 47)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5711)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الإقناط من رحمة الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز لداع إلى الله تعالى أن يحمل الناس على أن يقنطوا من رحمة الله تعالى، فإن القنوط
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 179.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 73.
منها كبيرة من كبائر الذنوب، كما قال عز وجل:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56].
2 -
(ومنها): تحريم رؤية النفس، واستعظام شأنها، واحتقار غيرها، فإنه من الكبائر أيضًا.
3 -
(ومنها): وجوب التواضع لله تعالى، وللمسلمين، ففي "صحيح مسلم" مرفوعًا:"وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يَفْخَر أحدٌ على أحد، ولا يبغ أحدٌ على أحد".
4 -
(ومنها): تحريم القول بأن فلانًا من أهل النار، وكذا من أهل الجنّة، إلا لمن أخبر عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، كالعشرة المبشّرين بالجنّة، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:
وَلَا تَقُلْ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارَ
…
كَلَّا وَلَا هَذَا مِنَ الأَبْرَارِ
إِلَّا لِمَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى
…
فَالنَّارُ وَالْفَوْزُ لِمَنْ قَدْ وَصَفَا
5 -
(ومنها): وجوب خوف المؤمن من إحباط عمله بسوء الأدب مع الله، ومع عباد الله تعالى، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر"، وقال إبراهيم التيميّ: ما عَرَضت قولي على عملي إلا خَشِيت أن أكون مكذِّبًا، وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنه عليّ إيمان جبريل، وميكائيل، ويُذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أَمِنه إلا منافقٌ. وما يُحذَر من الإصرار على النفاق، والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في الحديث دلالةٌ لمذهب أهل السُّنَّة في غفران الذنوب بلا توبة؛ إذا شاء الله تعالى غفرانها، واحتجت المعتزلة به في إحباط الأعمال بالمعاصي الكبائر، ومذهب أهل السُّنَّة أنها لا تُحبط إلا بالكفر، ويُتأوّل حبوط عمل هذا على أنه سقطت حسناته في مقابلة سيئاته،
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 26.
فسُمِّي إحباطًا مجازًا، ويَحْتَمِل أنه جرى منه أمر آخر أوجب الكفر، ويَحْتَمِل أن هذا كان في شَرْع من كان قبلنا، وكان هذا حُكمهم. انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد غفرت لفلان" دليل على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة أنه لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة بذنب، وهو مُوجب قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، وأن لله تعالى أن يفعل في عبيدة ما يريد، من المغفرة، والاحباط؛ إذ هو الفعّال لِمَا يريد، القادر على ما يشاء. انتهى
(2)
.
8 -
(ومنها): ما قاله في "اللمعات": قوله: "من ذا الذي يتألى عليّ" في هذه العبارة تخويف، وتهديد شديد، وفي صورة الغيبة دون أن يقول: أنت الذي تتألى دلالةٌ على التهديد لكل من يتألى من غير خصوصية بالمخاطب، ثم خاطبه بأنك إذا حلفت عليّ، فاعلم أني قد غفرت له على رغم أنفك، وأحبطت عملك جزاءً على ما قلت. انتهى
(3)
.
(40) - (بَابُ فَضْلِ الضُّعَفَاء، وَالْخَامِلِينَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله، أوّلَ الكتاب قال:
[6659]
(2622) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُبَّ أَشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، أبو عمر الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) الْجُهنيّ الحرقيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 174.
(2)
"المفهم" 6/ 608.
(3)
"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 8/ 73.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ مولاهم المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، فالعلاء من الخامسة، وأبوه من الثالثة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد تقدّم القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُبَّ) كلمة "رُبّ" أصلها للتقليل، وكَثُر استعمالها في التكثير، وتلحقها كلمة "ما"، فتدخل على الْجُملة، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: "رب" فيها ست عشرة لغةً: ضمّ الراء، وفَتْحها، كلاهما مع التشديد، والتخفيف، والأوجه الأربعة مع تاء التأنيث ساكنةً، أو متحركةً، ومع التجرد منها، فهذه اثنتا عشرة، والضمّ، والفتح، مع سكون الباء، وضمّ الحرفين، مع التشديد، والتخفيف. انتهى
(2)
.
(أَشْعَثَ)؛ أي: مُلَبَّد الشعر، مُغَبَّر، غير مدهون، ولا مُرَجَّل.
وقال المناويّ رحمه الله: "أشعث"؛ أي: ثائر الشعر، مُغَبَّره، قد أَخَذ فيه الْجَهْد، حتى أصابه الشعث، وغلبته الْغُبْرة. انتهى
(3)
.
قال القاضي: الأشعث: الْمُغَبَّر الرأس، المتفرق الشعر، وأصل التركيب هو التفرقة، والانتشار. انتهى.
(مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ)؛ أي: لا قَدْر له عند الناس، فهم يدفعونه عن أبوابهم، ويطردونه عنهم، احتقارًا له.
وقال المناويّ: "مدفوع بالأبواب"؛ أي: يُدفَع عند إرادته الدخول على
(1)
"عمدة القاري" 4/ 266.
(2)
"فيض القدير" 4/ 14.
(3)
"فيض القدير" 4/ 14.
الأعيان، والحضور في المحافل، إما باللسان، أو اليد واللسان؛ احتقارًا له، فلا يُتْرَك أن يلج الباب فضلًا أن يقعد معهم، ويجلس بينهم
(1)
.
(لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ")؛ أي: لو حلف على وقوع شيء، أوقعه الله تعالى إكرامًا له بإجابة سؤاله، وصيانته من الحِنث في يمينه، وهذا لعظيم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القَسَم هنا الدعاء، وإبراره إجابته
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "لو أقسم"؛ أي: حلف على الله ليفعل شيئًا لأبرّه؛ أي: أبرّ قسمة، وأوقع مطلوبه إكرامًا له، وصونًا ليمينه عن الحنث؛ لِعِظَم منزلته عنده، أو معنى القَسَم: الدعاء، هابراره: إجابته، و"رُبّ" هنا للتقليل، قال في "المغني": وليست هي للتقليل دائمًا خلافًا للأكثر، ولا للتكثير دائمًا خلافًا لابن درستويه، وجَمْعٍ، بل للتكثير كثيرًا، وللتقليل قليلًا. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأشعث": المتلبِّد الشعر غير المدّهنه، و"المدفوع بالأبواب"؛ أي: عن الأبواب، فلا يُترَك بقربها احتقارًا له، ويصحّ أن يكون معناه: يُدفع بسدّ الأبواب في وجهه، كلما أراد دخول باب من الأبواب، أو قضاء حاجة من الحوائج، وقوله:"لو أقسم على الله لأبرّه"؛ أي: لو وقع منه قَسَم على الله في شيء لأجابه الله تعالى فيما سأله؛ إكرامًا له، ولطفًا به، وهذا كما تقدَّم من قول أنس بن النضر رضي الله عنه:"لا والله لا تُكْسَر ثنيّة الرُّبَيِّع أبدًا"
(4)
فأبرّ الله قَسَمه، بأن جعل في قلوب الطالبين للقصاص الرضا بالدية، بعد أن أبوا قبولها.
وكنحو ما اتَّفَق للبراء رضي الله عنه لَمّا التقى بالكفار، فاقتتلوا، فطال القتال، وعَظُم النزال، فقال البراء: أقسمت عليك يا رب، أو عزمت عليك، لتمنحنا أكتافهم، ولتلحقني بنبيّك صلى الله عليه وسلم، فأبرّ الله قَسَمه
(5)
، فكان كذلك، ولقد أبعد من
(1)
"فيض القدير" 4/ 14.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 174 - 175.
(3)
"فيض القدير" 4/ 14 - 15.
(4)
متّفقٌ عليه.
(5)
ذكر ابن حبّان في "مشاهير علماء الأمصار" 1/ 13: (37) في ترجمة البراء بن =
قال: إن القَسَم هنا هو الدعاء من جهة اللفظ والمعنى. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [40/ 6659](2622) ويأتي في "صفة الجنّة"(2854)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6483)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 292)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 328)، و (البغويّ) في "شرح السُّنة"(4069)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما يُكرم الله سبحانه وتعالى عبده المؤمن بكرامة إجابة دعائه، وإعطاء ما يسأله، ويتمنّاه.
2 -
(ومنها): بيان أن المظاهِر ليست معيار معرفة أولياء الله تعالى، كما هو المعروف لدى عامّة الناس، بل الكثير خلاف ذلك، فكثيرًا ما تكون عناية الله سبحانه وتعالى عند الخاملين، فالمدار التقوى، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
3 -
(ومنها): ما قاله بعضهم: إنما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ربّ أشعث إلخ"؛ ليبصِّرك مراتب الشُّعْث الْغُبْر الأصفياء الأتقياء، ويرغّبك في طلب ما طلبوا،
= مالك بن النضر النجاريّ الخزرجيّ، وهو أخو أنس بن مالك، من صالحي الأنصار، ومتقشفيهم، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"رب أشعث أغبر ذي طمرين، لا يُؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك"، خرج البراء غازيًا، فلقي زحفًا من المشركين بناحية السوس، فقاتلهم فيمن معه من المسلمين، فقالوا: يا براء إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أقسمت على الله لأبرّك"، فأقْسِم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب، لَمّا منحتنا أكتافهم، فمُنحوا أكتافهم، وقُتل البراء شهيدًا، وذلك سنة ثلاث وعشرين. انتهى.
(1)
"المفهم" 6/ 609 - 610.
ويُنَشِّطك لتقديم ما قدَّموا، ويُثَبِّطك عن الطمع الفارغ، والرجاء الكاذب، ويُعَلِّمك أن الزينة إنما هي بلباس التقوى
(1)
.
[حكاية]: ذكر المناويّ في "فيض القدير" حكاية غريبة، ذكرتُها للاعتبار، وهي أن بعضهم كان مجاب الدعوة، وكان كل من دعا عليه مات لوقته، وأراد جِماع زوجته، فقالت: الأولاد متيقظون، فقال: أماتهم الله، فكانوا سبعة، فماتوا كلهم، فصَلَّوا عليهم بُكرة النهار، فبلغ البرهان المتولي، فأحضره، وقال: أماتك الله، فمات، وقال: لو بقي لأمات خلقًا كثيرًا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إنما ذكرت هذه الحكاية؛ لئلا يغترّ بها الجهلة، وذلك أن الكرامة بإجابة الدعوة من جملة نِعم الله سبحانه وتعالى، لا يجوز صرفها إلا فيما فيه نَفْع للإسلام والمسلمين، ولنفس صاحب الكرامة، كما أن قوى البدن نعمة من النعم لا يجوز صرفها فيما يضرّ بالمسلمين، فلا تضرب بيدك أحدًا لقوّتك إلا إذا استحقّ ذلك، كالقصاص، أو الحد، أو التعزير، ولا تسعَ في مضرّة أي مسلم بقوّتك، وإلا كنت آثمًا معاقَبًا عند الله تعالى، كذلك إذا أكرمك الله عز وجل باستجابة دعائك، لا تصرف ذلك إلا في الأمور النافعة للمسلمين، فإن أبيت، وعاندت، واستعملت ذلك في مضرّة أحد من المسلمين، فإن الله تعالى سيعاقبك، ويأخذك أخذ عزيز مقتدر، كما يأخذك في استعمال قوّة يدك، ومالك، وأولادك، وعبيدك، وخَدَمك في مضرّة المسلمين، لا فرق بين هذا، وهذا، فينبغي التنبّه لهذه الحقائق، فإن بعض الجهلة من العبّاد الزهاد إذا رأوا أن الله تعالى استجاب دعاءهم، بغوا، وطغوا، وأفسدوا في الأرض، وظلموا عباد الله تعالى، فإياك، ثم إياك أن تكون منهم، فتهلك مهلكهم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"فيض القدير" 4/ 14 - 15.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 4/ 15.
(41) - (بَابُ النَّهْيِ عَنْ قَوْلِ: "هَلَكَ النَّاسُ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6660]
(2623) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَاَلَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ح) وَحَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَاَلَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْب، أَو أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرَّق بينهما بالتحويل، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه من اشتهر بكنيته، أبو هريرة، وأبو صالح، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ") قال النوويّ رحمه الله: رُوي "أهلكهم" على وجهين مشهورين: رفع الكاف، وفتحها، والرفع أشهر، ويؤيده أنه جاء في رواية رَوَيناها في "حلية الأولياء" في ترجمة سفيان الثوريّ:"فهو من أهلكهم"، قال الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين": الرفع أشهر؛ ومعناها: أشدُّهم هلاكًا، وأما رواية الفتح؛ فمعناها: هو جَعَلهم هالكين، لا أنهم هلكوا في الحقيقة، واتَّفَق العلماء على أن هذا الذمّ إنما هو فيمن قاله على سبيل الإزراء على الناس، واحتقارهم، وتفضيل نفسه عليهم، وتقبيح أحوالهم؛ لأنه لا يَعْلَم سرّ الله في خلقه، قالوا: فأما من قال ذلك تحزّنًا لِمَا يرى في نفسه وفي الناس
من النقص في أمر الدِّين، فلا بأس عليه، كما قال أنس رضي الله عنه: لا أعرف من أمة النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا أنهم يصلّون جميعًا، هكذا فسّره الإمام مالك، وتابعه الناس عليه.
وقال الخطابيّ: معناه: لا يزال الرجل يَعيب الناس، ويذكر مساويهم، ويقول: فسد الناس، وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك، فهو أهلكهم؛ أي: أسوأ حالًا منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العُجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: معناه عند أهل العلم: أن يقولها الرجل احتقارًا للناس، وإزراء عليهم، وإعجابًا بنفسه، وأما إذا قال ذلك تأسفًا وتحزنًا وخوفًا عليهم؛ لِقُبح ما يرى من أعمالهم، فليس ممن عُني بهذا الحديث، والفرق بين الأمرين أن يكون في الوجه الأول راضيًا عن نفسه، مُعْجَبًا بها، حاسدًا لمن فوقه، محتقرًا لمن دونه، ويكون في الوجه الثاني ماقتًا لنفسه، مُوَبِّخًا لها، غير راض عنها، رَوَينا عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: لن يفقه الرجل كلَّ الفقه حتى يَمْقُت الناس كلهم في ذات الله، ثم يعود إلى نفسه، فيكون لها أشدّ مقتًا.
ثم أخرج بسنده عن صالح بن خالد أنه قال: إذا أردت أن تعمل من الخير شيئًا، فأنزل الناس منزلة البقر، إلا أنك لا تحقرهم.
قال أبو عمر: معنى هذا -والله أعلم- أي: لا تلتمس من أحد فيه شيئًا غير الله، وأخلص عملك له وحده، كما أنك لو اطَّلَع عليك البقر، وأنت تعمله، لم تَرْجُ منها عليه شيئًا، فكذلك لا ترجو من الآدميين، ثم بيَّن لك المعنى، فقال: إلا أنك لا تحقرهم. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:) إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه الزاهد النيسابوريّ المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) وهو راوي هذا الكتاب عن مسلم، تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 175 - 176.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ رحمه الله 21/ 242 - 243.
(لَا أَدْرِي)؛ أي: لا أعلم، (أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ) بتقدير الاستفهام؛ أي: أأهلكَهم يُضبط بالنصب، (أَو أَهْلَكُهُمْ) يُضبط (بِالرَّفْعِ) غرض أبي إسحاق هذا بيان شكّه في ضبط هذا الاسم، وهو قوله:"أهلكهم" هل هو بالنصب، أو بالرفع؟ قال القرطبيّ رحمه الله: وقد قيّده الناس بعده بالوجهين، وكلاهما له وجه، فإذا كان بالرفع: فمعناه أن قائل ذلك القول هو أحقّ الناس بالهلاك، أو أشدّهم هلاكًا، ومَحْمِله على ما إذا قال ذلك مُحَقِّرًا للناس، وزاريًا
(1)
عليهم، مُعجبًا بنفسه، وعمله، ومن كان كذلك فهو الأحقّ بالهلاك منهم، فأمَّا لو قال ذلك على جهة الشفقة على أهل عصره، وأنهم بالنسبة إلى من تقدّمهم من أسلافهم كالهالكين، فلا يتناوله هذا الذمّ، فإنَّها عادة جارية في أهل العلم، والفضل، يعظّمون أسلافهم، ويُفضّلونهم على مَن بعدهم، ويُقَصِّرون بمن خلفهم، وقد يكون هذا على جهة الوعظ والتذكير؛ ليقتدي اللاحق بالسابق، فيجتهد المقصّر، ويتدارك الْمُفَرِّط، كما قال الحسن رحمه الله: لقد أدركت أقوامًا لو أدركتموهم لقلتم: مرضى، ولو أدركوكم لقالوا: هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب.
وأفاد من قيّده بالنصب، فيكون معناه: أن الذي قال لهم ذلك مُقَنِّطًا لهم هو الذي أهلَكَهم بهذا القول، فإنَّ الذي يسمعه قد ييأس من رحمة الله، فيَهْلِك، وقد يغلب على القائل رأي الخوارج، فيُهلك الناس بالخروج عليهم، ويشقّ عصاهم بالقتال، وغير ذلك، كما فعلت الخوارج، فيكون قد أهلكهم حقيقة وحسًّا.
وقيل: معناه: أن الذي قال فيهم ذلك هو الذي أهلكهم، لا الله تعالى، فكأنه قال: هو الذي ظنّ ذلك من غير تحقيق، ولا دليل من جهة الله تعالى، والله تعالى أعلم
(2)
.
(1)
يقال: زرى عليه؛ أي: عاتبه، وعاب عليه، كأزرى، وهذه قليلة، أفاده في "القاموس".
(2)
"المفهم" 6/ 608 - 609.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [41/ 6660 و 6661](2623)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 267)، و (أبو داود) في "الأدب"(4983)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 984)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 272 و 465 و 517)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5761)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 483)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 345 و 7/ 141)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 288)، و (نعيم بن حمّاد) في "الفتن"(2/ 622)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3564)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن قول "هلك الناس"؛ لأنه يؤدي إلى تعظيم النفس، واحتقار لغيره.
2 -
(ومنها): أن من آداب الداعي إلى الله تعالى أن يكون وسطًا، فلا يحمل الناس على القنوط من رحمة الله تعالى، ولا يحملهم على الرجاء المفرط الذي يؤدّي إلى التساهل في أمر الله تعالى ونهيه.
3 -
(ومنها): الحثّ على التواضع، وعدم رؤية النفس، وسوء الظنّ بالآخرين، بل الحقّ أن يكون متّهمًا نفسه بالتقصير، واستحقاق الهلاك لولا فضل الله عز وجل، فيكون محبًّا للناس، متواضعًا لهم، محترمًا لهم ذامًّا لنفسه؛ لأنها أمارة بالسوء، وإلى هذا يشير الشاطبيّ رحمه الله في "حرز الأماني"
(1)
، حيث قال:
هُوَ الْمُجْتَبَى يَغْدُو عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ
…
قَرِيبًا غَرِيبًا مُسْتَمَالًا مُؤمَّلَا
يَعُدُّ جَمِيعَ النَّاس مَوْلًى لِأَنَّهُمْ
…
عَلَى مَا قَضَاهُ اللهُ يُجْرُونَ أَفْعَالًا
يَرَى نَفْسَهُ بِالذَّمِّ أَوْلَى لِأَنَّهَا
…
عَلَى الْمَجْدِ لَمْ تَلْعَقْ مِنَ الصَّبْرِ وَالأَلَا
وَقَدْ قِيلَ كُنْ كَالْكَلْبِ يُقْصِيهِ أَهْلُهُ
…
وَمَا يَأْتَلِي فِي نُصْحِهِمْ مُتَبَذِّلَا
(1)
"حرز الأماني" ص 15.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6661]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيم، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، جَمِيعًا عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) أبو معاوية العيشيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ) الأَوْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ [11](ت 261)(خ م س ق) تقدم في "الزكاة" 19/ 2344.
4 -
(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوَانيّ، أبو الْهَيْثَم الْبَجَليّ مولاهم الكوفيّ، صدوق يتشيع، وله أفراد، من كبار [10] (ت 213) وقيل: بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ، أبو أيوب المدنيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية روح بن القاسم، وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل بن أبي صالح لم أجد من ساقهما، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(42) - (بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْجَارِ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6662]
(2624) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثنَا قُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ- سَمِعْتُ
يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ -وَهُوَ ابْن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ- أَنَّ عَمْرَةَ حَدَّثَتْهُ، أنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِيني بِالْجَار، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَيُوَرِّثَنَّهُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(عَبْدَةُ) الْكِلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبت، من صغار [8] (ت 187) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن قيس الأنصاريّ المدنيّ، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت [5](ت 144) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ) ابن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، تغيَّر قبل موته بثلاث سنين [8](194) عن نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
6 -
(أَبُو بَكْر بْنُ مُحَمَدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الأنصاريّ النَّجّاريّ المدني القاضي، اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يُكْنَى أبا محمد، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 120) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 422.
7 -
(عَمْرَةُ) بنت عبد الرحمن بن سَعْد بن زُرارة الأنصاريّة المدنيّة، أكثرت عن عائشة، ثقة [3] ماتت قبل المائة، ويقال: بعدها (ع) تقدّمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 417.
8 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
والباقون كلّهم ذُكروا في الأبواب الخمسة الماضية.
[تنبيه]: من لطائف الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض، ورواية الأخيرين من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الخامسة، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن أبي (بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) الأنصاريّ المدنيّ (أَنَّ عَمْرَةَ) بنت عبد الرحمن الأنصاريّة، وهي أم أبي بكر الراوي عنها، (حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ) عليه السلام (يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظنَنْتُ أَنَّهُ لَيُوَرِّثَنَّهُ")؛ أي: يأمر عن الله بتوريث الجار من جاره.
واختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعل له مشاركة في المال بفرض سهم يُعطاه مع الأقارب، وقيل: المراد: أن يُنَزَّل منزلة من يرث في البِرّ والصلة، والأول أظهر، فإن الثاني استمرّ، والخبر مُشعِر بأن التوريث لم يقع، ويؤيده ما أخرجه البخاريّ من حديث جابر رضي الله عنه نحو حديث الباب بلفظ:"حتى ظننت أنه يَجْعل له ميراثًا".
وقال ابن أبي جمرة: الميراث على قسمين: حسيّ، ومعنويّ، فالحسيّ هو المراد هنا، والمعنويّ ميراث العلم، ويمكن أن يُلحظ هنا أيضًا، فإن حقّ الجار على الجار أن يعلّمه ما يحتاج إليه، والله أعلم.
واسم الجار يَشْمَل المسلم، والكافر، والعابد، والفاسق، والصديق، والعدوّ، والغريب، والبلديّ، والنافع، والضارّ، والقريب، والأجنبيّ، والأقرب دارًا، والأبعد، وله مراتب، بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأُوَل كلّها، ثم أكثرها، وهَلُمّ جَرّا إلى الواحد، وعكسُهُ من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيُعطَى كلٌّ حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر، فيُرَجَّح، أو يُساوَى.
وقد حمله عبد الله بن عمروأحدُ من روى الحديث على العموم، فأمر لمّا ذُبحت له شاة أن يُهدَى منها لجاره اليهوديّ، أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وحسّنه.
وقد وردت الإشارة إلى ما ذُكِر في حديث مرفوع، أخرجه الطبرانيّ من حديث جابر رضي الله عنه، رفعه:"الجيران ثلاثة: جار له حقّ، وهو المشرك، له حقّ الجوار، وجار له حقان، وهو المسلم، له حق الجوار، وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رَحِم، له حق الجوار والإسلام والرحم"
(1)
.
(1)
ضعيف، راجع:"السلسلة الضعيفة" رقم (3493).
قال القرطبيّ: الجار يُطلق، ويراد به الداخل في الجوار، ويُطلق، ويراد به المجاور في الدار، وهو الأغلب، والذي يظهر أنه المراد به في الحديث الثاني؛ لأن الأول كان يَرِث ويورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نَسْخ التوريث بين المتعاقدَين فقد كان ثابتًا، فكيف يترجى وقوعه، وإن كان بعد النَّسخ فكيف يُظَنّ رجوعه بعد رفعه، فتعيَّن أن المراد به المجاور في الدار.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة
(1)
: حِفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة، كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفّ أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه، حسيةً كانت، أو معنويةً، وقد نفى صلى الله عليه وسلم الإيمان عمن لم يأمَن جاره بوائقه، كما في الحديث الذي يليه، وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حقّ الجار، وأن إضراره من الكبائر، قال: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح، وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخصّ الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفّه عن الذي يرتكبه بالحسنى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبيِّن محاسنه، والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه زَلَلَه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه، وإلا فيهجره قاصدًا تأديبه على ذلك، مع إعلامه بالسبب؛ ليكفّ. انتهى ملخصًا.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6662 و 6663](2624)، (والبخاريّ) في "الأدب"(6014) وفي "الأدب المفرد"(101 و 106)، و (أبو داود) في
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 165.
"الأدب"(5151)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1942)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3673)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 52 و 91 و 125 و 187)، و (ابن أبي شيبة في "مصنّفه" (8/ 545)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(511)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 307)، و (ابن أبي الدنيا) في "مكارم الأخلاق"(319)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 27)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان التشديد في حقّ الجار، حتى إنه صلى الله عليه وسلم من كثرة وصيّة جبريل عليه السلام به ظنّ أنه سيجعله من جملة الورثة. قال ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث الحضّ على برّ الجار، وإكرامه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله:"ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، والله عز وجل قد أوصى بالجار ذي القربى، والجار الجنب. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان شدّة عناية الشريعة الإسلاميّة بالمحافظة على حقوق الجوار، وهو من الأمور التي يستحسنها العقل، ولو لم يَرِدْ بها الشرع، ولذا كان أهل الجاهليّة يتفاخرون بها، قال ابن عبد البرّ: وذكر مالك عن أبي حازم بن دينار، أنه قال: كان أهل الجاهلية أبرّ بالجار منكم، وهذا قائلهم يقول [من الكامل]:
نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ
…
وَإِلَيْهِ قَبْلِي يَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَا ضرَّ جَارٌ أَلَّا أُجَاوِرَه
…
أَلَّا يَكُونَ لِبَابِهِ سِتْرُ
أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ
…
حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْخِدْرُ
3 -
(ومنها): أنه اختُلف في حدّ الجار، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب حقّ الجوار في قرب الأبواب".
(5674)
- حدّثنا حجاج بن منهال، حدّثنا شعبة، قال: أخبرني أبو عمران، قال: سمعت طلحة، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين، فإلى أيهما أُهدي؟ قال:"إلى أقربهما منك بابًا"
(2)
.
قال في "الفتح": قوله: "أقربهما"؛ أي: أشدّهما قربًا، قيل: الحكمة فيه
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 21/ 41.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2241.
أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره، من هدية وغيرها، فيتشوَّف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لِمَا يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة، وقال ابن أبي جمرة: الإهداء إلى الأقرب مندوب؛ لأن الهدية في الأصل ليست واجبةً، فلا يكون الترتيب فيها واجبًا، ويؤخذ من الحديث أن الأخذ في العمل بما هو أعلى أَولى، وفيه تقديم العلم على العمل.
واختُلف في حدّ الجوار، فجاء عن عليّ رضي الله عنه: من سمع النداء فهو جار، وقيل: من صلى معك صلاة الصبح في المسجد، فهو جار، وعن عائشة: حدّ الجوار أربعون دارًا من كل جانب، وعن الأوزاعيّ مثله، وأخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" مثله عن الحسن، وللطبرانيّ بسند ضعيف، عن كعب بن مالك، مرفوعًا:"ألا إن أربعين دارًا جار"، وأخرج ابن وهب عن يونس، عن ابن شهاب: أربعون دارًا عن يمينه، وعن يساره، ومن خلفه، ومن بين يديه، وهذا يَحْتَمِل كالأُولى، ويَحْتَمِل أن يريد التوزيع، فيكون من كل جانب عشرةً. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن من صلى الصلوات معك دائمًا، ولا سيّما صلاة الصبح هو جار لك؛ لأن هذا يدلّ على قربه من دارك، ويرى كل ما يدخل في بيتك، أو بعضه، ولو صحّ حديث:"أربعون دارًا جارٌ" لكان نصًّا في التحديد، لكنه ضعيف
(2)
، فلا يصلح للاحتجاج به، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6663]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"الفتح" 13/ 568، كتاب "الأدب" رقم (6020).
(2)
راجع: "إرواء الغليل" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 6/ 100.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، ثقة
(1)
فقيهٌ [8](ت 184) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.
3 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) أبو المنذر المدنيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.
و"عائشة رضي الله عنها " ذُكرت قبله.
[تنبيه]: رواية عروة عن عائشة رضي الله عنها هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الأوسط"، فقال:
(647)
- حدّثنا أحمد، قال: حدّثنا عمرو بن محمد الناقد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه"، قال: لم يرو هذا الحديث عن هشام، إلا ابن أبي حازم. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6664]
(2625) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) هو: عبيد الله بن عمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله خمس وثمانون سنة (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ البصريّ، تقدّم قبل حديثين.
3 -
(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [6] مات قبل سنة خمسين ومائة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": صدوق؛ لأن الأئمة وثّقوه، انظر ترجمته في:"تت".
(2)
"المعجم الأوسط" 1/ 202.
4 -
(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.
5 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
وقوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار إلخ" قال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم أن الجار يقال على المجاور في الدار، وعلى الداخل في الجوار، وكل واحد منهما له حقّ، ولا بُدّ من الوفاء به، وقد تقدَّم قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، متّفقٌ عليه، وقوله:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره"، متّفقٌ عليه، ولمّا أكد جبريل عليه السلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم في حق الجوار، وكَثُر عليه من ذلك غلب على ظن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الله سيحكم بالميراث بين الجارين، وهذا يدلّ على أن هذا الجار هنا هو جار الدار؛ لأنَّ الجار بالعهد قد كان من أول الإسلام يرث، ثم نُسخ ذلك، كما تقدَّم، فإن كان هذا القول صدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم -في أول الأمر، فقد كان التوارث مشروعًا، فمشروعيته واقعة محققة غير منتظرة، ولا مظنونة، وإن كان بعد ذلك، فرَفْعُ ذلك الحكم ونَسْخه محقّق، فكيف تُظنّ مشروعيته؟ فتعيّن أن المراد بالجوار في هذا الحديث هو جوار الدار، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [42/ 6664 و 6665 و 6666](2625)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6015) وفي "الأدب المفرد"(104)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 85)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 27)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 360)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3487)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 610 - 611.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6665]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ- قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِت، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فُضيلٍ بن حسين بن طلحة البصريّ، ثقة حافظ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنة (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْعَمِّيُّ) أبو عبد الصمد البصريّ، ثقة حافظ، من كبار [9] (ت 187) ويقال: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
[تنبيه]: قوله: "الْعَمّيّ" بفتح العين المهملة، وتشديد الميم: نسبة إلى العمّ، وهو بطن في تميم، وهم ولد مرّة بن وائل بن عمرو بن مالك بن فهم بن غَنْم بن دوس، يقال لهم: بنو العمّ، قاله في "اللباب"
(1)
.
4 -
(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب البصريّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ الصَّامِتِ) ابن أخي أبي ذرّ الْغَفَاريّ البصريّ، ثقةٌ [3] مات بعد السبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 52/ 1142.
6 -
(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاري الصحابيّ المشهور، اسمه جُنْدُب بن جُنَادة على الأصحّ، وقيل غير ذلك، تقدّم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه كثيرة جدًّا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه شيخان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعي، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 359.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغِفَاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ) قال المجد رحمه الله: الطَّبْخُ: الإنْضَاجُ، اشْتِواءً، واقْتِدَارًا، طَبَخَ، كنَصَرَ، ومَنَعَ، فانْطَبَخَ، واطَّبَخَ، كافْتَعَلَ، وكَمَسْكَنٍ: مَوْضِعُهُ، وكَمِنْبَرٍ: آلَتُهُ، أو القِدْرُ، وككَتَّانٍ: مُعَالِجُهُ، وكَكِتابَةٍ: حِرْفَتُهُ، وكَكُناسَةٍ: ما فارَ من رَغْوَةِ القِدْرِ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الطَّبِيخُ: فَعِيل، بمعنى مَفْعُول، وطَبَخْتُ اللحم طَبْخًا، من باب قتل: إذا أنضجته بمرق، قاله الأزهريّ، ومن هنا قال بعضهم: لا يسمى طَبِيخًا، إلا إذا كان بمرق، ويكون الطَّبْخُ في غير اللحم، يقال: خبزة جيِّدة الطَّبْخِ، وآجرّة جيّدة الطبخ، والمطبخ بفتح الميم والباء: موضع الطَّبْخ، وقد تُكسر الميم تشبيهًا باسم الآلة. انتهى
(2)
.
وقوله: (مَرَقَةً)"المرَق" بفتحتين: هو الذي يُؤْتَدَمُ به، واحدَتُه مرَقةٌ، والمَرَقة أخصُّ منه، قالَه الجوهريّ
(3)
.
وقال في "المشارق": هو ما يُطبخ من اللحم، وشِبهه، ويؤكل بمائه، يُصطبغ فيه بضدّ الثريد. انتهى
(4)
.
وقوله: (فَأَكثِرْ مَاءَهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه تنبيه لطيف على تيسير الأمر على البخيل؛ إذ الزيادة المأمور بها إنما هي فيما ليس له ثمن، وهو الماء، ولذلك لم يقل: إذا طبخت مرقةً، فأكثر لحمها، أو طبيخها؛ إذ لا يسهل ذلك على كل أحد. انتهى
(5)
.
(وَتَعَاهَدْ) يقال: تعهّده، وتعاهده، واعتهده: تفقّده، وأحدث العهد به، قاله المجد رحمه الله
(6)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: تَعَهَّدْتُ الشيءَ: ترددتُ إليه، وأصلحته، وحقيقته: تجديد العهد به، وتَعَهَّدْتُهُ: حفظته، قال ابن فارس: ولا
(1)
"القاموس المحيط" ص 326.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 367 - 368.
(3)
"تاج العروس" ص 6582.
(4)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 1/ 739.
(5)
"المفهم" 6/ 611 - 612.
(6)
"القاموس المحيط" ص 923.
يقال: تَعَاهَدْتُهُ؛ لأن التفاعل لا يكون إلا من اثنين، وقال الفارابيّ: تَعَهَّدْتُهُ أفصح من تَعَاهَدْتُهُ. انتهى
(1)
.
والمعنى هنا: تفقّد (جِيرَانَكَ") وجدّد عهدك بالإهداء إليهم، والجيران بكسر الجيم: جمع جار، وهو المجاور؛ يعني: تفقَّدْهم بزيادة طعامك، وتجديد عَهْدك بذلك، لتحفظ به حقّ الجوار، قال ابن الملك: إنما أمَره بإكثار الماء في مرقة الطعام حرصًا على إيصال نصيب منه إلى الجار، وإن لم يكن لذيذًا
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6665 و 6666](. . .)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(113 و 114)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1833)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6690)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3405)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 149 و 156 و 161 و 171)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 76)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 147)، و (ابن منده) في "الفوائد"(1/ 78)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(2/ 146)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(7/ 77)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحضّ على تكثير المرقة، ليواسي بها جيرانه، قال الحافظ العراقيّ رحمه الله: وفيه نَدْب إكثار مرق الطعام؛ لِقَصْد التوسعة على الجيران، والفقراء، وأن المرق فيه قُوّة اللحم، فإنه يسمى أحد اللحمين؛ لأنه يَخرُجُ خاصية اللحم فيه بالغليان. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك" هذا الأمر على جهة الندب، والحضّ على مكارم الأخلاق، والإرشاد إلى محاسنها؛ لِمَا
(1)
"المصباح المنير" 2/ 435.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 4/ 371.
يترتّب عليه من المحبّة، وحُسن العشرة، والألفة، ولما يحصل به من المنفعة، ودَفْع الحاجة والمفسدة، فقد يتأذى الجار بقُتار
(1)
قِدْر جاره، وعياله، وصغار أولاده، ولا يقدر على التوصّل إلى ذلك، فتَهِيج من ضعفائهم الشهوة، وَيعْظُم على القائم عليهم الألم والكُلْفة، وربما يكون يتيمًا، أو أرملة ضعيفة، فتَعْظُم المشقة، ويشتدّ منهم الألم والحسرة، وكل ذلك يندفع بتشريكهم في شيء من الطبيخ يُدفع إليهم، فلا أقبح من منع هذا النزر اليسير الذي يترتّب عليه هذا الضرر الكبير. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): الأمر بتعاهد الجيران، والإحسان إليهم، قال المناويّ: الأمر فيه للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الظاهريّة هو الظاهر؛ لظواهر النصوص، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قاله العلائيّ: فيه تنبيه لطيفٌ على تسهيل الأمر على مزيد الخير، حيث لم يقل: فأكثروا لحمها، أو طعامها؛ إذ لا يسهل ذلك على كثير. انتهى.
4 -
(ومنها): أن فيه أفضلية اللحم المطبوخ على المشويّ؛ لعموم الانتفاع؛ لأنه لأهل البيت والجيران، ولأنه يُجعل فيه الثريد، وهوأفضل الطعام، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6666]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: إِن خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم أَوْصَانِي: (إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا، فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ").
(1)
"القُتار": الدخان من المطبوخ وزنًا ومعنى.
(2)
"المفهم" 6/ 611.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيه عابد [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الهمدانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ)؛ أي: ناولهم، واجعلهم يأخذون منها، وأصل الإصابة الأخذ، يقال: أصاب من الطعام: إذا أكل منه، وقوله في غزوة حنين:"أن يصيبهم ما أصاب الناس"؛ أي: ينالهم من عطايا النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قاله في "المشارق"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فأصبهم منها بمعروف"؛ أي: بشيء يُهْدَى مثله عُرفًا، تحرزًا من القليل المحتقَر، فإنه -وإن كان مما يُهْدَى- فقد لا يقع ذلك الموقع، فلو لم يتيسّر إلا القليل المحتقر فليُهْدِه، ولا يحتقره، كما جاء في الحديث الآخر:"لا تحقرنّ من المعروف شيئًا"، وبكون المهدَى له مأمورًا بقبول ذلك المحتقَر، والمكافأة عليه، ولو بالشكر؛ لأنَّه وإن كان قَدْره محتقرًا دليلٌ على تعلق قلب المهدي بجاره. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(43) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ طَلَاقَةِ الْوَجْهِ عِنْدَ اللِّقَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6667]
(2626) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ،
(1)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 2/ 96.
(2)
"المفهم" 6/ 612.
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ -يَعْنِي: الْخَزَّازَ- عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقة [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
2 -
(عُثْمَان بْن عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، أصله من بخارى، ثقةٌ، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
3 -
(أَبُو عَامِرٍ الْخَزَّازُ) -بمعجمات- صالح بن رُسْتُم المزنيّ مولاهم البصريّ، صدوقٌ كثير الخطأ [6].
رَوَى عن عبد الله بن أبي مليكة، وأبي قلابة، وحميد بن هلال، والحسن البصريّ، وأبي عمران الجونيّ، وعكرمة، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم.
وروى عنه ابنه عامر، وإسرائيل، وهشيم، ومعتمر، وأبو داود الطيالسيّ، والنضر بن شميل، ويحيى القطان، وسعيد بن عامر الضبعيّ، وعثمان بن عمر بن فارس، وأبو نعيم، وغيرهم.
قال عباس عن ابن معين: ضعيف، وقال إسحاق بن منصور عن يحيى: لا شيء، وقال رجل ليحيى: إن ابن المدينيّ يحدث عن أبي عامر الخزاز، ولا يحدث عن عمران القطان، قال: سخنة عينه، وقال الأثرم عن أحمد: صالح الحديث، وقال العجليّ: جائز الحديث، وابنه عامر بن صالح ثقة، قال ابن أبي حاتم عن أبيه: شيخ يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، وقال أبو داود الطيالسيّ: حدثنا أبو عامر الخزاز، وكان ثقةً، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، وقال الدارقطنيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عديّ: عزيز الحديث، وقال: روى عنه يحيى القطان، مع شدّة استقصائه، وهو عندي لا بأس به، ولم أر حديثًا منكرًا جدًّا، وقال أبو بكر البزار، ومحمد بن وضاح: ثقةٌ، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالقويّ عندهم.
وأرَّخ ابن حبان في "الثقات" وفاته سنة اثنتين وخمسين ومائة، وكذا أرّخه ابن قانع، وغيره.
أخرج له البخاريّ في التعاليق و"الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جُندب بن جُنادة الغِفَاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ لِيَ) بسكون الياء، وفتحها، (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا) ناهيةٌ، (تَحْقِرَنَّ) -بفتح المثناة فوقُ، وكسر القاف، وفتح الراء، وتشديد النون -أي: لا تستصغرنّ، يقال: حَقَره، واحتقره: استصغره، قال الزمخشريّ: تقول العرب: هو حَقير فَقِير، وهو حاقر ناقر، وفي المثل: من حُقِر حُرِم، وفلان خطير غير حقير
(1)
. وقوله: (مِنَ الْمَعْرُوفِ)؛ أي: ما عرفه الشرع، والعقل بالحُسن، وقال الطيبيّ: المعروف: اسم جامع لكل ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والتقرّب إليه، والإحسان إلى الناس، وهو من الصفات الغالبة
(2)
. قال: ومن المعروف: النِّصفة، وحُسن الصحبة مع الأهل، وغيرهم، وتلقي الناس بوجه طلق وبشاشة. انتهى
(3)
.
وقال الراغب: المعروف: اسمُ كلِّ فعل يُعْرَف حُسنه بالشرع، والعقل معًا، ويُطلق على الاقتصاد؛ لثبوت النهي عن السرف، وقال ابن أبي جمرة: يُطلق اسم المعروف على ما عُرِف بأدلة الشرع أنه من أعمال البرّ، سواء جرت به العادة، أم لا. انتهى
(4)
.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: المعروف كل ما تعرفه النفوس، وتستحسنه العقول،
(1)
"فيض القدير" 1/ 121.
(2)
هكذا نسخة الطيبيّ: "الغالبة" بالباء الموحّدة، ولعل صوابه:"الغالية" بالياء المثناة تحتُ، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1544.
(4)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 90.
من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشِّيَم، وهي التي كانت لم تزل مستحسنةً في كل زمان، وعند أهل كل ملة، فلا تزال كذلك، لا يجري عليها النَّسخ، ولا يجوز فيها التبديل. انتهى
(1)
.
(شَيْئًا)؛ أي: كثيرًا كان أو حقيرًا، (وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ) المسلمَ، قال الطيبيّ: هذا شرط يُعَقَّب به الكلام تتميمًا ومبالغة، وقال أبو حيان: هذه الواو لعطف حال على حال محذوفة، بتضمنها السابق، تقديره: لا تحقرن من المعروف شيئًا على كل حال، كائنًا ما كان، ولو أن تلقى أخاك
(2)
. (بِوَجْهٍ) بالتنوين، (طَلْقٍ")؛ يعني: تلقاه بوجه منبسط، متهلّل، قال النوويّ رحمه الله: رُوي: "طلق" على ثلاثة أوجه: إسكان اللام، وكسرها، وطَلِيق بزيادة ياء، ومعناه: سهل، منبسط، وفيه الحثّ على فَضْل المعروف، وما تيسَّر منه، وإن قلّ، حتى طلاقة الوجه عند اللقاء. انتهى
(3)
.
وقال عياض رحمه الله: قوله: "بوجه طلق"؛ أي: منبسط، غير متجَهِّم، ولا منقبض، يقال منه: وجه طَلَق، وطَلِقٌ، وطَلِيق، ورجل طلق الوجه، وطليقه، وقد طَلُق وجهه بالضم، ومثله طلق اليدين: إذا كان سخيًّا، ومصدره طلاقة. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [43/ 6667](2626)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1833)، و (ابن ماجه) في "الأطعمة"(3362)، و (الحميديّ) في "مسنده"(139)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(450)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 161 و 149)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 108)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(513 و 514 و 523)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 357)، و (البيهقيّ) في
(1)
"غريب الحديث للخطابيّ" 1/ 156.
(2)
"فيض القدير" 1/ 121.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 177.
(4)
"مشارق الأنوار" 1/ 319.
"الكبرى"(3/ 88) و"شُعب الإيمان"(3/ 252 و 6/ 251)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1689)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحض على إتيان المعروف، وفَضْله، وما تيسّر منه ولو قليلًا، حتى طلاقة الوجه عند اللقاء.
2 -
(ومنها): النهي عن التهاون بالمعروف، وإن قلّ.
3 -
(ومنها): الحثّ على طلاقة الوجه، وبشاشته، فينبغي للمسلم أن يكون طلق الوجه غير عبوس، ولا منقبض، والله تعالى أعلم.
(44) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الشَّفَاعَةِ فِيمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6668]
(2627) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِه، فَقَالَ: "اشْفَعُوا، فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) أبو الحسن الكوفيّ تقدّم قريبًا.
3 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو بُردة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى، اسمه عامر، وقيل: الحارث الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وأبو موسى رضي الله عنه ممن سكن الكوفة والبصرة، وفيه رواية الراوي عن جدّه عن أبيه، وأنه صحابيّ من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أتاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ) الصحابة الكرام رضي الله عنهم، (فَقَالَ: "اشْفَعُوا) أمْر بالشفاعة، وهي الطلب، والسؤال بوسيلة، أو ذِمَام، (فَلْتُؤْجَرُوا)؛ أي: يُثبكم الله على الشفاعة، وإن لم تُقبل، والكلام فيما لا حدّ فيه من حدود الله تعالى؛ لورود النهي عن الشفاعة في الحدود
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "أنه كان إذا أتاه السائل، أو صاحب الحاجة قال: "اشفعوا، فلتؤجروا، ولْيَقْضِ اللهُ على لسان رسوله ما شاء".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تؤجروا" كذا وقع هذا اللفظ: "تؤجروا"، بغير فاء، ولا لام، وهو مجزوم على جواب الأمر المضمّن معنى الشرط، ومعناه واضح، لا إشكال فيه، وقد رُوي:"فلتؤجروا" بفاء، ولام، وهكذا وجدته في أصل شيخنا أبي الصبر أيوب، وينبغي أن تكون هذه اللام مكسورة؛ لأئها لام كَيْ، وتكون الفاء زائدة، كما زيدت في قوله صلى الله عليه وسلم:"قوموا فلأصلّ لكم"
(2)
، في بعض رواياته، وقد تقدم قول من قال: إن الفاء قد تأتي زائدة، ويكون معنى الحديث: اشفعوا لكي تؤجروا، ويَحْتَمِل أن يقال: إنها لام الأمر، ويكون المأمور به التعرّض للأجر بالاستشفاع، فكأنه قال: استشفعوا، وتعرّضوا بذلك للأجر، وعلى هذا فيجوز كسر هذه اللام، على أصل لام الأمر، ويجوز تخفيفها بالسكون؛ لأجل حركة الحرف الذي قبلها. انتهى
(3)
.
(1)
"فيض القدير" 1/ 525.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
"المفهم" 6/ 632.
قال الحافظ رحمه الله: ووقع في رواية أبي داود: "اشفعوا لتؤجروا"، وهو يقوّي أن اللام للتعليل.
وجوّز الكرمانيّ أن تكون الفاء سببيّةً، واللام بالكسر، وهي لام "كي"، قال: وجاز اجتماعهما لأنهما لأمر واحد. ويَحْتَمِل أن تكون جزائيّةً جوابًا للأمر. ويَحْتَمِل أن تكون زائدةً على رأي، أو عاطفة على "اشفعوا"، واللام لام الأمر، أو على مقدّر؛ أي: اشفعوا لتؤجروا، فلتؤجروا، أو لفظ:"اشفعوا تؤجروا" في تقدير: إن تشفعوا تؤجروا، والشرط يتضمّن السببيّة، فإذا أُتي باللام وقع التصريح بذلك.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء واللام زائدتان للتأكيد؛ لأنه لو قيل: اشفعوا تؤجروا صحّ؛ أي: إذا عَرَضَ المحتاجُ حاجته عليّ، فاشفعوا له إليّ، فإنكم إن شفعتم حصل لكم الأجر، سواء قَبِلتُ شفاعتكم، أم لا، ويُجرِي الله تعالى على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ما شاء؛ أي: من مُوجَبَات قضاء الحاجة، أو عدمها؛ أي: إنْ قضيتُها، أو لم أقضها، فهو بتقدير الله تعالى وقضائه. انتهى
(1)
.
(وَلْيَقْضِ اللهُ)؛ أي: يُظهر الله تعالى (عَلَى لِسَانِ نَبِيهِ) صلى الله عليه وسلم بوحي أو إلهام (مَا أَحَبَّ")؛ أي: ما قدّره في عِلمه أنه سيكون، من إعطاء، وحرمان، أو يُجري الله على لسانه صلى الله عليه وسلم ما شاء من مُوجَبات قضاء الحاجة، أو عدمها.
والمعنى: أنه إذا عَرَض صاحب حاجة حاجته عليّ، فاشفعوا له، يحصل لكم أجر الشفاعة؛ أي: ثوابها، وإن لم تُقبَل، فإن قُضيت حاجة من شفعتم له فبتقدير الله تعالى، وإن لم تُقضَ فبتقدير الله تعالى أيضًا.
يعني: أن المطلوب منكم حصول الشفاعة، حتى يحصل لكم الأجر، وأما قضاء الحاجة، وعدم قضائها فموكول إلى الله سبحانه وتعالى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وليقض الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما أحبّ" هكذا صحت الرواية هنا، "وليقض" باللام، وجزم الفعل بها، ولا يصحّ أن تكون لام كَيْ كذلك، ولا يصحّ أيضًا أن تكون لام الأمر؛ لأنَّ الله تعالى لا يؤمَر، وكأن هذه الصيغة وقعت موقع الخبر، كما قد جاء في بعض نُسخ
(1)
"الفتح" 13/ 574 - 575، كتاب "الأدب" رقم (6027).
مسلم: "ويقضي الله" على الخبر بالفعل المضارع، ومعناه واضح، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [44/ 6668](2627)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1432) وفي "الأدب"(6027 و 6028) وفي "التوحيد"(7476)، و (أبو داود) في "الأدب"(5131 و 5132)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2672)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2556) وفي "الكبرى"(2337)، و (أحمد) في "مسنده"(19087 و 19163 و 19207)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 340)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 280)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 157 و 159)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 299 و 313)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 363)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 167) و"شُعَب الإيمان"(6/ 103 و 104)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب الشفاعة لذوي الحاجة في كشف كُربهم، ومعونة الضعفاء عند الأمراء، أو الكبراء؛ إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى الرئيس، أو لا يتمكّن لو دخل عليه، في توضيح مراده له؛ ليعرف حاله على وجهه، وإلا فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يحتجب، ولا يُحجب عن ذوي الحاجات.
وقال النوويّ رحمه الله في "الأذكار": تُستحبّ الشفاعة إلى وُلاة الأمر، وغيرهم من ذي الحقوق، ما لم تكن في حدّ، أو في أمر لا يجوز تركه، كالشفاعة إلى ناظر طفل، أو مجنون، أو وَقْف في ترك بعض حقّ من في ولايته، فهذه شفاعة محرّمة. انتهى
(1)
.
وقال في "شرحه" لهذا الكتاب: فيه استحباب الشفاعة لأصحاب الحوائج
(1)
"فيض القدير" 1/ 525.
المباحة، سواء كانت الشفاعة إلى سلطان، ووالٍ، ونحوهما، أو إلى أحد من الناس، وسواء كانت الشفاعة إلى سلطان في كفّ ظلم، أو إسقاط تعزيرٍ، أو في تخليص عطاء لمحتاج، أو نحو ذلك، وأما الشفاعة في الحدود فحرامٌ، وكذا الشفاعة في تتميم باطلٍ، أو إبطال حقّ، ونحو ذلك، فهي حرامٌ. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): الحضّ على الخير بالفعل، وبالتسبب إليه بكلّ وجه حتى يحصل الأجر بذلك.
3 -
(ومنها): أن هذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم؛ لِيَصِلوا جناح السائل، وطالب الحاجة، وهو تخلُّق بأخلاقه تعالى، حيث يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:"اشفع، تُشَفَّع"، وإذا أَمَر بالشفاعة عنده مع استغنائه عنها؛ لأن عنده شافعًا من نفسه، وباعثًا من وجوده، فالشفاعة عند غيره ممن يحتاج إلى تحريك داعية للخير أَولى، ففيه حثّ على الشفاعة، ودلالة على عِظَم ثوابها، والأمر للندب، وربما يَعْرِض له ما يُصَيِّر الشفاعة واجبة.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: أن هذه الشفاعة المذكورة في الحديث هي في الحوائج، والرغبات للسلطان، وذوي الأمر والجاه، كما شهد به صَدْر الحديث ومساقه، ولا يخفى ما فيها من الأجر والثواب؛ لأنَّها من باب صنائع المعروف، وكشف الكُرَب، ومعونة الضيف؛ إذ ليس كل أحد يقدر على الوصول إلى السلطان، وذوي الأمر، ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم -يقول - مع تواضعه وقُربه من الصغير والكبير؛ إذ كان لا يحتجب، ولا يحجب -:"أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها"
(2)
.
وهذا هو معنى قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85]، قال القاضي: ويدخل في عموم الحديث الشفاعة للمذنبين فيما لا
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 177 - 178.
(2)
رواه الطبرانيّ، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه بلفظ:"أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته، فمن أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبّت الله قدميه على الصراط يوم القيامة"، وهو حديث ضعيف، راجع:"ضعيف الجامع الصغير" للشيخ الألبانيّ رحمه الله ص 9، و"السلسلة الضعيفة" له 4/ 97.
حدّ فيه عند السلطان وغيره، وله قبول الشفاعة فيه، والعفو عنه إذا رأى ذلك كله، كما له العفو عن ذلك ابتداءً، وهذا فيمن كانت منه الزلّة والفلتة، وفي أهل الستر والعفاف، وأما المصرّون على فسادهم، المستهترون في باطلهم، فلا تجوز الشفاعة لأمثالهم، ولا تَرْك السلطان عقوبتهم؛ ليزدجروا عن ذلك، وليَرْتدع غيرهم بما يُفعل بهم، وقد جاء الوعيد بالشفاعة في الحدود. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "وقد جاء الوعيد إلخ" أشار به إلى ما أخرجه أحمد، وأبو داود وغيرهما بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"من حالت شفاعته دون حدّ من حدود الله، فقد ضادّ الله في أمره، ومن مات وعليه دَين فليس ثَمَّ دينار ولا درهم، ولكنها الحسنات والسيئات، ومن خاصم في باطل، وهو يعلم لم يزل في سَخَط الله حتى يَنْزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، حُبسَ في ردغة الخَبَال، حتى يأتي بالمخرج مما قال"، والله تعالى أعلم.
(45) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ، وَمُجَانبَةِ قُرَنَاءِ السَّوْءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6669]
(2628) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ الله، عَنْ جَدِّه، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ
(2)
السَّوْء، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِير، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً").
(1)
"المفهم" 6/ 632 - 633.
(2)
وفي نسخة: "وجليس السوء".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) أبو كريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل، وفيه محمد بن العلاء أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم المجموعون في قولي:
تَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ ويعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيادٌ يُحْتَذَى
وفيه رواية الراوي عن جدّه، عن أبيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ عبد الله بن قيس رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ) على وزن فَعِيل: هو الذي يجالِسُ الرجل، يقال: جالسته، فهو جَلِيسي، وجِلْسي -بكسر، فسكون-
(1)
؛ أي: المُجالِس (الصَّالِح، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ) وفي بعض النسخ: "وجليس السوء" بالإضافة، من إضافة الموصوف إلى صفته، و"السّوء" بفتح السين، وضمّها.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما مثل جليس الصالح، وجليس السوء" كذا وقع في بعض النُّسخ، وهو من باب إضافة الشيء إلى صفته، ووقع في بعضها:"الجليس الصالح، والجليس السوء"، وهو الأفصح، والأحسن، ثم
(1)
"عمدة القاري" 17/ 367.
قال بعد هذا: "كحامل المسك، ونافخ الكير" هذا نحوٌ مما يسمّيه أهل الأدب لفّ الخبرين، وهو نحو قول امرئ القيس [من الطويل]:
كَأَنَّ رُؤُوسَ الطَّيْرِ رَطْبًا وَيَابِسًا
…
لَدَى وَكْرِهَا الْعُنَّابُ وَالْحَشَفُ الْبَالِي
فكأنه قال: قلوب الطير رطبًا العُنّابُ، ويابسًا الْحَشَف، ومقصود هذا التمثيل الحضّ على صحبة العلماء، والفضلاء، وأهل الدين، وهو الذي يزيدك نُطْقه علمًا، وفِعْله أدبًا، ونَظَره خشية، والزجر عن مخالطة من هو على نقيض ذلك. انتهى
(1)
.
[فائدة]: ذكر في "القاموس"، و"شرحه" فائدة نفيسة في ضبط "السَّوء" بالفتح، و"السُّوء" بالضمِّ، أحببت إيرادها هنا؛ لنفاستها، قال: سَاءه يَسوءهُ سُوءًا، بالضَّمّ، وسَوْءًا بالفتح، وسَوَاءً، كسحاب، وسَوَاءةً، كسحابةٍ، وسَوَايَةً، كعَبَايةٍ، وسَوَائِيَةً، كعَلانِيَةٍ، ومَسَاءةً، ومَسَائِيَةً مقلوبًا، وأَصله مَسَاوِئَة، كرِهوا الواو مع الهمزة؛ لأنَّهما حرفان مُسْتَثْقلان، وسُؤْتُ الرجلَ سَوَايَةً، ومَسَايَةً يُخفَّفان، ومَساءً، ومَسَائِيَّةً: فَعَلَ به ما يكرَهُ، نقيض سرَّهُ، فاسْتاءَ هو في الصنيع، ويقال: سَاءَ ما فعل فلانٌ صَنيعًا يَسوءُ؛ أي: قَبُحَ صَنيعًا، وفي "تفسير الغريب" لابن قتيبة قوله تعالى:{وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]؛ أي: قَبُحَ هذا الفعلُ فِعْلًا وطريقًا، كما تقول: سَاءَ هذا مذهبًا، وهو منصوب على التمييز، كما قال:{وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، والسُّوءُ بالضَّمِّ: الاسمُ منه، وقوله عز وجل:{وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] قيل: معناه: ما بي من جُنونٍ؛ لأنَّهم نسبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الجُنون، والسُّوءُ أيضًا بمعنى الفُجور، والمُنكر، ويقال: لا خيرَ في قولِ السَّوءِ بالفتح والضمّ، إِذا فتحتَ السين فمعناه: لا خَيْرَ في قولٍ قَبيح، وإذا ضممتَ السِّين فمعناه: لا خَيْرَ في أن تقولَ سُوءًا؛ أي: لا تقل سُوءًا، وقرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] بالوجهين: الفتح، والضم، قال الفرَّاء: هو مثل قولك: رجلُ السَّوْء، والسَّوْءُ بالفتح في القراءة أَكثرُ، وقلَّما تقولُ العربُ: دائرة السُّوءِ بالضَّمّ، وقال الزجَّاج في قوله تعالى:{الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] كانوا ظنُّوا أَنْ
(1)
"المفهم" 6/ 633 - 634.
لن يعودَ الرسولُ والمؤمنون إلى أَهليهم، فجعلَ اللهُ دائرة السَّوْءِ عليهم، قال: ومن قرأَ: ظنَّ السُّوءِ فهو جائزٌ، قال: ولا أعلم أَحدًا قرأَ بها، إِلَّا أَنَّها قد رُوِيتْ، قال الأَزهريُّ: قولُه: لا أَعلم أحدًا إلى آخره وَهَمٌ، قرأَ ابنُ كثيرٍ، وأَبو عمرٍو: دائرةُ السّوءِ بضم السِّين ممدودًا في "سورة بَراءة"، و"سورة الفتح"، وقرأَ سائرُ القُرَّاء: السَّوْءِ بفتح السين في السُّورتين، قال: وتعجَّبتُ أَنَّ يذهَبَ على مِثْلِ الزجَّاج قِراءةُ القارِئَيْنِ الجليلين: ابنِ كثيبر، وأبي عمرٍو، وقال أَبو منصور: أَمَّا قوله: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12] فلم يُقرأْ إِلَّا بالفتح، قال: ولا يجوز فيه ضمّ السين، وقد قرأَ ابنُ كثير وأبو عمرو:{دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] بضم السِّين ممدودًا في السُّورتين، وقرأَ سائر القُرَّاء بالفتح فيهما، وقال الفرَّاء في "سورة براءة" في قوله تعالى:{وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98] قال: قراءة القُرَّاءِ بنصب السَّوْء، وأَراد بالسَّوْء المصدَرَ، ومن رفع السِّين جَعَله اسمًا، قال: ولا يجوز ضمُّ السِّين في قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم: 28]، ولا في قوله:{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12]؛ لأنَّه ضدٌّ لقولهم: هذا رجلُ صدقٍ، وثوبُ صدقٍ، وليس للسَّوْءِ هنا معنًى في بلاءٍ، ولا عذابٍ، فيُضَمّ، وقرئ قوله تعالى:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [التوبة: 98]؛ أي: الهزيمَة، والشَّرّ، والبلاء، والعذاب، والرَّدى، والفَساد، وكذا في قوله تعالى:{أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] بالوجهين، أَو أَنَّ المضموم هو الضَّرَرُ، وسوءُ الحال، والسَّوْءُ المفتوح من المَسَاءة، مثل الفَساد، والرَّدى، والنَّار، ومنه قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]، قيل: هي جهنم أَعاذنا الله منها في قراءؤ؛ أي: عند بعض القُرَّاء، والمشهور: السُّوأَى، ورجلٌ سَوْءٍ بالفتح؛ أَي: يعملُ عملَ سَوْءٍ، وإذا عرَّفته وصفتَ به، تقول: هذا رجلُ سَوْءٍ بالإضافة، وتُدخل عليه الألف واللام، فتقول: هذا رجلُ السَّوْء، قال الفرزدق [من الطويل]:
وكنتَ كذِئْبِ السَّوْءِ لمَّا رأَى دَمًا
…
بصاحِبِهِ يومًا أَحالَ على الدَّمِ
بالفتح، والإضافة، لفٌّ ونشرٌ مرتَّب، قال الأَخفش: ولا يقال: الرَّجلُ السَّوْءُ، ويقال: الحقّ اليَقينُ، وحق اليقين جميعًا؛ لأَنَّ السَّوْءَ ليس بالرَّجل، واليقينُ هو الحقُّ، قال: ولا يقال: هذا رجلُ السُّوءِ بالضَّمّ، قال ابن بَرِّيّ:
وقد أَجاز الأَخفشُ أن يُقال: رجلُ السَّوْء، ورجلُ سَوْءٍ، بفتح السين فيهما، ولم يُجز: رجلُ السُّوء، بضم السِّين؛ لأَنَّ السُّوءَ اسمٌ للضُّرّ، وسوءِ الحال، وإِنَّما يُضاف إلى المصدر الذي هو فِعله، كما يقال: رجلُ الضَّرب، والطَّعن، فيقومُ مقامَ قولك: رجلٌ ضرَّابٌ، وطغانٌ، فلهذا جاز أَنَّ يقال: رجَلُ السَّوْء، بالفتح، ولم يَجُزْ أَنَّ يقال: هذا رجلُ السُّوء، بالفحمّ، وتقول في النَّكرة: رجلُ سَوْءٍ، وإذا عرَّفت قلت: هذا الرجلُ السَّوْءُ، ولم تُضِف، وتقول: هذا عملُ سَوْءٍ، ولا تقل: السَّوْءِ؛ لأنَّ السَّوْءَ يكون نعتًا للرجل، ولا يكون السَّوْءُ نعتًا للعمل؛ لأنَّ الفعل من الرجل، وليس الفعل من السَّوْء، كما تقول: قوْلُ صدقٍ، والقولُ الصِّدقُ، ورجلُ صدق، ولا تقول: رجلُ الصِّدق؛ لأنَّ الرجل ليس من الصِّدقِ. انتهى
(1)
.
(كحَامِلِ الْمِسْكِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: "المِسْكُ": طِيْب معروف، وهو مُعَرَّب، والعرب تسميه المشموم، وهو عندهم أفضل الطيب، ولهذا ورد:"لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ الله أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ المِسْكِ"
(2)
؛ ترغيبًا في إبقاء أثر الصوم، قال الفراء: المِسْكُ مُذكَّر، وقال غيره: يُذكَّر، ويؤنَّث، فيقال: هو المِسْكُ، وهي المِسْكُ، وأنشد أبو عبيدة على التأنيث قول الشاعر [من الرجز]:
وَالمِسْكُ وَالعَنْبَرُ خَيْرُ طِيبٍ
…
أُخِذَتَا بِالثَّمَنِ الرَّغِيبِ
وقال السجستانيّ: من أنَّث المِسْكَ جعله جمعًا، فيكون تأنيثه بمنزلة تأنيث الذهب، والعسل، قال: وواحدته مِسْكَةٌ، مثل ذهب وذهبة، قال ابن السِّكِّيت: وأصله مِسِكٌ بكسرتين، قال رؤبة:
إِنْ تُشْفَ نَفْسِي مِنْ ذُبَابَاتِ الحَسَكِ
…
أَحْرِ بِهَا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ المِسِكْ
وهكذا رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ، وقال ابن الأنباريّ: قال السجستانيّ: أصله السكون، والكسر في البيت اضطرار؛ لإقامة الوزن، وكان الأصمعيّ يُنشد البيت بفتح السين، ويقول: هو جمع مِسْكَةٍ، مثلُ خِرْقة وخِرَق، وقِرْبة وقِرَب، ويؤيد قول السجستانيّ أنه لا يوجد فِعِلٌ بكسرتين، إلا إبل، وما ذُكر معه، فتكون الكسرة لإقامة الوزن، كما قال [من الرجز]:
(1)
"تاج العروس من جواهر القاموس" ص 139 - 140.
(2)
متّفقٌ عليه.
عَلَّمَنَا إِخْوَانُنَا بَنُو عِجِلْ
…
شُرْبَ النَّبِيذِ وَاعْتِقَالًا بِالرِّجِلْ
والأصل هنا السكون باتفاق، أو تكون الكسرة حركة الكاف نُقلت إلى السين؛ لأجل الوقف، وذلك سائغ. انتهى
(1)
.
(وَنَافِخِ الْكِيرِ) بكسر الكاف، أصله البناء الذي عليه الزّقّ، سُمّي به الزّقّ مجازًا للمجاورة
(2)
، وقال المجد رحمه الله:"الكير" بكسر الكاف: زِقّ يَنفُخ فيه الحدّاد، وأما المبنيّ من الطين فكُور، جَمْعه أَكْيارٌ، وكِيَرَة، كعِنَبَةٍ، وكِيران. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وكير الحداد" بكسر الكاف، بعدها تحتانية ساكنة، معروف، قال: وحقيقته البناء الذي يُرَكَّب عليه الزِّقّ، والزِّقّ هو الذي يُنفخ فيه، فأُطلق على الزق اسم الكير مجازًا؛ لمجاورته له، وقيل: الكير هو الزقّ نفسه، وأما البناء فاسمه الكُور. انتهى.
(فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإحذاء، كالإعطاء وزنًا ومعنًى، وقال في "العمدة":"يحذيك" بضم الياء، وسكون الحاء، وكسر الذال المعجمة، كيُعطيك وزنًا ومعنًى، من الإحذاء، وهو الإعطاء، يقال: أحذيت الرجلَ: إذا أعطيته الشيءَ، وأتحفته به. انتهى
(4)
.
وقال الجوهريّ: أَحْذَيْتُهُ نعلًا: إذا أعطيتَه نعلًا، تقول منه: استحذيتُهُ، فأَحْذاني، وأَحْذَيْتُهُ من الغنيمة: إذا أعطيتَه منها، والاسم: الْحُذْيَا على فُعلى بالضمّ، وهي القِسمة من الغنيمة. انتهى
(5)
.
(وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ)؛ أي: تشتري (مِنْهُ) من صاحب المسك، (وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا) بكسر الراء، مؤنّث، ولذا أنَّث وصفه، فقال:(طَيِّبَةً) قال الفيّوميّ رحمه الله: الرِّيحُ بمعنى الرائحة: عَرَضٌ يُدرَك بحاسّة الشمّ، مؤنثة، يقال: رِيحٌ ذَكِيّة، وقال الجوهريّ: يقال: رِيحٌ، ورِيحَةٌ، كما يقال: دارٌ، ودَارَةٌ، ورَاحَ زيدٌ الريحَ يَرَاحُهَا رَوْحًا، من باب خاف: اشتَمَّها، ورَاحَهَا ريحًا، من
(1)
"المصباح المنير" 2/ 573.
(2)
"فيض القدير" 5/ 506.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1158.
(4)
"عمدة القاري" 21/ 135.
(5)
"الصحاح في اللغة" ص 218.
باب سار، وأَرَاحَهَا بالألف كذلك، وفي الحديث:"لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ"
(1)
مرويّ باللغات الثلاث. انتهى.
وفي رواية البخاريّ من طريق عبد الواحد عن بريد بن عبد الله: "إما تشتريه، أو تجد ريحه"، قال في "الفتح": ورواية عبد الواحد أرجح؛ لأن الإحذاء، وهو الإعطاء لا يتعيّن، بخلاف الرائحة، فإنها لازمة، سواءٌ وُجد البيع، أو لم يوجد. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: المعنى: أنك إن لم تظفر منه بحاجتك جميعها، لم تَعْدَم واحدة منها، إما الإعطاء، وإما الشراء، وإما الاقتباس للرائحة. انتهى.
(وَنَافِخُ الْكِير، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ) بضمّ حرف المضارعة، من الإحراق؛ أي: يُحرق ثيابك بما تطاير من شرار الكير، وفي رواية البخاريّ المذكورة:"وكير الحدّاد يُحرق بيتك، أو ثوبك"، (وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً") قال المناويّ رحمه الله: المقصود منه: النهي عن مجالسة من تؤذي مجالسته في دِين، أو دنيا، والترغيب في مجالسة من تنفع مجالسته فيهما، وفيه إيذان بطهارة المسك، وحلّ بيعه، وضَرْب المثل، والعمل في الحُكم بالأشباه والنظائر، وأنشد بعضهم [من الطويل]:
تَجَنَّبْ قَرِين السُّوءِ وَاصْرِمْ حِبَالَهُ
…
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مِنْهُ مَحِيصًا فَدَارِهِ
وَلَازِمْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاتْرُكْ مِرَاءَهُ
…
تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لَمْ تُمَارِهِ
وَمَنْ يَزْرَعِ الْمَعْرُوفَ مَعْ غَيْرِ أَهْلِهِ
…
يَجِدْهُ وَرَاءَ الْبَحْرِ أَو فِي قَرَارِهِ
وَللهِ فِي عَرْضِ السَّمَوَاتِ جَنَّةٌ
…
وَلَكِنَّهَا مَحْفُوفَةٌ بِالْمَكَارِهِ
(3)
والله تعالى أعلم.
(1)
أشار به إلى ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسًا معاهدًا، لم يَرَح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا".
(2)
"الفتح" 5/ 557، كتاب "البيوع" رقم (2101).
(3)
"فيض القدير" 5/ 507.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [45/ 6669](2628)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2151) و"الذبائح"(5534)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(515)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 404 و 405 و 408)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 353 و 293)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(561 و 579)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1380)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 318)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 26) وفي "شُعب الإيمان"(7/ 54) وفي "الأربعين الصغرى"(1/ 36)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3483)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): النهي عن مجالسة من يُتأذى بمجالسته في الدين والدنيا، والترغيب في مجالسة من يُنتفع بمجالسته فيهما، قال النوويّ رحمه الله: فيه فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير، والمروءة، ومكارم الأخلاق، والورع، والعلم، والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشرّ، وأهل البدع، ومن يغتاب الناس، أو يكثر فجوره، وبطالته، ونحو ذلك من الأنواع المذمومة. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): جواز بيع المسك، والحكم بطهارته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مدحه، ورَغَّب فيه، ففيه الردّ على من كرهه، وهو منقول عن الحسن البصريّ، وعطاء، وغيرهما، ثم انقرض هذا الخلاف، واستقرّ الإجماع على طهارة المسك
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: تطابقت الأخبار، واستفاضت على أن المسك يجتمع في غدّة حيوان هو الغزال، أو يُشْبهه، فيتعفّن في تلك الغدّة حتى تيبس، وتسقط، فتؤخذ تلك الغدّة كالجليدات المحشوّة، وتلك الجلدة هي المسمّاة بفأرة المسك، والجمهور من علماء السلف والخلف على طهارة المسك، وفأرته، وعلى ذلك يدلّ استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له، وثناؤه عليه، وإجازة بيعه، كما دلّ عليه هذا الحديث، ومن المعلوم بالعادة المستمرّة بين العرب والعجم
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 178.
(2)
"الفتح" 4/ 324.
استعماله، واستطابة ريحه، واستحسانه في الجاهليّة والإسلام؛ لا يستقذره أحد من العقلاء، ولا ينهى عن استعماله أحد من العلماء، حتى قال القاضي أبو الفضل: نقل بعض أئمّتنا الإجماع على طهارته، غير أنه قد ذُكر عن العُمَرَين كراهيته، ولا يصحّ ذلك، فإن عمر رضي الله عنه قد قَسَم ما غُنم منه بالمدينة، وقال أبو عبد الله المازريّ: وقال قوم بنجاسته، ولم يعيّنهم، والصحيح القول بطهارته، وإن لم يكن مجمَعًا عليه؛ للأحاديث الصحيحة الدّالة على ذلك؛ إذ قد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يستعمله، حتى إنه كان يخرج، ووبيص المسك في مفرقه، كما قالت عائشة رضي الله عنها، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:"أطيب الطيب المسك"، وغير ذلك، وقد قلنا: إن أهل الأعصار الكريمة مُطْبِقُون على استطابته، واستعماله.
فإن قيل: كيف لا يكون نجسًا، وقد قلتم: إنه دم، والدم نجش في أصله بالإجماع
(1)
، وإنما يعفى عن اليسير منه، لتعذّر التحرّز منه، على ما هو مُفَصَّل في الفقه؟.
فالجواب: إنَّا، وإن سلَّمنا أن أصل المسك الدم نجس، فلا نسلّم أنه بقي على أصل الدموية، فإنَّ الدم إذا تعفن تغيّر لونه، ورائحته إلى ما يستقذر، ويستخبث، فاستحال إلى فساد، وليس كذلك المسك، فإنَّه قد استحال إلى صلاح، يُستطاب، ويُستحسن، ويفضّل على أنواع كل الطيب، وهذا كاستحالة الدم لبنًا وبَيْضًا. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): جواز الاحتراف بالحدادة.
4 -
(ومنها): مشروعيّة ضرب الْمَثَل، والعمل في الحُكم بالأشباه والنظائر، قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث: في هذا الخبر دليلٌ على إباحة المقايسات في الدين. انتهى
(3)
.
5 -
(ومنها): مدح المسك المستلزم لطهارته، ومدح الصحابة، حيث كان جليسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيل: ليس للصحابي فضيلة أفضل من فضيلة
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: دعواه الإجماع على نجاسة الدم فيه نظر لا يخفى، وقد تقدّم البحث فيه في "كتاب الطهارة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(2)
"المفهم" 6/ 634 - 635.
(3)
"صحيح ابن حبّان" 2/ 321.
الصحبة، ولهذا سُمُّوا بالصحابة، مع أنهم علماء، كرماء، شجعاء
…
إلى تمام فضائلهم.
6 -
(ومنها): بيان فضيلة صحبة الأخيار، قال بعضهم: في الحديث إرشاد إلى الأمر بمجالسة من تنتفع بمجالسته في دينك، من علم تستفيده، أو عمل يكون فيه، وأحسن خُلُق يكون فيه، وأحسن خُلُق يكون عليه، فإن الإنسان إذا جالس من تُذكِّره مجالسته الآخرة، فلا بد أن ينال منه بقَدْر ما يوفقه الله بذلك.
وقال المناويّ رحمه الله: في الحديث بيان النهي عن مجالسته من يتأذى به دينًا أو دنيا، والترغيب فيمن يُنتفع بمجالسته فيهما، قال الراغب: نَبَّه بهذا الحديث على أن حقّ الإنسان أن يتحرى بغاية جهده مصاحبة الأخيار، ومجالستهم، فهي قد تجعل الشِّرِّير خَيِّرًا، كما أن صحبة الأشرار قد تجعل الخير شِرِّيرًا، قال الحكماء: من صَحَب خيّرًا أصاب بركته، فجليس أولياء الله لا يشقى، وإن كان كلبًا، ككلب أهل الكهف، ولهذا أوصت الحكماء الأحداث بالبعد عن مجالسة السفهاء، قال عليّ رضي الله عنه: لا تصحب الفاجر، فإنه يُزَيّن لك فعلَه، وَيوَدُّ لو أنك مثله، وقالوا: إياك ومجالسةَ الأشرار، فإن طبعك يَسرِق منهم، وأنت لا تدري، وليس إِعْداء الجليس جليسه بمقاله وفعاله فقط، بل بالنظر إليه، والنظرُ في الصور يورث في النفوس أخلاقًا مناسبة لِخُلُق المنظور إليه، فإن من دامت رؤيته للمسرور سُرَّ، وللمحزون حَزِن، وليس ذلك في الإنسان فقط، بل في الحيوان والنبات، فالجمل الصعب يصير ذَلُولًا بمقاربة الجمل الذلول، والذلول قد ينقلب صعبًا بمقارنة الصعاب، والريحانة الغضّة تَذبُل بمجاورة الذابلة، ولهذا يَلتقط أهل الفِلاحة الرِّمَم عن الزرع؛ لئلا تُفسدها، ومن المشاهَد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية التي موضعها لقبول صور الأشياء خيرِها وشرِّها؟ فقد قيل: سُمِّي الإنس؛ لأنه يَأنَس بما يراه خيرًا، أو شرًّا. انتهى
(1)
.
وقال القاري رحمه الله في شرح الحديث ما حاصله: المعنى: فعليك بمحبة
(1)
"فيض القدير" 5/ 507.
الصالح، ومصاحبته، وإياك ومودة السَّوْء، ومرافقته، قيل: فيه إرشاد إلى الرغبة في صحبة الصلحاء، والعلماء، ومجالستهم، فإنها تنفع في الدنيا والآخرة، وإلى الاجتناب عن صحبة الأشرار، والفساق، فإنها تضرّ دينًا ودنيا، قيل: مصاحبة الأخيار تورث الخير، ومصاحبة الأشرار تورث الشرّ، كالريح إذا هبّت على الطيب عَبَقت طيبًا، وإن مرت على النتن حملت نتنًا، وقيل: إذا جالست الحمقى عَلِق بك من حماقتهم ما لا يَعْلَق بك من العقل؛ إذا جالست العقلاء؛ لأن الفساد أسرع إلى الناس، وأشد اقتحامًا في الطبائع.
والحاصل: أن الصحبة تؤثّر، ولذا قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 119]، وقال بعض العارفين: كونوا مع الله، فإن لم تقدروا أن تكونوا مع الله، فكونوا مع من يكون مع الله. انتهى
(1)
.
ولله درّ من قال [من الرجز]:
وَصُحْبَةُ الأَخْيَارِ لِلْقَلْبِ دَوَا
…
يَزِيدُ فِي الْقَلْبِ نَشَاطًا وَقُوَى
وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ لِلْقَلْبِ عَمَى
…
يَزِيدُ فِي الْقَلْبِ السَّقِيمِ سَقَمَا
ومن قال [من الطويل]:
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ
…
فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارِنِ يَقْتَدِي
فَإِنْ كَانَ ذَا شَرٍّ فَجَنِّبْهُ سُرْعَةً
…
وَإِنْ كَانَ ذَا خَيْرٍ فَقَارِنْهُ تَهْتَدِي
إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ
…
وَلَا تَصْحَبِ الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدِي
(2)
ومن قال [من الكامل]:
لَا تَصْحَبِ الْكَسْلَانَ فِي حَالَاتِهِ
…
كَمْ صَالِحٍ بِفَسَادِ آخَرَ يَفْسُدُ
عَدْوَى الْبَلِيدِ إِلَى الْجَلِيدِ سَرِيعَةٌ
…
كَالْجَمْرِ يُوضَعُ فِي الرَّمَادِ فَتَخْمُدُ
(3)
والله تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 306.
(2)
"كشف الخفاء" 2/ 263.
(3)
من باب نصر، وسَمِع.
(46) - (بَابُ فَضْلِ الإِحْسَانِ إِلَى الْبَنَاتِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6670]
(2629) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ -وَاللَّفْظُ لَهُمَا- قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَني عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ؛ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: جَاءَتْني امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا، فَسَأَلَتْنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا، غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنتَيْهَا، وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ، فَخَرَجَتْ، وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُهْزَاذَ) -بضم القاف، وسكون الهاء، ثم زاي - المروزيّ، ثقةٌ [11](ت 262)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
2 -
(سَلَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ) المروزيّ، أبو سليمان، ويقال: أبو أيوب المؤدِّب، ثقةٌ حافظٌ، كان يُوَرِّق لابن المبارك، من كبار [10](ت 203)(خ م س) تقدم في "الصلاة" 9/ 869.
3 -
(عَبْدُ اللهِ) بن المبارك بن واضح المروزي الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ)
(1)
السمرقنديّ الحافظ المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
بفتح الباء، وكسرها. اهـ. نوويّ.
6 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الضغاني، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
7 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الحمصيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الحمصيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
9 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
10 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) هو: عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ المدنيّ القاضي، ثقة [5](ت 135) وهو ابن سبعين سنةً (ع) تقدم في "الصلاة" 17/ 916.
والباقيان تقدّما قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من ثمانيّات المصنّف بالنسبة للسند الأول، ومن سباعيّاته بالنسبة للثاني، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عروة، وهو من الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها، من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)؛ أي: ابن محمد بن عمرو بن حزم، وفي رواية للبخاريّ من رواية ابن المبارك عن معمر؛ عبد الله بن أبي بكر بن حزم، فنَسب أباه لجدّ أبيه، قال الحافظ: وإدخال الزهري بينه وبين عروة رجلًا مما يُؤذِن بأنه قليل التدليس، وقد أخرجه الترمذيّ مختصرًا من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رَوّاد عن معمر، بإسقاط عبد الله بن أبي بكر من السند، فإن كان محفوظًا احتَمَل أن يكون الزهريّ سمعه من عروة مختصرًا. انتهى
(1)
.
(أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على أسمائهنّ، وسقطت
(1)
"الفتح" 13/ 536، كتاب "الأدب" رقم (5995).
الواو لغير أبي ذرّ من قوله: "ومعها"، وكذا هو في رواية ابن المبارك. انتهى
(1)
.
(فَسَأَلتْنِي) شيئًا من الطعام (فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا، غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، وَلَمْ تَهلْ مِنْهَا)؛ أي: من تلك التمرة (شَيْئًا) هكذا في رواية عروة، ووقع في رواية عِراك بن مالك، عن عائشة الآتية:"جاءتني مسكينة، تَحْمِل ابنتين لها، فأطعمتها ثلاث تمرات، فاعطت كل واحدة منهنّ تمرةً، ورفعت تمرة إلى فيها لتأكلها، فاستطعمتها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها، فأعجبني شأنها. . ." الحديث، وللطبرانيّ من حديث الحسن بن عليّ نحوه.
ويمكن الجمع بأن مرادها بقولها في حديث عروة: "فلم تجد عندي غير تمرة واحدة"؛ أي: أخصّها بها، ويَحْتَمِل أنها لم يكن عندها في أول الحال سوى واحدة، فأعطتها، ثم وجدت ثنتين، ويَحْتَمِل تعدد القصة، قاله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: احتمال تعدّد القصّة هو الأقرب عندي، والله تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَامَتْ، فَخَرَجَتْ)، وقوله:(وَابْنَتَاهَا) مرفوع بالعطف على الضمير المستتر في "خرجت"، وفيه العطف على الضمير المستتر بلا فاصل، وهو قليل، قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَو فَاصِلٍ ما وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ
(فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا)؛ أي: قصّتها التي جرت مع ابنتيها في تلك التمرة، وفي الرواية التالية:"فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية الطيالسيّ في "مسنده":"قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله الوالدة، ورحمتها، وأخبرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ابتلي بشيء منهنّ، فأحسن صحبتهنّ، كنّ له سترًا من النار". (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ابْتُلِيَ) بالبناء
(1)
"الفتح" 13/ 536.
(2)
"الفتح" 13/ 536 - 537.
للمفعول، من الابتلاء، وقوله:(مِنَ الْبَنَاتِ) بيان مقدّم لقوله: (بِشَيْءٍ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يفيد بحكم عمومه أن السِّتر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدة من البنات، فأمَّا إذا عال زيادة على الواحدة، فيحصل له زيادة على السِّتر من النار السَّبْق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجنة، كما جاء في الحديث الآخر، وهو قوله:"من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو" -وضمّ أصابعه-
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "من يلي من هذه البنات شيئًا"، قال في "الفتح": قوله: "من يلي من هذه البنات شيئًا" كذا للأكثر بتحتانية مفتوحة أوله، من الولاية، وللكشميهنيّ بموحدة مضمومة، من البلاء، وفي رواية الكشميهنيّ أيضًا:"بشيء"، وقوّاه عياض، وأيّده برواية شعيب بلفظ:"من ابتلي"، وكذا وقع في رواية معمر عند الترمذيّ.
واختُلف في المراد بالابتلاء، هل هو نفس وجودهنّ، أو ابتُلي بما يصدر منهنّ؛ وكذلك هل هو على العموم في البنات، أو المراد من اتَّصَفَ منهنّ بالحاجة إلى ما يُفعَل به؟ انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذَكَر الاحتمالات في "الفتح"، ولم يرجّح شيئًا، والذي يظهر لي أن المراد: الابتلاء بما يصدر منهن، من القيام بتربيتهنّ، ثم تزويجهنّ، ثم ما يحصل لهنّ من مشكلات الحياة، والله تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: إنما سمّاه ابتلاءً؛ لأن الناس يكرهونهنّ في العادة، قال الله تعالى:{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)} [النحل: 58]
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من ابتلي بشيء من البنات إلخ": "ابتُلي": امتُحِن، واختُبِر. (فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ) قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: صانهنّ، وقام بما يُصلحهن، ونَظَر في أصلح الأحوال لهنّ، فمن فعل ذلك، وقَصَد به وجه الله تعالى، عافاه الله تعالى من النار، وباعده منها، وهو المعبَّر عنه بالسِّتر من النار، ولا شكّ في أن من لم يدخل النار دخل الجنة، وقد دلّ على ذلك قوله
(1)
"المفهم" 6/ 636.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 179.
في الرواية الأخرى في المرأة التي قسمت التمرة بين بنتيها: "إن الله قد أوجب لها الجنة، وأعاذها من النار". انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فأحسن إليهنّ" هذا يُشعر بأن المراد بقوله في أول الحديث: "مِنْ هذه" أكثر من واحدة، وقد وقع في حديث أنس الآتي في الباب:"من عال جاريتين"، ولأحمد من حديث أم سلمة:"من أنفق على ابنتين، أو أختين، أو ذاتَي قرابة، يحتسب عليهما"، والذي يقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان، وفي رواية عبد المجيد:"فصبر عليهنّ"، ومثله في حديث عقبة بن عامر في "الأدب المفرد"، وكذا وقع في ابن ماجه، وزاد:"وأطعمهنّ، وسقاهنّ، وكساهنّ"، وفي حديث ابن عباس، عند الطبرانيّ:"فأنفق عليهنّ، وزوّجهنّ، وأحسن أدبهنّ"، وفي حديث جابر، عند أحمد، وفي "الأدب المفرد":"يؤويهنّ، ولرحمهنّ، ويكفلهنّ"، زاد الطبريّ فيه:"ويزوجهنّ"، وله نحوه من حديث أبي هريرة في "الأوسط"، وللترمذيّ، وفي "الأدب المفرد" من حديث أبي سعيد:"فأحسن صحبتهنّ، واتقى الله فيهنّ"، وهذه الأوصاف يجمعها لفظ الإحسان الذي اقتصر عليه في حديث الباب.
وقد اختُلِف في المراد بالإحسان: هل يُقتصر به على قدر الواجب، أو بما زاد عليه؛ والظاهر الثاني، فإن عائشة رضي الله عنها أعطت المرأة التمرة، فآثرت بها ابنتيها، فوصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإحسان بما أشار إليه من الحكم المذكور، فدلّ على أن من فعل معروفًا لم يكن واجبًا عليه، أو زاد على قَدْر الواجب عليه عُدّ محسنًا، والذي يقتصر على الواجب، وإن كان يوصف بكونه محسنًا، لكن المراد من الوصف المذكور قَدْر زائد، وشَرْط الإحسان أن يوافق الشرع، لا ما خالفه، والظاهر أن الثواب المذكور إنما يحصل لفاعله؛ إذا استمر إلى أن يحصل استغناؤهنّ عنه بزوج أو غيره، كما أشير إليه في بعض ألفاظ الحديث، والإحسان إلى كل أحد بحسب حاله.
وقد جاء أن الثواب المذكور يحصل لمن أحسن لواحدة فقط، ففي حديث ابن عباس المتقدم: "فقال رجل من الأعراب: أو اثنتين؟ فقال: أو
(1)
"المفهم" 6/ 636.
اثنتين"، وفي حديث عوف بن مالك، عند الطبرانيّ: "فقالت امرأة"، وفي حديث جابر: "وقيل"، وفي حديث أبي هريرة: "قلنا"، وهذا يدلّ على تعدد السائلين، وزاد في حديث جابر: "فرأى بعض القوم أن لو قال: وواحدة؟ لقال: وواحدة"، وفي حديث أبي هريرة: "قلنا: وثنتين؟ قال: وثنتين، قلنا: وواحدة؟ قال: وواحدة"، وشاهده حديث ابن مسعود رفعه: "من كانت له ابنة، فأدَّبها، وأحسن أدَبها، وعلّمها، فأحسن تعليمها، وأوسع عليها من نِعَم الله التي أسبغ عليه، كانت له منعة وسترةً من النار"، أخرجه الطبراني بسند وَاهٍ
(1)
.
(كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ") كذا في أكثر الأحاديث التي تقدّمت الإشارة إليها، ووقع في رواية عبد المجيد:"حجابًا"، وهو بمعناه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 6670](2629)، و (البخاريّ) في "الزكاة"(1418) و"الأدب"(5995) وفي "الأدب المفرد"(1/ 59)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1913 و 1915)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 457)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 204)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 33 و 87 و 166 و 243)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 976 و 977)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 429)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2939)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 109)، و (تمام) في "الفوائد"(2/ 146)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 311)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 478) و"شُعب الإيمان "(6/ 404 و 7/ 467 و 468)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1681)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"المعجم الكبير" 10/ 197. وفيه طلحة بن زيد، وهو وضّاع، قاله الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 8/ 158.
1 -
(منها): بيان فضل الإحسان إلى البنات، والنفقة عليهنّ، والصبر عليهنّ، وعلى سائر أمورهنّ.
2 -
(ومنها): تأكيد حقّ البنات؛ لِمَا فيهنّ من الضعف غالبًا عن القيام بمصالح أنفسهنّ، بخلاف الذكور؛ لِمَا فيهم من قوة البدن، وجزالة الرأي، وإمكان التصرف في الأمور المحتاج إليها في أكثر الأحوال.
3 -
(ومنها): جواز سؤال المحتاج، ولا سيّما إذا كانت امرأة معها البنات.
4 -
(ومنها): سخاء عائشة رضي الله عنها؛ لكونها لم تجد إلا تمرة فآثرت بها.
5 -
(ومنها): أن القليل لا يمتنع التصدق به؛ لحقارته، بل ينبغي للمتصدق أن يتصدق بما تيسَّر له قَلّ أو كثر.
6 -
(ومنها): جواز ذِكر المعروف، إن لم يكن على وجه الفخر، ولا المنّة.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: إنما سمّاه ابتلاء؛ لأن الناس يكرهون البنات، فجاء الشرع بزجرهم عن ذلك، ورَغَّب في إبقائهنّ، وتَرْك قتلهنّ بما ذُكر من الثواب الموعود به مَنْ أحسن إليهنّ، وجاهد نفسه في الصبر عليهنّ، وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": يَحْتَمِل أن يكون معنى الابتلاء هنا: الاختبار؛ أي: من اختُبِر بشيء من البنات؛ ليُنظَر ما يفعل، أيُحسِن إليهنّ، أو يسيء؟ ولهذا قيّده في حديث أبي سعيد رضي الله عنه بالتقوى، فإن من لا يتقي الله لا يأمن أن يتضجر بمن وَكَله الله إليه، أو يُقصّر عما أُمر بفعله، أو لا يقصد بفعله امتثال أمر الله، وتحصيل ثوابه
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6671]
(2630) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا بَكْرٌ -يَعْنِي: ابْنَ مُضَرَ- عَنِ ابْنِ الْهَاد، أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَيَّاش، حَدَّثَهُ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيز، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي
(1)
"الفتح" 13/ 538.
مِسْكِينَةٌ، تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا
(1)
ابْنَتَاهَا، فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتى كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ، أوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(بَكْرُ بْنُ مُضَرَ) بن محمد بن حكيم المصريّ، أبو محمد، أو أبو عبد الملك، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174) وله نيف وسبعون سنةً (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.
3 -
(ابْنُ الْهَادِ) هو: يزيد بن عبد الله بن أُسامة بن الهاد الليثيّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ مكثرٌ [5](ت 137)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.
4 -
(زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى ابْنِ عَيَّاشٍ) هو ابن ميسرة المخزوميّ المدنيّ، مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة، قَدِمَ دمشق، ثقةٌ عابدٌ [5].
رَوَى عن مولاه، وأنس، وعِراك بن مالك، ومحمد بن كعب القرظيّ، وغيرهم.
وروى عنه عبد الله بن سعيد بن أبي هند، ومحمد بن إسحاق، ويزيد بن الهاد، ومالك، وموسى بن عقبة، وأسامة بن زيد الليثيّ، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان عابدًا زاهدًا، وقال مالك: كان عمر بن عبد العزيز يُكرمه، وقال أيضًا: كان رجلًا عابدًا، معتزلًا، لا يزال يكون وحده، وقال ابن عبد البرّ: كان أحد الفضلاء العبّاد الثقات، لم يكن في عصره أفضل منه، وذكر أبو القاسم الجوهريّ في سند "الموطأ" أنه تُوُفّي سنة خمس وثلاثين ومائة، قال: وكان من أفضل أهل زمانه، ويقال: إنه كان من الأبدال.
(1)
وفي نسخة: "فاستطعمها".
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الغِفَاريّ الكنانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات في خلافة يزيد بن عبد الملك بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
و"عائشة" رضي الله عنها ذُكرت قبله.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ الْهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، (أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ) اسمه ميسرة، (مَوْلَى) عبد الله (بْنِ عَيَّاشِ) بن أبي ربيعة المخزوميّ، (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث ابنَ الهاد، (عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الراء، قال زياد:(سَمِعْتُهُ)؛ أي: سمعت عراكًا (يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الأمويّ الخليفة الراشد المتوفّى سنة (101) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 46. (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ)؛ أي: فقيرة، قال الفيّوميّ: القياس حذف الهاء؛ لأن بناء مِفْعِيل، ومِفْعَال في المؤنث لا تلحقه الهاء، نحو: امرأةٍ مِعْطيرٍ، ومِكْسَالٍ، لكنها حُمِلت على فَقيرةٍ، فدخلت الهاء، والْمِسْكِينُ مأخوذ من سَكَنَ المتحرك سُكُونًا: ذهبت حركته؛ لسكونه إلى الناس، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد، وبكسرها عند غيرهم، قال ابن السِّكِّيت: الْمِسْكِينُ الذي لا شيء له، والْفَقِيرُ الذي له بُلْغَة من العيش، وكذلك قال يونس، وجعل الْفَقِيرَ أحسن حالًا من الْمِسْكِين، قال: وسألت أعرابيًّا: أفقير أنت؟ فقال: لا والله، بل مِسْكِينٌ، وقال الأصمعيّ: المِسْكِينُ أحسن حالًا من الْفَقِير، وهو الوجه؛ لأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79]، وكانت تساوي جملةً، وقال في حقّ الفقراء: {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273]، وقال ابن الأعرابيّ: الْمِسْكِينُ هو الفقير، وهو الذي لا شيء له، فجَعَلهما سواءً، والْمِسْكِينُ أيضًا الذليلُ المقهورُ، وإن كان غنيًّا، قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] انتهى
(1)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 283.
(تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا)؛ أي: أعطيتها طعامًا، (ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ) تقدّم في الرواية السابقة أن قالت:"فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها"، والأقرب في الجمع عندي: الحمل على تعدّد القصّة، والله تعالى أعلم.
(فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ) من ابنتيها، (مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا)"في" لغة في الفم، وهي من الأسماء الستّة التي تُرفع بالواو، وتُنصب بالألف، وتُجرّ بالياء. (تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا) وفي نسخة: "فاستطعمها" بحذف التاء، (ابْنَتَاهَا)؛ أي: سألتاها تلك التمرة، (فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا) هذا من شدّة رأفتها بابنتيها، ولذا وجب لها الجنّة، قالت عائشة رضي الله عنها:(فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا)؛ أي: حالها الذي جرى بينها وبين ابنتيها في تلك التمرة، وفي رواية ابن حبّان:"فأعجبني حَنَانها"، (فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا)؛ أي: للمرأة، (بِهَا)؛ أي: بسبب هذه الصنعة، وهي إيثارها ابنتيها على نفسها بتلك التمرة، (الْجَنَّةَ، أَو) للشكّ من الراوي، ولم يتبيّن لي من هو؟، شكّ هل قال:"قد أوجب لها بها الجنّة"، أو قال:(أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ") وفي رواية ابن حبّان: "إن الله قد أوجب لها الجنّة، وأعتقها بها من النار"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 6671](2630)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3668)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(448)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 244 و 6/ 278)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(7/ 468)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في انتقاد الحفّاظ على مسلم في هذا الحديث:
قال الحافظ أبو الحسين العطّار رحمه الله في "غرر الفوائد": وفي سماع عراك من عائشة رضي الله عنها نظر؛ فإنه إنما يروي عن عروة، عن عائشة، وقد ذكر الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل: أن حديثه عن عائشة مرسل، وقال موسى بن هارون
الحافظ: لا نعلم له سماعًا من عائشة، وقال أبو الفضل الحافظ حفيد أبي سعد الزاهد في كلامه على هذا الحديث: هذا عندنا حديث مرسلٌ، واستدَلّ بما ذكرناه من قول أحمد بن حنبل، وموسى بن هارون، ولم يُخرج البخاريّ لعراك عن عائشة شيئًا، وأخرج له ابن ماجه عنها حديثين، وحديثه عن رجل عنها لا يدلّ على عدم سماعه بالكلية منها، لا سيّما، وقد جمعهما بلد واحد، وعصر واحد، وهذا ومثله محمول على السماع عند مسلم، حتى يقوم الدليل على خلافه، كما نصّ عليه في مقدمة كتابه، فسماع عراك من عائشة رضي الله عنها جائز ممكن، وقد ثبت سماعه من أبي هريرة وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام الحافظ العطّار هذا قد تقدّم في مقدّمة شرح المقدّمة، وإنما أعدته؛ لطول العهد به.
وخلاصة الجواب عن مسلم: أن هذا الإسناد جارٍ على قاعدته المعروفة، وهي أنه إذا كان الراويان في عصر واحد، وأمكن لقاء أحدهما للآخر دون مانع حُملت عنعنته على السَّماع، إلا أن يتبيّن خلاف ذلك، قال الزيلعيّ رحمه الله في "نصب الراية": وقد ذكروا سماع عراك من أبي هريرة، ولم يُنكروه، وأبو هريرة تُوُفّي هو وعائشة في سنة واحدة، فلا يَبْعُد سماعه من عائشة، مع كونهما في بلدة واحدة، ولعل هذا هو الذي أوجب لمسلم أن أخرج في "صحيحه" هذا الحديث. انتهى
(2)
.
والحاصل: أن هذا الحديث قد تحقّق فيه شرط مسلم، فسماع عراك من عائشة رضي الله عنها جائز ممكن، فيُحمل عليه.
وقد أخرج الحديث ابن ماجه بسند آخر صحيح، فقال في "سننه":
(3668)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بشر، عن مسعر، أخبرني سعد بن إبراهيم، عن الحسن، عن صعصعة، عَمِّ الأحنف، قال: دخلت على عائشة امرأة، معها ابنتان لها، فأعطتها ثلاث تمرات، فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ثم صَدَعَت الباقية بينهما، قالت: فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحدَّثَته،
(1)
"غرر الفوائد" 1/ 255 - 257.
(2)
"نصب الراية" 2/ 107.
فقال: "ما عَجَبُك؟ لقد دخلت به الجنة". انتهى
(1)
.
قال البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح. انتهى، وهو كما قال، وصعصعة هو ابن معاوية التميميّ عمّ الأحنف بن قيس، له صحبة، وقيل: إنه مخضرم
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6672]
(2631) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَالَ جَارِيتَيْن، حَتَّى تَبْلُغَا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ"، وَضَمَّ أَصَابِعَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: ابن محمد بن بُكير البغدادي، نزيل أَذَنَةَ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) محمد بن عبد الله بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الْجَرْميّ، أبو رَوْح الراسبيّ الْجَرْميّ البصريّ، ويقال: إنهما اثنان، ثقةٌ [7].
رَوَى عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس، وقيل: عن أبي بكر بن عبيد الله، وسعد مولى أبي بكرة، وأبي الشعثاء جابر بن زيد.
وروى عنه حجاج بن أرطاة، ومات قبله، وابن المبارك، ووكيع، وأبو أحمد الزبيريّ، ومحمد بن عبيد، وأبو نعيم.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: محمد بن عبد العزيز الْجَرْميّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: الجرميّ لا أحسبه كان حافظًا، وذكر الخطيب في "الموضح" أن البخاري فرَّق بين الْجَرْميّ والراسبيّ، ثم ذكر محمد بن عبد العزيز الكوفيّ سمع من مغيرة بن مقسم، سمع منه شبابة، قال
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1210.
(2)
"تقريب التهذيب" ص 152.
الخطيب: الثلاثة واحد، يقال له: الراسبيّ، والجرميّ، والتيميّ، ويكنى أبا سعيد، وأبا رَوْح
(1)
.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ) الأنصاريّ، أبو معاذ البصريّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 267.
5 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) شرطيّة مبتدأ خبره "جاء إلخ". (عَالَ)؛ أي: قام عليهما بما يُصلحهما، ويحفظهما، يقال منه: عال الرجل عياله، يعولهم، من باب قال، عَوْلًا، وعِيَالةً؛ أي: كَفَلهم، وقام بهم، ويقال: عُلته شهرًا: إذا كفيته معاشه، قاله القرطبيّ.
وقال عياض في "المشارق": قوله: "من عال جاريتين" معناه: مَأَنَهُما، وقام بنفقتهما، وما يحتاجان إليه، وأصله من العَوْل، وهو القُوتُ، ومنه في الحديث الآخر:"وابدأ بمن تعول". انتهى
(2)
.
(جَارِيتَيْنِ) قال المناويّ رحمه الله؛ أي: مَن رَبَّى بنتين صغيرتين، وقام بمصالحهما، من نحو نفقة، وكسوة
(3)
. (حَتَّى تَبْلُغَا)؛ أي: حتى تصلا إلى حال يستقلّان بأنفسهما، وذلك إنما يكون في النساء إلى أن يدخل بهنّ أزواجهنّ، ولا يعني ببلوغها إلى أن تحيض، وتُكلّف؛ إذ قد تتزوّج قبل ذلك فتستغني بالزوج عن قيام الكافل، وقد تحيض، وهي غير مستقلّة بشيء من مصالحها، ولو تُركت لضاعت، وفسدت أحوالها، بل هي في هذه الحال أحقّ بالصيانة،
(1)
"تهذيب التهذيب" 9/ 279.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 105.
(3)
"فيض القدير" 6/ 177.
والقيام عليها؛ لتكمل صيانتها، فيُرْغَبَ في تزويجها، قال القرطبيّ: ولهذا المعنى قال علماؤنا: لا تسقط النفقة عن والد الصبية بنفس بلوغها، بل بدخول الزوج بها. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى عالهما: قام عليهما بالمؤنة، والتربية، ونحوهما، مأخوذ من العَول، وهو القُرْب، ومنه: ابدأ بمن تعول، ومعناه: جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين. انتهى
(2)
.
(جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ") قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "من عال جاريتين جاء يوم القيامة أنا وهو، وضمّ أصابعه" كذا في كتاب مسلم، ويَحْتَمِل أن تمامه: كهاتين، أو كهذه، وضمّ أصابعه، كما قال في الحديث الآخر:"كهاتين، وقرَن أصابعه". انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأولى أن المراد بقوله: (وَضَمَّ أَصَابِعَهُ): إصبعيه، وهما الوسطى، والتي تليها، كما هو مفسّر في رواية ابن حبّان؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم قرن بين إصبعيه إشارةً إلى قُرب فاعل ذلك منه درجةً، أو في السَّبْق ودخول الجنّة؛ أي: دخل مصاحبًا لي قريبًا مني؛ يعني: أن ذلك الفعل مما يُقرِّب درجة ذلك الفاعل إلى درجة النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن حبّان: رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث من طريق ثابت، عن أنس، بلفظ:"من عال ابنتين، أو ثلاثًا، أوأختين، أو ثلاثًا، حتى يَبِنَّ، أو يموت عنهنّ، كنت أنا وهو في الجنة كهاتين"، وأشار بإصبعه الوسطى، والتي تليها، قال ابن حبّان رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" أراد به في الدخول والسبق، لا أن مرتبة من عال ابنتين، أوأختين في الجنة كمرتبة المصطفى صلى الله عليه وسلم سواء. - انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"المفهم" 6/ 636 - 637.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 180.
(3)
"مشارق الأنوار" 2/ 405.
(4)
"صحيح ابن حبان" 2/ 191.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [46/ 6672](2631)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 308)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1914)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(8/ 552)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(447)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 177)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 176)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(6/ 404)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1682)، والله تعالى أعلم.
(47) - (بَابُ فَضْلِ مَنْ يَمُوتُ لَهُ وَلَدٌ، فَيَحْتَسِبُهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6673]
(2632) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَد، فتَمَسَّهُ النَّارُ، إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ المدنيّ الفقيه المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة، وأنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا) نافية، (يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ) وفي رواية أبي حازم الآتية تقييده بقوله:"لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ"؛ أي: لم يَجْر عليهم القلم بسبب بلوغهم، وعملهم الحنث؛ أي: الذنب، (فتَمَسَّهُ النَّارُ) بالنصب بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَو طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
(إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ") -بفتح المثناة، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام- أي: ما ينحلّ به القَسَم، وهو اليمين، وهو مصدر: حَلّل اليمينَ؛ أي: كفّرها، يقال: حلّل تحليلًا، وتَحِلَّةً، وتَحِلّا بغير هاء، والثالث شاذّ، وقال أهل اللغة: يقال: فعلته تحلّةَ القسم؛ أي: قدرَ ما حَلَّلتُ به يميني، ولم أُبالغ.
وقال الخطابيّ: حَلَّلت القَسَم تحلّةً؛ أي: أبررتها.
[تنبيه]: قال القرطبيّ رحمه الله: اختُلف في المراد بهذا القسم، فقيل: هو معيَّنٌ، وقيل: غير معيَّن، فالجمهور على الأول، وقيل: لم يَعْنِ به قَسَم بعينه، وإنما معناه: التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ يُستعمل في هذا، تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الأَلِيّة، وتقول: ما ضربته إلا تحليلًا؛ إذا لم تبالغ في الضرب؛ أي: قَدْرًا يصيبه منه مكروه، وقيل: الاستثناء بمعنى الواو؛ أي: لا تَمَسُّه النار قليلًا، ولا كثيرًا، ولا تحلّةَ القسم، وقد جَوَّز الفرّاء، والأخفش مجيء "إلّا" بمعنى الواو، وجعلوا منه قوله تعالى:{لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 10، 11]، والأول قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره، وقالوا: المراد به قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]، قال الخطابيّ: معناه لا يدخل النار؛ ليعاقَب بها، ولكنه يدخلها مجتازًا، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يُحَلِّل به الرجل يمينه، ويدلّ على ذلك ما وقع عند عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ في آخر هذا الحديث:"إلا تحلة القسم"؛ يعني: الورود، وفي "سنن سعيد بن منصور" عن سفيان بن عيينة، في آخره: ثم قرأ سفيان: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، ومن طريق زمعة بن صالح، عن الزهريّ، في آخره: قيل: وما تحلة القسم؟ قال: قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، وكذا وقع من رواية كريمة في الأصل: قال أبو عبد الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، وكذا
حكاه عبد الملك بن حبيب، عن مالك، في تفسير هذا الحديث، وورد نحوه من طريق أخرى في هذا الحديث، رواه الطبرانيّ من حديث عبد الرحمن بن بشر الأنصاريّ مرفوعًا:"من مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، لم يَرِد النارَ إلا عابر سبيل"؛ يعني: الجواز على الصراط، وجاء مثله من حديث آخر، أخرجه الطبرانيّ، من حديث سهل بن معاذ بن أنس الْجُهَنيّ، عن أبيه، مرفوعًا:"مَن حَرَس وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا، لم ير النار بعينه، إلا تحلة القسم"، فإن الله عز وجل قال:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} .
[تنبيه آخر]: اختُلف في موضع القَسَم من الآية، فقيل: هو مقدَّر؛ أي: والله إن منكم، وقيل: معطوف على القَسَم الماضي في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} [مريم: 68]؛ أي: وربك إن منكم، وقيل: هو مستفاد من قوله تعالى: {حَتْمًا مَقْضِيًّا} ؛ أي: قَسَمًا واجبًا، كذا رواه الطبرانيّ وغيره، من طريق مُرّة، عن ابن مسعود، ومن طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، ومن طريق سعيد، عن قتادة، في تفسير هذه الآية.
وقال الطيبيّ: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالقَسَم: ما دلّ على القطع والبَتِّ من السياق، فإن قوله:{كَانَ عَلَى رَبِّكَ} [الفرقان: 16] تذييل، وتقرير لقوله:{وَإِنْ مِنْكُمْ} ، فهذا بمنزلة القسم، بل أبلغ؛ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات.
[تنبيه آخر]: اختَلَف السلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، رَوى عبد الرزاق عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار: أخبرني من سمع من ابن عباس، فذكره، ورَوى أحمد، والنسائيّ، والحاكم، من حديث جابر، مرفوعًا:"الورود الدخول، لا يبقى بَرٌّ، ولا فاجر، إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا"، ورَوَى الترمذيّ، وابن أبي حاتم، من طريق السديّ: سمعت مُرّة يحدّث عن عبد الله بن مسعود، قال: يَرِدونها، أو يَلِجونها، ثم يَصْدُرون عنها بأعمالهم، قال عبد الرحمن بن مهديّ: قلت لشعبة: إن إسرائيل يرفعه، قال: صدق، وعمدًا أدعه، ثم رواه الترمذيّ عن عبد بن حميد، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، مرفوعًا.
وقيل: المراد بالورود: الممرّ عليها، رواه الطبريّ وغيره، من طريق بشر بن سعيد، عن أبي هريرة، ومن طريق أبي الأحوص، عن عبد الله بن
مسعود، ومن طريق معمر، وسعيد، عن قتادة، ومن طريق كعب الأحبار، وزاد:"يستوون كلهم على متنها، ثم ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك، وَدَعِي أصحابي، فيخرج المؤمنون نَدِيّةً أبدانهم".
وهذان القولان أصحّ ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما؛ لأن من عَبَّر بالدخول تجوّز به عن المرور، ووجْهه أن المارّ عليها فوق الصراط في معنى من دَخَلها، لكن تختلف أحوال المارّة باختلاف أعمالهم، فأعلاهم درجة من يمرّ كلمع البرق، كما بُيّن ذلك في حديث الشفاعة، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من حديث أم مبشر:"إن حفصة قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا قال: لا يدخل أحد شَهِد الحديبية النار: أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؟ فقال لها: أليس الله تعالى يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] " الآية.
وفي هذا بيان ضَعْف قول من قال: الورود مختصّ بالكفار، ومن قال: معنى الورود: الدنوّ منها، ومن قال: معناه: الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها: ما يُصيب المؤمن في الدنيا من الْحُمَّى، على أن هذا الأخير ليس ببعيد، ولا ينافيه بقية الأحاديث، والله أعلم، ذَكَر هذا كلّه في "الفتح".
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6673 و 6674 و 6675](2632)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1251) و"الأيمان والنذور"(6656) وفي "الأدب المفرد"(1/ 62)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 235)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1060)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 25) وفي "الكبرى"(1/ 615 و 6/ 494)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1603)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 139)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 239)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 36)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 444)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 285)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2942)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 144)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 415)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"
(4/ 67 و 68 و 7/ 78 و 10/ 64) و"شُعَب الإيمان"(1/ 336 و 7/ 131)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(450 و 451 و 1542 و 1543)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل من مات له ثلاثة أولاد، فإنه يدخل الجنّة، ولا تمسّه النار، إلا الورود الذي في قوله عز وجل:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الآية.
2 -
(ومنها): أن هذا الفضل خاصّ بالمسلمين، فلا حظّ للكافر فيه، وتدخل المسلمات فيه، وقد جاء ما يخصّهنّ بالذكر في الحديث الثالث.
3 -
(ومنها): بيان فضل الله تعالى على المسلمين، حيث جعل لهم الجنة عِوَضًا عما يصيبهم من البلاء بموت أولادهم.
4 -
(ومنها): بيان أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأن من يكون سببًا في حَجْب النار عن أبويه أَولى بأن يُحجَبَ هو؛ لأنه أصل الرحمة، وسببها، بل جاء التصريح به في الحديث، ولفظه:"فيقال: ادخلوا الجنّة أنتم وآباؤكم"، والله تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): أن من حلف أن يفعل كذا، ثم فَعَل منه شيئًا ولو قَلّ بَرّت يمينه، خلافًا لمالك، قاله عياض وغيره.
6 -
(ومنها): بيان كون أولاد المسلمين في الجنة. قاله الجمهور، ووَقَفت طائفة قليلة، والصحيح قول الجمهور.
قال النوويّ رحمه الله: أجمع من يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنة، وتوقف فيه بعضهم، لِمَا أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصبيّ من صبيان الأنصار، فصلى عليه، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور، من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا، ولم يدركه، قال:"أو غير ذلك يا عائشة، خَلَق الله عز وجل الجنة، وخَلَق لها أهلًا، وخَلَقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلًا، وخلقهم في أصلاب آبائهم".
قال: والجواب عنه: أنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل، أو قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة. انتهى، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث على حَسَب ما قيّده مالك رحمه الله في ترجمته من ذِكر الحسبة، وهي الصبر، والاحتساب، والرضا، والتسليم، أن المسلم تُكَفَّر خطاياه، ويُغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته، ولذلك خَرَج عن النار، فلم تمسّه، قاله في "الاستذكار"
(1)
.
وقال في "التمهيد": فيه أن المسلم تُكَفَّر خطاياه، وتُغْفَر له ذنوبه بالصبر على مصيبته، ولذلك زُحزح عن النار، فلم تمسّه؛ لأن من لم تُغفر له ذنوبه لم يُزحزح عن النار -والله أعلم، أجارنا الله منها- وإنما قلت ذلك بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزال المؤمن يصاب في ولده، وحامَّته حتى يلقى الله، وليست عليه خطيئة"، وإنما قلت: إن ذلك بالصبر والاحتساب والرضى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "من صبر على مصيبته، واحتسب كان جزاؤه الجنة". انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6674]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ مَالِكٍ، وَبِمَعْنَى حَدِيثِه، إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:"فَيَلِجَ النَّارَ، إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدِ) بن نصر الْكِسّيّ بمهملة، أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
3 -
(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَبْدُ الرَّزّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
"الاستذكار" 3/ 73.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 346 - 347.
5 -
(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في السند الماضي، والبابين الماضيين.
وقوله: (فَيَلِجَ النَّارَ) من الولوج، وهو الدخول، يقال: وَلَجَ يَلِج وُلُوجًا ولجَةً؛ أي: دخل، قال سيبويه: إنما جاء مصدره: وُلُوجًا، وهو من مصادر غير المتعدي، على معنى: وَلَجت فيه، وأولَجه: أدخله، قال الله تعالى:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحج: 61]؛ أي: يزيد من هذا في ذلك، ومن ذلك في هذا، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقوله: "فيلجَ النارَ" منصوب بـ "أَنْ" المقدرة، تقديره: فأن يلج النار؛ لأن الفعل المضارع المنفيّ يُنصب بـ "أن" المقدرة، وحَكَى الطيبيّ عن بعضهم: إنما تنصب الفاء الفعل المضارع بتقدير "أن" إذا كان ما قبلها وما بعدها سببية، ولا سببية هاهنا؛ إذ لا يجوز أن يكون موت الأولاد، ولا عدمه سببًا لولوج أبيهم النار، فالفاء بمعنى الواو التي للجمعية، وتقديره: لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من أولاده، وولوجه النار، ونظيره ما ورد:"ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم، فيضرَّه شيء" بالنصب، وتقديره: لا يجتمع قول عبدٍ هذه الكلمات في هذه الأوقات، وضرُّ شيء إياه، قال الطيبيّ: إن كانت الرواية على النصب فلا مَحِيد عن ذلك، والرفع يدل على أنه لا يوجد ولوج النار عقيب موت الأولاد، إلا مقدارًا يسيرًا، ومعنى فاء التعقيب كمعنى الماضي في قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44] في أن ما سيكون بمنزلة الكائن؛ لأن ما أخبر به الصادق من المستقبل كالواقع.
وقال بعضهم
(2)
: وهذا قد تلقاه جماعة عن الطيبيّ، وأقروه عليه، وفيه نَظَر؛ لأن السببية حاصلة بالنظر إلى الاستثناء؛ لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكان المعنى أن تخفيف الولوج مسبَّب عن موت الأولاد، وهو ظاهر؛ لأن
(1)
"عمدة القاري" 8/ 33.
(2)
يعني: الحافظ ابن حجر، كما هو في "الفتح" 3/ 697 - 698.
الولوج عامّ، وتخفيفه يقع بأمور، منها موت الأولاد بشرطه، وما ادّعاه أن الفاء بمعنى الواو التي للجمع فيه نَظَر.
قلت
(1)
: في كل واحد من نظريه نَظَر، أما الأول، فلأنّا لا نسلّم حصول السببية بالنظر إلى الاستثناء؛ لأن الولوج هاهنا ليس على حقيقته بالاتفاق؛ لأنه بمعنى الورود، وقد مرّ أن في معناه أقوالًا، وقوله: لأن الاستثناء بعد النفي إثبات: محلّ نزاع، وقد عُلم في موضعه، وأما الثاني فأيضًا ممنوع؛ لأن الحروف ينوب بعضها عن بعض، ولم يمنع أحد عن ذلك، ألا ترى أن بعضهم قالوا: إن الاستثناء بمعنى الواو؛ أي: لا تمسه النار قليلًا، ولا كثيرًا، ولا تحلّة القَسَم، وقد جوّز الفراء، والأخفش، وأبو عبيدة مجيء "إلا" بمعنى الواو، وجعلوا منه قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]؛ أي: ولا الذين ظلموا منهم. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: أما رواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1193)
- حدّثنا عليّ، حدّثنا سفيان، قال: سمعت الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، فيلجَ النار، إلا تحلّة القَسَم"، قال أبو عبد الله:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} . انتهى
(3)
.
وساقها أيضًا أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنّفه"، فقال:
(11877)
- حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، يرفعه، قال:"من قَدَّم ثلاثة من ولده لن يلج النار، إلا تحلة القسم". انتهى
(4)
.
وأما رواية معمر عن الزهريّ، فساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20139)
- أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن
(1)
القائل هو: العينيّ في "عمدته".
(2)
"عمدة القاري" 8/ 35.
(3)
"صحيح البخاريّ" 1/ 421.
(4)
"مصنف ابن أبي شيبة" 3/ 36.
سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات له ثلاثة لم يبلغوا الحِنْث، لم تمسّه النار، إلا تحلّة القَسَم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6675]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ: "لَا يَمُوتُ لإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَد، فَتَحْتَسِبَهُ، إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ"، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: أَوِ اثْنَيْنِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "أَوِ اثْنَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عبيد الدّرَاوَرْديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يحدِّث من كُتُب غيره، فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد الله العمريّ منكر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وقبل خمسة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن أهلها، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِنِسْوَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ:) لم أر من ذكر أسماءهنّ، وفي رواية ابن حبّان:"أن نسوة من الأنصار قُلن له: يا رسول الله إنا لا نستطيع أن نأتيك مع الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موعدكنّ بيت فلانة، فجاء، فتحدث معهنّ، ثم قال: لا يموت لإحداكنّ. . ." الحديث. ("لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَمُوتُ لإِحْدَاكُنَّ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ)؛ أي: ممن لم يبلغوا الحِنْث، كما قيّد في الرواية الأخرى.
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 139.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "الولد": يقال على الذكر والأنثى، بخلاف الابن، فإنَّه يقال على الذكر: ابن، وعلى الأنثى: ابنة، وقد يُقيَّد مطلق هذه الرواية، بقوله في الرواية الأخرى:"لم يبلغوا الحنث" كما يُقَيّد مطلق حديث أبي هريرة الماضي بقوله هنا: "فتحتسبه"، وبحديث أبي النضر السُّلميّ:"لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فيحتسبهم".
فقوله: "لم يبلغوا الحنث"؛ أي: التكليف، والحنث: الإثم، وإنما خصّه بهذا الحدّ؛ لأنَّ الصغير حبّه أشدّ، والشفقة عليه أعظم، وقيّده بالاحتساب؛ لِمَا قرّرناه غير مرة أن الأجور على المصائب لا تحصل إلا بالصبر، والاحتساب.
وإنما خصّ الولد بثلاثة؛ لأنَّ الثلاثة أوّل مراتب الكثرة، فتعظم المصائب، فتكثر الأجور، فأمَّا إذا زاد على الثلاثة فقد يَخِفّ أمر المصيبة الزائدة؛ لأنها كأنها صارت عادة ودَيْدنًا، كما قال المتنبي [من الكامل]:
أَنْكَرْتُ طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً
…
ثُمَّ اعْتَرَفْتُ بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنَا
وقال آخر [البسيط]:
رُوِّعْتُ بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ
…
وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِي
ويَحْتَمِل أن يقال: إنما لم يَذْكر ما بعد الثلاثة؛ لأنَّه من باب الأحرى والأَولى؛ إذ من المعلوم أن من كَثُرت مصائبه كثر ثوابه، فاكتفي بذلك عن ذِكره، والله تعالى أعلم
(1)
.
(فَتَحْتَسِبَهُ) أفرد الضمير، باعتبار الميت؛ أي: تدّخر أجر ذلك الميت عند الله تعالى، قال الفيّوميّ رحمه الله: احْتَسَبَ الأجرَ على الله: ادّخره عنده، لا يرجو ثواب الدنيا، والاسم: الحِسْبَةُ، بالكسر، واحْتَسَبْتُ بالشيء: اعتددت به، قال الأصمعيّ: وفلان حَسَنُ الحِسْبَةِ في الأمر؛ أي: حَسَن التدبير، والنظر فيه، وليس هو من احتساب الأجر، فإن احْتِسَابَ الأجر فِعل لله، لا لغيره. انتهى
(2)
.
وقال في "المشارق": الاحتساب، والْحِسبان بالكسر، والْحِسْبة: هو
(1)
"المفهم" 6/ 638 - 639.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 135.
ادّخار الأجر، وأن يَحْسُبه في حسناته. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "احتسابًا"؛ أي: طلبًا لوجه الله، وثوابه، فالاحتساب من الْحَسْب، كالاعتداد من العدّ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يَعتدّ عمله، فجُعِل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به، والْحِسْبة اسم من الاحتساب، كالعِدّة من الاعتداد، والاحتسابُ في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم، والصبر، أو باستعمال أنواع البرّ، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طلبًا للثواب المرجوّ منها.
قال: ومعنى: "احتسب فلان ابنًا له": اعتَدّ مصيبته به في جملة بلايا الله التي يثاب على الصبر عليها. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح" عند شرح قول البخاريّ: "فاحتسب" ما نصّه؛ أي: صَبَر راضيًا بقضاء الله، راجيًا فضله، قال: ولم يقع التقييد بذلك أيضًا في أحاديث الباب
(3)
، وكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه أيضًا، كما في حديث جابر بن سمرة، وحديث جابر بن عبد الله، وفي رواية ابن حبان، والنسائيّ من طريق حفص بن عبيد الله بن أنس، عن أنس، رفعه:"من احتسب من صُلْبه ثلاثة، دخل الجنة. . ." الحديث، ولمسلم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يموت لإحداكنّ ثلاثة من الولد، فتحتسبهم إلا دخلت الجنة. . ." الحديث، ولأحمد، والطبرانيّ من حديث عقبة بن عامر، رفعه:"من أعطى ثلاثة من صلبه، فاحتسبهم على الله، وجبت له الجنة"، وفي "الموطأ" عن أبي النضر السّلَميّ، رفعه:"لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فيحتسبهم إلا كانوا جُنّة من النار. . ." الحديث.
وقد عُرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلا بدّ من قَيْد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيَّدة، ولكن أشار
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 211.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 955.
(3)
يعني: الأحاديث التي أوردها البخاريّ في ذلك الباب.
الإسماعيليّ إلى اعتراض لفظيّ، فقال: يقال في البالغ: احتَسَب، وفي الصغير: افتَرَط. انتهى.
وبذلك قال الكثير من أهل اللغة، لكن لا يلزم من كون ذلك هو الأصل، أن لا يستعمل هذا موضع هذا، بل ذكر ابن دُريد وغيره احتَسَب فلان بكذا: طلب أجرًا عند الله، وهذا أعمّ من أن يكون لكبير، أو صغير، وقد ثبت ذلك في الأحاديث التي ذكرناها، وهي حجة في صحة هذا الاستعمال.
وقوله: "وقول الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] " وأراد بذلك الآية التي في البقرة، وقد وُصف فيها الصابرون بقوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 156] فكأن البخاريّ أراد تقييد ما أُطلق في الحديث بهذه الآية الدالة على ترك القلق، والجزع، ولفظُ المصيبة في الآية، وإن كان عامًّا، لكنه يتناول المصيبة بالولد، فهو من أفراده. انتهى
(1)
.
(إِلَّا دَخَلَتِ الْجَنَّةَ"، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ) قيل: من القائلات أم سُليم، كما عند أحمد في "المسند"(6/ 431)، وابن أبي شيبة في "المصنّف"(3/ 353)، والطبرانيّ في "الكبير"، كما في "المجمع"(3/ 6) بسند جيّد، كما قال الحافظ في "الفتح"، ومنهنّ أم مبشّر، كما عند الطبرانيّ، وأبي يعلى، وابن أبي شيبة، وأبي قُرّة في "سننه"
(2)
. (أَوِ اثْنَيْنِ) هكذا بالنصب، وهو مفعول لمقدّر؛ أي: أو قدّمت اثنين من ولدها (يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَوِ اثْنَيْنِ")؛ أي: أو قدّمت اثنين، فلها الجنّة، ووقع في النسخة الهنديّة بلفظ:"أو اثنان؟ "، فقال:"أو اثنان"، فيكون فاعلًا لمحذوف؛ أي: مات لها اثنان، وأشار في هامشها أنه وقع في بعض النُّسخ بلفظ:"واثنين"، بالواو في الموضعين، فليُتنبّه.
قال النوويّ رحمه الله: هذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم أوحي إليه عند سؤالها، أو قبله، وقد جاء في غير مسلم:"أو واحد"
(3)
.
(1)
"الفتح" 3/ 690 - 692.
(2)
راجع: ما كتبه الشيخ مشهور بن حسن في هامش "تنبيه المعلم" ص 434 - 435.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 181 - 182.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وقد استَشكَل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، إلا كانوا لها حجابًا من النار"، ثم لمّا سئل عن اثنين، قال:"واثنين". ووجْهه: أنه إذا كان حُكْمُ الاثنين حكمَ الثلاثة، فلا فائدة لذِكر الثلاثة أوّلًا، وهذا إنما يصدر عمن يعتقد أن دلالة المفهوم نصّ كدلالة المنظوم، وليس الأمر كذلك، بل هي عند القائلين بها من أضعف جهات دلالات الألفاظ، وسائر وجوه الدّلالات مرجّحة عليها، كما بيّنّاه في الأصول، هذا إن قلنا: إن أسماء الأعداد لها مفهوم، فإنَّه قد اختَلَف في ذلك القائلون بالمفهوم، وألحقوا هذا النوع باللَّقب الذي لا مفهوم له باتفاق المحقّقين، ثم إن الرافع لهذا الإشكال أن يقال: إن الثواب على الأعمال إنما يُعلَم بالوحي، فيكون الله تعالى قد أوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم بذلك في الثلاثة، ثم إنه لَمّا سئل عن الاثنين أوحى الله إليه في الاثنين بمثل ما أوحى إليه بالثلاثة، ولو سئل عن الواحد لأجاب بمثل ذلك، كما قد دلّت عليه الأحاديث المذكورة في ذلك.
ويَحْتَمِل أن يقال: إن ذلك بحَسَب شدّة وَجْد الوالدة، وقوّة صبرها، فقد لا يَبْعد أن تكون مَن فقدت واحدًا، أو اثنين أشدّ ممن فقدت ثلاثة، أو مساوية لها، فتُلحق بها في درجتها، والله تعالى أعلم
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6675](2632)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(148)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5898)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1019)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 246 و 378)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2941)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 67)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 639.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6676]
(2633) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: جَاءتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا، نَأْتِيكَ فِيه، تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، قَالَ: "اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا"، فَاجْتَمَعْنَ، فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ، تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلَاثَةً، إِلَّا كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ"، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْن، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْنِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ) هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهانيّ الكوفيّ الجهنيّ
(1)
، ثقة [4] مات في إمارة خالد الْقَسْريّ على العراق (ع) تقدم في "الحج" 10/ 2883.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ ذَكْوَانَ) السمّان الزيّات المذكور في السند الماضي.
5 -
(أَبُو سَعِيَدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنَان بن عُبيد الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، استُصغِر بأُحُد، ثم شَهِد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
(1)
قال في "العمدة": أصله من أصبهان، خرج منها حين افتتحها أبو موسى الأشعريّ.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصبَهَانِيِّ) قال في "العمدة": "أصبهان" بفتح الهمزة، وكسرها، وبالباء، والفاء، وأهل المشرق يقولون: أصفهان بالفاء، وأهل المغرب بالباء، وهي مدينة بعراق العجم، عظيمة، خرج منها جماعة من العلماء والمحدثين. انتهى
(1)
.
وقال في "اللباب": "الإصبهانيّ" بكسر الألف، أو فتحها، وسكون الصاد المهملة، وفتح الباء الموحّدة، والهاء، وفي آخرها نون: هذه النسبة إلى أشهر بلدة بالجبال، وإنما قيل لها هذا الاسم على ما سمعت من بعضهم أنها تُسمّى بالعجميّة: سباهان، وسباه: العسكرُ، وهان: الجمع، وكانت جموع عساكر الأكاسرة تجتمع إذا وقعت لهم واقعة في هذا الموضع، مثل عسكر فارس، وكرمان، والأهواز. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": واسم والد عبد الرحمن المذكور: عبد الله، قال البخاريّ في "التاريخ": إن أصله من أصبهان لَمّا فتحها أبو موسى، وقال غيره: كان عبد الله يتّجر إلى أصبهان، فقيل له: الأصبهانيّ، ولا منافاة بين القولين فيما يظهر لي. انتهى
(3)
.
(عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ) السمّان الزيّات، (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سنان (الْخُدْرِيِّ) بضمّ الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة، بعده راء: نسبة إلى خُدرة، واسمه: الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج بن حارثة، قبيلة من الأنصار
(4)
. (قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرفها
(5)
، وقال الحافظ في "الفتح": لم أقف على اسمها، وَيحْتَمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد بن السكن. انتهى
(6)
. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا
(1)
"عمدة القاري" 2/ 133.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 69.
(3)
"الفتح" 3/ 694، كتاب "الجنائز" رقم (1249).
(4)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 426.
(5)
"تنبيه المعلم" ص 435.
(6)
"الفتح" 17/ 199، كتاب "الاعتصام" رقم (7310).
رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ) وفي رواية للبخاريّ: "قالت النساءُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم: غلَبَنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نَفْسك". قال في "العمدة": معناه: أن الرجال يلازمونك كل الأيام، ويسمعون العلم، وأمور الدِّين، ونحن نساء ضعفة، لا نقدر على مزاحمتهم، فاجعل لنا يومًا من الأيام نسمع العِلم، ونتعلم أمور الدين
(1)
. (فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا)؛ أي: يومًا معيّنًا من عندك، لا نعيّنه نحن من عند أنفسنا، وقولها:(نَأْتِيكَ فِيهِ) جملة في محل نصب صفة لـ "يومًا"، وقولها:(تُعَلِّمُنَا) جملة حاليّة، أو صفة بعد صفة، (مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ)؛ أي: من الوحي الذي أوحاه الله إليك. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("اجْتَمِعْنَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا") ليوم سمّاه باسمه، وفي رواية ابن حبّان:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: موعدكنّ بيت فلانة، فجاء، فتحدّث معهنّ". (فَاجْتَمَعْنَ)؛ أي: النساء في ذلك اليوم، وفي ذلك المكان، (فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ) وفي رواية للبخاريّ: "فوعدهنّ يومًا لقيهنّ فيه، فوعظهنّ، فأمرهنّ، فكان فيما قال لهنّ. . ." فذكر نحو ما هنا، قال الحافظ رحمه الله: ولم أر في شيء من طُرقه بيان ما علّمهنّ، لكن يمكن أن يؤخذ من حديث أبي سعيد الآخر الماضي في "كتاب الزكاة"، وفيه:"فمَرّ على النساء، فقال: يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. . ." الحديث، وفيه:"فقامت امرأة، فقالت: لِمَ؟ -وفيه-: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ وأليس إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم. . ." والمرأة المذكورة هي أسماء. انتهى
(2)
.
(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: " (مَا) نافية، (مِنْكُنَّ) متعلّق بحال مقدّر، (مِنِ امْرَأَةٍ) "من" زائدة، و"امرأة" مبتدأ خبره جملة الاستثناء؛ لأنه استثاء مفرّغ، إنما خص المرأة بالذِّكر؛ لأن الخطاب حينئذ كان للنساء، وليس له مفهوم؛ لِمَا في بقية الطرق
(3)
، وقوله:(تُقَدِّمُ) جملة في محل رفع صفة "امرأة"، (بَيْنَ يَدَيْهَا) متعلّق بـ "تقدّم"، (مِنْ وَلَدِهَا) بفتحتين، يشمل الذَّكر والأنثى، والمفرد، والجمع
(4)
،
(1)
"عمدة القاري" 2/ 134.
(2)
"الفتح" 17/ 199، كتاب "الاعتصام" رقم (7310).
(3)
"الفتح" 3/ 694.
(4)
"الفتح" 3/ 695.
وهو متعلّق بحال مقدّر؛ لأنه بيان مقدّم على قوله: "ثلاثة"، والقاعدة أن نعت النكرة إذا قُدّم يُعرب حالًا، كما هو معروف في محلّه. (ثَلَاثَةً) بالنصب على المفعوليّة لـ "تقدّم"؛ أي: ثلاثة أولاد، وفي رواية:"ثلاثًا"، وكلاهما جائز؛ لأن القاعدة أنه إذا حُذف التمييز جاز تذكير العدد، وتأنيثه. (إِلَّا كَانُوا) وفي رواية عند البخاريّ:"إلا كُنّ" بضم الكاف، وتشديد النون، وكأنه أُنِّث باعتبار النفس، أو النسمة، قاله في "الفتح"
(1)
. (لَهَا حِجَابًا)؛ أي: ساترًا (مِنَ النَّارِ"، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ) هي أم سليم الأنصاريّة والدة أنس بن مالك، كما رواه الطبرانيّ بإسناد جيّد عنها:"قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وأنا عنده: ما من مسلمَين يموت لهما ثلاثة، لم يبلغوا الحُلُم، إلا أدخله الجنة بفضل رحمته إياهم، فقلت: واثنان؟ قال: واثنان"، وأخرجه أحمد، لكن الحديث دون القصة.
ووقع لأم مُبَشِّر الأنصاريّة أيضًا السؤال عن ذلك، فرَوَى الطبرانيّ أيضًا من طريق ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أم مبشر، فقال: يا أم مبشر من مات له ثلاثة من الولد دخل الجنة، فقلت: يا رسول الله، واثنان؟ فسكت، ثم قال: نعم، واثنان".
وفي حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأل عن ذلك، وعن ابن عباس أن عائشة أيضًا منهنّ.
وحَكَى ابن بشكوال أن أم هانئ أيضًا سألت عن ذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون كل منهنّ سأل عن ذلك في ذلك المجلس، وأما تعدد القصة ففيه بُعْد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن الاثنين بعد ذِكر الثلاثة، وأجاب بأن الاثنين كذلك، فالظاهر أنه كان أوحي إليه ذلك في الحال، وبذلك جزم ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة بعد ذلك مستبعدًا جدًّا؛ لأن مفهومه يُخرج الاثنين اللذين ثبت لهما ذلك الحكم بالوحي؛ بناء على القول بمفهوم العدد، وهو معتبَر هنا.
وممن سأل عن ذلك أيضًا: جابر بن عبد الله، ورَوَى الحاكم، والبزار،
(1)
"الفتح" 3/ 695.
من حديث بُريدة أن عمر سأل عن ذلك أيضًا، ولفظه:"ما من امرئ، ولا امرأة يموت له ثلاثة أولاد، إلا أدخله الله الجنة، فقال عمر: يا رسول الله واثنان؟ قال: واثنان"، قال الحاكم: صحيح الإسناد، وهذا لا بُعد في تعدّده؛ لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به، قاله في "الفتح"
(1)
.
(وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْنِ) بالتكرار ثلاث مرّات؛ للتأكيد، وهو منصوب بفعل مقدّر دلّ عليه ما سبق؛ أي: ومَنْ تُقَدِّم اثنين؟ أي: فما حكمها؟، وقال في "الفتح": قوله: "واثنين"، ولكريمة:"واثنتين" بزيادة تاء التأنيث، وهو منصوب بالعطف على "ثلاثةً"، ويسمّى العطف التلقينيّ، وكأنها فهمت الحَصْر، وطَمِعت في الفضل، فسألت عن حكم الاثنين، هل يلتحق بالثلاثة أو لا؟. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "منصوب بالعطف إلخ" عندي أن ما قدّمته من الإعراب هو الأوضح، وقوله:"ويسمّى العطف التلقينيّ" قد نظمت العطف التلقيني، مع الاستثناء التلقينيّ بقولي:
وَعَطْفُ قَوْلِ قَائِلٍ عَلَى سِوَاهْ
…
بِعَطْفِ تَلْقِينٍ دَعَاهُ مَنْ حَوَاهْ
كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {قَالَ وَمِنْ
…
ذُرِّيَّتِي} فَاحْفَظْهُ أَيُّهَا الْفَطِنْ
وَمِثْلُ ذَا اسْتِثْنَاؤُهُمْ كَمَا انْتَظَمْ
…
إِخْرَاجُهُ الإِذْخِرَ مِنْ حُكْمِ الْحَرَمْ
(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْن، وَاثْنَيْنِ")؛ أي: ومن تقدِّم اثنين يكونان لها حجابًا من النار.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "واثنان" بالرفع، قال في "الفتح": قوله: "واثنان"؛ أي: وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: "واثنان"؛ أي: وإذا مات اثنان فالحكم كذلك، ووقع في رواية مسلم من هذا الوجه:"واثنين" بالنصب؛ أي: وما حكم اثنين؟ وفي رواية سهل: "أو اثنان"، وهو ظاهر في التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين، وقد تقدم النقل عن ابن بطال أنه محمول على أنه أُوحي إليه بذلك في الحال، ولا بُعْد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين.
ويَحْتَمِل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلًا، لكنه أشفق عليهم أن
(1)
"الفتح 3/ 695.
يتّكلوا؛ لأن موت الاثنين غالبًا أكثر من موت الثلاثة، كما وقع في حديث معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لمّا سئل عن ذلك لم يكن بُدّ من الجواب، والله تعالى أعلم
(1)
.
وقال في "الفتح" أيضًا: قال ابن التين تبعًا لعياض: هذا يدلّ على أن مفهوم العدد ليس بحجة؛ لأن الصحابية من أهل اللسان، ولم تعتبره؛ إذ لو اعتبرته لانتفى الحكم عندها عما عدا الثلاثة، لكنها جَوّزت ذلك، فسألته.
قال الحافظ: كذا قال، والظاهر أنها اعتَبَرت مفهوم العدد؛ إذ لو لم تعتبره لم تسأل، والتحقيق: أن دلالة مفهوم العدد ليست يقينيّة، وإنما هي مُحْتَمِلة، ومن ثَمّ وقع السؤال عن ذلك، قال القرطبيّ: وإنما خصت الثلاثة بالذِّكر؛ لأنها أول مراتب الكثرة، فبِعِظَم المصيبة يكثر الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يَخِفّ أمر المصيبة؛ لأنها تصير كالعادة، كما قيل: رُوِّعْتُ بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ. انتهى.
قال الحافظ: وهذا مصير منه إلى انحصار الأجر المذكور في الثلاثة، ثم في الاثنين، بخلاف الأربعة، والخمسة، وهو جمود شديدٌ، فإن من مات له أربعة فقد مات له ثلاثةُ ضرورةً؛ لأنهم إن ماتوا دفعة واحدة فقد مات له ثلاثة وزيادة، ولا خفاء بأن المصيبة بذلك أشدّ، وإن ماتوا واحدًا بعد واحد، فإن الأجر يحصل له عند موت الثالث بمقتضى وَعْد الصادق، فيلزم على قول القرطبيّ أنه إن مات له الرابع أن يرتفع عنه ذلك الأجر، مع تجدِد المصيبة، وكفى بهذا فسادًا، والحقّ: أن تناول الخبر الأربعة فما فوقها من بابِ أَولى، وأحرى.
ويؤيد ذلك أنهم لم يسألوا عن الأربعة، ولا ما فوقها؛ لأنه كالمعلوم عندهم؛ إذ المصيبة إذا كَثُرت كان الأجر أعظم، والله أعلم.
وقال القرطبيّ أيضًا: يَحْتَمِل أن يفترق الحال في ذلك بافتراق حال المصاب، من زيادة رِقّة القلب، وشدّة الحبّ، ونحو ذلك، وقد قدمنا الجواب عن ذلك. انتهى كلام الحافظ
(2)
، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 3/ 696.
(2)
"الفتح" 3/ 695 - 696، كتاب "الجنائز" رقم (1249).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6676](2676)، و (البخاريّ) في "العلم"(101 و 102) و"الجنائز"(1249) و"الاعتصام"(7310)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 451 و 452)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 35)، و (أحمد) في "مسنده" 31/ 34 و 72)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2944)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 461)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 103)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 67) وفي "شُعب الإيمان"(7/ 132)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1546)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة سؤال النساء عن أمر دينهنّ، وجواز كلامهنّ مع الرجال في ذلك، وفيما لهنّ الحاجة إليه.
2 -
(ومنها): جواز الوعد.
3 -
(ومنها): ثبوت الأجر للثكلى.
4 -
(ومنها): أن الحديث يدلّ على كون أطفال المسلمين في الجنة، وقد نقل جماعة فيهم إجماع المسلمين، وقال المازريّ: أما أولاد الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فالإجماع متحقق على أنهم في الجنة، وأما أطفال من سواهم من المؤمنين، فجماهير العلماء على القطع لهم بالجنة، ونقل جماعة الإجماع في كونهم من أهل الجنة قطعًا؛ لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وتوقف بعض المتكلمين فيهم، وأشار إلى أنه لا يُقطع لهم كالمكلفين
(1)
، والله أعلم.
(المسألة الرابعة):
(اعلم): أني وجدت الحافظ وليّ الدين العراقيّ قد تكلّم على فوائد هذا الحديث في كتابه الممتع: "طرح التثريب"، فأحببت أن أذكر ما كتبه، وإن كان بعضه تقدّم، إلا أن له زوائد مفيدةً جدًّا، فأقول:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 183.
1 -
(الأولى):
أنه اتّفق عليه الشيخان، والنسائيّ، وابن ماجه من رواية سفيان بن عيينة، وأخرجه الشيخان، والترمذيّ، والنسائيّ من طريق مالك بلفظ:"فتمسه النار" بدل: "فيلج النار"، أخرجه مسلم من رواية معمر، ثلاثتهم عن الزهريّ، عن سعيد، وأخرجه مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار: لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة منهنّ: أو اثنين يا رسول الله؟ قال: أو اثنين"، واتفق عليه الشيخان من رواية عبد الرحمن بن الأصبهانيّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، وفيه:"ثلاثة لم يبلغوا الحنث"، وأحالا ببقيّته على حديث أبي سعيد، ولفظه:"ما منكن امرأة تقدِّم ثلاثة من ولدها، إلا كانوا لها حجابًا من النار، فقالت امرأة: واثنين؟ فقال: واثنين"، وقال البخاري أيضًا.
وقال شريك، عن ابن الأصبهانيّ: حدّثني أبو صالح، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة:"لم يبلغوا الحنث"، وعَزَى والدي رحمه الله
(1)
في النسخة الكبرى من هذه الأحكام هذه الزيادة، وهي قوله:"لم يبلغوا الحنث" لمسلم في رواية. قال: وعلّقها البخاريّ، فلم يطّلع إلا على الرواية المعلّقة، وقد عرفت أنها مسندة في "الصحيحين" من رواية أبي حازم عن أبي هريرة، ولمّا ذَكَر المزيّ في "الأطراف" رواية معمر، عن الزهريّ من عند مسلم ذكر فيها:"لم يبلغوا الحنث"، وهو وَهَمٌ، فليست هذه الزيادة في "صحيح مسلم" من هذا الوجه، والله أعلم.
2 -
(الثانية):
الولد يُطلق على الذَّكر والأنثى، وعلى المفرد، والجمع، وفي الجمع أربع لغات مشهورة، وهي فتح اللام والواو، وفتح الواو، وضمّها، وكسرها، مع إسكان اللام في الثلاثة.
وقوله: "فيلجَ"؛ أي: يدخل، وهو منصوب بالفاء في جواب النفي،
(1)
يعني: الحافظ العراقيّ.
والقَسَم بفتح القاف، والسين: اليمين، وتَحِلّة القسم، بفتح التاء، وكسر الحاء المهملة، وتشديد اللام: ما ينحلّ به القسم، وهو مصدر حَلَّل اليمينَ؛ أي: كَفّرها، ويقال في المصدر: تحليل، وتَحِلّ أيضًا بغيرها، وهو شاذّ.
3 -
(الثالثة):
فيه أن المسلم إذا مات له ثلاثة من الولد لم يدخل النار، إلا تحلة القسم، ومن ضرورة ذلك دخوله الجنة؛ إذ لا منزلة بينهما، وفي "صحيح البخاريّ" وغيره، عن أنس بن مالك مرفوعًا:"ما من الناس من مسلم، يُتَوَفَّى له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"، وفي "سنن ابن ماجه" عن عتبة بن عبد، مرفوعًا:"ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا تَلَقَّوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء دخل"، وهذه زيادة على مطلق دخول الجنة، ويوافقه ما رواه النسائيّ عن معاوية بن قُرّة، عن أبيه:"أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه ابن له، فقال: أتحبه؟ فقال: أَحبَّك الله كما أحبه، فمات، ففقده، فسأل عنه؟ فقال: ما يَسُرُّك أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة، إلا وجدته عنده يسعى، يفتح لك؟ ".
4 -
(الرابعة):
تقدّم أن في "الصحيح" من غير وجه أنه قيل: "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم واثنان؟ فقال: واثنان".
ورَوَى الترمذيّ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من كان له فرطان من أمتي، أدخله الله بهما الجنة، فقالت عائشة: فمن كان له فرط من أمتك؟ فقال: ومن كان له فرط يا موفقةُ، قالت: فمن لم يكن له فرط؟ قال: أنا فرط أمتي، لن يصابوا بمثلي"، قال الترمذيّ: حسن غريب
(1)
، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن بارق، وقد روى عنه غير واحد من الأئمة. انتهى.
وعبد ربه هذا مختلف فيه، ضعّفه ابن معين، والنسائيّ، وقال أحمد: ما به بأس، ووثقه ابن حبان.
(1)
ضعّفه الشيخ الألبانيّ رحمه الله "ضعيف الترغيب والترهيب".
ورَوَى الترمذي، وابن ماجه، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قَدَّم ثلاثة لم يبلغوا الحنث، كانوا له حِصْنًا حَصِينًا، قال أبو ذرّ: قدّمت اثنين، قال: واثنين، فقال أبي بن كعب، سيّد القراء: قدّمت واحدًا، قال: وواحد، ولكن إنما الصبر عند الصدمة الأولى"، قال الترمذيّ: حسن غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه
(1)
.
ورُوي ذِكر الواحد من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أيضًا، وهو محمول عند العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم أُوحي إليه ذلك عند سؤالهم عن الاثنين، وعن الواحد، إن صحّ، ولا يمتنع نزول الوحي عليه في أسرع من طرفة عين، كما في نزول قوله تعالى:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] لمّا قام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير البصر، فنزلت:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] هذا، على أن العلماء يختلفون في مفهوم العدد، هل هو حجة أم لا؟، فمن لم يجعله حجةً لا يحتاج إلى ذِكر هذا الجواب، ويقول: ذِكر هذا العدد لا ينافي حصول ذلك بأقلّ منه، بل ولو جعلناه حجةً، فليس نصًّا قاطعًا، بل دلالته دلالة ضعيفة يقدَّم عليها غيرها عند معارضتها.
وقال أبو العباس القرطبيّ بعد ذِكره نحو ما قلناه: ويَحْتَمِل أن يقال: إن ذلك بحسب شدة وَجْد الوالدة، وقوّة صبرها، فقد لا يبعد أن يكون مَن فَقدت واحدًا، أو اثنين أشدّ ممن فَقدت ثلاثة، أو مساوية لها، فتُلحَق بها في درجتها.
وتعقّبه وليّ الدين، وهو تعقّب جيّد، فقال: ظاهر الحديث حَمْل ذلك على كل فاقد اثنين، وعلى كل فاقد واحد، فالتقييد بشدّة الوَجْد الذي يُصَيِّره كفاقد ثلاثة يحتاج إلى دليل.
وقال القاضي عياض: يَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم قاله ابتداءً لأتمّ الأشياء؛ لأن ثلاثًا أول الكثرة، فأخبرهم بذلك؛ لئلا يتكل من مات له ولد على ولده في شفاعته، وسكت عما وراءه، فلمّا سئل أعلمَ بما عنده في ذلك، قال: وفي قولها: أو اثنان، بعد ذِكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك في الثلاثة، وهي من أهل اللسان دليل على أن
(1)
أي: فالحديث ضعيف؛ للانقطاع.
تعليق الحكم بعددٍ ما لا ينافيه من جهة دليل الخطاب عما عداه من العدد، كان أقلّ، أو أكثر، إلا بنصّ. انتهى
(1)
.
5 -
(الخامسة):
قال أبو العباس القرطبيّ: إنما خَصّ الولد بثلاثة؛ لأن الثلاثة أول مراتب الكثرة، فبِعِظَم المصائب تَكْثُر الأجور، فأما إذا زاد على الثلاثة، فقد يخفّف أجر المصيبة بالزائد؛ لأنها كأنها صارت عادة، ودَيْدنًا، كما قال المتنبي [من الكامل]:
أَنْكَرْتُ طَارِقَةَ الْحَوَادِثِ مَرَّةً
…
ثُمَّ اعْتَرَفْتُ بِهَا فَصَارَتْ دَيْدَنَا
وقال آخر [من البسيط]:
رُوِّعْتُ بِالْبَيْنِ حَتَّى مَا أُرَاعُ لَهُ
…
وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِي
ثم قال: ويَحْتَمِل أن يقال: إنما لم يذكر ما بعد الثلاثة؛ لأنه من باب الأحرى والأَولى؛ إذ من المعلوم أن من كثرت مصائبه، كثر ثوابه، فاكتفى بذلك عن ذِكره.
قال وليّ الدين متعقّبًا لتقرير القرطبيّ المذكور: إذا جعلنا لمفهوم العدد دلالةً، فدلالته في هذه الصورة في منع النقصان، لا في منع الزيادة، فإن من مات له أربعة، فبالضرورة قد مات له ثلاثة، فلا معنى لهذا الكلام الذي ذكره القرطبيّ، وإذا أخبر الصادق بأن من مات له ثلاثة لم يلج النار، إلا تحلة القسم، فمات لشخص ثلاثة، فحصلت له هذه البشرى، ثم مات له أربع، انقطعت هذه البشرى بموت هذا الرابع، وصار على خطر دخوله النار بعد تلك البشرى، وَهَبْ أن حُزنه بهذا الرابع خفيف؛ لاعتياده المصائب، فهل يزيد ذلك على كونه لم تحدث له هذه المصيبة أصلًا؟ وكيف السبيل إلى إحباط ثواب ما مضى من المصائب بهذه المصيبة الرابعة؟ هذا ما لا يتخيله ذو فَهْم، فإن فُرِض أن الأربعة ماتوا دفعةً واحدةً، كموت نفس واحدة على خلاف ما أجرى الله تعالى العادة، ترتّبت البشرى بعدم دخول النار على موت ثلاثة، ويثيب الله تعالى على موت الرابع بما يشاء، وقد دخلت هذه الصورة في هذا الحديث؛ لكونه صَدَق أنه مات له ثلاثة من الولد، والله أعلم.
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 115.
قال الجامع عفا الله عنه: تعقُّب وليّ الدين رحمه الله للقرطبيّ هذا حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
6 -
(السادسة):
أطلق في هذه الرواية ذِكر الولد، وقيّده في رواية أخرى في "الصحيحين" بقوله:"لم يبلغوا الحنث"؛ أي: لم يبلغوا سنّ التكليف الذي يُكتب فيه الحنث، وهو الإثم، ومقتضى حَمْل المطلق على المقيَّد اختصاص ذلك بالأولاد الصغار، دون البالغين، قال أبو العباس القرطبيّ: وإنما خصهم بهذا الحدّ؛ لأن الصغير حبة أشدّ، والشفقة عليه أعظم.
قلت
(1)
: قد يُعكَس هذا المعنى، ويقال: التفجع على فَقْد الكبير أشدّ، والمصيبة به أعظم، ولا سيما إذا كان نجيبًا يقوم عن أبيه بأموره، ويساعده في معيشته، وهذا مشاهد معلوم، والمعنى الذي ينبغي أن يُعَلَّل به ذلك ما في حديث أنس رضي الله عنه:"إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"، وهو في "صحيح البخاريّ"، وغيره كما تقدم، وهو في "مسند أحمد"، وغيره من حديث عمرو بن عَبَسة، وأم سليم، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" من حديث أبي أمامة، وفي "سنن النسائيّ" من حديث أبي ذرّ، وفي "معجم الطبرانيّ الكبير" من حديث حبيبة بنت سهل، وأم مبشر، ومن لم يُكتب عليه إثم فرحمته أعظم، وشفاعته أبلغ.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التعليل الذي أبداه وليّ الدين متعقّبًا على تعليل القرطبيّ حسنٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
7 -
(السابعة):
فعلى هذا لو مات له ثلاثة أولاد بالغين معتوهين عَرَض لهم العَتَهُ والجنون قبل البلوغ بحيث لم يَجْر عليهم تكليف، ولم يُكتب عليهم إثم، هل يكونون كغير البالغين؟ هذا يَحْتَمِل، والأرجح إلحاقهم بهم، وقد يُدَّعَى دخولهم في قوله صلى الله عليه وسلم:"لم يبلغوا الحنث"، وينبغي أن يُبنَى ذلك على المعنيَيْن المتقدِّم ذِكرهما، فإن عللنا بما في الحديث كان حكم المجانين كذلك؛ لأن الرحمة
(1)
القائل هو وليّ الدين العراقيّ رحمه لله.
لهم واسعة كثيرة؛ لعدم حصول الإثم منهم، فصاروا في ذلك كالأطفال، وإن عللنا بما ذكره القرطبيّ لم يطّرد ذلك في المجانين البالغين؛ لأن محبتهم تُخَفَّف أو تزول، ويتمنى الأب موتهم لِمَا بهم من العاهة والضرر، فلا يحصل له بموتهم تفجّع، ولا مشقة، والله أعلم.
8 -
(الثامنة):
قد يقال: إن سائر الأولاد في ذلك سواء، وإنه لا فرق بين البالغ منهم، وغير البالغ، وذلك بأحد أوجه:
(أولها): أن نقول بقول من يرى أن مفهوم الصفة ليس بحجة، فتعليق الحكم بالذين لم يبلغوا الحلم لا يقتضي أن البالغين ليسوا كذلك.
(ثانيها): أن نأخذ بقول من يأخذ بالمطلق، ويرى المقيَّد فردًا من الأفراد التي دلّ عليها المطلق.
(ثالثها): أن يقال: إن هذا المفهوم هنا ليس حجة؛ لكونه خرج مخرج الغالب، فإن الغالب في موت الأولاد أن يكون ذلك في صِغَرهم، ومن تأخر أجله حتى يبلغ، فالغالب أن أباه يتقدمه في الوفاة، وقد يتخلف ذلك، والقاعدة أن ما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له.
(رابعها): أن يُدَّعَى أن هذا المفهوم ليس حجة بتقرير آخر، وهو أنه خرج جوابًا لسؤال، بأن يكون صلى الله عليه وسلم سئل عمن مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، أو ذَكَر ذلك لمن مات له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، فجاء بهذا القيد مطابقًا لحاله، لا لأن الحكم يختص بهذه الحالة، والقاعدة أن ما خرج جوابًا لسؤال لا مفهوم له.
(خامسها): قد يُدَّعَى أن هذا ليس من مفهوم المخالفة، وإنما هو من مفهوم الموافقة، وأنهم إذا بلغوا كان التفجع عليهم أكثر، وكانت المصيبة بهم أشدّ، فكانوا أَولى بهذا الحكم من الصغار، ويكون التقييد بالصِّغَر إشعارًا لِعِظَم الثواب، وإن خفّت المصيبة بهم؛ لكونهم لم يبلغوا مبلغ الرجال الذين يقومون بالأمور، فما ظنك ببلوغهم وكمالهم، فعليك بالنظر في الأمور التي ذَكَرْتُها، وهل تَقْوَى، فيُعمل بها، أو تَضْعُف، فتُطْرح؟ فلست على ثقة منها، والعلم عند الله تعالى.
وفي "معرفة الصحابة"
(1)
لابن منده عن شراحيل المنقريّ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من تُوُفّي له أولاد في سبيل الله تعالى، دخل الجنة بفضل حِسْبَتهم"، وهذا الحديث إنما هو في البالغين؛ لأنهم الذين يُقتلون في سبيل الله تعالى غالبًا. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: لا بُعد في هذا التقرير الذي أيّده وليّ الدين رحمه الله وحاصله إلحاق البالغين بغيرهم في هذا الحكم، ويؤيّد ذلك ما أخرجه البخاريّ في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء؛ إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة"
(2)
.
فهذا الحديث نصّ صريح في أن من أُصيب بولد بالغ، ثم احتسبه، فجزاؤه الجنّة، وهذا هو معنى حديث الباب، والله تعالى أعلم.
9 -
(التاسعة):
ظاهره أنه لا فرق بين أن يكون شديد المحبة لأولاده، أو خفيفها، أو خاليًا من محبتهم، أو كارهًا لهم؛ لأن الولد مظنة المحبة والشفقة، فَنِيْطَ الحكم به، وإنْ تخلَّف في بعض الأفراد، وقد يحب الشخص بعض أقاربه، أو أصدقائه أكثر من محبة ولده، ومع ذلك فلم يَرِدْ ترتيب هذا الأمر على موت القريب والصديق، ولا على موت الأب، والأم، لكن في معجم الطبرانيّ الأوسط بإسناد ضعيف، عن سهل بن حُنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يكن له فَرَط لم يدخل الجنة، إلا تصريدًا، قال رجل: يا رسول الله ما لكلنا فَرَط، قال: أوَ ليس من فَرَط أحدكم أن يَفْقِد أخاه المسلم؟ ".
(1)
هذا الحديث أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" 5/ 309، فقال:
(2845)
- حدّثنا محمد بن عوف، نا محمد بن إسماعيل، نا أبي، عن ضمضم، عن شريح بن عبيد، قال أبو زيد الهوزنيّ: قال شراحيل المنقريّ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من توفي له أولاد في سبيل الله تعالى، دخل بفضل حسناتهم الجنة"، قال: فأتيته أستفتيه، فقال: نعم، وما أنفقت على ولدك فهو صدقة لك، قال: فلعله يكثر عندك، فيجزيك.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2361.
وقوله: "تصريدًا" بالصاد المهملة؛ أي: قليلًا، وأصله السقي دون الريّ، ومنه: صَرَد له العطاء: قلّله.
10 -
(العاشرة):
قد يقال: إن أولاد الأولاد في ذلك كالأولاد، سواءٌ كانوا أولاد البنين، أوأولاد البنات؛ لِصِدْق الاسم عليهم، وقد يقال: لا يلتحقون في ذلك بهم؛ لأن إطلاق اسم الأولاد عليهم ليس حقيقةً، وقد يفرَّق بين أولاد البنين، فيكونون كالأولاد، وأولاد البنات، فلا يكونون كالأولاد، قال الشاعر [من الطويل]:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا
…
بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ
وقد يقال: ينزّلون منزلتهم عند فَقْدهم، لا مع وجودهم، وقد ذكر أصحابنا الشافعية أنه لو وقف على أولاده، ولم يكن له إلا أولاد أولاد حُمل اللفظ عليهم، فإن كان له أولاد، وأولاد أولاد، ففي دخول أولاد الأولاد ثلاثة أوجه: أصحها: لا يدخلون، والثاني: يدخلون، والثالث: يدخل أولاد البنين، دون أولاد البنات، وقد ورد تقييد الأولاد بكونهم من صُلبه، وذلك يخرج أولاد الأولاد، فإن صحّ ذلك فهو قاطع للنزاع، فروى أبو يعلى الموصليّ في "مسنده"، والطبرانيّ في "معجمه الكبير" عن عثمان بن أبي العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد استَجَنّ بجُنّة حصينة من النار رجل سلف بين يديه ثلاثة من صُلْبه في الإسلام"، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، أبو شيبة القرشيّ، وهو ضعيف، وفي "مسند أحمد"، و"معجم الطبراني الكبير" عن عقبة بن عامر، مرفوعًا:"من أثكل ثلاثة من صُلبه، فاحتسبهم على الله عز وجل في سبيل الله تعالى، وجبت له الجنة"، إسناد الطبراني لا بأس به
(1)
، وفي إسناده أحمد بن لهيعة.
قال الجامع عفا الله عنه: الذي يظهر لي عدم إلحاق أولاد الأولاد بالأولاد؛ لتنصيص هذه الأحاديث بالصُّلب، وهي وإن تُكلّم في بعضها، إلا أن مجموعها يتقوّى، ولا سيّما رواية الطبرانيّ، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(1)
وقال الهيثميّ: رجال الطبرانيّ ثقات.
11 -
(الحادية عشرة):
قد عرفت أن في رواية مسلم تقييد ذلك بالاحتساب، وورد ذلك في عدة أحاديث. قال في "النهاية": والاحتساب في الأعمال الصالحات، وعند المكروهات هو البِدار إلى طلب الأجر وتحصيله، وبالتسليم، والصبر، أو باستعمال أنواع البِرّ، والقيام بها على الوجه المرسوم فيها؛ طالبًا للثواب المرجوّ منها، والاحتساب من الْحَسْب كالاعتداد من الْعَدّ، وإنما قيل لمن ينوي بعمله وجه الله: احتسبه؛ لأن له حينئذ أن يعتدّ عمله، فجُعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتدّ به. انتهى.
وفي "معجم الطبرانيّ" عن جابر بن سمرة مرفوعًا: "من دَفَن ثلاثةً من الولد، فصبر عليهم، واحتسبهم وجبت له الجنة"، وفي "معجم الصحابة"
(1)
لابن قانع عن حوشب بن طِخْمَة
(2)
مرفوعًا: "من مات له ولد، فصبر، واحتسب، قيل له: ادخل الجنة بفضل ما أخذنا منك"، فمن يَحمل المطلق على المقيَّد يَخص ذلك بالصابر دون الجازع، وقد مشى على ذلك أبو العباس القرطبيّ، وقد تقدم ذلك عنه في مطلق المصائب، لكن تقدم في "معجم الطبرانيّ" عن ابن مسعود مرفوعًا:"من مات له ولد ذَكر، أوأنثى، سَلَّم، أو لم يُسَلِّم، رَضِي، أو لم يَرْضَ، صَبَر، أو لم يصبر، لم يكن له ثواب إلا الجنة"، وإسناده ضعيف، كما تقدم.
وفي "معجم الطبرانيّ الكبير" أيضًا من رواية إبراهيم بن عبيد، عن ابن عمر: "أن رجلًا من الأنصار كان له ابن، يروح إذا راح إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عنه، فقال: أتحبه؟ فقال: يا نبي الله نعم، فأحبك الله كما أحبه، فقال: إن الله تعالى أشدّ لي حبًّا منك له، فلم يلبث أن مات ابنه ذاك، فراح إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أقبل عليه بَثّه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجزعت؟ قال:
(1)
وقع في الأصل: وفي معجم الطبراني لابن قانع، وهو غلط، والتصحيح من "الدرّ المنثور"، و"عمدة القاري".
(2)
في "الإصابة": حوشب ذو ظُليم، هو ابن طُخْية، وقيل: ابن طِخْمة، وقيل غير ذلك.
نعم، قال: أوَ ما ترضى أن يكون ابنك مع ابني إبراهيم، يلاعبه تحت ظل العرش؟ قال: بلى يا رسول الله"، إبراهيم بن عبيد أخرج له مسلم، لكن قال عبد المؤمن الدمياطيّ الحافظ: لا نعرف له سماعًا عن ابن عمر، قلت
(1)
: ولا يحتاج على طريقة مسلم إلى ثبوت معرفة السماع، لكن الذهبيّ في "الميزان" قال: إن إبراهيم هذا لا يُعرف، فاقتضى أن الذي عنده غير الذي أخرج له مسلم.
وإنما ذكرنا هذا الحديث لكون هذا الرجل اعترف للنبيّ صلى الله عليه وسلم بالجزع، وذلك ينافي الصبر، لكن قد يقال: ليس فيه الحكم له بشيء، وإنما فيه البشرى لابنه المتوفَّى، وقد يقال: لا يختص ذلك بحالة الصبر؛ لأن أكثر الأحاديث ليس فيها هذا التقييد، وبعض الأحاديث المقيّدة بالصبر ضعيفة، وأما التقييد في رواية مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، بقوله:"فتحتسبه" فلعله إنما ذَكر ذلك للنساء لقلة الصبر عندهنّ، وكثرة الجزع فيهنّ، مع إظهار التفجيع بفعل ما لا يجوز، من كثير منهنّ، فرَدَعهنّ عن ذلك بهذا الكلام؛ ليحصل انكفافهنّ عما يتعاطَيْنه من الأمور المحرّمة، فكان فائدة هذا التقييد ارتداعهنّ عن ذلك، لا تخصيص الحكم به.
وقد عُرف في الأصول أن شَرْط العمل بالمفهوم أن لا يظهر له فائدة سوى تخصيص الحكم به.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الذي يظهر أن الاحتساب شرط لحصول الأجر المذكور؛ لصحّة حديث مسلم، وما قدّمناه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ؛ إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة"، رواه البخاريّ، فقد قيّده بالاحتساب، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد، وبالله تعالى التوفيق.
12 -
(الثانية عشرة):
قوله: "لمسلم": يقتضي أن الكافر ليس كذلك، وهو واضح، فان الكافر ليس من أهل الأجور، لكن لو مات له الأولاد في حال الكفر، ثم أسلم بعد
(1)
القائل هو وليّ الدين رحمه الله.
ذلك، هل ينفعه ما مضى من موتهم في زمن كُفْره، أو لا بدّ أن يكون موتهم في حالة إسلامه؟ قد يدلّ للأول قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه:"أسلمت على ما أسلفت من خير" لَمّا قال له: أرأيت أمورًا كنت أتحنث بها في الجاهلية، هل لي فيها من شيء؟ لكن جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام، فالرجوع إليها أَولى، فتقدّم في الفائدة العاشرة حديث عثمان بن أبي العاص، وفي "مسند أحمد"، و"معجم الطبراني الكبير" عن أبي ثعلبة الأشجعيّ قال:"قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام، أدخله الله الجنة"، وفي "مسند أحمد" أيضًا عن امرأة يقال لها: رجاء: "قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءته امرأة بابن لها، فقالت: يا رسول الله ادع الله لي فيه بالبركة، فإنه قد تُوُفّي لي ثلاثة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمنذ أسلمت؟ " قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جُنّة حصينة"، فقال لي رجل: اسمعي يا رجاء ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وفي "مسند أحمد"، وغيره عن عمرو بن عَبَسة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من وُلِدَ له ثلاثة أولاد في الإسلام، فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث، أدخله الله الجنة برحمته إياهم"، وفي هذا الحديث زيادة على ما تقدّم، وهي أن تكون ولادتهم في الإسلام، ومقتضاه أنهم لو وُلدوا له قبل أن يسلم، وماتوا بعد إسلامه لم يكن له هذا الثواب.
13 -
(الثالثة عشرة):
هذا الحديث لا يتناول السِّقْط؛ لأنه ليس ولدًا، لكن ورد ذِكر السقط في أحاديث.
وفي "سنن ابن ماجه" من رواية أسماء بنت عابس بن ربيعة، عن أبيها، عن عليّ رضي الله عنه مرفوعًا:"إن السقط ليُراغم ربه؛ إذا أَدخل أبويه النارَ، فيقال: أيها السقط المراغم ربه أدخل أبويك الجنة، فيجرّهما بسَرَره، حتى يدخلهما الجنة"، وأسماءُ هذه لا تُعرف، قاله صاحب "الميزان".
وفي "سنن ابن ماجه" أيضًا عن معاذ، مرفوعًا:"والذي نفسي بيده، إن السقط ليجرّ أمه بسَرَره إلى الجنة؛ إذا احتسبَتْه"، وفيه يحيى بن عبيد الله لا يُعرف، قاله الذهبيّ أيضًا.
وفي "معجم الطبرانيّ الأوسط" عن سهل بن حُنيف مرفوعًا: "تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط يَظَلّ مُحبنطئًا بباب الجنة، يقال له: ادخل يقول: حتى يدخل أبواي"، وفيه موسى بن عُبيدة الرَّبَذيّ ضعيف
(1)
، ورَوَى ابن حبان في "الضعفاء" نحوه، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، وفيه:"فيقال: وأنت، وأبواك" قال ابن حبان: منكر، لا أصل له من حديث بهز.
14 -
(الرابعة عشرة):
اختَلَف العلماء في معنى قوله: "إلا تحلّة القسم" فقال الجمهور: المراد قَسَم الله تعالى على ورود جميع الخلق النار، فيَرِدُها بقَدْر ما يبرّ الله تعالى قَسَمه، ثم ينجو، ثم اختَلَف هؤلاء في هذا القَسَم"، فقال أبو عبيد، والبخاري، والجمهور: هو في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}، والقسم مقدَّر؛ أي: والله إنْ منكم إلا واردها، قال الخطابيّ: وقد جاء ذلك في حديث مرفوع، رواه زَبّان بن فايد، عن سهل بن معاذ بن أنس الجهنيّ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حَرَس ليلةً وراء عورة المسلمين تطوعًا، لم ير النار تمسّه إلا تحلة القَسَم، قال الله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)} ، قال ابن بطال: وفي هذا ما يقطع بصحة قول أبي عبيد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: في قول ابن بطّال: وفي هذا ما يقطع إلخ نظر لا يخفى، فكيف يقطع والحديث المذكور ضعيف؛ لأن في سنده زبّان بن فائد، وهو ضعيف؟ فتنبّه.
وقال الخطابيّ: القَسَم في قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)} .
وقال الحسن، وقتادة: حتمًا مقضيًّا قَسَمًا واجبًا، وحُكي عن ابن مسعود، فهذه ثلاثة أقوال في موضع القَسَم من هذه الآية، وقال ابن قتيبة: ليس المراد بذلك قَسَمًا حقيقيًّا، ولكن هذا اللفظ يعبَّر به عن تقليل المدّة،
(1)
وأخرجه الطبرانيّ أيضًا في "المعجم الكبير" وفيه عليّ بن الربيع، وهو ضعيف، قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" 4/ 258.
فتقول العرب: ما يقيم فلان عنه إلا تحلة القَسَم؛ أي: مدّة يسيرة، وما ينام العليل إلا كتحليل الأليّة، شَبّهوا تلك المدة اليسيرة بمدة قول القائل: إن شاء الله؛ لأنه يحلل بها القَسَم، فيقول القائل: والله لا أكلم زيدًا إن شاء الله، فلا ينعقد يمينه، فالمراد: أنه إن دخل النار يكون مُكثه فيها قليلًا كمدة تحليل اليمين، ثم ينجيه الله تعالى.
15 -
(الخامسة عشرة):
فيه على قول الجمهور دلالةٌ على العموم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ، وأن الآية تتناول المسلمين والكفار، وقال بعضهم: الخطاب في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} راجع إلى الكفار فقط، ويكون فيه الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور، وهو رواية عن ابن عباس، وهذا الحديث يردّه، وبقية الآية صريح في الردّ عليه أيضًا بقوله تعالى:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)} .
16 -
(السادسة عشرة):
اختَلَف العلماء في المراد بالورود المذكور في الآية على أقوال:
(أحدها): أن المرور على الصراط، وهو جِسْر منصوب على جهنم، حُكي عن ابن مسعود، وكعب الأحبار، وهو رواية عن ابن عباس، ويدل له ما رواه الطبرانيّ في "معجمه الكبير" عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، لم يَرِدْ على النار إلا عابر سبيل"؛ يعني: الجواز على الصراط.
(الثاني): أنه الوقوف عندها، حكاه النوويّ في "شرح مسلم".
(الثالث): أنهم يدخلونها حقيقةً، ولكن تكون عليهم بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم الخليل؛ حين أدخل نار النمرود، حُكي عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
(الرابع): أن المراد بورودها: ما يصيبهم في الدنيا من الْحُمَّى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى من فيح جهنم"، حكاه ابن بطال عن مجاهد، واستشهد بحديث أبي هريرة قال:"عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه مريضًا كان يتوعك، فقال: أبشر، فإن الله يقول: هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن؛ لتكون حظه من نار الآخرة".
17 -
(السابعة عشرة):
الجمهور على حَمْل الاستثناء في قوله: "إلا تحلّة القَسَم" على ظاهره، وتأوله بعضهم، قال القاضي عياض: وقد يَحْتَمِل قوله: "إلا تحلة القسم"؛ أي: لا تمسه قليلًا، ولا مثل تحلّة القسم، كما قيل في قوله: إلا الفرقدان؛ أي: ولا الفرقدان. انتهى.
والبيت الذي أشار إليه هو:
وَكُلُّ أَخٍ مَفَارِقُهُ أَخُوهُ
…
لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلَّا الْفَرْقَدَانِ
وهذا المعنى لـ "إلا"، وهو كونها عاطفة بمنزلة الواو في التشريك في اللفظ والمعنى، ذَكَره الأخفش، والفراء، وأبو عبيدة، وجعلوا منه قوله تعالى:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [البقرة: 150]، وقوله تعالى:{لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ} [النمل: 10، 11]؛ أي: ولا الذين ظلموا، ولا من ظلم، وتأولهما الجمهور على الاستثناء المنقطع، وهذا المعنى إن صحّ فهو مرجوح، فالحمل على المعنى الراجح المعروف متعيِّن، والله أعلم.
18 -
(الثامنة عشرة):
استُدِلَّ بتعليله صلى الله عليه وسلم دخول الآباء الجنة برحمة الأولاد، وشفاعتهم في آبائهم، على أن أولاد المسلمين في الجنة، وهو قول جمهور العلماء، وشذت الجبرية، فجعلوهم تحت المشيئة، وهذه السُّنَّة تردّ عليهم، وأجمع على ذلك من يُعْتَدّ به، وعليه يدل قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} الآية، ويستحيل أن يكون الله تعالى يغفر لآبائهم بفضل رحمته إياهم، وهم غير مرحومين.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها: "تُوُفِّي صبيّ من الأنصار، فقلت له: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء، ولم يدركه"، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق للجنة أهلًا خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم".
والجواب عنه من وجهين:
(أحدهما): لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها
دليل قاطع على ذلك، كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله:"إني لأراه مؤمنًا، فقال: أو مسلمًا. . ." الحديث.
(الجواب الثاني): أنه صلى الله عليه وسلم لعله لم يكن حينئذ اطَّلَع على أنهم في الجنة، ثم أُعلِم بعد ذلك، ومحل الخلاف في غير أولاد الأنبياء، قال المازريّ: أما أولاد الأنبياء -صلوات الله، وسلامه عليهم- فالإجماع متحقَّق على أنهم في الجنة.
19 -
(التاسعة عشرة):
استَدَلَّ أبو عبيد على أن من حلف على فعل شيء، أنه تبرّ يمينه بفعل القليل منه، وبه قال الجمهور، وحكاه القاضي عياض، وقال: وهو خلاف مذهب مالك. انتهى ما كتبه الحافظ وليّ الّدين العراقيّ رحمه الله
(1)
، وهو وإن طال إلا أنه بحثٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6677]
(2634) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ فِي هَذَا الإِسْنَاد، بِمِثْلِ مَعْنَاهُ، وَزَادَا جَمِيعًا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:"ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
- (مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزَّمِن، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) هو: محمد بن بشّار بن عثمان الْعَبْديّ، أبو بكر البصريّ، بُندار، ثقةٌ [10](ت 252) وله بضع وثمانون سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) الْهَذليّ البصريّ المعروف بِغُندر، ثقةٌ صحيح الكتاب، إلا أن فيه غفلةً [9](ت 3 أو 194)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 242 - 252.
4 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنْبريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
5 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
6 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل أربعة أبواب.
7 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.
[تنبيه]: قال في "العمدة": أبو حازم، بالحاء المهملة، والزاي، هو سلمان الأشجعيّ الكوفيّ مولى عَزّة -بالعين المهملة المفتوحة، وبالزاي المشدّدة- الأشجعية، تُوُفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله. قال يحيى بن معين: هو كوفيّ ثقةٌ، روى له الجماعة، وربما يَشتبه بأبي حازم سلمة بن دينار الزاهد، فإنهما تابعيان، مشتركان في الكنية، قال أبو عليّ الجيانيّ: أبو حازم رجلان، تابعيان، يُكنيان بأبي حازم، يرويان عن الصحابة، فالأول: الأشجعيّ، اسمه سَلْمان، يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، روى عنه الأعمش، ومنصور، وفضيل بن غزوان، والثاني: سلمة بن دينار الأعرج، يروي عن سهل بن سعد، روى عنه مالك، والثوريّ، وابن عيينة، وسليمان بن بلال.
قال العينيّ رحمه الله: ومن الفرق بينهما أن الأول تُوُفّي في خلافة عمر بن عبد العزيز، والثاني تُوفي في سنة خمس وثلاثين ومائة، والأول لم يرو في البخاريّ ومسلم إلا عن أبي هريرة، والثاني لم يرو في الصحابة إلا عن سهل بن سعد، وكلاهما ثقتان، فالأول وثّقه يحيى، والثاني وثّقه أبو حاتم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ومن الفرق بينهما أن الأول كوفيّ، والثاني مدنيّ، والأول من الطبقة الثالثة، والثانى من الطبقة الخامسة، والله تعالى أعلم.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ)؛ أي: لم يبلغوا سنّ التكليف الذي يُكتب فيه
(1)
"عمدة القاري" 2/ 135.
الحنث؛ أي: الإثم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "لم يبلغوا الحنث"؛ أي: الإثم، والمعنى: أنهم ماتوا قبل بلوغهم التكليف، فلم يُكتب عليهم الآثام، ويقال: معناه لم يبلغوا زمان التكليف، وسنّ العقل، والحنث، بكسر الحاء: الإثم، قال الجوهريّ: يقال: بلغ الغلام الحنث؛ أي: المعصية والطاعة، وقال الصغانيّ: وبلغ الغلام الحنث؛ أي: بلغ مبلغًا جرى عليه القلم بالطاعة، والمعصية، والحنث: الزنا أيضًا، والحنث: الرجوع في اليمين، والحنث: العدل الكبير الثقيل، والحنث: الميل من باطل إلى حقّ، أو من حقّ إلى باطل.
فإن قلت: لم خَصّ الحُكم بالذين لم يبلغوا الحنث، وهم صغار؟.
قلت: لأن قلب الوالدين على الصغير أرحم، وأشفق، دون الكبير؛ لأنَّ الغالب على الكبير عدم السلامة من مخالفة والديه، وعقوقهم. انتهى بتصرّف
(2)
.
[تنبيه]: رواية شعبة عن عبد الرحمن ابن الأصبهانيّ، ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1192)
- حدّثنا مسلم، حدّثنا شعبة، حدّثنا عبد الرحمن بن الأصبهانيّ، عن ذكوان، عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النساء قلن للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يومًا، فوعظهنّ، وقال:"أيما امرأة مات لها ثلاثة من الولد، كانوا لها حجابًا من النار -قالت امرأة: واثنان؟ - قال: واثنان".
وقال شريك عن ابن الأصبهانيّ: حدّثني أبو صالح، عن أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال أبو هريرة: لم يبلغوا الحنث.
قال في "الفتح": قوله: "وقال شريك إلخ" وَصَله ابن أبي شيبة عنه، بلفظ:"حدّثنا عبد الرحمن بن الأصبهانيّ، قال: أتاني أبو صالح يُعَزِّيني عن ابن لي، فأخذ يحدّث عن أبي سعيد، وأبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما من امرأة تَدْفِن ثلاثة أفراط، إلا كانوا لها حجابًا من النار"، فقالت امرأة: يا رسول الله قَدَّمتُ اثنين، قال: "واثنين"، ولم تسأله عن الواحد، قال أبو
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 182.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 135.
هريرة: "من لم يبلغ الحنث"، وهذا السياق ظاهره أن هذه الزيادة عن أبي هريرة موقوفةٌ، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أن أبا هريرة وأبا سعيد اتفقا على السياق المرفوع، وزاد أبو هريرة في حديثه هذا القيد، وهو مرفوع أيضًا، وقد تقدم في "العلم" من طريق أخرى عن شعبة بالإسناد الأول، وقال في آخره:"وعن ابن الأصبهانيّ: سمعت أبا حازم، عن أبي هريرة، وقال: ثلاثة لم يبلغوا الحنث"، وهذه الزيادة في حديث أبي سعيد من رواية شريك، وفي حِفظه نَظَر، لكنها ثابتة عند مسلم من رواية شعبة عن ابن الأصبهانيّ.
وقال في "الفتح": وعبَّر بقوله: "ولد" ليتناول الواحد فصاعدًا، وإن كان حديث الباب قد قَيَّد بثلاثة، أو اثنين، لكن وقع في بعض طرقه ذِكر الواحد، ففي حديث جابر بن سمرة مرفوعًا:"من دَفَن ثلاثة، فصبر عليهم، واحتَسَب، وجبت له الجنة، فقالت أم أيمن: أو اثنين؟ فقال: أو اثنين، فقالت: وواحد، فسكت، ثم قال: وواحد"، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، وحديثِ ابن مسعود، مرفوعًا:"من قدم ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، كانوا له حصنًا حصينًا من النار، قال أبو ذر: قَدَّمت اثنين، قال: واثنين، قال أُبَيّ بن كعب: قدّمت واحدًا، قال: وواحدًا"، أخرجه الترمذيّ، وقال: غريب، وعنده من حديث ابن عباس، رفعه:"من كان له فرطان من أمتي أدخله الله الجنة، فقالت عائشة: فمن كان له فرط، قال: ومن كان له فرط .. . ." الحديث.
قال الحافظ: وليس في شيء من هذه الطرق ما يصلح للاحتجاج، بل وقع في رواية شريك التي عَلّق البخاريّ إسنادها:"ولم يسأله عن الواحد"، وروى النسائيّ، وابن حبان من طريق حفص بن عبيد الله، عن أنس أن المرأة التي قالت: واثنان، قالت بعد ذلك: يا ليتني قلت: وواحد.
وروى أحمد من طريق محمود بن لبيد، عن جابر، رفعه:"من مات له ثلاث من الولد، فاحتسبهم دخل الجنة"، قلنا: يا رسول الله واثنان؟ قال محمود: قلت لجابر: أراكم لو قلتم: وواحد، لقال: وواحد، قال: وأنا أظن ذلك.
قال الحافظ: وهذه الأحاديث الثلاثة أصحّ من تلك الثلاثة، لكن روى البخاريّ من حديث أبي هريرة، مرفوعًا: "يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن
عندي جزاء؛ إذا قبضت صفيّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة"، وهذا يَدخُل فيه الواحد، فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6678]
(2635) - (حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي السَّلِيل، عَنْ أَبِي حَسَّانَ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُ قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَان، فَمَا أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: قَالَ: نَعَمْ "صِغَارُهُمْ دَعَامِيصُ الْجَنَّة، يَتَلَقَّى أَحَدُهُمْ أَبَاهُ -أَو قَالَ: أَبَويْهِ -فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ- أَو قَالَ: بِيَدِهِ -كَمَا آخُدُ أَنَا بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ هَذَا، فَلَا يَتَنَاهَى - أَو قَالَ: فَلَا يَنْتَهِي - حَتَّى يُدْخِلَهُ اللهُ، وَأَبَاهُ الْجَنَّةَ"، وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدثانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصّنعانيّ البصريّ، ثقة [10](245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
3 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيمي، أبو المعتمر البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو السَّلِيلِ) -بفتح السين المهملة، وكسر اللام - ضُرَيب -بالتصغير، آخره موحّدة -ابن نُقَير -بِنون، وقاف، مصغّرًا - الْقَيسيّ، الْجُرَيريّ -بضم الجيم، مصغّرًا - ثقةٌ [6](م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 44/ 1885.
6 -
(أَبُو حَسَّانَ) خالد بن غَلّاق -بِالْغين المعجمة، على الصحيح- الْقَيْسيّ -بالقاف، والسين المهملة- ويقال: العيشيّ - بالعين المهملة، والشين المعجمة - البصريّ، ثقة
(2)
[3].
(1)
"الفتح" 3/ 690 - 691.
(2)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": مقبول، فقد روى عنه اثنان، ووثقه ابن سعد، =
رَوى عن أبي هريرة حديث الدَّعَاميص، وعنه سعيد الجريريّ، وأبو السليل ضُريب بن نُقير، قال ابن سعد: كان ثقةً قليل الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن ماكولا في علاق: يقال فيه: بِالْعين المهملة، والأول أكثر؛ أي: كونه بِالْغين المعجمة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود في "القدر"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: كون أبي حسّان هنا هو خالد بن غَلّاق هو الذي نصّ عليه في "التهذيبين"، لكن ذَكر في "تحفة الأشراف" احتمال أن يكون هو الأعرج، ونصّه: أبو حسّان عن أبي هريرة قيل: اسمه مسلم بن عبد الله الأجرد، وقيل: خالد بن علاق. انتهى
(1)
.
والأعرج هو: الأجرد البصريّ، مشهور بكنيته، واسمه مسلم بن عبد الله، صدوقٌ، رُمي برأي الخوارج، قُتل سنة ثلاثين ومائة [4](خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 36/ 1424.
قال الجامع عفا الله عنه: كون أبي حسّان هنا هو خالد بن غلّاق هو الصواب؛ لأنه صرّح باسمه: أحمد في "مسنده"، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، ونصّ أحمد:
(10330)
- حدّثنا إسماعيل، عن الْجُريريّ، عن خالد بن غلاق العيشيّ
(2)
، قال: نزلتُ على أبي هريرة، قال: ومات ابن لي، فوَجَدت عليه، فقلت: هل سمعت من خليلك شيئًا، نطيّب بأنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، سمعته قال:"صغارهم دَعاميص الجنة"
(3)
.
وقال البخاريّ رحمه الله:
(145)
- حدّثنا عياش، قال: حدّثنا عبد الأعلى، قال: حدّثنا سعيد
= وابن حبّان، وأخرج له مسلم هنا، ولم يتكلّم أحد فيه، فهو ثقة دون شكّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"تحفة الأشراف" 10/ 434.
(2)
تصحَّف في النسخة إلى العبشيّ، والصواب: العيشيّ، ويقال: القيسيّ.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 488.
الْجُريريّ، عن خالد العيشيّ
(1)
، قال:"مات ابن لي، فوجدت عليه وَجْدًا شديدًا، فقلت: يا أبا هريرة، ما سمعت من النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا. . ." الحديث
(2)
.
و"أَبُو هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل، والأداء منه، ومنهما، كما أسلفته غير مرّة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ثلاثة اشتهروا بالكنية، أبو السَّلِيل، وأبو حسّان، وأبو هريرة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي حَسَّانَ) خالد بن غلّاق العيشيّ؛ أنه (قَالَ: قُلْتُ لأَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه: (إِنَّهُ) هذا الضمير المُسمّى بضمير الشأن، قال. ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية"
(3)
:
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"
للابْتِدَا أَو نَاسِخَاتِهِ انْتَسَبْ
…
إِذَا أَتَى مُرْتَفِعًا أَوِ انْتَصَبْ
وَإِنْ يَكُنْ مَرْفُوعَ فِعْلٍ اسْتَتَرْ
…
حَتْمًا وَإِلَّا فَتَرَاهُ قَدْ ظَهَرْ
فِي بَابِ "إِنَّ" اسْمًا كَثِيرًا يُحْذَفُ
…
كَـ "إِنَّ مَنْ يَجْهَلْ يَسَلْ مَنْ يَعْرِفُ"
وَجَائِزٌ تَأْنِيثُهُ مَتْلُوَّ مَا
…
أُنِّثَ أَو تَشْبِيهَ أُنْثَى أَفْهَمَا
وَقَبْلَ مَا أُنِّثَ عُمْدَةً فَشَا
…
تَأْنِيثُهُ كـ "إِنَّهَا هِنْدٌ رَشَا"
أي: إن الشأن والحال (قَدْ مَاتَ لِيَ ابْنَانِ) لم يسمَّيا، (فَمَا) استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء (أَنْتَ مُحَدِّثِي عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحَدِيثٍ تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا) بضمّ حرف المضارعة، وتشديد الياء، من التطييب، و"أنفسَنَا" منصوب على المفعوليّة؛ أي: تجعل أنفسنا بسببه طيّبة، منشرحة، راضية بقضاء ربّها، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح حرف المضارعة، وكسر الطاء، من طاب يطيب، وعليه
(1)
وقع في النسخة: العبسيّ، والعيشيّ بالياء والشين المعجمة.
(2)
"الأدب المفرد" 1/ 63.
(3)
"الكافية الشافية" لابن مالك رحمه الله 1/ 233 - 234 بنسخة الشرح.
فـ "أنفسُنا" مرفوع على الفاعليّة. (عَنْ مَوْتَانَا) متعلّق بـ "تطيّب"، (قَالَ) أبو حسّان:(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (نَعَمْ) أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ("صِغَارُهُمْ)؛ أي: صغار أولاد المسلمين (دَعَامِيصُ الْجَنَّةِ") هو بالدال والعين والصاد المهملات، واحدهم دُعْمُوص، بضم الدال؛ أي: صغار أهلها، وأصل الدّعموص: دُوَيِّبَة تكون في الماء، لا تفارقه؛ أي: إن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "دعاميص الجنة"؛ أي: صغار أهلها، وهو بفتح الدال: جمع دُعموص بضمها: الصغير، وأصله دُويّبة صغيرة، يَضْرِب لونها إلى سواد، تكون في الغدران، لا تفارقها، شَبَّهَ الطفلَ بها في الجنة؛ لِصِغره، وسرعة حركته، وكثرة دخوله وخروجه، وقيل: هي سمكة صغيرة، كثيرة الاضطراب في الماء، فاستعيرت هنا للطفل؛ يعني: هم سَيّاحون في الجنة، دَخّالون في منازلها، لا يُمنعون، كما لا يُمنع صبيان الدنيا الدخولَ على الْحُرَم، وقيل: الدُّعموص: اسم للرجل الزّوّار للملوك، الكثير الدخول عليهم والخروج، ولا يَتوقف على إذن، ولا يبالي أين يذهب من ديارهم، شُبّه طفل الجنة به؛ لكثرة ذهابه في الجنة، حيث شاء، لا يُمنع من أي مكان منها. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "دعاميص الجنة" هي جمع دُعموص، وهو دويّبةٌ تغوص في الماء، والجَمْع دَعاميص، ودَعَامص، قال الأعشى:
فَمَا ذَنْبُنَا إِنْ جَاشَ بَحْرُ ابْنِ عَمِّكُمْ
…
وَبَحْرُكَ سَاجٍ لَا يُوَارِي الدَّعَامِصَا
ودُعَيميص الرمل: اسم رجل كان داهيًا، يُضرَب به المثل، يقال: هو دُعيميص هذا الأمر؛ أي: عالم به.
قلت
(3)
: هذا الذي وجدته في كتب اللغة، وأصحاب الغريب أن الدُّعموص دويبةٌ، تغوص في الماء، ولا يليق هذا المعنى بالدعاميص المذكور في هذا الحديث، إلا على معنى تشبيه صغار الجنة بتلك الدُّويبة في صغرها،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 182.
(2)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 4/ 194.
(3)
القائل هو القرطبيّ رحمه الله.
أو في غوصهم في نعيم الجنة، وكل ذلك فيه بُعْدٌ، وقد سمعت من بعض من لقيته؛ أن الدُّعموص يراد به: الآذن على الْمَلِك، المتصرِّف بين يديه، وأنشد لأمية بن أبي الصَّلْت [من مجزوّ الكامل المرفّل]
(1)
:
دُعْمُوصِ أَبْوَابِ الْمُلُو
…
كِ وَجَائِبٍ لِلْخَرْقِ فَاتِحْ
قلت: وهذا يناسب ما ذكره في هذا الحديث. انتهى كلام القرطبيّ
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "دعاميص الجنة": جمع دُعْموص، فُسِّر بالدُّويبة التي تكون في مستنقع الماء، قال: والدُّعموص: الدّخّال في الأمور؛ أي: إنهم سيّاحون في الجنة، دَخّالون في منازلها، لا يُمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يُمنعون من الدخول على الْحُرَم، ولا يَحتجب منهم أحد. انتهى
(3)
.
(يَتَلَقَّى)؛ أي: يستقبل (أَحَدُهُمْ أَبَاهُ - أَو قَالَ: أَبَوَيْهِ)"أو" للشكّ من الراوي، ولم يتبيّن لي من هو؟ أي: هل قال: "أباه"، أو قال:"أبويه". (فَيَأْخُذُ بِثَوْبِهِ)؛ أي: بثوب أبيه، (أَو قَالَ: بِيَدِهِ) "أو" هنا أيضًا للشكّ، (كَمَا آخُذُ) بالمدّ مضارع أخذتُ، وقوله:(أَنَا) ضمير منفصل مؤكّد للضمير المستتر في "آخُذُ"، (بِصَنِفَةِ ثَوْبِكَ) بفتح الصاد المهملة، وكسر النون، هو طرفه، ويقال لها أيضًا: صنيفةٌ، وقال القرطبيّ رحمه الله: هو بكسر النون، قال الجوهريّ: صَنِفة الإزار -بكسر النون-: طَرَفه، وهو جانبه الذي لا هُدْب له، ويقال: هي حاشية الثوب أيُّ جانب كان، وقال غيره: صَنِفة الثوب، وصنيفته: طرفه. انتهى.
وقوله: (هَذَا) بدل، أو عطف بيان لـ "ثوبك"، (فَلَا يَتَنَاهَى)؛ أي: لا يترك أحدهم أباه، وقوله:(أَو قَالَ)"أو" للشكّ؛ أي: أو قَالَ الراوي بدلًا من "يتناهى": (فَلَا يَنْتَهِي) وهو بمعنى "يتناهى"، (حَتَّى يُدْخِلَهُ)؛ أي: أحدَهم (اللهُ، وَأَبَاهُ) معطوف على الضمير المنصوب، ويَحْتَمِل أن تكون الواو معيّة؛ أي: مع أبيه، (الْجَنَّةَ") جعلنا الله سبحانه وتعالى من أهلها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا يتناهى إلخ"؛ أي: ما يترك ذلك، يقال:
(1)
أي: زيد فيه سبب خفيف، فصار متفاعلاتن.
(2)
"المفهم" 6/ 641.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 120، و"لسان العرب" 7/ 36.
انتهى، وتناهى، وأنهى: بمعنى ترك، وهكذا الرواية المشهورة:"أبويه" بالتثنية، وعند ابن ماهان:"أباه" بالباء الموحّدة، وعند عبد الغافر:"وإيّاه" بالياء من تحتها، وكلٌّ له وجه واضح.
وفي هذا الحديث ما يدلّ على أن صغار أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو الذي تدلّ عليه أخبار صحيحة كثيرة، وظاهر قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الطور: 21]، وقد أنكر بعض العلماء الخلاف فيهم، وهذا فيما عدا أولاد الأنبياء، فإنَّه قد تقرّر الإجماع على أنهم في الجنة، حكاه أبو عبد الله المازريّ، وإنما الخلاف في أولاد المشركين على ما يأتي إن شاء الله تعالى. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: فيه أن أطفال المسلمين في الجنة، وهو إجماع من يُعْتَدّ به، ولا عبرة بخلاف المجبّرة، ولا حجة لهم في خبر:"الشقيّ من شَقِي في بطن أمه"؛ لأنه عامّ مخصوص، بل الجمهور على أن أطفال الكفار فيها. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَفِي رِوَايَةِ سُوَيْدٍ)؛ أي: ابن سعيد شيخه الأول، (قَالَ) سليمان التيميّ والد المعتمر:(حَدَّثَنَا أَبُو السَّلِيلِ) مصرحًا بالتحديث، بدل قول محمد بن عبد الأعلى في روايته:"عن أبي السليل" بالعنعنة، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [47/ 6678 و 6679](2635)، و (أحمد) في "مسنده"(10628)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 191)، و (البيهقي) في "الكبرى"(6934)، و (ابن عبد البر) في "التمهيد"(18/ 114)، والله أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6679]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْني: ابْنَ سَعِيدٍ - عَنِ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا تُطَيِّبُ بِهِ أَنْفُسَنَا عَنْ مَوْتَانَا؟ قَالَ: نَعَمْ).
(1)
"المفهم" 6/ 642.
(2)
"فيض القدير" 4/ 194.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليَشكُريّ، أبو قدامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ، مأمونٌ، سُنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.
و"التيميّ" هو سليمان بن طَرْخان المذكور قبله.
[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان عن سليمان التيميّ هذه لم أجدها إلا عند الحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال"، أخرجها بسنده، فقال: وأخبرنا أبو إسحاق بن الدرجيّ، قال: أنبأتنا حفصة بنت محمد بن أبي زيد بن حمكا، قالت: أخبرنا زاهر بن طاهر الشحاميّ، قال: أخبرنا أبو سعد الكنجروذيّ، قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرجسيّ، قال: حدّثنا أبو قُدامة، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، عن التيميّ، عن أبي السَّلِيل، عن أبي حسّان، قال: قلت لأبي هريرة: إنه تُوُفّي ابنان لي، فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا تطيّب به أنفسنا عن موتانا؟ قال:"نعم، صغارهم دعاميص الجنة، يَلْقَى أحدهم أبويه، أو قال: أباه، فيأخذ بصنفة ثوبه، كما أخذتُ أنا بصنفة ثوبك، وقال كذا، فلا يفارقه حتى يدخله الله الجنة". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6680]
(2636) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ - قَالُوا: حَدَّثَنَا حَفْصٌ - يَعْنُونَ ابْنَ غِيَاثٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّهِ طَلْقِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللهَ لَهُ، فَلَقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً، قَالَ:"دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ:"لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ"، قَالَ عُمَرُ مِنْ بَيْنِهِمْ: عَنْ جَدِّه، وَقَالَ الْبَاقُونَ: عَنْ طَلْقٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجَدَّ).
(1)
"تهذيب الكمال" 8/ 149.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرِ) الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بَن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.
3 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق النخعيّ القاضي الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) -بكسر الغين المعجمة، وآخره مثلثة- ابن طَلْق -بفتح الطاء، وسكون اللام- أبو حفص الكوفيّ، ثقةٌ رُبّما وَهِم [10](ت 222)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.
5 -
(طَلْقُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) النَّخَعيّ، أبو غِيَاث الكوفيّ، تابعيّ كبيرٌ، ثقة
(1)
[3].
رَوَى عن شُريح القاضي، وأبي زرعة بن عمرو بن جرير، وعنه حفيده حفص بن غياث، وسفيان الثوريّ، وشريك القاضي، ومحمد بن جابر السحيميّ.
ونسبه ابن خلفون، فقال: طلق بن معاوية بن الحارث بن ثعلبة، كان معاوية ممن شَهِد القادسية، وفي "الأربعين" للجوزقيّ عن عمر بن حفص بن طلق بن معاوية بن الحارث بن ثعلبة، وكان ممن شَهِد بدرًا.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبيّ في "الكاشف": ثقةٌ مُقِلّ
(2)
.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائي، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.
6 -
(أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرِ) بن عبد الله الْبَجَليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
والباقيان ذُكرا في الباب.
(1)
هذا أولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، ووثقه ابن حبّان، والذهبيّ، وأخرج له مسلم، ولم يطعن فيه أحد، فهو ثقة، والله تعالى أعلم.
(2)
"الكاشف" 1/ 516.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: أَتَتِ امْرَأَةٌ) لم تُسمَّ، (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ لَهَا)؛ أي: بولد لها صغير، (فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ ادْعُ اللهَ لَهُ)؛ أي: للصبيّ حتى يشفى من مرضه، ففي الرواية التالية:"جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ يَشْتَكِي، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِ". (فَلَقَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً) وفي رواية النسائيّ: "وقد قدّمت ثلاثةً"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم مستفهمًا لها:("دَفَنْتِ ثَلَاثَةً؟ ") بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أدفنت ثلاثة أولاد؟ (قَالَتْ) المرأة: (نَعَمْ) دفنت قبله ثلاثةً، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("لَقَدِ احْتَظَرْتِ)؛ أي: امتنعتِ بمانع وثيق، وأصلُ الحظر: المنع، وأصل الْحِظَار بكسر الحاء، وفتحها: ما يُجعل حول البستان، وغيره من قضبان، وغيرها، كالحائط، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال المجد رحمه الله: حَظَرَ الشيءَ، وعليه: مَنَعَه، وحَجَرَه، واتَّخَذ حَظِيرةً، كاحتَظَرَ، والمالَ حبسه فيها، والشيءَ حازه، والْحَظِيرةُ: جَرِينُ التمر، والمحيطُ بالشيء، خشبًا، أو قصبًا. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: والاحتظار فِعلُ الحِظَار، أراد: لقد احتميت بحمى عظيم من النار، يَقِيك حَرَّها، ويؤمّنك دخولها. انتهى
(3)
.
(بحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ") -بفتح الحاء المهملة، وكسرها-: هو ما يُجعل حول البستان، من شجر، ونحوه، وقال المجد رحمه الله: الْحِظَارَ، ككتاب: الحائط، ويُفتَحُ، وما يُعمَل للإبل من شجر، ليقيها البرد. انتهى
(4)
. وقوله: (مِنَ النَّارِ) متعلق بـ "احتظرت".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لقد احتظرت بحظار شديد من النار"؛ أي: امتنعت، وأصل الحظر: المنع، والحظار: ما يُدار بالبستان من عِيدان، وقَصَب، سمّي بذلك؛ لأنه يمنع من يريد الدخول، والحظيرة، والمحظور منه،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 183.
(2)
"القاموس المحيط" ص 301.
(3)
"النهاية" 1/ 404.
(4)
"القاموس المحيط" ص 301.
والحظار هنا: هو الحجاب المذكور في الحديث الآخر. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ عُمَرُ)؛ أي: ابن حفص شيخه الرابع، (مِنْ بَيْنِهِمْ)؛ أي: من بين المشايخ الأربعة الذين رووا عن حفص بن غياث، (عَنْ جَدِّهِ)؛ أي: عبّر بلفظ: "حدّثنا أبي عن جدّه"، وهو طلق بن معاوية، (وَقَالَ الْبَاقُونَ)؛ أي: الثلاثة، وهم: ابن أبي شيبة، وابن نُمير، والأشجّ، (عَنْ طَلْقٍ)؛ أي: قالوا: حدثنا حفص، عن طلق، (وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجَدَّ)؛ أي: لم يقولوا: "عن جدّه".
وغَرَض المصنّف رحمه الله بهذا بيان الاختلاف الواقع بين شيوخه، وإن كان الاختلاف في الحقيقة لفظيًّا؛ إذ الجدّ هو طلق، فلا اختلاف في الحقيقة، وإنما هو لبيان الألفاظ التي أدّوا بها ما تحمّلوه، وسمعه منهم المصنّف، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [47/ 6680 و 6681](2636)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(144 و 147)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 26) وفي "الكبرى"(2000)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 419 و 536)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 213)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 36)، و (تمام) في "الفوائد"(2/ 39)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 67) و"شُعب الإيمان"(7/ 132)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6681]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ طَلْقِ بْنِ مُعَاوِيةَ النَّخَعِيِّ أَبِي غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ يَشْتَكِي، وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْه، قَدْ دَفَنْتُ ثَلَاثَةً، قَالَ: "لَقَدِ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنَ النَّارِ"، قَالَ زُهَيْرٌ: عَنْ طَلْقٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكُنْيَةَ).
(1)
"المفهم" 6/ 642.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الرّيّ، وقاضيها، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ: عَنْ طَلْقٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْكُنْيَةَ) بيّن به أن زهير بن حرب قال في روايته: حدّثنا جرير، عن طلق، ولم يذكر كنية طلق، وهو أبو غياث بِالْغين المعجمة، ثم التحتانيّة، آخره ثاء مثلّثة.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
[خاتمة]: نختم بها الباب:
(اعلم): أن الإمام ابن عبد البرّ قد ذكر اختلاف أهل العلم في الأطفال، أحببت ختم الباب به تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد:
قال رحمه الله: وأما اختلاف العلماء في الأطفال، فقالت طائفة: أولاد الناس كلهم، المؤمنين منهم والكافرين إذا ماتوا أطفالًا صغارًا ما لم يبلغوا في مشيئة الله عز وجل يصيّرهم إلى ما شاء من رحمة، أو عذاب، وذلك كلّه عدلٌ منه، وهو أعلم بما كانوا عاملين.
وهو قول جماعة من أهل الأثر، منهم حماد بن زيد، وهو الذي يدلّ عليه "موطأ مالك"، وهذا القول نسبه أهل الكلام إلى أهل الأخبار.
وحجة من ذهب إلى هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأطفال؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
وحديث أنس بن مالك رحمه الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله عز وجل وَكّل بالرحم مَلَكًا، يقول: يا رب نطفة، يا رب عَلَقة، يا رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه، قال: أذكرٌ أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ وما الرزق؟ وما الأجل؟ فيُكتب في بطن أمه".
وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: "أن ابن آدم يمكث في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يصير عَلَقة أربعين يومًا، ثم يصير مُضغَةً أربعين يومًا، ثم يبعث الله إليه ملَكًا، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ وما الأجل؟ وما الأثر؟ فيوحي الله، ويكتب الملَك، حتى إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع -أو قَيْد ذراع- فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيعمل بعمل أهل النار،
فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع -أو قيْد ذراع- فيغلب عليه الكتاب الذي سبق، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة".
وقد رَوَى هذا المعنى جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد رُوي عن ابن عباس بالأسانيد الصحاح عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين، فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين".
ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وطرقه عن أبي هريرة صحاح ثابتة، وهي أثبت من جهة النقل من كل ما رُوي في هذه الأبواب.
ومن جهة من ذهب إلى هذا المذهب أيضًا حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار؛ ليصلي عليه، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا، ولم يدركه ذنب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أو غير ذلك يا عائشة، إن الله تعالى خلق الجنة، وخلق لها أهلها، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلها، وخلقهم في أصلاب آبائهم"
(1)
.
وهو حديث رواه طلحة بن يحيى، وفضيل بن عمرو، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة، وليس ممن يُعتمد عليه عند بعض أهل الحديث.
ومن حجتهم أيضًا: حديث ابن عباس، عن أُبيّ بن كعب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الغلام الذي قتله الخضر طُبع كافرًا"
(2)
.
وهذا خبر لم يروه عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن أُبَيّ مرفوعًا إلا رقبة بن مَسْقلة، وعبد الجبار بن عباس الهمدانيّ، ولم يرفعه شعبة، والثوريّ.
وهو مذهب ابن عباس في كتابه إلى نَجْدة الحروريّ، حيث قال له: وأما الغلمان، فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من الغلام، فاقتلهم.
على أنه قد رُوي عن عكرمة وقتادة؛ أن الذي قَتَله الخضر رجلٌ، وكان
(1)
حديث صحيح. رواه النسائيّ 4/ 57.
(2)
حديث صحيح. رواه أبو داود 4/ 227.
قاطع طريق، وهذا خلاف ما يعرفه أهل اللغة في لفظ الغلام؛ لأن الغلام عندهم هو الصبي الصغير، يقع عليه عند بعضهم اسم الغلام من حين يَفهم إلى سبع سنين، وعند بعضهم يسمى غلامًا، وهو رضيع إلى سبع سنين، ثم يصير يافعًا، ويَفَاعًا إلى عشر سنين، ثم يصير حَزَوّرًا إلى خمس عشرة سنة، واختُلف في تسمية منازل سِنِّه بعد ذلك إلى أن يصير هِمًّا فانيًا كبيرًا مما لا حاجة بنا إلى ذكره.
وقال آخرون، وهم الأكثر: أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار في المشيئة.
ومن حجتهم: حديث أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من المسلمين من يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهم الله وإياه الجنة بفضل رحمته، يجاء بهم يوم القيامة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: لا حتى يدخل آباؤنا، فيقال لهم: ادخلوا أنتم وآباؤكم بفضل رحمتي".
ومعلوم أن من أدركته الرحمة من أجل غيره، وشَفَع فيه غيره أنه قد كان مرحومًا قبله، وكان أرفع حالًا، وأسلم ممن شَفَع فيه.
وحديث شعبة عن معاوية بن قُرّة، عن أبيه، أن رجلًا جاء بابنه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أتحبه؟ " فقال: أحبك الله يا رسول الله كما أحبه، فتُوُفّي الصبي، ففقده النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"أين فلان؟ " قالوا: يا رسول الله تُوُفّي ابنه، ثم دخل الرجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما ترضى أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنة، إلا جاء يسعى، يفتحه لك؟ " فقالوا: يا رسول الله أله وحده، أم لنا كلنا؟ قال:"بل لكم كلكم"
(1)
.
رواه يحيى القطان، وابن مهديّ، ومحمد بن جعفر، وعلي بن الجعد، وغيرهم عن شعبة، عن معاوية بن قرّة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وحديث البراء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في ابنه إبراهيم: "إن له مرضعًا في الجنة".
وحديث أبي هريرة؛ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "صغارهم دعاميص الجنة".
(1)
حديث صحيح.
وحديث أبي هريرة أيضًا: "أولاد المسلمين في جبل تكفلهم سارة وإبراهيم، فإذا كان يوم القيامة دَفعوهم إلى آبائهم"
(1)
.
واحتجوا أيضًا بما رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)} [المدثر: 38، 39] قال: هم أطفال المسلمين.
وقال آخرون: حُكم الأطفال كلهم كحكم آبائهم في الدنيا والآخرة، منهم مؤمنون بإيمان آبائهم، وكافرون بكفر آبائهم، فاطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار في النار.
وحجتهم حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أطفال الكفار: "هم من آبائهم".
قال: وهذا عندي لا حجة فيه؛ لأنه إنما ورد في أحكام الدنيا أنهم إن أصيبوا في التبييت والغارة، فلا قَوَد فيهم، ولا دية، وقد نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْل النساء والصبيان في دار الحرب.
واحتجوا أيضًا بحديث الشعبيّ عن علقمة بن قيس، عن سلمة بن يزيد الجعفيّ، قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمنا ماتت في الجاهلية، وكانت تَقْري الضيف، وتَصِلُ الرحم، وتفعل، وتفعل، فهل ينفعها من عملها شيء؟ قال:"لا"، قلنا: إن أمنا وَأَدت أختًا لنا في الجاهلية، لم تبلغ الحنث، فهل ذلك نافع أختنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الوائدة، والموؤودة في النار، إلا أن تُدرِك الوائدة الإسلام، فيُغفر لها".
وروى بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد الألهانيّ، قال: سمعت عبد الله بن أبي قيس يقول: سمعت عائشة تقول: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذراريّ المؤمنين؟، فقال:"هم مع آبائهم" قلت: فلا عمل، قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين". وسألته عن ذراري المشركين؟ فقال: "هم مع آبائهم"، قلت: فلا عمل، قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين".
(1)
أخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد" 18/ 115.
وقد روي هذا الحديث عن عائشة أيضًا من وجهين غير هذا، هما أضعف من هذا.
وفي حديث أبي عَقِيل يحيى بن المتوكل، عن بُهَيّة، عن عائشة زيادة في أولاد المشركين أنه قال:"والذي نفسي بيده، لئن شئت لأسمعتك تضاغيهم في النار".
وأبو عَقِيل ضعيف متروك.
قال: ولو صح في هذا الباب شيء احتَمَل أن يكون خصوصًا لقوم من المشركين، ويدل على ذلك أيضًا قوله:"لئن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار".
وهذا لا يكون إلا فيمن مات، وصار في النار، على أن التخصيص ليس له حظّ من النظر، والأَولى بأهل النظر أن يُعارضوا هذه الآثار بما هو أقوى مجيئًا منها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالشهادة للأطفال كلهم بالجنة.
وقد احتجّ من ذهب إلى أن أطفال الكفار في النار، وأطفال المسلمين في الجنة بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، وقوله عز وجل لنوح عليه السلام:{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، فلما قيل لنوح ذلك، وعُلم أنهم لا يؤمنون، وأنهم على كفرهم يموتون دعا عليهم بهلاكهم جميعًا، فقال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26، 27].
قال: وهذا عندي لا حجة فيه؛ لأنه في قوم بأعيانهم يلدون الفجار والكفار، ولا يصح الفجور والكفر إلا ممن تجري عليه الأقلام، ويلحقه التكليف.
وقال آخرون: أولاد المسلمين، وأولاد الكفار إذا ماتوا صغارًا في الجنة.
وقال بعضهم: هم خَدَم أهل الجنة؛ يعني: أولاد المشركين خاصّةً، ثم عن خنساء امرأة من بني صريم، عن عمها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الأنبياء
في الجنة، والشهداء في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة"
(1)
.
ومن حديث عائشة قالت: "سألت خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين؟ فقال: "هم مع آبائهم"، ثم سألته بعد ذلك، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، ثم سألته بعد ذلك، فنزلت: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال: "هم على الفطرة، وهم في الجنة".
وفي حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عن اللاهين من ذرية البشر، أن لا يعذبهم، فأعطانيهم".
قال أبو عمر: إنما قيل للأطقال: اللاهين؛ لأن أعمالهم كاللهو واللعب، من غير عَمد، ولا قَصْد، من قولهم: لهيت عن الشيء: إذا لم أعتقده، كقوله تعالى:{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 3].
ومن حديث سلمان قال: أطفال المشركين خَدَم أهل الجنة.
وقد رُوي ذلك مرفوعًا من حديث أنس
(2)
.
وروى أبو رجاء العطارديّ عن سمرة بن جندب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الحديث الطويل حديث الرؤيا، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:"وأما الرجل الطويل الذي في الروضة، فإنه إبراهيم عليه السلام، وأما الوِلدان حوله فكل مولود يولد على الفطرة، قال: فقيل: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين"
(3)
.
وفي رواية أخرى عن أبي رجاء، عن سمرة، في هذا الحديث:"والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم، والصبيان حوله أولاد الناس"، فهذا يقتضي ظاهره عموم جميع الناس.
وآثار هذا الباب معارضة لحديث: "الوائدة، والموؤودة في النار"، وما كان مثله.
(1)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في "سننه" 3/ 15: عن حسناء بنت معاوية الصريمية، قالت: ثنا عمي قال: قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: من في الجنة؟ قال: "النبيّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والوئيد في الجنة".
(2)
صحيح موقوفًا على أنس رضي الله عنه. راجع: "السلسلة الصحيحة" 3/ 452.
(3)
رواه البخاريّ.
وإذا تعارضت الآثار وجب سقوط الحكم بها، ورجعنا إلى أن الأصل أنه لا يعذَّب أحد إلا بذنب؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71].
وآيات القرآن كثيرة في هذا المعنى، على أني أقول: إن الله ليس بظلّام للعبيد، ولو عذّبهم لم يكن ظالمًا لهم، ولكن جَلّ من تسمى بالغفور الرحيم الرؤوف الحكيم، أن تكون صفاته إلا حقيقة، لا إله إلا هو، لا يُسأل عما يَفعل وهم يُسألون.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وإذا تعارضت الآثار وجب إلخ" فيه نَظَر لا يخفى؛ لأنك قد علمت أن الآثار التي تدلّ على أنهم في النار ضعاف، فكيف يعارض بها ما في "صحيح البخاريّ":"وأولاد المشركين"، هذا غريب من ابن عبد البرّ، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
وقال آخرون: يُمتحنون في الآخرة.
واحتجّوا بحديث أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهالك في الفترة، والمعتوه، والمولود، قال:"يقول الهالك في الفترة: لم يأت كتاب، ولا رسول، ثم تلا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134]، ويقول المعتوه: يا رب لم تجعل لي عقلًا أعقل به خيرًا ولا شرًّا، قال: ويقول المولود: رب لم أُدرك العقل والعمل، قال: فترفع لهم نار، فيقال لهم: رِدُوها، وادخلوها، قال: فَيَرِدها، أو يدخلها، من كان في عِلم الله سعيدًا لو أدرك العمل، ويُمسك عنها من كان في عِلم الله شقيًّا لوأدرك العمل، قال: فيقول الله عز وجل: إياي عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم".
وقد رُوي عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل معنى هذا الحديث.
وقد روي أيضًا من حديث معاذ بن جبل مثله، ومعناه.
وهي كلها أسانيد ليست بالقويّة، ولا يقوم بها حجة، وأهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب؛ لأن الآخرة دار جزاء، وليست دار عمل، ولا ابتلاء، وكيف يكلَّفون دخول النار، وليس ذلك في وُسْع المخلوقين؟ والله لا يكلف
نفسًا إلا وسعها، ولا يخلو أمر من مات في الفترة من أن يموت كافرًا، أو غير كافر؛ إذا لم يكفر بكتاب الله، ولا رسول، فإن كان قد مات كافرًا جاحدًا، فإن الله قد حرَّم الجنة على الكافرين، فكيف يُمتحنون؟ وإن كان معذورًا بأن لم يأته نذير، ولا أُرسل إليه رسول، فكيف يؤمر أن يقتحم النار، وهي أشدّ العذاب؟ والطفل، ومن لا يعقل أحرى بأن لا يُمتحن بذلك.
وإنما أدخل العلماء في هذا الباب النظر؛ لأنه لم يصحّ عندهم فيه الأثر، وبالله التوفيق، لا شريك له. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الحقّ قول من قال: إن أولاد الناس في الجنّة، مسلميهم، وكافريهم؟ لقوّة الحجة في ذلك، ولا سيّما قصّة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس، فقد أخرجه البخاريّ، والله تعالى أعلم.
(48) - (بَابٌ إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا حَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ)
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6682]
(2637) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاء، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاء، قَالَ: ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْض، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاء، إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ في الأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي.
(1)
"الاستذكار" 3/ 109 - 114.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ) سبحانه وتعالى (إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا) من عباده، وفيه إثبات صفة المحبّة لله تعالى، وليس كما قال المؤوّلون:"إذا أحب عبدًا"؛ أي: رضي عنه، وأراد به خيرًا، وهداه، ووفّقه
(1)
، فإن هذا تفسير باللازم، والحقّ أن صفة المحبّة ثابتة لله تعالى.
ومن التأويل: قول النوويّ في "شرحه": قال العلماء: محبة الله تعالى لعبده هي إرادته الخير له، وهدايته، وإنما مه عليه، ورحمته، وبغضه: إرادة عقابه، أو شقاوته، ونحوه، وحبّ جبريل والملائكة يَحْتَمِل وجهين: أحدهما: استغفارهم له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم، والثاني: أن محبتهم على ظاهرها، المعروف من المخلوقين، وهو ميل القلب إليه، واشتياقه إلى لقائه، وسبب حبهم إياه كونه مطيعًا لله تعالى، محبوبًا له، ومعنى يوضع له القبول في الأرض؛ أي: الحب في قلوب الناس، ورضاهم عنه، فتميل إليه القلوب، وترضى عنه، وقد جاء في رواية:"فتوضع له المحبة". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "إرادته الخير له إلخ" هذا هو التأويل، والحقّ أن المحبّة ثابتة على ظاهرها على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، وقوله:"قال العلماء" يريد به علماء الخلف المؤوِّلين لأحاديث الصفات، لا علماء السلف الذين يُمرّونها على ظواهرها، ويَكِلون علم كيفيّتها إلى الله سبحانه وتعالى، وأما تفسير محبّة الملائكة باحتمالين، فالاحتمال الثاني هو الأرجح، وهو مستلزم للاحتمال الأول، فإنهم إذا أحبوا العبد، واشتاقوا إليه، ومالت قلوبهم إليه دعوا له، واستغفروا له، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: وقع في بعض طرق الحديث بيان سبب هذه المحبة، والمراد بها، ففي حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد ليلتمس مرضاة الله، ولا يزال بذلك، فيقول الله عز وجل لجبريل: إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني، ألا وإن رحمتي عليه، فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، ويقولها حملة العرش، ويقولها مَن حولهم، حتى يقولها أهل السماوات السبع، ثم تَهبِط له
(1)
"فيض القدير" 2/ 204.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 183 - 184.
إلى الأرض"، رواه أحمد، والطبرانيّ
(1)
.
ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ في "الرقاق"، ففيه:"وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه. . ." الحديث.
(دَعَا) وفي لفظ: نادى (جِبْرِيلَ)؛ (فَقَالَ) الله تعالى في ندائه: (إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّهُ) وفي لفظ "فأحببه" بالفاء، (قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ) عليه السلام (ثُمَّ يُنَادِي) جبريل (فِي السَّمَاءِ) وفي رواية: "في أهل السماء"، وفي حديث ثوبان:"أهل السماوات السبع"، (فَيَقُولُ) في ندائه:(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبُّوهُ) بهمزة القطع، (فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ) ووقع في حديث ثوبان:"فيقول جبريل: رحمة الله على فلان، وتقوله حملة العرش". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ) زاد الطبرانيّ في حديث ثوبان: "ثم يهبط إلى الأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96] "، وثبتت هذه الزيادة في آخر هذا الحديث عند الترمذيّ، وابن أبي حاتم، من طريق سهيل، عن أبيه، وقد أخرج مسلم إسنادها في الحديث التالي، ولم يَسُق اللفظ.
ومعنى "يوضع له القبول في الأرض": أنه يحصل له في قلوب أهل الأرض مودّة، ويزرع له فيها مهابة، فتحبه القلوب، وترضى عنه النفوس، من غير تودّد منه، ولا تعرّض للأسباب التي تُكتسب لها مودات القلوب، من قرابة، أو صداقة، أو اصطناع، وإنما هو منحة منه تعالى ابتداءً اختصاصًا منه لأوليائه، بكرامة خاصّة، كما يقذف في قلوب أعدائه الرعب، والهيبة؛ إعظامًا له، وإجلالًا لمكانه، قال بعضهم: وفائدة ذلك أن يستغفر له أهل السماء والأرض، وينشأ عندهم هيبته، وإعزازهم له، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].
وقيل: معنى "يوضع له القبول في الأرض"؛ أي: الحب في قلوب
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 279، و"المعجم الأوسط" للطبرانيّ 2/ 57.
الناس، ورضاهم عنه، فتميل إليه القلوب، وترضى عنه، فذلك قول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} .
قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": يُخبر تعالى أنه يَغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي تُرضي الله تعالى لمتابعتها الشريعة المحمدية، يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً، ومودةً، وهذا أمر لا بدّ منه، ولا محيد عنه. انتهى
(1)
.
(وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا)؛ أي: كرهه، وفيه إثبات صفة البغض لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، (دَعَا)؛ أي: نادى الله سبحانه وتعالى (جِبْرِيلَ) عليه السلام (فَيَقُولُ) في ندائه: (إِنِّي أُبْغِضُ) بضمّ الهمزة مضارع أَبغض رباعيًّا، (فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ) بفتح الهمزة؛ لكونها همزة قطع، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ) عليه السلام (ثُمَّ يُنَادِي) جبريل عليه السلام (فِي أَهْلِ السَّمَاءِ) وهم الملائكة، (إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ) بقطع الهمزة، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ) بفتح الموحّدة، والمدّ: شدّة البغض، كما قال الفيّوميّ
(2)
. (فِي الأَرْضِ") ونحو هذا في حديث أبي أمامة عند أحمد، وفي حديث ثوبان عند الطبرانيّ:"وإن العبد يعمل بسخط الله، فيقول الله: يا جبريل إن فلانًا يستسخطني. . ." فذكر الحديث على منوال الحب أيضًا، وفيه:"فيقول جبريل: سخطة الله على فلان"، وفي آخره مثل ما في الحبّ:"حتى يقوله أهل السماوات السبع، ثم يهبط إلى الأرض".
والمعنى: أنه يُبغضه أهل الأرض دون أي سبب، وإنما لِمَا كتب الله عز وجل في قلوبهم من بُغضه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يوضع له القبول في الأرض": يعني: بالقبول محبة قلوب أهل الذين والخير له، والرضا به، والسرور بلقائه، واستطابة ذِكره في حال غَيبته، كما أجرى الله تعالى عادته بذلك في حق الصالحين من سلف هذه الأئمة، ومشاهير الأئمة، والقول في البغض على النقيض من القول في الحبّ. انتهى
(3)
.
(1)
"تفسير ابن كثير" 3/ 140.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 56.
(3)
"المفهم" 6/ 644.
وقال في "الفتح": قوله: "يوضع له القبول" هو من قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37]؛ أي: رضيها، قال المطرّزيّ: القبول مصدر لم أسمع غيره بالفتح، وقد جاء مفسّرًا في رواية القعنبي:"فيوضع له المحبة"، والقبول: الرضا بالشيء، وميل النفس إليه، وقال ابن القطاع: قَبِل الله منك قبولًا، والشيء، والهدية، أُخذت، والخبرُ صَدَق، وفي "التهذيب": عليه قبول: إذا كانت العين تَقبله، والقَبول من الريح الصّبَا؛ لأنها تستقبل الدَّبُور، والقبول أن يقبل العفو، والعافية، وغير ذلك، وهو اسم للمصدر، أُمِيْت الفعل منه، وقال أبو عمرو بن العلاء: القبول بفتح القاف لم أسمع غيره، يقال: فلان عليه قَبول: إذا قَبِلته النفس، وتقبّلتُ الشيءَ قبولًا، ونحوُه لابن الأعرابيّ، وزاد: قَبِلته قبولًا بالفتح، والضمّ، وكذا قَبِلت هديته عن اللحيانيّ، قال ابن بطال: في هذه الزيادة ردّ على ما يقوله القدرية: إن الشرّ من فعل العبد، وليس من خَلْق الله. انتهى.
والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة، والميل إليه، والرضا عنه
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [48/ 6682 و 6683 و 6684](2637)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3209) و"الأدب"(6040) و"التوحيد"(7485)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3161)، و (مالك) في "الموطّأ"(3/ 128)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2436)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19673)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 341 و 413 و 509 و 514)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 366)، و (ابن حبّان) في "صحيح"(364 و 365)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 161)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 258)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3470)، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 594 - 595، كتاب "الأدب" رقم (6040).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات صفة محبّة الله تعالى عبده على ما يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل.
2 -
(ومنها): أن إعلام الله تعالى جبريل عليه السلام، وإعلام جبريل الملائكة عليهم السلام بمحبة العبد المذكور تنويه به، وتشريف له في ذلك الملأ الكريم، وليحصل من المنزلة المنيفة على الحظ للعبد العظيم، وهذا من نحو قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى حيث قال:"أنا مع عبدي إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن محبة قلوب الناس علامة محبة الله تعالى، ويؤيده ما تقدّم في "الجنائز":"أنتم شهداء الله في الأرض".
قال في "الفتح": والمراد بمحبة الله: إرادة الخير للعبد، وحصول الثواب له.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم أن تفسير المحبّة بإرادة الخير تفسير باللازم، والحقّ أن صفة المحبّة تعالى على ظاهرها ثابتة لله تعالى على ما يليق بجلال الله تعالى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ومحبة الملائكة استغفارهم له، وإرادتهم خير الدارين له، ومَيْل قلوبهم إليه؛ لكونه مطيعًا لله، محبًّا له، ومحبة العباد له: اعتقادهم فيه الخير، وإرادتهم دَفْع الشر عنه، ما أمكن، وقد تُطلق محبة الله تعالى للشيء على إرادة إيجاده، وعلى إرادة تكميله، والمحبة التي في هذا الباب من القبيل الثاني، وحقيقة المحبة عند أهل المعرفة: من المعلومات التي لا تُحَدّ، وإنما يعرفها من قامت به وجدانًا، لا يمكن التعبير عنه.
والحب على ثلاثة أقسام: إلهيّ، ورُوحانيّ، وطبيعيّ، وحديث الباب يشتمل على هذه الأقسام الثلاثة، فحب الله العبد حب إلهيّ، وحب جبريل، والملائكة له حب رُوحانيّ، وحب العباد له حب طبيعيّ. انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 6/ 643.
(2)
"الفتح" 13/ 594 - 595، كتاب "الأدب" رقم (6040).
4 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله
(1)
في قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]: قال أهل العلم بتأويل القرآن، منهم ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير: يُحبّهم، ويحببهم إلى الناس، وقالوا في قول الله عز وجل:{وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]: حبّبتك إلى عبادي.
وقال الربيع بن أنس: إذا أحب الله عز وجل عبدًا ألقى له مودّة في قلوب أهل السماء، ثم ألقى مودة في قلوب أهل الأرض.
وقال كعب الأحبار: والله ما استقرّ لعبد ثناء في أهل الأرض حتى يستقرّ ثناء في أهل السماء.
وقال عبد الله بن مسعود: لا تَسَلْ أحدًا عن وُدّه لك، وانظر ما في نفسك له، فإن في نفسه مثل ذلك:"إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارَفَ منها ائتلف، وما تناكَر منها اختلف".
ورُوي عن أبي الدرداء أنه قال: إياكم ومَن تُبغِضه قلوبكم، وأَخَذه منصور الفقيه الشافعيّ، فقال:
شَاهِدِي مَا فِي مُضْمَرِي
…
مِنْ صِدْقِ وُدِّي مُضْمَرُكْ
فَمَا أَرِيدُ وَصْفَهُ
…
قَلْبُكَ عَنِّي يُخْبِرُكْ
وقيل: إنها لداود بن منصور، وهي أصحّ، والله أعلم.
ومن حديث هذا المعنى قول صالح بن عبد العزيز:
لَا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرِهِمْ
…
مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ من داء يلقين
(2)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6683]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- وَقَالَ قُتَيْبَةُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- (ح) وَحَدَّثنَاهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍ والأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (ح) وَحَدَّثَنِي
(1)
"الاستذكار" 8/ 450.
(2)
هكذا النسخة، وفيها ركاكة، والذي في "الإشراف في منازل الأشراف" 1/ 112 لابن أبي الدنيا:
لَا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي نُفُوسِهِمُ
…
مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي
هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ -وَهُوَ ابْن أَنَس- كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الْإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ البُغْضِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عَبْدٍ القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقة [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرِو الأَشْعَثِيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سهل الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
3 -
(عَبْثَرُ) -بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثلثة- ابن القاسم الزُّبيديّ -بالضم- أبو زُبيد كذلك، الكوفيّ، ثقةٌ [8](ت 179)(ع) تقدمة في "الإيمان" 48/ 305.
4 -
(الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّب) بن رافع الكاهليّ، ويقال: التَّغْلِبيّ الكوفيّ، ثقةٌ رُبّما وَهِم [6].
رَوَى عن أبيه، وعكرمة، وعطاء، وعمرو بن مرّة، وفضيل بن عمرو الفُقيميّ، وغيرهم.
وروى عنه عبد الواحد بن زياد، وزهير بن معاوية، وجرير بن عبد الحميد، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقة مأمون، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وقال ابن عمار: ثقة يُحتج بحديثه، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال العجليّ: ثقة، وأبوه من خيار التابعين، وقال يعقوب بن سفيان: كوفيّ ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقة، وقال الحاكم: له أوهام في الإسناد والمتن، وقال الأزديّ: في بعض حديثه نظر، وتعقبه النباتي بأنه كان يجب أن يذكر ما فيه النظر، وفي "الميزان": قال بعضهم: كان يَهِمُ كثيرًا، وهو قول لا يُعبأ به.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه.
5 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) -بفتح الهمزة، وسكون التحتانية- السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](253) وله ثلاث وثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
6 -
(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ)؛ أي: كل من هؤلاء الأربعة: يعقوب بن عبد الرحمن القاريّ، وعبد العزيز الدراورديّ، والعلاء بن المسيَّب، ومالك بن أنس رووا هذا الحديث عن سهيل بن أبي صالح بهذا السند السابق، وهو: عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "السنن الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(7747)
- أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: ثنا يعقوب، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب الله عبدًا دعا جبريل، فقال: إني أحببت فلانًا، فأحبوه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل أهل السماء: إن الله يحب فلانًا، فيحبوه، ثم يضع له القبول في الأرض"، وفي البغض مثل ذلك". انتهى
(1)
.
وأما رواية عبد العزيز الدراورديّ عن سهيل، فقد ساقها الترمذيّ في "جامعه" بسند المصنّف أيضًا، فقال:
(3161)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانًا، فاحبه، قال: فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}، وإذا أبغض الله عبدًا نادى جبريل: إني أبغضت فلانًا، فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى
(2)
.
وأما رواية العلاء بن المسيَّب عن سهيل، فساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الأوسط"، فقال:
(5001)
- حدّثنا محمد بن النضر الأزديّ، قال: حدّثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا زهير بن معاوية، عن العلاء بن المسيَّب، أن سهيل بن أبي صالح حدّثه، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحبّ عبدًا قال لجبريل: إني أحب عبدي فلانًا، فأحبه، فيحبه جبريل، ويقول لأهل السماء: إن الله يحب عبده فلانًا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 416.
(2)
"جامع الترمذيّ" 5/ 317.
الأرض"، لم يرو هذا الحديث عن العلاء بن المسيب إلا زهير. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الطبرانيّ: لم يرو هذا الحديث إلخ فيه نَظَر لا يخفى، فقد رواه عبثر بن القاسم عن مسلم في هذا الإسناد، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وأما رواية مالك عن سهيل، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(365)
- أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاريّ، قال: أنبأنا أحمد بن أبي بكر، عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا أحب الله العبد قال لجبريل: قد أحببت فلانًا، فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحب فلانًا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد"، قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6684]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: كُنَّا بِعَرَفَةَ، فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيز، وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِم، فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْه، فَقُلْتُ لأَبِي: يَا أَبتِ إِنِّي أَرَى اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيز، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: لِمَا لَهُ مِنَ الْحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاس، فَقَالَ: بِأَبِيكَ أَنْتَ سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنْ سُهَيْلٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ) -بكسر الجيم، بعدها شين معجمة مضمومة- المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدَير، ثقةٌ فقيهٌ مصنفٌ [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي، و"عمرو الناقد" هو: ابن محمد بن بُكير.
(1)
"المعجم الأوسط" 5/ 179.
(2)
"صحيح ابن حبان" 2/ 86.
وقوله: (فَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الأمويّ الخليفة الراشد المتوفّى في رجب سنة (101 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 46.
وقوله: (وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن عمر بن عبد العزيز كان أميرًا على الموسم؛ أي: موسم الحجّ، وهو مُجْتَمعه، قاله المجد.
وقال المرتضى في "التاج": مَوْسِم الحج، كمَجْلِس: مجتمعه، وكذا مَوْسِم السُّوق، والجمع: مواسم، قال اللحيانيّ: وإنما سُمّيت مواسم؛ لاجتماع الناس، والأسواق فيها، وفي "الصحاح": سُمّي بذلك؛ لأنه مَعْلَمٌ يُجتَمَع إليه، قال الليث: وكذلك كانت أسواق الجاهلية. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَقَامَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى عمر بن عبد العزيز، قال سهيل:(فَقُلْتُ لأَبِي) أبي صالح ذكوان، (يَا أَبَتِ إِنِّي أَرَى اللهَ يُحِبُّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيز، قَالَ) أبو صالح: (وَمَا ذَاكَ؟)؛ أي: وما سبب قولك هذا؟، قال سهيل:(قُلْتُ: لِمَا لَهُ مِنَ الْحُبِّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ)؛ أي: لأني رأيت الناس يحبّونه، فاستدللت بذلك على ما قلته، (فَقَالَ) له أبوه:(بِأَبِيكَ) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف، وهو خبر مقدّم لقوله:(أَنْتَ)؛ أي: أنت مفديّ بأبيك، وإنما فداه بنفسه تعجّبًا مما قاله حيث وافق حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع، فأثنى عليه، وَفَدَاه بنفسه.
وقوله: (سَمِعْتُ) بضمّ التاء للمتكلّم، (أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وجملة "سمعتُ إلخ" مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، فكأنه قال له: لِمَ قلت: بأبي أنت؟ فقال: لأني سمعت أبا هريرة رضي الله عنه.
[تنبيه]: يوجد في بعض النسخ: "سمعتَ" مضبوطًا بفتح التاء ضَبْط قلم، فإن صحّ يكون المعنى على الاستفهام، كأنه قاله له: هل أنت سمعت أبا هريرة يتحدّث إلخ؛ يعني: أن هذا الذي قلتَه كأنك سمعته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومعلوم أن سهيلًا لم يلق أبا هريرة، وإنما قاله لموافقة ما قاله سهيل لِمَا سمعه هو عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقال ذلك متعجّبًا منه: كأنك سمعته من أبي هريرة كما سمعته أنا منه.
(1)
"تاج العروس" ص 7925.
وعلى كلٍّ فالغرض منه مَدْح ابنه سهيل حيث وافق ما قاله حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع، فأثنى عليه بفطنته، وإصابته الحقّ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنْ سُهَيْلٍ) فاعل "ذَكَر" ضمير عبد العزيز الماجشون.
[تنبيه]: رواية عبد العزيز الماجشون عن سهيل بن أبي صالح هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "كتاب الزهد الكبير"، فقال:
(801)
- أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو بكر بن المؤمل، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا عبد العزيز الماجشون، عن سهيل بن أبي صالح، أنه قال: كنت مع أبي غداة عرفة، قال: فوقفنا لعمر بن عبد العزيز للنظر إليه، وهو أمير الحاجّ، قال: فقلت: يا أبتاه والله إني لأرى الله يحب عمر، قال: لِمَ أيْ بُنَيّ؟ قال: قلت: لِمَا أراه دخل له قلوبَ الناس من المودّة، قال: فقال: بأبيك أنت، سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبريل، إن الله قد أحب فلانًا، فأحبوه، قال: فإذا كان ذلك كان له القبول، والمودة عند أهل الأرض، وإذا أبغض الله عبدًا نادى جبريل، فقال: يا جبريل إن الله قد أبغض فلانًا، فأبغضوه، فينادي جبريل في السماء، إن الله قد أبغض فلانًا، فأبغضوه، فإذا كان ذلك وُضعت له البغضة عند أهل الأرض". انتهى
(1)
.
(49) - (بَابٌ الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6685]
(2638) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ").
(1)
"كتاب الزهد الكبير" للبيهقيّ 2/ 300.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذكروا في الباب الماضي، والحديث متّفقٌ عليه، وشرحه يأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6686]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرٌ بْن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا كَثِيرٌ بْن هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُ، قَالَ: "النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَب، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة، خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَام، إِذَا فَقُهُوا، وَالأَرْوَاحُ جُنُودٌ مجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(كَثِيرُ بْن هِشَامٍ) الْكِلابيّ، أبو سهل الرَّقِّيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [9](ت 7 أو 208)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
2 -
(جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) -بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف- الْكِلّابيّ، أبو عبد الله الرَّقّيّ، ثقة يَهِمُ في حديث الزهريّ [7] (ت 150) وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
3 -
(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية الْبَكّائيّ -بفتح الموحّدة، وتشديد الكاف- أبو عوف الكوفيّ، نزيل الرَّقَّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، يقال: له رؤبة، ولا يثبت، وهو ثقة [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
والباقيان ذُكرا في السند الماضي، والباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (بِحَدِيثٍ) متعلّق بـ "حدّثنا يزيد"، وقوله:(يَرْفَعُهُ)
جملة في محلّ جرّ صفة لـ "حديث"؛ أي: يرفع أبو هريرة رضي الله عنه ذلك الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه من صيغ الرفع حكمًا، كما قال السيوطيّ رضي الله عنه في "ألفيّة الأثر" عند تعداد صيغ الرفع حكمًا:
وَهَكَذَا يَرْفَعُهُ يَنْمِيهِ
…
رِوَايَةً يَبْلُغْ بِهِ يَرْوِيهِ
والحامل للتابعيّ على العدول عن قول الصحابيّ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نحوها إلى قوله: يرفعه، مع تحقّقه بأن الصحابيّ رفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كونه يشك في صيغ الرفع بعينها، هل هي سمعت، أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نبيّ الله، أو حدّثني، أو نحوها؟ راجع تمام البحث في المسألة "شرحي" على الألفيّة المذكورة
(1)
، تستفد علمًا، وبالله تعالى التوفيق.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: ("النَّاسُ مَعَادِنُ) جمع مَعْدن بكسر الدال، من عَدَن: إذا أقام؛ لإقامة الذهب والفضة به، أو لإقامة الناس فيها شتاءً وصيفًا، قاله الزرقانيّ رحمه الله
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "المعدن" بكسر الدال، هو المكان الذي يثبت فيه الناس؛ لأن أهله يقيمون فيه، ولا يتحوّلون عنه شتاءً، ولا صيفًا، ومعدن كل شيء من ذلك، ومعدن الذهب والفضة سُمِّي معدنًا؛ لإنبات الله فيه جوهرهما، وإثباته إياه في الأرض، حتى عَدَن؛ أي: ثبت فيها، وقال الليث: المعدن: مكانُ كل شيء يكون فيه أصله ومبدؤه، نحو معدن الذهب والفضة، والأشياء، وفي الحديث:"فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم"؛ أي: أصولها التي يُنْسَبون إليها، ويتفاخرون بها، وفلان معدن للخير والكرم: إذا جُبِل عليهما، على المَثَل. انتهى
(3)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "الناس معادن"؛ أي: أصولٌ مختلفةٌ، ما بين نفيس، وخسيس، كما أن المعدن كذلك فخيارهم في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام، وقوله:(كَمَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ) قال الرافعيّ رحمه الله: وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع، كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن
(1)
"إسعاف ذوي الوطر في شرح ألفيّة الأثر" 1/ 127 - 128.
(2)
شرح الزرقانيّ" 2/ 137.
(3)
"لسان العرب" 13/ 279.
رسوخ الاختلاف في النفوس، كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منه ما لا تتغير صفته، فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفًا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمرّ شَرَفه، فكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، وهذا معنى قوله:(خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّة، خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ) ثم لمّا أَطلق الحكم خصّه بقوله: (إِذَا فَقُهُوا) بضم القاف على الأجود، ذكره أبو البقاء؛ أي: صاروا فقهاء، ففيه إشارة إلى أن نوع الإنسان إنما يتميز عن بقية الحيوان بالعلم، وأن الشرف الإسلامي لا يتمّ إلا بالفقه، وأنه الفضيلة العظمى، والنعمة الكبرى، والمراد بالخيار في هذا ونحوه: من كان متصفًا بمحاسن الأخلاق، كالكرم، والفقه، والحِلم، وغيرها، متوقّيًا لمساوئها، كالبخل، والفجور، والظلم، وغيرها. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "بضمّ القاف إلخ" ويجوز كسرها، كما أشار إليه، قال المجد رحمه الله: الفِقْهُ بالكسر: العِلْمُ بالشيء، والفَهْمُ له، والفِطْنَةُ، وغَلَبَ على عِلمِ الدينِ؛ لشَرَفِه، وفَقُهَ ككَرُمَ، وفَرِحَ، فهو فَقِيهٌ، وفَقُهٌ، كَنَدُسٍ، جَمْعه: فُقَهاءُ، وهي فَقيهَةٌ، وفَقُهَةٌ، جَمْعها: فُقَهاءُ، وفَقائِهُ، وفَقِهَهُ كَعَلِمَهُ: فَهِمَهُ، كتَفَقَّهَهُ، وفَقَّهَهُ تَفْقيهًا: عَلَّمَهُ، كأَفْقَهَهُ. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الفِقْهُ فَهْمُ الشيء، قال ابن فارس: وكلّ علم لشيء فهو فِقْهٌ، والفِقْهُ على لسان حملة الشرع علم خاصّ، وفَقِهَ فَقَهًا، من باب تَعِبَ: إذا عَلِم، وفَقُهَ بالضم مثله، وقيل: بالضم إذا صار الفقه له سَجِيّة، قال أبو زيد: رجل فَقُهٌ، بضم القاف، وكسرها، وامرأة فَقُهَةٌ، بالضم ويتعدى بالألف، فيقال: أَفْقَهْتُكَ الشيءَ، وهو يَتَفقَّهُ في العلم، مثلُ يتعلم. انتهى
(3)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "الناس معادن": المعدن: الْمُستقَرّ، والمستوطَنُ، من عدنت البلد: إذا توطّنته، ومنه: المعدن المستقَرّ للجواهر والفلزات، و"معادن" خبر المبتدأ، ولا يستقيم حَمْله عليه إلا بأحد وجهين:
(1)
"فيض القدير على الجامع الصغير" للمناويّ 3/ 229.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1614.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 479.
إما أن يكون محمولًا عليه بالتشبيه، كقولك: زيد أسدٌ، فيكون "كمعادن الذهب" بدلًا منه.
وإما بأن يكون المعادن مجازًا من التفاوت، فالمعنى: الناس متفاوتون تفاوتًا مثل تفاوت معادن الذهب والفضّة، فالمراد بالتفاوت: تفاوت النسب في الشرف والضَّعَة، يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر:"فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم"؛ أي: أصولها التي يُنسبون إليها، ويتفاخرون بها، وإنما جُعلت معادن لها؛ لِمَا فيها من الاستعدادات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنها غير قابلة لها.
وقوله: "خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" جملة مبيّنة بعد التفاوت الحاصل بعد فيض الله تعالى عليها من العلم والحكمة، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، شبّههم بالمعادن في كونها أوعيةً للجواهر النفيسة، والفلزات المنتفعة بها المعنيّ بهما في الإنسان كونه أوعية العلوم والْحِكَم، فالتفاوت في الجاهليّة بحسب الأنساب، وشَرَف الآباء، وكَرَم الأصل، وفي الإسلام بحسب العلوم والحِكم، فالشرف الأول موروث، والثاني مكتسب.
[فإن قلت]: ما فائدة التقييد بقوله: "إذا فقُهُوا"؛ لأن كل من أسلم، وكان شريفًا في الجاهليّة فهو خير من الذي لم يكن له شرف فيها، سواء فقه، أو لم يفقه؟.
[قلت]: ليس كذلك، فإن الإيمان يرفع التفاوت المعتبر في الجاهليّة، فإذا تحلَّى الرجل بالعلم والحكمة استجلب النسب الأصليّ، فيجتمع شرف النسب مع شرف الحسب، انظر إلى المنقبة السنيّة، كيف ردّ تيمّنها وبركتها ما رَفَعه الإسلام من الشرف الموروث؟، وفُهم من ذلك أن الوضيع المسلم المتحلّي بالعلم أرفع منزلةً من الشريف المسلم العاطل، ونِعْم ما قال الأحنف [من الرمل]:
كُلُّ عِزٍّ لَمْ يُوَطَّدْ بِعِلْمٍ
…
فَإِلَى ذُلٍّ مَا يَصِيرُ
(1)
(1)
الشطر الثاني فيه انكسار، فليحرّر.
وقال آخر [من الطويل]:
وَلَا الشَّرَفُ الْمَوْرُوثُ لَا دَرَّ دَرُّهُ
…
بِمُحْتَسَب إِلَّا بِآخَرَ مُكْتَسَبْ
وقال آخر [من الكامل]:
إِنَّ السَّرِيَّ إِذَا سَرَى فَبِنَفْسِهِ
…
وَابْنُ السَّرِيِّ إِذَا سَرَى أَسْرَاهُمَا
رُوي أن فزاريًّا شكى إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه من لطمة لطمها جبلة بن الأيهم، فأمر بالقصاص، فقال جبلة: أيُقتصّ منّي، وأنا ملِكٌ، وهو سوقةٌ؟ فقال عمر: شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعاقبة. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة": معدن كل شيء أصله؛ أي: أصول بيوتهم تُعْقِب أمثالَها، ويَسري كَرَم أعراقها إلى فروعها، والمعادن جَمْع مَعْدِن، مِن عَدَن بالمكان أقام، ومنه سمّي المعدن؛ لأن الناس يقيمون فيه صيفًا وشتاءً، ومعدن كل شيء مركزه، كما في "الصحاح"، وبه يُعرف أن إطلاق اسم المعدن على بعض الأجساد كالذهب، من تسمية الشيء باسم مركزه، والحديث ورد على منهج التشبيه في التفاضل في الصفات الوهبية، والكسبية، كالأخلاق الجِبِلّية، والآداب الحاصلة بواسطة الأدلة، وشتان في القياس بين الذهب والفضة، والرصاص والنحاس، فبقدر ما بين ذلك من التفاوت تكون الصفة في الأشخاص، فكانه قال: الناس يتفاوتون في الصفات الذاتية، والعَرَضية، كما تتفاوت المعادن في ذواتها، وأعراضها القائمة بها، من العلل، والأدناس، ذَكَره بعضهم.
وقال القاضي: المعدن المستَقَرّ، والمستوطَن، مِن عَدَن بالبلد: إذا توطّنه، فكما أن المعادن منها ما يحصل منه شيء يُعبا به، ومنها ما يحصل منه بكدّ، وتَعَب كثير شيء قليل، ومنها ما هو بعكسه، ومنها ما يُظفر منه بمغارات مملوءة ذهبًا، فمن الناس من لا يعي، ولا يفقه، ولا تُغني عنه الآيات والنذر، ومنهم من يحصل له علم قليل، واجتهاد طويل، ومنهم من هو بالعكس، ومنهم من تَفِيض عليه من حيث لا يحتسب بلا سوق، وطلب، معالم كثيرة، وتنكشف له المغيّبات، ولم يبق بينه وبين القدس حجاب، وذا من جوامع الكلم الذي
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 661 - 662.
أوتيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأفاد الترغيب في تطبّع الأوصاف الجميلة، والتوصل إليها بكل حيلة، والعِرْق دسّاس، وأدب السَّوْء كعِرْق السَّوْء، فعلى العاقل أن يتخير لنطفته، ولا يضعها إلا في أصل أصيل، وعنصر طاهر، فإن الولد فيه عِرْق ينزع إلى أمه، فهو تابع لها في الأخلاق والطباع، إشارة إلى أن ما في معادن الطباع من جواهر مكارم الأخلاق وضدها، ينبغي استخراجه برياضة النفس، كما يستخرج جوهر المعدن بالمقاساة والتعب.
قال بعضهم: ومن كان وليًّا في علم الله فلا تتغير ولايته، وإن وقع في معصية؛ لأن الحقائق الوضعية لا يقدح فيها النقائص الكسبية، فالذهب والفضة موجودان في المعادن، والمعدن الأصلي صحيح، لكن قد يدخل عليه علل نفسية في ظاهره، فيعالَج لتزول، فكما أن المعدن في أصله صحيح، لا يخرج عن معدنيته، فكذا المؤمن الحقيقيّ أو الولي الحقيقيّ لا يُخرجه ما جرى على جوارحه من النقائص عن حقيقة إيمانه، أو ولايته.
وقال بعضهم: المراد أن كل من كان أصله عند الله مؤمنًا، فهو يرجع إلى أصله، كالمعدن، ومن كان عنده كافرًا رجع إلى أصله كذلك، وحقيقة الأمر مستورة عنّا الآن؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء، فيقلب التراب ذهبًا، وعكسه، والجماد مائعًا، وعكسه، والنبات حيوانًا، وعكسه. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَالأَرْوَاحُ)؛ أي: أرواح الناس، وهو مبتدأ خبره قوله:(جُنُودٌ) جَمْع جُنْد؛ أي: جُموع (مُجَنَّدَةٌ) بفتح النون المشدّدة؛ أي: مجتمعة متقابلة، أو مختلطة، منها حزب الله:{أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، ومنها حزب الشيطان:{أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] وفي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4] إشارة إلى أن الجندين: أحدهما علويّ الهمة، والآخر سفليّ النَّهْمة
(2)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: معناه جموع مجتمعة، أو أنواع مختلفة، وأما تعارفها فهو لأمر جعلها الله عليه، وقيل: إنها موافقة صفاتها التي
(1)
"فيض القدير" 6/ 295.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 295.
جعلها الله عليها، وتناسبها في شِيَمها، وقيل: لأنها خُلقت مجتمعة، ثم فُرِّقت في أجسادها، فمن وافق بشِيَمه أَلِفَه، ومن باعده نافره، وخالفه، وقال الخطابيّ وغيره: تآلُفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين، متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت، واختلفت، بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال الخطابيّ: يَحْتَمِل أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن الْخَيِّرَ من الناس يَحِنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك، يميل إلى نظيره، فتعارُف الأرواح يقع بحَسَب الطباع التي جُبلت عليها من خير وشرّ، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت.
ويَحْتَمِل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب، على ما جاء أن الأرواح خُلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي، فتتشامّ فلمّا حَلّت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارُفها وتناكرها على ما سَبَق من العهد المتقدّم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خُلقت خُلقت على قسمين، ومعنى تقابُلها؛ أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت، أو اختلفت، على حسب ما خُلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قال الحافظ: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافِرَين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي، فإنه يتعلق بأصل الخلقة، بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسَبًا؛ لتجدُّد وصْفِ يقتضي الألفة بعد النفرة، كإيمان الكافر، وإحسان المسيء. انتهى
(2)
.
(فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا) التعارف جَرَيَان المعرفة بين اثنين، والتناكر ضدّه؛ أي: فما تعرّف بعضها من بعض قبل حلولها في الأبدان (ائْتَلَفَ) بهمزة وصل، ثم
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 185.
(2)
"الفتح" 5/ 617، كتاب "بدء الخلق" رقم (3336).
همزة ساكنة تُبدل ألفًا في الوصل جوازًا، وتبدل ياءً حال الابتداء وجوبًا؛ أي: حصل بينهما الألفة والرأفة حال اجتماعهما بالأجساد في الدنيا، (وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا)؛ أي: في عالم الأرواح، (اخْتَلَفَ")؛ أي: في عالم الأشباح، والإفراد والتذكير في الفعلين باعتبار لفظ "ما"، والمراد منه بطريق الأجمال -والله أعلم بحقية الحال- أن الأرواح البشرية مجبولة على مراتب مختلفة، وشواكل متباينة، وكل ما شاكل منها في عالم الأمر في شاكلته تعارفت في عالم الخلق، وائتلفت، واجتمعت، وكل ما كان على غير ذلك في عالم الأمر، تناكرت في عالم الخلق، فاختلفت، وافترقت، فالمراد بالتعارف ما بينهما من التناسب، والتشابه، وبالتناكر ما بينهما من التنافر، والتباين، فتارة على وجه الكمال، وتارة على وجه النقصان؛ إذ قد يوجد كل من التعارف والتناكر بأدنى مشاكلة بينهما، إما ظاهرًا، وإما باطنًا، قاله القاري
(1)
.
وقال في "النهاية": قوله: "جنود مجندة"؛ أي: مجموعة، كما يقال: ألوفٌ مؤلّفة، وقناطيرُ مقنطرةٌ، ومعناه: الإخبار عن مبدأ كون الأرواح، وتقدمها الأجسادَ؛ أي: أنها خُلقت أول خِلقتها على قسمين، من ائتلاف واختلاف، كالجنود المجندة المجموعة؛ إذا تقابلت، وتواجهت، ومعنى تقابُل الأرواح ما جعلها الله عليها من السعادة والشقاوة، والأخلاق، في مبدأ الخلق، يقول: إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا، فتأتلف، وتختلف على حسب ما خُلقت عليه، ولهذا ترى الْخيِّر يحبّ الأخيار، ويميل إليهم، والشِّرِّير يحبّ الأشرار، ويميل إليهم. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في قوله: "فما تعارف" للتعقيب، أتبعت المجمل بالتفصيل، فدلّ قوله:"ما تعارف" على تقدّم اشتباك واختلاط في الأزل، ثم تفرّق بعد ذلك فيما لا يزال أزمة متطاولة، ثم ائتلاف بعد التعارف، كمن فَقَد أنيسه، وأليفه، ثم اتّصل به، فلزمه، وأنِسَ به، ودلّ قوله:"وما تناكر" على أن ذلك الفقيد لحق بمن لم يكن له سبق اختلاط معه، فاشمأزّ منه، وفارقه إلى من كان معه في السابق.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 733 - 734.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 733 - 734.
ودلّ تشبيه الأرواح بالجنود المجنّدة على أن ذلك الاجتماع في الأول كان لأمر عظيم، وخَطْب جسيم، من فَتْح بلاد، وقهر أعداء، ودل ذلك على أن أحد الحزبين حزب الله، والآخر حزب الشيطان، فمن تألّف في الأزل بحزب الله فاز وأفلح:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، ومن تألّف بحزب الشيطان خاب وخسر:{أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، ومن عادة الأجناد المتحزّبة أن يسوم كل واحد من أحد الحزبين بعلاقة ترفع التناكر من البَيْن، فمتى شاهدوها ائتلفوا.
فعلى هذا بنى قوله: "فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"، فهي تفريع على التشبيه بمنزلة ترشيح الاستعارة، وهذا التعارف إلهامات من الله تعالى في قلوب العباد من غير إشعار منهم بالسابقة، ولا يمنع من هذا التعارف فَصْله بالأباعد والأجانب، ولا تضمّه شجنة الأرحام والأواصر، قال الشاعر:
[من البسيط]:
كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا
…
وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحِ وَابْنِهِ رَحِمُ
ولم يَحْظَ آل قصيّ به، وحَظِيت به أم معبد قال [من الطويل]:
فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى اللهُ عَنْكُمُ
…
بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا تُجَارَى وَسُودَدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامُ فَتَاتِهَا
…
وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
ولا يدفعه بُعْدُ الدار، ولا يجمعه قرب الْمَزَار [من الطويل]:
مُنَاسَبَةُ الأَرْوَاحِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا
…
وَإِلَّا فَأَيْنَ التُّرْكُ مِنْ سَاكِنِي نَجْدِ
قال حكيم: أقرب القُرْب مودة القلب، وإن تباعَد جسم أحدهما من الثاني، وأبعدُ البُعْد تنافر المتداني، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكر له قصّة، فقال:
(4381)
- حدّثنا يحيى بن معين، حدّثنا سعيد بن الحكم، حدّثنا يحيى بن أيوب، قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: كان
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3198 - 3199.
بمكة امرأة مَزّاحة، فنزلت على امرأة مثلِها، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: صَدَق حِبِّي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتَلَف، وما تناكر منها اختَلف"، قال: ولا أعلم إلا قال في الحديث: ولا تُعْرَف تلك المرأة. انتهى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثاثية): في تخريجه:
فأما الجزء الأول، فأخرجه (المصنّف) هنا [49/ 6686](2638) وتقدّم في "فضائل الصحابة"[49/ 6433](2526)، وأخرج (البخاريّ) الجزء الأول منه في "الأنبياء"(3353 و 3374 و 3493 و 3496 و 3588 و 4689)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 367)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 279)، و (عبد الرزّاق) في "مسنده"(11/ 316)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1045)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 257 و 260 و 391 و 438 و 485 و 498 و 525 و 539) وفي "فضائل الصحابة"(1518 و 1519 و 1673)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 84)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 226)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(4/ 315)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(92)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(606)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3844 و 3845).
وأما الجزء الثاني فاخرجه (المصنّف) هنا [49/ 6685 و 6686](2638)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3336) وفي "الأدب المفرد"(901)، و (أبو داود) في "الأدب"(4834)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 295 و 527 و 539)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6168)، و (تمام الرازيّ) في "الفوائد"(1/ 251)، و (أبو الشيخ) في "الأمثال"(102)، و (أبو نعيم) في "تاريخ أصبهان"(2/ 94)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخ بغداد"(3/ 329)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3471)، والله تعالى أعلم.
(1)
"مسند أبي يعلى" 7/ 344.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة.
2 -
(ومنها): بيان فضل الفقه في الدين؛ لأن من تحلّى بها كان أفضل من غيره، ولو كان شريف النسب، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدين"، فالفقه علامة الخيريّة، وعلامة السعادة في الدنيا والآخرة.
3 -
(ومنها): ذمّ الجهل، وذمّ أهله؛ لأنه وإن كان شريف النسب فجَهْله يجعله وضيعًا، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:
الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ
…
وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ وَالشَّرَفِ
4 -
(ومنها): بيان أن الأرواح جنود مجنّدة؛ أي: أجناس مجنّسة، أو جموع مجمعة، تتعارف، وتتناكر حسب ما جُبلت عليه، من الخير والشرّ، فأهل الخير يأنسون بأهل الخير، وأهل الشرّ يأنسون بأهل الشرّ.
قال المناويّ رحمه الله: التعارف هو التشاكل المعنويّ الموجب لاتحاد الذوق الذي يُدرك ذوق صاحبه، فذلك علة الائتلاف، كما أن التناكر ضدّه، ولذلك قيل فيه [من الطويل]:
وَلَا يَصْحَبُ الإِنْسَانُ إِلَّا نَظِيرَهُ
…
وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ قَبِيلٍ وَلَا بَلَدْ
وقيل: انظر من تصاحب، فقَلَّ من نواة طُرِحت مع حصاة، إلا أشبهتها، ولهذا قال الغزاليّ تبعًا لبعض الحكماء: لا يتفق اثنان في عِشْرة، إلا وفي أحدهما وَصْف من الآخر، حتى الطير، ورأى بعضهم مرّة غُرابًا مع حمامة، فاستبعد المناسبة بينهما، ثم تامل، فوجدهما أعرجين، فإذا أردت أن تعرف من غابت عنك خِلالُه بموت، أو غَيبة، أو عدم عِشْرة امتَحِن أخلاق صاحبه، وجليسه بذلك، وذلك يدل على كماله، أو نقصه، كما يدل الدخان على النار، وإذا صاحب الرجل غير شَكْله لم تَدُم صحبته. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نَفْرةً ممن له فضيلة، أو صلاح، ينبغي أن يبحث عن
(1)
"فيض القدير" 1/ 553.
المقتضي لذلك؛ ليسعى في إزالته، حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "أجناد مجندة": أصناف مصنّفة، وقيل: أجناس مختلفة، ويعني بذلك أن الأرواح، وإن اتفقت في كونها أرواحًا، لكنها تتمايز بأمور وأحوال مختلفة، تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاصّ لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كلِّ نوع تأْلَف نوعها، وتنفُر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف، وبعضها يتنافر، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها، وأمور تتباعد فيها، كالأرواح المجبولة على الخير، والرحمة، والشفقة، والعدل، فتجد من جُبل على الرحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى، ويألفه، ويسكن إليه، وينفر ممن اتّصف بنقيضه، وهكذا في الجفاء والقسوة، ولذلك قد شاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلِّف بين الأشخاص، والشكل يألف شَكْله، والْمِثْل يجذب مثله، وهذا المعنى هوأحد ما حُمل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"، وعلى هذا فيكون معنى "تعارف": تناسب، وقيل: إن معنى ذلك هو ما تعرّف الله به إليها من صفاته، ودلّها عليه من لطفه، وأفعاله، فكل رُوح عَرَف من الآخر أنه تعرّف إلى الله بمثل ما تعرّف هو به إليه، وقال الخطابيّ: هو ما خلقها الله تعالى عليه من السعادة والشقاوة في المبدأ الأول.
قال القرطبيّ: وهذان القولان راجعان إلى القول الأول، فتدبّرهما.
ويُستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وَجَد من نفسه نفرة ممن له فضيلة، أو صلاح فَتَّش عن الموجب لتلك النفرة، وبَحَث عنه بنور العلم، فإنَّه ينكشف له، فيتعيّن عليه أن يسعى في إزالة ذلك، أو في تضييقه بالرياضة السياسية، والمجاهدة الشرعية، حتى يتخلّص من ذلك الوصف المذموم، فيميل لأهل الفضائل والعلوم، وكذلك القول فيما إذا وَجَد ميلًا لمن فيه شرّ، أو وصف مذموم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 644 - 646.
6 -
(ومنها): ما قاله في "شرح السُّنَّة": فيه دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وعلى أنها كانت موجودة قبل الأجساد في الخلفة. انتهى
(1)
.
(50) - (بَابٌ الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6678]
(2639) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ أعْرَابِيًّا قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ "، قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِه، قَالَ: (أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ المدنيّ، ثمّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم قبل ببابين.
3 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاري المدني أبو يحيى ثقة حجة [4](ت 132) وقيل: بعدها، (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (408) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية الراوي عن عمّه، فأنس رضي الله عنه عمّ لإسحاق، وفيه أنس رضي الله عنه الخادم المشهور، خَدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركة دعوته، فكَثُر ماله، وأولاده، وطال عمره، فقد جاوز المائة، وهو آخر من
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3198.
مات من الصحابة بالبصرة، وهو من المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه: (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) وفي الرواية التالية: "قال رجل: يا رسول الله متى الساعة؟ "، وفي الرواية الثالثة: "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
…
"، قال في "الفتح": هو ذو الخويصرة اليمانيّ، وزعم ابن بشكوال أنه أبو موسى الأشعريّ، أو أبو ذرّ، ثم ساق من حديث أبي موسى: "قلت: يا رسول الله المرء يحب القوم، ولمّا يلحق بهم؟ "، ومن حديث أبي ذرّ: "فقلت: يا رسول الله المرء يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ "، وسؤال هذين إنما وقع عن العمل، والسؤال في حديث الباب إنما وقع عن الساعة، فدلّ على التعدد، ووقع عند الدارقطنيّ من حديث أبي مسعود: "أن الأعرابي الذي بال في المسجد قال: يا محمد متى الساعة؟ قال: وما أعددت لها؟ "، فدلّ على أن السائل في حديث أنس هو الأعرابيّ الذي بال في المسجد، وتقدم في "الطهارة" أنه ذو الخويصرة اليمانيّ، كما أخرجه أبو موسى المديني في "دلائل معرفة الصحابة". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ذو الخويصرة هذا هو التميميّ، كما تقدّم في "الفتح"، وليس ذا الخويصرة الذي اعترض على النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قسم الغنيمة في حنين، وقال له:"اعدل يا محمد"، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أصل الخوارج، فإن هذا تميميّ، والمذكور في حديث الباب يَماني، فافترقا
(2)
، والله تعالى أعلم.
(قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَتَى السَّاعَةُ؟) وفي رواية: "متى تقوم الساعة؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"متى الساعةُ قائمة؟ " برفع "قائمة" ونَصْبه. (قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ ")"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء هيّأت للساعة؟، قال الكرمانيّ رحمه الله: سلك النبيّ صلى الله عليه وسلم مع السائل أسلوب الحكيم،
(1)
"الفتح" 8/ 386، كتاب "فضائل الصحابة" رقم (3688).
(2)
راجع: "العرف الشذيّ" للكشميري 1/ 174.
وهو تلقّي السائل بغير ما يَطْلُب مما يُهِمّه، أو هو أهمّ. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن وقت الساعة، وإبّان إرسائها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها؟ وإنما يُهمّك أن تهتمّ بأُهبتها، وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقّة، والأعمال الصالحة، فأجاب بقوله:"ما أعددت لها إلا أني أحبّ الله ورسوله".
(قَالَ) الرجل: (حُبَّ اللهِ) عز وجل (وَرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الآتية: "أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ
(2)
كَثِيرٍ، أَحْمَدُ عَلَيْهِ نَفْسِي"، وفي رواية سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ الآتية: "حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِد، فَلَقِينَا رَجُلًا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِد، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ "، قَالَ: فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ
…
". وفي رواية أبي المليح الرّقّيّ، عن الزهريّ، عن أنس: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعرّض له أعرابيّ
…
"، أخرجه أبو نعيم، وله من طريق شريك بن أبي نَمِر، عن أنس: "دخل رجل، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب"، ومن رواية أبي ضمرة، عن حميد، عن أنس: "جاء رجل، فقال: متى الساعة؟ فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة،. ثم صلى، ثم قال: أين السائل عن الساعة؟ "، ويُجمع بينها بأن سأله والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب، فلم يُجبه حينئذ، فلما انصرف من الصلاة، وخرج من المسجد رآه، فتذكَّر سؤاله، أو عاوده الأعرابيّ في السؤال، فأجابه حينئذ
(3)
.
(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ") زاد سلّام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس:"إنك مع من أحببت، ولك ما احتسبت"، أخرجه أبو نعيم، وله مثله من طريق قُرّة بن خالد، عن الحسن، عن أنس، وأخرج أيضًا من طريق أشعث، عن الحسن، عن أنس:"المرء مع من أحبّ، وله ما اكتسب"،
(1)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 22/ 35 - 36.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن"10/ 3201.
(3)
"الفتح" 14/ 44، كتاب "الأدب" رقم (6167).
ومن طريق مسروق، عن عبد الله:"أنت مع من أحببت، وعليك ما اكتسبت، وعلى الله ما احتسبت"
(1)
.
ومعنى: "أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"؛ أي: مُلْحَقٌ بهم حتى تكون من زمرتهم، قال تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]
(2)
.
قال الحافظ: وبهذا يندفع إيراد أن منازلهم متفاوتة، فكيف تصحّ المعية؟ فيقال: إن المعية تحصل بمجرد الاجتماع في شيء ما، ولا تلزم في جميع الأشياء، فإذا اتَّفَق أن الجميع دخلوا الجنة صدقت المعيّة، وإن تفاوتت الدرجات
(3)
. انتهى.
وقال المناويّ رحمه الله: "أنت مع من أحببت"؛ أي: إن كنت كذلك، فأنت مع من أحببت شهودًا له بالقلب، وذِكرًا له باللسان، وخدمةً له بالأركان، فذِكر الله من العبد بلسانه علامة شهوده له بجَنانه، كما قال:"اعبد الله كأنك تراه". انتهى، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [50/ 6687 و 6688 و 6689 و 6690 و 6691 و 6692 و 6693 و 6694](2639)، و (البخاريّ) في "فضائل الصحابة"(3688) و"الأدب"(6171 و 6167) و"الأحكام"(7153) وفي "الأدب المفرد"(352)، و (أبو داود) في "الأدب"(5127)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2385 و 2386)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20317)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2131)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 103 و 110 و 159 و 168 و 173 و 176 و 192 و 198 و 200 و 226 و 227 و 268 و 283 و 288)، و (الحميديّ)
(1)
"الفتح" 14/ 44، كتاب "الأدب" رقم (6167).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3201.
(3)
"الفتح" 14/ 36، كتاب "الأدب" رقم (6167).
في "مسنده"(1190)، و (ابن منده) في "الإيمان"(289 و 290 و 291)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(8 و 105 و 563 و 564)، و (الضياء) في "المختارة"(4/ 381)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 146)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 373 و 6/ 34 و 180)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 390)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(2/ 131)، و (تمام الرازيّ) في "الفوائد"(1/ 224)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3477 و 3475 و 3476 و 3479)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل حب الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، والصالحين، وأهل الخير الأحياء والأموات، فإنه يكون معهم في الجنّة.
وقد أخرج الطبرانيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنك لأحبّ إلي من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك، فما أصبر حتى آتيَ، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك، عرفت أنك إذا دخلت الجنة رُفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يَرُدّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا، حتى نزل جبريل؛ بهذه الآية:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، قال الحافظ الهيثميّ: رواه الطبرانيّ في "الصغير"، و"الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابديّ، وهو ثقة. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): أن من فضل محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم امتثال أمرهما، واجتناب نهيهما، والتأدب بالآداب الشرعية، قاله النوويّ رحمه الله.
وقال القاضي عياض رحمه الله: فيه أن محبة الله تعالى، ومحبّة رسوله صلى الله عليه وسلم الاستقامة على طاعتهما، وترك مخالفتهما، وإذا أحبّهما تأدّب بآداب شريعتهما، ووقف عند حدودهما، وأن حبة لله، ولنبيّه صلى الله عليه وسلم، ولمن أحبه من الصالحين، ومَيْله بقلبه إليهم إنما ذلك كلّه لله تعالى، وطاعة له، وثمرة صحّة
(1)
"مجمع الزوائد" 7/ 7.
إيمانه، وشَرْح قلبه، وهو من أعظم الدرجات، وأرفع منازل الطاعات، ومن أعمال القلوب التي الأجر عليها أعظم من أجر أعمال الجوارح، وإثابة الله على ذلك أن رُفع إلى منزلة من أحبه فيه، وإن لم يكن له أعمال مثل أعماله، وهو فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. انتهى
(1)
.
وقال القاري رحمه الله: ومن علامة المحبة الصادقة أن يختار أمر المحبوب، ونهيه على مراد غيره، ولذا قالت رابعة العدويّة [من البسيط]:
تَعْصِي الْإِلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ
…
هَذَا لَعَمْرِي فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ
…
إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ
(2)
3 -
(ومنها): أنه لا يشترط في الانتفاع بمحبة الصالحين أن يَعمَل عملهم؛ إذ لو عَمِله لكان منهم، ومِثْلهم، وقد صَرَّح في الحديث الذي بعد هذا بذلك، فقال:"أَحَبَّ قومًا، ولمّا يلحق بهم"، قال أهل العربية:"لَمّا" نفي للماضي المستمرّ، فيدل على نفيه في الماضي، وفي الحال، بخلاف "لم"، فإنها تدلّ على الماضي فقط، ثم إنه لا يلزم من كونه معهم أن تكون منزلته، وجزاؤه مثلهم من كل وجه، قاله النوويّ رحمه الله
(3)
.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن بطّال رحمه الله: دلّ الحديث على أن من أحب عبدًا في الله، فإن الله جامِع بينه وبينه في جنّته، ومُدخِله مَدخَله، وإن قصّر عن عمله، وهذا معنى قوله:"ولم يلحق بهم"؛ يعني في العمل، والمنزلة، وبيان هذا المعنى -والله أعلم- أنه لمّا كان المحبّ للصالحين إنما أحبهم من أجل طاعتهم لله، وكانت المحبة عملًا من أعمال القلوب، واعتقادًا لها أثاب الله معتقد ذلك ثواب الصالحين؛ إذ النية هي الأصل، والعمل تابع لها، والله يُؤتي فضله من يشاء. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"إكمال المعلم" 7/ 119.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 304.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 186.
(4)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاريّ" 17/ 416.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6688]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ "، فَلَمْ يَذْكُرْ كَبِيرًا، قَالَ: وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: "فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والأبواب الثلاثة الماضية.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله؛ كسابقه، وهو (409) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (فَلَمْ يَذْكُرْ كَبِيرًا) بالباء الموحّدة، وضبطوه أيضًا بالثاء المثلّثة؛ أي: لم يذكر ذلك الرجل عملًا كبيرًا، من صلاة، وصيام، وغيرهما، كما قال في الرواية الآتية: "ما أعددت لها كبير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة
…
".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6689]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَني أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ أَتَى رَسُولَ اللهِ. بِمِثْلِه، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرٍ
(1)
، أَحْمَدُ عَلَيْهِ نَفْسِي).
(1)
وفي نسخة: "من كبير".
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَعْرَابِ) تقدّم أنه ذو الخُويصرة اليمانيّ.
وقوله: (أَتَى رَسُولَ اللهِ. بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل حديث سفيان بن عيينة عن الزهريّ المذكور قبله.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ إلخ) الضمير لمعمر بن راشد؛ أي: معمرًا قال في روايته: قال ذلك الأعرابي: ما أعددت إلخ.
وقوله: (مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرٍ) بالثاء المثلّثة، وفي بعض النُّسخ بالباء الموحّدة، و"من" زائدة، و"كثيرًا" مفعول به لـ "أعددت".
وقوله: (أَحْمَدُ عَلَيْهِ نَفْسِي) جملة في محل نصب صفة لـ "كثير"؛ أي: لم أُعدّ للساعة كثيرًا من الأعمال الصالحة التي أُثني بسببها على نفسي، وأراد بالأعمال: غير الفرائض؛ لأن الفرائض لا بدّ من الإتيان بها، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:(20317) - أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، قال: حدّثني أنس بن مالك، أن رجلًا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما أعددت لها؟ " فقال الأعرابيّ: ما أعددت لها من كبيرٍ، أحمَدُ عليه نفسي، إلا أني أحب الله ورسوله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنك مع من أحببت". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6690]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ- حَدَّثنَا ثَابِثٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟ "، قَالَ: حُبَّ اللهِ وَرَسُولِه، قَالَ:"فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحًا
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 199.
أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ، وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ كُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ثَابِثٌ الْبُنَائِيُّ) ابن أسلم البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (410) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالبصريين، وفيه أنس رضي الله عنه، وقد تقدّم القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) تقدّم أنه ذو الخويصرة اليمانيّ، (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟)؛ أي: متى وقت قيام الساعة؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟ ") وفي رواية البخاريّ: "قال: ويلك وما أعددت لها؟ " قال القاري رحمه الله: ولَمّا كان السؤال مُحْتَمِلًا لأن يكون تعنتًا وإنكارًا لها، وأن يكون تصديقًا بها، وإشفاقًا منها، واشتياقًا للقاء ربه قال صلى الله عليه وسلم امتحانًا له:"ويلك، وما أعددت لها؟ " وإلا لو تحقق عنده إيمانه بها، وإيقانه لها لقال له: ويحك، بدل: ويلك. انتهى
(1)
.
(قَالَ) الرجل: (حُبَّ اللهِ وَرَسُولهِ) بنصب "حبَّ" على أنه مفعول به لمقدّر دلّ عليه السؤال؛ أي: أعددت لها حبّ الله تعالى، وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"ما أعددت لها، إلا أني أحبّ الله ورسوله". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ")؛ أي: ملحَق بهم، وداخل مَدْخَلهم. (قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه:(فَمَا فَرِحْنَا) بكسر الراء، (بَعْدَ الْإِسْلَامِ)؛ أي: بعد فرحنا لهدايتنا للإسلام، (فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:(فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ") قال القرطبيّ رحمه الله: وإنَّما
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 304.
كان فَرَحُهم بذلك أشدّ؛ لأنَّهم لم يسمعوا أن في أعمال البرّ ما يحصل به ذلك المعنى من القرب من النبيّ صلى الله عليه وسلم والكون معه، إلا حبّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأَعْظِمْ بأمر يُلحق المقصّر بالمشمّر، والمتأخّر بالمتقدِّم. (قَالَ أَنَسٌ) رضي الله عنه لَمّا فَهِم أن هذا اللفظ محمولٌ على عمومه معلّقًا به رجاءه، ومحقّقًا فيه ظنه، (فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (وَأَبَا بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه (وَعُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، (فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ) في الجنّة، (وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ) قال القرطبيّ: الوجه الذي تمسَّك به أنس رضي الله عنه يشمل من المسلمين المحبين كلَّ ذي نفس، فلذلك تعلّقت أطماعنا بذلك، وإن كنا مقصِّرين، ورجونا رحمة الرحمن، وإن كنّا غير مستأهلين. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الأول من الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6691]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثنا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَنَسٍ: فَأَنَا أُحِبُّ، وَمَا بَعْدَهُ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) -بضمّ الغين المعجمة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة- هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب -بكسر الحاء، وتخفيف السين المهملتين- البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
[تنبيه]: قوله: "الْغُبَريّ" بضمّ الغين المعجمة، وفتح الموحّدة: نسبة إلى غُبَر بن غَنْم بن حُبيّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، بطنٌ مِن يشكر، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة-
(1)
"المفهم" 6/ 647.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 374.
أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه كان يتشيع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (411) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسلٌ بالبصريين.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَنَسٍ إلخ) فاعل "يذكر" ضمير جعفر بن سليمان؛ يعني: أنه اختصر الحديث، ولم يَسُقْه مطوّلًا، كما ساقه حمّاد بن زيد.
[تنبيه]: رواية جعفر بن سليمان، عن ثابت هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6692]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِد، فَلَقِينَا رَجُلًا عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِد، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ "، قَالَ: فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ
(1)
صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ:"فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، شهيرٌ [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "كثير".
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قبل بابين.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد الله السّلَميّ، أبو عَتّاب -بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة- الكوفيّ، ثقة ثبتٌ، وكان لا يدلِّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) رافع الْغَطَفَانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يرسل كثيرًا [3] (ت 7 أو 98) وقيل: مائة، أو بعد ذلك، ولم يثبت أنه جاوز المائة (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.
و"أنس بن مالك" رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين غير أنس رضي الله عنه، فبصريّ، وإسحاق، فمروزيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ) اسمه رافع، أنه قال:(حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: بَيْنَمَا) هي "بين" الظرفيّة، زيدت عليها "ما"، وقد تقدّم الكلام فيها غير مرّة. (أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حال كوننا (خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَسْجِدِ) النبويّ، وقوله:(فَلَقِينَا) جواب "بينما"، والفاء زائدة. (رَجُلًا) تقدّم أنه ذو الخويصرة اليمانيّ، وَيحتَمِل أن يكون غيره. (عِنْدَ سُدَّةِ الْمَسْجِدِ) بضمّ السين، وتشديد الدال المهملتين: هي الظلال المسقّفة عند باب المسجد، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: السُّدَّةُ بالضمّ، في كلام العرب: الْفِناء لبيت الشَّعر، وما أشبهه، وقيل: السُّدَّةُ كالصُّفَّة، أو كالسَّقِيفة، فوق باب الدار، ومنهم من أنكر هذا، وقال: الذين تكلموا بِالسُّدَّةِ لم يكونوا أصحاب أبنية، ولا مَدَرٍ، والذين جعلوا السُّدَّةَ كالصفة، أو كالسقيفة، فإنما فسَّروها على مذهب أهل الحضر، والسُّدَّةُ: الباب، ويُنسَب إليها على اللفظ، فيقال: السُّدّيُّ، ومنه
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 188.
الإمام المشهور، وهو إسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ؛ لأنه كان يبيع الْمَقَانع ونحوها في سُدَّةِ مسجد الكوفة، والجمع سُدَدٌ مثل غُرْفة وغُرَف. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) الرجل: (يَا رَسُولَ اللهِ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ "، قَالَ) أنس رضي الله عنه: (فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ)؛ أي: خَضَع، وهو من باب استفعل، من السكون الدالّ على الخضوع، وقال الداوديّ؛ أي: سكن، وقال الكرمانيّ: استكان افتعل، من السكون، فالمدّ شاذّ، وقيل: استفعل من الكون، فالمدّ قياس، قاله في "العمدة"
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: اسْتَكَنَ: إذا خَضَع، وذلّ، وتُزاد الأَلِف، فيقال: اسْتَكَانَ، قال ابن القَطّاع: وهو كثير في كلام العرب، قيل: مأخوذ من السكون، وعلى هذا فوزنه افتعل، وقيل: من الْكِينة، وهي الحالة السيئة، وعلى هذا فوزنه استفعل. انتهى
(3)
.
وقال المرتضى رحمه الله: استكانَ الرجلُ: خَضَع، وذَلّ، ومنه حديث توبة كعب:"أما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما"؛ أي: خَضَعَا، وذَلَّا، ووزنه افتعل، أُشبعت حركة عَيْنه، فجاءت ألِفًا. انتهى
(4)
.
(ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صَلَاةٍ، وَلَا صِيَامٍ، وَلَا صَدَقَةٍ) وفي بعض النسخ: "كثير" بالثاء المثلّثة، بدل "كبير" بالموحّدة، وإضافته إلى ما بعده، من إضافة الصفة للموصوف؛ أي: صلاة كثيرة، ولا صيامًا كثيرًا، ولا صدقة كثيرة، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصيام، والصدقة؛ لأن الفرائض لا بدّ له، ولغيره من فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأت منها بالكثير الذي يُعتمد عليه، ويُرجى دخول الجنّة بسببه، هذا ظاهره.
ويَحْتَمل أن يكون أراد: أن الذي فَعَله من تلك الأمور، وإن كان كثيرًا، فإنه محتقَر بالنسبة إلى ما عنده من محبّة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه ظهر له
(1)
"المصباح المنير" 1/ 270 - 271.
(2)
"عمدة القاري" 24/ 231.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 283 - 284.
(4)
"تاج العروس" ص 8070.
أن محبّة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أفضل الأعمال، وأعظم القُرَب، فجعلها عُمْدته، واتّخذها عُدّته، والله تعالى أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى بُعد الاحتمال الثاني من سياق الحديث، فالأول هو الأقرب، فتأملّ بالإمعان، وبالله تعالى التوفيق.
(وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ) صلى الله عليه وسلم (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ")؛ أي: لك الشرف العظيم، وهو أن تلحق بمن أحببتهم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفىً، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6693]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْيَشْكُرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْد، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْيَشْكُرِيُّ) -بفتح التحتانية، وسكون المعجمة، وضمّ الكاف- أبو عليّ الصائغ المروزيّ، ثقةٌ [11].
رَوَى عن عبدان عبد الله بن عثمان، وأخيه شاذان عبد العزيز بن عثمان، وعلي بن الحكم الأنصاريّ، وهاشم بن مخلد، وعلي بن الحسن بن شقيق، وحبيب الجلاب المروزيين.
وروى عنه الشيخان، والنسائيّ، وأحمد بن سيار المروزيّ، والفضل بن محمد الشعرانيّ، ومحمد بن محمد بن رجاء بن السنديّ، ومحمد بن علي الحكيم الترمذيّ.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال مسلمة بن قاسم: روى عنه بعض أصحابنا، ووثقه.
مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
روى عنه البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا
(1)
"المفهم" 6/ 646 - 647.
هذا الحديث
(1)
، وكذلك ليس له عند البخاريّ إلا حديث واحد، وهو حديث:"أوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرِشي، وعيبتي. . ." الحديث.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ جَبَلَةَ) -بفتح الجيم، والموحّدة- أبو عبد الرحمن المروزيّ الْمُلَقَّب عبدان، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 221) في شعبان (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
3 -
(أَبُوهُ) عثمان بن جَبَلة -بفتح الجيم، والموحّدة- ابن أبي رَوَّاد -بفتح الراء، وتشديد الواو- الْعَتَكيّ -بفتح العين المهملة، والمثناة- مولاهم، المروزيّ، ثقةٌ، من كبار 101، مات على رأس المائتين (خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 42.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل بابين.
5 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد الله بن طارق الْجَمَلي -بفتح الجيم والميم- المراديّ، أبو عبد الله الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، كان لا يدلِّس، ورُمي بالإرجاء [5] (ت 118) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية عمرو بن مُرّة، عن سالم بن أبي الجعد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5819)
- حدّثنا عبدان، أخبرنا أبي، عن شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بن مالك، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: "ما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كثيرِ صلاةٍ، ولا صومٍ، ولا صدقةٍ، ولكني أحب الله ورسوله، قال:"أنت مع من أحببت". انتهى
(2)
.
[تنبيه]: هكذا رواية شعبة عند الشيخين عن سالم بن أبي الجعد، بواسطة عمرو بن مرّة، لكن أخرجه أبو يعلى في "مسنده" دون واسطة، وقد صرّح شعبة بسماعه عن سالم، ونصّه:
(1)
هذا هو الصواب، كما في البرامج الحديثية، وأما الذي في "تهذيب التهذيب" عن "الزهرة" من أن مسلمًا روى عنه أربعة أحاديث، فغير صحيح، فليُتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2283.
(3632)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا غُندر، عن شعبة، قال: سمعت سالم بن أبي الجعد، عن أنس، أن رجلًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟ قال:"وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها من كبيرِ صلاةٍ، ولا صيام، ولا صدقةٍ، إلا أني أحب الله ورسوله، قال:"فأنت مع من أحببت". انتهى
(1)
.
ولعلّ شعبة له طريقان في هذا، ويمكن أن يكون سمعه عن عمرو، عن سالم، ثم لقي سالمًا، فسمعه منه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح" ما حاصله: يقال: إن أبا عبدان تفرد برواية هذا الحديث عن شعبة، وضاق مخرجه على الإسماعيليّ، وأبي نعيم، فأخرجاه من طريق البخاريّ عنه، وأخرجه مسلم عن واحد، عن عبدان، ووقع لي من رواية أخرى عن شعبة، أخرجه أبو نعيم في "المحبين" من طريق السميدع بن واهب عنه، وقد رواه منصور عن سالم بن أبي الجعد، كما سيأتي في "كتاب الأحكام"، وأخرجه أبو عوانة من رواية الأعمش، عن سالم، واستغربه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: تفرّد والد عبدان بروايته عن شعبة، فيه نظر؛ لأنه رواه عنه غندر في "مسند أبي يعلى"، كما أسلفته آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6694]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَنَسًا (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنَا مُعَاذٌ -يَعْنى: ابْنَ هِشَامٍ- حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، يدلّس، رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
(1)
"مسند أبي يعلى" 6/ 313.
2 -
(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَام) بن أبي عبد الله الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، رُبّما وَهِم [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر -بمهملة، ثم نون، ثم موحّدة، بوزن جعفر- أبو بكر البصريّ الذسْتوائيّ -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة، ثم مدّ- ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين، و"أبو عوانة" هو: وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ.
[تنبيه]: أما رواية شعبة عن قتادة، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(3024)
- حدّثنا أبو موسى
(1)
، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا قال: جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: متى الساعة؟ قال: "ما أعددت لها؟ " قال: أُحِب الله ورسوله، قال:"أنت مع من أحببت". انتهى
(2)
.
وأما رواية هشام الدستوائيّ عن قتادة، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، بسند المصنّف أيضًا فقال:
(3023)
- حدّثنا أبو موسى، حدّثنا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن أنس، أن رجلًا من أهل البادية، سأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا هم أجدر أن يسألوه من أصحابه، قال: يا رسول الله متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: ما أعددت لها، غير أني أحبّ الله ورسوله، قال:"فإنك مع من أحببت"، قال أنس: فما رأيت المسلمين فَرِحُوا بشيء بعد الإسلام أشدّ فرحًا منه بقوله. انتهى
(3)
.
(1)
أبو موسى في الإسنادين هو محمد بن المثنّى شيخ مسلم في هذا الحديث.
(2)
"مسند أبي يعلى" 5/ 373.
(3)
"مسند أبي يعلى" 5/ 372.
وأما رواية أبي عوانة عن قتادة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6695]
(2640) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ، أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
3 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذَليّ، أبو عبد الرحمن الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
[تنبيه]: كون عبد الله هنا هو ابن مسعود رضي الله عنه هو الذي مشى عليه بعض الرواة، وبعضهم جعله عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وكلاهما صحيح، كما يأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى -.
والباقون ذُكروا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالكوفيين، غير إسحاق، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه "عبد الله" مهملًا، وقد سبقت القاعدة غير مرّة، فلا تغفل، فهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنهم، ومناقبه جَمّة، وأَمَّره عمر على الكوفة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة، وفي رواية الطيالسيّ:"عن شعبة، عن الأعمش، سمع أبا وائل"، وكذا في رواية عمرو بن مرزوق:"عن شعبة، عن الأعمش، سمعت أبا وائل". (عَنْ عَبْدِ اللهِ) قال في "الفتح": هكذا رواه أصحاب شعبة، فقالوا:"عن عبد الله"، ولم ينسبوه، منهم: محمد بن جعفر، وابن أبي عديّ، عند مسلم، وأبو داود الطيالسيّ، عند أبي عوانة، وعمرو بن مرزوق، عند أبي نعيم، وأبو عامر الْعَقَديّ، ووهب بن جرير، عند الإسماعيليّ، وحَكَى الإسماعيليّ عن بندار أنه عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعريّ، واستَدَلّ برواية سفيان الثوريّ، عن الأعمش عند البخاريّ، قال الحافظ: ولكن صنيع البخاريّ يقتضي أنه كان عند أبي وائل، عن ابن مسعود، وعن أبي موسى جميعًا، وأن الطريقين صحيحان؛ لأنه بَيَّن الاختلاف في ذلك، ولم يرجّح، ولذا ذكر أبو عوانة في "صحيحه" عن عثمان بن أبي شيبة أن الطريقين صحيحان، قال الحافظ: ويؤيد ذلك أن له عند ابن مسعود أصلًا، فقد أخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق عطيّة عن أبي سعيد:"قال: أتيت أنا وأخي عبد الله بن مسعود، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث"، وأخرجه أيضًا من طريق مسروق، عن عبد الله به. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وممن أشار إلى صحّة الطريقين الدارقطنيّ رحمه الله، ودونك نصّ "العلل":
(740)
- وسئل الشيخ أبو الحسن عليّ بن عمر بن مهديّ الحافظ من حديث شقيق، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المرء مع من أحب"، فقال: هو حديث يرويه الأعمش، واختُلف عنه، فرواه جرير بن حازم، وسليمان بن قَرْم، وجرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، ورواه أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن أبي موسى، ولعلهما صحيحان، وقد رَوَى أبو بكر بن عياش، عن سمعان، وقيل:
(1)
"الفتح" 14/ 40 - 41، كتاب "الأدب" رقم (6168).
ابن سمعان، عن أبي وائل، عن ابن مسعود:"المرء مع من أحب". انتهى
(1)
.
(قَالَ) عبد الله رضي الله عنه: (جَاءَ رَجُلٌ) وفي حديث أبي موسى: "قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم "، ووقع في رواية أبي معاوية، ومحمد بن عبيد:"أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل"، وأَولى ما فُسّر به هذا المبهم أنه أبو موسى راوي الحديث، فعند أبي عوانة من رواية محمد بن كناسة، عن الأعمش، في هذا الحديث، عن شقيق، عن أبي موسى، قلت: يا رسول الله
…
، فذكر الحديث، ولكن يعكُر عليه ما وقع في رواية وهب بن جرير التي تقدَّم ذِكرها من عند أبي نعيم، فإن لفظه:"عن عبد الله قال: جاء أعرابيّ، فقال: يا رسول الله إني أحب قومًا، ولا ألحق بهم. . ." الحديث، وأبو موسى إن جاز أن يُبهِم نفسه، فيقول: أتى رجل، فغير جائز أن يصف نفسه بأنه أعرابيّ، وقد وقع في حديث صفوان بن عَسّال الذي أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن خزيمة، من طريق عاصم بن بَهْدلة، عن زِرّ بن حُبيش، قال:"قلت لصفوان بن عَسّال: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوى شيئًا؟ قال: نعم، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير، فناداه أعرابيّ بصوت له جهوريّ، فقال: أيا محمد، فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم على قَدْر ذلك، فقال: "هاؤم"، قال: أرأيت المرء يحب القوم. . ." الحديث.
وأخرج أبو نعيم في "كتاب المحبين" من طريق مسروق، عن عبد الله، وهو ابن مسعود قال:"أتى أعرابيّ، فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ، إني لأحبك. . ." فذكر الحديث، فهذا الأعرابيّ يَحْتَمِل أن يكون هو صفوان بن قدامة، فقد أخرج الطبرانيّ، وصححه أبو عوانة من حديثه، "قال: قلت: يا رسول الله إني أحبك، قال: المرء مع من أحب".
وقد وقع هذا السؤال لغير مَن ذُكر، فعند أبي عوانة أيضًا، وأحمد، وأبي داود، وابن حبان، من طريق عبد الله بن الصامت:"عن أبي ذرّ قال: قلت: يا رسول الله الرجل يحب القوم. . ." الحديث، ورجاله ثقات، فإن كان مضبوطًا أمكن أن يُفَسَّر به المبهم في حديث أبي موسى، لكن المحفوظ بهذا الإسناد عن أبي ذرّ:"الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه"، كذا أخرجه
(1)
"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 94.
مسلم وغيره، فلعل بعض رواته دخل عليه حديث في حديث
(1)
.
(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ تَرَى) وفي رواية البخاريّ: "كيف تقول؟ "(فِي رَجُلٍ، أَحَبَّ قَوْمًا، وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟) وفي الرواية الآتية: "ولَمّا يَلحَق بهم"، وهي أبلغ لأن النفي بـ "لَمّا" أبلغ من النفي بـ "لم"، فيؤخذ منه أن الحكم ثابت، ولو بعد اللحاق، وفي حديث أبي ذرّ المشار إليه قبلُ:"ولا يستطيع أن يعمل بعملهم"، وفي بعض طرق حديث صفوان بن عَسّال عند أبي نعيم:"ولم يعمل بمثل عملهم"، وهو يفسر المراد.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ")؛ يعني: أن من أحب قومًا بالإخلاص يكون من زُمرتهم، وإن لم يعمل عملهم؛ لثبوت التقارب بين قلوبهم، وربما تؤدي تلك المحبة إلى موافقتهم، وفيه حث على محبة الصلحاء والأخيار رجاءَ اللَّحاق بهم، والخلاص من النار
(2)
.
وقال المباركفوريّ رحمه الله: "المرء مع من أحبّ"؛ أي: يُحشر مع محبوبه، ويكون رفيقًا لمطلوبه، قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]، وظاهر الحديث: العموم الشامل للصالح والطالح، ويؤيده حديث:"المرء على دِين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"
(3)
، ففيه ترغيب، وترهيب، ووعد، ووعيد، وفي رواية للترمذيّ عن أنس:"المرء مع من أحبّ، وله ما اكتسب"، وفي رواية البيهقيّ في "شعب الإيمان":"أنت مع من أحببت، ولك ما احتسبت". قال القاري: أي: أجر ما احتسبت، والاحتساب: طلب الثواب، وأصل الاحتساب بالشيء: الاعتداد به، ولعله مأخوذ من الْحِساب، أو الْحَسْب، واحتسب بالعمل: إذا قَصَد به مرضاة ربه.
وقال التوربشتيّ: وكلا اللفظين؛ يعني: "احتسب" و"اكتسب" قريب من الآخَر في المعنى المراد منه، قال الطيبيّ رحمه الله: وذلك لأن معنى ما اكتسب: كَسَب كسْبًا يُعتدّ به، ولا يَرِد عليه سبب الرياء والسمعة، وهذا هو معنى
(1)
"الفتح" 14/ 42 - 43، كتاب "الأدب" رقم (6168).
(2)
"عون المعبود" 14/ 25.
(3)
قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال النوويّ: إسناده صحيح.
الاحتساب؛ لأن الافتعال للاعتمال. انتهى، ومعنى الحديث: أن المرء يحشر مع من أحبه، وله أجر ما احتسب في محبته. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "المرء مع من أحبّ" طبعًا وعقلًا وجزاءً ومحلًّا، فكلُّ مهتمّ بشيء، فهو منجذب إليه، وإلى أهله بطبعه، شاء أم أبي، وكلُّ امرئ يصبو إلى مناسِبه، رضي أم سَخِط، فالنفوس العلوية تنجذب بذواتها، وهممها، وعملها إلى أعلى، والنفوس الدنية، تنجذب بذواتها، إلى أسفل، ومن أراد أن يعلم هل هو مع الرفيق الأعلى، أو الأسفل، فلينظر أين هو؟، ومع من هو؟ في هذا العالم، فإن الروح إذا فارقت البدن، تكون مع الرفيق الذي كانت تنجذب إليه في الدنيا، فهو أَولى بها، فمن أحب الله فهو معه في الدنيا والآخرة، إن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكت فمع الله، فهو بالله، ولله، ومع الله، واتفقوا على أن المحبة لا تصحّ إلا بتوحد المحبوب. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قد جمع أبو نعيم طرق هذا الحديث في جزء سماه "كتاب المحبين مع المحبوبين"، وبلغ الصحابة فيه نحو العشرين، وفي رواية أكثرهم بهذا اللفظ، وفي بعضها بلفظ:"أنت مع من أحببت"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود، أو عبد الله بن قيس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف هنا [50/ 6695 و 6696 و 6697] (2640 و 2641)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6168 و 6169 و 6170)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(253)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 392 و 4/ 392 و 395 و 398 و 405)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(557)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 100)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 101 و 8/ 33)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 68)،
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 7/ 51.
(2)
"فيض القدير" 6/ 265.
و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 195)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3478)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6696]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد - يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ - كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنا أَبُو الْجَوَّاب، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ، جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عَدِيّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
2 -
(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) الْعَسْكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرب [10](ت 3 أو 255)(خ م دس) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.
3 -
(أَبُو الْجَوَّابِ) الأحوص بن جَوّاب - بفتح الجيم، وتشديد الواو - الضّبّيّ، الكوفيّ، صدوقٌ، رُبّما وَهِم [9](ت 211)(م دت س) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
4 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ قَرْمٍ) - بفتح القاف، وسكون الراء - ابن معاذ، أبو داود البصريّ النحويّ، ومنهم من ينسبه إلى جدّه، سيّئ الحفظ، يتشيع [7](خت د ت س) تقدم في "الطلاق" 6/ 3710.
[تنبيه]: سليمان بن قرم هذا ضعفه ابن معين والنسائيّ، وقال في "التقريب": سيّئ الحفظ، يتشيّع، وإنما أخَرج له مسلم متابعةً، فلا يضرّ، قال النوويّ رحمه الله: سليمان بن قرم - هو بفتحٍ القاف، وإسكان الراء - وهو ضعيف، لكن لم يَحْتَجّ به مسلم، بل ذكره متابعةً، وقد سبق أنه يَذكر في المتابعة بعض الضعفاء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 188.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين، و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) ضمير التثنية لابن أبي عديّ، ومحمد بن جعفر غُندر.
وقوله: (جَمِيعًا عَنْ سُلَيْمَانَ)؛ يعني: أن كلًّا من شعبة، وسليمان بن قرم رويا هذا الحديث عن سليمان الأعمش إلخ.
[تنبيه]: أما رواية ابن أبي عديّ، عن شعبة، فقد ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، بسند المصنّف، فقال:
(1679)
- حدّثنا محمد بن المثنى، قال: نا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: "المرء مع من أحبّ". انتهى
(1)
.
وأما رواية محمد بن جعفر غندر عن شعبة، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، بسند المصنّف أيضًا، فقال:
(5816)
- حدّثنا بشر بن خالد، حدّثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"المرء مع من أحبّ". انتهى
(2)
.
وأما رواية سليمان بن قرم عن سليمان الأعمش، فقد ساقها الحافظ في "تغليق التعليق"، فقال:
وأما حديث سليمان بن قرم، فأخبرنا شيخ الإسلام أبو حفص بن أبي الفتح الشافعيّ، أنا محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز قراءةً عليه، ونحن نسمع، أنا عبد العزيز بن عبد المنعم، عن عزيزة بنت عليّ بن يحيى بن الطراح سماعًا، أنا جدّي يحيى بن عليّ، أنا الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ بن ثابت، قال: أنا عليّ بن أحمد بن عليّ المقرئ، ثنا أبو القاسم إبراهيم بن سلمة الكهيليّ، ثنا محمد بن عبد الله الحضرميّ، ثنا ابن نمير، ثنا أبو الجوّاب، ثنا سليمان بن قرم، عن الأعمش، عن شقيق، قال: قال عبد الله: جاء رجل إلى
(1)
"مسند البزار" 5/ 101.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2283.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل أحب قومًا، ولَمّا يَلْحَق بهم؟ قال:"المرء مع من أحبّ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6697]
(2641) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيةَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَمحَمَّد بْن عُبَيْدٍ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُل. فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد التسعة الذين يروي عنهم الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم - بمعجمتين - الضرير الكوفيّ، عَمِي وهو صغير، ثقةٌ، أحفظ الناس لحديث الأعمش، وقد يَهِم في حديث غيره، من كبار [9](ت 195) وله اثنتان وثمانون سنةً، وقد رُمي بالإرجاء (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ) بن أبي أمية الطَّنَافسيّ الكوفيّ الأحدب، ثقةٌ حافظ [11](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 32/ 234.
4 -
(أبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم الأشعريّ الصحابيّ الشهير، رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ) فاعل "ذَكَرَ" كان الأَولى أن يقول: فذكرا بالتثنية لأبي معاوية، ومحمد بن عبيد، ولكن للأول وجه، وهو أن يؤوّل بذِكر كل منهما، والله تعالى أعلم.
(1)
"تغليق التعليق" 3/ 298 - 299. قال الجامع عفا الله عنه: كانت رواية سليمان بن قرم مقرونة برواية أبي عوانة، فاقتصرت بنقلها؛ لأن رواية أبي عوانة ليست من رواية مسلم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية أبي معاوية عن الأعمش، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19644)
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن أبي موسى، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا أحبّ قومًا، ولَمّا يَلْحَق بهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المرء مع من أحبّ". انتهى
(1)
.
وأما رواية محمد بن عُبيد، عن الأعمش، فقد ساقها أيضًا الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19514)
- حدّثنا محمد بن عُبيد، ثنا الأعمش، عن شقيق، عن أبي موسى، قال: جاء رجلٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يحب القوم، ولَمّا يَلْحَق بهم؟ فقال:"المرء مع من أحبّ". انتهى
(2)
.
(51) - (بَابٌ إِذَا أُثْنيَ عَلَى الصَّالِح، فَهِيَ بُشْرَى، وَلَا تَضُرُّهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6698]
(2642) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو الرَّبِيع، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِت، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنَ الْخَيْر، وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم تقدّموا في الباب الماضي، وقبله ببابين، وقبل ستة أبواب، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود العتكيّ الزهرانيّ، و"أبو عمران الْجَوْنيّ" هو:
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 405.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 392.
عبد الملك بن حبيب البصريّ، و"أبو ذرّ" هو: جندب بن جُنادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أربعة ممن اشتهر بالكنية، وفيه أبو ذرّ رضي الله عنه من كبار الصحابة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة الغفاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قِيلَ): سيأتي في الروايات المخرّجة في التنبيه الآتي أن القائل هو أبو ذرّ نفسه رضي الله عنه، ولفظه:"قلت: يا رسول الله، الرجل يعمل. . .". (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبِرني، (الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ)؛ أي: أخبِرنا بحاله، فـ "الرجلَ" منصوب بنزع الخافض، والمراد بالعمل: جنسه، وقوله:(مِنَ الْخَيْرِ) بيان للعمل، ومن المعلوم أن لا خير في العمل للرياء، فيكون عمله خالصًا لله تعالى. (ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ)؛ أي: يُثنون على ذلك العمل، أو على ذلك الخير، وفي رواية:"ويحبه الناس عليه"؛ أي: يعظّمونه عليه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("تِلْكَ)؛ أي: المحمدة، أو المحبة، أو الخصلة، أو المثوبة، (عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ")؛ أي: معجَّل بشارته، وأما مؤجَّلها فباقٍ إلى يوم آخرته، وظاهره أنه يستوي فيه أنه يعجبه حمدهم، ومحبتهم، أو لا، والثاني أَولى، والأول أظهر.
قال المظهر: "أرأيت إلخ"؛ أي: أَخْبِرنا بحال من يعمل عملًا صالِحًا لله تعالى، لا للناس، ويمدحونه، هل يبطل ثوابه؟ فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"؛ يعني: هو في عمله ذلك ليس مرائيًا، فيعطيه الله تعالى به ثوابين: ثواب في الدنيا، وهو حَمْد الناس له، وثواب في الآخرة، وهو ما أَعَدَّ الله تعالى له
(1)
.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: المعنى: أن الله تعالى إذا تقبَّل العمل، أوقع في القلوب قبول العامل، ومَدْحه، فيكون ما أوقع في القلوب مبشرًا بالقبول، كما
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3370 - 3371.
أنه إذا أحب عبدًا حبّبه إلى خلقه، وهم شهداء الله في الأرض. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: معناه: هذه البشرى المعجّلة له بالخير، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه، ومحبته له، فيحببه إلى الخلق، كما سبق في الحديث:"ثم يوضَع له القبول في الأرض"، هذا كلّه إذا حَمِده الناس من غير تعرّض منه لِحمدهم، وإلا فالتعرض مذموم. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [51/ 6698 و 6699](2642)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4225)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 156 و 157 و 168)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(366 و 5768)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(1197)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4139 و 4140)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الإخلاص في الأعمال، حيث إن الله تعالى يوقع في قلوب عباده محبّة صاحبها، وثناءهم عليه، ورضاهم عنه، وهذا من البشرى المعجّلة لذلك الشخص، وهذا معنى قوله في الحديث الماضي:"ثم يوضَع له القبول في الأرض".
ومن جملة تلك البشرى بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره، كما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].
وأما بشرى الآخرة فجنة النعيم، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ
(1)
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 245.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 189.
وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)} [التوبة: 72].
2 -
(ومنها): بيان أن ثناء الناس، ومحبّتهم لعمل العبد علامة على إخلاصه فيه.
3 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أنه ينبغي للعبد أن يجاهد نفسه في الإخلاص حتى تحصل له بشرى الدنيا والآخرة.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إن هذا الحديث في الرجل الذي يعمل العمل الصالح خالصًا، ولا يريد إظهاره للناس؛ لأنَّه لو عمله ليحمده الناس، أو يبرّوه لكان مرائيًا، ويكون ذلك العمل باطلًا فاسدًا، وإنما الله تعالى بلطفه، ورحمته، وكرمه يعامل المخلصين في الأعمال، الصادقين في الأقوال والأحوال بأنواع من اللطف، فيقذف في القلوب محبتهم، ويُطلق الألسنة بالثناء عليهم؛ لِيُنَوِّه بذكرهم في الملأ الأعلى؛ ليستغفروا لهم، وينشر طِيب ذِكرهم في الدنيا؛ ليُقْتَدَى بهم، فيَعْظُم أجرهم، وترتفع منازلهم، وليجعل ذلك علامة على استقامة أحوالهم، وبشرى بحسن مآلهم، وكثير ثوابهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"تلك عاجل بشرى المؤمن"، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6699]
(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ وَكِيع (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، بِإِسْنَادِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِه، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ عَنْ شُعْبَةَ، غَيْرَ عَبْدِ الصَّمَدِ: وَيُحِبُّهُ النَّاسُ عَلَيْه، وَفي حَدِيثِ عَبْدِ الصَّمَدِ: وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ، كَمَا قَالَ حَمَّادٌ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ
(1)
"المفهم" 6/ 648.
عابدٌ، من كبار [9](ت 6 أو أول 197) وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(النَّضْرُ) بن شُميل المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ. . . إلخ)؛ أي: كل هؤلاء الأربعة: وكيع، ومحمد بن جعفر غُندر، وعبد الصمد بن عبد الوارث، والنضر بن شُميل رووا هذا الحديث عن شعبة، عن أبي عمران الجونيّ، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية وكيع عن شعبة فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شُعَب الإيمان"، فقال:
(6999)
- حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلويّ إملاءً، أنا عبد الله بن محمد بن الحسن الشرقيّ، نا عبد الله بن هاشم، نا وكيع، نا شعبة، عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ، أنه قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يعمل لله العمل، يحبه الناس عليه؟ قال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". انتهى
(1)
.
وأما رواية محمد بن جعفر غندر عن شعبة، فقد ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(3956)
- وحدّثنا محمد بن بشار، قال: نا محمد بن جعفر، قال: نا شعبة، عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول الله الرجل يعمل لنفسه، فيحبه الناس؟ قال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". انتهى
(2)
.
وأما رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة، فقد ساقها أيضًا البزّار رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(1)
"شعب الإيمان" 5/ 373.
(2)
"مسند البزار" 9/ 375.
(3955)
- حدّثنا محمد بن المثنى، قال: نا عبد الصمد، قال: نا شعبة، عن أبي عمران الْجَوْنيّ، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، الرجل يعمل لنفسه، فيحبه الناس؟ قال:"تلك عاجل بشرى المؤمن". انتهى
(1)
.
وأما رواية النضر بن شُميل عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
* * *
(1)
"مسند البزار" 9/ 375.
(48) - (كِتَابُ الْقَدَرِ)
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في ضبط القدر، وبيان معناه:
(اعلم): أن "القَدَر" - بفتحتين، أو بفتح فسكون -: القضاء والحكم، وهو ما يقدّره الله عز وجل، من القضاء، وَيحكُم به من الأمور. وقال اللحيانيّ: القدَر - أي: بفتحتين - الاسم، والقَدْر - أي: بفتح، فسكون - المصدر، وأنشد [من الخفيف]:
كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى أَخِيكَ مَتَاعٌ
…
وَبِقَدْرٍ تَفَرُّق وَاجْتِمَاعُ
وأنشد في المفتوح [من الكامل]:
قَدَرٌ أَحَلَّكَ ذَا النَّخِيلِ وَقَدْ أَرَى
…
وَأَبِيكَ مَا لَكَ ذُو النَّخِيلِ بِدَارِ
قال ابن سِيدَهْ: هكذا أنشده بالفتح، والوزن يَقبَل الحركة والسكون. ذكره في "اللسان"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: القدَر بالفتح لا غير: القضاء الذي يقدّره الله تعالى. انتهى
(2)
.
وقال ابن الأثير: وقد تكرّر ذِكر "القدر" في الحديث، وهو عبارة عما قضاه الله، وحكم به من الأمور، وهو مصدرُ قَدَرَ يَقْدِرُ قَدَرًا، وقد تُسكّن داله. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": "القدر": مصدرٌ، تقول: قَدَرتُ الشيءَ - بتخفيف الدال، وفتحها - أقدِر - بالكسر، والفتح - قَدَرًا وقَدْرًا: إذا أحطت بمقداره. قال الله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49].
(1)
"لسان العرب" 5/ 74.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 492.
(3)
"النهاية" 4/ 22.
قال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: "القدَر" بوضعه يدلّ على القدرة، وعلى المقدور الكائن بالعلم، ويتضمن الإرادة عقلًا، والقول نقلًا، وحاصله وجود شيء في وقتٍ، وعلى حالٍ بوفق العلم والإرادة، والقول، وقَدَّر الله الشيءَ بالتشديد: قضاه، ويجوز بالتخفيف، وقال ابن القطاع: قدّر الله الشيء: جعله بقدَرٍ، والرزقَ صَنَعه، وعلى الشيء مَلَكه.
والقضاء: الحكم بالكليّات على سبيل الإجمال في الأزل، والقدر: الحكم بوقوع الجزئيّات التي لتلك الكلّيّات على سبيل التفصيل
(1)
.
وقال الكرماني: المراد بالقدر: حُكم الله، قال العلماء: القضاء: هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله
(2)
.
والمراد أن الله تعالى عَلِمَ مقادير الأشياء، وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجَدُ، فكل مُحدَث صادر عن علمه وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من الدِّين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة، وخيار التابعين، إلى أن حَدَثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة، وقد روى مسلم القصة في ذلك من طريق كهمس، عن ابن بُرَيدة، عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة: مَعْبَدٌ الجهني، قال: فانطلقت أنا وحميد الحميري، فذَكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عَمَلًا. وقد حَكَى الْمُصَنِّفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يَعلَمها بعد كونها. قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نَعرِف أحدًا يُنسَب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مُطبِقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم، وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخفّ من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم، فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سَلَّمَ القدري
(1)
"الفتح" 14/ 361 - 362.
(2)
راجع: "فتح الباري" 11/ 581.
العلم خُصِمَ؛ يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمّنه العلم؟ فإن مَنَعَ وافق قول أهل السُّنَّة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك
(1)
.
وقال أبو المظفر ابن السمعاني: سبيلُ معرفة هذا الباب التوقيف من الكتاب والسُّنَّة، دون محض القياس والعقل، فمن عَدَل عن التوقيف فيه ضَلَّ، وتاه في بحار الْحَيْرة لم يبلغ شفاء العين، ولا ما يطمئن به القلب؛ لأن القدر سر من أسرار الله تعالى، اختَصَّ العليم الخبير به، وضَرَب دونه الأستار، وحجبه عن عقول الخلق ومعارفهم؛ لِمَا عَلِمَه من الحكمة، فلم يعلمه نبي مرسل، ولا ملك مقرب. وقيل: إن سر القدر ينكشف لهم إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها. انتهى.
وقد أخرج الطبراني بسند حسن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "إذا ذُكِر القدر فأمسكوا". وأخرج مسلم من طريق طاوس: "أدركت ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كلُّ شيء بقدر". وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ شيء بقدر، حتى العجز والكَيْس".
قال الحافظ رحمه الله: و"الْكَيْسُ" - بفتح الكاف -: ضد العجز، ومعناه: الْحِذْق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه: أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سَبَق به علم الله عز وجل ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غايةً لذلك؛ للإشارة إلى أن أفعالنا، وإن كانت معلومة لنا، ومرادةً منا فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئه الله.
وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعًا وموقوفًا مطابق لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} ، فإن هذه الآية نص في أن الله خالق كل شيء، ومُقَدِّره، وهو أنصّ من قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96].
واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدرية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "جاء مشركو قريش يخاصمون
(1)
راجع: "الفتح" 1/ 145، في كتاب "الإيمان".
النبي صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت". قال: ومذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): قسّم شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله القدريّة ثلاثة أقسام:
(القسم الأول: القدريّة المشركة): وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنعام: 148]، {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الآية [النحل: 35]، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} الآية [الزخرف: 20].
فهؤلاء يَؤُول أمرهم إلى تعطيل الشرائع، والأمر والنهي، مع الاعتراف بالربوبيّة العامّة لكل مخلوق، وأنه ما من دابّة إلا ربي آخذ بناصيتها، وهو الذي يُبتَلَى به كثيرًا، إما اعتقادًا، وإما حالًا طوائفُ من الصوفيّة والفقراء حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرّمات، وإسقاط الواجبات، ورفع العقوبات، وإن كان ذلك لا يستتبّ لهم، وإنما يفعلونه عند موافقة أهوائهم، كفِعل المشركين من العرب، ثم إذا خولف هوى أحد منهم قام في دَفْع ذلك متعدّيًا للحدود، غير واقف عند حدّ، كما كان يفعل المشركون أيضًا؛ إذ هذه الطريقة تتناقض عند تعارض إرادات البشر، فهذا يريد أمرًا، والآخر يريد ضدّه، وكلّ من الإرادتين مقدّرة، فلا بدّ من ترجيح إحداهما أو غيرهما، أو كل منهما من وجه، وإلا لزم الفساد.
وقد يغلو أصحاب هذا الطريق حتى يجعلوا عين الموجودات هي الله، ويتمسّكون بموافقة الإرادة القدرية في السيئات الواقعة منهم ومن غيرهم، كقول الحريريّ: أنا كافر برب يُعصى، وقول بعض أصحابه لمّا دعاه مكّاس، فقيل له: هو مكّاس، فقال: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع الإرادة، وكقول ابن إسرائيل:
أَصْبَحْتُ مُنْفَعِلًا لِمَا يَخْتَارهُ
…
مِنِّي فَفِعْلِي كُلُّهُ طَاعَةُ
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 582، في كتاب "القدر".
وقد يسمّون هذا حقيقةً باعتبار أنه حقيقة الربوبية، والحقيقة الموجودة الكائنة، أو الحقيقة الخبريّة، ولمّا كان في هؤلاء شَوْبٌ من النصارى، والنصارى لهم شوبٌ من الشرك تابعوا المشركين فيما كانوا عليه من التمسّك بالقدر المخالف للشرع، هذا مع أنهم يعبدون غير الله الذي قدّر الكائنات كما أن هؤلاء فيهم شوب من ذلك.
وإذا اتسع زنادقتهم الذين هم رؤساؤهم قالوا: ما نعبد إلا الله؛ إذ لا موجود غيره، وقال رئيس لهم: إنما كفر النصارى لأنهم خصّصوا، فيشرّعون عبادة كل موجود بهذا الاعتبار، ويقررون ما كان عليه المشركون من عبادة الأوثان والأحجار، لكنهم يستقصرونهم حيث خصّصوا العبادة ببعض المظاهر والأعيان، ومعلوم أن هذا حاصل في جميع المشركين، فإنهم متفنّنون في الآلهة التي يعبدونها، وإدن اشتركوا في الشرك، هذا يعبد الشمس، وهذا يعبد القمر، وهذا يعبد اللات، وهذا يعبد العزى، وهذا يعبد مناة الثالثة الأخرى، فكل منهم يتخذ إلهه هواه، ويعبد ما يستحسن، وكذلك في عبادة قبور البشر كل يعلق على تمثال مَن أحسن به الظنّ.
(القسم الثاني: القدرية المجوسيّة): الذين يجعلون لله شركاء في خَلْقه، كما جعل الأولون شركاء في عبادته، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشرّ، ويقول من كان منهم في ملّتنا: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئه الله تعالى، وربّما قالوا: ولا يعلمها أيضًا، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قُدرته، ولا صُنعه، فيجحدون مشيئته النافذة، وقدرته الشاملة، ولهذا قال ابن عبّاس: القَدَر نظام التوحيد، فمن وحّد الله، وآمن بالقدر تمّ توحيده، ومن وحّد الله، وكذّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. ويزعمون أن هذا هو العدل، ويضمون إلى ذلك سلب الصفات، ويسمّونه التوحيد، كما يسمّي الأولون التلحيد التوحيد، فيُلحِد كل مثهما في أسمائه وصفاته، وهذا يقع كثيرًا، إما اعتقادًا، وإما حالًا في كثير من المتفقّهة والمتكلّمة، كما وقع اعتقاد ذلك في المعتزلة والشيعة المتأخرين، وابتُلي ببعض ذلك طوائف من المتقدّمين من البصريين والشاميين، وقد يُبتلى به حالًا لا اعتقادًا، بعض من يغلب عليه تعظيم الأمر والنهي من غير ملاحظة للقضاء والقدر.
ولِمَا بين الطائفتين من التنافي تجد المعتزلة أبعد الناس عن الصوفيّة، ويميلون إلى اليهوديّة، وينفرون عن النصارى، ويجعلون إثبات الصفات هو قول النصارى بالأقانيم، ولهذا تجدهم يذمّون النصارى أكثر، كما يفعل الجاحظ وغيره، كما أن الأوَّلين يميلون إلى النصارى أكثر.
ولهذا كان هؤلاء في الحروف، والكلام المبتدع، كما كان الأولون في الأصوات، والعمل المبتدع، كما اقتسم ذلك اليهود والنصارى، واليهود غالبهم قدريّة بهذا الاعتبار، فإنهم أصحاب شريعة، وهم معرضون عن الحقيقة القدريّة، ولهذا تجد أرباب الحروف والكلام المبتدع كالمعتزلة يوجبون طريقتهم، وبحرمون ما سواها، ويعتقدون أن العقوبة الشديدة لاحقة من خالفها، حتى إنهم يقولون بتخليد فسّاق أهل الملل، ويكفّرون من خرج عنهم من فرق الأمة، وهذا التشديد، والآصار، والأغلال شبه دِين اليهود.
وتجد أرباب الصوت والعمل المبتدع لا يوجبون، ولا يحرّمون، وإنما يستحبّون، وَيكرهون، فيعظّمون طريقهم، ويفضّلونه، ويرغّبون فيه، حتى يرفعوه فوق قَدْره بدرجات، فطريقهم رغبة بلا رهبة إلا قليلًا، كما أن الأول رهبةٌ في الغالب برغبة يسيرة، وهذا يُشبه ما عليه النصارى من الغلوّ في العبادات التي يفعلونها مع انحلالهم من الإيجاب والاستحباب، لكنهم يتعبّدون بعبادات كثيرة، ويبقون أزمانًا كثيرةً على سبيل الاستحباب، والفلاسفة يغلب عليهم هذا الطريق، كما أن المتكلّمين يغلب عليهم الطريق الأول.
(القسم الثالث: القدريّة الإبليسيّة): الذين صدّقوا بأن الله صدر عنه الأمران، لكن عندهم تناقض، وهم خصماء الله، كما جاء في الحديث، وهؤلاء كثير في أهل الأقوال والأفعال، من سفهاء الشعراء، ونحوهم من الزنادقة.
قال: فتدبّر كيف كانت الملل الصحيحة الذين آمنوا، والذين هادوا، والنصارى، والصابئون ليس فيها في الأصل قدريّة، وإنما حدثت القدريّة من الملّتين الباطلتين: المجوس، والذين أشركوا. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله
(1)
، وهو كلام نفيس، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 8/ 256 - 261.
(المسألة الثالثة): قد أجاد شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى في الردّ على أحد علماء الذميين، حيث أورد أبياتًا فيها استشكالات في القَدَر، فقال [من الطويل]:
أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ
…
تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةِ
إِذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ
…
وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي
دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي فَهَلْ إِلَى
…
دُخُولِي سَبِيل بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي
قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بِالْقَضَا
…
فَمَا أَنَا رَاضٍ بِالَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي
فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا
…
فَرَبِّيَ لَا يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي
فَهَلْ لِي رِضًا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سَيِّدِي
…
فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حَيْرَتِي
إِذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً
…
فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ؟
وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ؟
…
فبِاللَّهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ غُلَّتِي
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مرتجلًا، فقال:
سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ
…
مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ
فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلأَ الأَعْلَى
…
قَدِيمًا بِهِ إِبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ
وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ
…
عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الْحَفِيرَةِ
وَيُدْعَى خُصُومُ اللَّهِ يَوْمَ مَعَادِهِمْ
…
إِلَى النَّارِ طُرًّا مَعْشَرَ الْقَدَرِيَّةِ
سَوَاءٌ نَفَوْهُ أَو سَعَوْا لِيُخَاصِمُوا
…
بِهِ اللَّهَ أَو مَارَوْا بِهِ لِلشَّرِيعَةِ
وَأَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
…
هُوَ الْخَوْضُ فِي فِعْلِ الإِلَهِ بِعِلَّةِ
فَإِنَّهُمُوا لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَةً لَهُ
…
فَصَارُوا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ
فَإِنَّ جَمِيعَ الْكَوْنِ أَوْجَبَ فِعْلَهُ
…
مَشِيئَةُ رَبِّ الْخَلْقِ بَارِي الْخَلِيقَةِ
وَذَاتُ إِلَهِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ بِمَا
…
لَهَا مِنْ صِفَاتٍ وَاجِبَاتٍ قَدِيمَةِ
مَشِيئَتُهُ مَعْ عِلْمِهِ ثُمَّ قُدْرَةٍ
…
لَوَازِمُ ذَاتِ اللَّهِ قَاضِي الْقَضِيَّةِ
وَإِبْدَاعُهُ مَا شَاءَ مِنْ مُبْدَعَاتِهِ
…
بِهَا حِكْمَةٌ فِيهِ وَأَنْوَاعُ رَحْمَةِ
وَلَسْنَا إِذَا قُلْنَا جَرَتْ بمَشِيئَةٍ
…
مِنَ الْمُنْكِرِي آيَاتِهِ الْمُسْتَقِيمَةِ
بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْحُكْمَ للهِ وَحْدَهُ
…
لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ الَّذِي فِي الشَّرِيعَةِ
هُوَ الْمَلِكُ الْمَحْمُودُ فِي كُلِّ حَالَةٍ
…
لَهُ الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَاصٍ بِشِرْكَةِ
فَمَا شَاءَ مَوْلَانَا الإِلَهُ فَإِنَّهُ
…
يَكُونُ وَمَا لَا لَا يَكُونُ بِحِيلَةِ
وَقُدْرَتُهُ لَا نَقْصَ فِيهَا وَحُكْمُهُ
…
يَعُمُّ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذِي الْقَضِيَّةِ
أُرِيدُ بِذَا أَنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا
…
بِقُدْرَتهِ كَانَتْ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ
وَمَالِكُنَا فِي كُلِّ مَا قَدْ أَرَادَهُ
…
لَهُ الْحَمْدُ حَمْدًا يَعْتَلِي كُلَّ مِدْحَةِ
فَإِنَّ لَهُ فِي الْخَلْقِ رَحْمَتُهُ سَرَتْ
…
وَمِنْ حِكَمٍ فَوْقَ الْعُقُولِ الْحَكِيمَةِ
أُمُورًا يَحَارُ الْعَقْلُ فِيهَا إِذَا رَأَى
…
مِنَ الْحِكَمِ الْعُلْيَا وَكُلِّ عَجِيبَةِ
فَنُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ بِقُدْرَةٍ
…
وَخَلْقٍ وَإِبْرَامٍ لِحُكْمِ الْمَشِيئَةِ
فَنُثْبِتُ هَذَا كُلَّهُ لإِلَهِنَا
…
وَنُثْبِتُ مَا فِي ذَاكَ مِنْ كُلِّ حِكْمَةِ
وَهَذَا مَقَامٌ طَالَمَا عَجَزَ الأُولَى
…
نَفَوْهُ وَكَرُّوا رَاجِعِينَ بِحَيْرَةِ
وَتَحْقِيقُ مَا فِيهِ بِتَبْيِينِ غَوْرِهِ
…
وَتَحْرِيرِ حَقِّ الْحَقِّ فِي ذِي الْحَقِيقَةِ
هُوَ الْمَطْلَبُ الأَقْصَى لِوُرَّادِ بَحْرِهِ
…
وَذَا عَسِرٌ فِي نَظْمِ هَذِي الْقَصِيدَةِ
لِحَاجَتِهِ إِلَى بَيَانٍ مُحَقِّقٍ
…
لأَوْصَافِ مَوْلَانَا الإِلَهِ الْكَرِيمَةِ
وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَأَحْكَامِ دِينِهِ
…
وَأَفْعَالِهِ فِي كُلِّ هَذِي الْخَلِيقَةِ
وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ قَدْ بَانَ ظاهِرًا
…
وَإِلْهَامُهُ لِلْخَلْقِ أَفْضَلُ نِعْمَةِ
وَقَدْ قِيلَ فِي هَذَا وَخَطِّ كتَابِهِ
…
بَيَانُ شِفَاءٍ للنُّفُوسِ السَّقِيمَةِ
فَقَوْلُكَ لِمَ قَدْ شَاءَ مِثْلُ سُؤَالِ مَنْ
…
يَقُولُ فَلِمَ قَدْ كَانَ فِي الأزَليَّةِ
وَذَاكَ سُؤَالٌ يُبْطِلُ الْعَقْلُ وَجْهَهُ
…
وَتَحْرِيمُهُ قَدْ جَاءَ فِي كُلِّ شِرْعَةِ
وَفِي الْكَوْنِ تَخْصِيصٌ كَثِيرٌ يَدُلُّ مَنْ
…
لَهُ نَوْعُ عَقْلٍ أَنَّهُ بِإِرَادَةِ
وَإِصْدَارُهُ عَنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ
…
أَوِ الْقَوْلُ بِالتَّجويزِ رَمْيَةُ حَيْرَةِ
وَلَا ريبَ فِي تَعْلِيقِ كُلِّ مُسَبَّبٍ
…
بِمَا قَبْلَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُوجِبَةِ
بَل الشَّأْنُ فِي الأسْبَابِ أَسْبَابِ مَا تَرَى
…
وَإِصْدَارُهَا عَنْ حُكْمِ مَحْضِ الْمَشِيئَةِ
وَقَوْلُكَ لِمَ شَاءَ الإِلَهُ هُوَ الَّذِي
…
أَزَلَّ عُقُولَ الْخَلْقِ فِي قَعْرِ حُفْرَةِ
فَإِنَّ الْمَجُوسَ الْقَائِلِينَ بِخَالِقٍ
…
لِنَفْعٍ وَرَبٍّ مُبْدِعٍ لِلْمَضَرَّةِ
سُؤَالُهُمُ عَنْ عِلَّةِ السِّرِّ أَوْقَعَتْ
…
أَوَائِلَهُمْ فِي شُبْهَةِ الثَّنَوِيَّةِ
وَإِنَّ مَلَاحِيدَ الْفَلَاسِفَةِ الأُولَى
…
يَقُولُونَ بِالْفِعْلِ الْقَدِيمِ لِعِلَّةِ
بَغَوْا عِلَّةً لِلْكَوْنِ بَعْدَ انْعِدَامِهِ
…
فَلَمْ يَجِدُوا ذَاكُمْ فَضَلُّوا بِضِلَّةِ
وَإِنَّ مَبَادِي الشَّرِّ فِي كُلِّ أُمَّةِ
…
ذَوِي مِلَّةٍ مَيْمُونَةٍ نَبَوِيَّةِ
بَخَوْضِهِمُ فِي ذَاكُمُ صَارَ شِرْكُهُمْ
…
وَجَاءَ دُرُوسُ الْبَيِّنَاتِ بفَتْرَةِ
ويَكْفِيكَ نَقْضًا أَنَّ مَا قَدْ سَأَلْتَهُ
…
مِنَ الْعُذْرِ مَرْدُودٌ لَدَى كُلِّ فِطْرَةِ
فَأَنْتَ تَعِيبُ الطَّاغِينَ جَمِيعَهُمْ
…
عَلَيْكَ وَتَرْمِيهِمْ بِكُلِّ مَذَمَّةِ
وَتَنْحَلُ مَنْ وَالَاكَ صَفْوَ مَوَدَّةٍ
…
وَتُبْغِضُ مَنْ نَاواكَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةِ
وَحَالُهُمُ فِي كُلِّ قَوْلٍ وِفَعْلَةٍ
…
كَحَالِكَ يَا هَذَا بِأَرْجَحِ حُجَّةِ
وَهَبْكَ كَفَفْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ كَافِرٍ
…
وَكُلِّ غَوِيٍّ خَارجٍ عَنْ مَحَجَّةِ
فَيَلْزَمُكَ الإِعْرَاضُ عَنْ كُلِّ ظَالِمٍ
…
عَلَى النَّاسِ فِي نَفْسٍ وَمَالٍ وَحُرْمَةِ
وَلَا تُبْغِضَنْ يَوْمًا عَلَى سَافِكٍ دَمَا
…
وَلَا سَارِقٍ مَالًا لِصَاحِبِ فَاقَةِ
وَلَا شَاتِمٍ عِرْضًا مَصُونًا وَإِنْ عَلَا
…
وَلَا نَاكِحٍ فَرْجًا عَلَى وَجْهِ غَيَّةِ
وَلَا قَاطِعٍ لِلنّاسِ نَهْجَ سَبِيلِهِم
…
وَلَا مُفْسِدٍ فِي الأَرْضِ فِي كُلِّ وِجْهَةِ
وَلَا شَاهِدٍ بِالزُّورِ إِفْكًا وَفِرْيَةً
…
وَلَا قَاذِفٍ لِلْمُحْصَنَاتِ بِزَنْيَةِ
وَلَا مُهْلِكٍ لِلْحَرْثِ وَالنَّسْلِ عَامِدًا
…
وَلَا حَاكِمٍ لِلْعَالَمِينَ بِرِشْوَةِ
وَكُفَّ لِسَانَ اللَّوْمِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ
…
وَلَا تَأْخُذَنْ ذَا جُرْمَةٍ بِعُقُوبَةِ
وَسَهِّلْ سَبِيلَ الْكَاذِبِينَ تَعَمُّدًا
…
عَلَى رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ جَاءٍ بِفِرْيَةِ
وَإِنْ قَصَدُوا إِضْلَالَ مَنْ يَسْتَجِيبُهُمْ
…
بِرَوْمِ فَسَادِ النَّوْعِ ثُمَّ الرِّيَاسَةِ
وَجَادِلْ عَنِ الْمَلْعُونِ فِرْعَوْنَ إِذْ طَغَى
…
فَأُغْرِقَ فِي الْيَمِّ انْتِقَامًا بِغَضْبَةِ
وَكُلِّ كَفُورٍ مُشْرِكٍ بِإِلَهِهِ
…
وَآخَرَ طَاغٍ كَافِرٍ بِنُبُوَّةِ
كَعَادٍ وَنُمْرُودٍ وَقَوْمٍ لِصَالِحٍ
…
وَقَوْمٍ لِنُوحٍ ثُمَّ أَصْحَابِ الأَيْكَةِ
وَخَاصِمْ لِمُوسَى ثُمَّ سَائِرِ مَنْ أَتَى
…
مِنَ الأَنْبِيَاءِ مُحْيِيًا لِلشَّرِيعَةِ
عَلَى كَوْنِهِمْ قَدْ جَاهَدُوا النَّاسَ إِذْ بَغَوْا
…
وَنَالُوا مِنَ الْعَاصِي بَلِيغَ الْعُقُوبَةِ
وَإِلَّا فَكُلُّ الْخَلْقِ فِي كُلِّ لَفْظَةٍ
…
وَلَحْظَةِ عَيْنٍ أَو تَحَرُّكِ شَعْرَةِ
وَبَطْشَةِ كَفٍّ أَو تَخَطِّي قُدَيْمَةٍ
…
وَكُلِّ حِرَاكٍ بَلْ وَكُلِّ سَكِينَةِ
هُمُ تَحْتَ أَقْدَارِ الإِلَهِ وَحُكْمِهِ
…
كَمَا أَنْتَ فِيمَا قَدْ أَتَيْتَ بِحُجَّةِ
وَهَبْكَ رَفَعْتَ اللَّوْمَ عَنْ كُلِّ فَاعِلٍ
…
فِعَالِ رَدًى طَرْدًا لِهَذِي الْمَقِيسَةِ
فَهَلْ يُمْكِنُ رَفْعُ الْمَلَامِ جَمِيعِهِ
…
عَنِ النَّاسِ طُرًّا عِنْدَ كُلِّ قَبِيحَةِ
وَتَرْكُ عُقُوبَاتِ الَّذِينَ قَدِ اعْتَدَوْا
…
وَتَرْكُ الْوَرَى الإِنْصَافَ بَيْنَ الرَّعِيَّةِ
فَلَا تُضْمَنَنْ نَفْسٌ وَمَالٌ بِمِثْلِهِ
…
وَلَا يُعْقَبَنْ عَادٍ بمِثْلِ الْجَرِيمَةِ
وَهَلْ فِي عُقُولِ النَّاسِ أَو فِي طِبَاعِهِمْ
…
قَبُولٌ لِقَوْلِ النَّذْلِ
(1)
مَا وَجْهُ حِيلَتِي
وَيَكْفِيكَ نَقْضًا مَا بِجِسْمِ ابْنِ آدَمِ
…
صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ وَكُلِّ بَهِيمَةِ
مِنَ الأَلَمِ الْمَقْضِيِّ فِي غَيْرِ حِيلَةٍ
…
وَفِيمَا يَشَاءُ اللهُ أَكْمَلُ حِكْمَةِ
إِذَا كَانَ فِي هَذَا لَهُ حِكْمَةٌ فَمَا
…
يُظَنُّ بِخَلْقِ الْفِعْلِ ثُمَّ الْعُقُوبَةِ
وَكَيْفَ وَمِنْ هَذَا عَذَابٌ مُوَلَّدٌ
…
عَنِ الْفِعْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ عِنْدَ الطَّبِيعَةِ
كَآكِلِ سُمٍّ أَوْجَبَ الْمَوْتَ أَكْلُهُ
…
وَكُلٌّ بِتَقْدِيرٍ لِرَبِّ الْبَرِيَّةِ
فَكُفْرُكَ يَا هَذَا كَسُمٍّ أَكَلْتَهُ
…
وَتَعْذِيبُ نَارٍ مِثْلُ جُرْعَةِ غُصَّةِ
أَلَسْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الدَّارِ مَنْ جَنَى
…
يُعَاقَبُ إِمَّا بالْقَضَا أَو بِشِرْعَةِ
وَلَا عُذْرَ لِلْجَانِي بِتَقْديرِ خَالِقٍ
…
كَذَلِكَ فِي الأُخْرَى بِلَا مَثْنَوِيَّةِ
وَتَقْدِيرُ رَبِّ الْخَلْقِ لِلذَّنْبِ مُوجِبٌ
…
لِتَقْدِيرِ عُقْبَى الذَّنْبِ إِلَّا بِتَوْبَةِ
وَمَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَتَابِ لِرَفْعِهِ
…
عَوَاقِبَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْخَبِيثَةِ
كَخَيْرٍ تُمْحَى بِهِ الذُّنُوبُ وَدَعْوَةٍ
…
تُجَابُ مِنَ الْجَانِي وَرُبَّ شَفَاعَةِ
وَقَوْلُ حَلِيفِ الشَّرِّ إِنِّي مُقَدَّرٌ
…
عَلَيَّ كَقَوْلِ الذِّئْبِ هَذِي طَبِيعَتِي
وَتَقْدِيرُهُ لِلْفِعْلِ يَجْلُبُ نِقْمَةً
…
كَتَقْدِيرِهِ الأَشْيَاءَ طُرًّا بِعِلَّةِ
فَهَلْ يَنْفَعَنْ عُذْرُ الْمَلُومِ بأنَّهُ
…
كَذَا طَبْعُهُ أَمْ هَلْ يُقَالُ لِعَثْرَةِ؟
أَمِ الذَّمُّ وَالتَّعْذِيبُ أَوْكَدُ لِلَّذِي
…
طَبِيعَتُهُ فِعْلُ الشُّرُورِ الشَّنِيعَةِ
فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُجَابَ بِمَا عَسَى
…
يُنَجِّيكَ مِنْ نَارِ الإِلَهِ الْعَظِيمَةِ
فَدُونَكَ رَبَّ الْخَلْقِ فَاقْصِدْهُ ضَارِعًا
…
مُرِيدًا لأَنْ يَهْدِيكَ نَحْوَ الْحَقِيقَةِ
وَذَلِّلْ قِيَادَ النَّفْسِ لِلْحَقِّ وَاسْمَعَنْ
…
وَلَا تُعْرِضَنْ عَنْ فِكْرَةٍ مُسْتَقِيمَةِ
وَمَا بَانَ مِنْ حَقٍّ فَلَا تَتْرُكَنَّهُ
…
وَلَا تَعْصِ مَنْ يَدْعُو لأَقْوَمِ شِرْعَةِ
وَدَعْ دِينَ ذَا الْعَادَاتِ لَا تَتْبَعَنَّهُ
…
وَعُجْ عَنْ سَبِيلِ الأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ
وَمَنْ ضَلَّ عَنْ حَقٍّ فَلَا تَقْفُوَنَّهُ
…
وَزِنْ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بِالْمَعْدِلِيَّةِ
(1)
"النذل" بفتح، فسكون، و"النذيل": الخسيس من الناس. اهـ "ق".
هُنَالِكَ تَبْدُو طَالِعَاتٌ مِنَ الْهُدَى
…
تُبَشِّرُ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالْحَنِيفِيَّةِ
بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاكَ إِمَامُنَا
…
وَدِينِ رَسُولِ اللَّهِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ
فَلَا يَقْبَلُ الرَّحْمَنُ دِينًا سِوَى الَّذِي
…
بِهِ جَاءَتِ الرُّسْلُ الْكِرَامُ السَّجِيَّةِ
وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَاشِرُ الْخَاتِمُ الَّذِي
…
حَوَى كُلَّ خَيْرٍ فِي عُمُومِ الرِّسَالَةِ
وَأَخْبَرَ عَنْ رَبِّ الْعِبَادِ بِأَنَّ مَنْ
…
غَدا عَنْهُ فِي الأُخْرَى بِأَقْبَحِ خَيْبَةِ
فَهَذِي دَلَالَاتُ الْعِبَادِ لِحَائِرٍ
…
وَأَمَّا هُدَاهُ فَهْوَ فِعْلُ الرُّبُوبَةِ
وَفَقْدُ الْهُدَى عِنْدَ الْوَرَى لَا يُفِيدُ مَنْ
…
غَدا عَنْهُ بَلْ يُجْزَى بِلَا وَجْهِ حُجَّةِ
وَحُجَّةُ مُحْتَجٍّ بِتَقْدِيرِ رَبِّهِ
…
تَزِيدُ عَذَابًا كَاحْتِجَاجِ مَرِيضَةِ
وَأَمَّا رِضَانَا بِالْقَضَاءِ فَإِنَّمَا
…
أُمِرْنَا بِأَنْ نَرْضَى بِمِثْلِ الْمُصِيبَةِ
كَسُقْمٍ وَفَقْرٍ ثُمَّ ذُلٍّ وَغُرْبَةٍ
…
وَمَا كَانَ مِنْ مُؤْذٍ بِدُونِ جَرِيمَةِ
فَأَمَّا الأَفَاعِيلُ الَّتِي كُرِهَتْ لَنَا
…
فَلَا نَرْتَضِي مَسْخُوطَةً لِمَشِيئَةِ
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ أُولي الْعِلْمِ لَا رِضَا
…
بِفِعْلِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِقَضَائِهِ
…
وَلَا نَرْتَضِي الْمَقْضِيَّ أَقْبَحِ خَصْلَةِ
وَقَالَ فَرِيقٌ نَرْتَضِي بِإِضَافَةٍ
…
إِلَيْهِ وَمَا فِينَا فَنَلْقَى بِسَخْطَةِ
كَمَا أَنَّهَا لِلرَّبِّ خَلْقٌ وَأَنَّهَا
…
لِمَخْلُوقِهِ لَيْسَتْ كَفِعْلِ الْغَرِيزَةِ
فَنَرْضَى مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ خَلْقُهُ
…
وَنَسْخَطُ مِنْ وَجْهِ اكْتِسَابِ الْخَطِيئَةِ
وَمَعْصِيَةُ الْعَبْدِ الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ
…
لِمَا أَمَرَ الْمَوْلَى وَإِنْ بِمَشِيئَةِ
فَإِنَّ إِلَهَ الْخَلْقِ حَقٌّ مَقَالُهُ
…
بِأَنَّ الْعِبَادَ فِي جَحِيمٍ وَجَنَّةِ
كَمَا أَنَّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ هَكَذَا
…
بَلِ الْبُهْمُ فِي الآلَامِ أَيْضًا وَنِعْمَةِ
وَحِكْمَتُهُ الْعُلْيَا اقْتَضَتْ مَا اقْتَضَتْ مِنَ الْـ
…
فُرُوقِ بِعِلْمٍ ثُمَّ أَيْدٍ وَرَحْمَةِ
يَسُوقُ أُولي التَّعْذِيبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي
…
يُقَدِّرُهُ نَحْوَ الْعَذَابِ بِعِزَّةِ
وَيَهْدِي أُولي التَّنْعِيمِ نَحْوَ نَعِيمِهِمْ
…
بِأَعْمَالِ صِدْقٍ فِي رَجَاءٍ وَخَشْيَةِ
وَأَمْرُ إِلَهِ الْخَلْقِ بَيَّنَ مَا بِهِ
…
يَسُوقُ أُولي التَّنْعِيمِ نَحْوَ السَّعَادَةِ
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ أَثَّرَتْ
…
أَوَامِرُهُ فِيهِ بِتَيْسِيرِ صَنْعَةِ
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ لَمْ يَنَلْ
…
بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ بِتَقْدِيرِ شِقْوَةِ
وَلَا مَخْرَجَ لِلْعَبْدِ عَمَّا بِهِ قَضَى
…
وَلَكِنَّهُ مُخْتارُ حُسْنٍ وَسَوْأَةِ
فَلَيْسَ بِمَجْبُورٍ عَدِيمِ الإِرَادَةِ
…
وَلَكِنَّهُ شَاءٍ بِخَلْقِ الإِرَادَةِ
وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ خَلْقُ مَشِيئَةٍ
…
بَهَا صَارَ مُخْتَارَ الْهُدَى بِالضَّلَالَةِ
فَقَوْلُكَ هَلْ أَخْتَارُ تَرْكًا لِحِكْمَةٍ
…
كَقَوْلِكَ هَلْ أَخْتَارُ تَرْكَ الْمَشِيئَةِ
وَأَخْتَارُ أَنْ لا أخْتَارَ فِعْلَ ضَلَالَةٍ
…
وَلَوْ نِلْتُ هَذَا التَّرْكَ فُزْتُ بِتَوْبَةِ
وَذَا مُمْكِنٌ لَكِنَّهُ مُتَوَقِّفٌ
…
عَلَى مَا يَشَاءُ اللَّهُ مِنْ ذِي الْمَشِيئَةِ
فَدُونَكَ فَافْهَمْ مَا بِهِ قَدْ أَجَبْتُ مِنْ
…
مَعَانٍ إِذَا انْحَلَّتْ بِفَهْم غَرِيزَةِ
أَشَارَتْ إِلَى أَصْلٍ يُشِيرُ إِلَى الْهُدَى
…
وَللَّهِ رَبِّ الْخَلْقِ أَكْمَل مِدْحَةِ
وَصَلَّى إِلَهُ الْخَلْقِ جل جلاله
…
عَلَى الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ
(1)
انتهت قصيدة شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في الردّ على سؤال في قصيدة وجهها بعض الذمِّيين معترضًا على القَدَر، فأجابه رحمه الله بهذه القصيدة الجامعة الفاذّة، فأجاد وأفاد، جزاه الله عن دفاعه عن الإسلام خير الجزاء، والله تعالى أعلم بالصواب.
(1) - (بَابُ كَيْفِيَّةِ خَلْقِ الآدَمِيِّ في بَطْنِ أُمِّه، وَكِتَابَةِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقَاوَتِه، وَسَعَادَتِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6700]
(2643) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ الْهَمْدَانِيُّ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، قَالُوا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زيدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: حَدَّثنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "إِنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ
(2)
، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، بِكَتْبِ رِزْقهِ
(3)
، وَأَجَلِه، وَعَمَلِه، وَشَقِيٌّ، أَو سَعِيدٌ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ،
(1)
انتهت. منقولة من "مجموع الفتاوى" 8/ 245 - 255.
(2)
وفي نسخة: "يرسل الله الملك".
(3)
وفي نسخة: "يكتب رزقه".
إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّة، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّة، فَيَدْخُلُهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عبدُ اللهِ بن نُمير) - بنون، مصغَّرًا - الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.
2 -
(زيدُ بْنُ وَهْبٍ) الْجُهَنيّ، أبو سليمان الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ جليلٌ، لم يُصِب من قال: في حديثه خلل [2] مات بعد الثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين (ع) تقدم في "الإيمان" 67/ 374.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و"عبد الله" هو: ابن مسعود رضي الله عنه.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان، فرَّق بينهما بالتحويل، وكلاهما مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، وفي رواية للبخاريّ:"سمعت عبد الله بن مسعود"(قَالَ:) عبد الله (حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ:) قال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن تكون الجملة حاليّةً، ويَحْتَمِل أن تكون اعتراضيّةً، وهو أَولى؛ لتعمّ الأحوال كلها، وأن ذلك من دأبه، وعادته.
وقوله: "الصادق"؛ أي: الكامل في الصدق، أو الظاهر كونه صادقًا بشهادة المعجزات الباهرات، وليس المراد أنه الصادق دون غيره.
وقوله: "المصدوق"؛ أي: الذي جاءه الصدق من ربّه، وليس معناه: الْمُصَدَّق - بفتح الدال المشدّدة - أي: الذي صَدَّقه المؤمنون، وإن كان هو في
الواقع موصوفًا بكونه مُصَدَّقًا أيضًا. قاله السنديّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "الصادق" معناه: المُخبِر بالقول الحقّ، ويُطلق على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه، والمصدوق معناه: الذي يُصْدَق له في القول، يقال: صَدَقته الحديثَ: إذا أخبرته به إخبارًا جازمًا، أو معناه: الذي صَدَقه الله تعالى وَعْدَهُ.
وقال الكرمانيّ
(2)
: لَمّا كان مضمون الخبر أمرًا مخالفًا لِمَا عليه الأطباء، أشار بذلك إلى بطلان ما ادَّعَوْه، ويَحْتَمِل أنه قال ذلك؛ تلذذًا به، وتبركًا، وافتخارًا، ويؤيّده
(3)
وقوع هذا اللفظ بعينه في حديثٍ
(4)
ليس فيه إشارة إلى بطلان شيء يخالف ما ذُكر، وهو ما أخرجه أبو داود من حديث المغيرة بن شعبة: سمعت الصادق المصدوق يقول: "لا تُنزع الرحمة إلا من شقيّ"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ: سمعت الصادق المصدوق يقول: "هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش".
("إِنَّ أَحَدَكُمْ) بفتح همزة "أنَّ"، وهو الظاهر، وكسرها على الحكاية.
قال أبو البقاء رحمه الله في إعراب "المسند"
(5)
: لا يجوز في "أنّ" إلا الفتح؛ لأنها وما عملت فيه معمول "حدثنا"، فلو كُسِرت لصار مستأنفًا منقطعًا عن قوله:"حدثنا".
[فإن قلت]: اكسِرْ، واحْمِل "حدّثنا" على "قال".
[قيل]: هذا خلاف الظاهر، ولا يُترك الظاهر إلى غيره، إلا لدليل مانع
(1)
"شرح السنديّ على سنن ابن ماجه" 1/ 58.
(2)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 23/ 72.
(3)
قد اعترض العيني هذا الكلام على الحافظ كعادته بما فيه نَظَر لا يخفى على المصنف، فلا تغترّ به.
(4)
يوجد في نسخة "الفتح" ما لفظه: "في حديث أنس إلخ"، ولفظ "أنس" زِيْدَ غلطًا؛ والصواب ما ذكرته؛ لأن الحديث ليس لأنس، وإنما للمغيرة بن شعبة، فتأمله بالإمعان، ثم وجدته في شرح العينيّ على الصواب، راجع:"عمدة القاري" 23/ 146، ولله الحمد.
(5)
ص 240 رقم (238).
من الظاهر، ولو جاز مثل هذا من غير أن يثبت به النقل لجاز في مثل قوله تعالى:{أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ} [المؤمنون: 35] الكسر؛ لأن معنى "يعدكم": يقول لكم، وقد اتفق القراء على أنها بالفتح.
وقال الزركشيّ: وردّ عليه القاضي شمس الدين الخوبيّ، وقال: الكسر واجب؛ لأنه الرواية، ووجهه على الحكاية، كقول الشاعر:
سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا
(1)
برفع "الناسُ".
وجزم النووي في "شرحه" بكونه بالكسر على الحكاية، وجوَّز الفتح، وقد جزم ابن الجوزي بأنه في الرواية بالكسر فقط. قال الخوبي: ولو لم تجئ به الرواية لَمَا امتنع جوازًا على طريق الرواية بالمعنى، وأجاب عن الآية بأن الوعدَ مضمون الجملة، وليس بخصوص لفظها، فلذلك اتفقوا على الفتح، فأما هنا فالتحديث يجوز أن يكون بلفظه وبمعناه. انتهى
(2)
.
(يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) كذا في رواية أبي معاوية، ووكيع، وابن نمير هنا، وفي الرواية الآتية:"إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه"، وفي رواية عند البخاريّ:"إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه"، وفي رواية عند ابن ماجه:"إنه يُجمع خلق أحدكم في بطن أمه"، وفي رواية بلفظ:"ابن آدم" بدل "أحدكم".
والمراد بالجمع: ضمّ بعضه إلى بعض بعد الانتشار، وفي قوله:"خلق" تعبير بالمصدر عن الجثّة، وحُمِل على أنه بمعنى المفعول، كقولهم: هذا درهمٌ ضَرْبُ الأميرِ؛ أي: مضروبه، أو على حذف مضاف؛ أي: ما يقوم به خَلْقُ أحدكم، أو أُطلق مبالغةً، كقوله:
وَإِنَّمَا هِيَ إَقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
(3)
(1)
البيت لذي الرّمّة، وتمامه:
سَمِعْتُ النَّاسُ يَنْتَجِعُونَ غَيْثًا
…
بِسَائِقَةِ الْبَيَاضِ إِلَى الْوَحِيدِ
(2)
"الفتح" 11/ 584 ببعض تصرّف، وزيادة من "عقود الزبرجد" للسيوطيّ 1/ 224 - 225.
(3)
أشار به إلى قول الشاعر:
تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حَتَّى إَذَا ادَّكَرَتْ
…
فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
جعلها نفس الإقبال والإدبار؛ لكثرة وقوع ذلك منها.
قال القرطبيّ في "المفهم": المراد: أن المنيّ يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوّة الشهوانية الدافعة مبثوثًا متفرقًا، فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم في هذه المدّة
(1)
.
(أَرْبَعِينَ يَوْمًا) في رواية وكيع الآتية: "أربعين ليلة"، وفي رواية معاذ عن شعبة:"أربعين يومًا، أوأربعين ليلة" بالشكّ، وفي حديث جرير وعيسى:"أربعين يومًا".
وقال في "الفتح": قوله: "أربعين يومًا" زاد في رواية آدم: "أو أربعين ليلة"، وكذا لأكثر الرواة عن شعبة بالشكّ، وفي رواية يحيى القطان، ووكيع، وجرير، وعيسى بن يونس:"أربعين يومًا" بغير شكّ، وفي رواية سلمة بن كهيل:"أربعين ليلة" بغير شكّ.
ويُجمع بأن المراد: يوم بليلته، أو ليلة بيومها. ووقع عند أبي عوانة من رواية وهب بن جرير، عن شعبة مثل رواية آدم، لكن زاد "نطفة" بين قوله:"أحدكم" وبين قوله: "أربعين"، فبيّن أن الذي يُجمع هو النطفة، والمراد بالنطفة: المنيّ، وأصله: الماء الصافي القليل، والأصل في ذلك: أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع، وأراد الله أن يخلق من ذلك: جنينًا هيّأ أسباب ذلك؛ لأن في رحم المرأة قوتين: قوّة انبساط عند ورود منيّ الرجل، حتى ينتشر في جسد المرأة، وقوّة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسًا، ومع كون المنيّ ثقيلًا بطبعه، وفي منيّ الرجل قوة الفعل، وفي منيّ المرأة قوة الانفعال، فعند الامتزاج يصير منيّ الرجل كالإنفَحَة للَّبَن، وقيل: في كل منهما قوّة فعل وانفعال، لكن الأول في الرجل أكثر، وبالعكس في المرأة.
وزعم كثير من أهل التشريح أن منيّ الرجل لا أثر له في الولد إلا في عَقْده، وأنه إنما يتكون من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطل ذلك، وما ذُكر أوّلًا أقرب إلى موافقة الحديث، والله أعلم.
وقال ابن الأثير رحمه الله في "النهاية": يجوز أن يريد بالجمع: مُكث النطفة
(1)
"المفهم" 6/ 649 - 650.
في الرحم؛ أي: تمكث النطفة أربعين يومًا تخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير، ثم تخلق بعد ذلك.
وقيل: إن ابن مسعود فسّره بأن النطفة إذا وقعت في الرحم، فأراد الله أن يخلق منها بشرًا طارت في جسد المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين يومًا، ثم تنزل دمًا في الرحم، فذلك جَمَعها.
قال الحافظ: هذا التفسير ذكره الخطابيّ، وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" من رواية الأعمش أيضًا عن خيثمة بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود.
وقوله: "فذلك جَمْعها" كلام الخطابيّ، أو تفسير بعض رواة حديث الباب، وأظنه الأعمش، فظنَّ ابن الأثير أنه تتمة كلام ابن مسعود، فأدرجه فيه، ولم يتقدم عن ابن مسعود في رواية خيثمة ذِكر الجمع حتى يفسره.
وقد رجَّح الطيبي هذا التفسير، فقال: الصحابي أعلم بتفسير ما سَمِع، وأحقّ بتأوبله، وأَولى بقبول ما يتحدث به، وأكثر احتياطًا في ذلك من غيره، فليس لمن بعده أن يتعقب كلامه.
وقد وقع في حديث مالك بن الحويرث، رَفَعَهُ ما ظاهره يخالف التفسير المذكور، ولفظه:"إذا أراد الله خَلْق عبد، فجامع الرجل المرأة، طار ماؤه في كل عِرْق وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله، ثم أحضره كل عِرْق له دون آدم في أي صورة ما شاء ركبه"، وفي لفظ: "ثم تلا: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 8]؛ وله شاهد من حديث رباح اللخميّ، لكن ليس فيه ذِكر يوم السابع.
وحاصله: أن في هذا زيادة تدلّ على أن الشَّبَه يحصل في اليوم السابع، وأن فيه ابتداء جَمْع المنيّ، وظاهر الروايات الأخرى أن ابتداء جَمْعه من ابتداء الأربعين.
وقد وقع في رواية عبد الله بن ربيعة، عن ابن مسعود: أن النطفة التي تُقْضَى منها النفس إذا وقعت في الرحم كانت في الجسد أربعين يومًا، ثم تحادرت دمًا، فكانت عَلَقَةً.
وفي حديث جابر: أن النطفة إذا استقرّت في الرحم أربعين يومًا، أو ليلة، أَذِن الله في خَلْقها، ونحوه في حديث عبد الله بن عمرو.
وفي حديث حذيفة بن أَسِيد، من رواية عكرمة بن خالد، عن أبي الطفيل عنه، أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً، ثم يتسوَّر عليها الملَك، وكذا في رواية يوسف المكيّ، عن أبي الطفيل عند الفريابيّ، وعنده، وعند مسلم، من رواية عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل:"إذا مرَّ بالنطفة ثلاث وأربعون" وفي نسخة: "اثنتان وأربعون ليلة"، وفي رواية ابن جريج، عن أبي الزبير، عند أبي عوانة:"اثنتان وأربعون"، وهي عند مسلم، لكن لم يَسُق لفظها، قال: مثل عمرو بن الحارث، وفي رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبي الطفيل، عند مسلم أيضًا:"إذا أراد الله أن يخلق شيئًا يأذن له لبضع وأربعين ليلة".
وفي رواية عمرو بن دينار، عن أبي الطفيل:"يدخل الملَك على النطفة بعدما تستقرّ في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين"، وهكذا رواه ابن عيينة، عن عمرو، عند مسلم.
ورواه الفريابيّ من طريق محمد بن مسلم الطائفيّ، عن عمرو، فقال:"خمسة وأربعين ليلة"، فجزم بذلك.
فحاصل الاختلاف: أن حديث ابن مسعود لم يَختلف في ذِكر الأربعين، وكذا في كثير من الأحاديث، وغالبها، كحديث أنس عند البخاريّ لا تحديد فيه، وحديث حذيفة بن أَسيد اختلفت ألفاظ نَقَلَتِه، فبعضهم جزم بالأربعين، كما في حديث ابن مسعود، وبعضهم زاد ثنتين، أو ثلاثًا، أو خمسًا، أو بضعًا، ثم منهم من جزم، ومنهم من تردد.
وقد جمع بينها القاضي عياض بأنه ليس في رواية ابن مسعود بأن ذلك يقع عند انتهاء الأربعين الأُولى، وابتداء الأربعين الثانية، بل أطلق الأربعين، فاحتَمَلَ أن يريد: أن ذلك يقع في أوائل الأربعين الثانية.
ويَحْتَمِل أن يُجمع الاختلاف في العدد الزائد، على أنه بحسب اختلاف الأجنّة، وهو جيّد، لو كانت مخارج الحديث مختلفة، لكنها متّحدة، وراجعة إلى أبي الطفيل، عن حذيفة بن أَسِيد، فدلّ على أنه لم يضبط القَدْر الزائد على الأربعين، والخَطْب فيه سهل، وكلّ ذلك لا يدفع الزيادة التي في حديث مالك بن الحويرث في إحضار الشَّبَه في اليوم السابع، وأن فيه يبتدئ الجمع
بعد الانتشار، وقد قال ابن منده: إنه حديث متّصل على شرط الترمذيّ، والنسائيّ، واختلاف الألفاظ بكونه في البطن، وبكونه في الرحم لا تأثير له؛ لأنه في الرحم حقيقةً، والرحم في البطن، وقد فسَّروا قوله تعالى:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] بأن المراد؛ ظُلمة المشيمة، وظلمة الرَّحِم، وظلمة البطن، فالمشيمة في الرحم، والرحم في البطن.
(ثُمَّ يَكُونُ)؛ أي: يصير خَلْقُ أحدكم؛ أي: مادّةُ خلقه، وهي النطفة، (فِي ذَلِكَ) الرحم (عَلَقَةً) - بفتحتين -: أي: دمًا جامدًا غليظًا، وسُمّي بذلك للرطوبة التي فيه، وتَعَلُّقه بما مَرّ به، (مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: مثل الزمن المذكور، وهو الأربعون.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "ذلك" الأول إشارة إلى المحلّ الذي اجتمعت فيه النطفة، وصارت علقَةً، و"ذلك" الثاني إشارة إلى الزمان الذي هو الأربعون، وكذلك القول في قوله:"ثم يكون في ذلك مضغةً مثل ذلك"، والمضغة: قَدْر ما يَمضغه الماضغ من لحم أو غيره. انتهى (1).
وفي رواية للبخاريّ: "ثم علقةً مثل ذلك"، وفي رواية له:"ثم تكون علقة مثل ذلك"، قال في "الفتح": و"تكون" هنا بمعنى تصير؛ ومعناه: أنها تكون بتلك الصفة مدة الأربعين، ثم تنقلب إلى الصفة التي تليها، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: تصييرها شيئًا فشيئًا، فيخالط الدم النطفةَ في الأربعين الأُولى بعد انعقادها، وامتدادها، وتجري في أجزائها شيئًا فشيئًا حتى تتكامل علقةً في أثناء الأربعين، ثم يخالطها اللحم شيئًا فشيئًا إلى أن تشتد، فتصير مضغةً، ولا تسمى علقة قبل ذلك ما دامت نطفة، وكذا ما بعد ذلك من زمان العَلَقة والمضغة.
وأما ما أخرجه أحمد من طريق أبي عبيدة قال: قال عبد الله، رَفَعه:"إن النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها، لا تتغير" ففي سنده ضَعْف، وانقطاع، فإن كان ثابتًا حُمِل نفي التغير على تمامه؛ أي: لا تنتقل إلى وصف العلقة إلا بعد تمام الأربعين، ولا ينفي أن المنيّ يستحيل في الأربعين الأولى دمًا إلى أن يصير علقة. انتهى.
صلى الله عليه وسلم
(1)
"المفهم" 6/ 650.
وقد نقل الفاضل عليّ بن المهذب الحمويّ الطبيب اتفاق الأطباء على أن خَلْق الجنين في الرحم يكون في نحو الأربعين، وفيها تتميز أعضاء الذَّكر دون الأنثى؛ لحرارة مزاجه، وقواه، وأعيد إلى قوام المني الذي تتكون أعضاؤه منه، ونضجه، فيكون أقبل للشكل والتصوير، ثم يكون علقة مثل ذلك، والعلقة قطعة دم جامد، قالوا: وتكون حركة الجنين في ضُعف المدة التي يُخلق فيها، ثم يكون مضغة مثل ذلك؛ أي: لحمة صغيرة، وهي الأربعون الثالثة، فتتحرك. قال: واتفق العلماء على أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر.
وذكر الشيخ شمس الدين ابن القيّم أن داخل الرحم خَشِنٌ كالسفنج، وجعل فيه قبولًا للمنيّ، كطلب الأرض العطشى للماء، فجعله طالبًا مشتاقًا إليه بالطبع، فلذلك يمسكه، ويشتمل عليه، ولا يُزلقه، بل ينضم عليه؛ لئلا يفسده الهواء، فيأذن الله لملَك الرحم في عَقْده، وطبخه أربعين يومًا، وفي تلك الأربعين يُجمع خلقه، قالوا: إن المنيّ إذا اشتمل عليه الرحم، ولم يقذفه استدار على نفسه، واشتدّ إلى تمام ستة أيام، فينقط فيه ثلاث نقط في مواضع القلب، والدماغ، والكبد، ثم يظهر فيما بين تلك النقط خطوط خمسة إلى تمام ثلاثة أيام، ثم تنفذ الدموية فيه إلى تمام خمسة عشر، فتتميز الأعضاء الثلاثة، ثم تمتد رطوبة النخاع إلى تمام اثني عشر يومًا، ثم ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن عن الجنين في تسعة أيام، ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحسّ في أربعة أيام، فيكمل أربعين يومًا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"يُجمع خلقه في أربعين يومًا"، وفيه تفصيلُ ما أُجمل فيه.
ولا ينافي ذلك قوله: "ثم تكون علقة مثل ذلك" فإن العلقة، وإن كانت قطعة دم، لكنها في هذه الأربعين الثانية تنتقل عن صورة المنيّ، ويظهر التخطيط فيها ظهورًا خفيًّا على التدريج، ثم يتصلب في الأربعين يومًا بتزايد ذلك التخليق شيئًا فشيئًا، حتى يصير مضغة مخلقةً، ويظهر للحسّ ظهورًا لا خفاء به، وعند تمام الأربعين الثالثة، والطعن في الأربعين الرابعة، ينفخ فيه الروح، كما وقع في هذا الحديث الصحيح، وهو ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي، حتى قال كثير من فضلاء الأطباء، وحذّاق الفلاسفة: إنما يُعرف ذلك بالتوهم والظن البعيد، واختلفوا في النقطة الأُولى أيها أسبق، والأكثر: نُقَط
القلب، وقال قوم: أول ما يُخلق منه السُّرّة؛ لأن حاجته من الغذاء أشدّ من حاجته إلى آلات قواه، فإن من السرّة ينبعث الغذاء، والحُجُب التي على الجنين في السرّة كأنها مربوط بعضها ببعض، والسرّة في وسطها، ومنها يتنفس الجنين، ويتربى، وينجذب غذاؤه منها.
(ثم يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ) المراد مثل مدة الزمان المذكور في الاستحالة، والمضغة: قطعة اللحم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها قَدْر ما يمضغ الماضغ.
(ثم يُرْسَلُ الْمَلَكُ) وفي بعض النسخ: "ثم يرسل الله الملك"، وفي رواية للبخاريّ:"ثم يبعث الله ملكًا"؛ أي: يبعث الله إليه الملَك في الطور الرابع حينما يتكامل بنيانه، وتتشكّل أعضاؤه، فيعيّن، ويُنقش فيه ما يليق به من الأعمال والأعمار والأرزاق حسبما اقتضته حكمته، وسبقت كلمته، فمن وجده مستعدًّا لقبول الحقّ واتّباعه، ورآه أهلًا للخير، وأسباب الصلاح، متوجّهًا إليه أثبته في عِداد السعداء، وكَتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك، ومن وجده جافيًا، قاسي القلب، ضاريًا بالطبع، متنائيًا عن الحقّ أَثبت ذِكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكَتب له ما يُتَوَقَّع منه من الشرور والمعاصي، هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يَقتضي تغيّر ذلك، وإن علم من ذلك شيئًا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وفقَ ما يَتمّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنّة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": اللام في "الملَك" للعهد، والمراد به: عهدٌ مخصوص، وهو جنس الملائكة الموكلين بالأرحام، كما ثبت في رواية حذيفة بن أَسِيد من رواية ربيعة بن كلثوم:"أن ملكًا موكلًا بالرحم"، ومن رواية عكرمة بن خالد:"ثم يتسوَّر عليها الملَك الذي يُخَلِّقها" وهو بتشديد اللام.
وفي رواية أبي الزبير عند الفريابيّ: "أتى ملك الأرحام" وأصله عند مسلم، لكن بلفظ:"بعث الله ملكًا".
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 534.
وفي حديث ابن عمر: "إذا أراد الله أن يخلق النطفة قال ملك الأرحام"، وفي حديث أنس:"وكَل الله بالرحم ملكًا".
وقال الكرمانيّ
(1)
: إذا ثبت أن المراد بالملَك مَن جُعل إليه أمر تلك الرحم، فكيف يُبعَث، أو يرسل؟ وأجاب بأن المراد: أن الذي يُبعث بالكلمات غير الملَك الموكل بالرحم الذي يقول: يا رب نطفة إلخ، ثم قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالبعث: أنه يؤمر بذلك.
قال الحافظ: وهو الذي ينبغي أن يُعَوَّل عليه، وبه جزم القاضي عياض
(2)
وغيره.
وقد وقع في رواية يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن الأعمش:"إذا استقرت النطفة في الرحم أخذها الملَك بكفه، فقال: أيْ رب أذَكَر أو أنثى؟. . ." الحديث، وفيه:"فيقال: انطلق إلى أم الكتاب، فإنك تجد قصة هذه النطفة، فينطلق، فيجد ذلك"، فينبغي أن يفسَّر الإرسال المذكور بذلك.
[تنبيه]: قال في "الفتح": اختُلف في أول ما يتشكل من أعضاء الجنين، فقيل: قلبه؛ لأنه الأساس، وهو معدن الحركة الغريزية، وقيل: الدماغ؛ لأنه مجمع الحواسّ، ومنه ينبعث، وقيل: الكبد؛ لأن فيه النموّ والاغتذاء الذي هو قوام البدن، ورجّحه بعضهم بأنه مقتضى النظام الطبيعيّ؛ لأن النموّ هو المطلوب أولًا، ولا حاجة له حينئذ إلى حسّ ولا حركة إرادية؛ لأنه حينئذ بمنزلة النبات، وإنما يكون له قوّة الحسّ، والإرادة عند تعلق النفس به، فيقدَّم الكبد، ثم القلب، ثم الدماغ. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: إن الاختلاف في مثل هذا مما لا ينبغي؛ إذ لا فائدة فيه، ولا نصّ يُعتمد عليه، فلا ينبغي الخوض في مثله، فيا ليت أهل العلم لم يشتغلوا بمثله، ويضيّعوا أوقاتهم فيما لا يعنيهم، والله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(فَيَنْفُح فِيهِ الرُّوحَ) ظاهر هذه الرواية أن نَفْخ الروح قبل الكتابة، ورواية
(1)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 23/ 73.
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 127.
(3)
"الفتح" 15/ 194.
آدم بن أبي إياس عند البخاريّ صريحة في تأخير النفخ؛ للتعبير بقوله: "ثم"، ورواية مسلم هذه محتملة، فتُردّ إلى الصريحة؛ لأن الواو لا ترتِّب، فيجوز أن تكون معطوفة على الجملة التي تليها، وأن تكون معطوفة على جملة الكلام المتقدّم؛ أي: يُجمع خلقه في هذه الأطوار، ويؤمر الملَك بالكتب، وتوسَّط قوله:"ينفخ فيه الروح" بين الْجُمَل، فيكون من ترتيب الخبر على الخبر، لا من ترتيب الأفعال المخبَر عنها.
ونقل ابن الزملكانيّ عن ابن الحاجب في الجواب عن ذلك؛ أن العرب إذا عَبَّرت عن أمر بعدة أمور متعددة، ولبعضها تعلّق بالأول حَسُن تقديمه لفظًا على البقية، وإن كان بعضها متقدمًا عليه وجودًا، وحَسُن هنا؛ لأن القصد ترتيب الخلق الذي سيق الكلام لأجله.
وقال عياض: اختَلَفت ألفاظ هذا الحديث في مواضع، ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يعوّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازع، وغير ذلك بحركة الجنين في الجوف، وقد قيل: إنه الحكمة في عدّة المرأة من الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وهو الدخول في الخامس، وزيادة حذيفة بن أسيد مُشْعِرة بأن الملَك لا يأتي لرأس الأربعين، بل بعدها، فيكون مجموع ذلك أربعة أشهر وعشرًا، وهو مصرَّح به في حديث ابن عباس:"إذا وقعت النطفة في الرحم، مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم ينفخ فيها الروح". وما أشار إليه من عدة الوفاة جاء صريحًا عن سعيد بن المسيِّب، فأخرج الطبريّ عنه أنه سئل عن عدّة الوفاة، فقيل له: ما بال العشرة بعد الأربعة أشهر؟ فقال: يُنفخ فيها الروح.
وقد تمسَّك به من قال كالأوزاعيّ وإسحاق: إن عدة أم الولد مثل عدة الحرّة، وهو قويّ؛ لأن الغرض استبراء الرحم، فلا فرق فيه بين الحرة والأمة، فيكون معنى قوله:"ثم يُرسل إليه الملك"؛ أي: لتصويره، وتخليقه، وكتابة ما يتعلق به، فينفخ فيه الروح إثر ذلك، كما دلت عليه رواية البخاريّ وغيره.
ووقع في حديث عليّ بن عبد الله عند ابن أبي حاتم: "إذا تمَّت للنطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملَكًا، فينفخ فيها الروح، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] وسنده منقطع، وهذا لا ينافي التقييد بالعشر الزائدة.
ومعنى إسناد النفخ للملك أنه يفعله بأمر الله، والنفخ في الأصل: إخراج ريح من جوف النافخ؛ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى أن يقول له: كن، فيكون.
وجَمَع بعضهم بأن الكتابة تقع مرتين، فالكتابة الأُولى في السماء، والثانية في بطن المرأة، ويَحْتَمِل أن تكون إحداهما في صحيفة، والأخرى على جبين المولود، وقيل: يَختلف باختلاف الأجنة، فبعضها كذا، وبعضها كذا، والأول أَولى
(1)
.
(ويُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ)؛ أي: يؤمر بكتب أربعة أشياء من أحوال الجنين، والمراد بالكلمات: القضايا المقدرّة، وكل قضيّة تسمى كلمة، وقوله:(بِكَتْبِ رِزْقِه، وَأَجَلِه، وَعَمَلِهِ) بدل من الجارّ والمجرور قبله، وفي بعض النسخ:"يكتب رزقه"، فالجملة مستأنفة، ووجّه في "الفتح" هذه النسخة، وفي رواية أبي الأحوص عن الأعمش:"فيؤمر بأربع كلمات"، ويقال له: اكتب، فذَكَر الأربع، وقوله:(وَشَقِيٌّ، أَو سَعِيدٌ) بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو، والجملة عَطْف على مفعول "اكتُب"؛ لأنه أريدَ بها لَفْظها باعتبار الوجود الْكَتْبيّ، دون اللفظيّ، فإن اللفظ لا يكون لفظًا إلا بالتلفّظ، لا بالكتابة، ثم الترديد في الحكاية، لا في المحكيّ، وإنما جاءت الحكاية على لفظ الترديد نظرًا إلى التوزيع والتقسيم على آحاد المولود، فمنهم شقيّ وسعيد. قاله السنديّ
(2)
.
قال في "الفتح": وتكلّف الخوبي في قوله: إنه يؤمر بأربع كلمات، فيكتب منها ثلاثًا، والحقّ أن ذلك من تصرّف الرواة، والمراد: أنه يكتب لكل أحد إما السعادة، وإما الشقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأن الحكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتبا فللخاتمة، فلذلك اقتصر على أربع، وإلا لقال: خمس.
(1)
"الفتح" 15/ 198 - 199.
(2)
"شرح السنديّ على ابن ماجه" 1/ 58.
والمراد من كتابة الرزق: تقديره قليلًا أو كثيرًا، وصفته حرامًا، أو حلالًا، وبالأجل هل هو طويل، أو قصير، وبالعمل هو صالح، أو فاسد.
ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثوري جميعًا عن الأعمش: "ثم يُكتب شقيًّا أو سعيدًا". ومعنى قوله: "شقيّ، أو سعيد" أن الملك يكتب إحدى الكلمتين، كأن يكتب مثلًا: أجل هذا الجنين كذا، ورزقه كذا، وعمله كذا، وهو شقيّ باعتبار ما يُختم له، وسعيد باعتبار ما يُختم له، كما دل عليه بقية الخبر، وكان ظاهر السياق أن يقول: ويكتب شقاوته، وسعادته، لكن عَدَلَ عن ذلك؛ لأن الكلام مسوق إليهما، والتفصيل وارد عليهما، أشار إلى ذلك الطيبيّ رحمه الله.
ووقع في حديث أنس: "إن الله وَكَّلَ بالرحم ملكًا، فيقول: أيْ رب أَذَكر أو أنثى؟ "، وفي حديث عبد الله بن عمرو:"إذا مكثت النطفة في الرحم أربعين ليلة، جاءها ملك، فقال: اخلق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله ما شاء، ثم يدفع إلى الملك، فيقول: يا رب أسِقْطٌ أم تامّ؟، فيبيّن له، ثم يقول: أواحد أم توأم؟ فيبيّن له، فيقول: أذَكر أم أنثى؟ فيبيّن له، ثم يقول: أناقص الأجل أم تامّ الأجل؟ فيبيّن له، ثم يقول: أشقيّ أم سعيد؟ فيبيّن له، ثم يقطع له رزقه مع خلقه، فيهبط بهما".
ووقع في غير هذه الرواية أيضًا زيادة على الأربع، ففي رواية عبد الله بن ربيعة، عن ابن مسعود:"فيقول: اكتب رزقه، وأثره، وخلقه، وشقيّ أو سعيد".
وفي رواية خُصيف، عن أبي الزبير، عن جابر من الزيادة:"أي رب مصيبته؟ فيقول: كذا وكذا".
وفي حديث أبي الدرداء، عند أحمد، والفريابيّ:"فرغ الله إلى كل عبد من خمس: من عمله، وأجله، ورزقه، وأثره، ومضجعه".
وأما صفة الكتابة: فظاهر الحديث أنها الكتابة المعهودة في صحيفته، ووقع ذلك صريحًا في حديث حذيفة بن أَسِيد الآتية عند مسلم:"ثم تطوى الصحيفة، فلا يزاد فيها، ولا ينقص"، وفي رواية الفريابيّ:"ثم تُطْوَى تلك الصحيفة إلى يوم القيامة".
ووقع في حديث أبي ذرّ: "فيقضي الله ما هو قاضٍ، فيكتب ما هو لاقٍ، بين عينيه، وتلا أبو ذرّ خمس آيات من فاتحة سورة التغابن"، ونحوه في حديث
ابن عمر في "صحيح ابن حبان" دون تلاوة الآية، وزاد:"حتى النكبة يُنكبها"، وأخرجه أبو داود في "كتاب القَدَر" المُفْرَد. انتهى
(1)
.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله
(2)
: في الحديث في رواية أبي الأحوص يَحْتَمِل أن يكون المأمور بكتابته الأربع المأمور بها، وَيحْتَمل غيرها، والأول أظهر؛ لِمَا بيّنته بقيّة الروايات. انتهى.
[تنبيه]: حديث ابن مسعود رضي الله عنه بجميع طرقه يدل على أن الجنين يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار، كلُّ طور منها في أربعين، ثم بعد تكملتها يُنفخ فيه الروح، وقد ذَكَر الله تعالى هذه الأطوار الثلاثة من غير تقييد بمدة في عِدة سُوَر، منها في "سورة الحج" قوله عز وجل:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5] ودلت هذه الآية على أن التخليق يكون للمضغة، وبَيّن الحديثُ أن ذلك يكون فيها إذا تكاملت الأربعين، وهي المدة التي إذا انتهت سُمِّيت مضغة، وذكر الله النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة في سُوَر أخرى، وزاد في سورة {قَدْ أَفْلَحَ} بعد المضغة:{فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية [المؤمنون: 14]، ويؤخذ منها، ومن حديث الباب أن تصيير المضغة عظامًا بعد نَفْخ الروح. ووقع في آخر رواية أبي عبيدة المتقدِّم ذِكرها قريبًا بعد ذِكر المضغة:"ثم تكون عظامًا أربعين ليلة، ثم يكسو الله العظام لحمًا".
وقد رَتَّبَ الأطوار في الآية بالفاء؛ لأن المراد: أنه لا يتخلل بين الطورين طَوْر آخر، ورتَّبها في الحديث بـ "ثُمَّ " إشارة إلى المدة التي تتخلل بين الطورين ليتكامل فيها الطور، وإنما أتى بـ "ثم" بين النطفة والعَلَقة؛ لأن النطفة قد لا تتكوّن إنسانًا، وأتى بـ "ثم" في آخر الآية عند قوله:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} الآية [المؤمنون: 14] ليدل على ما يتجدد له بعد الخروج من بطن أمه، وأما الإتيان بـ "ثم" في أول القصة بين السُّلالة والنطفة، فللإشارة إلى ما تخلل بين خَلْق آدم وخَلْق ولده.
(1)
"الفتح" 15/ 194 - 195.
(2)
"بهجة النفوس" 3/ 222.
ووقع في حديث حُذيفة بن أَسيد الآتي عند مسلم ما ظاهره يخالف حديث ابن مسعود، ولفظه:"إذا مَرّ بالنطفة ثلاث وأربعون"، وفي نسخة:"ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملَكًا فصوَّرها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها، ثم قال: أيْ رب أذَكَر أم أنثى؟ فيَقضِي ربك ما شاء، وَيكتُب الملك، ثم يقول: يا رب أجله. . ." الحديث، هذه رواية عمرو بن الحارث، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن حُذيفة بن أَسِيد في مسلم، ونسبها عياض في ثلاثة مواضع من شرح هذا الحديث إلى رواية ابن مسعود، وهو وَهَمٌ، وإنما لابن مسعود في أول الرواية ذِكْرُ قوله:"الشقيُّ من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيدُ من وُعِظ بغيره"، فقط، وبقية الحديث إنما هو لحذيفة بن أَسيد، وقد أخرجه جعفر الفريابي من طريق يوسف المكيّ، عن أبي الطُّفيل عنه بلفظ:"إذا وقعت النطفة في الرحم، ثم استقرت أربعين ليلةً، قال: فيجيء ملَك الرحم فيدخل، فيصوِّر له عظمه ولحمه وشعره وبشره وسمعه وبصره، ثم يقول: أيْ رب أذَكَر أوأنثى؟. . ." الحديث.
قال القاضي عياض: وحَمْل هذا على ظاهره لا يصح؛ لأن التصوير بأثر النطفة وأوّلِ العَلَقة في أول الأربعين الثانية غير موجود ولا معهود، وإنما يقع التصوير في آخر الأربعين الثالثة، كما قال تعالى:{ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} الآية [المؤمنون: 14]، قال: فيكون معنى قوله: "فصوّرها إلخ"؛ أي: كتب ذلك، ثم يفعله بعد ذلك، بدليل قوله بعدُ:"أذكر أو أنثى؟ "، قال: وخَلْقه جميعَ الأعضاء، والذكوريةُ والأنثوية، يقع في وقت متفق، وهو مُشَاهَد فيما يوجد من أجنة الحيوان، وهو الذي تقتضيه الخلقة، واستواء الصورة، ثم يكون للملك فيه تصوّر آخر، وهو وقت نَفْخ الروح فيه، حين يكمل له أربعة أشهر، كما اتفق عليه العلماء أن نفخ الروح لا يكون إلا بعد أربعة أشهر. انتهى ملخصًا.
وقد بسطه ابن الصلاح في "فتاويه"، فقال ما مُلَخَّصه: أعرض البخاري عن حديث حُذيفة بن أَسِيد إما لكونه من رواية أبي الطفيل عنه، وإما لكونه لم يره ملتئمًا مع حديث ابن مسعود، وحديثُ ابن مسعود لا شك في صحته، وأما مسلم فأخرجهما معًا، فاحتجنا إلى وجه الجمع بينهما، بأن يُحمَل إرسال
الملك على التعدد، فمرة في ابتداء الأربعين الثانية، وأخرى في انتهاء الأربعين الثالثة لنفخ الروح، وأما قوله في حديث حذيفة في ابتداء الأربعين الثانية:"فصوّرها"، فإن ظاهر حديث ابن مسعود أن التصوير إنما يقع بعد أن تصير مُضغة، فيُحمل الأول على أن المراد: أنه يصوّرها لفظًا وكَتْبًا لا فعلًا؛ أي: يذكر كيفية تصويرها ويكتبها، بدليل أن جَعْلها ذكرًا أو أنثى إنما يكون عند المضغة.
قال الحافظ: وقد نوزع في أن التصوير حقيقةً إنما يقع في الأربعين الثالثة، بأنه شوهد في كثير من الأجنة التصوير في الأربعين الثانية، وتمييز الذكر على الأنثى، فعلى هذا فيحتمل أن يقال: أول ما يبتدي به الملَك تصوير ذلك لفظًا وكَتْبًا، ثم يشرع فيه فعلًا عند استكمال العَلَقة، ففي بعض الأجنة يتقدم ذلك، وفي بعضها يتأخر، ولكن بقي في حديث حُذيفة بن أسيد أنه ذَكَر العظم واللحم، وذلك لا يكون إلا بعد أربعين العلقة، فيقوى ما قال عياض ومن تبعه.
وقال بعضهم: يَحْتَمِل أن يكون الملَك عند انتهاء الأربعين الأُولى يَقْسِم النطفة إذا صارت عَلَقَة إلى أجزاء بحسب الأعضاء، أو يَقسِم بعضها إلى جلد، وبعضها إلى لحم، وبعضها إلى عظم، فيقدّر ذلك كله قبل وجوده، ثم يتهيأ ذلك في آخر الأربعين الثانية، ويتكامل في الأربعين الثالثة.
وقال بعضهم: معنى حديث ابن مسعود أن النطفة يغلب عليها وصف المني في الأربعين الأُولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره، والراجح أن التصوير إنما يقع في الأربعين الثالثة.
وقد أخرج الطبري من طريق السُّدِّيّ في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] قال عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وذكر أسانيد أخرى قالوا:"إذا وقعت النطفة في الرحم، طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلَقة أربعين يومًا، ثم تكون مضغة أربعين يومًا، فإذا أراد الله أن يخلقها بعث ملَكًا فصوَّرها كما يؤمر"، ويؤيده حديث أنس عند البخاريّ حيث قال بعد ذِكر النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة:"فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال: أيْ رب أذكر أم أنثى؟. . ." الحديث.
ومال بعض الشراح المتأخرين إلى الأخذ بما دل عليه حديث حُذيفة بن أُسيد من أن التصوير والتخليق يقع في أواخر الأربعين الثانية حقيقةً، قال: وليس في حديث ابن مسعود ما يدفعه، واستند إلى قول بعض الأطباء: إن المنيّ إذا حصل في الرحم حصل له زبدية، ورغوة في ستة أيام أو سبعة من غير استمداد من الرحم، ثم يستمد من الرحم، ويبتدئ فيه المخطوط بعد ثلاثة أيام أو نحوها، ثم في الخامس عشر ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير عَلَقة، ثم تتميز الأعضاء، وتمتد رطوبة النخاع، وينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع تمييزًا يظهر في بعض، ويخفى في بعض، وينتهي ذلك إلى ثلاثين يومًا في الأقل، وخمسة وأربعين في الأكثر، لكن لا يوجد سِقْط ذَكَر قبل ثلاثين، ولا أنثى قبل خمسة وأربعين، قال: فيكون قوله: "فيكتب" معطوفًا على قوله: "يُجمَع"، وأما قوله:"ثم يكون علقة مثل ذلك"، فهو من تمام الكلام الأول، وليس المراد أن الكتابة لا تقع إلا عند انتهاء الأطوار الثلاثة، فيُحمل على أنه من ترتيب الإخبار، لا من ترتيب المخبَر به، ويحتمل أن يكون ذلك من تصرّف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه.
قال الحافظ: كذا قال، والحمل على ظاهر الأخبار أَولى، وغالب ما نُقِل عن هؤلاء دَعَاوى لا دلالة عليها.
قال ابن العربي رحمه الله: الحكمة في كون الملك يكتب ذلك، كونه قابلًا للنَّسخ، والمحو، والإثبات، بخلاف ما كتبه الله تعالى، فإنه لا يتغير. انتهى
(1)
.
(فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ) وفي رواية للبخاريّ: "فوالله إن أحدكم"، وفي رواية آدم:"فإن أحدكم"، ومثله لأبي داود عن شعبة وسفيان جميعًا، وفي رواية أبي الأحوص:"فإن الرجل منكم ليعمل"، ومثله في رواية حفص دون قوله:"منكم"، وفي رواية ابن ماجه:"فوالذي نفسي بيده"، وفي رواية الترمذي وغيره:"فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل"، لكن وقع عند أبي عوانة وأبي نعيم في "مستخرجيهما" من طريق يحيى القطان، عن
(1)
"الفتح" 15/ 195 - 198.
الأعمش: "قال: فوالذي لا إله غيره"، قال في "الفتح": وهذه محتملة لأن يكون القائل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيكون الخبر كله مرفوعًا، ويَحْتَمِل أن يكون بعض رواته، ووقع في رواية وهب بن جرير عن شعبة بلفظ:"حتى أن أحدكم ليعمل"، ووقع في رواية زيد بن وهب ما يقتضي أنه مدرَج في الخبر من كلام ابن مسعود، لكن الإدراج لا يثبت بالاحتمال، وأكثر الروايات يقتضي الرفع، إلا رواية وهب بن جرير، فبعيدة من الإدراج، فأخرج أحمد، والنسائيّ من طريق سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود نحو ديث الباب، وقال بعد قوله:"واكتبه شقيًّا، أو سعيدًا، ثم قال: والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليعمل"، كذا وقع مفصّلًا في رواية جماعة عن الأعمش، منهم المسعوديّ، وزائدة، وزهير بن معاوية، وعبد الله بن إدريس، وآخرون فيما ذكره الخطيب.
وقد روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه أصل الحديث بدون هذه الزيادة، وكذا أبو وائل وعلقمة وغيرهما عن ابن مسعود، وكذا اقتصر حبيب بن حسان عن زيد بن وهب، وكذا وقع في معظم الأحاديث الواردة عن الصحابة، كأنس، وحذيفة بن أسيد، وابن عمر، وكذا اقتصر عبد الرحمن بن حميد الرؤاسيّ عن الأعمش، على هذا القَدْر.
نعم؛ وقعت هذه الزيادة مرفوعة في حديث سهل بن سعد عند البخاريّ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم، وفي حديث عائشة عند أحمد، وفي حديث ابن عمر، والْعُرس بن عَمِيرة في البزار، وفي حديث عمرو بن العاص، وأكثم بن أبي الجون في الطبرانيّ.
لكن وقعت في حديث أنس من وجه آخر قويّ مفردة من رواية حميد، عن الحسن البصريّ عنه، ومن الرواة مَنْ حَذَف الحسن بين حميد وأنس، فكأنه كان تامًّا عند أنس، فحدَّث به مفرّقًا، فحفظ بعض أصحابه ما لم يحفظ الآخر عنه، فيقوى على هذا أن الجميع مرفوع، وبذلك جزم المحبّ الطبريّ، وحينئذ تُحمل رواية سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب على أن عبد الله بن مسعود لِتَحَقُّق الخبر في نفسه أقْسَم عليه، ويكون الإدراج في القَسَم، لا في المقسَم عليه، وهذا غاية التحقيق في هذا الموضع.
ويؤيد الرفع أيضًا أنه مما لا مجال للرأي فيه، فيكون له حُكم الرفع.
[تنبيه]: قد اشتَمَلت جملة قوله: "فوالذي نفسي بيده إلخ" على أنواع من التأكيد بالقَسَم، ووَصْف المقسَم به، وبـ "أنّ"، وباللام، والأصل في التأكيد أنه يكون لمخاطبة المنكِر، أو المستبعِد، أو من يتوهم فيه شيء من ذلك، وهنا لمّا كان الحكم مستبعَدًا، وهو دخول مَن عمل الطاعة طول عمره النار، وبالعكس حَسُن المبالغة في تأكيد الخبر بذلك، والله أعلم
(1)
.
وقوله: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ) وفي رواية البخاريّ: "فوالله إن أحدكم - أو الرجل - ليعمل"، قال في "الفتح": وقع في رواية آدم: "فإن أحدكم " بغير شكّ، وقدَّم ذِكر الجنة على النار، وكذا وقع للأكثر، وهو كذا عند مسلم، وأبي داود، والترمذيّ، وابن ما جه، وفي رواية حفص:"فإن الرجل"، وأخّر ذِكر النار، وعَكَس أبو الأحوص، ولفظه:"فإن الرجل منكم".
وقوله: (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) الباء زائدة، والأصل: يعمل عَمَلَ أهل الجنّة؛ لأن قوله: "عَمَلَ" إما مفعول مطلق، وإما مفعول به، وكلاهما مستغنٍ عن الحرف، فكانت زيادة الباء للتأكيد، أو ضُمّن "يعمل" معنى: يتلبس في عمله بعمل أهل الجنّة، وظاهره: أنه يعمل بذلك حقيقةً، ويُختم له بعكسه، وفي حديث سهل بلفظ:"ليعمل بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس" وهو محمول على المنافق، والمرائي، بخلاف حديث الباب، فإنه يتعلق بسوء الخاتمة.
وقوله: "بعمل أهل الجنة"؛ يعني: من الطاعات الاعتقادية، والقولية، والفعلية، ثم يَحْتَمِل أن الحفظة تكتب ذلك، ويُقبل بعضها، ويُرَدّ بعضها، ويَحْتَمِل أن تقع الكتابة، ثم تمحى، وأما القبول فيتوقف على الخاتمة.
(حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: "حتى" هنا هي الناصبة، و"ما" نافية، ولم تَكُفّ "يكون" عن العمل فهي منصوبة بـ "حتى"، وأجاز غيره أن تكون "حتى" ابتدائية، فـ "يكون" على هذا بالرفع، وهو مستقيم أيضًا.
(إِلَّا ذِرَاعٌ) هكذا في هذه الرواية بغير شكّ، ووقع في رواية للبخاريّ:"غير ذراع، أو باع"، قال في "الفتح": والتعبير بالذراع تمثيل بقرب حاله من
(1)
"الفتح" 15/ 199 - 200.
الموت، فيحال مَن بينه وبين المكان المقصود بمقدار ذراع، أو باعٍ من المسافة، وضابط ذلك الحسيّ: الغرغرة التي جُعلت علامة لعدم قبول التوبة، وقد ذكر في هذا الحديث أهل الخير صِرْفًا، وأهل الشرّ صِرْفًا إلى الموت، ولا ذِكر للذين خَلَطوا، وماتوا على الإسلام؛ لأنه لم يقصد في الحديث تعميم أحوال المكلَّفين، وإنما سيق لبيان أن الاعتبار بالخاتمة.
(فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ) وفي رواية "كتابه"، قال الطيبيّ: الفاء للتعقيب على حصول السبق بلا مُهلة، وضَمّن "يسبق" معنى: يَغْلِب، فعدّاه بـ "على"؛ أي: يغلب عليه الكتاب، وما قُدّر عليه سَبْقًا بلا مُهلة، فعند ذلك يعمل بعمل أهل الجنّة، أو أهل النار. انتهى كلام الطيبيّ ببعض تصرّف
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "عليه" في موضع نصب على الحال؛ أي: يسبق المكتوب واقعًا عليه. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الطيبيّ من التضمين أوضح، والله تعالى أعلم.
وفي رواية سلمة بن كهيل: "ثم يدركه الشَّقَاء - وقال - ثم تدركه السعادة"، والمراد بسَبْق الكتاب: سَبْق ما تضمَّنه، على حذف مضاف، أو المراد: المكتوب؛ والمعنى: أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب في اقتضاء الشقاوة، فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبَّر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق، ولأنه لو تمثَّل العمل والكتاب شخصين ساعيين لَظَفِر شخص الكتاب، وغُلب شخص العمل.
ووقع في حديث أبي هريرة الآتي عند مسلم: "وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له بعمل أهل الجنة"، زاد أحمد من وجه آخر عن أبي هريرة:"سبعين سنةً"، وفي حديث أنس عند أحمد، وصححه ابن حبان:"لا عليكم أن لا تعجبوا بعمل أحد، حتى تنظروا بِمَ يُختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره بعمل صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحوّل، فيعمل عملًا سيئًا. . ." الحديث.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 534 - 535.
وفي حديث عائشة عند أحمد، مرفوعًا:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وهو مكتوب في الكتاب الأول من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحوّل فعمل عمل أهل النار، فمات، فدخلها. . ." الحديث.
ولأحمد، والنسائيّ، والترمذيّ من حديث عبد الله بن عمرو:"خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كتابان. . ." - الحديث، وفيه -:"هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا، فقال أصحابه: ففيم العمل؟ فقال: سَدِّدوا، وقاربوا، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيَّ عمل. . ." الحديث.
وفي حديث عليّ عند الطبرانيّ نحوه، وزاد:"صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أيّ عمل، وقد يُسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة، حتى يقال: ما أشبههم بهم، بل هم منهم، وتُدركهم السعادة، فتستنقذهم. . ." الحديث، ونحوه للبزار، من حديث ابن عمر، وفي حديث سهل بن سعد:"إنما الأعمال بالخواتيم"، ومثله في حديث عائشة عند ابن حبان، ومن حديث معاوية نحوه، وفي آخر حديث عليّ المشار إليه قبلُ:"الأعمال بخواتيمها".
(فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار، فَيَدْخُلُهَا) قال في "الفتح": ظاهره أنه يعمل بذلك حقيقةً، ويُختم له بعكسه، وثبت في حديث سهل بلفظ:"ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس"، وهو محمول على المنافق والمرائي، بخلاف حديث الباب، فإنه يتعلق بسوء الخاتمة.
قال: والمراد بسبق الكتاب: سبق ما تضمّنه، على حذف مضاف، أو المراد: المكتوب، والمعنى أنه يتعارض عمله في اقتضاء السعادة، والمكتوب في اقتضاء الشقاوة، فيتحقق مقتضى المكتوب، فعبّر عن ذلك بالسبق؛ لأن السابق يحصل مراده دون المسبوق، ولأنه لو تمثّل العمل والكتاب شخصين ساعيين، لَظَفِر شخص الكتاب، وغُلِب شخص العمل. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 11/ 487.
(وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّار، حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ)؛ أي: يغلب عليه المكتوب؛ أي: المقدَّر، أو التقدير، (فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) بأن يستغفر، ويتوب (فَيَدْخُلُهَا") وفي الحديث تصريح بإثبات القَدَر، وأن التوبة تهدم الذنوب، وأن من مات على شيء حُكم له بذلك من خير، أو شرّ، إلا أن أصحاب المعاصي غير الكفر في المشيئة
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها": ظاهر هذا الحديث أن هذا العامل كان عمله صحيحًا، وأنه قَرُب من الجنة بسبب عمله، حتى أشرف على دخولها، وإنما منعه من دخولها سابق القَدَر الذي يظهر عند الخاتمة، وعلى هذا فالخوف على التحقيق إنما هو مما سبق؛ إذ لا تبديل له، ولا تغيير، فإذًا الأعمال بالسوابق، لكن لمّا كانت السوابق مستورة عنّا، والخاتمة ظاهرة لنا، قال صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالخواتيم"؛ أي: عندنا وبالنسبة إلى اطلاعنا في بعض الأشخاص، وفي بعض الأحوال، وأما العامل المذكور في حديث سهل المتقدّم في "الإيمان" فإنَّه لم يكن عمله صحيحًا في نفسه، وإنما كان رياء وسمعةً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار"، فيستفاد من هذا الحديث الاجتهاد في إخلاص الأعمال لله تعالى، والتحرز من الرياء، ويستفاد من حديث ابن مسعود تَرْك العُجْب بالأعمال، وترك الالتفات، والركون إليها، والتعويل على كرم الله تعالى، ورحمته، والاعتراف بمنّته، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لن يُنْجي أحدًا منكم عمله. . ." الحديث
(2)
، متّفقٌ عليه، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6700 و 6701](2643)، و (البخاريّ) في
(1)
"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 1/ 417.
(2)
"المفهم" 6/ 653 - 654.
"بدء الخلق"(3208) و"الأنبياء"(3332) و"القدر"(6594) و"التوحيد"(7454)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4708)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2137)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 366)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(76)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(298)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 123)، و (الحميديّ) في "مسنده"(126)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 382 و 414 و 430)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6174)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(175 و 176)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5157)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 201) و"الصغير"(1/ 133)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 379)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 170)، و (الدارميّ) في "الردّ على الجهميّة"(ص 81)، و (اللالكائيّ) في "أصول الاعتقاد"(1040 و 1041)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 421 و 10/ 266) وفي "شعب الإيمان"(1/ 207) وفي "الأسماء والصفات"(ص 387) وفي "الاعتقاد"(ص 137 - 138)، و (أبو القاسم البغويّ) في "الجعديّات"(2688)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(71)، والله تعالى أعلم.
[المسألة الثالثة]: قال الحافظ رحمه الله: هذا الحديث اشتهر عن الأعمش بالسند المذكور هنا، قال علي ابن المديني في "كتاب العلل": كنا نَظُنُّ أن الأعمش تفرَّد به حتى وجدناه من رواية سلمة بن كهيل، عن زيد بن وهب. قال الحافظ: وروايته عند أحمد، والنسائي، ورواه حبيب بن حَسّان، عن زيد بن وهب أيضًا، وروايته عند أبي نعيم في "الحلية"، ولم ينفرد به زيد، عن ابن مسعود، بل رواه عنه أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود عند أحمد، وعلقمةُ عند أبي يعلى، وأبو وائل في "فوائد تَمّام"، ومُخَارق بن سُليم، وأبو عبد الرحمن السُّلَمي كلاهما عند الْفِرْيابي في "كتاب القدر"، وأخرجه أيضًا من رواية طارق، ومن رواية أبي الأحوص الْجُشَمِيّ كلاهما عن عبد الله مختصرًا. وكذا لأبي الطفيل عند مسلم، وناجية بن كعب في "فوائد العيسوي"، وخيثمة بن عبد الرحمن عند الخطابيّ، وابن أبي حاتم، ولم يرفعه بعض هؤلاء عن ابن مسعود، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن مسعود جماعة من الصحابة مُطَوَّلًا ومختصرًا، منهم: أنس، عند البخاريّ في "صحيحه"، وحُذيفة بن أَسِيد عند
مسلم، وعبد الله بن عمر في "القدر" لابن وهب، وفي "أفراد الدارقطني"، وفي "مسند البزار"، من وجه آخر ضعيف، والفريابي بسند قوي، وسهل بن سعد عند البخاريّ، وأبو هريرة عند مسلم، وعائشة عند أحمد بسند صحيح، وأبو ذر عند الْفِرْيابي، ومالك بن الحويرث عند أبي نعيم في "الطبّ"، والطبراني، ورَبَاح اللَّخْميّ عند ابن مردويه في "التفسير"، وابن عباس في "فوائد المخلص" من وجه ضعيف، وعلي في "الأوسط" للطبراني من وجه ضعيف، وعبد الله بن عمرو في "الكبير" بسند حَسَن، والْعُرْس بن عَمِيرة عند البزار بسند جيد، وأكثم بن أبي الْجَوْن عند الطبراني، وابن مَنْدَه بسند حسن، وجابر عند الْفِريابي، وقد أشار الترمذي في الترجمة إلى أبي هريرة، وأنس فقط، وقد أخرجه أبو عوانة في "صحيحه" عن بضع وعشرين نفسًا، من أصحاب الأعمش، منهم من أقرانه: سليمان التيمي، وجرير بن حازم، وخالد الحذّاء، ومن طبقة شعبةَ: الثوريُّ، وزائدة، وعمار بن زريق، وأبو خيثمة.
ومما لم يقع لأبي عوانة: رواية شَريك، عن الأعمش، وقد أخرجها النسائي في "التفسير" من "الكبرى".
ورواية وَرْقَاء بن عمر، ويزيد بن عطاء، وداود بن عيسى أخرجها تَمّام، قال الحافظ: وكنت خرّجته في جزء من طرق نحو الأربعين نفسًا عن الأعمش، فغاب عني الآن، ولو أمعنت التتبع لزادوا على ذلك. انتهى
(1)
. وهو بحث نفيسٌ، وتحقيق أنيسٌ، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات القَدَر، ووجوب الإيمان به، والمراد بالقدر في لسان الشرع: أن الله عز وجل عَلِم مقادير الأشياء، وأزمانها أزلًا، ثم أوجدها بقدرته ومشيئته على وِفْق ما عَلِمه منها، وأنه كتبها في اللوح المحفوظ قبل إحداثها.
وقد تقدّم في شرح حديث عمر رضي الله عنه في "كتاب الإيمان" البحث في القدر والإيمان به مستوفًى، فراجعه تستفد.
2 -
(ومنها): أن فيه أن خَلْق السمع والبصر يقع والجنين داخل بطن أمه،
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 583.
وقد زعم بعضهم أنه يُعطَى ذلك بعد خروجه من بطن أمه؛ لقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 78]، وتُعُقّب بأن الواو لا تُرَتِّب، والتحقيق أن خلق السمع والبصر وهو في بطن أمه محمولٌ جزمًا على الأعضاء، ثم على القوة الباصرة والسامعة؛ لأنها مودَعة فيها، وأما الإدراك بالفعل فهو موضع النزاع، والذي يترجح أنه يتوقف على زوال الحجاب المانع.
3 -
(ومنها): أن الأعمال حَسَنها وسيئها أماراتٌ، وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في الابتداء. قاله الخطابيّ.
4 -
(ومنها): أن فيه القَسَمَ على الخبر الصدق تأكيدًا في نفس السامع.
5 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى علم المبدإ والمعاد، وما يتعلق ببَدَن الإنسان، وحاله في الشقاء والسعادة.
6 -
(ومنها): أن فيه عِدّةَ أحكام تتعلق بالأصول والفروع، والحكمة، وغير ذلك.
7 -
(ومنها): أن السعيد قد يَشقَى، وأن الشقي قد يَسْعَد، لكن بالنسبة إلى الأعمال الظاهرة، وأما ما في علم الله تعالى فلا يتغير.
8 -
(ومنها): أن الاعتبار بالخاتمة، قال ابن أبي جمرة نفع الله به: هذه التي قَطَعَت أعناق الرجال، مع ما هم فيه من حُسن الحال؛ لأنهم لا يَدرُون بماذا يُختَم لهم.
9 -
(ومنها): أن عموم مثل قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوأُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ} [النحل: 97] مخصوص بمن مات على ذلك، وأن من عمل السعادة، وخُتم له بالشقاء، فهو في طول عمره عند الله شقي وبالعكس، وما ورد مما يخالفه يُؤَوَّلُ إلى أن يَؤُولَ إلى هذا، وقد اشتهر الخلاف في ذلك بين الأشعرية والحنفية، وتمسَّك الأشاعرة بمثل هذا الحديث، وتمسَّك الحنفية بمثل قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} الآية [الرعد: 39]، وأكثرَ كلٌّ من الفريقين الاحتجاجَ لقوله، والحقّ أن النزاع لفظيٌّ، وأن الذي سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن
الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل، ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة، والموكلين بالآدميّ، فيقع فيه المحو والإثبات، كالزيادة في العمر والنقص، وأما ما في علم الله، فلا محو فيه ولا إثبات، والعلم عند الله تعالى.
10 -
(ومنها): أن فيه التنبيهَ على صِدق البعث بعد الموت؛ لأن من قَدَرَ على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم ينفخ الروح فيه، قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابًا، ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها، ولقد كان قادرًا على أن يخلقه دفعة واحدة، ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رِفْقًا بالأم؛ لأنها لم تكن معتادة، فكانت المشقة تَعْظُم عليها، فهيَّأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل، ومن تأمل أصل خلقه من نطفة، وتنقّله في تلك الأطوار إلى أن صار إنسانًا جميل الصورة، مُفَضّلًا بالعقل والفهم والنطق، كان حقًّا عليه أن يشكر من أنشأه، وهيأه، ويعبده حَقَّ عبادته، ويطيعه ولا يعصيه.
11 -
(ومنها): أن فيه أن في تقدير الأعمال ما هو سابق ولاحق، فالسابق ما في علم الله تعالى، واللاحق ما يُقَدَّر على الجنين في بطن أمه، كما وقع في هذا الحديث، وهذا هو الذي يَقبَل النَّسخ، وأما ما وقع في "صحيح مسلم" في الباب التالي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا:"كَتَبَ الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، فهو محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى.
12 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على أن السِّقْطَ بعد الأربعة أشهر يُصَلَّى عليه؛ لأنه وقتُ نَفْخ الروح فيه، وهو منقول عن القول القديم للشافعيّ، والمشهور عن أحمد، وإسحاق، وعن أحمد: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرًا، ففي تلك العشر يُنفخ فيه الروح، ويُصلّى عليه، والراجح عند الشافعية أنه لا بد من وجود الروح، وهو القول الجديد للشافعيّ، وقد قالوا: فإذا بَكَى، أو اختلج، أو تنفس، ثم بطل ذلك صُلِّي عليه، وإلا فلا، والأصل في ذلك ما أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم، عن جابر رضي الله عنه رفعه:"إذا استَهَلَّ الصبي وَرِثَ، وصُلِّيَ عليه". وقد ضعّفه النووي في "شرح المهذّب"، والصواب
أنه صحيح الإسناد، لكن المرجح عند الحفاظ وَقْفه، وعلى طريق الفقهاء لا أثر للتعليل بذلك؛ لأن الحكم للرفع لزيادته، قالوا: وإذا بلغ مائة وعشرين يومًا غُسِل، وكُفِّنَ، ودُفِن بغير صلاة، وما قبل ذلك لا يُشرَع له غُسل ولا غيره.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد حقّقت المسألة في "شرح النسائيّ"
(1)
، ورجّحت مذهب القائلين بالصلاة على المولود مطلقًا، سواء استَهَلّ، أو لم يستهلّ، بعد أن يتمّ له أربعة أشهر، كما هو مذهب أحمد، وإسحاق، لحديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه مرفوعًا:"الطفل يصلَّى عليه"، حديث صحيح، رواه النسائيّ، وفي رواية أبي داود:"السقط يصلَّى عليه"، فقد دلّ الحديث على الصلاة عليه مطلقًا.
والحاصل: أن المذهب الصحيح هو القول بالصلاة عليه مطلقًا، لقوّة دليله، والله تعالى أعلم.
13 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن التخليق لا يكون إلا في الأربعين الثالثة، فأقل ما يتبيّن فيه خلْق الولد أحد وثمانون يومًا، وهي ابتداء الأربعين الثالثة، وقد لا يتبيّن إلا في آخرها، ويترتب على ذلك أنه لا تنقضي العدة بالوضع إلا ببلوغها، وفيه خلاف، ولا يثبت للأَمَة أُمّيةُ الولد إلا بعد دخول الأربعين الثالثة، وهذا قول الشافعية والحنابلة، وتوسَّع المالكية في ذلك، فأداروا الحكم في ذلك على كلِّ سِقْطٍ، ومنهم من قَيَّده بالتخطيط، ولو كان خفيًّا، وفي ذلك رواية عن أحمد، وحجتهم ما تقدم في بعض طُرُقه أن النطفة إذا لم يُقَدّر تخليقها لا تصير علقة، وإذا قُدِّر أنها تتخلق تصير علقة، ثم مضغة إلخ، فمتى وَضَعَت علقة عُرِف أن النطفة خرجت عن كونها نطفة، واستحالت إلى أول أحوال الولد.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ما قاله الأولون أظهر، فليُتأمّل، والله تعالى أعلم.
14 -
(ومنها): أن كلًّا من السعادة والشقاء، قد يقع بلا عمل ولا عُمْر، وعليه ينطبق قوله صلى الله عليه وسلم:"الله أعلم بما كانوا عاملين"، وسيأتي تحقيق القول في ذلك بعد أربعة أبواب - إن شاء الله تعالى -.
(1)
راجع: "ذخيرة العقبى" 19/ 186 - 187.
15 -
(ومنها): أن فيه الحثَّ القويَّ على القناعة، والزجرَ الشديد عن الحرص؛ لأن الرزق إذا كان قد سبق تقديره لم يُغنِ التَّعَنِّي في طلبه، وإنما شُرع الاكتساب؛ لأنه من جملة الأسباب التي اقتضتها الحكمة في دار الدنيا.
16 -
(ومنها): أن فيه أن الأعمال سبب دخول الجنة أو النار، وهو معنى قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72]، ولا يعارض ذلك حديث:"لن يُدخل أحدًا عمله الجنّة"؛ لِمَا سيأتي في المسألة التالية من الجمع بينهما -إن شاء الله تعالى-.
17 -
(ومنها): أن من كُتِب شقيًّا لا يُعلَم حاله في الدنيا، وكذا عكسه، واحتج من أثبت ذلك بحديث عليّ رضي الله عنه المتّفق عليه:"أما من كان من أهل السعادة، فإنه يُيَسَّر لعمل أهل السعادة. . ." الحديث.
والتحقيق أن يقال: إن أريد أنه لا يُعلم أصلًا ورأسًا فمردود، وإن أريد أنه يُعلم بطريق العلامة المثبِتة للظن الغالب فَنَعم، ويقْوَى ذلك في حقّ من اشتَهَر له لسانُ صدق بالخير والصلاح، ومات على ذلك؛ لقوله في الحديث الصحيح المتّفق عليه:"أنتم شُهداء الله في الأرض"، وإن أريد أنه يُعلم قطعًا لمن شاء الله أن يُطلِعه على ذلك، فهو من جملة الغيب الذي استَأْثَرَ الله بعلمه، وأطلَع من شاء ممن ارتضى من رسله عليه.
18 -
(ومنها): أن فيه الحثَّ على الاستعاذة بالله تعالى من سوء الخاتمة، وقد عَمِل به جمع جَمٌّ من السلف، وأئمة الخلف، وأما ما قال عبد الحق في "كتاب العاقبة": إن سوء الخاتمة لا يقع لمن استقام باطنه، وصلح ظاهره، وإنما يقع لمن في طويته فساد أو ارتياب، ويَكثُر وقوعه للمُصِرّ على الكبائر، والمجترئ على العظائم، فيَهْجُمُ عليه الموت بغتة، فيَصْطَلِمه الشيطان، عند تلك الصدمة، فقد يكون ذلك سببًا لسوء الخاتمة -نسأل الله السلامة- فهو محمول على الأكثر الأغلب. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقد أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله في "جامع العلوم والحكم" بعض ما ورد عن السلف من خوفهم سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها، فأورد حديث
(1)
"الفتح" 11/ 596.
"الصحيحين" عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون، وفي أصحابه رجل لا يَدَعُ شاذّةً، ولا فاذّةً إلا اتبعها، يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحدٌ كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فاتّبعه، فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوضع نَصْل سيفه على الأرض، وذُبَابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه، فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَصّ عليه القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة"، زاد البخاري في رواية له:"إنما الأعمال بالخواتيم".
وقوله: "فيما يبدو للناس" إشارةٌ إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد لا يَطَّلِع عليها الناسُ، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفيةٌ من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حُسْن الخاتمة.
قال عبد العزيز بن أبي رَوّاد: حضرتُ رجلًا عند الموت يُلَقَّنُ "لا إله إلا الله"، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته.
وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سَبَق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يَقْلَقُ من ذِكر السوابق.
وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلَّقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُختَم لنا، وقلوب المقربين معلَّقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟
وبكى بعض الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قبض خَلْقه قبضتين، فقال: هؤلاء في
الجنة، وهؤلاء في النار"، ولا أدري في أيّ القبضتين كنت؟
(1)
.
قال بعض السلف: ما أبكَى العيونَ ما أبكاها الكتاب السابق. وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركني لا أفرح أبدًا. وكان سفيان يشتدّ قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت. وكان مالك بن دينار يقوم طولَ ليله قابضًا على لحيته، ويقول: يا رب قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أيٍّ مالكٌ؟. وقال حاتم الأصمّ: من خلا قلبه من ذِكر أربعة أخطار، فهو مُغْتَرٌّ، فلا يَأمَن الشقاء:
(الأولُ): خطر يوم الميثاق، حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يَعلَم في أي الفريقين كان.
(والثاني): حين خُلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملَك بالشقاوة والسعادة، ولا يَدرِي أَمِنَ الأشقياء هو أم من السعداء.
(والثالث): ذِكر هول المطلع فلا يَدرِي أيبشَّر برضا الله أم بسَخَطه.
(والرابع): يومَ يصدُر الناس أشتاتًا فلا يَدري أي الطريقين يُسلَك به.
وقال سهل التستري: المريدُ يخاف أن يُبْتلَى بالمعاصي، والعارف يخاف أن يُبتلَى بالكفر.
ومن هنا كان الصحابة ومن بعدَهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجَهُ إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفيّة توجب سوء الخاتمة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"، فقيل له: يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال:"نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلّبها كيف شاء". أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، من حديث أنس
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد في "مسنده" 4/ 176 - 177 بإسناد صحيح.
(2)
أخرجه أحمد 3/ 112 و 257، والترمذيّ (2140) وحسّنه.
وأخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللَّهُمَّ يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، أَوَ إن القلوب لتتقلب؟ قال:"نَعَم ما من خَلْق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء عز وجل أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يُزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب"، قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلّمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى، قولي: اللَّهُمَّ رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأَجِرْني من مُضِلات الفتن ما أحييتني"
(1)
.
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القلوب صَرِّفْ قلوبنا على طاعتك". انتهى المقصود مما كتبه ابن رجب -رحمه الله تعالى-
(2)
.
19 -
(ومنها): أن قدرة الله تعالى لا يوجبها شيء من الأسباب إلا بمشيئته، فإنه لم يجعل الجماع علّةً للولد؛ لأن الجماع قد يَحصُل ولا يكون الولد حتى يشاء الله ذلك.
20 -
(ومنها): أن الشيء الكثيف يحتاج إلى طول الزمان، بخلاف اللطيف، ولذلك طالت المدة في أطوار الجنين حتى حصل تخليقه، بخلاف نَفْخ الروح، ولذلك لَمّا خلق الله الأرض أوّلًا عَمَد إلى السماء فسوّاها، وترك
(1)
أخرجه أحمد 6/ 302 وفي إسناده شهر بن حوشب، وقد تُكلّم فيه، والحقّ أنه حَسَن الحديث كما قال البخاريّ، ولا سيما رواية عبد الحميد بن بهرام كما هنا، وقد صرّح بأنه سمع أم سلمة رضي الله عنها تحدّث بهذا الحديث، وقد حققت هذا البحث في غير هذا الموضع من هذا الشرح وغيره.
(2)
راجع: "جامع العلوم والحكم" 1/ 172 - 175، بتحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس.
الأرض لكثافتها بغير فتق، ثم فُتِقَتَا معًا، ولمّا خلق آدم، فصوّره من الماء والطين، تركه مدة، ثم نفخ فيه الروح.
21 -
(ومنها): أن الداوديّ استدل بقوله: "فتدخل النار" على أن الخبر خاص بالكفار، واحتج بأن الإيمان لا يُحبطه إلا الكفر.
وتُعُقِّب بأنه ليس في الحديث تَعَرُّض للإحباط، وحَمْله على المعنى الأعم أَولى، فيتناول المؤمن حتى يُختَم له بعمل الكافر مثلًا فيرتدّ، فيموت على ذلك، فنستعيذ بالله من ذلك، ويتناول المطيع حتى يُختم له بعمل العاصي، فيموت على ذلك، ولا يلزم من إطلاق دخول النار أنه يُخَلَّد فيها أبدًا، بل مجرد الدخول صادق على الطائفتين.
22 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أنه لا يجب على الله رعاية الأصلح، خلافًا لمن قال به من المعتزلة؛ لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميعُ عمره في طاعة الله، ثم يُختم له بالكفر -والعياذ بالله- فيموت على ذلك، فيدخل النار، فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يَحبِط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره، وقَرُب موته من كفره.
23 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به بعض المعتزلة على أن مَن عَمِل عمل أهل النار وجب أن يدخلها؛ لترتُّب دخولها في الخبر على العمل، وترتبُ الحكم على الشيء يُشعِر بعلّيته.
وأُجيب بأنه علامة لا علة، والعلامة قد تتخلف، سلّمنا أنه علة، لكنه في حق الكفار، وأما العصاة فخرجوا بدليل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فمن لم يُشرك فهو داخل في المشيئة.
24 -
(ومنها): أنه استَدَلّ به الأشعريّ في تجويزه تكليف ما لا يطاق؛ لأنه دلّ على أن الله كَلَّفَ العباد كلهم بالإيمان، مع أنه قَدَّرَ على بعضهم أنه يموت على الكفر.
وقد قيل: إن هذه المسألة لم يثبت وقوعها إلا في الإيمان خاصة، وما عداه لا توجد دلالة قطعية على وقوعه، وأما مطلق الجواز فحاصل.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب بعض المحقّقين هذا الاستدلال، وأجاد في ذلك، فقال: إطلاق القول بالتكليف بما لا يُطاق من
البدع المحدثة من المتكلّمين في أصْلَي الدين والفقه، والحقّ فيه التفصيل، فتكليف ما لا يُطاق لِعَجْز العبد عنه عادةً، كالمشي على القفا، أو على الرأس وغيره، فهو غير موجود في الشريعة البتّة، قال سبحانه وتعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقال أيضًا:{لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 233]، وقال:{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون: 62]، وقال سبحانه وتعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، فهو مما رَفَقَ الله -سحانه وتعالى- به علينا من الحرج، فخفّفه على عباده، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6].
وأما تكليف ما لا يُطاق لا للعجز عنه، بل للاشتغال بضدّه من الكفر والفسوق والعصيان، فهذا مما جاءت به الشريعة أمرًا ونهيًا، وتسميته بما لا يطاق خطأٌ، ولم يَرِد بها الشرع الحنيف. وراجع في هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى" 8/ 469 وما بعدها، و"درء التعارض" 1/ 65. والله تعالى أعلم.
25 -
(ومنها): أن فيه أن الله يَعلَم الجزئيات كما يَعلَم الكليات؛ لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة.
26 -
(ومنها): أنه سبحانه وتعالى مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومُقَدِّرها، لا أنه يحبها ويرضاها.
27 -
(ومنها): أن جميع الخير والشر بتقدير الله تعالى، وإيجاده، وخالف في ذلك القدرية والجبرية.
فذهبت القدرية إلى أن فِعل العبد من قِبَل نفسه، ومنهم من فرَّق بين الخير والشر، فنَسَب إلى الله الخير، ونفى عنه خلق الشر، وقيل: إنه لا يُعرَف قائله، وإن كان قد اشتَهَرَ ذلك، وإنما هذا رأي المجوس.
وذهبت الجبرية إلى أن الكل فِعل الله، وليس للمخلوق فيه تأثير أصلًا، وتوسَّط أهل السُّنَّة، فمنهم من قال: أصل الفعل خلقه الله، وللعبد قدرة غير مؤثّرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرًا، لكنه يُسَمَّى كسبًا، وبَسطُ أدلتهم يطول. قاله في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قد تعقّب بعض المحقّقين على الحافظ في
(1)
"الفتح" 11/ 597.
هذا التقرير، فقال: هذا تقرير من المؤلّف لكسب الأشاعرة في باب القضاء والقدر، والحقّ أن قدرة العبد ينشأ عنها فعله، ولهذا هو محاسب ومؤاخذٌ عليها، وهي على كلّ حال لا تخرُج عن قدرة الله، ومشيئته بحال، والله تعالى خَلَق العبد، وخَلَق قدرته، فـ "الله خالق كل صانع وصنعته"، والله تعالى أعلم.
وقد أخرج أحمد، وأبو يعلى من طريق أيوب بن زياد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، حدثني أبي، قال:"دخلت على عبادة، وهو مريض، فقلت: أوصني، فقال: إنك لن تَطعَم طُعمَ الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وهو أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك. . ." الحديث، وفيه:"وإن مُتّ، ولست على ذلك دخلت النار".
وأخرجه الطبراني من وجه آخر بسند حسن، عن أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي الدرداء، مرفوعًا مقتصرًا على قوله:"إن العبد لا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه".
28 -
(ومنها): أن فيه أن الأقدار غالبة، والعاقبة غائبة، فلا ينبغي لأحد أن يغترّ بظاهر الحال، ومن ثَمَّ شُرع الدعاء بالثبات على الدِّين، وبحسن الخاتمة.
[تنبيه]: حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا قد يقال: يُعارضه حديث علي رضي الله عنه الآتي في الباب، وهو متّفق عليه، حيث سأل الصحابة رضي الله عنهم عن فائدة العمل مع تقدم التقدير، فأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"اعملوا فكل ميسَّر لما خُلِق له".
ويُجمع بينهما بحمل حديث علي رضي الله عنه على الأكثر الأغلب، وحَمْل هذا الحديث على الأقل، ولكنه لمّا كان جائزًا تعيَّن طلب الثبات. قاله في "الفتح".
[تنبيه آخر]: حَكَى ابن التين: أن عمر بن عبد العزيز: لَمّا سمع هذا الحديث أنكره، وقال: كيف يصح أن يعمل العبد عمره الطاعةَ، ثم لا يدخل الجنة؟ انتهى.
وقد توقف ابن الملقن رحمه الله في صحة ذلك عن عمر، قال الحافظ رحمه الله: وظهر لي أنه إن ثبت عنه حُمِل على أن راويه حذف منه قوله في آخره: "فيسبق
عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"، أو أكمل الراوي، لكن استبعد عمر وقوعه، وإن كان جائزًا، ويكون إيراده على سبيل التخويف من سوء الخاتمة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): هذا الحديث يعارضه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لن يُدخِل أحدًا منكم عمَلُهُ الجنةَ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله بفضله ورحمته. . ." الحديث.
وأجاب ابن بطال رحمه الله عن ذلك بأن تُحمل الآية -أي: وكذا حديث الباب- على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يُحمَل الحديث المذكور على دخول الجنة، والخلود فيها.
ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، فصَرّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال.
وأجاب بأنه لفظ مُجمَل بيّنه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مُفَسِّرًا للآية، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم، وتفضّله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضّل عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.
وقال القاضي عياض رحمه الله: طريق الجمع أن الحديث فسّر ما أُجمل في الآية. فذَكر نحوًا من كلام ابن بطال الأخير، وأن من رحمة الله توفيقَهُ للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله وبرحمته.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة:
(الأول): أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان، ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة.
(1)
"الفتح" 11/ 597 - 598.
(الثاني): أن منافع العبد لسيده، فعمله مُستَحَقٌّ لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.
(الثالث): جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.
(الرابع): أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا يَنْفَد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل، لا بمقابلة الأعمال.
وقال الكرماني رحمه الله: الباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] ليست للسببية، بل للإلصاق، أو المصاحبة؛ أي: أُورثتموها ملابسة، أو مصاحبة، أو للمقابلة، نحو: أَعطيتُ الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في "المغني"، فسبق إليه، فقال: تَرِدُ الباء للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف، ومنه:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وإنما لم تُقَدَّر هنا للسببية كما قالت المعتزلة
(1)
، وكما قال الجميع في:"لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"؛ لأن الْمُعْطِي بعوض قد يعطي مَجّانًا، بخلاف المسبَّب فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث.
وقد سبقه إلى ذلك ابن القيم، فقال في كتاب "مفتاح دار السعادة": الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأُولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لَمَا أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده، ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضًا لها؛ لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نِعَمه مقتضية لِشُكرها، وهو لم يُوَفِّها حَقَّ شُكرها، فلو
(1)
كون الباء للسببية ليس مذهب المعتزلة، كما تُوْهمه هذه العبارة، بل هو مذهب أهل الحق من أهل السُّنَّة والجماعة، وإنما لم تُجعل هنا للسببية لدليل اقترن بها، وهو الجمع بين الأدلة، فتفطّن. والله تعالى أعلم.
عذّبه في هذه الحالة لعذّبه وهو غير ظالم له، وإذا رحمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرًا من عمله، كما في حديث أُبَيّ بن كعب الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه في ذِكر القَدَر، ففيه:"لو أن الله عذّب أهل سماواته وأرضه، لعذّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم. . ." الحديث.
قال: وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببًا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عِوَض العمل، وأنها ثَمَنه، وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يُبطل دعوى الطائفتين. والله أعلم.
وجوّز الكرماني أيضًا أن يكون المراد: أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى:{أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43، والزخرف: 72] لم يمش في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32].
قال الحافظ: ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر، وهو أن يُحمل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل، لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فَأَمْر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يُقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة، أو للإلصاق، أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية.
ثم رأيت النوويّ جزم بأن ظاهر الآيات: أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث أن التوفيق للأعمال، والهداية للإخلاص فيها وقَبولها إنما هو برحمة الله وفَضْله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى.
وردّ الكرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث.
وقال المازري: ذهب أهل السُّنَّة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذِّب الطائع، ويُنْعم على العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك،
وخَبَره صِدق لا خُلف فيه، وهذا الحديث يُقَوِّي مقالتهم، ويردّ على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خَبْط كثير، وتفصيل طويل. انتهى
(1)
. وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قد شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله هذا الحديث في كتابه النافع "جامع العلوم والحكم" شرحًا موسّعًا، قد أجاد فيه، وأفاد، أردت إيراده هنا، وإن كان جلّه سبق فيما مضى من الشرح، إلا أن فيه تحقيقات منيفة، وتدقيقات لطيفة، فأوردته دون اختصار، أو تصرّف؛ محافظة على نصّه؛ لأن ذلك أَولى، وأقرب لأداء الأمانة العلميّة، فأقول: قال رحمه الله بعد سوقه حديث ابن مسعود رضي الله عنه المذكور ما نصّه:
هذا حديث متّفق على صحته، وتلقّته الأمة بالقبول، رواه الأعمش عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود، ومن طريقه خرّجه الشيخان في "صحيحيهما"، وقد رُوي عن محمد بن زيد الأسفاطيّ قال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم، فقلت: يا رسول الله حديث ابن مسعود الذي حدّث عنك، فقال: حدّثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي لا إله غيره حدّثته به أنا، يقوله ثلاثًا، ثم قال: غفر الله للأعمش، كما حدّث به، وغفر الله لمن حدّث به قبل الأعمش، ولمن حدّث به بعده
(2)
.
وقد رُوي عن ابن مسعود من وجوه أُخَر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن خَلْق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً" قد رُوي تفسيره عن ابن مسعود، رَوَى الأعمش عن خيثمة، عن ابن مسعود قال: إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعرة، وظُفْر، فتمكث أربعين يومًا، ثم تنحدر في الرحم، فتكون عَلَقَةً، قال: فذلك جَمْعُها. خرّجه ابن أبي حاتم وغيره.
ورُوي تفسير الجمع مرفوعًا بمعنى آخر، فخرَّج الطبرانيّ، وابن منده في "كتاب التوحيد" من حديث مالك بن الحويرث، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 357 - 359، كتاب "الرقاق" رقم الحديث (6464).
(2)
رواه اللالكائيّ في "الاعتقاد"(1043).
تعالى إذا أراد خَلْق عبد، فجامَع الرجل المرأة طار ماؤه في كل عِرْق، وعضو منها، فإذا كان يوم السابع جمعه الله تعالى، ثم أحضره في كل عرق له دون آدم، {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار] ". قال ابن منده: إسناده متصل مشهور على رسم أبي عيسى، والنسائيّ، وغيرهما
(1)
.
وخرّج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبرانيّ من رواية مظهر بن الهيثم، عن موسى بن عليّ بن رَبَاح، عن أبيه، عن جدّه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لجدّه:"يا فلان ما وُلِد لك؟ " قال: يا رسول الله، وما عسى أن يولد لي؟ إما غلام، وإما جارية، قال:"فمن يُشْبه؟ " قال جدّه: عسى أن يشبه أمه، أو أباه، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يقولنّ أحدكم كذا، إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أحضرها الله كل نَسَب بينها وبين آدم، أمَا قرأت هذه الآية: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} قال: سلكك"، وهذا إسناد ضعيف
(2)
، ومظهر عن موسى بن علي، عن أبيه أن أباه لم يسلم إلا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ يعني: أنه لا صحبة له.
ويشهد لهذا المعنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للذي قال له: ولدت امرأتي غلامًا أسود، قال:"لعله نَزَعه عِرْقٌ"
(3)
.
قوله: "ثم يكون عَلَقةً مثل ذلك"؛ يعني: أربعين يومًا، والعَلَقة: قطعة من دم، "ثم يكون مضغة مثل ذلك"؛ يعني: أربعين يومًا، والمضغة: قطعة من لحم، "ثم يرسل الله إليه الملَك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أم سعيد".
فهذا الحديث يدلّ على أنه يتقلّب في مائة وعشرين يومًا، في ثلاثة أطوار، في كل أربعين يومًا منها يكون في طور، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً، ثم في الأربعين الثانية عَلَقةً، ثم في الأربعين الثالثة مضغةً، ثم بعد المائة وعشرين يومًا يَنفُخ فيه الملكُ الروحَ، ويكتب له هذه الأربع الكلمات.
وقد ذَكر الله تعالى في القرآن في مواضع كثيرة تقلّب الجنين في هذه
(1)
ذكره الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 7/ 134 وقال: رجاله ثقات، وجوّد
السيوطيّ إسناده في "الدرّ المنثور" 8/ 439.
(2)
وقال ابن كثير: إسناد ليس بالثابت.
(3)
متّفقٌ عليه.
الأطوار، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية [الحج: 5].
وذكر هذه الأطوار الثلاثة: النطفة، والعلقة، والمضغة في مواضع متعددة من القرآن، وفي مواضع أُخَر ذَكَر زيادةً عليها، فقال في سورة المؤمنين:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} [المؤمنون: 12، 13].
فبهذه سبعُ تارات، ذكرها الله في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الروح فيه، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: خُلق ابن آدم من سبع، ثم يتلو هذه الآية، وسئل عن العزل، فقرأ هذه الآية، ثم قال: فهل يُخلق أحد حتى تجري فيه هذه الصفة؟ وفي رواية عنه قال: وهل تموت نفس حتى تمرّ على هذا الخلق؟
ورُوي عن رفاعة بن رافع قال: جلس إليّ عمر، وعليّ، والزبير، وسعد، ونفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا العزل، فقالوا: لا بأس به، فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى، فقال عليّ رضي الله عنه: لا تكون موؤودة حتى تمرّ على التارات السبع، تكون سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظامًا، ثم تكون لحمًا، ثم تكون خَلْقًا آخر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت، أطال الله بقاءك. رواه الدارقطنيّ في "المؤتلف والمختلف"
(1)
.
وقد رَخَّص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها، ما لم يُنفخ فيه الروح، وجعلوه كالعزل، وهو قول ضعيف؛ لأن الجنين وَلَدٌ انعقد، وربما تَصَوَّر، وفي العزل لم يوجد ولد بالكليّة، وإنما تسبب إلى منع انعقاده، وقد لا يمتنع انعقاده بالعزل إذا أراد الله خلقه، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن العزل قال:"لا عليكم أن لا تفعلوا، إنه ما من نفس منفوسة إلا أن الله خلقها"
(2)
.
قال: وقد صرَّح أصحابنا -يعني: الحنبليّة- بأنه إذا صار الولد عَلَقةً لم يجز للمرأة إسقاطه؛ لأنه ولد انعقد، بخلاف النطفة، فإنها لم تنعقد بعدُ، وقد لا تنعقد ولدًا.
(1)
2/ 877 وفيه ابن لَهِيعة، وقد ضعّفوه.
(2)
متّفقٌ عليه.
وقد ورد في بعض الروايات في حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذِكر العظام، وأنه يكون عظمًا أربعين يومًا، فخرَّج الإمام أحمد من رواية عليّ بن زيد: سمعت أبا عُبيدة يحدّث، قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن النطفة تكون في الرحم أربعين يومًا على حالها، لا تغيَّر، فإذا مضت الأربعون صارت عَلَقة، ثم مضغةً كذلك، ثم عظامًا، فإذا أراد الله تعالى إن يُسوّي خَلْقه بَعَثَ الله إليه مَلَكًا
…
"، وذكر بقية الحديث
(1)
.
ويروى من حديث عاصم عن أبي وائل، عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن النطفة إذا استقرّت في الرحم، تكون أربعين ليلة نطفة، ثم تكون علقة أربعين ليلة، ثم تكون عظامًا أربعين ليلة، ثم يكسو الله العظام لحمًا"
(2)
.
ورواية الإمام أحمد تدلّ على أن الجنين لا يُكْسَى اللحم إلا بعد مائة وستين يومًا، وهذا غلطٌ لا ريب فيه، فإنه بعد مائة وعشرين يومًا ينفخ فيه الروح بلا ريب، كما سيأتي ذِكره، وعليّ بن زيد، هو ابن جُدْعان، لا يُحتج به.
وقد ورد في حديث حذيفة بن أَسِيد ما يدلّ على خَلْق العظام واللحم في أول الأربعين الثانية، ففي "صحيح مسلم" عن حذيفة بن أَسِيد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملَكًا، فصوَّرها، وخَلَق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب ذكر أو أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجَلُه؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رِزقه؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أُمر، ولا ينقص"، فظاهر هذا الحديث يدلّ على أن تصوير الجنين، وخَلْق سَمْعه،
(1)
رواه أحمد 1/ 374، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه.
(2)
رواه تمّام الرازيّ في "فوائده"(31) من طريق سليم بن ميمون الخواص -وهو ضعيف- عن يحيى بن عيسى -وهو ضعيف- عن الأعمش، عن أبي وائل.
وبصره، وجلده، ولحمه، وعظامه يكون في أول الأربعين الثانية، فيلزم من ذلك أن يكون في الأربعين الثانية لحمًا، وعظامًا.
وقد تأوّل بعضهم ذلك على أن الملك يقسم النطفة إذا صارت عَلَقة إلى أجزاء، فيجعل بعضها للجلد، وبعضها للّحم، وبعضها للعظام، فيقدّر ذلك كله قبل وجوده، وهذا خلاف ظاهر الحديث، بل ظاهره أن يصوّرها، ويخلق هذه الأجزاء كلّها، وقد يكون خلق ذلك بتصويره، وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام، وقد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض.
وحديث مالك بن الحويرث المتقدّم يدلّ على أن التصوير يكون في النطفة أيضًا في اليوم السابع، وقد قال الله تعالى:{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] وفَسّر طائفة من السلف أمشاج النطفة بالعروق التي فيها، قال ابن مسعود رضي الله عنه: أمشاجها عروقها.
وقد ذكر علماء الطبّ ما يوافق ذلك، وقالوا: إن المنيّ إذا وقع في الرحم حصل له زَبَديّةٌ ورغْوةٌ ستة أيام، أو سبعة أيام، وفي هذه الأيام تُصوَّر النطفة من غير استمداد من الرحم، ثم بعد ذلك تستمدّ منه، وابتداء الخطوط والنقط بعد هذا بثلاثة أيام، وقد يتقدم يومًا، ويتأخر يومًا، ثم بعد ستة أيام، وهو الخامس عشر من وقت العلوق، ينفذ الدم إلى الجميع، فيصير عَلَقَةً، ثم تتميز الأعضاء تميزًا ظاهرًا، ويتنحى بعضها عن مماسّة بعض، وتمتد رطوبة النخاع ثم بعد تسعة أيام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الأصابع تَمَيُّزًا يستبين في بعض، ويخفى في بعض، قالوا: وأقل مدة يُتصور فيها الذكر ثلاثون يومًا، والزمان المعتدل في تصوير الجنين خمسة وثلاثون يومًا، وقد يتصور في خمسة وأربعين يومًا، قالوا: ولم يوجد في الأَسقاط ذَكرٌ تَمّ قبل ثلاثين يومًا، ولا لأنثى قبل أربعين يومًا، فهذا يوافق ما دلّ عليه حديث حذيفة بن أَسِيد في التخليق في الأربعين الثانية، ومصيره لحمًا فيها أيضًا.
وقد جعل بعضهم حديث ابن مسعود على أن الجنين يغلب عليه في الأربعين الأولى وَصْف المنيّ، وفي الأربعين الثانية وصف العَلَقة، وفي الأربعين الثالثة وصف المضغة، وإن كانت خلقته قد تَمّت، وتمّ تصويره، وليس في حديث ابن مسعود ذِكر وقت تصوير الجنين.
وقد رُوي عن ابن مسعود نفسه ما يدلّ على أن تصويره قد يقع قبل الأربعين الثالثة أيضًا، فروى الشعبيّ عن علقمة، عن ابن مسعود فقال: النطفة إذا استقرّت في الرحم جاءها ملك، فأخذها بكفه، فقال: أيْ رب مخلّقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلّقة لم تكن نسمةً، وقَذَفتها الأرحام دمًا، وإن قيل: مخلقة، قال: أيْ رب ذكر أم أنثى؟ شقيّ أم سعيد؟ ما الأجل؟ وما الأثر؟ وبأيّ أرض تموت؟ قال: فيقال للنطفة: من ربكِ؟ فتقول: الله، فيقال: من رازقك؟ فتقول: الله، فيقال: اذهب إلى أم الكتاب، فإنك تجد فيه قصة هذه النطفة، قال: فتُخلق، فتعيش في أجَلها، وتأكل في رزقها، وتطأ في أثرها، حتى إذا جاء أجلها ماتت، فدُفنت في ذلك، ثم تلا الشعبيّ هذه الآية:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} الآية [الحج: 5]، فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع، فكانت نسمة، فإن كانت غير مخلّقة قذفتها الأرحام دمًا، وإن كانت مخلقةً نكست نسمة. خرّجه ابن أبي حاتم وغيره.
وقد رُوي من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه أن لا تصوير قبل ثمانين يومًا، فرَوَى السّدّيّ عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مُرّة الْهَمْدانيّ، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل:{هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6] قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام، طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون علقةً أربعين يومًا، ثم تكون مضغةً أربعين يومًا، فإذا بلغ أن تُخَلَّق بعث الله ملكًا يصوّرها، فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أم أنثى؟ شقيّ أم سعيد؟ وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟ وما مصائبه؟ فيقول الله تبارك وتعالى، فيكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دُفن حيث أُخذ ذلك التراب. خرّجه ابن جرير الطبريّ في "تفسيره"، ولكن السّدّيّ مختلف في أمره، وكان الإمام أحمد يُنكر عليه جَمْعه الأسانيد المتعدّدة للتفسير الواحد، كما كان هو وغيره ينكرون على الواقديّ جَمْعه الأسانيد المتعددة للحديث الواحد.
وقد أخذ طوائف من الفقهاء بظاهر هذه الرواية، وتأوّلوا حديث ابن
مسعود المرفوع عليها، وقالوا: أقل ما يتبين فيه خلق الولد أحد وثمانون يومًا؛ لأنه لا يكون مضغة إلا في الأربعين الثالثة، ولا يتخلق، ويتصور قبل أن يكون مضغة.
وقال أصحابنا
(1)
، وأصحاب الشافعيّ بناءً على هذا الأصل: إنه لا تنقضي العدّة، ولا تعتق أم الولد إلا بالمضغة المخلّقة، وأقلّ ما يكون أن يتخلق، ويتصور في أحد وثمانين يومًا.
وقال أحمد رحمه الله في العلقة: هي دم لا يستبين فيها الخلق، فإن كانت المضغة غير مخلقة، فهل تنقضي بها العدّة، وتصير بها أم الولد مستولَدةً؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وإن لم يظهر فيها التخطيط، ولكن كان خفيًّا، لا يعرفه إلا أهل الخبرة من النساء، فشَهِدْن بذلك قُبلت شهادتهنّ، ولا فرق بين أن يكون بعد تمام أربعة أشهر، أو قَبْلها عند أكثر العلماء، ونصّ على ذلك الإمام أحمد في روايةِ خَلْق من أصحابه، ونَقَل عنه ابنه صالح في الطفل يتبيَّن خلقه في الأربعة.
قال الشعبيّ: إذا نُكِس في الخلق الرابع، كان مخلّقًا، انقضت به العدّة، وعَتَقَت به الأمة، إذا كان لأربعة أشهر، وكذا نَقَل عنه حنبل إذا أسقطت أم الولد، فإن كانت خِلْقته تامّةً عَتقت، وانقضت به العدّة، وإذا دخل في الخلق الرابع في أربعة أشهر، يُنفخ فيه الروح، وهذا يخالف رواية الجماعة عنه، وقد قال أحمد في رواية عنه: إذا تبيّن خَلْقه ليس فيه اختلاف، فإنها تَعتِق بذلك، إذا كانت أمة، ونقل عنه أيضًا جماعة في العلقة: إذا تبيّن أنها ولدٌ أن الأمة تعتق بها، وهو قول النخعيّ، وحكى قولًا للشافعيّ، ومن أصحابنا من طَرَد هذه الرواية عن أحمد في انقضاء العدّة به أيضًا، وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة، كما قد يستدلّ على ذلك بحديث حذيفة بن أَسِيد المتقدّم أن يقال: إن حديث حذيفة إنما يدلّ على أنه يتخلّق إذا صار لحمًا وعظمًا، وأن ذلك قد يقع في الأربعين الثانية، لا في حال كونه علقة، وفي ذلك نَظَر، والله أعلم.
(1)
يعني: الحنبليّة.
وما ذكره الأطباء يدلّ على أن العلقة تتخلق، وتتخطط، وكذلك القوابل من النسوة يشهدن بذلك، وحديث مالك بن الحويرث يشهد بالتصوير في حال كون الجنين نطفة، والله أعلم.
وبقي في حديث ابن مسعود أن بعد مصيره مضغة أنه يبعث إليه الملك، فيكتب الكلمات الأربع، وينفخ فيه الروح، وذلك كلّه بعد مائة وعشرين يومًا. واختَلَفت ألفاظ روايات هذا الحديث في ترتيب الكتابة، والنفخ، ففي رواية البخاريّ في "صحيحه":"ويُبعث إليه الملك، فيؤمر بأربع كلمات، ثم ينفخ فيه الروح"، ففي هذه الرواية تصريح بتأخير نفخ الروح عن الكتابة، وفي رواية خرّجها البيهقيّ في "كتاب القدر":"ثم يُبعث الملك، فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر بأربع كلمات"، وهذه الرواية تصرّح بتقدم النفخ على الكتابة، فإما أن يكون هذا من تصرّف الرواة برواياتهم بالمعنى الذي يفهمونه، وإما أن يكون المراد ترتيب الأخبار فقط، لا ترتيب ما أخبر به، وبكل حال فحديث ابن مسعود يدلّ على تأخير نفخ الروح في الجنين، وكتابة الملَك لأمره إلى بعد أربعة أشهر، حتى تتم الأربعون الثالثة، فأما نفخ الروح فقد رُوي صريحًا عن الصحابة رضي الله عنهم أنه ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، كما دلّ عليه ظاهر حديث ابن مسعود، فروى زيد بن عليّ عن أبيه، عن عليّ قال: إذا تمَّت النطفة أربعة أشهر، بعث الله إليها ملكًا، فينفخ فيها الروح في الظلمات، فذلك قوله تعالى:{ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14]، خرّجه ابن أبي حاتم، وإسناده منقطع، وخرّج اللالكائي بإسناده، عن ابن عباس قال: إذا وقعت النطفة في الرحم مكثت أربعة أشهر وعشرًا، ثم نفخ فيه الروح، ثم مكثت أربعين ليلةً، ثم بعث إليها ملك، فنَقَفَها في نقرة القفا، وكتب شقيًّا أو سعيدًا وفي إسناده نظر
(1)
، وفيه أن نفخ الروح يتأخر عن الأربعة الأشهر بعشرة أيام.
وبنى الإمام أحمد مذهبه المشهور عنه على ظاهر حديث ابن مسعود، وأن الطفل ينفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر، وأنه إذا سقط بعد تمام أربعة أشهر
(1)
رواه اللالكائيّ في "أصول الاعتقاد"، وفي سنده محمد بن حُميد الرازيّ، وهو ضعيف.
صُلِّي عليه، حيث كان قد نُفخ فيه الروح، ثم مات، وحُكي ذلك أيضًا عن سعيد بن المسيِّب، وهو أحد قولي الشافعيّ، وإسحاق، ونَقل غير واحد عن أحمد أنه قال: إذا بلغ أربعة أشهر وعشرًا ففي تلك العَشْر يُنفخ فيه الروح، ويُصلى عليه، وقال في رواية لأبي الحارث عنه: تكون النسمة نطفة أربعين ليلة، وعلقة أربعين ليلة، ومضغة أربعين ليلة، ثم تكون عظمًا ولحمًا، فإذا تمَّ أربعة أشهر وعشرًا نُفخ فيه الروح، وظاهر هذه الرواية أنه لا يُنفخ فيه الروح إلا بعد تمام أربعة أشهر وعشر، كما رُوي عن ابن عباس، والروايات التي قبل هذه عن أحمد أنها تدلّ على أنه يُنفخ فيه الروح في مدة العَشر بعد تمام الأربعة، وهذا هو المعروف عنه، وكذا قال ابن المسيِّب لمّا سئل عن عدّة الوفاة، حيث جعلت أربعة أشهر وعشرًا، ما بال العَشر؟ قال: يُنفخ فيه الروح.
وأما أهل الطبّ فذكروا أن الجنين إن تصوَّر في خمسة وثلاثين يومًا تحرَّك في سبعين يومًا، ووُلد في مائتين وعشرة أيام، وذلك سبعة أشهر، وربما تقدّم أيامًا، وتأخر في التصوير والولادة، وإذا كان التصوير في خمسة وأربعين يومًا تحرك في تسعين يومًا، ووُلد في مائتين وسبعين يومًا، وذلك تسعة أشهر، والله أعلم.
وأما كتابة الملَك: فحديث ابن مسعود يدلّ على أنها تكون بعد أربعة أشهر أيضًا، على ما سبق، وفي "الصحيحين" عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"وكَّل الله بالرحم ملَكًا، يقول: أيْ رب نطفة؟ أي رب عَلَقَة؟ أي رب مُضغة؟ فإذا أراد الله أن يقضي خلقًا، قال: يا رب أذكر أم أنثى؟ أشقيّ أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه".
وظاهر هذا يوافق حديث ابن مسعود، لكن ليس فيه تقدير المدّة، وحديث حذيفة بن أَسِيد الذي تقدّم يدلّ على أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية، وخرّجه مسلم أيضًا بلفظ آخر، من حديث حذيفة بن أسيد، يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يدخل الملك على النطفة بعدما تستقرّ في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلةً، فيقول: يا رب أشقيّ أم سعيد؟ فيُكتبان، فيقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيُكتبان، ويكتب عمله، وأثره، وأجله، ورزقه، ثم تطوى الصحف، فلا يزاد فيها، ولا ينقص".
وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: "إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلةً، يتسوّر عليها الملك، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟. . ." وذكر الحديث.
وفي رواية أخرى لمسلم أيضًا: "لبضع وأربعين ليلة".
وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استقرّت النطفة في الرحم أربعين يومًا، أو أربعين ليلةً، بُعث إليها ملك، فيقول: يا رب شقيّ أم سعيد؟ فيعلم".
وقد سبق ما رواه الشعبيّ عن علقمة، عن ابن مسعود من قوله، وظاهره يدلّ على أن الملك يُبعث إليه وهو نطفة.
وقد رُوي عن ابن مسعود من وجهين آخرين، أنه قال:"إن الله عز وجل تُعرَض عليه كل يوم أعمال بني آدم، فينظر فيها ثلاث ساعات، ثم يؤتى بالأرحام، فينظر فيها ثلاث ساعات، وهو قوله: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6]، وقوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]، ويؤتى بالأرزاق، فينظر فيها ثلاث ساعات، وتسبِّحه الملائكة ثلاث ساعات، قال: فهذا من شأنكم، وشأن ربكم"، ولكن ليس في هذا توقيت ما ينظر فيه من الأرحام بمدّة.
وقد رُوي عن جماعة من الصحابة أن الكتابة تكون في الأربعين الثانية، فخرَّج اللالكائيّ بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة، جاءها الملك، فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل، فيقول: اخلُق يا أحسن الخالقين، فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره، ثم تُدفع إلى الملك عند ذلك، فيقول: يا رب أسِقط أم تمام؟ فيبيِّن له، فيقول: يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبيِّن له، فيقول: يا رب أواحد أم توأم؟ فيبيِّن له، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيبيِّن له، فيقول: يا رب أشقيّ أم سعيد؟ فيبيّن له، ثم يقول: يا رب اقطع له رزقه، فيقطع له رزقه، مع أجَله، فيهبط بهما جميعًا، فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قُسم له
(1)
.
(1)
رواه اللالكائيّ في "أصول الاعتقاد"(1236)، وإسناده ضعيف جدًّا.
وخرّج ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي ذرّ رضي الله عنه قال: إن المني يمكث في الرحم أربعين ليلة، فيأتيه ملك النفوس، فيعرج به إلى الرحمن عز وجل، فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله عز وجل ما هو قاض، ثم يقول: يا رب أشقيّ أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاقٍ بين يديه، ثم تلا أبو ذرّ من فاتحة سورة التغابن إلى قوله:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]. فهذا كله يوافق ما في حديث حذيفة بن أَسِيد، وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كتابة الملك تكون بعد نفخ الروح بأربعين ليلة، وأن إسناده فيه نظر.
وقد جمع بعضهم بين هذه الأحاديث والآثار، وبين حديث ابن مسعود، فأثبت الكتابة مرتين، وقد يقال مع ذلك: إن أحدهما في السماء، والآخر في بطن الأم، والأظهر والله أعلم أنها مرة واحدة، ولعل ذلك يختلف باختلاف الأجنّة، فبعضهم يكتب له ذلك بعد الأربعين الأُولى، وبعضهم بعد الأربعين الثالثة.
وقد يقال: إن لفظة "ثم" في حديث ابن مسعود إنما يراد بها ترتيب الأخبار، لا ترتيب المخبَر عنه في نفسه، والله أعلم.
ومن المتأخرين من رجح أن الكتابة تكون في أول الأربعين الثانية، كما دلّ عليه حديث حذيفة بن أسيد، وقال: إنما أخّر ذِكرها في حديث ابن مسعود إلى ما بعد ذِكر المضغة، وأن ذكره بلفظ "ثم"؛ لئلا ينقطع ذِكر الأطوار الثلاثة التي يتقلب فيها الجنين، وهو كونه نطفة، وعلقة، ومضغة، فإنّ ذكر هذه الثلاثة على نسق واحد أعجب، وأحسن، ولذلك أخّر المعطوف عليها، وإن كان المعطوف متقدّمًا على بعضها في الترتيب، واستشهد لذلك بقوله:{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. . .} الآية [السجدة: 7 - 9]، والمراد بالإنسان: آدم عليه السلام، ومعلوم أن تسويته، ونفخ الروح فيه كان قبل جعل نَسْله من سلالة من ماء مهين، لكن لمّا كان المقصود ذِكر قدرة الله عز وجل في مبدأ خَلْق آدم، وخَلْق نَسْله، عُطِف ذِكر أحدهما على الآخر، وأُخِّر ذكر تسوية آدم، ونَفْخ الروح، وإن كان ذلك متوسطًا بين خلق آدم من طين، وبين خلق نسله، والله أعلم.
وقد ورد أن هذه الكتابة تكتب بين عيني الجنين، ففي "مسند البزار" عن
ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خلق الله النسمة، قال ملك الأرحام: أي: رب أذكر أم أنثى؟ قال: فيقضي الله إليه أمره، ثم يقول: أي رب أشقيّ أم سعيد؟ فيقضي الله إليه أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتى النكبة يُنكبها"
(1)
، وقد ورد موقوفًا عن ابن عمر غير مرفوع، وحديث حذيفة بن أسيد المتقدّم صريح في أن الملك يكتب ذلك في صحيفته، ولعله يكتب في صحيفته، ويكتب بين عيني الولد.
وقد رُوي أنه يقترن بهذه الكتابة أنه يُخلق مع الجنين ما تضمنته من صفاته القائمة به، فرُوي عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله إذا أراد أن يخلق الخلق بعث ملكًا، فدخل الرحم، فيقول: أيّ رب ماذا؟ فيقول: غلام، أو جارية، أو ما شاء أن يخلق في الرحم، فيقول: أيّ رب أشقيّ أم سعيد؟ فيقول ما شاء، فيقول: أيّ رب ما أجله؟ فيقول: كذا وكذا، فيقول: ما خُلُقه؟ ما خلائقه؟ فيقول: كذا كذا، فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم"، خرّجه أبو داود في "كتاب القدر"، والبزار في "مسنده"
(2)
.
وبكل حال فهذه الكتابة التي تُكتب للجنين في بطن أمه غير كتابة المقادير السابقة لخلْق الخلائق المذكورة في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الآية [الحديد: 22]، كما في "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله قَدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، وفي حديث عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة"، وقد سبق ذِكر ما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه؛ أن الملك إذا سأل عن حال النطفة أُمر أن يذهب إلى الكتاب
(1)
رواه البزّار (2149)، وأبو يعلى (5775)، وصححه ابن حبّان (6178).
(2)
رواه أبو داود في "القدر"، والبزّار من طريق جعفر بن مصعب، عن عكرمة بن الزبير، عن عائشة، وجعفر بن مصعب لم يوثّقه غير ابن حبّان، ولم يرو عنه غير الزبير بن عبد الله بن أبي خالد، وقال البزّار: لا نعلمه يروي عن عائشة إلا بهذا الإسناد، وقال الهيثميّ في "المجمع" 7/ 193: رواه البزّار، ورجاله ثقات.
السابق، ويقال له: إنك تجد فيه قصة هذه النطفة، وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة، ففي "الصحيحين" عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كُتبت شقية، أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا، ونَدَع العمل؟ فقال:"اعملوا، فكل ميسَّر لِمَا خُلق له، أما أهل السعادة فييسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} "[الليل: 5، 6].
ففي هذا الحديث أن السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدَّر بحَسَب الأعمال، وأن كلًّا ميسَّر لِمَا خُلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة والشقاوة.
وفي "الصحيحين" عن عمران بن حصين قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال:"نعم، قال: فلِمَ يعمل العاملون؟ قال: كل يَعمل لِمَا خُلق له، أو لِما يُسّر له".
وقد رُوي هذا المعنى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة.
وحديث ابن مسعود فيه: أن السعادة والشقاوة بحسب خواتيم الأعمال، وقد قيل: إن قوله في آخر الحديث: "فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه. . ." إلى آخر الحديث مدرج من كلام ابن مسعود، كذلك رواه سلمة بن كُهيل عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود من قوله، وقد روي هذا المعنى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة أيضًا، وفي "صحيح البخاريّ" عن سهل بن سعد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالخواتيم"، وفي "صحيح ابن حبان" عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالخواتيم"، وفيه أيضًا عن معاوية قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بخواتيمها، كالوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله، وإذا خَبُث أعلاه خَبُث أسفله"، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يُختم له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة".
وخرّج الإمام أحمد من حديث رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا عليكم أن لا تعجبوا بأحد حتى تنظروا بِمَ يُختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من عمره، أو برهة من دهره بعمل صالح، لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول، فيعمل عملًا سيئًا، وإن العبد ليعمل البرهة من عمره بعمل سيئ، لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول، فيعمل عملًا صالِحًا".
وخرّج أيضًا من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، وهو مكتوب في الكتاب من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحوّل يعمل بعمل أهل النار، فمات فدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، وإنه لمكتوب في الكتاب من أهل الجنة، فإذا كان قبل موته تحوّل، فعمل بعمل أهل الجنة، فمات، فدخلها".
وخرّج الإمام أحمد، والنسائيّ، والترمذيّ من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كتابان، فقال:"أتدرون ما هذان الكتابان؟ " فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تُخْبرنا، فقال للذي في يده اليمنى:"هذا الكتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم، فلا يزاد فيه، ولا ينقص منه أبدًا". ثم قال للذي في شماله: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم، فلا يزاد فيه، ولا ينقص منه أبدًا". فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله، إن كان أمرًا قد فُرغ منه؟ فقال:"سدِّدوا، وقاربوا، فإن صاحب الجنة يُختم له بعمل أهل الجنة، وإنْ عَمِل أيّ عَمَل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عَمِل أيّ عمل"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، فنبذهما، ثم قال:"فرغ ربكم من العباد، فريق في الجنة، وفريق في السعير".
وقد رُوي هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، وخرّجه الطبراني من حديث عليّ بن أبي طالب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وزاد فيه: "صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة، وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار، وإن عَمِل أيّ عَمَل، وقد يُسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة، حتى يقال: ما أشبههم بهم، بل هم منهم، وتُدركهم السعادة، فتستنقذهم، وقد يُسلك بأهل
الشقاوة طريق أهل السعادة، حتى يقال: ما أشبههم بهم، بل هم منهم، وتُدركهم الشقاوة، من كتَبَه الله سعيدًا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته، ولو بفُواق ناقة، ثم قال: الأعمال بخواتيمها، الأعمال بخواتيمها".
وخرّج البزار في "مسنده" بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعد، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون، وفي أصحابه رجل، لا يدع شاذّة، ولا فاذّة، إلا اتّبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا أصاحبه، فاتّبعه، فجُرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستعجل الموت، فوَضَع نَصْل سيفه على الأرض، وذُبابه بين ثدييه، ثم تحامَل على سيفه، فقَتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، وقَصّ عليه القصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة -زاد البخاريّ في رواية له-: إنما الأعمال بالخواتيم".
وقوله: "فيما يبدو للناس" إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وإن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد، لا يطَّلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ، ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار، وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره، فتوجب له حسن الخاتمة.
قال عبد العزيز بن أبي روّاد: حضرت رجلًا عند الموت، يُلَقَّن الشهادة، لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته.
وفي الجملة، فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سبق في الكتاب
السابق، ومن هنا كان يشتدّ خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يُختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟.
وبكى بعض الصحابة عند موته، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله تعالى قبض خَلْقه قبضتين، فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أي القبضتين كنت".
قال بعض السلف: ما أبكى العيون ما أبكاها الكتاب السابق.
وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قطّ علم الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركني لا أفرح أبدًا، وكان سفيان يشتدّ قلقه من السوابق والخواتيم، فكان يبكي، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا، ويبكي، ويقول: أخاف أن أُسلب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته، ويقول: يا رب قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين منزل مالك؟.
وقال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار، فهو مغترّ، فلا يأمن الشقاء:
الأول: خَطَر يوم الميثاق، حين قال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار، ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان.
والثاني: حين خُلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملَك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء؟.
والثالث: ذِكر هول المطلع، فلا يدري أيبشَّر برضا الله أم بسخطه؟.
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا، فلا يدري أيّ الطريقين يُسلك به؟.
وقال سهل التستريّ: المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصى، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر.
ومن هنا كان الصحابة ومَن بعدهم مِن السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتدّ قلقهم، وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة، فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفيّة توجب سوء الخاتمة. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم-
يُكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك"، فقيل له: يا نبيّ الله آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال:"نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل يقلّبها كيف شاء" خرّجه الإمام أحمد، والترمذيّ من حديث أنس.
وخرّج الإمام أحمد من حديث أم سلمة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول:"اللَّهُمَّ يا مقلِّب القلوب ثبّت قلبي على دينك" فقلت: يا رسول الله، أو إن القلوب لتتقلّب؟ قال:"نعم، ما من خَلْق الله من بني آدم، من بَشَر، إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء عز وجل أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب". قالت: قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى، قولي: اللَّهُمَّ رب النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجِرْني من مضلّات الفتن ما أحييتني"، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وخرّج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد، يصرّفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ مصرِّف القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك". انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله على هذا الحديث
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6701]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: "إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ
(1)
1/ 153 - 175.
لَيْلَةً"، وَقَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: "أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَو أَرْبَعِينَ يَوْمًا"، وَأَمَّا فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَعِيسَى: "أَرْبَعِينَ يَوْمًا").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام مرابطًا، ثقة مأمون، من الثامنة، مات سنة سبع وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد بن سعيد بن حُصين الْكِنديّ، أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
4 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن كل الأربعة، وهم: جرير بن عبد الحميد، وعيسى بن يونس، ووكيع بن الجرّاح، وشعبة بن الحجّاج رووا هذا الحديث عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ: "أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَو أَرْبَعِينَ يَوْمًا) هكذا وقع في النسخة الهنديّة، وهو الصواب، ووقع في نسخة شرح النوويّ، وكذا في النسخة التركيّة:"أربعين ليلة، أربعين يومًا"، دون عاطف، ووقع في شرح الأبّيّ بلفظ:"وقال في حديث معاذ عن شعبة بدل أربعين ليلةً: أربعين يومًا"، وكتب في هامش التركيّة: قوله: عن شعبة أربعين ليلة، وفي بعض النُّسخ: عن شعبة بدل أربعين ليلةً، وفي أكثرها لم يوجد، وهو الظاهر، وإلا فالمناسب أن يقال: وأما في حديث معاذ، وجرير، وعيسى: أربعين يومًا، وعلى عدم وجوده، لا بدّ أن يقدّر العاطف قبل أربعين يومًا
(1)
،
(1)
وأما حلّ الشيخ الهرريّ في شرحه بقوله: أربعين ليلة في موضع، وأربعين يومًا =
والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما في النسخة الهنديّة بلفظ: "أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، أَوْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا" هو الصواب؛ لأنه الموافق لِمَا في "صحيح البخاريّ" كما سيأتي في التنبيه، إلا أنه قدّم "يومًا" على "ليلة".
والحاصل: أن رواية شعبة بالشكّ، وقد تقدّم تحقيق ذلك في شرح الحديث الماضي، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.
[تنبيه]: أما رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5157)
- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:"إن خَلْق أحدكم لَيُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملَك بأربع كلمات: رزقه، وعمله، وأجله، وشقيّ أم سعيد، فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، ثم يدركه ما سبق له في الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخلها". انتهى
(2)
.
وأما رواية وكيع عن الأعمش، فساقها الإمام أحمد رحمه الله مقرونًا بيحيى القطّان، فقال في "مسنده":
(4091)
- حدّثنا يحيى عن الأعمش ووكيع، ثنا الأعمش، قال: ثنا زيد بن وهب، عن عبد الله قال: ثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، قال: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يومًا، أو قال: أربعين
= في موضع آخر، ففيه نظر لا يخفى؛ لأن الغرض للمصنّف بهذا الكلام بيان وقوع الشك في رواية شعبة في موضع واحد، لا في موضعين، كما هو واضح من رواية البخاريّ، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
هامش النسخة التركيّة 8/ 45.
(2)
"مسند أبي يعلى" 9/ 89.
ليلة -قال وكيع-: ليلةً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسِل الله عز وجل إليه الملَك بأربع كلمات: عمله، وأجله، ورزقه، وشقيّ أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيُختم له بعمل أهل النار، فيكون من أهلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيُختم له بعمل أهل الجنة، فيكون من أهلها". انتهى
(1)
.
وأما رواية شعبة عن الأعمش، فقد ساقها البخاري في "صحيحه"، فقال:
(7454)
- حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا الأعمش، سمعت زيد بن وهب، سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:"إن خَلْق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، أو أربعين ليلةً، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك، فيؤذن بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيّ أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنة، فيدخلها". انتهى
(2)
.
وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6702]
(2644) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْمَلَكُ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 429.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2713.
عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ، أَوْ خَمْسَةٍ
(1)
وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ؟، فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ أَذَكَرٌ، أَوْ أُنْثَى؟
(2)
فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَادُ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ) الأثرم الجمحي مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.
2 -
(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، وربما سُمّي عمرًا، وُلد عام أُحد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، فمَن بعده، وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة، على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق، قاله مسلم وغيره (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.
3 -
(حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدِ) -بفتح الهمزة- ويقال: ابن أُميّة بن أَسِيد الْغِفَاريّ، أبو سَرِيحة -بمهملتين، مفتوح الأول- شَهِد الحديبية، وقيل: إنه بايع تحت الشجرة.
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر، وعليّ، وأبي ذرّ.
وروى عنه أبو الطفيل، والشعبيّ، ومعبد بن خالد، وهلال بن أبي حصين، وغيرهم، وقال عثمان بن أبي زرعة، عن أبي سلمان المؤذن: توفي أبو سريحة، فصلى عليه زيد بن أرقم، وقال ابن حبان: مات اثنتين وأربعين.
أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان، هذا الحديث برقم (2644) وأعاده بعده مرّتين، وحديث (2901):"إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات. . ."، وأعاده بعده.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لِمَا أسلفناه
(1)
وفي نسخة: "أو خمس".
(2)
وفي نسخة: "أم أنثى".
غير مرّة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن الأول هو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق.
شرح الحديث:
(عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) بفتح الهمزة، وكسر السين المهملة، وقوله:(يَبْلُغُ بهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) جملة حاليّة، وقد تقدّم قريبًا نكتة عدوله عن قوله: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو نحوه إلى هذه الصيغة، فلا تغفل. (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم:("يَدْخُلُ الْمَلَكُ)؛ أي: الموكّل بالرحم، (عَلَى النُّطْفَةِ) بضمّ النون، وسكون الطاء المهملة: ماء الرجل والمرأة، جَمْعها: نُطفٌ، ونِطافٌ، مثلُ ببُرْمة، وبُرَم، وبِرام، قاله الفيّوميّ
(1)
. (بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ) قال المجد رحمه الله: الرِّحْمُ بالكسر، وككتِفٍ: بيتُ مَنْبِتِ الوَلَدِ، ووِعاؤُه، والقَرَابَةُ، أو أصْلُهَا، وأسبابُها، جَمْعه: أرْحَامٌ. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: الرحم: موضع تكوين الولد، ويُخفف بسكون الحاء، مع فتح الراء، ومع كسرها أيضًا، في لغة بني كلاب، وفي لغة لهم تُكسر الحاء إتباعًا لكسرة الراء، ثم سمّيت القرابة والوصلة من جهة الولاء رَحِمًا، فَالرَّحِمُ خلاف الأجنبيّ، والرَّحِمُ أنثى في المعنيين، وقيل: مذكّر، وهو الأكثر في القرابة. انتهى
(3)
. (بِأَرْبَعِينَ، أَو خَمْسَةٍ) وفي نسخة: "أو خمس"، والظاهر أنها أَولى؛ لموافقتها لـ "ليلةً"، و"أو" هنا للشكّ، والشكّ من ابن عيينة، كما بيّنه أحمد في "مسنده"
(4)
، ولفظه:"بأربعين ليلة -وقال سفيان مرة-: أو خمس وأربعين ليلةً". (وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا كله شكّ من الرواة، وحاصله: أن بَعْث الملَك المذكور في هذا الحديث إنما هو في الأربعين الرابعة التي هي مدّة التصوير، كما دلّ على ذلك ما قدّمناه قبل هذا، وسُمّيت المضغة نطفة بمبدئها، ألا ترى قوله:"بعث الله إليها ملكًا، وصوّرها، وخلق سمعها وبصرها، وجِلْدها، وعظامها"، فعَطَف بالفاء المرتبة،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 611.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1436.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 223.
(4)
راجع: "مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 6.
وهذا لا يكون حتى تصل النطفة إلى حال نهاية المضغة، كما دلّ عليه ما تقدَّم.
وبهذا تتفق الروايات، ويزول الاضطراب المتوهّم فيها -والله أعلم-.
ونسبة الخلق والتصوير للملك نسبة مجازيّة لا حقيقية، وإنما صَدَر عنه فِعل ما في المضغة، كان عنه التصوير والتشكيل بقدرة الله تعالى، وخلقه، واختراعه، ألا ترى أن الله تعالى قد أضاف إليه الخلقة الحقيقية، وقطع عنا جميع الخليقة، فقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، وقال:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)} الآية [المؤمنون: 12، 13]، وقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} الآية [الحج: 5]، وقال:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]، وغير ذلك من الآيات.
هذا مع ما دلّت عليه قاطعات البراهين، من أنه لا خالق لشيء من المخلوقات إلا رب العالمين.
[تنبيه]: هذا الترتيب العجيب، وإن خَفِيت حكمته، فقد لاحت لنا حقيقته، وهو أنه كذلك سَبَق في علمه، وثَبَت في قضائه، وحُكمه، وإلا فمن الممكن أن يوجد الإنسان، وأصناف الحيوان، بل وجميع المخلوقات في أسرع من لحظة، وأيسر من النطق بلفظة، كيف لا؟ وقد سمع السامعون قوله عز وجل:{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40]. انتهى
(1)
.
(فَيَقُولُ) الملك: (يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَو سَعِيدٌ؟، فَيُكْتَبَانِ) بضمّ أوله، ومعناه: يُكتب أحدهما، (فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ، أَو أُنْثَى؟) وفي نسخة: أم أنثى؟ (فَيُكْتَبَانِ)؟ أي: يُكتب أحدهما، (وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ) من الطاعات، أو المعاصي، (وَأثَرُهُ)؛ أي: أثر وَضْع قدمه؛ أي: قدر آثار قدميه في الأرض مدّة حياته، (وَأَجَلُهُ)؛ أي: مقدار ما يعيشه في الدنيا من الزمن، (وَرِزْقُهُ)؛ أي: كل ما ينتفع به من علم، أو مال، حلالًا كان، أو حرامًا، قليلًا كان، أو كثيرًا. (ثُمَّ تُطْوَى) بالبناء للمفعول؛ أي: تُلَفّ تلك (الصُّحُفُ) بضمّتين: جمع صحيفة؛ أي: الأوراق التي كُتبت فيها هذه الأشياء، (فَلَا يُزَادُ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصُ") بالبناء
(1)
"المفهم" 6/ 655 - 656.
للمفعول فيهما؛ أي: لا يزاد فيها من غيرها، ولا يُنقص شيء مما كُتب فيها، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6702 و 6703 و 6704 و 6705 و 6706](2644 و 2645)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 6 - 7)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 364)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 176)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 80)، و (ابن وهب) في "القدر"(1/ 144)، و (تمّام الرازيّ) في "الفوائد"(2/ 16)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 183 - 184)، و (اللالكائيّ) في "أصول الاعتقاد"(1045 و 1046 و 1047)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6177)، و (ابن عبد البرّ) في "التمهيد"(18/ 103)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(12/ 254)، وفوائده تقدّمت في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6703]
(2645) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، فَأَتَى رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ الْغِفَارِيُّ، فَحَدَّثَهُ بذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: وَكَيْفَ يَشْقَى رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أتعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا، وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا، وَلَحْمَهَا، وَعِظَامَهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ
مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى مَا أُمِرَ
(1)
، وَلَا يَنْقُصُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) -بمهملات- المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم القرشيّ مولاهم، أبو محمد المصريّ الفقيه، ثقةٌ حافظٌ عابدٌ [9](ت 197) وله اثنتان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم، أبو أيوب المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.
4 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم، صدوقٌ، إلا أنه يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمكّيّين، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس (الْمَكِّيِّ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ) رضي الله عنه (حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: الشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن أول مبدأ الإنسان في بطن أمه، يظهر من حاله للملائكة، أو لمن شاء الله مِنْ خَلْقه ما سبق في علم الله تعالى، من سعادته، ومن شقاوته، ورزقه، وأجله، وعمله؛ إذ قد سبق كَتْبُ ذلك في
(1)
وفي نسخة: "على أمر" بصيغة المصدر.
اللوح المحفوظ، كما دلّ عليه الكتاب، والأخبار الكثيرة الصحيحة، وكل ذلك قد سبق به العلم الأزليّ، والقضاء الإلهيّ الذي لا يقبل التغيير، ولا التبديل، المحيط بكل الأمور على التعيين والتفصيل، ألا ترى الملائكة كيف تستخرج ما عند الله من علم حال النطفة، فتقول: يا رب ما الرزق؟ وما الأجل؟ فيقضي ربك ما شاء؛ أي: يُظهر من قضائه، وحكمه للملائكة ما سبق به علمه، وتعلّقت به إرادته. انتهى
(1)
.
(وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ)؛ أي: السعيد من تصفّح أفعال غيره، فاقتدى بأحسنها، وانتهى عن سيئها، فالسعيد له من غيره عظة، وفي التجارب تحكيم ومعتبر، وقال الغزاليّ رحمه الله: المراد أن الإنسان يشاهد من خبائث من اضطر إلى مرافقته، وأحواله، وصفاته، ما يستقبحه، فيجتنبه، وقيل لعيسى عليه السلام: من أدّبك؛ فقال: ما أدّبني أحد، رأيت جهل الجاهل، فجانبته.
قال الغزاليّ: ولقد صدق، فلو اجتنب الناس ما يكرهونه من غيرهم، لَكَمُلَت آدابهم، واستغنوا عن مؤدِّب. انتهى
(2)
.
(فَأَتَى) عامر بن واثلة رضي الله عنه (رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ لَهُ: حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ الْغِفَارِيُّ) رضي الله عنه (فَحَدَّثَهُ بِذَلِكَ)؛ أيَ: بما مرّ (مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه: "الشقيّ من شقي في بطن أمه"، (فَقَالَ) عامر:(وَكَيْفَ يَشْقَى رَجُلٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ) لأعمال الأشقياء؛ لأنه لم يخرج إلى الدنيا، (فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ)؛ أي: المذكور أولًا؛ لأن النكرة إذا أعيدت معرفة فهي عين الأول، كما قال في "عقود الجمان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ!
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
أي: فقال حذيفة بن أَسِيد لعامر رضي الله عنهما: (أتعْجَبُ) بفتح أوله وثالثه، مضارع عَجِبَ، من باب تَعِبَ. (مِنْ ذَلِكَ؟)؛ أي: من شقاوة الشخص في بطن أمه، والاستفهام للإنكار؛ أي: لا تَعْجَب من ذلك، ثم ذكر دليل نهيه له، فقال:(فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ) بغير همزة
(1)
"المفهم" 6/ 654.
(2)
"فيض القدير" 2/ 177.
وَصْل، وهي لغة تميم، وفي لغة غيرهم: اثنتان بهمزة الوصل. (وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا) هو الملك الموكّل بالرحم، كما بُيّن في حديث أنس رضي الله عنه الآتي. (فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا، وَبَصَرَهَا، وَجِلْدَهَا، وَلَحْمَهَا، وَعِظَامَهَا) قال القاضي عياض رحمه الله: لا يصحّ حَمْل هذا الحديث على ظاهره؛ لأن التصوير في الأربعين الثالثة، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)} [المؤمنون: 12]-إلى قوله-: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: 14] فهذه الآية تُفَسِّرُ ما جاء في هذه الأحاديث من اختلاف ألفاظها، ويكون معنى صوّرها، وخلق سمعها وبصرها: كتب ذلك، وما قضى سبحانه وتعالى له من الذكورة والأنوثة، وكون الأعضاء سويّةً، وغير ذلك، ألا تراه كيف قال:"ويقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك"، فإنه يدلّ أنه لم يوجد بعدُ، وإنما كُتب، وقوله في الآخر: فيكتبان، وتطوى الصحيفة، ثم يكون للملك تصوير آخَر، وهو وقت نفخ الروح فيه، وله فيه تصرّف بحسب الأقوال وأمثال هذه الأفعال. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ) الملك: (يَا رَبِّ أَذَكرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ)؛ أي: يأمره بما شاء من الذكورة والأنوثة، (وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ) قال القرطبيّ رحمه الله:"ويكتب الملك"؛ يعني: من اللوح المحفوظ، كما تقدَّم في حديث يحيى بن أبي زائدة، ولذلك عَطَف هذه الجملة على ما تقدم بالواو؛ لأنَّها لا تقتضي ترتيبًا
(2)
. (ثُمَّ يَقُولُ) الملك: (يَا رَبِّ أَجَلُهُ؟ فَيَقُولُ رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ رِزْقُهُ؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ) التي كتبها، واشتملت على هذه الأمور، والحال أنها (فِي يَدِهِ)؛ أي: يد ذلك الملك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "ثم يخرج الملك بالصحيفة"؛ أي: يخرج من حال الغَيبة عن هذا العالم إلى حال مشاهدته، فيُطلع الله تعالى بسبب تلك الصحيفة من شاء من الملائكة الموكلين بأحواله على ذلك؛ ليقوم كلٌّ بما عليه من وظيفته حسب ما سطّر في صحيفته
(3)
.
(1)
"شرح الأبّيّ" 7/ 78.
(2)
"المفهم" 6/ 655.
(3)
"المفهم" 6/ 655.
(فَلَا يَزِيدُ) الملك في تلك الصحيفة (عَلَى مَا أُمِرَ) بالبناء للمفعول؛ أي: على الذي أُمر بكتابته، وفي بعض النُّسخ:"فلا يزيد على أَمْر"، بصيغة المصدر، وفي رواية ابن حبّان:"في أمر". (وَلَا يَنْقُصُ") بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر، ويجوز في لغة ضعيفة ضمّ أوله، وكسر ثالثه، من أنقص رباعيًّا، قال الفيّوميّ رحمه الله: نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَل، ونُقْصَانًا، وانْتَقَصَ: ذهب منه شيء بعد تمامه، ونَقَصْتُهُ يتعدى، ولا يتعدى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، و {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نَقَصْتُ زيدًا حقَّه، وانْتَقَصْتُهُ مثله، ودرهم نَاقِصٌ، غير تامّ الوزن. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد تقدّم تخريجه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6704]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ، وسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) أحمد بن عثمان بن أبي عثمان عبد النور بن عبد الله بن سنان، أبو عثمان البصري، يُلَقَّب أبا الجوزاء -بالجيم، والزاي- ثقةٌ [11](ت 246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
2 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحاك بن مَخْلَد بن الضحاك بن مسلم الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
3 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم
(1)
"المصباح المنير" 2/ 621.
المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، وكان يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ) فاعل "ساق" ضمير ابن جريج؛ أي: ساق ابن جريج الحديث عن أبي الزبير بمثل ما ساقه عمرو بن الحارث عنه في الحديث الماضي.
[تنبيه]: رواية ابن جريج عن أبي الزبير هذه ساقها عبد الله بن وهب رحمه الله في "القدر"، فقال:
(32)
- أخبرناه أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد القرشيّ، ويعرف بأبي صخرة سنة تسع وثلاثمائة، قال: أنبأ أبو الحسن عليّ بن عبد الله بن جعفر المدينيّ سنة أربع وثلاثين ومائتين، قال: ثنا رَوْح بن عُبادة، قال: ثنا ابن جريج، قال: أنبأ أبو الزبير، أن أبا الطفيل قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: الشقيّ من شقي في بطن أمه، والسعيد من وُعِظ بغيره، فقلت: خِزْيًا للشيطان؛ أيشقى الإنسان ويَسْعَد قبل أن يعمل؟ قال: فلقيت حذيفة بن أَسيد رضي الله عنه، فقال: ألا أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول:"إذا استقرّت النطفة في الرحم اثنتين وأربعين ليلة، نزل ملك الأرحام، فقال: أيْ رب أشقيّ أم سعيد؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: أي رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: أي رب ما عمله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: أيْ رب ما أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يعرج الملك بالصحيفة، ما يزاد على ما فيها من الأخبار والقدر". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6705]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ أَبُو خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عَطَاءٍ، أَنَّ عِكْرِمَةَ بْنَ خَالِدٍ
(1)
"القدر لابن وهب" 1/ 142 - 143.
حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ حَدَّثَهُ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَرِيحَةَ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ يَقُولُ: "إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَتَصَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ -قَالَ زُهَيْرٌ: حَسِبْتُهُ قَالَ: الَّذِي يَخْلُقُهَا- فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيَجْعَلُهُ اللهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ أَسَوِيٌّ أَوْ غَيْرُ سَوِيٍّ؟ فَيَجْعَلُهُ اللهُ سَوِيًّا، أَوْ غَيْرَ سَوِيٍّ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ مَا رِزْقُهُ؟ مَا أَجَلُهُ؟ مَا خُلُقُهُ؟ ثُمَّ يَجْعَلُهُ اللهُ شَقِيًّا، أَو سَعِيدًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ) السلميّ البغداديّ القطيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237) وله سبع وستون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
2 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نَسْر -بفتح النون، وسكون المهملة- الكرمانيّ، كوفيّ الأصل، نزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.
3 -
(زُهَيْرٌ أَبُو خَيْثَمَةَ) بن معاوية بن حُديج الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأخرة [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَطَاءٍ) الطائفيّ، أصله من الكوفة، صدوقٌ، يخطئ، ويدلّس [6](م 4) تقدم في "الصيام" 29/ 2697.
5 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ خَالِدِ) بن العاص بن هشام المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ [3] مات بعد عطاء (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (عَلَى أَبِي سَرِيحَةَ) بفتح السين المهملة، وكسر الراء، بعدها حاء مهملة، كنية حُذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه.
وقوله: (ثُمَّ يَتَصَوَّرُ عَلَيْهَا الْمَلَكُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا جميع نُسخ بلادنا: "يتصوّر" بالصاد، وذكر القاضي:"يتسوّر" بالسين، قال: والمراد بيتسوّر: ينزل، وهو استعارة، مِن تسوّرت الدار: إذا نزلت فيها من أعلاها،
ولا يكون التسوّر إلا من فوق، فيحتمل أن تكون الصاد الواقعة في نُسخ بلادنا مبدلةً من السين، والله أعلم
(1)
.
وقوله: (قَالَ زُهَيْرٌ: حَسِبْتُهُ قَالَ إلخ) الضمير لعبد الله بن عطاء.
وقوله: (الَّذِي يَخْلُقُهَا)؛ أي: يصوّرها.
وقوله: (أَسَوِيٌّ أَو غَيْرُ سَوِيٍّ؟) بفتح السين المهملة، وكسر الواو، وتشديد التحتانيّة؛ أي: تامّ الخلق، وغير تامّه.
وقوله: (مَا خُلُقُهُ؟) بضمّتين؛ أي: سجيّته.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6706]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومٍ، حَدَّثَنِي أَبِي كُلْثُومٌ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيِّ، صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالرَّحِمِ، إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا بِإِذْنِ اللهِ
(2)
لِبِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ) أبو عبيدة، صدوقٌ [11](ت 252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقة ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(رَبِيعَةُ بْنُ كُلْثُومِ) بن جَبْر البصريّ، صدوقٌ يَهِم [7].
رَوَى عن أبيه، وبكر بن عبد الله المزنيّ، والحسن البصريّ.
وروى عنه القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وخالد بن الحارث، ويعقوب بن إسحاق الحضرميّ، وعفان، ومسلم بن إبراهيم، وغيرهم.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 194.
(2)
وفي نسخة: "يأذن الله".
قال ابن المدينيّ عن يحيى بن سعيد: قال لي ربيعة بن كلثوم في حديث عن أبيه، عن سعيد بن جبير، قال: وهل يروي سعيد بن جبير إلا عن ابن عباس؟ وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: صالحٌ، وقال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس به بأسٌ، وقال ابن عديّ: ليس له إلا اليسير، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان شيخًا، وعنده أحاديث، وقال العجليّ: بصريّ ثقة، وأبوه ثقةٌ، وقال النسائيّ في "الضعفاء": ليس بالقويّ.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وعند النسائي حديث آخر في تحريم الخمر.
4 -
(أَبُوهُ) كُلْثُوم بن جَبْر -بجيم، وموحّدة ساكنة- أبو محمد، ويقال: أبو جَبْر البصريّ، صدوقٌ يخطئ [4].
روى عن عبد الله بن الزبير، وأبي الغادية الجهنيّ، وأنس، وأبي الطفيل، وسعيد بن جبير، وقزعة بن يحيىى، ومسلم بن يسار، وغيرهم.
وروى عنه ابنه ربيعة، وابن عون، وجرير بن حازم، وعبد الوارث بن سعيد، والحمادان، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين: ثقةٌ، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن سعد في البصريين، وقال: كان معروفًا، وله أحاديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة ثلاثين ومائة.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود في "المراسيل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية كلثوم بن جبر عن أبي الطفيل هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الأوسط"، فقال:
(2631)
- حدّثنا أبو مسلم، قال: حدّثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدّثنا ربيعة بن كلثوم بن جبر، قال: حدّثني أبي، عن أبي الطُّفيل عامر بن واثلة، قال: كان عبد الله بن مسعود يخطبنا بالكوفة، فيقول: الشقيّ من شقي في بطن أمه، والسعيد من سعد في بطن أمه، فقال حذيفة بن أَسِيد رجل من أصحاب
النبيّ صلى الله عليه وسلم عجبًا من أمر هذا، يقول: السعيد من سَعِد في بطن أمه، والشقيّ من شقي في بطن أمه، فقال عبد الله: يا حذيفة، وما يعجبك من هذا؟ ثم قال: ألا أحدّثك بالشفاء من ذاك، ثم رفع الحديث، فقال: إن ملكًا موكلا بالرحم، إذا أراد الله عز وجل أن يخلق شيئًا بإذن الله، فيقول: يا رب أجَله، فيقضي ربك، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه، فيقضي ربك، ويكتب الملك، ثم يقول: شقيّ أم سعيد؟ فيقضي ربك، ويكتب الملك، فيكون كذلك، ما زاد، وما نقص. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6707]
(2646) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَرَفَعَ الْحَدِيثَ، أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ، أي رَبِّ عَلَقَةٌ؛ أي رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا قَالَ: قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ في بَطْنِ أُمِّهِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ) بن أنس بن مالك الأنصاريّ، أبو معاذ البصريّ، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 267.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (412) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية الراوي عن جدّه، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة.
(1)
"المعجم الأوسط" 3/ 107.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وقوله:(وَرَفَعَ الْحَدِيثَ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أن أنسًا رضي الله عنه رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل التابعيّ عن الصيغة المشهورة، من: حدّثنا، أو أخبرنا، أو سمعت إلى هذه الصيغة؛ لكونه نسي الصيغة التي ذكرها الصحابيّ، فأتى بصيغة تحتمل ذلك، والله تعالى أعلم.
(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَال: "إِنَّ اللهَ عز وجل قَدْ وَكَّلَ) بالتشديد، من التوكيل، ويجوز تخفيفها، قال في "الفتح": وقع في روايتنا بالتخفيف، يقال: وَكَله بكذا: إذا استكفاه إياه، وصَرَف أمره إليه، وللأكثر بالتشديد، وهو موافق لقوله تعالى:{مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] انتهى
(1)
.
(بِالرَّحِمِ مَلَكًا) المعنى: أنه تعالى فوّض إليه أمره، وجعل التصرّف إليه حسب الأمر الإلهيّ، (فَيَقُولُ) الملك:(أَيْ) حرف نداء، (رَبِّ نُطْفَةٌ) بالرفع والتنوين؛ أي: وقعت في الرحم نطفةٌ، وفي رواية:"نطفةً" بالنصب؛ أي: خلقت يا رب نطفةً، ونداء الملَك بالأمور الثلاثة ليس في دفعة واحدة، بل بين كل حالة وحالة مدة تبيَّن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه المتقدّم أنها أربعون يومًا، قاله في "الفتح"
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "نطفةٍ" يجوز فيه الرفع، والنصب، أما النصب فهو رواية القابسيّ، ووجهه أن يكون منصوبًا بفعل مقدَّر، تقديره: جعلتَ المنيّ نطفةً في الرحم، أو خلقتَ نطفةً، وأما وجه الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: يا رب هذه نطفةٌ.
[فإن قلت]: كيف يكون الشيء الواحد نطفةً علقةً مضغةً؟.
[قلت]: هذه الأخبار الثلاثة تصدر من الملَك في أوقات متعددة، لا في وقت واحد، ولا يقال: ليس فيه فائدة الخبر، ولا لازمه؛ لأن الله علّام الغيوب؛ لأنا نقول: هذا إنما يكون إذا كان الكلام جاريًا على ظاهره، أما إذا عُدل عن الظاهر، فلا يلزم المحذور المذكور، وههنا المراد: التماس إتمام
(1)
"الفتح" 1/ 418.
(2)
"الفتح" 1/ 418.
خَلْقه، والدعاء بإفاضة الصورة الكاملة عليه، أو الاستعلام عن ذلك، ونحوهما، ومثل هذا كثير، ووقع في القرآن أيضًا في قوله تعالى حكاية عن أم مريم عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: 36] فإنه يكون للاعتذار، وإظهار التأسف. انتهى
(1)
.
(أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ) بفتحتين؛ أي: قطعة دم غليظ جامد، (أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ)؛ أي: قطعة لحم قَدْر ما يمضغه الماضغ، وفائدة قول الملك هذا: أن يستفهم هل يتكون منها خلق أم لا؟. (فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقًا) وفي رواية البخاريّ: "فإذا أراد الله أن يقضي خَلْقها"؛ أي: أن يتمّ خلقها؛ أي: خَلْق ما في الرحم من النطفة التي صارت علقة، ثم صارت مضغة، ويجيء القضاء بمعنى الفراغ أيضًا
(2)
. (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (قَالَ الْمَلَكُ: أي رَبِّ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ)؛ أي عاص لله تعالى (أَوْ سَعِيدٌ؟)؛ أي: مطيع لله تعالى، (فَمَا الرِّزْقُ؟) قال في "العمدة": الرزق في كلام العرب: الحظّ، قال الله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة: 82]؛ أي: حظكم من هذا الأمر، والحظ هو نصيب الرجل، وما هو خاصّ له، دون غيره، وقيل: الرزق كل شيء يؤكل، أو يُستعمل، وهذا باطل؛ لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا، فقال:{وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} [الرعد: 22] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لَمَا أمكن إنفاقه، وقيل: الرزق هو ما يُملك، وهو أيضًا باطل؛ لأن الإنسان قد يقول: اللَّهُمَّ ارزقني ولدًا صالحًا، وزوجةً صالحةً، وهو لا يملك الولد، والزوجة، وأما في عُرف الشرع، فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحسين البصريّ: الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء، والحظر على غيره؛ أن يمنعه من الانتفاع به، ولمّا فَسَّرت المعتزلة الرزق بهذا لا جَرَمَ، قالوا: الحرام لا يكون رزقًا، وقال أهل السُّنَّة: الحرام رزق؛ لأنه في أصل اللغة الحظّ والنصيب، كما ذكرنا، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظًّا له، ونصيبًا، فوجب أن يكون رزقًا له، وأيضًا قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل
(1)
"عمدة القاري" 3/ 294.
(2)
"عمدة القاري" 3/ 294.
إلا من السرقة، فوجب أن نقول: طول عمره لم يأكل من رزقه شيئًا. انتهى
(1)
.
(فَمَا الأَجَلُ؟) الأجل هو الزمان الذي عَلِم الله عز وجل أن الشخص يموت فيه، أو مدة حياته؛ لأنه يُطلق على غاية المدّة، وعلى المدّة
(2)
.
(فَيُكْتَبُ) بالبناء للمفعول؛ أي: تُكتب هذه الأشياء، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل؛ أي: يكتب الملك (كَذَلِكَ)؛ أي: مثل ما أعلمه الله تعالى من الذكورة، والشقاوة وضدّهما، والرزق، والأجل، (فِي بَطْنِ أُمِّهِ")؛ أي: في رَحِمها.
وقال في "العمدة": قوله: "فيكتب" على صيغة المعلوم، قيل: الضمير الذي هو فاعله هو الله تعالى، وقيل: يرجع إلى الملك، ويروى على صيغة المجهول، وهذه الكتابة يجوز أن تكون حقيقة؛ لأنه أمر ممكن، والله على كل شيء قدير، ويجوز أن تكون مجازًا عن التقدير.
قال الجامع عفا الله عنه: احتمال المجاز غير صحيح؛ فالصواب أنه حقيقةٌ؛ إذ لا دليل يصرفه، ولا مانع من حَمْله عليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
وقوله: "في بطن أمه" ظرف لقوله: "يكتب" وهو المكتوب فيه، والشخص هو المكتوب عليه، كما تقول: كتبت في الدار، فإن في الدار ظرف لقولك: كتبت، والمكتوب عليه خارج عن ذلك، والتقدير أزليّ، وهو أمر عقليّ محض، ويسمى قضاء، والحاصل في البطن: تعلّقه بالمحل الموجود، ويسمى قَدَرًا، والمكتوب هو الأمور الأربعة المذكورة
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6707](2646)، و (البخاريّ) في
(1)
عمدة القاري" 3/ 295.
(2)
عمدة القاري" 3/ 295.
(3)
عمدة القاري" 3/ 295.
"الحيض"(318) و"أحاديث الأنبياء"(3333) و "القدر"(6595)، و (أحمد) في "مسنده"(13/ 16 و 117 و 148)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 82)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 260)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1049)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 421) وفي "الاعتقاد"(1/ 172)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال في "العمدة": (اعلم): أن هذا الحديث جامع لجميع أحوال الشخص؛ إذ فيه من الأحكام بيان حال المبدأ، وهو ذاته، ذكرًا وأنثى، وحال المعاد، وهو السعادة، والشقاوة، وما بينهما، وهو الأجل، وما يتصرف فيه، وهو الرزق، وقد جاء أيضًا:"فَرَغ الله من أربع: من الْخَلْق، والْخُلُق، والأجل، والرزق"، والخلق بفتح الخاء، إشارة إلى الذكورة والأنوثة، وبضمّها السعادة وضدها.
وقال المهلَّب: إن الله تعالى عَلِم أحوال الخلق قبل أن يخلقهم، وهو مذهب أهل السُّنَّة، وأجمع العلماء أن الأَمَة تكون أم ولد بما أسقطته من ولد تامّ الخلق، واختلفوا فيمن لم يتم خلقه، من المضغة، والعلقة، فقال الأوزاعيّ ومالك: تكون بالمضغة أم ولد مخلّقة كانت أو غير مخلقة، وتنقضي بها العدّة، وعن ابن القاسم: تكون أم ولد بالدم المجتمع، وعن أشهب: لا تكون أم ولد، وتكون بالمضغة والعلقة، وقال أبو حنيفة، والشافعيّ وغيرهما: إن كان قد تبيّن في المضغة شيء من الخلق أصبع، أو عين، أو غير ذلك، فهي أم ولد، وعلى مثله هذا انقضاء العدّة، ثم المراد بجميع ما ذُكر من الرزق، والأجل، والسعادة، والشقاوة، والعمل، والذكورة، والأنوثة: أنه يَظهر ذلك للملك، ويؤمر بإنفاذه، وكتابته، وإلا فقضاء الله، وعِلمه، وإرادته سابق على ذلك.
قال القاضي عياض: ولم يُختلف أن نفخ الروح فيه يكون بعد مائة وعشرين يومًا، وذلك تمام أربعة أشهر، ودخوله في الخامس، وهذا موجود بالمشاهدة، وعليه يُعَوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام، من الاستلحاق، ووجوب النفقات، وذلك للثقة بحركة الجنين في الجوف، وقيل: إن الحكمة في عدّتها عن الوفاة بأربعة أشهر، والدخول في الخامس تحقق براءة الرحم ببلوغ هذه المدة؛ إذا لم يظهر حَمْل، ونفخ الملك في الصورة سبب لخلق الله
عنده فيها الروح والحياة؛ لأن النفخ المتعارف إنما هو إخراج ريح من النافخ، فيصل بالمنفوخ فيه، فإن قدّر حدوث شيء عند ذلك النفخ بإحداث الله تعالى، لا بالنفخ، وغاية النفخ أن يكون سببًا عادة، لا موجبًا عقلًا، وكذلك القول في سائر الأسباب المعتادة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6708]
(2647) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ، فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ، إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ، أمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ"، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5 - 10]).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم قبل باب.
2 -
(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السُّلَميّ أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
3 -
(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعة -بفتح الموحّدة،
(1)
"عمدة القاري" 3/ 295.
وتشديد الياء- السُّلَميّ الكوفيّ المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقةٌ ثبتٌ [2] مات بعد السبعين (ع) تقدم في "الرضاع" 3/ 3581.
4 -
(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ الصحابيّ الجليل، أحد الخلفاء الراشدين، مات في رمضان سنة أربعين وله ثلاث وستون على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل؛ لِمَا أسلفناه غير مرّة، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخيه: زهير، فبغداديّ، وإبراهيم، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه صحابيّ جمّ المناقب، فهو ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنهما، ومن السابقين الأولين، ورجّح جَمْع أنه أول من أسلم، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، ومات وهو يومئذ أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السُّنة والجماعة.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بضم العين المهملة، هو السُّلميّ الكوفيّ يكنى أبا حمزة، وكان صهر أبي عبد الرحمن شيخه في هذا الحديث، ووقع في تفسير {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)} [الليل: 1] من طريق شعبة عن الأعمش، سمعت سعد بن عبيدة
(1)
. (عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) السُّلَميّ، اسمه عبد الله بن حَبِيب، وهو من كبار التابعين، ووقع مُسَمّى في رواية معتمر بن سليمان، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عند الفريابيّ. (عَنْ عَلِيٍّ) رضي الله عنه، في رواية مسلم الْبَطين، عن أبي عبد الرحمن السُّلَميّ: أخذ بيدي عليّ، فانطلقنا نمشي، حتى جلسنا على شاطئ الفرات، فقال عليّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث مختصرًا. (قَالَ: كُنَّا فِي جَنَازَةٍ) قال صاحب "التنبيه": لا أعرف صاحبها. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 15/ 216، كتاب "القدر" رقم (6605).
(2)
"تنبيه المعلم" ص 437.
وفي الرواية الآتية من طريق الأعمش، عن سعد:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسًا، وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه، فقال: ما منكم من أحد. . .". (فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ) بإضافة البقيع بالباء الموحدة، وكسر القاف، إلى الغرقد، بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، وفتح القاف، وبالدال المهملة، وهو مقبرة المدينة
(1)
، والغرقد نوع من الشجر، وكان بالبقيع، فأضيف إليه
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البقيع: المكان الْمتّسع، ويقال: الموضع الذي فيه شجر، وبقيع الغَرْقد بمدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ذا شجر، وزال، وبقي الاسم، وهو الآن مقبرة المدينة. انتهى
(3)
.
(فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ) بكسر الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الصاد المهملة: هي عصًا، أو قضيب، يمسكه الرئيس؛ ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به لِمَا يريد، وسُمِّيت بذلك؛ لأنها تُحْمَل تحت الخصر غالبًا؛ للاتكاء عليها، وفي اللغة: اختَصَر الرجل: إذا أمسك المخصرة
(4)
. (فَنكَّسَ) بتشديد الكاف، وتخفيفها؛ أي: أطرق رأسه.
(فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشرَعَ (يَنْكُتُ) بفتح الياء، وضم الكاف، وآخره تاء مثناة فوقُ؛ أي: يخط بالمخصرة خطًّا يسيرًا مرّةً بعد مرّة، وهذا فِعل المفكِّر المهموم، وقال المجد: النّكْتُ -أي: بفتح، فسكون-: أن تضرب في الأرض بقَضِيب، فيؤثّر فيها. انتهى.
(بِمِخْصَرَتِهِ) متعلّق بـ "ينكُت"، (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("مَا) نافية، (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)"من" مزيدة لاستغراق النفي، (مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ)؛ أي: مصنوعة، مخلوقة، وهو بدل من قوله:"ما منكم من أحد"، (إِلَّا وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) وفي رواية البخاريّ:"أو النار" بـ "أو" بدل الواو، قال في "الفتح":"أو" للتنويع، ووقع في رواية سفيان ما قد يُشعر بأنها بمعنى الواو، ولفظه:"إلا وقد كُتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار"، وكأنه يشير إلى ما تقدم من حديث ابن عمر الدالّ على أن لكل أحد مقعدين.
(1)
"عمدة القاري" 19/ 296.
(2)
"عون المعبود" 12/ 299.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 57.
(4)
"الفتح" 15/ 216 - 217.
وقال الطيبيّ رحمه الله قوله: "مقعده"؛ أي: محل قعوده، وكنى عن كونه من أهل الجَنَّة، أو النار باستقراره فيها، والواو المتوسطة بينهما لا يمكن أن تجري على ظاهرها، فإن "ما" النافية و "من" الاستغراقية يقتضيان أن يكون لكل أحد مقعد من النار، ومقعد من الجَنَّة، وإن ورد في حديث آخر هذا المعنى؛ لأنَّ التفصيل الآتي يأبى حَمْله على ذلك، فيجب أن تكون الواو بمعنى "أو". انتهى.
(وَإِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَو سَعِيدَةً") إعادة "إلّا" يَحْتَمِل أن يكون "ما من نفس" بدلَ "ما منكم"، و "إلَّا" الثانية بدلًا من الأُولي، وأن يكون من باب اللفّ والنشر، فيكون فيه تعميم بعد تخصيص، والثاني في كل منهما أعمّ من الأول، أشار إليه الكرمانيّ
(1)
.
(قَالَ) عليّ رضي الله عنه: (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ) وهذا الرجل وقع في حديث جابر رضي الله عنه الآتي عند مسلم بعد هذا أنه سراقة بن مالك بن جُعْشم، ولفظه:"جاء سراقة بن مالك بن جُعشم، قال: يا رسول الله بَيِّن لنا ديننا، كأنّا خُلقنا الآن، فيما العمل اليوم؟، أفيما جفّت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؛ فقال: اعملوا، فكل ميسَّر"، وأخرج الطبرانيّ، وابن مردويه نحوه، وزاد: وقرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} -إلى قوله-: {لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].
وأخرجه ابن ماجه من حديث سراقة نفسه، لكن دون تلاوة الآية.
ووقع هذا السؤال وجوابه سوى تلاوة الآية لشُريح بن عامر الكلابيّ، أخرجه أحمد، والطبرانيّ، ولفظه:"قال: ففيم العمل إذًا؟ قال: اعملوا، فكل ميسَّر لِمَا خُلق له".
وأخرج الترمذيّ من حديث ابن عمر، قال:"قال عمر: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل فيه، أمر مبتدَعٌ، أو أمر قد فُرغ منه؟ قال: فيما قد فُرغ منه. . ." فذكر نحوه.
وأخرج البزار، والفريابيّ من حديث أبي هريرة:"أن عمر قال: يا رسول الله. . ." فذكره.
(1)
"الفتح" 15/ 216 - 217.
وأخرجه أحمد، والبزار، والطبرانيّ من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه:"قلت: يا رسول الله نعمل على ما فُرغ منه. . ." الحديث نحوه.
ووقع في حديث سعد بن أبي وقاص: "فقال رجل من الأنصار. . .".
والجمع بينها تعدُّد السائلين عن ذلك، فقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو أن السائل عن ذلك جماعة، ولفظه:"فقال أصحابه: ففيم العمل، إن كان قد فُرغ منه؟ فقال: سَدِّدوا، وقاربوا، فإن صاحب الجَنَّة يُختم له بعمل أهل الجَنَّة، وإن عمل أيّ عمل. . ." الحديث، أخرجه الفريابيّ
(1)
.
(أفَلَا نَمْكُثُ)؛ أي: نثبت، ونستمرّ، والفاء معَقّبة لشيء محذوف، تقديره؛ أي: فإذا كان كذلك أفلا نمكث (عَلَى كِتَابِنَا)؛ أي: نعتمد على ما قُدّر علينا، وهو المكتوب علينا، من سعادة، أو شقاوة، (وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟)؛ أي: نترك العمل، وفي الرواية التالية:"قالوا: يا رسول الله، فلِمَ نعمل؟ أفلا نتّكل؟ "؛ أي: أفلا نعتمد على كتابنا الذي قدّر الله علينا؟.
وقال الطيبيّ رحمه الله قوله: "أفلا نتكل"؛ أي: أفلا نعتمد على ما كُتب لنا في الأزل، ونترك العمل؟ يعني: إذا سبق القضاء لكل واحد منا بجنة، أو نار، فأيّ فائدة في السعي؟ فإنه لا يرُدّ قضاء الله، وقَدَره، فأجاب صلى الله عليه وسلم بقوله:"اعملوا" وهو من الأسلوب الحكيم، مَنَعهم صلى الله عليه وسلم عن الاتكال، والترك، وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد، من امتثال أمر مولاه، وهو عبوديته عاجلًا، وتفويض الأمر إليه آجلًا.
يعني: أنتم عبيد، ولا بدّ لكم من العبودية، فعليكم بما أُمرتم، وإياكم والتصرف في الأمور الإلهية؛ لآية:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، فلا تجعلوا العبادة، وتَرْكها سببًا مستقلًّا لدخول الجنة والنار، بل هي أمارات، وعلامات لها، ولا بد في الإيجاب من لُطف الله وكرمه، أو خذلانه، كما ورد:"ولا يدخل الجَنَّة أحد بعمله. . ." الحديث. انتهى
(2)
.
وقال السنديّ رحمه الله ما حاصله: قوله: "أفلا نتّكل": أي: إذا كان العمل
(1)
"الفتح" 15/ 217 - 218.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 537 - 538.
لا يردّ القضاء والقدر السابق، فلا فائدة فيه، فنبّه بالجواب عنه أن الله تعالى دبّر الأشياء على ما أراد، وربط بعضها ببعض، وجعلها أسبابًا ومسبَّبات، ومن قدّره من أهل الجنّة قدّر له ما يُقرّبه إليها من الأعمال، ووفّقه لذلك، بإقداره، ويُمكّنه منه، ويُحرّضه عليه بالترغيب والترهيب، ومن قدّر أنه من أهل النار قدّر له خلاف ذلك، وخذَلَهُ حتى اتّبع هواه، وترك أمر مولاه.
والحاصل: أنه جعل الأعمال طريقًا إلى نَيْل ما قدّره له من جنة أو نار، فلا بدّ من المشي في الطريق، وبواسطة التقدير السابق يتيسّر ذلك المشي لكلٍّ في طريقه، وَيَسهلُ عليه، وتلا الآية للاستشهاد على أنَّ التيسير منه تعالى. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَقَالَ إلخ) هذا من تمام قول الرجل
(2)
؛ أي: قال الرجل الذي قال: "أفلا نمكث إلخ" مكملًا سؤاله: (مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ)؛ أي: من كُتب سعيدًا (فَسَيَصِيرُ)؛ أي: فسيرجع (إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ) لكونه خُلق له، (وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) بفتح الشين المعجمة، وكسرها، قال المجد رحمه الله: والشَّقَا: الشدّة، والعسر، ويمدّ، شَقِي، كرَضِي، شَقَاوةً -أي: بالفتح- ويُكسر، وشَقًا، وشَقَاءً، وشَقْوةً، ويُكسر، وشقاه الله، وأشقاه. انتهى
(3)
. (فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَقَالَ) النبي صلى الله عليه وسلم ردًّا على هذا الإيراد: ("اعْمَلُوا) بما أُمرتم به، (فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ) وفي الرواية الآتية:"فكلّ ميسّر لِمَا خُلق له. . ." الحديث.
(أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ) بصيغة المبنيّ للمجهول؛ أي: يُسهَّلون، ويهيّئون (لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ") قال في "الفتح": وحاصل السؤال: ألَا نترك مشقة العمل، فإنا سنصير إلى ما قُدّر علينا، وحاصل الجواب: لا مشقة؛ لأن كل أحد ميسَّر لِمَا خُلق له، وهو يسير على من يسّره الله، قال الطيبيّ: الجواب من الأسلوب الحكيم، مَنَعهم عن ترك العمل، وأمَرَهم بالتزام ما يجب على العبد، من العبودية، وزَجَرهم
(1)
"شرح السنديّ على ابن ماجه" 1/ 60 - 61.
(2)
وأما ما وقع في شرح الشيخ الهرريّ من أن هذا القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطأ، فتنبّه.
(3)
"القاموس المحيط" ص 699.
عن التصرف في الأمور المغيبة، فلا يجعلوا العبادة وتَرْكها سببًا مستقلًّا لدخول الجَنَّة والنار، بل هي علامات فقط. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قَرَأَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: ({فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل: 5])؛ أي: حقّ الله من المال، أو الامتثال، ({وَاتَّقَى} [الليل: 5]) ربّه؛ أي: خاف مخالفته، أو عقوبته، واجتنب معصيته، ({وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} [الليل: 6])؛ أي: بالخُلْف؛ يعني: أيقن أن الله تعالى سيُخْلف عليه، وعن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، والضحاك:{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} بلا إله إلَّا الله، وعن مجاهد: وصدّق بالجنة، وعن قتادة، ومقاتل: بموعود الله تعالى، ({فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 7])؛ أي: فسنهيئه في الدنيا ({لِلْيُسْرَى} [الليل: 7])؛ أي: للخلّة اليسري، وهو العمل بما يرضاه الله تعالى. ({وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8])؛ أي: بالنفقة في الخير، ({وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8])؛ أي: بشهوات الدنيا عن نعيم العقبي، ({وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} [الليل: 9])؛ أي: بكلمة لا إله إلَّا الله، ({فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 10])؛ أي: للخَلّة المؤدية إلى العسر، والشدّة، وهي خلاف اليسري، قيل: سُمّي طريق الخير باليسرى؛ لأن عاقبته اليسر، وطريق الشر بالعسرى؛ لأن عاقبته العسر.
قال في "الفتح": ووقع في حديث ابن عباس عند الطبرانيّ نحو حديث عمر، وفي آخره:"قال: اعمل، فكلٌّ ميسَّر"، وفي آخره عند البزار:"فقال القوم بعضهم لبعض: فالجِدّ إذًا"، وأخرجه الطبرانيّ في آخر حديث سراقة، ولفظه:"فقال: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال: كل ميسر لعمله، قال: الآن الجدّ، الآن الجدّ"، وفي آخر حديث عمر عند الفريابيّ:"فقال عمر: ففيم العمل إذًا؟ قال: كلٌّ لا يُنال إلا بالعمل؟ قال عمر: إذًا نجتهد"، وأخرج الفريابيّ بسند صحيح إلى بشير بن كعب، أحد كبار التابعين:"قال: سأل غلامان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيم العمل؟ فيما جفت به الأقلام، وجرت به المقادير، أم شيء نستأنفه؟ قال: بل فيما جفت به الأقلام، قالا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لِمَا هو عامل، قالا: فالجدّ الآن". انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 15/ 218، كتاب "القدر" رقم (6605).
(2)
"الفتح" 15/ 218، كتاب "القدر" رقم (6605).
وقال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} : قال ابن مسعود: يعني: أبا بكر رضي الله عنه، وقاله عامة المفسرين، فرُوي عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يُعتق على الإسلام عجائز ونساء، قال: فقال له أبوه قحافة: أي بُنَيّ، لو أنك أعتقت رجالًا جُلْدًا يمنعونك، ويقومون معك؟ فقال: يا أبت إنما أريد ما أريد.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} ؛ أي: بذل، {وَاتَّقَى}؛ أي: محارم الله التي نهى عنها.
{وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} ؛ أي: بالخلَف من الله تعالى على عطائه، وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملَكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللَّهُمَّ أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللَّهُمَّ أعط ممسكًا تلفًا".
وقال أهل التفسير: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} المعسرين، وقال قتادة: أعطى حق الله تعالى الذي عليه. وقال الحسن: أعطى الصدق من قلبه. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} ؛ أي: بلا إله إلا الله، قاله الضحاك، والسلميّ، وابن عباس أيضًا، وقال مجاهد: بالجنة، دليله قوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقال قتادة: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه. وقال زيد بن أسلم: بالصلاة، والزكاة، والصوم. وقال الحسن: بالخلف من عطائه، وهو اختيار الطبريّ وتقدم عن ابن عباس، وكله متقارب المعنى، إذ كله يرجع إلى الثواب الذي هو الجَنَّة.
وقوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)} ؛ أي: نرشده لأسباب الخير، والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها. وقال زيد بن أسلم:{لِلْيُسْرَى} للجنة. وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} ؛ أي: ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيرًا. روى الضحاك عن ابن عباس:{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} قال: سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله، وبرسوله، وعنه عن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف، وروى عكرمة عن ابن عباس:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} يقول: بخل بماله، واستغنى عن ربه. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)}؛ أي: بالخلف. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9)} قال: بالجنة. وبإسناد عنه آخر قال:
{بِالْحُسْنَى} ؛ أي: بلا إله إلا الله. {فَسَنُيَسِّرُهُ} ؛ أي: نسهّل طريقه {لِلْعُسْرَى} ؛ أي: للشر. وعن ابن مسعود: للنار. وقيل: أي: فسنعسّر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها. وقد تقدم أن الملك ينادي صباحًا ومساء: "اللَّهُمَّ أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا"، رواه أبو الدرداء. انتهى المقصود من كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6708 و 6709 و 6710 و 6711](2647)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1362) و"التفسير"(4945 و 4946 و 4947 و 4948) و"الأدب"(6217) و"القدر"(6605) و"التوحيد"(7552) وفي "الأدب المفرد"(1/ 311)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4694)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2136)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 516 و 517)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(78)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(20074)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 82 و 129 و 132 و 140 و 157)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 22)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(84)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(334 و 335)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 437 و 454)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 199 و 200 و 205)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 171 - 172)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(86 و 87) وفي "شعب الإيمان"(1/ 205)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(ص 4)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 75)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(72)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر رحمه الله: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السُّنَّة مجتمعون على
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 82 - 85.
الإيمان بهذه الآثار، واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان وجوب الإيمان بالقدر.
3 -
(ومنها): جوازُ القعود عند القبور، والتحدث عندها بالعلم والموعظة، وقال المهلب: نَكْتُهُ الأرض بالْمِخْصرة أصل في تحريك الإصبع في التشهد، نَقَله ابن بطال، وهو بعيد، وإنما هي عادة لمن يتفكر في شيء يستحضر معانيه، فيحتمل أن يكون ذلك تفكرًا منه صلى الله عليه وسلم في أمر الآخرة بقرينة حضور الجنازة، ويحتمل أن يكون فيما أبداه بعد ذلك لأصحابه من الحِكَم المذكورة، ومناسبته للقصة أن فيه إشارة إلى التسلية عن الميت بأنه مات بفراغ أجله.
4 -
(ومنها): أن هذا الحديث أصل لأهل السُّنَّة في أن السعادة والشقاء بتقدير الله القديم.
5 -
(ومنها): أن فيه رَدًّا على الجبرية؛ لأن التيسير ضد الجبر؛ لأنَّ الجبر لا يكون إلا عن كُره، ولا يأتي الإنسان الشيء بطريق التيسير إلا كاره له.
6 -
(ومنها): أن أفعال العباد، وإن صدرت عنهم، لكنها قد سبق علم الله بوقوعها بتقديره، ففيها بطلان قول القدرية صريحًا.
7 -
(ومنها): أنه استُدِلَّ به على إمكان معرفة الشقي من السعيد في الدنيا، كمن اشتَهَر له لسان صدق وعكسه؛ لأن العمل أمارة على الجزاء على ظاهر هذا الخبر.
ورُدَّ بما تقدم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأن هذا العمل الظاهر قد ينقلب لعكسه على وفق ما قُدِّرَ.
والحق أن العمل علامةٌ وأمارةٌ، فيُحكم بظاهر الأمر، وأمرُ الباطن إلى الله تعالى.
قال الطيبيّ نقلًا عن الخطابي: إن قول الصحابيّ هذا مطالبة بأمر يوجب
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 12.
تعطيل العبوديّة، فلم يُرخّص صلى الله عليه وسلم له، وذلك أن إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن سابق الكتاب، إخبار عن غيب علم الله تعالى فيهم، وهو حجة عليهم، فرام القوم أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن هنا أمرين مُحكَمين، أحدهما لا يُبْطِلُ الآخر: باطن، وهو الحكمة الموجبة في حكم الربوبية، وظاهر، وهو السمة اللازمة في حق العبودية، وهو أمارة ومُخَيَّلةٌ، غير مفيدة حقيقة العلم، ويشبه أن يكون -والله أعلم- إنما عوملوا بهذه المعاملة، وتُعُبِّدوا بهذا التعبّد؛ ليتعلّق خوفهم ورجاؤهم بالباطن، وذلك من صفة الإيمان، وبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم لهم أن كلًّا ميسَّر لِمَا خُلق له، وأن عمله في العاجل دليلُ مصيره في الآجل، وتلا قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} ، {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} [الليل: 5 - 8]، وهذه الأمور في حكم الظاهر، ومن وراء ذلك حُكم الله تعالى فيهم، وهو الحكيم الخبير:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].
واطلب نظير ذلك من أمرين: الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب، والأجل المضروب مع المعالجة بالطبّ، فإنك تجد المعتبَر فيهما علّة موجبة، والظاهر البادي سببًا مُخيّلًا، وقد اصطلح الناس خواصّهم وعوامهم على أن الظاهر منها لا يُترك بالباطن. انتهى
(1)
.
وقال الخطابيّ في "معالم السنن": هذا الحديث إذا تأملته أصبت منه مما يتخالج في الضمير من أمر القدر، وذلك أن القائل:"أفلا نتكل، وندع العمل" لم يترك شيئًا مما يَدخُل في أبواب المطالبات والأسئلة الواقعة في التجويز والتعديل إلا وقد طالب به، وسأل عنه، فأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القياس في هذا الباب متروك، والمطالبة عليه ساقطة، وأنه لا يشبه الأمور المعلومة التي قد عُقلت معانيها، وجَرَت معاملات البشر فيما بينهم عليها، وأخبر أنه إنما أمرهم بالعمل ليكون أمارة في الحال العاجلة لِمَا يصيرون إليه في الحال الآجلة، فمن تيسّر له العمل الصالح كان مأمولًا له الفوز، ومن تيسّر له العمل الخبيث كان مخوفًا عليه الهلاك.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 538 - 539.
وهذه أمارات من جهة العلم الظاهر، وليست بموجبات، فإن الله سبحانه وتعالى طَوَى علم الغيب عن خَلْقه، وحجبهم عن دَرْكه، كما أخفى عنهم أمر الساعة، فلا يَعلَم أحد متى إِبّانُ قيامها، ثم أخبر على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بعض أماراتها وأشراطها، فقال:"من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، ومنها كيت وكيت. انتهى كلام الخطابيّ ببعض تصرّف
(1)
.
وقال غيره: وجه الانفصال عن شبهة القدرية أن الله أمرنا بالعمل، فوجب علينا الامتثال، وغيّب عنّا المقاديرَ لقيام الحجة، ونَصَبَ الأعمالَ علامةً على ما سبق في مشيئته، فمن عَدَلَ عنه ضَلَّ وتاه؛ لأن القدر سر من أسرار الله، لا يَطَّلِع عليه إلا هو، فإذا أدخل أهل الجَنَّة، كشف لهم عنه حينئذ
(2)
. والله أعلم.
8 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّة أخذ المخصرة، وجواز التنكيت بها في الأرض، أو في الماء، أو نحو ذلك، وليس ذلك من العبث المذموم، قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب مَن نَكَتَ العودَ في الماء والطين"، ثم أورد حديث الباب محتجًّا على ما ترجم له، قال ابن بطال في "شرحه": من عادة العرب إمساك العصا، والاعتماد عليها عند الكلام وغيره، وقد عاب ذلك عليهم بعض من يتعصب للعجم، وفي استعمال النبيّ صلى الله عليه وسلم له الحجة المبالغة، وكأن المراد بالعود هنا: المخصرة التي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوكأ عليها، وليس مصرّحًا به في هذا الحديث.
قال الحافظ رحمه الله: قلت: وفقه الترجمة أن ذلك لا يُعدّ من العبث المذموم؛ لأنَّ ذلك إنما يقع من العاقل عند التفكر في الشيء، ثم لا يستعمله فيما لا يضرّ تأثيره فيه، بخلاف من يتفكر وفي يده سكين، فيستعملها في خشبة تكون في البناء الذي فيها إفسادًا، فذاك هو العبث المذموم. انتهى، والله تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قال العلماء: ثبت بهذه الآية
(1)
راجع: "معالم السنن" 8/ 62 - 63.
(2)
راجع: "الفتح" 11/ 606.
وبقوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقوله:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة: 274]-إلى غير ذلك من الآياتِ- أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها. وليس الجواد: الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل: الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد: الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل: الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطى أجرًا وحمدًا فهو الجواد، وكل من استحقّ بالمنع ذمًّا، أو عقابًا فهو البخيل، ومن لم يستفد بالعطاء أجرًا ولا حمدًا، وإنما استوجب به ذمًّا فليس بجواد، وإنما هو مسرف مذموم، وهو من المبذرين الذين جعلهم الله إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم، ومن لَمْ يستوجب بالمنع عقابًا ولا ذمًّا، واستوجب به حمدًا، فهو من أهل الرشد، الذين يستحقون القيام على أموال غيرهم، بحسن تدبيرهم وسداد رأيهم. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6709]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادُ بْنُ السَّرِيّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، فِي مَعْنَاهُ، وَقَالَ: فَأَخَذَ عُودًا، وَلَمْ يَقُلْ: مِخْصَرَةً، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِهِ: عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ) -بكسر الراء الخفيفة- ابن مصعب التميميّ، أبو السَّريّ الكوفيُّ، ثقةٌ [10](243) وله إحدى وتسعون سنةً (عخ م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
2 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (بِهَذَا الْإِسْنَادِ) الإشارة إلى إسناد منصور المذكور قبله، وهو: عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلميّ، عن عليّ رضي الله عنه.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 82 - 85.
وقوله: (فِي مَعْنَاهُ)"في" بمعنى الباء؛ أي: حَدَّثَنَا بمعنى حديث منصور الماضي.
[تنبيه]: أما رواية أبي الأحوص عن منصور بن المعتمر، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(375)
- حَدَّثَنَا خَلَف بن هشام، حَدَّثَنَا أبو الأحوص، عن منصور، عن سعد بن عُبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، عن عليّ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما انتهينا إلى بقيع الْغَرْقد، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعدنا معه، فأخذ عودًا، فنكت به الأرض، ثم رفع رأسه، فقال:"ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلَّا عَلِم الله مكانها من الجَنَّة، ومكانها من النار، وشقيّة، أو سعيدة". قال: فقام رجل من القوم، قال: أفلا نَدَع العمل، ونُقبل على كتابنا، فمن كان منّا من أهل السعادة يُسِّر لعملها، ومن كان من أهل الشقوة صار إلى الشقوة؟، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل اعملوا، فكلّ ميسَّر، فمن كان من أهل السعادة يُسِّر لعملها، ومن كان من أهل الشقوة يُسِّر لعملها". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي بكر بن أبي شيبة التي أشار إليها، فقد ساقها اللالكائيّ رحمه الله في "اعتقاد أهل السُّنَّة"، فقال:
(1064)
- أخبرنا عيسى بن عليّ، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد البغويّ، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو الأحوص، عن (ح). . .
(1065)
- وأخبرنا عبد الرَّحمن بن عمر، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب، قال: ثنا جدّي يعقوب بن شيبة، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن السُّلَميّ، عن عليّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهينا إلى بقيع الغرقد، فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قعدنا حوله، وأخذ عودًا، فنكت به في الأرض، ثم رفع رأسه، فقال:"ما منكم من أحد، من نفس منفوسة، إلَّا وقد عُلم مكانها من الجَنَّة، أو النار، شقيّة أو سعيدة"، فقال رجل: يا رسول الله، ألا ندع
(1)
"مسند أبي يعلى" 1/ 306.
العمل، ونُقبل على كتابنا؟ فمن كان منّا من أهل السعادة، صار إلى السعادة، ومن كان منا من أهل الشقاوة، صار إلى الشقوة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعملوا، فكل ميسر، فمن كان من أهل الشقوة يُسِّر لعملها، ومن كان من أهل السعادة يُسِّر لعملها"، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} . انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6710]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا، وَفِي يَدِهِ عُودٌ، يَنْكُتُ بِه، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ:"مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ، إِلَّا وَقَدْ عُلِمَ مَنْزِلُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَلِمَ نَعْمَلُ؟ أفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ" "لَا، اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ"، ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} إِلَى قَوْلهِ: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} ).
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو سعيد الأشجّ" هو: عبد الله بن سعيد الكِنديّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله، و"أبوه" هو: عبد الله بن نمير الْهَمْداني الكوفيّ، و"أبو كريب" هو: محمد بن العلاء الهمدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة أيضًا، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، و"الأعمش" هو: سليمان بن مِهْران الكوفيّ.
وقوله: (ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسًا)"ذات" مقحمة؛ أي: يومًا من الأيّام، و"جالسًا" حال من "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(1)
"اعتقاد أهل السُّنَّة" 4/ 599.
وقوله: (فَرَفَعَ رَأسَهُ)؛ أي: بعد تنكيسه، كما بُيّن في الرواية الماضية.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوّلَ الكتاب قال:
[6711]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالأَعْمَشِ؛ أَنَّهُمَا سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
[تنبيه]: رواية شعبة عن منصور، والأعمش هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:
(7113)
- حدّثني محمد بن بشار، حَدَّثَنَا غندر، حَدَّثَنَا شعبة، عن منصور، والأعمش، سمعا سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرَّحمن، عن عليّ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان في جنازة، فأخذ عودًا، فجعل ينكت في الأرض، فقال:"ما منكم من أحد إلا كُتب مقعده من النار، أو من الجَنَّة"، قالوا: ألا نتكل؟ قال: "اعملوا، فكل ميسَّر، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} الآية [الليل: 5] ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6712]
(2648) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابرٍ، قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا، كَأَنَّا خُلِقْنَا الآنَ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟
(2)
أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟
(3)
قَالَ: "لَا، بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2745.
(2)
وفي نسخة: "فيما العمل الآن".
(3)
وفي نسخة: "أم فيما يُستقبل؟ ".
الْمَقَادِيرُ"، قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ زُهَيْرٌ: ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، فَسَأَلْتُ مَا قَالَ؟ فَقَالَ: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميميّ الْيَرْبوعيّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
2 -
(زهير) بن حرب، أبو خيثمة النسائي، نزيل بغداد، ثقة ثبت [10](ت 232) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"أبو خيثمة" هو: زُهير بن معاوية بن حُديج المذكور قبل التحويل، و"يحيى بن يحيى" هو التميميّ النيسابوريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف، وهو (413 و 414) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الصحابيّ ابن الصحابيّ، أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ (عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ) بضمّ الجيم، والشين المعجمة، بينهما عين مهملة الكنانيّ، ثم المدلجيّ، أبو سفيان الصحابيّ المشهور، من مسلمة الفتح، مات في خلافة عثمان في سنة أربع وعشرين، وقيل: بعده، تقدّمت ترجمته في "كتاب الحجّ" برقم 17/ 2943. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا)؛ أي: بيّن لنا أصل ديننا؛ أي: ما نعتقده، وندين به من حال أعمالنا، هل سبق بها قدرٌ أم لا؟ (كَأَنَّا خُلِقْنَا) بالبناء للمفعول، (الآنَ)؛ أي: في الوقت الحاضر؛ يعني: أنهم غير عالمين بهذه المسألة، فكأنهم خُلقوا الآن بالنسبة إلى علمها، وفائدته استدعاء أوضح البيان، قاله القرطبيّ
(1)
.
(فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟) وفي نسخة: "فيما العمل الآن؟ "، ووقع في نسخة
(1)
"المفهم" 6/ 659.
الأبيّ، والقرطبيّ بلفظ:"فيم العمل اليوم؟ " بحذف ألف "ما"، وهذا هو الجاري على القاعدة الأغلبيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ
…
أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ
وقال القرطبيّ: قوله: "فيم العمل؟ " هكذا صحيح الرواية "فيم" الأول
(1)
بغير ألف؛ لأنَّها استفهامية، والثانية بألف؛ لأنَّها خبرية، وقد وقع في بعض النسخ بالعكس، والأول الصواب. ومقتضى هذا السؤال: أن ما يصدر عنا من الأعمال، وما يترتب عليها من الثواب والعقاب، هل سبق علم الله تعالى بوقوعه، فنفذت به مشيئته، أو ليس كذلك؟ وإنما أفعالنا صادرة عنا بقدرتنا ومشيئتنا، والثواب والعقاب مرَتَّب عليها بحَسَبها، وهذا القسم الثاني هو مذهب القدرية، وقد أبطل النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القِسْم بقوله:"لا، بل فيما جَفّت به الأقلام، وجَرَت به المقادير"؛ أي: ليس الأمر مستأنفًا، بل قد سبق به علم الله، ونفذت به مشيئته، وجفّت به أقلام الكتبة في اللوح المحفوظ، وفي صحف الملائكة المكتوبة في البطن، بل قد نصّ على هذا في حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما المذكور بعد هذا، وأنصّ من هذا كلّه ما خرّجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كتابان، فقال للّذي في يده اليمنى: "هذا كتاب من ربِّ العالمين، فيه أسماء أهل الجَنَّة، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمل
(2)
على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم أبدًا"، ثم قال للذي في يده اليسرى: "هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم، وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منهم
(1)
أراد بالأول: "ما" من قوله: "فيم العمل"، وأراد بالثانية:"ما" التي في قوله: "فيما جفّت إلخ"، وغرضه أن "ما" الأُولى استفهاميّة، فحقّها أن تُحذف ألفها، وأما "ما" التي في قوله:"فيما جفّت إلخ" الصواب إثبات ألفها؛ لأنَّها خبريّة، أو موصولة، فلا تُحذف ألِفها. هذا هو مراد القرطبيّ رحمه الله، لكن نقل الأبيّ كلام القرطبيّ هذا، وفَهِمه على غير وجهه، فأفسده، فانظر كلامه في "شرحه" 7/ 82 - 83.
(2)
يقال: "أجملت الحساب": إذا جمعت آحاده، وكملت أفراده؛ أي: أُحصوا وجُمعوا.
أبدًا"، ثم رَمَى بهما، وقال: "فرغ ربكم من العباد، فريق في الجَنَّة، وفريق في السعير" قال الترمذيّ
(1)
: هذا حديث حسن صحيح.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة، يفيد مجموعها العلم القطعيّ، واليقين الحقيقيّ الاضطراريّ بإبطال مذاهب القدرية، لكنهم كابروا في ذلك كلّه، وردّوه، وتأوّلوا ذلك تأويلًا فاسدًا، وموّهوه للأصول التي ارتكبوها من التحسين، والتقبيح، والتعديل، والتجويز، والقول بتأثير القدرة الحادثه على جهة الاستقلال، وقد تكلّم أئمة أهل السُّنَّة معهم في هذه الأصول، وبيّنوا فسادها في كتبهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقلَامُ) بدل من قوله: "فيما العمل؟ "، كما قال في "الخلاصة":
وَبَدَلُ الْمُضَمَّنِ الْهَمْزَ يَلِي
…
هَمْزًا كَـ "مَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِي"
قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "جفّت به الأقلام"؛ أي: نفذت به المقادر، وكتبته في اللوح المحفوظ، كما تقدم كتابه مما عهدناه، وفُرغ منه، فيبقى القلم بعد الذي كتب به جافًّا، لا مداد فيه؛ لتمام ما كُتب به، وكتابة الله، وقلمه، ولوحُهُ من غَيب عِلْمِه، نؤمن به، ونَكِلُ صفة علم ذلك إلى الله تعالى. انتهى
(3)
.
(وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟) بفتح النون أوله، وفي بعض النسخ:"يُسْتَقْبل" بالياء، وعليه فهو مبنيّ للمفعول. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("لَا)؛ أي: ليس العمل فيما يُستقبل، (بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقلَامُ، وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ"، قَالَ) سُراقة رضي الله عنه: (فَفِيمَ الْعَمَلُ؟) قال القرطبيّ: هذا السؤال هو الأوّل الذي تضمّنه قوله: "أفلا نمكث على كتابنا، ونَدَعُ العمل؟ "، وقد بيّناه.
(قَالَ زُهَيْرٌ) بن معاوية الراوي عن أبي الزبير (ثُمَّ تَكَلَّمَ أَبُو الزُّبَيْرِ بِشَيْءٍ لَمْ أفهَمْهُ) إما لِبُعده، أو لتشويش بعض الحاضرين عليه، (فَسَأَلْتُ) بعض
(1)
رواه الترمذيّ برقم (2141).
(2)
"المفهم" 6/ 660 - 661.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 159.
الحاضرين (مَا قَالَ؟)؛ أي: أيّ شيء قال أبو الزبير؟، ويَحتمل أن يكون المسؤول هي أبا الزبير، والله تعالى أعلم.
(فَقَالَ) ذلك المسؤول قال: ("اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ)؛ أي: مهيَّأ، وميسّر لِمَا خُلق له، فمن كان من أهل الجنّة فسييسّر لعمل أهل الجنّة، ومن كان من أهل النار، فسيُيسّر لعمل أهل النار، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6712 و 6713](2648)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 292 - 293 و 388)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3919)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(136)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 121)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 384)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6713]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْمَعْنَي، وَفِيهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث عن أبي الزبير هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(14640)
- حدثنا هارون بن معروف، ثنا ابن وهب، أخبرني عمرو، عن أبي الزبير، عن جابر؛ أنه قال: يا رسول الله، أنعمل لأمر قد فُرغ منه، أم لأمر نأتنفه؟ قال:"لأمر قد فُرغ منه"، فقال سُراقة: ففيم العمل إذًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ عامل ميسَّر لعمله". انتهى
(1)
.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 335.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6714]
(2649) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ، حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعُلِمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: فَقَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: قِيلَ: فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَزِيدُ الضُّبَعِيُّ) هو: يزيد بن أبي يزيد الضُّبَعيّ مولاهم، أبو الأزهر البصريّ، يُعْرَف بالرِّشْك بكسر الراء، وسكون المعجمة، ثقةٌ عابدٌ، وَهِم مَن لَيَّنه [6](ت 130) وهو ابن مائة سنة (ع) تقدم في "الحيض" 14/ 767.
[تنبيه]: قوله: "الضُّبعيّ" بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها عين مهملة: نسبة إلى ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، نزلوا البصرة، وهي أيضًا نسبة إلى المحلّة التي سكنها بنو ضبيعة بالبصرة، نزلها غيرهم، فنُسبوا إليها، ومنهم يزيد الرشك، أفاده في "اللباب"
(1)
.
2 -
(مُطَرِّفُ) بن عبد الله بن الشِّخِّير -بكسر الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة المكسورة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم راء- العامريّ الْحَرَشيّ -بمهملتين مفتوحتين، ثم معجمة- أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
3 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزَاعيّ، أبو نُجيد -بنون، وجيم مصغرًا- الصحابيّ المشهور، وأبوه أيضًا صحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصحب، وكان فاضلًا، وقضى بالكوفة، مات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
والباقيان ذُكرا في الباب.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 260.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة.
شرح الحديث:
(عَنْ يَزِيدَ الضُّبَعِيِّ) هو: يزيد الرِّشْك -بكسر الراء، وسكون المعجمة، بعدها كاف- وكنيته أبو الأزهر، وحَكَى الكلاباذيّ أن اسم والده سِنَان، بكسر المهملة، ونونين، وهو بصريّ تابعيّ، ثقةٌ، قيل: كان كبير اللحية، فلُقِّب الرِّشْك، وهو بالفارسية كما زعم أبو عليّ الغسانيّ، وجزم به ابن الجوزيّ: الكبير اللحية، وقال أبو حاتم الرازيّ: كان غَيُورًا، فقيل له: ارشك بالفارسية، فمضى عليه الرشك، وقال الكرمانيّ: بل الرشك بالفارسية: القمل الصغير الملتصق بأصول شعر اللحية، وذكر الكلاباذيّ أن الرشك: القسّام، قال الحافظ: بل كان يزيد يتعانى مساحة الأرض، فقيل له: القَسّام، وكان يُلَقَّب الرشك؛ لا أن مدلول الرشك القسَّام، بل هما لَقب، ونسبة إلى صنعة، والمعتمَد في أمره ما قال أبو حاتم، قال: وما ليزيد في البخاريّ إلَّا هذا الحديث، أورده في "كتاب القدر" وفي "كتاب الاعتصام". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وليس ليزيد الرشك عند مسلم إلَّا أربعة أحاديث فقط برقم (335) وكرّره، و (719)، و (1160)، و (2649)
(2)
، والله تعالى أعلم.
(حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ) -بضم الميم، وفتح الطاء المهملة، وكسر الراء المشدّدة- ابن عبد الله (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قِيلَ:) القائل هو عمران نفسه، كما بُيّن في الرواية التالية:(يَا رَسُولَ الله، أَعُلِمَ) بضمّ العين المهملة، مبنيًّا للمفعول، والهمزة للاستفهام، وفي رواية البخاريّ:"أيُعرَف"، (أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟) المراد بالسؤال معرفة الملائكة، أو من أطلعه الله على ذلك،
(1)
"الفتح" 15/ 210، كتاب "القدر" رقم (6596).
(2)
هذه الأرقام للأستاذ محمد فؤاد رحمه الله فليُتنبّه.
وأما معرفة العامل، أو مَن شاهده، فإنما يُعرف بالعمل. (قَالَ) عمران رضي الله عنه:(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ")؛ أي: عُلم هؤلاء مِن هؤلاء، (قَالَ) عمران:(قِيلَ)؛ أي: قال السائل، وقد مرّ آنفًا أنه عمران رضي الله عنه نفسه، (فَفِيمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟) وفي رواية البخاريّ:"فلِمَ يعمل العاملون؟ "، والمعنى: إذا سبق القلم بذلك، فلا يحتاج العامل إلي العمل؛ لأنه سيصير إلى ما قُدِّر له. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ردًّا على هذا الاستشكال:("كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ")؛ أي: مِنْ عَمَل أهل الجنّة، أو النار، وقد جاء هذا الكلام عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بهذا اللفظ يزيدون على العشرة، وقد تقدّم بيان ذلك قريبًا.
وفي رواية البخاريّ: "كلٌّ يعمل لِمَا خُلق له، أو لِمَا يُسّر له"، وقوله:"يُسِّر" بضم أوله، وكسر المهملة الثقيلة.
وقد جاء هذا الكلام الأخير عن جماعة من الصحابة بهذا اللفظ يزيدون على العشرة. وفي الحديث إشارة إلى أن المآل محجوب عن المكلّف، فعليه أن يجتهد في عَمَل ما أُمر به، فإن عمله أمارة إلى ما يؤول إليه أمره غالبًا، وإن كان بعضهم قد يُختم له بغير ذلك، كما ثبت في حديث ابن مسعود وغيره، لكن لا اطلاع له على ذلك، فعليه أن يبذل جهده، ويجاهد نفسه في عمل الطاعة، لا يترك وُكولًا إلى ما يؤول إليه أمره، فيلام على ترك المأمور، ويستحق العقوبة، وقد ترجم ابن حبان بحديث الباب:"ما يجب على المرء من التشمير في الطاعات، وإن جرى قبلها ما يَكره الله من المحظورات"
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6714 و 6715](2649)، و (البخاريّ) في "القدر"(6596) و"التوحيد"(7551)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4709)،
(1)
"الفتح" 15/ 210، كتاب "القدر" رقم (6596).
و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 517)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 427 و 431)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 227)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 120)، وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6715]
(. . .) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، كُلُّهُمْ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادٍ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ: قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبي شيبة الْحَبَطيّ الأبليّ -بضم الهمزة، والموحّدة، وتشديد اللام- أبو محمد، صدوق يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطَرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
3 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسَم الأسديّ مولاهم، أبو بشر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [8](ت 198) وهو ابن ثلاث وثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
4 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ زاهدٌ، لكنه كان يتشيع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: أما رواية عبد الوارث بن سعيد عن يزيد الرشك، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "خلق أفعال العباد"، فقال:
حَدَّثَنَا أبو معمر، حدَّثَنَا عبد الوارث، قال: يزيد حدّثني عن
(1)
مُطَرِّف بن عبد الله، عن عمران رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، فيم يعمل العاملون؟ قال:"كلٌّ ميسر لما خُلق له". انتهى
(2)
.
وأما رواية ابن عُليّة عن يزيد الرِّشْك، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(270)
- حَدَّثَنَا عبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة (ح) وحدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدّد، قالا: ثنا إسماعيل بن إبراهيم ابن عُلية، ثنا يزيد الرِّشْك، عن مُطَرِّف، عن عمران بن حُصين، قال: قال رجل: يا رسول الله، أعُلم أهل الجَنَّة من أهل النار؟ قال:"نعم"، قال: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا، فكل ميسَّر لِمَا خُلق له من القول". انتهى
(3)
.
وساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، وليس عنده:"من القول"، بل قال:"أو كما قال"، قال رحمه الله:
(19882)
- حَدَّثَنَا إسماعيل، ثنا يزيد -يعني: الرِّشْك- عن مُطَرِّف بن الشِّخِّير، عن عمران بن حُصين قال: قال رجل: يا رسول الله أعُلم أهلُ الجَنَّة من أهل النار؟ قال: "نعم"، قال: فيم يعمل العاملون؟ قال: "اعملوا، فكلّ ميسَّر لِمَا خُلق له"، أو كما قال. انتهى
(4)
.
وأما رواية جعفر بن سليمان عن يزيد الرِّشك، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله أيضًا في "المعجم الكبير"، فقال:
(269)
- حَدَّثَنَا زكريا بن يحيي، ثنا محمد بن موسى الْحَرَشيّ، ثنا جعفر ابن سليمان، عن يزيد الرِّشْك، عن مُطَرِّف، عن عمران بن حُصين، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أعُلم أهل الجَنَّة من أهل النار؟ قال:"نعم"، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: "كلٌّ ميسر لِمَا خُلق له". انتهى
(5)
.
(1)
"عن" تصحّف في النسخة إلى "بن"، وهو غلط، فليُتنبّه.
(2)
"خلق أفعال العباد" 1/ 71.
(3)
"المعجم الكبير" 18/ 130.
(4)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 431.
(5)
"المعجم الكبير" 18/ 130.
وأما رواية شعبة عن يزيد الرشك، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6223)
- حَدَّثَنَا آدم، حَدَّثَنَا شعبة، حَدَّثَنَا يزيد الرِّشك، قال: سمعت مُطّرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، يحدث عن عمران بن حصين، قال: قال رجل: يا رسول الله، أيُعرَف أهل الجَنَّة من أهل النار؟ قال:"نعم"، قال: فلِمَ يعمل العاملون؟ قال: "كلٌّ يعمل لِمَا خُلق له، أو لِمَا يُيَسَّر له". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6716]
(2650) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّئَلِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ؟ وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ، مِنْ قَدَرِ مَا سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ، مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ: فَقَالَ: أَفَلَا يَكُونُ ظُلْمًا؟ قَالَ: فَفَزِعْتُ مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: كُلُّ شَيْءٍ خَلْقُ اللهِ، وَمِلْكُ يَدِهِ، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللهُ، إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ، إِلَّا لأَحْزُرَ عَقْلَكَ، إِنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ، وَيَكْدَحُونَ فِيهِ، أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى فِيهِمْ، مِنْ قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ، مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ، وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: "لَا، بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى فِيهِمْ، وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ) بن فارس العبديّ البصريّ، أصله من بُخَارَي، ثقةٌ، قيل: كان يحيى بن سعيد لا يرضاه [9](ت 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 79/ 417.
(1)
"صحيح البخاري" 6/ 2434.
2 -
(عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتِ) بن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5
(1)
] (خ م قد ت س ق) تقدم في "الحج" 60/ 3188.
3 -
(يَحْيَى بْنُ عُقَيْلٍ) بالتصغير البصريّ، نزيل مَرْوَ، صدوق [3](بخ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 13/ 1237.
4 -
(يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ)
(2)
-بفتح التحتانية، والميم، بينهما مهملة- البصريّ، نزيل مرو، وقاضيها، ثقةٌ فصيحٌ، وكان يرسل [3] مات قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
5 -
(أَبُو الأَسْوَدِ الدِّئَلِيُّ) -بضم الدال المهملة، بعدها همزة مفتوحة-، ويقال له: الدِّيليّ بكسر الدال، وسكون التحتانية، البصريّ، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان، أو عثمان بن عمرو، مخضرمٌ، ثقةٌ، فاضلٌ [2] مات سنة تسع وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخه، فمروزيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عزرة، عن يحيى بن عُقيل، عن أبي الأسود.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدِّئِلِيِّ) بكسر الدال المهملة، وسكون الياء، وتقدّم أنه يقال له: الدُّؤليّ، بضمّ الدال، وفتح الهمزة: نسبة إلى الدئل بن كنانة، أبو قبيلة. (قَالَ: قَالَ لِي عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ) رضي الله عنهما: (أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني، من
(1)
هذا هو الأشبه، وأما قوله في "التقريب": من السابعة ففيه نظر لا يخفى؛ لأنه تابعيّ سمع من بعض الصحابة، كعبد الله بن يزيد الخطميّ، وعبد الله بن أبي أوفي، كما في "الفتح" 12/ 690، فبيقين أنه من الخامسة، فليُتنبَّه.
(2)
وقال في هامش "الخلاصة" ص 429: ضَبَطه بالقلم في الأصل بضمّ الميم، وفتحها. انتهى.
إطلاق اسم السبب على المسبَّب؛ لأنَّ مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مُقَرِّرة؛ أي: قد رأيت ذلك، فأخبرني به
(1)
. (مَا يَعْمَلُ النَّاسُ)؛ أي: من الخير والشر، (الْيَوْمَ)؛ أي: في الدنيا، (وَيَكْدَحُونَ فِيهِ)؛ أي: يسعون في تحصيله بجهد وكدّ؛ أي: تعب، قال الطيبيّ:"الكدح": جهد النفس في العمل، والكدّ فيه حتى يؤثّر فيها، مِن كدح جلده: إذا خدشه، كذا في "الكشّاف"، وقال القرطبيّ:"الكدح": السعي في العمل لدنيا كان أو للآخرة، وأصله العمل الشاقّ، والكسب المتعب. انتهى
(2)
.
وقال المرتضى رحمه الله: كَدَحَ في العَمَلِ: كمنَعَ: سَعَي، يَكدَح كَدْحًا، وقال أَبو إِسحاق: الكَدْحُ في اللُّغَة: السَّعْيُ، والحِرْص، والدُّؤوب في العمل، في بابِ الدُّنيا والآخرة، قال ابن مُقْبِل [من الطويل]:
وما الدّهْرُ إِلّا تارَتانِ فمِنْهُما
…
أَمُوتُ وأُخْرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ
أَي: تارةً أَسعَى في طَلب العَيْشَ، وأَدأَب، وكَدَحَ الإِنسانُ: عَمِلَ لنَفْسه خَيْرًا، أَو شَرًّا، ومنه قوله تعالى:{إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق: 6]، قال الجوهَرِيّ: أَي: تَسعَي، وكَدَحَ: كَدَّ، وهو يَكدَح في كذَا: أي: يَكُدُّ، وأَصابه شَيْءٌ، فكدَحَ وَجْهَه؛ أَي: خَدَشَ، أَو كَدَحَ وَجْهَ فُلانٍ: إِذا عَمِلَ به ما يَشِينُه، ككَدّحَه تَكديحًا، فتَكدَّحَ: خَدَشَه، فتَخدّشَ، أَو كدَحَ وَجْهَ أَمْره: إِذا أَفسَدَه، وكَدَحَ لِعيَالِه: كَسَبَ، كاكتَدَحَ؛ أَي: اكتسَب. انتهى
(3)
.
(أَشَيْءٌ) خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أهو شيء (قُضِيَ عَلَيْهِمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: قُدّر فِعله عليهم، (وَمَضَى عَلَيْهِمْ) بالبناء للفاعل؛ أي: نفذ في حقّهم، (مِنْ قَدَرِ مَما سَبَقَ) هكذا معظم النسخ بـ "ما" بعد "قدر"، ووقع في بعض النسخ:"بقدر قد سبق"، كما هو الآتي بعدُ، وهو واضح، وعلى الأول يكون "قدر" منوّنًا، و"ما" زائدة للتأكيد، و"سبق" صفة لـ "قدرٍ"، ويَحتَمِل أن يكون "قدر" مضافًا لـ "ما"، وهي موصولة؛ أي: للأمر الذي سبق، والإضافة بيانيّة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من قدر": "من" يجوز أن تكون بيانًا
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 540.
(2)
"المفهم" 6/ 661.
(3)
"تاج العروس" ص 1723.
لـ "شيءٌ"، فيكون القضاء والقدر شيئًا واحدًا، وأن تكون ابتدائيّة متعلّقةً بـ "قُضِيَ"؛ أي: قُضي عليهم لأجل قَدَر سبق، وقضاء نشأ، وابتدئ من قدر، فيكون القدر سابقًا على القضاء.
وقال في "النهاية": المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء: الْخَلق، كقوله تعالى:{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12]؛ أي: خلقهنّ، فالقضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأنَّ أحدهما وهو القدر بمنزلة الأساس، والآخر وهو القضاء بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هدم البناء، ونَقْضه. انتهى
(1)
.
وقال الراغب الأصبهانيّ: القضاء من الله تعالى أخصّ من القدر؛ لأنه الفصل بين التقدير، والقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل، والقطع، وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعدّ للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، ولهذا لمّا قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنهما لمّا أراد الفرار من الطاعون بالشام: أتفِرّ من القضاء؟ قال: أفِرّ من قضاء الله إلى قَدَر الله؛ تنبيهًا أن القدر ما لَمْ يكن قضاءً، فمرجوّ أن يدفعه الله، فأما إذا قُضي فلا مَدْفَع له، ويشهد لذلك قوله تعالى:{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21]، وقوله:{حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210]؛ أي: فُصل؛ تنبيهًا أنه صار بحيث لا يمكن تلافيه. انتهى
(2)
.
وقال بعضهم: القدر كتقدير النقّاش الصورةَ في ذهنه، والقضاء كرسمه تلك الصورة للتلميذ بالأسرب، ووضْعُ التلميذ الصبغ عليها متبعًا لرسم الأستاذ هو الكسب، والاختيار، والتلميذ في اختياره لا يخرج عن رسم الأستاذ، كذلك العبد في اختياره لا يمكنه الخروج عن القضاء والقدر. انتهى
(3)
.
(أَوْ فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ) ببناء الفعل للمفعول، قال الطيبيّ: كذا في "صحيح مسلم"، و"كتاب الحميديّ"، و"جامع الأصول"، ووقع في نُسخ "المصابيح":"أم فيما يَسْتَقْبِلون؟ "، قال: على كلتا الروايتين ليس السؤال عن تعيين أحد
(1)
"النهاية في غريب الأثر" ص 759.
(2)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 675 - 676.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 541.
الأمرين؛ إذ الجواب -وهو قوله صلى الله عليه وسلم-: "لا، بل إلخ" غير مطابق له، وإذا تقرّر هذا فـ "أم" منقطعة، و"أو" بمعنى "بل"، وتحريره أن السائل لَمَّا رأى الرسل يأمرون أممهم، وينهونهم اعتَقَد أن الأمر أُنُفٌ، كما زعمت المعتزلة، فسأل أَوَّلًا عن الأمر أهو شيء مقدَّر؟ ثم بدا له، وأضرب عن ذلك، واستأنف، فقال: أهو واقع فيما يُستقبلون به؟، والهمزة للتقرير، فلذلك نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أثبته، وقرّره، وأكّده بـ "بل"، ولو كان السؤال عن التعيين لقال: أشيء قُضي عليهم، أو شيء يستقبلونه بالتكلّم؟ بل غيّر العبارة، وعدل إلى الغَيبة، وعمّم الأمم كلّها، وأنبياءهم، فدلّ ذلك على صحّة ما قلناه، من إضرابه عن السؤال الأول إلى الثاني. انتهى
(1)
.
وقوله: (مِمَّا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ)؛ أي: من الأمر الذي جاءهم النبيّ صلى الله عليه وسلم،، وهو بيان لـ "ما" من قوله:"فيما يُستقبلون"، (وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟) فلزمهم العمل به، قال أبو الأسود:(فَقُلْتُ: بَلْ شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَمَضَى عَلَيْهِمْ، قَالَ) أبو الأسود: (فَقَالَ) عمران رضي الله عنه: (أفَلَا يَكُونُ ظُلْمًا؟)؛ أي: إذا قلت: إن ذلك العمل الذي يكدحون فيه أمرٌ قُضي، وقُدّر عليهم، ولا بدّ لهم منه، فهم مجبرون عليه، فكيف يعذّبهم عليه، ألا يكون ذلك ظلمًا لهم؟.
فقوله: "أفلا يكون ظلمًا" هكذا وقع في نُسخ مسلم، التي بين أيدينا، ووقع في مختصر القرطبيّ بلفظ:"فلا يكون ظلمًا" بغير همزة، فقال القرطبيّ رحمه الله: كذا الرواية بغير ألف استفهام، وهي مرادة؛ إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول، وبه صحّ أن يكون ما أتى به من قوله:"كل شيء خَلْق الله، ومِلْك يده. . ." إلى آخره جوابًا عما سأله عنه، ولو لَمْ يكن الاستفهام مرادًا لكان الكلام نفيًا للظلم، وهو صحيحٌ وحقّ، ولا يُفزع من ذلك، ولا يستدعي جوابًا.
وبيان ما سأله عنه أنه لَمّا تقرّر عنده أن ما يعمل الناس فيه شيء قُضي به عليهم، ولا بُدّ لهم منه، فكأنهم يلجؤون إليه، فكيف يعاقَبون على ذلك؟ فعقابهم على ذلك ظلم، وهذه من شُبَه القدرية المبنيّة على التحسين والتقبيح،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 541.
وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود، وأحسن في الجواب، ومقتضى الجواب: أن الظلم لا يُتصوّر من الله تعالى، فإنَّ الكل خَلْقه، وملكه، لا حَجْر عليه، ولا حكم، فلا يتصوّر في حقّه الظلم؛ لاستحالة شرطه، على ما بيّنّا غير مرّة، ثم عَضَد بقوله: لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون، ولَمّا سَمِع عمران هذا الجواب تحقّق أنه قد وُفِّق للحقّ، وأصاب عين الصواب، فاستحسن ذلك منه، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال؛ ليختبر عقله، وليستخرج علمه، ثم أفاده الحديث المذكور، ومعناه قد تقدّم الكلام عليه. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أبو الأسود: (فَفَزِعْتُ) بكسر الزاي، من باب تَعِب، (مِنْ ذَلِكَ فَزَعًا شَدِيدًا، وَقُلْتُ: كُلُّ شَيْءٍ) مبتدأ خبره قوله: (خَلْقُ اللهِ)؛ أي: مخلوقه، (وَمِلْكُ يَدِهِ)؛ أي: مملوك له، وتحت تصرّفه يفعل فيه ما يشاء، (فَلَا يُسْأَلُ) بالبناء للمفعول؛ أي: لا أحد يسأل الله سبحانه وتعالى (عَمَّا يَفْعَلُ) في عباده من خير، أو شرّ، (وَهُمْ)؛ أي: العباد (يُسْأَلُونَ)؛ أي: يسألهم الله عز وجل عما فعلوه، ولقد أحسن أبو الأسود رحمه الله في الجواب، ومقتضى جوابه أن الظلم لا يُتصوّر من الله عز وجل، فإن الكلّ خَلْقه، وملكه، لا حجر عليه أن يفعل فيهم ما يشاء، فلا يُتصوّر في حقّه الظلم؛ لأنَّ الظلم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، وهم ملكه، ثمّ عضد ذلك بقوله تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، ولما سمع عمران رضي الله عنه هذا الجواب منه أعجبه، واستحسنه منه، وترحّم عليه، كما قال:(فَقَالَ لِي: يَرْحَمُكَ اللهُ) وأخبره أنه إنما سأله امتحانًا له؛ ليختبر ما عنده من عِلم هذا الباب، فقال:(إِنِّي لَمْ أُرِدْ بِمَا سَأَلْتُكَ، إِلَّا لأَحْزُرَ) بتقديم الزاي على الراء، من بابي ضرب، ونصر؛ أي: لأقدّر، وأمتحن (عَقْلَكَ)؛ أي: فهمك، ومعرفتك بالشيء، قال في "القاموس"، و"شرحه": العَقْل: العِلم، وعليه اقتصرَ كثيرون، وفي "العُباب": العَقْل: الحِجْرُ، والنُّهْيَة، ومثلُه في "الصِّحاح"، وفي "المُحكَم": العَقْل: ضِدُّ الْحُمْق، أو هو العِلمُ بصفاتِ الأشياءِ، من حُسنِها وقُبحِها، وكمالِها ونُقصانِها، أو هو العِلمُ بخيرِ الخَيرَيْن، وشَرِّ الشَّرَّيْن، أو مُطلَقٌ لأمورٍ، أو لقُوَّةٍ بها يكون التَّمييزُ بين القُبحِ والحُسن،
(1)
"المفهم" 6/ 662.
ولِمَعانٍ مُجتمِعةٍ في الذِّهْنِ، يكون بمُقَدِّماتٍ يسْتَتِبُّ بها الأغْراضُ، والمَصالِح، ولهَيئَةٍ مَحْمُودةٍ للإنسانِ في حَرَكَاتِه وكَلامِه
(1)
.
وقال الراغب الأصفهانيّ: العَقْلُ، يقال للقُوّةِ المُتَهَيِّئَةِ لقَبولِ العِلم، ويقال للذي يَسْتَنبِطُه الإنسانُ بتلكَ القوّةِ: عَقْلٌ، ولهذا قال عليٌّ رضي الله عنه:
رَأَيْتُ العَقْلَ عَقْلَيْن
…
مَطْبُوعٌ ومَسْمُوعٌ
فلا يَنْفَعُ مَسْمُوعٌ
…
إذا لم يكن مَطْبُوعٌ
كَمَا لا تَنْفَعُ الشَّمْسُ
…
وَضَوْءُ العَينِ مَمْنُوعٌ
(2)
وقال الفيّوميّ رحمه الله: عَقَلْتُ الشيءَ عَقْلًا، من باب ضرب: تدبرته، وعَقِلَ يَعْقَلُ، من باب تَعِب لغة، ثم أُطلق العَقْلُ الذي هو مصدرٌ على الْحِجَا واللُّبّ، ولهذا قال بعض الناس: العَقْلُ: غَرِيزة، يتهيأ بها الإنسان إلى فهم الخطاب، فالرجل عَاقِلٌ، والجمع: عُقَّالٌ، مثلُ كافر وكُفّار، ورُبّما قيل: عُقَلاءُ، وامرأة عَاقِلٌ، وعَاقِلَةٌ، كما يقال فيها: بالغ، وبالغةٌ، والجمع عَوَاقِلُ، وعَاقِلاتٌ. انتهى
(3)
.
ثم ذَكَر عمران بن حُصين رضي الله عنه حجته على تصويب جواب أبي الأسود: فقال: (إِنَّ رَجُلَيْنِ) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
والرجلان لَمْ يُعرفا، كما قال صاحب "التنبيه"
(4)
. (مِنْ مُزَيْنَةَ) بضمّ الميم، بصيغة التصغير، كجُهينة، وهي مزينة بنت كلب بن وبرة، أم عثمان، وأوس ابني عمرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، وهم قبيلة كبيرة، قاله في "اللباب"
(5)
. (أَتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ الْيَوْمَ)؛ أي: أخبرنا عن العمل الذي يعمله الناس اليوم؛ أي: في هذه
(1)
"تاج العروس" ص 7339.
(2)
"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهانيّ ص 577 - 578.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 423.
(4)
"تنبيه المعلم" ص 438.
(5)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 205.
الدنيا، (وَيَكْدَحُونَ فِيهِ) تقدّم أنه من مَنَع؛ أي: يسعون، ويجتهدون في تحصيله، (أَشَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ) بالبناء للمفعول؛ أي: قُدّر عليهم في الأزل، (وَمَضَى فِيهِمْ) بالبناء للفاعل؛ أي: نفذ فيهم في هذه الدنيا، وقوله:(مِنْ قَدَرِ) بيان لـ "شيء"، وقوله:(قَدْ سَبَقَ) صفة لـ "قدَر"، (أَو فِيمَا يُسْتَقْبَلُونَ بِهِ) بالبنَاء للمفعول؛ أي: أو هو في الشيء الذي يُستأنَفُون به، مما يؤمرون به الآن دون سبق تقدير به؟ (مِمَّا أتَاهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ) صلى الله عليه وسلم (وَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ؟) بتبليغه لهم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("لَا)؛ أي: ليس عملهم فيما يُستقبلون به الآن، (بَلْ) هو (شَيْءٌ قُضِيَ عَلَيْهِمْ) أزلًا، (وَمَضَى فِيهِمْ) الآن، (وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ)؛ أي: ما يصدّقه، فـ "تصديق" مبتدأ، خبره قوله:(فِي كتَابِ اللهِ عز وجل وقوله سبحانه وتعالى: ({وَنَفسٍ} [الشمس: 7]) بدل من الخبر، أو "في كتاب الله" متعلِّق بـ "تصديق"، والخبر قوله:{وَنَفسٍ} [الشمس: 7] الواو فيه للقَسَم، و {نَفسٍ} [الشمس: 7] مجرور بالواو؛ أي: أُقسم بنفس، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: {وَنَفسٍ} قَسَم بنفوس بني آدم، وأفردها لأن مراده النوع، وهذا نحو قوله:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)} [الانفطار: 5]؛ أي: كلّ نفس، كما قال:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38]، إلا ترى قوله:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} ؛ أي: حَمَلها على ما أراد من ذلك، فمنها ما خُلق للخير، وأعانها عليه، ويسّره لها، ومنها ما خُلق للشرّ، ويسّره لها، وهو الموافق للحديث المتقدّم المصدّق بالآية
(1)
.
وقوله: ({وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7، 8] ")؛ أي: أعلمها طاعتها، ومعصيتها، وأفهمها أن أحدهما حسنٌ، والآخر قبيح.
وقال القرطبيّ: {وَمَا سَوَّاهَا} ؛ أي: والذي سوّاها، وقد قدمنا أن "ما" في أصلها لِمَا لا يُعقل، وقد تجيء بمعنى الذي، وهي تقع لمن يعقل ولما لا يعقل، والتسوية: التعديل؛ يعني: أنه خلقها مكمّلة بكل ما تحتاج إليه، مُؤهَّلة لقبول الخير والشر، غير أنه يجري عليها في حال وجودها، ومآلها ما سبق لها مما قُضي به عليها. انتهى
(2)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ في "تفسيره": قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)} ، قيل: المعنى: وتسويتها، فـ "ما": مصدريّة، وقيل: المعنى: ومن
(1)
"المفهم" 6/ 662 - 663.
(2)
"المفهم" 6/ 663.
سواها، وهو الله عز وجل، وفي النفس قولان: أحدهما آدم عليه السلام، والثاني: كلُّ نفس منفوسة، وسوّى: بمعنى هيّأ، وقال مجاهد: سوّاها: سوّى خَلْقها، وعَدّل، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القَسَم، أَقسم جل ثناؤه بخَلْقه؛ لِمَا فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه، وقوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} ؛ أي: عرّفها، كذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد: أي: عرّفها طريق الفجور والتقوي، وقاله ابن عباس، وعن مجاهد أيضًا: عرّفها الطاعة والمعصية، وعن محمد بن كعب قال: إذا أراد الله عز وجل بعبده خيرًا، ألهمه الخير، فعمل به، وإذا أراد به السوء، ألهمه الشر، فعمل به، وقال الفراء:{فَأَلْهَمَهَا} : عرّفها طريق الخير، وطريق الشرّ، كما قال:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)} [البلد: 10]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره. وعن سعيد، عن قتادة قال: بَيَّن لها فجورها، وتقواها، والمعنى متقارب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حُصين رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6716](2650)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 438)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(30/ 211)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(174)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(950)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 223)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6182)، و (ابن عبد البرّ) في "التمهيد"(6/ 11 - 12)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(1/ 206) و"الاعتقاد"(ص 138)، و (البغويّ) في "معالم التنزيل"(4/ 438)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن القدر سرّ من أسرار الله سبحانه وتعالى، لا يعلم حقيقته إلا الله
(1)
"تفسير القرطبيّ" 20/ 75.
تعالى، فيجب الإيمان به، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: قال العلماء والحكماء قديمًا: القدر سرّ الله، فلا تنظروا فيه، فلو شاء الله ألا يُعْصَى ما عصاه أحد، فالعباد أدقّ شأنًا، وأحقر من أن يعصوا الله إلا بما يريد، وقد روي عن الحسن أنه قال: لو شاء الله أن لا يُعْصَى ما خلق إبليس. وقال مطرِّف بن الشِّخِّير: لو كان الخير في يد أحد ما استطاع أن يجعله في قلبه، حتى يكون الله عز وجل هو الذي يجعله فيه، قال: وجدت ابن آدم مُلْقًى بين يدي الله والشيطان، فإن اختاره الله إليه نجا، وإن خلّى بينه وبين الشيطان ذهب به، ولقد أحسن القائل، حيث قال:
لَيْسَ لِلَّهِ الْعَظِيمِ نِدُّ
…
وَهَذِهِ الأَقْدَارُ لَا تُرَدُّ
لَهُنَّ وَقْتٌ وَلَهُنَّ حَدُّ
…
مُؤَخَّرٌ بَعْضٌ وَبَعْضٌ نَقْدُ
وَلَيْسَ مِنْ هَذَا وَهَذَا بُدُّ
…
وَلَيْسَ مَحْتُومًا لِحَيٍّ خُلْدُ
وفي الحديث المرفوع: "إذا أراد الله عز وجل بعبد خيرًا سلك في قلبه اليقين، والتصديق، وإذا أراد الله عز وجل بعبده شرًّا سلك في قلبه الرِّيبة، والتكذيب"
(1)
، وقال الله عز وجل:{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الحجر: 12، 13] وقال الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقال:{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، وقال الله عز وجل:{إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155].
وقال الفضل الرقاشيّ لإياس بن معاوية: يا أبا واثلة ما تقول في هذا الكلام الذي أكثر الناس فيه؟ يعني: القدر، قال: إن أقررت بالعلم خُصمت، وإن أنكرت كفرت، وقال الأوزاعيّ رحمه الله: هلك عبادنا، وخيارنا في هذا الرأي؛ يعني: القدر، وسَمِع ابن عباس رجلين يختصمان في القدر، فقال: ما منكما إلا زائغ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن الحسن بن محمد ابن الحنفية قال: أول ما تكلم به القدرية أن جاء رجل، فقال: كان من
(1)
لَمْ يخرجه أبو عمر، ولا عزاه إلى مصدر، فالله أعلم بصحّته.
قدر الله عز وجل أن شَرَرَةً طارت، فأحرقت الكعبة، فقال آخر: ليس من قدر الله أن يُحرق الكعبة.
قال أبو عمر: قد أكثر أهل الحديث من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون فيه من الكلام والجدال، وأما أهل السُّنَّة فمجتمعون على الإيمان بالقدر، على ما جاء في هذه الآثار، ومثله من ذلك، وعلى اعتقاد معانيها، وتَرْك المجادلة فيها.
ثم أخرج بسنده عن حسن بن عليّ قال: رُفع الكتاب، وجَفّ القلم، وأمور تقضى في كتاب قد خلا، وأخرج عن المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: أمَا والله لو كُشف الغطاء لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد، وروى حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد قال: كان الحسن إذا قرأ هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] قال: علم الله عز وجل كل نفس ما هي عاملة، وإلى ما هي صائرة، وروى أبو حاتم السجستانيّ عن الأصمعيّ قال: سألت أعرابيًّا عن القدر، فقال: ذلك علم اختصمت فيه الظنون، وتغالب فيه المختلفون، والواجب علينا أن نرُدّ ما أشكل علينا مَن حُكمه إلى ما سبق فيه مِن عِلمه.
قال أبو عمر: أحسن ما رأيت رجزًا في معنى القدر قول ذي النون إبراهيم الإخميني:
قَدَّرَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ
…
وَلَمْ يُطْلِعْ عَلَى عِلْمِ غَيْبِهِ بَشَرَا
وَيَرَى مِنَ الْعِبَادِ مُنْفَرِدًا
…
مُحْتَجِبًا فِي السَّمَاءِ لَيْسَ يُرَى
ثُمَّ جَرَى بِالَّذِي قَضَى قَلَمٌ
…
أَجْرَاهُ فِي اللَّوْحِ رَبُّنَا فَجَرَى
لَا خَيْرَ فِي كَثْرَةِ الْجِدَالِ وَلَا
…
فِي مَنْ تَعَدَّى فَأَنْكَرَ الْقَدَرَا
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ لَنْ يَضِلَّ وَمَنْ
…
يُضْلِلْ فَلَنْ يَهْتَدِي وَقَدْ خَسِرَا
دَعْوَتُهُ لِلْعِبَادِ شَامِلَةٌ
…
وَخَصَّ بِالْخَيْرِ مِنْهُمْ نَفَرَا
قال أبو عمر: قد اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، فرُوي عن ابن عباس: إلا ليعبدوني قال: ليقرّوا بالعبودية طوعًا وكرهًا، وقال مجاهد، وابن جريج: إلا ليعرفوني، وقال الضحاك بن مُزاحم: هي آية عظيمة عامّة في المنطق، خاصّة في
المؤمنين، وقال الشافعيّ: هي خاصة؛ يعني: أنه خَلَق الأنبياء والمؤمنين لعبادته، قال: والدليل على خصوصها قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، فلن يكون بخلقه مشيئة إلا أن يشاء الله.
ومن أحسن ما قيل من النظم في قِدَم العمل، وأن ما يكون من خَلْق الله فقد سبق العلم به، وجَفّ القلم به، وأنه لا يكون في مُلكه إلا ما يشاء، لا ما يشاء غيره: قول الشافعيّ، رويناه من طُرُق عن المزنيّ، وعن الربيع عنه أنه قال في أبيات له [من المتقارب]:
فَمَا شِئْتَ كَانَ وَإِنْ لَمْ أَشَأْ
…
وَمَا شِئْتُ إِنْ لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُن
خَلَقْتَ الْعِبَادَ عَلَى مَا عَلِمْتَ
…
وَفِي الْعِلْمِ يَجْرِي الْفَتَى وَالْمُسِنّ
عَلَى ذَا مَنَنْتَ وَهَذَا خَذَلْتَ
…
وَهَذَا أَعَنْتَ وَذَا لَمْ تُعِنْ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَمِنْهُمْ سَعِيدٌ
…
وَمِنْهُمْ قَبِيحٌ وَمِنْهُمْ حَسَنْ
وَمِنْهُمْ فَقِيرٌ وَمِنْهُمْ غَنِيٌّ
…
وَكُلٌّ بِأَعْمَالِهِ مُرْتَهَنْ
قال أبو عمر: كلُّ ما في هذه الأبيات مُعْتَقَد أهل السُّنَّة، ومذهبهم في القدر، لا يختلفون فيه، وهو أصل ما يَبْنُون في ذلك عليه. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان جواز اختبار العالم عقول أصحابه الفضلاء بمشكلات المسائل، وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "كتاب العلم" من "صحيحه":"باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم"، ثم أورد محتجًّا على ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن من الشجر شجرةً، لا يسقط ورقها، وإنها مَثَل المسلم، حدّثوني ما هي؟ ". قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حَدَّثَنَا ما هي يا رسول الله؟ قال: "هي النخلة". انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): استحباب الثناء على من أجاب عن السؤال إذا أصاب.
4 -
(ومنها): أن الحديث بيّن أن النفس التي قُضي عليها سابقًا ستعمل لاحقًا بما سبق لها، إما من أهل السعادة، فتعمل عمل أهل السعادة الذي به تدخل الجَنَّة، وإما من أهل الشقاوة، فتعمل عمل أهل الشقاوة الذي به تدخل
(1)
الاستذكار" 8/ 262 - 264.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 34.
النار، كما قال تعالى:"هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجَنَّة يعملون، وهؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون، فطوبى لمن قَضيت له بالخير، ويسّرته عليه، والويل لمن قضيت عليه بالشر، ويسّرته له"، وما أحسن قول من قال: قِسَمٌ قُسِمت، ونعوت أُجريت، كيف تُجتلب بحركات، أو تنال بسعايات؟! ومع ذلك فغَيَّب الله عنا المقادير، ومكّننا من الفعل والترك رفعًا للمعاذير، وخاطبنا بالأمر والنهي خطاب المستقلين، ولم يجعل التمسك بسابق القدر حجة للمقصرين، ولا عذرًا للمعتذرين، وعلّق الجزاء على الأعمال، وجعلها له سببًا، فقال تعالى:{وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]، وبـ {مَا عَمِلَتْ} [آل عمران: 30]، وقال في أهل الجنّة:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وقال في أهل النار:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 28]، وقال:{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وقال على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم:"يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، ثم أوفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تبارك وتعالي، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"، رواه مسلم، وكلّ ذلك ابتلاء من الله تعالى، وامتحان، فيجب التسليم له، والإذعان، أفاده القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6717]
(2651) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ
(2)
بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.
(1)
"المفهم" 6/ 663 - 664.
(2)
وفي نسخة: "ثم يختم عمله" في الموضعين.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ المدنيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرَّحمن الحرقيّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُوهُ) عبد الرَّحمن بن يعقوب الْحُرقيّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، قد مضى القول فيه غير مرّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ) بنصب الزمن" على الظرفيّة، وهو متعلّق بـ "يعمل"، والمراد بالزمن الطويل: هو مدة العمر. (بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وهو العمل الصالح، (ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ) ببناء الفعل للمفعول، ووقع في بعض النّسخ بإسقاط لفظة "له" في الموضعين. (بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ)؛ أي: يعمل عمل أهل النار في آخر عمره، فيدخلها. (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ")؛ أي: يعمل عمل أهل الجَنَّة في آخر عمره، فيدخلها، واقتَصَر هنا على هذين، مع أن الأقسام أربعة؛ لظهور حكم القسمين الآخرين، وهما: مَن عَمِل بعمل أهل الجَنَّة والنار من أول عمره إلى آخره، وقد اختلف السلف، فمنهم من راعى حكم السابقة، وجعلها نصب عينه، ومنهم من راعى حكم الخاتمة، وجعلها نصب عينه، قيل: والأول أَولى؛ لأنه تعالى سبق في عمله الأزليّ سعيد العالَمِ، وشقيّه، ثم رَتَّب على هذا السبق الخاتمة عند الموت، بحسب صلاح العمل، وفساده عندها، وعلى الخاتمة سعادة الآخرة، وشقاوتها
(1)
.
وفي الحديث أن الخاتمة مرتبطة بالسابقة، وفيه أنه سبحانه وتعالى لا يجب عليه
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 2/ 331.
الأصلح، خلافًا للمعتزلة، وأنه يعلم الجزئيات، خلافًا للحكماء، وأن الخير والشر بتقديره، خلافًا للقدريّة، وأن الحسنات والسيئات أمارات، لا موجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر، وأن العمل السابق غير معتبَر، بل الذي خُتم به، وفيه حَثّ على لزوم الطاعات، ومراقبة الأوقات؛ خشيةَ أن يكون ذلك آخر عمره، وزَجْرٌ عن العُجْب، والفرح بالأعمال، فرُبّ مُتّكل مغرور، فإن العبد لا يدري ما يصيبه في العاقبة، وأنه ليس لأحد أن يشهد لأحد بالجنة، أو النار، وأنه تعالى يتصرَّف في ملكه بما يشاء، وكله عدلٌ وصواب، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، فما أخرجه من أصحاب الأصول غيره.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6717](2651)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 484 - 485)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6176)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(218)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6718]
(112)
(1)
- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ
(2)
، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) بتشديد التحتانية، هو: يعقوب بن
(1)
هذا تقدّم، فهو مكرّر.
(2)
وفي نسخة: "ليعمل عمل الجنّة".
عبد الرَّحمن بن محمد بن عبد الله بن عبدٍ القاريّ المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهرة، ثقة [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
2 -
(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار، الأعرج التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5] مات في خلافة المنصور (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
3 -
(سَهْلُ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاوز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.
و"قتيبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (415) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ)
بضم الجيم، وفيه لغة بسكونها، وذِكْر الرجل وصفٌ طرديّ، والمراد: المكلّف رجلًا، أم امرأة، إنسيًّا أم جنيًّا، وكذا يقال فيما بعده
(1)
. (لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وفي نسخة: "ليعمل عمل الجنّة"، (فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ)؛ أي: فيما يظهر من أمره للناس، وفيما يشاهدونه من حاله، (وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ) جملة حاليّة، وهذا محمول على المنافق، والمرائي، بخلاف ما تقدّم فإنه يتعلق بسوء الخاتمة.
وقال الزركشيّ: قوله: "فيما يبدو للناس" زيادة حسنة -أي: يظهر للناس- ترفع الإشكال من الحديث، وهو من أهل النار بسبب دسيسة باطنة لا يطّلع الناس عليها، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار، من المعاصي فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجَنَّة؛ لخصلةِ خير خفيّة تغلب عليه آخر عمره، فتوجب حسن الخاتمة، أما باعتبار ما في نفس الأمر فالأول لَمْ يصحّ له عمل قطّ؛ لأنه
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 330.
كافر باطنًا، وأما الثاني فعمله الذي لا يحتاج لنية صحيحٌ، وما يحتاجها باطلٌ من حيث عدم وجودها
(1)
. (وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو)؛ أي: يظهر (لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ") قال النوويّ رحمه الله: فيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها، ولا يركن إليها؛ مخافة من انقلاب الحال للقَدَر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط، ولغيره أن لا يُقَنِّطه من رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف مطوّلًا في "كتاب الإيمان" برقم [50/ 313](112)، ومضى البحث فيه هناك مستوفًى، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
(2) - (بَابُ حِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى (عليهما السلام
-)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6719]
(2652) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، جَمِيعًا عنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ حَاتِمٍ، وَابْنِ دِينَارٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَي، فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أنتَ أَبُونَا، خَيَّبْتَنَا، وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَني بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ "، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى"، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَابْنِ عَبْدَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا: خَطَّ، وَقَالَ الآخَرُ: كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ).
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 330.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارِ) البغداديّ، أبو إسحاق التمّار، ثقةٌ [10](ت 232)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.
5 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(عَمْرُو) بن دينار الأثرم المكيّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
7 -
(طَاوُسُ) بن كيسان الْحِمْيَريّ مولاهم اليمانيّ، أبو عبد الرَّحمن الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] مات سنة ست ومائة، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
8 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ، قرن بينهم؛ ثم فصّل؛ لِمَا تقدّم غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو) بن دينار، وقال البخاريّ: حَدَّثَنَا عليّ بن عبد الله، حَدَّثَنَا سفيان، قال: حَفِظناه من عمرو. . .، ووقع في "مسند الحميديّ": عن سفيان، حَدَّثَنَا عمرو بن دينار. (عَنْ طَاوُسٍ) في رواية أحمد: عن سفيان، عن عمرو، سمع طاوسًا، وعند الإسماعيليّ من طريق محمد بن منصور الخراز، عن سفيان، عن عمرو بن دينار، سمعت طاوسًا (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.
[تنبيه]: قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث ثابت بالاتفاق،
رواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين، ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم من وجوه أخرى، من رواية الأئمة الثقات الأثبات.
قال الحافظ: وقع لنا من طريق عشرة عن أبي هريرة، منهم طاوس في "الصحيحين"، والأعرج عند مسلم، من رواية الحارث بن أبي الذباب، وعند النسائيّ عن عمرو بن أبي عمرو، كلاهما عن الأعرج، وأبو صالح السمّان عند الترمذيّ، والنسائيّ، وابن خزيمة، كلهم من طريق الأعمش، عنه، والنسائيّ أيضًا، من طريق القعقاع بن حكيم، عنه، ومنهم أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، عند أحمد، وأبي عوانة، من رواية الزهريّ، عنه، وقيل: عن الزهريّ عن سعيد بن المسيِّب، وقيل: عنه، عن حميد بن عبد الرَّحمن، ومن رواية أيوب بن النجار، عن أبي سلمة في "الصحيحين" أيضًا، ومن رواية محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عند ابن خزيمة، وأبي عوانة، وجعفر الفريابيّ في "القدر"، ومن رواية يحيى بن أبي كثير، عنه، عند أبي عوانة، ومنهم حميد بن عبد الرَّحمن، عن أبي هريرة في "الصحيحين"، ومنهم محمد بن سيرين، عندهما أيضًا، ومنهم الشعبيّ، أخرجه أبو عوانة، والنسائيّ، ومنهم همام بن منبه، أخرجه مسلم، ومنهم عمار بن أبي عمار، أخرجه أحمد.
وممن رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: عمر، عند أبي داود، وأبي عوانة، وجندب بن عبد الله، عند النسائيّ، وأبو سعيد، عند البزار، وأخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والحارث من وجه آخر عنه، وقد أشار إلى هذه الثلاثة الترمذيّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى)؛ أي: اختصما، وفي رواية همّام ومالك:"تحاجّ"، وهي أوضح، وفي رواية أيوب بن النجار، ويحيى بن كثير:"حَجَّ آدم وموسى"، وعليها شَرَح الطيبيّ، فقال: معنى قوله: "حج آدم وموسى": غلبه بالحجة، وقوله بعد ذلك:"قال موسى: أنت آدم إلخ" توضيح لذلك، وتفسير لِمَا أُجمل، وقوله في آخره:"فحج آدم موسى" تقرير لِمَا سبق، وتأكيد له، وفي رواية يزيد بن هرمز:"عند ربهما"، وفي رواية محمد بن
(1)
"الفتح" 15/ 231 - 232، كتاب "القدر" رقم (6614).
سيرين: "التقى آدم وموسى"، وفي رواية عمار والشعبيّ:"لقي آدم موسى"، وفي حديث عمر:"لقي موسى آدم"، كذا عند أبي عوانة، وأما أبو داود فلفظه:"قال موسى: يا رب أرني آدم".
[تنبيه]: قد اختَلَف العلماء في وقت هذا التحاجّ، فقيل: يَحْتَمِل أنه في زمان موسى، فأحيا الله له آدم عليه السلام معجزةً له، فكلَّمه، أو كُشف له عن قبره، فتحدثا، أو أراه الله روحه، كما أرى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج أرواح الأنبياء، أو أراه الله له في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي، ولو كان يقع في بعضها ما يقبل التعبير، كما في قصّة الذبيح، أو كان ذلك بعد وفاة موسى، فالتقيا في البرزخ، أولَ ما مات موسى، فالتقت أرواحهما في السماء، وبذلك جزم ابن عبد البرّ، والقابسيّ، وقد وقع في حديث عمر رضي الله عنه: لَمّا قال موسى: أنت آدم، قال له: من أنت؟ قال: أنا موسى، وأن ذلك لم يقع بعدُ، وإنما يقع في الآخرة، والتعبير عنه في الحديث بلفظ الماضي؛ لتحقُّق وقوعه.
وذكر ابن الجوزيّ احتمال التقائهما في البرزخ، واحتمال أن يكون ذلك ضَرْبُ مَثَلٍ، والمعنى: لو اجتمعا لقالا ذلك، وخُصَّ موسى بالذِّكْر؛ لكونه أول نبي بُعِث بالتكاليف الشديدة، قال: وهذا وإن احْتَمَل، لكن الأول أَولي، قال: وهذا مما يجب الإيمان به؛ لثبوته عن خبر الصادق، وإن لم يُطَّلَع على كيفية الحال، وليس هو بأول ما يجب علينا الإيمان به، وإن لم نَقِف على حقيقة معناه، كعذاب القبر، ونعيمه، ومتى ضاقت الحيل في كشف المشكلات لم يبق إلا التسليم.
وقال ابن عبد البرّ: مِثْلُ هذا عندي يجب فيه التسليم، ولا يوقف فيه على التحقيق؛ لأنا لَمْ نؤتَ من جنس هذا العلم إلا قليلًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما أحسن قول ابن الجوزيّ، وابن عبد البرّ رحمه الله في هذا، وأجمله؛ فإن الواجب علينا في مثل هذا الإيمان به، وعدم الخوض في كونه متى كان؟، وأين كان؟، ولم كان؟، فكلّ هذه نكلها إلى العالم
(1)
"الفتح" 15/ 232 - 233، كتاب "القدر" رقم (6614).
الخبير، ونصدّق، ونسلّم ما جاءنا عنه على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ ثبِّتنا على دينك، آمين.
(فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا) الاستفهام تقريريّ، وفي رواية يحيى بن أبي كثير:"أنت أبو الناس"، وكذا في حديث عمر، وفي رواية الشعبيّ:"أنت آدم، أبو البشر". (خَيَّبْتَنَا) بالخاء المعجمة، ثم الموحّدة، من الخيبة، والمراد به: الحرمان، وقيل: هي كـ "أغويتنا" من إطلاق الكل على البعض، والمراد: من يجوز منه وقوع المعصية، ولا مانع من حَمْله على عمومه، والمعنى: أنه لو استمرّ على تَرْك الأكل من الشجرة لَمْ يخرج منها، ولو استمرّ فيها لوُلد له فيها، وكان وَلَده سكان الجَنَّة على الدوام، فلمّا وقع الإخراج فاتَ أهل الطاعة من وَلَدِه استمرار الدوام في الجَنَّة، وإن كانوا إليها ينتقلون، وفاتَ أهل المعصية تأخر الكون في الجَنَّة مدة الدنيا، وما شاء الله من مدة العذاب في الآخرة، إما مؤقتًا في حقّ الموحدين، وإما مستمرًّا في حقّ الكفار، فهو حرمان نسبيّ
(1)
.
(وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ) معنى: "أخرجتنا" كنت سببًا لإخراجنا جميعًا، فهو على عمومه، بخلاف رواية:"أغويتنا"، و"أهلكتنا" فهما من إطلاق الكل على البعض.
وفي رواية حميد بن عبد الرَّحمن: "أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجَنَّة"، وفي رواية عنه:"أخرجت ذريتك"، وفي رواية مالك:"أنت الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجَنَّة"، ومثله في رواية همام، وكذا في رواية أبي صالح، وفي رواية محمد بن سيرين:"أشقيت" بدل "أغويت".
ومعنى "أغويت": كنت سببًا لغوَاية مَن غَوَى
(2)
منهم، وهو سبب بعيد؛ إذ لو لَمْ يقع الأكل من الشجرة لَمْ يقع الإخراج من الجَنَّة، ولو لَمْ يقع الإخراج ما تسلَّط عليهم الشهوات والشيطان المسبَّب عنهما الإغواء، والغَيّ ضدّ الرَّشَد، وهو الانهماك في غير الطاعة، ويُطْلق أيضًا على مجرد الخطأ، يقال: غَوَى؛ أي: أخطأ صواب ما أُمر به.
(1)
"الفتح" 15/ 235.
(2)
من باب ضرب: انهمك في الجهل، وهو خلاف الرشد. اهـ. "المصباح" 2/ 457.
وفي رواية أبي سلمة: "أنت الذي أخرجت الناس من الجَنَّة بذنبك"، وعند أحمد من طريقه:"أنت الذي أدخلت ذريتك النار"، والقول فيه كالقول في "أغويت"، وزاد همام:"إلى الأرض"، وكذا في رواية يزيد بن هرمز:"فأهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض"، وأوله عنده:"أنت الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته"، ومثله في رواية أبي صالح، لكن قال:"ونفخ فيك من روحه"، ولم يقل:"وأسجد لك ملائكته"، ومثله في رواية محمد بن عمرو، وزاد:"وأسكنك جنته"، ومثله في رواية محمد بن سيرين، وزاد:"ثم صنعت ما صنعت"، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج:"يا آدم خلقك الله بيده، ثم نفخ فيك من روحه، ثم قال لك: كن، فكنت، ثم أمر الملائكة، فسجدوا لك، ثم قال لك: اسكن أنت وزوجك الجَنَّة، وكلا منها رغدًا حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فنهاك عن شجرة واحدة، فعصيت"، وزاد الفريابيّ:"وأكلت منها"، وفي رواية عكرمة بن عمار، عن أبي سلمة:"أنت آدم الذي خلقك الله بيده"، فأعاد الضمير في قوله:"خلقك" إلى قوله: "أنت"، والأكثر عَوْده إلى الموصول، فكأنه يقول: خلقه الله، ونحو ذلك ما وقع في رواية الأكثر:"أنت الذي أخرجتك خطيئتك"، وفي حديث عمر بعد قوله:"أنت آدم؟ قال: نعم، قال: أنت الذي نفخ الله فيك من روحه، وعلَّمك الأسماء كلها، وأمَر الملائكة، فسجدوا لك؟، قال: نعم، قال: فلِمَ أخرجتنا، ونفسك من الجَنَّة؟ " وفي لفظ لأبي عوانة: "فوالله لولا ما فعلت ما دخل أحد من ذريتك النار"، ووقع في حديث أبي سعيد عند ابن أبي شيبة:"فأهلكتنا، وأغويتنا، وذَكر ما شاء الله أن يذكر من هذا"، وهذا يُشعر بأن جميع ما ذكر في هذه الروايات محفوظ، وأن بعض الرواة حَفِظ ما لَمْ يحفظ الآخر
(1)
.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لموسي، (آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللهُ بِكَلَامِه، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ) وفي رواية الأعرج:"أنت موسى الذي أعطاك الله عِلم كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته"، وفي رواية همام نحوه، لكن بلفظ:"اصطفاه" و"أعطاه"، وزاد في رواية يزيد بن هرمز: "وقَرّبك نَجِيًّا، وأعطاك الألواح، فيها
(1)
"الفتح" 15/ 235.
بيان كل شيء"، وفي رواية ابن سيرين: "اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة"، وفي رواية أبي سلمة: "اصطفاك الله برسالته وكلامه"، ووقع في رواية الشعبيّ: "فقال: نعم"، وفي حديث عمر: "قال: أنا موسى، قال: نبِيّ بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أنت الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولًا من خلقه؟ قال: نعم".
(أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللهُ عَلَيَّ) وفي رواية: "على أمر قدّر الله عليّ" بحذف المفعول، (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ ") وفي رواية يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة:"فكيف تلومني على أمر كتبه الله، أو قدّره الله عليّ" ولم يذكر المدّة، وثبَت ذِكرها في رواية طاوس، وفي رواية محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، ولفظه:"فكم تجد في التوراة أنه كُتب عليّ العمل الذي عملته قبل أن أُخلق؟ قال: بأربعين سنة، قال: فكيف تلومني عليه؟ " وفي رواية يزيد بن هرمز نحوه، وزاد:"فهل وجدت فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]؟ قال: نعم".
قال الحافظ: وكلام ابن عبد البرّ قد يوهم تفرد ابن عيينة عن أبي الزناد بزيادتها، لكنه بالنسبة لأبي الزناد، وإلا فقد ذكر التقييد بالأربعين غير ابن عيينة، كما تري، وفي رواية الزهريّ عن أبي سلمة، عند أحمد:"فهل وجدت فيها -يعني: الألواح، أو التوراة- أني أُهبط؟ "، وفي رواية الشعبيّ:"أفليس تجد فيما أنزل الله عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها؟، قال: بلى"، وفي رواية عمار بن أبي عمار:"أنا أقدم أم الذِّكر؟ قال: بل الذِّكر"، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج:"ألم تعلم أن الله قدّر هذا عليّ قبل أن يخلقني"، وفي رواية ابن سيرين:"فوجدته كَتَب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم"، وفي رواية أبي صالح:"فتلومني في شيء كتبه الله عليّ قبل خلقي؟ "، وفي حديث عمر:"قال: فلِمَ تلومني على شيء سَبَق من الله تعالى فيه القضاء"، ووقع في حديث أبي سعيد الخدريّ:"أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ ".
والجمع بينه وبين الرواية المقيدة بأربعين سنة: حمْلها على ما يتعلق بالكتابة، وحَمْل الأخرى على ما يتعلق بالعلم.
وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكون المراد بالأربعين سنة: ما بين قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] إلى نفخ الروح في آدم.
وأجاب غيره: أن ابتداء المدّة وقت الكتابة في الألواح، وآخرها ابتداء خلق آدم.
وقال ابن الجوزيّ: المعلومات كلها قد أحاط بها عِلم الله القديم قبل وجود المخلوقات كلها، ولكن كتابتها وقعت في أوقات متفاوتة.
وقد ثبت في "الصحيح"؛ يعني: "صحيح مسلم": "أن الله قدّر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، فيجوز أن تكون قصة آدم بخصوصها كُتبت قبل خلقه بأربعين سنة، ويجوز أن يكون ذلك القَدْر مدّة لَبْثه طينًا إلى أن نُفخت فيه الروح، فقد ثبت في "صحيح مسلم" أن بين تصويره طينًا، ونفخ الروح فيه كان مدّة أربعين سنةً، ولا يخالف ذلك كتابة المقادير عمومًا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
وقال المازريّ: الأظهر أن المراد: أنه كَتَبه قبل خلق آدم بأربعين عامًا، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أظهره للملائكة، أو فعل فعلًا ما أضاف إليه هذا التاريخ، وإلا فمشيئة الله، وتقديره قديم، والأشبه أنه أراد بقوله:"قَدَّره الله عليّ قبل أن أُخلق"؛ أي: كتبه في التوراة؛ لقوله في الرواية المشار إليها قبلُ: "فكم وجدته كُتب في التوراة قبل أن أُخلق؟ ".
وقال النوويّ: المراد بتقديرها: كَتْبه في اللوح المحفوظ، أو في التوراة، أو في الألواح، ولا يجوز أن يراد أصل القَدَر؛ لأنه أزليّ، ولم يزل الله سبحانه وتعالى مريدًا لِمَا يقع من خَلْقه، وكان بعض شيوخنا يزعم أن المراد: إظهار ذلك عند تصوير آدم طينًا، فإن آدم أقام في طينته أربعين سنة، والمراد على هذا بخلقه: نَفْخ الروح فيه.
قال الحافظ: وقد يعكر على هذا رواية الأعمش، عن أبي صالح:"كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السماوات والأرض"، لكنه يُحمل قوله فيه:"كتبه الله عليّ": قدّره، أو على تعدُّد الكتابة؛ لتعدُّد المكتوب، والعلم عند الله تعالى.
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى)؛ أي: غلبه بالحجة، يقال: حاججت فلانًا، فحججته، مثل خاصمته، فخصمته. (فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى") هكذا هنا مكرّرًا
مرّتين، وفي رواية للبخاريّ:"فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثًا"، قال في "الفتح": كذا في هذه الطرق، ولم يُكَرَّر في أكثر الطرق عن أبي هريرة، ففي رواية أيوب بن النجار كالذي هنا، لكن بدون قوله:"ثلاثًا"، وكذا لمسلم من رواية ابن سيرين، وكذا في حديث جندب، عند أبي عوانة، وثبت في حديث عمر بلفظ:"فاحتجّا إلى الله، فحج آدم موسى، قالها ثلاث مرات"، وفي رواية عمرو بن أبي عمرو، عن الأعرج:"لقد حجّ آدم موسى، لقد حجّ آدم موسى، لقد حج آدم موسى"، وفي حديث أبي سعيد عند الحارث:"فحج آدم موسى ثلاثًا"، وفي رواية الشعبيّ عند النسائيّ:"فخَصَم آدم موسى، فخَصَم آدم موسى".
واتفق الرواة، والنقَلة، والشرّاح على أن "آدم" بالرفع، وهو الفاعل، وشذّ بعض الناس، فقرأه بالنصب، على أنه المفعول، وموسى في محل الرفع على أنه الفاعل، نَقَله الحافظ أبو بكر بن الخاصية، عن مسعود بن ناصر السجزي الحافظ، قال: سمعته يقرأ: "فحج آدَمَ" بالنصب، قال: وكان قدريًّا. قال الحافظ: هو محجوج بالاتفاق قبله على أن آدم بالرفع، على أنه الفاعل، وقد أخرجه أحمد من رواية الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بلفظ:"فحجه آدم"، وهذا يرفع الإشكال، فإن رواته أئمة حفّاظ؛ والزهريّ من كبار الفقهاء الحفاظ، فروايته هي المعتمَدة في ذلك
(1)
.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ) محمد بن يحيى (بْنِ أَبِي عُمَرَ) الْعَدنيّ، ثمّ المكيّ، (وَ) أحمد (بْنِ عَبْدَةَ) الضبّيّ، (قَالَ أَحَدُهُمَا: خَطَّ، وَقَالَ الآخَرُ: كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ) غرضه أن شيخيه ابن أبي عمر، وابن عبدة اختلفا في هذا اللفظ من الحديث، فقال أحدهما، ولم يعيّنه: خطّ لك التوارة بيده، وقال الآخر: "كتب لك التوراة بيده، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 15/ 235 - 237، كتاب "القدر" رقم (6614).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6719 و 6720 و 6721 و 6722 و 6723 و 6724](2652)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3409) و"التفسير"(4736 و 4738) و"التوحيد"(7515)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4701)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2134)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 285 و 330 و 394 و 406 و 444)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 39)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 898)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 113)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 264 و 268 و 398)، و (ابنه عبد الله) في "السُّنَّة"(701)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 172)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 457)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 9 و 54 و 55)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(139 و 140 و 146 و 147 و 148 و 149 و 150 و 151 و 152 و 157 و 158 و 159 و 160)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 324)، (وابن حبّان) في "صحيحه"(14/ 55 و 59 و 93)، و (الطبرانيّ) في "المعجم الكبير"(2/ 160)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 118)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(1/ 205) و"الاعتقاد"(1/ 99) و"الأسماء والصفات"(ص 190 و 191 و 232 و 284 و 315 و 316)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(2/ 225)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(69)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إثبات القدر، ووجوب الإيمان به.
2 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: ففيه حجة لأهل السُّنَّة في أن الجَنَّة التي أُخرج منها آدم هي جنة الخلد التي وُعد المتقون، ويدخلونها في الآخرة، خلافًا لمن قال من المعتزلة وغيرهم: إنها جنة أخرى، ومنهم من زاد على ذلك، فزعم: أنَّها كانت في الأرض.
3 -
(ومنها): أنّ فيه إطلاقَ العموم، وإرادة الخصوص في قوله:"أعطاك علم كل شيء"، والمراد به: كتابه المنزَل عليه، وكل شيء يتعلق به، وليس المراد عمومه؛ لأنه قد أقر الخضرَ على قوله:"وإني على عِلم من عِلم الله لا تعلمه أنت".
4 -
(ومنها): أن فيه مشروعية الْحُجَج في المناظرة؛ لإظهار طلب الحق، وإباحة التوبيخ والتعريض في أثناء الحِجَاج؛ ليتوصل إلى ظهور الحجة.
5 -
(ومنها): أنه فيه دلالةً على أنَّ اللوم على من أيقن، وعَلِم أشدُّ من اللوم على من لَمْ يحصل له ذلك.
6 -
(ومنها): أن فيه مناظرةَ العالم من هو أكبر منه، والابن أباه، ومحل مشروعية ذلك إذا كان لإظهار الحق، أو الازدياد من العلم، والوقوف على حقائق الأمور.
7 -
(ومنها): أن فيه حجةً لأهل السُّنَّة في إثبات القدر، وخلق أفعال العباد.
8 -
(ومنها): أنه يُغتَفَر للشخص في بعض الأحوال ما لا يُغتَفَر في بعضٍ، كحالة الغضب والأسف، وخصوصًا ممن طُبع على حِدَّة الخُلُق، وشدة الغضب، فإن موسى عليه السلام لَمّا غلبت عليه حالة الإنكار في المناظرة، خاطب آدم مع كونه والده باسمه مجردًا، وخاطبه بأشياء لَمْ يكن ليخاطب بها في غير تلك الحالة، ومع ذلك فأقرّه على ذلك، وعَدَل إلى معارضته فيما أبداه من الحجة في دَفْع شبهته.
9 -
(ومنها): أن فيه استعمالَ التعريض بصيغة المدح، يؤخذ ذلك من قول آدم لموسى:"أنت الذي اصطفاك الله برسالته. . ." إلى آخر ما خاطبه به، وذلك أنه أشار بذلك إلى أنه اطّلع على عُذره، وعرفه بالوحي، فلو استحضر ذلك ما لامه، مع وضوح عذره، وأيضًا ففيه إشارة إلى شيء آخر أعم من ذلك، وإن كان لموسى فيه اختصاص، فكأنه قال: لو لَمْ يقع إخراجي الذي رُتِّب على أكلي من الشجرة ما حصلت لك هذه المناقب؛ لأني لو بقِيتُ في الجَنَّة، واستمرّ نسلي فيها ما وُجِد مَن تجاهَرَ بالكفر الشنيع بما جاهر به فرعون، حتى أُرسلت أنت إليه، وأُعطيتَ ما أُعطيتَ، فإذا كنتُ أنا السبب في حصول هذه الفضائل لك، فكيف يسوغ لك أن تلومني؟
10 -
(ومنها): ما قاله الطيبي رحمه الله: (اعلم): أن هذه القصّة تشتمل على معاني محرّرة لدعوى آدم عليه السلام، مقرّرةً لحجّته.
منها: أن هذه المحاجّة لَمْ تكن في عالم الأسباب الذي لَمْ يجوز فيه
قَطْع النظر عن الوسائط والاكتساب، وإنما كانت في العالم العلويّ عند مُلتقى الأرواح.
ومنها: أن اللائمة كانت بعد سقوط الذنب، ووجوب المغفرة.
قال: أقول: -والعلم عند الله- مذهب الجبرية إثبات التقدير لله تعالى، ونفي القدرة عن العبد أصلًا، ومذهب المعتزلة بخلافه، وكلا الفريقين من الإفراط والتفريط على شفا جُرُف هَارٍ، والطريق المستقيم القصد بين الأمرين، كما هو مذهب أهل السُّنَّة؛ إذ لا يَقْدر أحد أن يُسقط الأصلَ الذي هو القدر، ولا أن يُبطل الكسب الذي هو السبب، فلما جعل موسى عليه السلام مساق كلامه وقصّته إلى الثاني بأن صَدّر الجملة بحرف الإنكار والتعجب، وصَرّح باسم آدم عليه السلام، ووصفه بصفات أربع، كل واحدة منها مستقلة في علّية عدم ارتكابه الخطيئة، ثم جاء بكلمة الاستبعاد في قوله:"ثم أَهبطتَ"، فأسند الإهباط إليه على الحقيقة، والله سبحانه وتعالى هو المهبط في الحقيقة؛ لقوله تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُوا} الآية [البقرة: 38] وقَرَن الإهباط بالأرض، والإهباط لا يكون إلا إليها؛ ليُؤْذن بسفالتها التي تورث الخساسة والرذالة، كما قال الله تعالى:{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الآية [الأعراف: 176]، بل الغرض الأول من ذلك الإنكار البليغ هذا لقوله:"ثم أهبطت الناس"، كأنه عليه السلام قال: ما أبعد هذه السفالة عن تلك المعالي والمناصب، فأجاب عنه عليه السلام بما يقابلها، بل أبلغ، من تصدير الجملة بالهمزة، وتصريح باسم موسى عليه السلام، ووَصْفه بصفات أربعٍ، كلُّ واحدة مستقلة في علّية عدم الإنكار عليه، ثم رَتّب العلم الأزلي على ذلك، ثم أتى بدل كلمة الاستبعاد بهمزة الإنكار في قوله:"أفتلومني"، وحَذَف ما تقتضيه الهمزة، والفاء العاطفة من الفعل؛ أي: أتجد في التوراة هذا النصّ الجليّ، فتلومني على ذلك؟، فما أبعده من إنكار!.
وفي هذا التقرير تنبيه على تحري قصد الأمور، قال: وختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديثَ بقوله: "فحَجَّ آدم موسى"، تنبيهًا على ما قصدناه من أن تحرّي قَصْد الأمور هو الصواب، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ختم الحديث بقوله:"فحجّ آدم موسى" بعد افتتاحه، وبيانه بقوله:"قال موسى: أنت آدم" إلى آخر الحديث مجملًا أَوّلًا، ومفصّلًا ثانيًا، ومُعيدًا له ثالثًا؛ تنبيهًا على أن بعض أمته، من المعتزلة يُنْكر
حديث القدر، فاهتم لذلك، وبالغ في الإرشاد
(1)
. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم في هذا الحديث من المباحث المفيدة المكمّلة لِمَا سبق من الفوائد:
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا الحديث أصل جسيم لأهل الحق في إثبات القدر، وأن الله قضى أعمال العباد، فكل أحد يصير لِمَا قُدِّر له بما سبق في علم الله، قال: وليس فيه حجة للجبرية، وإن كان في بادئ الرأي يساعدهم.
وقال الإمام الخطابي رحمه الله في "معالم السنن": يَحسَب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر يستلزم الجبر، وقهرَ العبد، ويَتَوَهّم أن غلبة آدم كانت من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن إثبات علم الله بما يكون من أفعال العباد، وصدورها عن تقدير سابق منه، فإن القدر اسم لِمَا صَدَرَ عن فعل القادر، وإذا كان كذلك، فقد نُفي عنهم من وراء علم الله أفعالهم، وأكسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور عن قصد وتعمّد واختيار، فالحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة إنما تتوجه عليها.
وجِمَاعُ القول في ذلك: أنهما أمران لا يُبَدّل أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هدم البناء ونقضه.
وإنما كان موضع الحجة لآدم أن الله سبحانه وتعالى: إذ كان عَلِمَ من آدم أنه يتناول من الشجرة، ويأكل منها، فكيف يمكنه أن يردّ علم الله فيه، وأن يبطله بعد ذلك؟ وبيان هذا في قوله سبحانه وتعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، فأخبر قبل كون آدم أنه إنما خَلقه للأرض، وأنه لا يتركه في الجنة، حتى ينْقُله منها إليها، فكان تناوُله من الشجرة سببًا لإهباطه إلى الأرض التي خُلق لها، وللكون فيها خليفة، وواليًا على من فيها.
قال: وإنما أدلى آدم عليه السلام بالحجة على هذا المعنى، ودَفَع لائمة
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 532 - 533.
موسى عليه السلام عن نفسه على هذا الوجه، ولذلك قال:"أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني؟ ".
[فإن قيل]: فعلى هذا يجب أن يسقط عنه اللوم أصلًا؟.
[قيل]: اللوم ساقط من قبل موسى؛ إذ ليس لأحد أن يُعيّر أحدًا بذنب كان منه؛ لأن الخلق كلهم تحت العبودية أكفاء سواء.
وإنما يتجه اللوم من قِبَلِ الله سبحانه وتعالى؛ إذ كان قد أمره ونهاه، فخرج إلى معصيته، وباشر ما نهاه عنه، ولله الحجة البالغة سبحانه وتعالى، لا شريك له.
قال: وقول موسى عليه السلام، وإن كان منه في النفس شبهة، وفي ظاهره مُتَعَلَّقٌ لاحتجاجه بالسبب الذي قد جُعل أمارة لخروجه من الجنّة، فقول آدم في تعلّقه بالسبب الذي هو بمنزلة الأصل، أرجح، والْفَلَج فيه قد يقع مع المعارضة بالترجيح، كما يقع بالبرهان الذي لا يُعارض له. انتهى كلام الخطابيّ في "معالم السنن"
(1)
.
وقال في "أعلام الحديث" نحوه مُلَخّصًا وزاد: ومعنى قوله: "فحَجّ آدم موسى" دَفَع حجته التي ألزمه اللومَ بها، قال: ولم يقع من آدم إنكار لِمَا صدر منه، بل عارضه بأمر دَفَعَ به عنه اللوم.
قال الحافظ رحمه الله: ولم يتلخص من كلامه مع تطويله في الموضعين، دفعٌ للشبهة إلا في دعواه أنه ليس للآدمي أن يلوم آخر مثله على ما فَعَل ما قدّره الله عليه، وإنما يكون ذلك لله تعالى؛ لأنه هو الذي أمَره ونهاه.
وللمعترض أن يقول: وما المانع إذا كان ذلك لله، أن يباشره من تَلَقَّى عن الله من رُسُله، ومن تلقى عن رسله، ممن أُمر بالتبليغ عنهم.
وقال القرطبي رحمه الله: إنما غلبه بالحجة؛ لأنه عَلِم من التوراة أن الله تاب عليه، فكان لومه له على ذلك نوع جفاء، كما يقال: ذِكر الجفاء بعد حصول الصفاء جفاء، ولأن أثر المخالفة بعد الصفح يَنمحي حتى كأنه لم يكن، فلا يصادف اللوم من اللائم حينئذ محلًّا. انتهى.
وهو محصّل ما أجاب به المازريّ وغيره من المحققين، وهو المعتمَد، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "معالم السنن" 7/ 70 - 72.
(المسألة الخامسة): قد أنكر القدرية هذا الحديث؛ لأنه صريح في إثبات القدر السابق، وتقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لآدم عليه السلام على الاحتجاج به، وشهادته بأنه غلب موسى، فقالوا: لا يصحّ؛ لأن موسى عليه السلام لا يلوم على أمر قد تاب منه صاحبه، وقد قَتَلَ هو نفسًا لم يؤمر بقتلها، ثم قال: رب اغفر لي فغفر له، فكيف يلوم آدم على أمر قد غُفر له؟
ثانيها
(1)
: لو ساغ اللوم على الذنب بالقدَر الذي فُرغ من كتابته على العبد، لا يصح هذا، لكان من عوتب على معصية، قد ارتكبها، فيحتج بالقدر السابق، ولو ساغ ذلك لانسدّ باب القصاص والحدود، ولاحتج به كل أحد على ما يرتكبه من الفواحش، وهذا يفضي إلى لوازم قطعية، فدل ذلك على أن هذا الحديث لا أصل له.
[والجواب]: من أوجه:
[أحدها]: أن آدم إنما احتج بالقدر على المعصية، لا المخالفة، فإن محصّل لوم موسى إنما هو على الإخراج، فكأنه قال: أنا لم أخرجكم، وإنما أخرجكم الذي رَتَّبَ الإخراج على الأكل من الشجرة، والذي رتَّب ذلك قَدَّرَه قبل أن أُخلق، فكيف تلومني على أمر ليس لي فيه نسبة إلا الأكل من الشجرة؟ والإخراج المرتب عليها ليس من فعلي.
وهذا الجواب لا يدفع شبهة الجبرية.
[ثانيها]: إنما حكم النبي صلى الله عليه وسلم لآدم بالحجة في معنى خاص، وذلك لأنه لو كانت في المعنى العام لَمَا تقدم من الله تعالى لومه بقوله:{أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، ولا واخذه بذلك، حتى أخرجه من الجنة، وأهبطه إلى الأرض، ولكن لمّا أخذ موسى في لومه، وقدّم قوله له: أنت الذي خلقك الله بيده، وأنت وأنت لِمَ فعلت كذا؟ عارضه آدم بقوله: أنت الذي اصطفاك الله، وأنت وأنت.
وحاصل جوابه: إذا كنت بهذه المنزلة، كيف يَخفَى عليك أنه لا محيد من القدر؟ وإنما وقعت الغلبة لآدم من وجهين:
(1)
هكذا نسخة "الفتح": "ثانيها" وفي العبارة ركاكة، فليحرّر.
أحدهما: أنه ليس لمخلوق أن يلوم مخلوقًا في وقوع ما قُدّر عليه، إلا بإذن من الله تعالى، فيكون الشارع هو اللائم، فلمّا أخذ موسى في لومه من غير أن يؤذَن له في ذلك، عارضه بالقدر فأسكته.
والثاني: أن الذي فعله آدم اجتمع فيه القدر والكسب، والتوبة تمحو أثر الكسب، وقد كان الله تاب عليه، فلم يبق إلا القدر، والقدر لا يتوجه عليه لوم؛ لأنه فِعل الله، ولا يُسأل عما يفعل.
[ثالثها]: قال ابن عبد البر: هذا عندي مخصوص بآدم؛ لأن المناظرة بينهما وقعت بعد أن تاب الله على آدم قطعًا، كما قال تعالى:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]، فحسُن منه أن ينكر على موسى لومه على الأكل من الشجرة" لأنه كان قد تيب عليه من ذلك، وإلا فلا يجوز لأحد أن يقول لمن لامه على ارتكاب معصية، كما لو قتل، أو زنى، أو سرق: هذا سَبَق في علم الله وقدّره عليّ قبل أن يخلقني، فليس لك أن تلومني عليه، فإن الأمة أجمعت على جواز لوم من وقع منه ذلك، بل على استحباب ذلك، كما أجمعوا على استحباب محمدة من واظب على الطاعة، قال: وقد حَكَى ابنُ وهب في "كتاب القدر" عن مالك، عن يحيى بن سعيد: أن ذلك كان من آدم بعد أن تيب عليه.
[رابعها]: إنما توجهت الحجة لآدم؛ لأن موسى لامه بعد أن مات، واللوم إنما يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي، ويقام عليه الحد والقصاص، وغير ذلك، وأما بعد أن يموت، فقد ثبت النهي عن سَبّ الأموات، "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير"؛ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يُثني العقوبة على من أُقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمَة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك، فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه، فسقط عنه اللوم، فلذلك عَدَل إلى الاحتجاج بالقدر السابق، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غلب موسى بالحجة.
قال المازريّ: لَمّا تاب الله على آدم، صار ذِكر ما صَدَرَ منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق، فلذلك غلب بالحجة.
قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم عليه السلام؛ لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يَحتَجّ آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم؛ لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه؛ لأنه لم يكن بُدٌّ من ذلك.
وقيل: إن آدم أَبٌ، وموسى ابنٌ، وليس للابن أن يلوم أباه. حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عَبّر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقّبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه، بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن.
وقيل: إنما غلبه لأنهما في شريعتين متغايرتين، وتُعُقّب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يَعلَم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر، وفي شريعة موسى أنه لا يحتج، أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف؟
وفي الجملة فأصحّ الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما، فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد، وهو أن التائب لا يُلام على ما تِيب عليه منه، ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف، وقد سلك النووي هذا المسلك، فقال: معنى كلام آدم: إنك يا موسى تَعلَم أن هذا كُتب عليّ قبل أن أُخلق، فلا بُدَّ من وقوعه، ولو حرصتُ أنا، والخلق أجمعون على ردّ مثقال ذرة منه لم نقدر، فلا تلمني، فإن اللوم على المخالفة شرعي لا عقلي، وإذا تاب الله عليّ، وغفر لي زال اللوم، فمن لامني كان محجوجًا بالشرع.
[فإن قيل]: فالعاصي اليوم لو قال: هذه المعصية قُدّرت عليّ، فينبغي أن يسقط عني اللوم.
[قلنا]: الفرق أن هذا العاصي باق في دار التكليف، جارية عليه الأحكام، من العقوبة واللوم، وفي ذلك له ولغيره زجرٌ وعظةٌ، فأما آدم فميت، خارج عن دار التكليف، مستغنٍ عن الزجر، فلم يكن للومه فائدة، بل فيه إيذاءٌ وتخجيلٌ، فلذلك كان الغلبة له.
وقال التوربشتي: ليس معنى قوله: "كتبه الله عليّ": ألزمني به، وإنما معناه: أثبته في أم الكتاب قبل أن يَخلُق آدم، وحَكَمَ أن ذلك كائن.
ثم إن هذه المحاججة إنما وقعت في العالم العلوي، عند مُلْتَقَى
الأرواح، ولم تقع في عالم الأسباب، والفرق بينهما أن عالم الأسباب لا يجوز قطع النظر فيه عن الوسائط والاكتساب، بخلاف العالم العلوي بعد انقطاع موجب الكسب، وارتفاع الأحكام التكليفية، فلذلك احتج آدم بالقدر السابق. قال الحافظ: وهو محصل بعض الأجوبة المتقدم ذكرها
(1)
.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله تعالى إلى أن احتجاج آدم على موسى عليه السلام كان في المصائب، لا في الذنوب، قال: وقد ظنّ قوم أن آدم احتجّ بالقدر السابق على نفي الملام على الذنب، ثم صاروا لأجل هذا الظنّ ثلاثة أحزاب:
(فريق): كذّبوا بهذا الحديث، كأبي عليّ الجبّائيّ وغيره؛ لأنه من المعلوم بالاضطرار أن هذا خلاف ما جاءت به الرسل، ولا ريب أنه يمتنع أن يكون هذا مراد الحديث، ويجب تنزيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بل وجميع الأنبياء، وأتباع الأنبياء أن يَجعلوا القدر حجة لمن عصى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(وفريق): تأوّلوه بتأويلات معلومة الفساد، كقول بعضهم: إنما حَجَّه لأنه كان أباه، والابن لا يلوم أباه. وقول بعضهم: لأن الذنب كان في شريعة، واللوم في أخرى. وقول بعضهم: لأن الملام كان بعد التوبة. وقول بعضهم: لأن هذا تختلف فيه دار الدنيا ودار الآخرة.
(وفريق ثالث) جعلوه عمدة في سقوط الملام عن المخالف لأمر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يمكنهم طَرْد ذلك، فلا بدّ في نفس معاشهم في الدنيا أن يلام من فعل ما يضرّ نفسه وغيره، لكن منهم من صار يحتجّ بهذا عند أهوائه وأغراضه، لا عند أهواء غيره، كما قيل في مثل هذا: أنت عند الطاعة قدريّ، وعند المعصية جبريّ؛ أي: أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به، فالواحد من هؤلاء إذا أذنب أخذ يحتجّ بالقدر، ولو أذنب غيره، أو ظلمه لم يعذُره، وهؤلاء ظالمون مُعْتَدُون.
ومنهم من يقول: هذا في حقّ أهل الحقيقة الذين شهدوا توحيد الربوبيّة، وفنُوا عما سوى الله، فيرون أن لا فاعل إلا الله، فهؤلاء لا يستحسنون حسنةً،
(1)
راجع: "الفتح" 11/ 622 - 634.
ولا يستقبحون سيّئةً، فإنهم لا يرون لمخلوق فعلًا، بل لا يرون فاعلًا إلا الله، بخلاف من شهد لنفسه فعلًا، فإنه يُذَمُّ ويُعاقَب، وهذا قول كثير من متأخري الصوفيّة المدّعين للحقيقة، وقد يجعلون هذا نهاية التحقيق، وغاية العرفان والتوحيد، وهذا قول طائفة من أهل العلم.
قال: وممن يُشبه هؤلاء كثير من الفلاسفة، كقول ابن سينا بأن يشهد سرّ القدر، والرازيّ يقرّر ذلك؛ لأنه كان جبريًّا محضًا.
وفي الجملة فهذا المعنى دائر في نفوس كثير من أهل العلم والعبادة، فضلًا عن العامّة، وهو مناقض لدين الإسلام.
قال: إذا عرفت هذا، فنقول: الصواب في قصّة آدم وموسى عليه السلام أن موسى لم يَلُم آدم إلا من جهة المصيبة التي أصابته وذريّته بما فعل، لا لأجل أن تارك الأمر مذنبٌ عاصٍ، ولهذا قال:"لمَا أخرجتنا ونفسك من الجنّة؟ "، ولم يقل: لماذا خالفت الأمر، ولماذا عصيت؟. إلى آخر كلامه رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي صوّبه شيخ الإسلام رحمه الله من أن لوم موسى لآدم عليه السلام على المصيبة، لا على الذنب هو الذي يترجّح عندي؛ لوضوح حجته، كما فصّله رحمه الله تفصيلًا حسنًا، وحققه تحقيقًا بليغًا، فراجعه تستفد.
ثم رأيت ابن أبي العزّ شارح "العقيدة الطحاويّة" رحمه الله ذكر نحو ما سبق عن ابن تيميّة رحمه الله فقال: نتلقى هذا بالقبول، والسمع، والطاعة؛ لصحّته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نتلقّاه بالردّ والتكذيب لراويه، كما فعلت القدريّة، ولا بالتأويلات الباردة، بل الصحيح أن آدم عليه السلام لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربّه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر، فإنه باطلٌ، وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه، وبذنبه من أن يلوم آدم عليه السلام على ذنب قد تاب منه، وتاب الله عليه، واجتباه، وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنّة، فاحتجّ آدم عليه السلام بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يُحتجّ به عند المصائب، لا عند المعايب.
(1)
راجع: "مجموع الفتاوى" 8/ 303 - 336.
وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث، فما قُدّر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله ربًّا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يُذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر، ويتوب، فيتوب من المعايب، ويصبر على المصائب، قال تعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6720]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَحَاجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْويْتَ النَّاسَ، وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ، وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَلُومُنِى عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
3 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقيان ذُكرا في الحديثين الماضيين.
وقوله: (أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ)؛ أي: كنت سببًا لغَواية من غَوَى منهم، وذلك أنه لو لم يقع الأكل من الشجرة لم يقع الإخراج من الجنة، ولو لم يقع الإخراج ما تسلّط عليهم الشهوات والشيطان المسيِّب عنهما الإغواء،
(1)
"شرح العقيدة الطحاويّة" 1/ 136، نشر مؤسّسة الرسالة.
والغيّ: ضدّ الرشد، وهو الانهماك في الشرّ، ويُطلق أيضًا على مجرد الخطأ، يقال: غَوَى، من باب ضرب؛ أي: أخطأ صواب ما أُمر به
(1)
.
قال القاضي عياض: "أغويت الناس" قيل: يَحْتَمِل أنك سبب ذلك بإخراجهم من الجنة، فعرّضتهم لإغواء الشياطين، ويَحْتَمِل أنه لمّا غَوَى هو بمعصيته، كما قال تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] وهم ذرّيّته سُمُّوا غاوين، والغيّ: الانهماك في الشرّ، وأما في شأن آدم عليه السلام، فقيل: معناه: جَهِلَ، وقيل: أخطأ، وقد جاء في الرواية الأخرى:"فنسي". انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: "أغويت الناس"؛ أي: خيّبتهم، يقال: غَوَى الرجلُ: خاب، وأغواه غيره، وقوله عز وجل:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ؛ أي: فسد عليه عيشه، قال: والغَوَّة، والغَيّة واحد، وقيل: غَوَى؛ أي: ترك النهي، وأكل من الشجرة، فعوقب بأن أُخرج من الجنة، وقال الليث: مصدر غَوَى الغَيّ، قال: والغَوَاية: الانهماك في الغيّ، ويقال: أغواه الله: إذا أضله، وقال تعالى:{فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)} [الصافات: 32]. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) المراد بالجنة التي أُخرج منها آدم -عليه الصلاة، والسلام- جنة الخلد التي هي دار الجزاء في الآخرة، وجنة الفردوس وغيرها التي هي دار البقاء، وهي كانت موجودة قبل آدم عليه الصلاة والسلام وهو مذهب أهل الحقّ
(4)
.
وقوله: (أَنْتَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ) قال عياض: عامّ يراد به الخصوص؛ أي: مما علّمك، ويَحْتَمِل مما علمه البشر
(5)
.
وقوله: (وَاصْطَفَاهُ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَتِهِ)؛ أي: اختاره على أهل زمانه، وقوله:"برسالته" بالإفراد، وقُرئت الآية به، وبالجمع
(6)
.
وقوله: (فَتَلُومُنِي) بتقدير همزة الاستفهام، وفي الرواية الماضية:"أتلومني".
(1)
راجع: "تحفة الأحوذيّ" 6/ 282.
(2)
"إكمال المعلم" 7/ 137.
(3)
"لسان العرب" 15/ 140 - 141.
(4)
"عمدة القاري" 19/ 60.
(5)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 304.
(6)
"شرح الزرقانيّ" 4/ 304.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث
الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6721]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ هُرْمُزَ- وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ قَالَا: سَمِعْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عليه السلام عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قَالَ مُوسَى: أنتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَكَ فِي جَنَّتِهِ، ثُمَّ أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الأَرْضِ؟ فَقَالَ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ، وَبِكَلَامِهِ، وَأَعْطَاكَ الألوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا، فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيُّ) الْخَطْميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضَمْرة، أبو عبد الرحمن الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله ست وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذُبَابٍ) هو: الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذُباب -بضمّ الذال المعجمة، وموحدتين- الدَّوْسيّ -بفتح الدال- المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [5](ت 146)(عخ م مد ت س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 54/ 1529.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ هُرْمُزَ) المدنيّ، مولى بني ليث، وهو غير يزيد الفارسيّ
على الصحيح، وهو والد عبد الله، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (م د ت س) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 46/ 4676.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (أَنْتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ) قال في "الفتح": إضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف، وكذا إضافة روحه إلى الله. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "إضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف" هكذا قال الحافظ في "الفتح"؛ يعني: أنه من المجاز، لا من الحقيقة، وفيه نظر، بل الحقّ أنه على ظاهره، وأن لله تعالى يدًا حقيقيّة، تليق بجلاله، لا تشبه يد الخلق، فنحن نثبت ما أثبته لنفسه من اليد والأصابع، والعين، والوجه، ونحو ذلك، من غير تمثيل، ولا تكييف، ولا تعطيل، ولا تحريف، وكون الإضافة حقيقية يستفاد منها مع إثبات اليد تشريف آدم عليه السلام وذريته، حيث خلقه الله عز وجل بيده، فتبصّر، والله سبحانه وتعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم رأيت الشيخ البرّاك قال تعليقًا على كلام الحافظ المذكور، فقال: أما إضافة الروح التي نُفخت في آدم إلى الله، فهي من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف، فإضافتها إذًا إلى الله تعالى إضافة تشريف، كما ذكره الحافظ رحمه الله.
وأما إضافة خلق آدم إلى يده سبحانه وتعالى فلأنّ خَلْقه كان باليدين، وفي هذا تشريف لآدم على سائر المخلوقات، وقد دلّ على هذه الفضيلة لآدم عليه السلام الكتاب والسُّنَّة المتواترة، قال تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، وهذا التركيب لا يَحْتَمل إلا الخلق باليدين، وهذا بيّن على منهج أهل السُّنَّة والجماعة المثبِتين لليدين، وسائر صفات الله تعالى، وأما الذين ينفون حقيقة اليدين عن الله تعالى، ويتأولونها في الآية بالقدرة، أو النعمة، فعلى قولهم لا يكون لآدم خصوصيّة ومزيّة على غيره، فلا يكون في إضافة الخلق إلى اليدين تشريف حقيقيّ، بل تشريف لفظيّ.
وقول الحافظ في هذه الإضافة: إضافة تشريف: لفظه يَحتَمل التشريف
(1)
"الفتح" 15/ 234.
الحقيقيّ، والتشريف اللفظيّ، وحَمْله على الثاني هو الموافق لطريقته، ولذا لم يفرّق بين إضافة خلق آدم ليده، وإضافة الروح إليه سبحانه وتعالى. انتهى كلام الشيخ البرّاك
(1)
، وهو تحقيق مفيد، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ) قال في "الفتح": "من" زائدة على رأي، والنفخ بمعنى الخلق؛ أي: خلق فيك الروح. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ)؛ أي: أمرهم بالسجود لك، فسجدوا له، قال قتادة: فكانت الطاعة لله، والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسْجَدَ له ملائكته، وقال بعضهم: كان هذا سجود تحيّة، وسلام، وإكرام، كما قال تعالى:{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} الآية [يوسف: 100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنه نُسخ في ملّتنا، ذكره الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره"
(3)
.
وقوله: (وَأَعْطَاكَ الأَلوَاحَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ) قال ابن جرير رحمه الله: قوله: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الحجر: 19] يقول: من التذكير، والتنبيه على عظمة الله، وعز سلطانه، {مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] لقومه، ومِنْ أَمْر بالعمل بما كُتب في الألواح، {وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154] يقول: وتبيينًا لكل شيء، من أمر الله، ونهيه. انتهى
(4)
.
وقوله: (وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا)؛ أي: حال كونه مناجيًا، قيل: حتى سَمِع صريف القلم، حين كُتب له في الألواح، قاله في "العمدة"
(5)
.
وقال المناويّ: النجيّ: المناجي الواحد، وهو الذي يخاطِب الإنسان، ويحدّثه سرًّا. انتهى
(6)
.
وقوله: (بِأَرْبَعِينَ عَامًا) وفي الرواية السابقة: "بأربعين سنةً"، قال
(1)
راجع ما كتبه في: هامش "الفتح" 15/ 234 - 235.
(2)
"الفتح" 15/ 234 - 235.
(3)
راجع: "مختصر أحمد شاكر" 1/ 103.
(4)
"تفسير الطبريّ" 9/ 57.
(5)
"عمدة القاري" 15/ 284.
(6)
"فيض القدير" 1/ 109.
النوويّ رحمه الله: المراد بالتقدير هنا: الكتابة في اللوح المحفوظ، وفي صحف التوراة، وألواحها؛ أي: كتبه عليّ قبل خلقي بأربعين سنة، وقد صرّح بهذا في الرواية التي بعد هذه، فقال: "بكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟، قال موسى: بأربعين عامًا، قال: أتلومني على أن عملت عملًا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟، فهذه الرواية مصرّحة ببيان المراد بالتقدير، ولا يجوز أن يراد به حقيقة القدر، فإن علم الله تعالى، وما قَدّره على عباده، وأراد من خلقه أزليّ، لا أول له، ولم يزل سبحانه وتعالى مريدًا لِمَا أراده من خَلْقه، من طاعة، ومعصية، وخير، وشرّ. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6722]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ حَاتِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الّذِي اصْطَفَاكَ اللهُ بِرِسَالَتِهِ
(2)
، وَبِكَلَامِهِ، ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
2 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل بابين.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 201.
(2)
وفي نسخة: "برسالاته".
4 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 105) على الصحيح، وقيل: إن روايته عن عمر مرسلة (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قريبًا، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6723]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل بابين. 2 - (أَيُّوبُ بْنُ النَّجَّارِ الْيَمَامِيُّ) ابن زياد بن النجّار الحنفيّ، أبو إسماعيل اليماميّ، قاضيها، ويقال: اسم النجار: يحيى، ثقةٌ مدلِّس [3].
رَوَى عن يحيى بن أبي كثير، وسعيد الْجُريريّ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وابن عون، وغيرهم.
وروى عنه قتيبة، وعمرو الناقد، ونعيم بن حماد، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: شيخٌ ثقةٌ رجلٌ صالحٌ عفيفٌ، وقال ابن أبي مريم، عن ابن معين: ثقةٌ، صدوقٌ، وكان يقول: لم أسمع من يحيى بن أبي كثير إلا حديثًا واحدًا: "التقى آدم وموسى"، وقال أبو زرعة: ثقةٌ، وقال عمر بن يونس اليماميّ: ثنا أيوب بن النجار، وكان من أفضل أهل اليمامة، وقال محمد بن مهران الرازيّ: كان يقال: إنه من الأبدال، له في "الصحيحين" الحديث الذي ذكره ابن معين.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له عند الشيخين إلا هذا الحديث.
3 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِيِ كَثِيرٍ) الطائيّ، مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلِّس، ويرسل [5] (ت 132) وقيل: قبل ذلك (ع)"شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
4 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3] مات سنة أربع وتسعين، أو أربع ومائة، وكان مولده سنة بضع وعشرين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
5 -
(ابْنُ رَافِعٍ) هو: محمد بن رافع النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.
6 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
7 -
(مَعْمَرُ) بن راشد اليمنيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
8 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنبِّهٍ) الأبناويّ اليمنيّ، تقدّم قريبًا.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: أما رواية أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4461)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك، وأشقيتهم؟ قال: قال آدم: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته، وبكلامه؟، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني، أو قدّره عليّ قبل أن يخلقني؟ " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فحجّ آدم موسى". انتهى
(1)
.
وأما رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فساقها عبد الرزاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20068)
- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاجّ آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أغويت الناس، وأخرجتهم من الجنة إلى الأرض؟ فقال له آدم: أنت الذي أعطاك الله علم كل شيء، واصطفاك على الناس برسالته؛ قال: نعم، قال:
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1764.
أفتلومني على أمر كان قد كُتب قبل أن أفعله، أو قال: من قبل أن أُخلق؟ قال: فحجَّ آدم موسى". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6724]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ التميميّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) بتقديم الزاي، مصغّرًا العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدوسيّ، بالقاف، وضم الدال، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يُرسِل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
4 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) الأنصاريّ مولاهم، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القَدْر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
و"أبو هريرة رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(4459)
- حدّثنا الصَّلْت بن محمد، حدّثنا مهديّ بن ميمون، حدّثنا محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التقى آدم وموسى، فقال موسى لآدم: آنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة؟ قال له آدم: آنت الذي
(1)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 113.
اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟، قال: نعم، قال: فوجدتها كَتَب عليّ قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، فحجّ آدم موسى". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6725]
(2653) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ) المصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب المصريّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ) حميد بن هانئ المصريّ، لا بأس به [5] وهو أكبر شيخ لابن وهب (ت 142)(بخ م 4) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 15.
[تنبيه]: قوله: "الْخَوْلانيّ" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الواو: نسبة إلى خَوْلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن يشجُب بن عَريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، واسم خولان: أفكل، وهي قبيلة نزلت الشام، قاله في "اللباب"
(2)
.
4 -
(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ) -بضم المهملة والموحدة- عبد الله بن يزيد المعافريّ المصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة مائة بإفريقية (بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 42/ 2426.
[تنبيه]: قوله: "الْحُبُليّ" بضمّ الحاء المهملة، والموحّدة: نسبة إلى حيّ
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1764.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.
من اليمن من الأنصار، يقال لهم: بنو الْحُبْلَى، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقال المرتضى رحمه الله: والحُبلَى؛ كبُشْرَى: لَقَبُ سالِمِ بنِ غَنْمِ بن عَوْف بنِ الخَزْرَج. وغَنْمٌ: هو قَوْقَلٌ لُقِّب به؛ لِعِظَمِ بَطْنِه، مِن وَلَدِه: بَنُو الحُبْلَى: بَطْنٌ مِن الأنصارِ، ثم مِن الخَزْرَج، وهو حُبْلِيٌّ بالضّمّ علَى القِياس، وبضمَّتيْن، وعليه اقتصَر سِيبَوَيهِ، وقال: هو مِمّا جاء على غيرِ قِياسٍ في النَّسَب، نَقَل بعضُ أهلِ العربيّة عن سِيبَوَيه: الحُبَلِيُّ كجُهَنِيٍّ، قال السّهَيلِي: وهو خطأٌ، لم يَضْبِطْه سِيبَوَيه هكذا، وقد نَقَلَه أبو عليٍّ في "البارع" من كتاب سِيبوَيه بالضَّمّ على الصَّحِيح، وإنّما أَوقَعَه في الوَهْم كونُ سِيبوَيه ذَكره مع الجُذَمِيِّ نِسبةً لجَذِيمَةَ، وهو إنما ذَكره معه؛ لكَونِ كل منهما شاذًّا، لا لكونِه مِثْلَه في الوَزن، فتأمَّلْ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وبهذا يتبيّن أن الْحُبُليّ بضمّ، فسكون، وبضمّتين، وأما قول المجد رحمه الله في "القاموس": وكجُهَنيّ فخطأٌ، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) بن وائل بن هاشم بن سُعيد -بالتصغير- ابن سَعْد بن سَهْم السّهْميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الْحَرّة على الأصح بالطائف، على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن راويه صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو أحد العبادلة الأربعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ)؛ أي: أجرى القلم على اللوح، أو غيره بتحصيل مقاديرها على وفق ما تعلقت به إرادته، وليس المراد هنا أصل التقدير؛ لأنه أزليّ، لا ابتداء له
(3)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 337.
(2)
"تاج العروس" ص 6964.
(3)
"فيض القدير" 4/ 548.
وقال في "المرعاة": "المقادير": جمع مقدار، وهو الشيء الذي يُعرف به قَدْر الشيء، وكميته، كالمكيال، والميزان، وقد يُستعمل بمعنى القدر نفسه، وهو الكمية، والكيفية؛ أي: أمر الله تعالى القلم أن يُثبت في اللوح المحفوظ ما سيوجد من الخلائق، ذاتًا، وصفة، وفعلًا، وخيرًا، وشرًّا، على ما تعلقت به إرادته الأزلية. قال النوويّ: قال العلماء: المراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ، أو غيره، لا أصل التقدير، فإن ذلك أزليّ، لا أول له، انتهى
(1)
.
(قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ ألفَ سَنَةٍ") قال في "الفتح": هذا محمول على كتابة ذلك في اللوح المحفوظ، على وفق ما في علم الله سبحانه وتعالى. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ: "بخمسين ألف سنة" معناه طول الأمد، وتكثير ما بين الخلق والتقدير من الْمُدَد، لا التحديد؛ إذ لم يكن قبل السماوات والأرض سنة ولا شهر، فلا تدافع بينه وبين خبر الألفين.
وقال البيضاويّ: أو تقديره ببرهة من الدهر الذي يوم فيه كألف سنة مما تعدُّون، أو من الزمان نفسه. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله البيضاويّ هو الحقّ، وأما قول المناويّ: معناه طول المدّة لا التحديد فليس بشيء، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "كتب الله مقادير الخلائق إلخ"؛ أي: أثبتها في اللوح المحفوظ، أو فيما شاء، فهو توقيت للكَتْب، لا للمقادير؛ لأنَّها راجعة إلى علم الله تعالى، وإرادته، وذلك قديم، لا أول له، ويستحيل عليه تقديره بالزمان؛ إذ الحقّ سبحانه وتعالى بصفاته موجود، ولا زمان، ولا مكان، وهذه الخمسون ألف سنة سنون تقديرية؛ إذ قبل خلق السماوات لا يتحقق وجود الزمان؛ فإنَّ الزمان الذي يعبّر عنه بالسنين، والأيام، والليالي إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك، وسَيْر الشمس، والقمر في المنازل، والبروج
(1)
"مرعاة المفاتيح" 1/ 402.
(2)
"الفتح" 11/ 489.
(3)
"فيض القدير" 4/ 548.
السماوية، فقبل السماوات لا يوجد ذلك، وإنما يرجع ذلك إلى مدّة في علم الله تعالى، لو كانت السماوات موجودة فيها لعُدِّدت بذلك العدد، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54]؛ أي: في مقدار ستة أيام، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سِنِي الدنيا، كما قال تعالى:{وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، وكقوله:{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5]، هذا قول ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه الطبريّ في "تاريخه" عنهم.
ويَحْتَمِل أن يكون ذِكر الخمسين ألفًا جاء مجيء الإغياء في التكثير، ولم يُرِدْ عين ذلك العدد، فكأنه قال: كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآماد كثيرة، وأزمان عديدة، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، والأول أظهر، وأَولى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ") المعنى: كان عرشه قبل أن يخلق السماوات والأرض على وجه الماء، وفيه إشارة إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم؛ لكونهما خُلقا قبل خلق السماوات والأرض، وقد روى أحمد، والترمذيّ، وصححه من حديث أبي رَزِين الْعُقيليّ مرفوعًا: أن الماء خُلق قبل العرش. وروى السّدّيّ في "تفسيره" بأسانيد متعددة: أن الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء، وأما حديث:"أول ما خلق الله القلم"، فيُجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدر من الكتابة؛ أي: أنه قيل له: اكتب أول ما خلق، وأما حديث:"أول ما خلق الله العقل" فليس له طريق ثابت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التقدير الأخير هو تأويله، واختُلف في أيهما خُلق أولًا، العرش، أو القلم؟ والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير، ومن تبعه الثان. انتهى، أفاده في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 668 - 669.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 1/ 450.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه؛
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6725 و 6726](2653)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2156)، و "أحمد" في "مسنده"(2/ 169)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(343)، و (ابن وهب) في "القدر"(1/ 101)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 426)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1026)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(2/ 252)، و (يعقوب الفسويّ) في "المعرفة والتاريخ"(2/ 297)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 136)، و (ابن المستفاض) في "القدر"(1/ 87 و 88)، و (أبو نعيم) في "تاريخ أصفهان"(1/ 384)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6726]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ (ح) وَحَدَّثَني مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ -يَعْنِي: ابْنَ يَزِيدَ- كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هَانِئٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا:"وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْمُقْرِئُ) عبد الله بن يزيد المكيّ، أبو عبد الرحمن المقرئ، أصله من البصرة، أو الأهواز، ثقةٌ فاضلٌ أقرأ القرآن نيفًا وسبعين سنةً [9](ت 213) وقد قارب المائة، وهو من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 15.
2 -
(حَيْوَةُ) -بفتح أوله، وسكون التحتانية، وفتح الواو- ابن شُريح بن صفوان التُّجِيبيّ، أبو زرعة المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ زاهدٌ [7](ت 8 أو 159)(ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 328.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) هو: محمد بن سهل بن عَسْكر التميميّ مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.
4 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
5 -
(نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ) الْكَلَاعيّ -بفتح الكاف، واللام الخفيفة- أبو يزيد المصريّ، يقال: إنه مولى شُرَحبيل ابن حَسَنة، ثقةٌ عابدٌ [7](ت 168)(خت م د س ق) تقدم في "الإمارة" 44/ 4918.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، و"أبو هانئ" هو: حميد بن هانئ المصريّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي هَانِئٍ) الضمير لحيوة بن شُريح، ونافع بن يزيد.
[تنبيه]: أما رواية حيوة عن أبي هانئ، فساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(2156)
- حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن المنذر الباهليّ الصنعانيّ، حدّثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، حدّثنا حيوة بن شُريح، حدَّثني أبو هانئ الْخَوْلانيّ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الْحُبُليّ يقول: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قَدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ غريب. انتهى
(1)
.
وأما رواية نافع بن يزيد عن أبي هانئ فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(3) - (بَابُ تَصْرِيفِ اللهِ تَعَالَى الْقُلُوبَ كَيْفَ شَاءَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6727]
(2654) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُقْرِئِ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ، فَالَ: حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِي
(1)
"جامع الترمذيّ" 4/ 458.
أَبُو هَانِئٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ"، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في البابين الماضيين، و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، غير شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني كوفيّ، والمقرئ بصريّ، ثمّ مكيّ، وأنه مسلسل بالتحديث، والسماع، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه راويان اشتهرا بالكنية.
شرح الحديث:
عن أبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، بضمّتين، أو بضمّ، فسكون؛ (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ) وفي حديث النَّوّاس بن سَمْعان رضي الله عنه عند ابن ماجه: "ما من قلبٍ إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه. . ."، وقوله: (كُلَّهَا) بالنصب توكيد لـ "قلوبَ"، (بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ) -بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة- أفصح لغاتها، وهي عشرة، تثليثُ الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصْبُوع، بوزن أُسْبُوع. (مِنْ أصَابِعِ الرَّحْمَنِ) قال النوويّ: هذا من أحاديث الصفات، وفيها القولان السابقان قريبًا:
أحدهما: الإيمان بها، من غير تعرّض لتأويل، ولا لمعرفة المعنى، بل يؤمن بأنها حقّ، وأن ظاهرها غير مراد، قال الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
والثاني: يتأول بحسب ما يليق بها، فعلى هذا: المراد المَجاز، كما
يقال: فلان في قبضتي، وفي كفي، لا يراد به أنه حالّ في كفه، بل المراد تحت قدرتي، ويقال: فلان بين إصبعي، أقلّبه كيف شئت؛ أي: إنه مني على قهره، والتصرف فيه كيف شئت، فمعنى الحديث أنه سبحانه وتعالى متصرّف في قلوب عباده وغيرها، كيف شاء، لا يمتنع عليه منها شيء، ولا يفوته ما أراده، كما لا يمتنع على الإنسان ما كان بين إصبعيه، فخاطب العرب بما يفهمونه، ومَثَّله بالمعاني الحسية تأكيدًا له في نفوسهم.
[فإن قيل]: فقدرة الله تعالى واحدة، والإصبعان للتثنية؟.
فالجواب: أنه قد سبق أن هذا مجاز، واستعارةٌ، فوقع التمثيل بحسب ما اعتادوه، غير مقصود به التثنية والجمع. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا التأويل الذي ذكره النوويّ قد سبق لنا تفنيده غير مرّة، وأن الواجب في أحاديث الصفات أن يؤمَن بها، كما جاءت، وتُثبَت كما أثبتَها النصّ الصحيح الصريح، فنُثبت الأصابع ونحوها لله تعالى كما أثبتها هذا الحديث الصريح الصحيح على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
والحاصل: أن هذا الحديث من أحاديث الصفات التي نؤمِن بها، ونعتقد أنها حقّ من غير تعرّض للتأويل، ولا لمعرفة الكيفيّة؛ لأن الإيمان بها فرضٌ، والامتناع عن الخوض في معرفة حقائقها واجب، فالمهتدي من سلك فيها سبيل التسليم، والخائض في إدراك كيفيّتها زائغ، والمنكِر لها معطّلٌ، والمكيّف مشبّه، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
وقد نقل الطيبيّ رحمه الله في "شرحه" عن شيخه أبي حفص السُّهْرورديّ رحمه الله أنه قال في "كتاب العقائد" له:
أخبر الله عز وجل أنه استوى على العرش، فقال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]، وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالنزول، وغير ذلك مما جاء من اليد، والقدم، والتعجّب، والتردّد، وكلّ ما ورد من هذا القبيل، فلا يُتصرّف فيها بتشبيه، ولا تعطيل، فلولا إخبار الله تعالى، وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم ما تجاسر عقلٌ أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشى دون ذلك عقل العقلاء، ولُبّ الألبّاء. انتهى
(1)
.
(1)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 544.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي نقله الطيبيّ عن شيخه هو التحقيق الحقيق بالقبول، فيا ليت الطيبيّ مشى على طريقة شيخه، ولكنه حاد، ومال عن الصراط المستقيم، فترى في شرحه يختار مذهب المؤوّلين، ويقوّيه، ويطوّل نفسه في تقريره، فلا حول ولا قوّة إلا بالله، اللَّهُمَّ اهدِنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن توليت، اللَّهُمَّ فاطرَ السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِمَا اختُلف فيه من الحقّ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
(كَقَلْبٍ وَاحِدٍ) بيّن بهذا التشبيه أن التصرّف في تلك الأصابع سهل كسهولة التصرّف في قلب واحد، (يُصَرِّفُهُ) بتشديد الراء؛ أي: يقلّب ذلك القلب الواحد، والمراد: تلك القلوب جميعها. (حَيْثُ يَشَاءُ") وفي حديث النوّاس: "إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"، وهذا معنى قوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8]، فيقلّبها تارة من فجورها إلى تقواها، بأن يجعلها تقيّةً بعد أن كانت فاجرةً، ويَعْدِلها أخرى عن تقواها إلى فجورها، بأن يجعلها فاجرة بعد أن كانت تقيّةً.
قال بعضهم: إنما نَسَب تقليب القلب إلى الله تعالى إشعارًا بأن الله تعالى إنما تولّى بنفسه أمر قلوبهم، ولم يَكِله إلى أحد من ملائكته، وخصّ الرحمن بالذكر إيذانًا بأن ذلك التولّي لم يكن إلا بمحض رحمته، وفَضْل نعمته؛ كيلا يطّلع أحد غيره على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ) بتشديد الراء؛ أي: مقلّبها تارة إلى الطاعة، وتارة إلى المعصية، وتارة إلى اليقظة، وتارة إلى الغفلة، (صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ")؛ أي: قلّبها على أنواع طاعتك، بأن تتقلّب من طاعة إلى طاعة أخرى، ولا تخرج عنها إلى المعاصي، وفي حديث النوّاس:"وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَا مُثَبِّتَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ"؛ أي: اجعله ثابتًا على دينك القويم، غير مائل عن صراطك المستقيم، والله تعالى أعلم.
(1)
"الكاشف" 2/ 544.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6727](2654)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 414)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 168 و 173)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(902)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 431)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 137)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 316)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 100)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 147)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الله سبحانه وتعالى هو المتصرّف في قلوب عباده كيف يشاء، إن شاء هداها، وإن شاء أزاغها.
2 -
(ومنها): إثبات صفة الأصابع لله عز وجل، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، فيثبتونها كما أثبتتها النصوص الصحيحة، على مراد الله تعالى. ومن أنكر ذلك كالجهميّة، ضالّ مضلّ، ومن أَوَّلَ، فهو مخطئ زائغ عن الحقّ.
3 -
(ومنها): ما قاله البغويّ رحمه الله: فيه بيان أن العبد ليس إليه شيء من أمْر سعادته أو شقاوته، بل إن اهتدى فبهداية الله إياه، وإن ثبت على الإيمان فبتثبيته، وإن ضلّ فبصرفه عن الهدى، قال الله سبحانه وتعالى:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال سبحانه وتعالى إخبارًا عن حمد أهل الجنة:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقال عز وجل:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
4 -
(ومنها): شدّة خوف النبيّ صلى الله عليه وسلم من ربّه عز وجل، حيث يدعو أن يصرّف الله قلبه على طاعته، وشدّة حرصه صلى الله عليه وسلم على تنبيه أمته أن لا يصيبها ذُهول ولا غفلة عن مراقبة الخواتم، فإن الأمر بالخواتم، وفي حديث أنس رضي الله عنه عند الترمذيّ في "جامعه": كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْثر أن يقول: "يا مقلّب
القلوب ثبّت قلبي على دينك"، قالوا: يا رسول الله آمنّا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء"، اللَّهُمَّ ثبّت قلوبنا على دينك، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، آمين.
(4) - (بَابٌ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6728]
(2655) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَادٍ، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ، أَوِ الْكَيْسُ وَالْعَجْزُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادِ) بن نصر الباهليّ مولاهم البصريّ، أبو يحيى المعروف بالنَّرْسيّ -بفتح النون، وسكون الراء، وبالمهملة- ثقةٌ
(1)
، من كبار [10](6 أو 237)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
2 -
(زِيادُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن عيينة: كان أثبت أصحاب الزهريّ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
3 -
(عَمْرُو بْنُ مُسْلِمٍ) الَجَنَديّ -بفتح الجيم، والنون- اليمانيّ، صدوقٌ، له أوهام [6].
رَوَى عن طاوس، وعكرمة.
(1)
هذا هو الأَولى من قوله في "التقريب": لا بأس به، كما يظهر من ترجمته في "تهذيب التهذيب".
وروى عنه ابنه عبد الله، وابن جريج، ومعمر، وأمية بن شِبْل، ومحمد بن منصور الجنَديّ، وعمرو بن نَشيط، وابن عيينة.
قال أحمد: ضعيفٌ، وقال مرّةً: ليس بذاك، وقال ابن الجنيد عن ابن معين: لا بأس به، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بالقويّ، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لابن معين: عمرو بن مسلم أضعف، أو هشام بن حجير؟ فضعّف، أو قال: هشام أحبّ إليّ، وقال ابن المدينيّ: ذكره يحيى بن سعيد، فحرَّك يده، وقال: ما أرى هشام بن حُجير إلا أمثل منه، قلت له: أضْربُ على حديث هشام؟ قال: نعم، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عديّ: ليس له حديث منكر جدًّا، وقال الساجيّ: صدوق يهم، وقال ابن خِراش ليس بشيء، وكذا قال ابن حزم في "المحلَّى".
أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وقال الحافظ: وله ذِكر في سند أثر معلّق في "الذبائح" في "صحيح البخاريّ".
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ طَاوُس) بن كيسان اليمانيّ؛ (أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية اللالكائيّ: "عن طاووس اليمانيّ قال: أدركت ثلثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كلُّ شيء بقَدَر، وسمعت عبد الله بن عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس"
(1)
. (يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ)؛ أي: بتقدير الله سبحانه وتعالى له في الأزل. (قَالَ) طاوس: (وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ، وَالْكَيْسُ، أَوِ الْكَيْسُ وَالْعَجْزُ")
(1)
"اعتقاد أهل السنة" 4/ 661.
"أو" هنا للشكّ من الراوي، هل قال بتقديم العجز، أو بتأخيره؟ ثم إن الشك يَحْتَمِل أن يكون من ابن عمر، أو ممن دونه، والله تعالى أعلم.
وقال القاضي عياض رحمه الله: رويناه برفع "العجزُ، والكيس" عطفًا على "كُلُّ"، وبجرهما عطفًا على "شيء"، قال: ويَحْتَمِل أن العجز هنا على ظاهره، وهو عدم القدرة، وقيل: هو ترْك ما يجب فعله، والتسويف به، وتأخيره عن وقته، قال: ويَحْتَمِل العجز عن الطاعات، ويَحْتَمِل العموم في أمور الدنيا والآخرة، والكيسُ ضدُّ العجز، وهو النشاط، والْحِذْق بالأمور، ومعناه أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكيس قد قُدِّر كيسه. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى العجز والكيس" قيّدناه بكسر الزاي والسين وضمّهما، و"حتى" هي العاطفة، والرفع عَطْف على "كلُّ"، والخفض على "شيء"، و"الكيس": بفتح الكاف، لا يجوز غيره.
ومعنى هذا الحديث: أنه ما من شيء يقع في هذا الوجود كائنًا ما كان إلا وقد سبق به علم الله تعالى، ومشيئته، سواءٌ كان من أفعالنا، أو صفاتنا، أو من غيرها، ولذلك أتى بـ "كل" التي هي للاستغراق، والإحاطة، وعقّبها بـ "حتى" التي هي للغاية، حتى لا يخرج عن تلك المقدّمة الكلّية من الممكنات شيء، ولا يُتوهّم فيها تخصيص، وإنما جَعَل العجز والكيس غاية لذلك ليبيّن أن أفعالنا، وإن كانت معلومة، ومرادة لنا، فلا تقع منا إلا بمشيئه الله تعالى له وإرادته، وقدرته، كما قال تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وصار هذا من نحو قول العرب: قَدِم الحُجاج حتى المشاةُ، فيكون معناه: أن كل ما يقع في الوجود بقدر الله تعالى ومشيئته، حتى ما يقع منكم بمشيئتكم.
و"العجز": التثاقل عن المصالح حتى لا تحصل، أو تحصل لكن على غير الوجه المرضيّ، و"الكيس": نقيض ذلك، وهو الجدّ والتشمير في تحصيل المصالح على وجوهها، والعجز في أصله: معنى من المعاني مناقض للقدرة،
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 143.
وكلاهما من الصفات المتعلقات بالممكنات على ما يُعرف في علم الكلام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": "الكَيْس" بفتح الكاف: ضدّ العجز، ومعناه الْحِذق في الأمور، ويتناول أمور الدنيا والآخرة، ومعناه: أن كل شيء لا يقع في الوجود إلا وقد سبق به علم الله، ومشيئته، وإنما جعلهما في الحديث غايةً لذلك؛ للإشارة إلى أن أفعالنا، وإن كانت معلومة لنا، ومرادة منا، فلا تقع مع ذلك منا إلا بمشيئه الله، وهذا الذي ذكره طاوس مرفوعًا وموقوفًا مطابق لقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]، فإن هذه الآية نصّ في أن الله خالق كل شيء، ومقدِّره، وهو أنصّ من قوله تعالى:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، واشتهر على ألسنة السلف والخلف أن هذه الآية نزلت في القدريّة.
ويأتي لمسلم حديث أبي هريرة التالي: "جاء مشركو قريش، يخاصمون النبيّ صلى الله عليه وسلم في القدر، فنزلت"، وقد تقدم في الكلام على سؤال جبريل في "كتاب الإيمان" شيء من هذا، وأن الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، وذكرنا هناك بيان مقالة القدريّة بما أغنى عن إعادته، ومذهب السلف قاطبةً أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى، كما قال تعالى:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21]، قاله في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: تكلّم بعض من كتب على هامش "صحيح مسلم" ما يدلّ على تضعيف هذا الحديث، من أجل الكلام في عمرو بن مسلم الْجَنَديّ، فقد تكلّم فيه أحمد، وغيره، لكن بعضهم قوّاه، فقد روى عنه جماعة، كما قدّمناه،
(1)
"المفهم" 6/ 670 - 671.
(2)
"الفتح" 11/ 478.
ووثقه مسلم، حيث أخرج له هنا في الأصول ما تفرَّد به، وقال ابن معين في رواية: لا بأس به، وقال الساجيّ: صدوق يهم، ووثقه ابن حبّان، وقال ابن عديّ: ليس له حديث منكر جدًّا، وقال الذهبيّ: صالح الحديث
(1)
، فمثل هذا أقلّ أحواله أن يكون حَسَن الحديث، فتنبّه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6728](2655)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 899)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 110)، و (ابنه عبد الله) في "السُّنَّة"(748 و 749)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(ص 25)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6149)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 149)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1027 و 1200)، و (ابن المستفاض) في "القدر"(1/ 222 و 223)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 205)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(73)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن كل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى، فيجب الإيمان بالقدر كلّه، خيره وشرّه.
2 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر رحمه الله: في قول ابن عمر رضي الله عنهما، أو مَن هو دونه:"أو الكيس والعجز" بالشكّ دليل على مراعاة الإتيان بألفاظ النبيّ صلى الله عليه وسلم على رُتْبتها، قال: وأظن هذا من وَرَع ابن عمر رضي الله عنهما، والذي عليه العلماء استجازة الإتيان بالمعاني، دون الألفاظ لمن يعرف المعنى، رُوي ذلك عن جماعة منهم منصوصًا، ومن تأمل حديث ابن شهاب ومثله، واختلاف أصحابهم عليهم في متون الأحاديث بأن له ما قلنا -وبالله توفيقنا- انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر أيضًا: في هذا الحديث أدلّ الدلائل وأوضحها على أن الشرّ والخير كل من عند الله، وهو خالقهما، لا شريك له، ولا إله غيره؛ لأن العجز شرّ، ولو كان خيرًا ما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا
(1)
"ميزان الاعتدال" 3/ 289.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 63.
ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من الكسل، والعجز، والجبن، والدَّين، ومحال أن يستعيذ من الخير، وفي قول الله عز وجل:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)} [الفلق: 1، 2] كفاية لمن وُفِّق، وقال عز وجل:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
وروى مالك، عن زياد بن سعد، عن عمرو بن دينار، أنه قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي، والفاتن.
ثم أخرج بالإجازة عن عبد العزيز بن أبي روّاد قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: كنت عند ابن عباس، فأتاه رجل، فقال: أرأيت مَن حرمني الهدى، وأورثني الضلالة والردى، أتراه أحسن إليّ، أو ظلمني؟ فقال ابن عباس: إن كان الهدى شيئًا كان لك عنده، فمنعكه، فقد ظلمك، وإن كان الهدى له يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئًا، ولا تجالسني بعده.
وقد رُوي أن غيلان القدريّ وقف بربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال له: يا أبا عثمان، أرأيت الذي منعني الهدى، ومنحني الردى، أأحسن إليّ، أم أساء؟ فقال ربيعة: إن كان منعك شيئًا هو لك، فقد ظلمك، وإن كان فضله يؤتيه من يشاء، فما ظلمك شيئًا، وإنما أخذه ربيعة من قول ابن عباس هذا، والله أعلم، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، و {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23]، ذكر عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال له رجل: يا أبا العباس إن ناسًا يقولون: إن الشرّ ليس بقدر، فقال: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} [الأنعام: 148، 149]
وقال غيلان القدريّ لربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يحب أن يُعْصَى؟ قال: وأنت تزعم أن الله يعصى قسرًا؟. انتهى
(1)
.
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 62 - 64.
وبالجملة فهذا الباب هلك فيه كثير ممن اتّبع هواه من القدريّة وغيرهم، ونجا أهل السُّنَّة والجماعة باتباعهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، وعدم الخوض والتعمّق فيما لا يعنيهم من أسرار القدر الذي اختصّ الله عز وجل به دون عباده، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولَّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، اللَّهُمَّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8] آمين.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6729]
(2656) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَدَرِ، فَنَزَلَتْ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49، 48]).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(وَكِيعُ) بن الْجَرّاح الرؤاسيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، من رؤوس الطبقة [7] وكان ربما دلَّس (ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(زِيادُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ) ويقال: يزيد بن إسماعيل المخزوميّ، ويقال: السَّهْميّ المكيّ، صدوقٌ سيئ الحفظ [6].
رَوَى عن محمد بن عباد بن جعفر، وسليمان بن عتيق.
وروى عنه ابن جريج، والثوريّ، قال ابن معين: ضعيفٌ، وقال علي ابن
المدينيّ: رجل من أهل مكة معروف، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو الفتح الأزديّ: فيه نظرٌ، وقال يعقوب بن سفيان: ليس حديثه بشيء.
أخرج له البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيُّ) هو: محمد بن عبّاد بن جعفر بن رِفاعة بن أمية بن عابد بن عبد الله بن عُمر بن مَخزُوم المكيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 36/ 1027.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ)؛ أي: القبيلة المعروفة، قال الفيّوميّ:"قُريش" هو النضر بن كنانة، ومن لم يلده فليس بقرشيّ. وقيل: قريشٌ هو فِهْر بن مالك، ومن لم يلده فليس من قريش. نقله السهيليّ وغيره. وإلى هذا أشار الحافظ العراقيّ رحمه الله مع ترجيح الثاني في "ألفيّة السيرة" حيث قال:
أَمَّا قُرَيشٌ فَالأَصَحُّ فِهْرُ
…
جَمَّاعُهَا وَالأَكْثَرُونَ النَّضْرُ
وأصل القرش: الجمع، وتقرّشوا: إذا تجمّعوا، وبذلك سُمّيت قُريشٌ. وقيل: قُريشٌ دابّة تسكن البحر، وبه سُمِّي الرجل، قال الشاعر [من الخفيف]:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْـ
…
رَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
ويُنسب إلى قريش بحذف الياء، فيقال: قُرَشيٌّ، وربّما نُسب إليه في الشعر من غير تغيير، فيقال: قُريشيّ. انتهى كلام الفيّوميّ بزيادة
(1)
.
(يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب على الحال من الفاعل، (فِي الْقَدَرِ)؛ أي: في إثبات القدر. وقال النوويّ رحمه الله: المراد بالقدر هنا: القدر المعروف، وهو ما قدَّر الله وقضاه، وسبق به علمه وإرادته، وأشار
(1)
"المصباح المنير" 2/ 497.
الباجيّ إلى خلاف هذا، وليس كما قال. انتهى
(1)
.
أي: في شأن القدر، (فَنَزَلَتْ) الآية، وهي قوله تعالى:({يَوْمَ يُسْحَبُونَ}) بالبناء للمفعول؛ أي: يُجرّ المشركون ({فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}) ويقال لهم عند سحبهم وإلقائهم في نار جهنّم: ({ذُوقُوا}) على إنكاركم القدر، ({مَسَّ سَقَرَ})؛ أي: إصابة نار جهنّم لكم، قال النسفيّ رحمه الله: هو كقولك: وجد مسّ الْحُمّى، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسّهم مسًّا. و"سقر" غير منصرف؛ للتأنيث والتعريف؛ لأنها عَلَم لجهنّم، مِن سَقَرتهُ النارُ: إذا لوّحته. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: و"سقر" اسم من أسماء جهنم لا ينصرف؛ لأنه اسم مؤنّث معرفةٌ، وكذا لظى، وجهنم. وقال عطاء:"سقر" الطبق السادس من جهنّم. وقال قُطرُب: "سقر" من سَقَرته الشمس، وصقرته: لَوّحته، ويوم مُسَمْقِرٌ، ومُصَمْقِرٌ: شديد الحرّ. انتهى
(3)
.
({إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ}) بنصب "كلّ" بفعل يفسّره قوله: ({خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}) القدر بفتحتين، أو بفتح فسكون: التقدير؛ أي: بتقدير سابق، أو خَلَقْنا كل شيء مقدّرًا محكمًا مرتّبًا على حَسَب ما اقتضته الحكمة، أو مقدّرًا مكتوبًا في اللوح، معلومًا قبل كونه، قد علمنا حاله، وزمانه. قاله النسفيّ
(4)
.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ المفسّر رحمه الله: قرأ العامّة: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ} قرأ العامّة "كلّ" بالنصب، وقرأ أبو السّمّال:"كلّ" بالرفع على الابتداء، ومن نَصَب فبإضمار فِعل، وهو اختيار الكوفيين؛ لأن "إنّ" تطلب الفعل فهي به أَولى، والنصب أدلّ على العموم في المخلوقات لله تعالى؛ لأنك لو حذفت "خلقنا" المفسّر، وأظهرت الأول لصار: إنا خلقنا كلَّ شيء بقدر، ولا يصحّ كون خلقنا صفة لـ "شيء"؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف، ولا تكون تفسيرًا لِمَا يعمل فيما قبله. انتهى
(5)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 205.
(2)
"تفسير النسفيّ" 4/ 206.
(3)
"تفسير القرطبيّ" 17/ 147.
(4)
"تفسير النسفيّ" 4/ 206.
(5)
"تفسير القرطبيّ" 17/ 147.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)} [القمر: 47، 48].
قال: يُخبر تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحقّ، وسُعُر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء، وهذا يَشمل كل من اتّصف بذلك من كافر، ومبتدع، من سائر الفرق، ثم قال تعالى:{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} ؛ أي: كما كانوا في سُعُر، وشكّ، وتردُّد، أورثهم ذلك النارَ، وكما كانوا ضُلّالًا يُسحبون فيها على وجوههم، لا يدرون أين يذهبون، ويقال لهم تقريعًا وتوبيخًا:{ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} ، وقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} ، كقوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، وكقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} [الأعلى: 1 - 3]؛ أي: قَدّر قَدَرًا، وهدى الخلائق إليه، ولهذا يستدلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السُّنَّة على إثبات قَدَر الله السابق لِخَلْقه، وهو عِلْمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل بَرْئها، وردُّوا بهذه الآية، وبما شاكلها من الآيات، وما وَرَدَ في معناها من الأحاديث الثابتات، على الفرقة القدرية، الذين نَبَغُوا في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: ضعّف بعضهم هذا الحديث بسبب زياد بن إسماعيل؛ لأنهم تكلموا فيه.
[قلت]: زياد، وإن ضعَّفه ابن معين، وغيره، فقد رَوَى عنه ابن جريج، والثوريّ، وقال ابن المدينيّ: رجل من أهل مكة معروف، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه، ووثقه ابن حبّان، ووثّقه مسلم أيضًا حيث أخرج له هذا الحديث في الأصول، فأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 268.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6729](2656)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 444 و 476)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(ص 28)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2157) و"التفسير"(3290)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(83)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6139)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(27/ 110)، و (الفسويّ) في "المعرفة والتاريخ"(3/ 236)، و (الواحديّ) في "أسباب النزول"(ص 268)، و (البغويّ) في "تفسيره"(4/ 265)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات القدر وأنه عامّ في كل شيء، فكل ذلك مقدور في الأزل معلوم لله سبحانه وتعالى، مراد له، وأن الإيمان به واجب.
2 -
(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.
3 -
(ومنها): أن الآية نصّ في تعذيب مكذّبي القدر، وهو محمول كما قال النوويّ على جحد القَدَر المعروف، وهو جحد تقدير الله سبحانه وتعالى للأشياء، وسَبْق علمه بها، وإرادته، فإن من كذب بهذا فهو كافر خارج عن الإسلام بلا خلاف بين أهل العلم
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله: أنه استَدَلّ بهذه الآية الكريمة أئمة السُّنَّة على إثبات قَدَر الله تعالى السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل بَرْئها، وردُّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرقة القدريّة الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر رحمه الله: قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} ، وقال:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} [التكوير: 29]، فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى، وإنما يجري الخلق فيما سبق من علم الله، والقدر سرّ الله، لا يُدرَك بجدال، ولا يشفي منه مقال، والحجاج فيه مرتجة، لا يُفتح شيء منها إلا بكسر شيء، وغَلْقه، وقد
(1)
راجع: "شرح النوويّ" 16/ 205.
(2)
"تفسير ابن كثير" 4/ 286.
تظاهرت الآثار، وتواترت الأخبار فيه عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار بالاستسلام، والانقياد، والإقرار بأن علم الله سابق، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]
(1)
.
وقال أيضًا: وجملة القول في القدر أنه سرّ الله، لا يدرك بجدال، ولا نظر، ولا تشفي منه خصومة، ولا احتجاج، وحَسْب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يقوم شيء دون إرادته، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، له الخلق، والأمر كلّه، لا شريك له، نظام ذلك قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} ، وحَسْب المؤمن من القدر أن يعلم أن الله لا يظلم مثقال ذرّة، ولا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وهو الرحمن الرحيم، فمن ردّ على الله تعالى خبره في الوجهين، أو في أحدهما، كان عنادًا، وكفرًا.
وقد ظاهرت الآثار في التسليم للقدر، والنهي عن الجدل فيه، والاستسلام له، والإقرار بخيره وشره، والعلم بعدل مُقدِّره، وحِكْمته، وفي نقض عزائم الإنسان برهانٌ فيما قلنا، وتبيان، والله المستعان. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحثٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
(5) - (بَابٌ قُدِّرَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَى، وَغَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6730]
(2657) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى، أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ،
(1)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 13.
(2)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 6/ 139 - 140.
فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَو يُكَذِّبُهُ"، قَالَ عَبْدٌ فِي رِوَايَتِهِ: ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ طَاوُس) هو: عبد الله بن طاوس بن كيسان، أبو محمد اليمانيّ، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات سنة ثمان وستين بالطائف (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لاتّحاد كيفيّة التحمّل والأداء؛ لأن المصنّف سمعه من لفظهما، ولذا قال:"حدّثنا"، وهما أخذاه قراءة، ولذا قالا:"أخبرنا"، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، والابن عن أبيه، وأن ابن عباس رضي الله عنهما ذو مناقب جمّة، فقد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر؛ لسعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحدٌ، وهو أحد المكثرين السبعة، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ) -بفتح اللام، والميم- هو ما يُلِمّ به الشخص، من شهوات النفس، وقيل: هو مقارفة الذنوب الصغار، وقال الراغب: اللمم: مقارفة المعصية، ويُعَبَّر به عن
الصغيرة، ومحصَّل كلام ابن عباس رضي الله عنهما تخصيصه ببعضها، ويَحْتَمِل أن يكون أراد: أن ذلك من جملة اللمم، أو في حكم اللمم
(1)
.
وقال الخطابيّ: يريد بذلك: ما عفا الله عنه من صغار الذنوب، وهو معنى قوله تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} ، وهو ما يُلمّ به الإنسان من صغار الذنوب التي لا يكاد يَسلم منها إلا من عصمه الله، وحفظه. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما رأيت شيئًا أشبه باللمم": هذا من ابن عباس رضي الله عنهما معنى تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وهو ما دون الكبائر، والفواحش: هي الصغائر، وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: هي ما ألمّوا به في الجاهلية، وقيل: هو مقاربة المعصية من غير إلمام، وقيل: الذنب الذي يُقلع عنه، ولا يُصرّ عليه، وقيل غير هذا، وأشبه هذه الأقوال القول الأول، وعليه يدلّ قوله صلى الله عليه وسلم:"الصلوات الخمس مكفرات لِمَا بينهنّ؛ إذا اجتُنبت الكبائر"، والفواحش: جمع فاحشة، وهي ما يستفحش من الكبائر، كالزنا بذوات المحارم، واللواط، ونحو ذلك. انتهى
(3)
.
(مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه: (إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بكسر "إنّ" لوقوعها محكيّة بالقول، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
أَوْ حَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
أَوْ حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ أَوْ حَلَّتْ مَحَلَّ
…
حَالٍ كَـ "زُرْتُهُ وَإِنِّي ذُو أَمَلْ"
(قَالَ: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ)؛ أي: أثبت في اللوح المحفوظ، (عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ)؛ أي: نصيبه (مِنَ الزِّنَى) بالقصر على الأفصح، قال القاري: والمراد من الحظّ: مقدِّمات الزنى، من التمني، والتخطي، والتكلم لأجله، والنظر، واللمس، والتخلي، وقيل: أثبت فيه سببه، وهو الشهوة، والميل إلى النساء، وخَلَق فيه العينين، والقلب، والفَرْج، وهو الذي يجد لذة الزنى، أو المعنى: قَدَّر في الأزل أن يجري عليه الزنى في الجملة. انتهى
(4)
.
(1)
"الفتح" 15/ 228، كتاب "القدر" رقم (6612).
(2)
راجع: "عون المعبود" 6/ 133.
(3)
"المفهم" 6/ 673.
(4)
راجع: "عون المعبود" 6/ 133.
وقال في "الفتح": قوله: "كتب"؛ أي: قَدَّر ذلك عليه، أو أمر الملَك بكتابته، كما تقدم بيانه في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه الماضي قريبًا، وإطلاق الزنا على اللمس، والنظر، وغيرهما بطريق المجاز؛ لأن كل ذلك من مقدماته
(1)
.
(أَدْرَكَ)؛ أي: أصاب ابن آدم، ووجد (ذَلِكَ)؛ أي: ما كتبه الله تعالى، وقدّره، وقضاه، أو حظه، (لَا مَحَالَةَ) -بفتح الميم- أي: لا بُدّ له من عمل ما قُدِّر عليه أنه يعمله، قاله في "الفتح"، وقال ابن بطّال:"لا محالة" يعني: لا حيلة له في التخلص من إدراك ما كُتب عليه
(2)
.
وقال في "العون": "لا محالة": بفتح الميم، ويضم
(3)
؛ أي: لا بُدّ له، ولا فِراق، ولا احتيال منه، فهو واقع البتة. انتهى
(4)
.
وقال المناويّ في "الفيض"
(5)
: "كتب حظه من الزنا،؛ أي: خلق له الحواسّ التي بها يجد لذة الزنا، وأعطاه القوى التي بها يَقْدر عليه، وركّز في جبلّته حب الشهوات، فـ "مِن" للبيان، وهو مع مجروره حال من "حظه"، ذكره القاضي، وقوله: "أدرك ذلك لا محالة" بفتح الميم؛ أي: أصاب ذلك، ووصَل إليه البتة، و"لا، لنفي الجنس، قال الجوهريّ: حال لونه: تغيَّر، وحال عن العهد: انقلب، وحال الشيء بيننا: حجز، والْمَحالة: الحيلة، وقولهم: لا محالة؛ أي: لا بُدّ، قال البيضاويّ: وهذا استئناف جواب عمن قال: هل يخلُص ابن آدم عنه؟ وقال ابن رسلان: كلُّ ما سبق في العلم لا بدّ أن يدركه، لا يستطيع دفعه، لكن يلام على صدوره منه؛ لتمكّنه من التمسك بالطاعة، وبه تندفع شُبَهُ القدرية، والجبرية.
وقال الطيبيّ: الجملة الثانية مترتبة على الأُولى، بلا حرف الترتيب؛
(1)
"الفتح" 15/ 228، كتاب "القدر" رقم (6612).
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال 17/ 271.
(3)
هذا فيه نظر، فإن الضم لم يذكره غيره، فليُنظر.
(4)
راجع: "عون المعبود" 6/ 133.
(5)
"فيض القدير على الجامع الصغير" 2/ 246.
تعويضًا لاستفادته إلى ذهن السامع، والتقدير: كَتَب الله ذلك، وما كَتَبه لا بُدّ أن يقع. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح" نقلًا عن ابن بطال: كلُّ ما كتبه الله على الآدميّ، فهو قد سبق في علم الله، وأنه لا بُدّ أن يُدركه المكتوب عليه، وأن الإنسان لا يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، إلا أنه يلام إذا واقع ما نُهِي عنه بحجب ذلك عنه، وتمكينه من التمسك بالطاعة، فبذلك يندفع قول القدريّة، والمجبرة، ويؤيده قوله:"والنفس تَمَنَّى، وتشتهي"؛ لأن الْمُشْتَهي بخلاف الْمُلْجَأ. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل في "الفتح" كلام ابن بطّال، والذي رأيته في "شرحه" أن هذا كلام المهلّب، وعبارته:
قال المهلَّب: وكلُّ ما كتبه الله على ابن آدم فهم سابق في علم الله، لا بدّ أن يُدركه المكتوب عليه، وأن الإنسان لا يملك دَفْع ذلك عن نفسه، غير أن الله تعالى تفضَّل على عباده، وجعل ذلك لَمَمًا وصغائر، لا يطالب بها عباده؛ إذا لم يكن للفَرْج تصديق لها، فإذا صدّقها الفرج، كان ذلك من الكبائر، رِفقًا من الله بعباده، ورحمة لهم؛ لِمَا جبلهم عليه من ضَعف الخلقة، ولو آخذ عباده باللمم، أو ما دونه من حديث النفس، لكان ذلك عدلًا منه في عباده، وحكمة، لا يُسأل عما يفعل، وله الحجة البالغة، لكن قَبِل منهم اليسير، وعفا لهم عن الكثير؛ تفضلًا منه، وإحسانًا. انتهى
(2)
.
(فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ)؛ أي: حظها على قصد الشهوة فيما لا يحل له، (النَّظَرُ)؛ أي: النظر إلى الأجنبية، وفي الرواية التالية:"كُتِب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مُدرِك ذلك، لا محالةَ، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرّجل زناها الْخُطا، والقلب يَهْوَى، ويتمنى، ويصدّق ذلك الفرج، ويكذبه".
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: العينان تزنيان بالنظر، والشفتان تزنيان، وزناهما التقبيل، واليدان تزنيان، وزناهما اللمس، والرجلان تزنيان، وزناهما المشي،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 539.
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال 17/ 271.
وقيل: إنما سميت هذه الأشياء زنا؛ لأنها دواعي إليه
(1)
. (وَزِنَى اللِّسَانِ النُّطْقُ)؛ أي: التكلم على وجه الحرمة كالمواعدة.
وفي رواية للبخاريّ: "المنطق"، وهو بمعنى النطق، (وَالنَّفْسُ)؛ أي: القلب، كما في الرواية التالية، ولعل النفس إذا طلبت تبعها القلب. (تَمَنَّى) بفتح أوله، على حذف إحدى التاءين، والأصل: تتمنى، كما في {تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
(وَتَشْتَهِي)؛ أي: تشتاق إلى أن تقع في الزنا، والشهوة: اشتياق النفس إلى الشيء
(2)
، ولعله عَدَل عن سنن السابق؛ لإفادة التجدد؛ أي: زنا النفس تمنيها، واشتهاؤها وقوعَ الزنى الحقيقيّ
(3)
. (وَالْفَرْجُ) بفتح الفاء، وسكون الراء: يُطلق على القُبُل والدبر؛ لأن كل واحد منفرجٌ؛ أي: منفتح، وأكثر استعماله في العُرف في القُبُل
(4)
. (يُصَدِّقُ ذَلِكَ، أَو يُكَذِّبُهُ")؛ أي: إن فَعَل بالفرج ما هو المقصود من ذلك، صار الفرج مصدِّقًا لتلك الأعضاء، وإن ترك ما هو المقصود من ذلك، فقد صار الفرج مكذِّبًا لها.
وقال في "العمدة": قوله: "والفرج يصدق ذلك" المذكور من زنا العين، وزنا اللسان، والتصديق بالفعل، والتكذيب بالترك، وقيل: التصديق والتكذيب من صفات الإخبار، فما معناهما هنا؟.
وأجيب بأنه لمّا كان التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع، والتكذيب الحكم بعدمها، فكأنه هو الْمُوقِع، أو الدافع، فهو تشبيه، أو لمّا كان الإيقاع مستلزمًا للحكم بها عادةً فهو كناية، انتهى
(5)
.
وقال الطيبيّ: سُمّيت هذه الأشياء باسم الزنا؛ لأنها مقدمات له، مؤذنة بوقوعه، ونُسِب التصديق والتكذيب إلى الفرج؛ لأنه منشؤه، ومكانه؛ أي: يصدّقه بالإتيان بما هو المراد منه، ويكذّبه بالكفّ عنه.
(1)
"عمدة القاري" 23/ 157.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 326.
(3)
"عون المعبود" 6/ 133.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 466.
(5)
"عمدة القاري" 22/ 240.
وقيل: معناه إن فعل بالفرج ما هو المقصود من ذلك، فقد صار الفرج مصدّقًا لتلك الأعضاء، وإن ترك ما هو المقصود من ذلك، فقد صار الفرج مكذبًا.
وقيل: معنى "كَتَبَ" أنه أثبت عليه ذلك، بأن خلق له الحواسّ التي يجد بها لذة ذلك الشيء، وأعطاه القوى التي بها يقدر على ذلك الفعل، فبالعينين، وبما رُكّب فيهما من القوة الباصرة، تجد لذة النظر، وعلى هذا، وليس المعنى أنه ألجأه إليه، وأجبره عليه، بل رَكَّز في جبلّته حُبّ الشهوات، ثم إنه تعالى برحمته وفضله يعصم من يشاء.
وقيل: هذا ليس على عمومه، فإن الخواص معصومون عن الزنى، ومقدماته.
ويَحْتَمِل أن يبقى على عمومه، بأن يقال: كتب الله تعالى على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنى، فمن عصمه الله عنه بفضله صدر عنه من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده صَدَر عنه لا محالة بمقتضى الجبلّة مقدماته الباطنة، وهي تمني النفس، واشتهاؤها. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "والفرج يصدق ذلك، أو يكذبه" يشير إلى أن التصديق هو الحكم بمطابقة الخبر للواقع، والتكذيب عكسه، فكان الفرج هو الموقع، أو الواقع، فيكون تشبيهًا.
ويَحْتَمِل أن يريد: أن الإيقاع يستلزم الحكم بها عادةً، فيكون كنايةً.
قال الخطابيّ: المراد باللمم: ما ذكره الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، وهو المعفوّ عنه، وقال في الآية الأخرى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] فيؤخذ من الآيتين أن اللمم من الصغائر، وأنه يكفَّر باجتناب الكبائر.
وقال ابن بطال: تفضَّل الله على عباده بغفران اللمم؛ إذا لم يكن للفرج تصديق بها، فإذا صدّقها الفرج كان ذلك كبيرة.
(1)
"عون المعبود" 6/ 133.
ونقل الفراء أن بعضهم زعم أن "إلا" في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ} بمعنى الواو، وأنكره، وقال: إلا صغائر الذنوب، فإنها تكفَّر باجتناب كبارها، وإنما أطلق عليها زنا؛ لأنها من دواعيه، فهو من إطلاق اسم المسبَّب على السبب مجازًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ عَبْدٌ)؛ أي: عبد بن حُميد شيخه الثاني، (فِي رِوَايَتِهِ: ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) غرضه من هذا بيان اختلاف شيخيه، فإسحاق قال:"عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عبّاس"، فرواه بالعنعنة، وعبد بن حميد قال:"عن ابن طاوس، عن أبيه، سمعت ابن عبّاس"، فصرّح بسماع طاوس عن ابن عبّاس، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6730 و 6731](2657)، و (البخاريّ) في "الاستئذان"(6243) و"القدر"(6612)، و (أبو داود) في "النكاح"(2153 و 2154)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 473)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 276)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4419 و 4420 و 4421 و 4422 و 4423)، و (البيهقيّ) في "الكبرى، (7/ 89 و 10/ 185 - 186)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (3/ 298)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (11/ 309)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الزنا أنواع يحصل بالأعضاء المذكورة، ولكنه يكون من اللمم التي تكفَّر باجتناب الكبائر، كما قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية.
2 -
(ومنها): إثبات القَدَر، وأن الله تعالى قدّر الأشياء، وكتبها في اللوح المحفوظ، فهي تقع بمشيئته على مقتضى عِلمه سبحانه وتعالى.
(1)
"الفتح" 15/ 228 - 229، كتاب "القدر" رقم (6612).
3 -
(ومنها): أن في قوله: "والنفس تشتهي، والفرج يصدّق، أو يكذب" ما يُستدَلّ به على أن العبد لا يخلق فعل نفسه؛ لأنه قد يريد الزنا مثلًا، ويشتهيه، فلا يطاوعه العضو الذي يريد أن يزني به، وتُعجزه الحيلة فيه، ولا يدري لذلك سببًا، ولو كان خالقًا لفعله لَمَا عجز عن فِعل ما يريده، مع وجود الطواعية، واستحكام الشهوة، فدلّ على أن ذلك فعل مقدَّر يُقدّرها الله إذا شاء، ويُعَطِّلها إذا شاء
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله في "العمدة": قوله: "زنا العين"؛ يعني: فيما زاد على النظرة الأُولى التي لا يملكها، فالمراد: النظرة على سبيل اللذة والشهوة، وكذلك زنا المنطق فيما يلتذ به، من محادثة ما لا يحل له ذلك منه، والنفس تمنَّى ذلك، وتشتهيه، فهذا كله يسمى زنًا؛ لأنه من دواعي زنا الفرج، قال: واحتجّ أشهب بقوله: "والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه" أنه إذا قال: زَنى يدك، أو رجلك، لا يُحدّ، وخالفه ابن القاسم، وفي "التوضيح": وقال الشافعيّ: إذا قال: زنت يدك يُحدّ، واعترض عليه بعض من عاصرناه من الشافعية، والأصح أن هذا كناية، ففي "الروضة": إذا قال: زنت يدك، أو عينك، أو رجلك، أو يداك، أو عيناك، فكناية على المذهب، وبه قطع الجمهور؛ يعني: من الشافعية. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6731]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى، وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ، وَيُكَذِّبُهُ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُور) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ
(1)
"الفتح" 15/ 229.
(2)
"عمدة القاري" 22/ 240.
المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(أَبُو هِشَامٍ الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغيّر قليلًا بآخَرَةٍ [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 413.
4 -
(سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ) المدنيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.
وقوله: ("كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ) ببناء الفعل للمفعول؛ أي: قُضي، وقُدّر عليه، وهو نصّ في الردّ على القدريّة
(1)
.
وقوله: (مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ) قال القرطبيّ: كذا صحّ، وهو مرفوع، على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهو مدرك ذلك، و"لا محالةَ"؛ أي: لا بدّ من وقوع ذلك منه.
وقوله: (وَالْقَلْبُ يَهْوَى، وَيَتَمَنَّى)؛ يعني: أن هواه وتمنّيه هو زناه، وإنَّما أُطلق على هذه الأمور كلها زنا؛ لأنَّها مقدِّماتها؛ إذ لا يحصل الزنا الحقيقيّ في الغالب إلا بعد استعمال هذه الأعضاء في تحصيله، والزنا الحقيقيّ: هو إيلاج الفرج المحرّم شرعًا في مثله، ألا ترى قوله:(وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ، وَيُكَذِّبُهُ)؛ يعني: إن حصل إيلاج الفرج الحقيقي، تمَّ زنا تلك الأعضاء، وثبت إثمه، وإن لم يحصل ذلك، واجتنب كفّر زنا تلك الأعضاء، كما قال تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31]
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى الحديث: أن ابن آدم قُدِّر عليه نصيب من الزنى، فمنهم من يكون زناه حقيقيًّا بإدخال الفرج في الفرج الحرام، ومنهم من يكون زناه مجازًا بالنظر الحرام، أو الاستماع إلى الزنى، وما يتعلق بتحصيله،
(1)
"المفهم" 6/ 674.
(2)
"المفهم" 6/ 674 - 675.
أو بالمس باليد، بأن يمس أجنبية بيده، أو يقبّلها، أو بالمشي بالرجل إلى الزنى، أو النظر، أو اللمس، أو الحديث الحرام مع أجنبية، ونحو ذلك، أو بالفكر بالقلب، فكل هذه أنواع من الزنى المجازيّ.
والفرج يصدّق ذلك كله، أو يكذّبه، معناه: أنه قد يحقق الزنى بالفرج، وقد لا يحققه، بأن لا يولج الفرج في الفرج، وإن قارب ذلك، والله أعلم.
وأما قول ابن عباس: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبوِ هريرة، فمعناه: تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
ومعنى الآية -والله أعلم- الذين يجتنبون المعاصي، غير اللمم، يُغفر لهم اللمم، كما في قوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} ، فمعنى الآيتين: أن اجتناب الكبائر يُسقط الصغائر، وهي اللَّمم، وفسَّره ابن عباس بما في هذا الحديث، من النظر، واللمس، ونحوهما، وهو كما قال، هذا هو الصحيح في تفسير اللمم، وقيل: أن يُلِمّ بالشيء، ولا يفعله، وقيل: الميل إلى الذنب، ولا يصرّ عليه، وقيل غير ذلك، مما ليس بظاهر، وأصل اللمم، والإلمام: الميل إلى الشيء، وطَلَبه من غير مداومة، والله أعلم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(6) - (بَابُ مَعْنَى: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، وَحُكْمِ مَوْتِ أَطْفَالِ الْكُفَّارِ، وَأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6732]
(2658) - حَدَّثَنَا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ كَانَ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 206.
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ "، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} الآيَةَ [الروم: 30]).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَاجِبُ بْنُ الْوَليدِ) بن ميمون الأعور، أبو محمد المؤدّب الشاميّ، نزيل بغداد، ثقةٌ
(1)
[10](ت 228)(م كد) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَوْلانيّ الحمصيّ الأبرش -بالمعجمة- ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
3 -
(الزُّبَيْدِيُّ) -بالزاي، والموحّدة، مصغرًا- محمد بن الوليد بن عامر، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
4 -
(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار، من كبار [3] اتفقوا على أن مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالشاميين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
(1)
هذا أولى من قول "التقريب": صدوق، كما يظهر من ترجمته في "تهذيب التهذيب".
شرح الحديث:
(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) وفي رواية البخاريّ: "عن أبي سلمة" بدل سعيد بن المسيّب، قال في "الفتح": قوله: "عن أبي سلمة" هكذا رواه ابن أبي ذئب، عن الزهريّ، وتابعه يونس من طريق عبد الله بن المبارك عنه، وأخرجه مسلم من طريق ابن وهب، عن يونس، وخالفهما الزُّبيديّ، ومعمر، فروياه عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيّب بدل أبي سلمة، وأخرجه الذُّهْليّ في "الزهريات" من طريق الأوزاعيّ، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وقد تقدم من طريق شعيب، عن الزهريّ، عن أبي هريرة، من غير ذِكر واسطة، وصنيع البخاريّ يقتضي ترجيح طريق أبي سلمة، وصنيع مسلم يقتضي تصحيح القولين عن الزهريّ، وبذلك جزم الذُّهْليّ. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) نافية، (مِنْ مَوْلُودٍ)"من" زائدة بعد النفي، كما قال في "الخلاصة":
وَزِيدَ فِي نَفْيٍ وَشِبْهِهِ فَجَرّ
…
نَكِرَةً كَـ "مَا لِبَاغٍ مِنْ مَفَرّ"
وفي الرواية الآتية: "كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، وفي رواية للبخاريّ:"كلُّ مولود يولد على الفطرة". قال في "الفتح": قوله: "كل مولود"؛ أي: من بني آدم، وصرَّح به جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بلفظ:"كلُّ بني آدم يولد على الفطرة"، وكذا رواه خالد الواسطيّ، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، ذكرها ابن عبد البرّ.
واستُشْكِل هذا التركيب بأنه يقتضي أن كل مولود يقع له التهويد وغيره، مما ذُكر، والفرض أن بعضهم يستمرّ مسلمًا، ولا يقع له شيء.
والجواب: أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذات المولود، ومقتضى طبعه، بل إنما حصل بسبب خارجيّ، فإن سَلِم من ذلك السبب، استمرَّ على الحقّ، وهذا يُقَوِّي المذهب الصحيح في تأويل الفطرة، كما سيأتي. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 4/ 181، كتاب "الجنائز" رقم (1385).
(2)
"الفتح" 4/ 181، كتاب "الجنائز" رقم (1385).
قال الطيبيّ رحمه الله: و"مولود" مبتدأ، وقوله:(إِلَّا يُولَدُ) خبره؛ لأن "من" الاستغراقيّة في سياق النفي يفيد العموم، كقولك: ما أحد خير منك، والتقدير: ما من مولود يوجد على أمر من الأمور إلا على هذا الأمر، والفطرة تدلّ على نوع منها، وهو الابتداء والاختراع، كالجلسة، والقعدة، والمعنى بها هنا: تمكّن الناس من الهدى في أصل الجبلّة، والتهيّؤ لقبول الدِّين، فلو تُرك عليها لاستمرّ على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها؛ لأن هذا الدِّين حُسنه موجود في النفوس، وإنما يُعدل عنه لآفة من الآفات البشريّة والتقليد، كقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16]. انتهى
(1)
.
(عَلَى الْفِطْرَةِ) بكسر الفاء، وسكون الطاء المهملة، سيأتي الاختلاف في تفسيرها قريبًا -إن شاء الله تعالى-.
(فَأَبَوَاهُ)؛ أي: المولود، قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء إما للتعقيب، أو السببية، أو جزاء شرط مقدّر؛ أي: إذا تقرَّر ذلك، فمن تغيَّر كان بسبب أبويه، إما بتعليمهما إياه، أو بترغيبهما فيه، وكونُهُ تبعًا لهما في الدِّين يقتضي أن يكون حُكمه حُكمهما، وخُصّ الأبوان بالذِّكر؛ للغالب، فلا حجة فيه لمن حَكَم بإسلام الطفل الذي يموت أبواه كافرين، كما هو قول أحمد، فقد استمرّ عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم على عدم التعرّض لأطفال أهل الذمة
(2)
.
(يُهَوِّدَانِهِ)؛ أي: يجعلانه يهوديًّا إذا كان يهوديين، (وَيُنَصِّرَانِهِ)؛ أي: يجعلانه نصرانيًّا إذا كانا نصرانيين، (وَيُمَجِّسَانِهِ)؛ أي: يجعلانه مجوسيًّا إذا كان مجوسيين.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قوله: "فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه" يَحْتَمِل أن يكون بطريق العقل، والتعليم، والتسبيب، ويَحْتَمِل أن يكون بالتبعية حكمًا، وإن لم يقع ذلك فعلًا، وفيه على الثاني: تبعية الصغير لأبويه الكافرين في حكم الكفر، وهو كذلك بالإجماع، والواو في قوله:"وينصّرانه" بمعنى "أو"؛ لأن الأبوين لا يفعلان الأمرين معًا، وإنما يفعلان أحدهما. انتهى
(3)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 545 - 546.
(2)
"الفتح 4/ 185.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 221.
وقوله: (كَمَا) قال الطيبيّ رحمه الله: إما حال من الضمير المنصوب في "يهوّدانه" مثلًا، فالمعنى: يهوّدان المولودَ بعد أن خُلق على الفطرة شَبيهًا بالبهيمة التي جُدعت بعد أن خُلقت سليمةً، وإما صفة مصدر محذوف؛ أي: يغيّرانه تغييرًا مثل تغييرهم البهيمة السليمة، فالأفعال الثلاثة؛ أعني:"يهوّدانه"، و"ينصّرانه"، و"يُمجّسانه" تنازعن في "كما" على التقديرين.
وفي رواية للبخاريّ: "كمثل البهيمة تُنتج البهيمةَ"؛ أي: تَلِدها، فـ "البهيمةَ" الثانيةُ بالنصب على المفعولية.
وقوله: (تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ) -بضم أوله، وسكون النون، وفتح المثناة، بعدها جيم- قال أهل اللغة: نُتجت الناقة على صيغة ما لم يُسَمَّ فاعله، تُنْتَج، بفتح المثناة، وأَنتَجَ الرجلُ ناقته، يُنتِجُها إنتاجًا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: "النِّتاج" بالكسر: اسم يَشمَل وَضْع البهائم من الغنم، وغيرها، وإذا وَلي الإنسانُ ناقةً، أو شاة ماخِضًا حتى تضع قيل: نتَجَهَا نَتْجًا، من باب ضرب، فالإنسان كالقابلة؛ لأنه يتلقى الولد، ويصلح من شأنه، فهو نَاتِجٌ، والبهيمة مَنْتُوجَةٌ، والولد نَتِيجَةٌ، والأصل في الفعل أنْ يتعدّى إلى مفعولين، فيقال: نتَجَهَا ولدًا؛ لأنّه بمعنى ولّدها ولدًا، وعليه قوله [من الوافر]:
هُمُ نَتَجُوكَ تَحْتَ اللّيْلِ سَقْبا
…
خَبِيثَ الرِّيحِ مِنْ خَمْرٍ وَمَاءِ
ويُبنى الفعل للمفعول، فيُحذف الفاعل، ويقام المفعول الأول مُقامه، ويقال: نُتِجَتِ النّاقَة ولدًا: إذا وضعته، ونُتِجَتِ الغنم أربعين سَخْلةً، وعليه قول زهير [من الطويل]
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ
…
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
ويجوز حَذْف المفعول الثاني اقتصارًا؛ لفهم المعنى، فيقال: نُتِجَتِ الشاةُ، كما يقال: أُعطيَ زيدٌ، ويجوز إقامة المفعول الثاني مُقام الفاعل، وحَذْف المفعول الأول؛ لِفَهم المعنى، فيقال: نُتِج الولدُ، ونُتِجَتِ السَّخلةُ، أي: ولدت، كما يقال: أُعطي درهمٌ، وقد يقال: نَتَجَتِ الناقةُ ولدًا بالبناء للفاعل، على معنى وَلَدت، أو حَمَلت، قال السَّرَقُسْطيّ: نَتَجَ الرجلُ الحاملَ،
(1)
"الفتح" 4/ 185.
وَضَعَت عنده، ونَتَجَتْ هي أيضًا: حَمَلت لغةٌ قليلةٌ، وأَنْتَجَتِ الفرسُ، وذو الحافر بالألف: استبان حملُها، فهي نَتُوجٌ. انتهى كلام الفيّوميّ
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(بَهِيمَةً جَمْعَاءَ)؛ أي: لم يذهب من بدنها شيء، سُمّيت بذلك؛ لاجتماع سلامة أعضائها، لا جَدْع بها، ولا كيّ
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "تُنتج" يُروى علي بناء المفعول، وفي "المُغْرب" عن الليث: وقد نُتجت الناقة.
(هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا) بضمّ حرف المضارعة، وكسر الحاء المهملة، وتشديد السين المهملة، من الإحساس، وهو الإدراك بإحدى الحواسّ، قاله وليّ الدين
(3)
، وقال في "الفتح": والمراد به العلم بالشيء، يريد أنها تُولَد لا جدع فيها، وإنما يَجْدعها أهلها بعد ذلك، وفي رواية البخاريّ:"هل ترى فيها جدعاء؟ ".
وقوله: (مِن جَدْعَاءَ") -بفتح الجيم، وإسكان الدال المهملة، وبالمدّ- أي: مقطوعة الأذن، أو غيرها من الأعضاء، ومعناه أن البهيمة تَلِد البهيمة كاملة الأعضاء، لا نقص فيها، وإنما يحصل فيها النقص، والجدع بعد ولادتها، فكذلك يخرج المولود سليمًا من الكفر، وإنما يطرأ له ذلك بعدُ، قاله وليّ الدين رحمه الله
(4)
.
أي: مقطوعة الأذن، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟ " في موضع الحال؛ أي: بهيمة سليمة مقولًا في حقّها هذا القول، وفيه نوع من التأكيد بمعنى أن كل من نظر إليها قال ذلك؛ لظهور سلامتها، و"الجدعاء": المقطوعة الأذن، ففيه إيماء إلى أن تصميمهم على الكفر، كان بسبب صَمَمِهم عن الحقّ، وأنه كان خليقًا فيهم. انتهى
(5)
.
(1)
المصباح المنير" 2/ 591 - 592.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 546.
(3)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 229.
(4)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 229.
(5)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 546.
[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ذكر ابن هشام في "المغني" عن ابن هشام الخضراويّ أنه جعل هذا الحديث شاهدًا لورود "حتى" للاستثناء، فذكره بلفظ:"كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه، وينصّرانه"، وقال: ولك أن تخرّجه على أن فيه حذفًا؛ أي: يولد على الفطرة، ويستمرّ على ذلك حتى يكون؛ يعني: فتكون للغاية على بابها. انتهى، ومال صاحب "المغني" في موضع آخر إلى أنه ضُمِّن "يولد" معنى ينشأ مثلًا، قال: وقد وجدت الحديث في "تفسير ابن مردويه" من طريق الأسود بن سَرِيع بلفظ: "ليست نَسَمةٌ تولد، إلا وُلدت على الفطرة، فما تزال عليها، حتى يُبين عنها لسانها. . ." الحديث، وهو يؤيد الاحتمال المذكور، واللفظ الذي ساقه الخضراوي لم أره في "الصحيحين"، ولا غيرهما، إلا عند مسلم
(1)
في الرواية الآتية بلفظ: "حتى يعبّر عنه لسانه"، ثم وجدت أبا نعيم في "مستخرجه على مسلم" أورد الحديث من طريق كثير بن عبيد، عن محمد بن حرب، عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ بلفظ:"ما من مولود يولد في بني آدم، إلا يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه يهوّدانه. . ." الحديث، وكذا أخرجه ابن مردويه من هذا الوجه، وهو عند مسلم
(2)
عن حاجب بن الوليد، عن محمد بن حرب، بلفظ: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، أبواه يهوّدانه
…
"، الحديث. انتهى.
(ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، هذا ظاهر في أن تلاوة الآية من أبي هريرة، وليس مرفوعًا، ففي الرواية الآتية إدراجٌ، فليُتنبّه.
قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ثم يقول" الظاهر: ثم قرأ، فعدل إلى القول، وأتى بالمضارع على حكاية الحال الماضية؛ استحضارًا له في ذهن السامع، كأنه يسمع منه صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(3)
.
واعترضه القاري، قائلًا: إن العلّة المذكورة لا تصلح أن تكون سببًا
(1)
هو الحديث الخامس في هذا الباب.
(2)
هو الحديث الأول في الباب، وهو الذي نشرحه الآن.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 546.
للعدول إلى القول، فالأظهر ما قاله ابن حجر: إن ظاهر السياق: ثم قرأ، فعَدَل عنه لفظًا إشارة فيما يظهر -والله أعلم- أن اللفظ القرآنيّ في مقام الاستدلال لا تجري عليه أحكام القرآن؛ لأن ذِكره للاستدلال به صارف له عن القرآنيّة. اهـ. ويؤيّده ترك الاستعاذة في ابتدائه. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما قاله الطيبيّ: هو التوجيه الأقرب، وأما ما استظهره القاري مما قاله ابن حجر، ففيه نظر، ولا سيّما قوله: صارف له عن القرآنيّة غير صحيح؛ بل باطلٌ؛ فإن الاستدلال بالقرآن لا يصحّ إلا بكونه قرآنًا، وأما إذا خرج عن كونه قرآنًا فليس محل استدلال، وأما ما أيّد به من تَرْك الاستعاذة فيه، فلا يدلّ عليه؛ وإنما يدل على كون الأمر بالاستعاذة في الآية للاستحباب، فتبصّر بالإنصاف، والله تعالى أعلم.
(وَاقْرؤوا إِنْ شِئْتُمْ) معرفة الدليل على ما ذُكر من القرآن قوله تعالى: ({فِطْرَتَ اللَّهِ} [الروم: 30]) بنصب "فطرة" على الإغراء؛ أي: الزموها، وسيأتي ما قيل في معناها. ({الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} [الروم: 30])؛ أي: خَلَقهم ابتداءً، وجَبَلهم ({عَلَيْهَا} [الروم: 30])؛ أي: على تلك الفطرة، ({لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30])؛ أي: فيكم، من قبول الإسلام، وهو مؤوّل بأنه من شأنه، أو الغالب فيه، أنه لا يبدّل، أو يقال: الخبر بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون إخبارًا محضًا، لحصول التبديل.
قال حماد بن سلمة في معنى الحديث: هذا عندنا حيث أَخَذ الله العهد في أصلاب آبائهم، فقالوا: بلى، قال الخطابيّ: هذا معنى حسنٌ، وكأنه ذهب إلى أنه لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا، وإنما يُعتبر الإيمان الشرعيّ المكتسَب بالإرادة، ألا ترى أنه يقول:"فأبواه يهوّدانه" في حكم الدنيا، فهو مع وجود الإيمان الفطريّ فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين.
قال القرطبيّ رحمه الله: أقول -والعلم عند الله تعالى-: ويؤيّد هذا وجوه: أحدها: أن التعريف في قوله صلى الله عليه وسلم: "يولد على الفطرة" إشارة إلى معهود، وهو قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}
(1)
"مرقاة المفاتيح" 1/ 264.
الآية [الروم: 30] لأن معنى المأمور به بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} [الروم: 43]: اثبُت على العهد القديم المعنيّ في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
وثانيها: ما جاء في طرق هذا الرواية: "ما من مولود إلا وهو يولد على الملّة"، وكذا أورد الترمذيّ هذا الحديث في كتابه بغير لفظة الفطرة، ولفظه:"كل مولود يولد على الملّة"؛ لأن الدِّين في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عَيْن الملّة؛ لقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [الأنعام: 161] وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء كلّهم وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم. . ." الحديث، أخرجه مسلم.
وثالثها: التشبيه بالمحسوس المعايَن؛ ليفيد أن ظهوره بلغ في الكشف والبيان مبلغ هذا المحسوس المشاهَد، ثم قيّده بقوله:"هل تحسّونه" تقريرًا لذلك، كما سبق.
وتلخيصه: أن العالَم إما عالم الغيب، وإما عالم الشهادة، فإذا نُزِّل الحديث على عالم الغيب أشكل معناه، وإذا صُرِف إلى عالم الشهادة الذي عليه مبنى ظاهر الشرع، سهل تعاطيه، كما قال الخطّابيّ.
وتحريره: أن الناظر إذا نظر إلى المولود نفسه من غير اعتبار عالم الغيب، وأنه وُلد على الخلقة التي خَلَق الله الناس عليها، من الاستعداد للمعرفة، وقبول الحق، والتأبي عن الباطل، والتمييز بين الخطأ والصواب، حَكَمَ بأنه لو تُرك على ما هو عليه، ولم يَعْتَوِره من الخارج ما يَصُدّه عن النظر الصحيح من فساد التربية، وتقليد الأبوين، والإِلْف بالمحسوسات، والانهماك في الشهوات، ونحو ذلك، استَمَرّ على ما كان عليه من الفطرة السليمة، ولم يَختر عليه شيئًا، وَينظُر فيما نُصب من الدلائل على التوحيد، وصِدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك نظرًا صحيحًا يوصله إلى الحقّ، ويهديه إلى الرّشْد، وعَرَف الصواب، واتّبَع الحقّ، ودخل في الملة الحنيفية، ولم يلتفت إلى ما سواها، لكن يصدُّه عن ذلك أمثال هذه العوائق.
[فإن قلت]: أمْر الغلام الذي قتله الخضر ينقض عليك هذا البناء؛ لأنه لم يُلحق بأبويه، بل خيف إلحاقهما به؛ لقول تعالى: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا} [الكهف: 80]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طُبع كافرًا"، وهو حديث رواه مسلم.
[قلت]: لا ينقضه، بل يرفعه، ويُشَيِّد بنيانه؛ لأن الخضر؛ نظر إلى عالم الغيب، وقَتل الغلام، وموسى عليه السلام اعتبر عالم الشهادة، وظاهر الشرع، فأنكر عليه، ولذلك لمّا اعتَذَر الخضر بالعلم الخفي الغائب، أمسك موسى؛ عن الاعتراض. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (الآية) تجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة، النصب على تقدير فِعْل؛ أي: اقرأ الآية إلى آخرها، والرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: الآية مقروءة بتمامها، والجرّ بتقدير: إلى آخر الآية، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6732 و 6733 و 6734 و 6735 و 6736 و 6737 و 6738](2658)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1358 و 1359 و 1385) و"التفسير"(4775) و"القدر"(6599)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4/ 229 و 230)، و (الترمذيّ) في "القدر"(2138)، و (مالك) في "الموطّأ) (1/ 241)، و (الطيالسيّ) في "مسنده" (2433)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 282 و 346 و 393 و 410)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (128 و 129 و 130)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار" (2/ 162)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (11/ 197 و 282)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة" (ص 194)، و (أبو نعيم) في "مستخرجه" (3/ 9)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (6/ 202 و 203) و"شُعب الإيمان" (1/ 97) و"الاعتقاد" (1/ 164 و 155)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة" (994 و 995 و 998)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (85)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 547 - 548.
1 -
(منها): بيان إثبات القدر، وأن الله تعالى علم الأشياء قبل وجودها، وقدّرها، وكتبها، ثم إنها توجد على طِبق ذلك.
2 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن الولد الصغير يتبع أبويه في الإسلام والكفر، ففي رواية لمسلم:"فإن كانا مسلمين فمسلم"، وقد أجمع المسلمون على ذلك، وإنما اختلفوا فيما إذا أسلم أحد أبويه، فقال الشافعيّ، وأبو حنيفة، وأحمد، والجمهور: يتبع أيهما أسلم، سواء كان هو الأب، أو الأم، وقال مالك: يتبع أباه خاصّة، دون أمه، حتى لو أسلمت أمه، وأبوه كافر استمرّ على الحكم له بالكفر.
واختلفوا أيضًا فيما إذا سُبِيٍ، وليس معه أحد أبويه، فقال الجمهور أيضًا: يتبع السابي، فإذا كان مسلمًا فهو مسلم، ولو كان أبواه كافرين حيَّين، وقال مالك: هو على حاله من الحكم عليه بالكفر، ولو انفرد عنهما حتى يُسْلم استقلالًا بعد البلوغ، ذكره وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
3 -
(ومنها): أن ابن عبد البر: حكى عن طائفة أنه ليس في هذا الحديث ما يقتضي العموم، وأن معناه: أن كل من وُلد على الفطرة، وكان أبواه على غير الإسلام هوّداه، أو نصّراه، أو مجّساه، قالوا: وليس معناه أن جميع المولودين يولدون على الفطرة، بل المعنى: أن المولود على الفطرة بين الأبوين الكافرين يكفِّرانه، وكذا من يولد على الفطرة، وكان أبواه كافرين حُكم له بحكمهما في صِغَره، حتى يبلغ، فيكون له حُكْم نفسه حينئذ، لا حكم أبويه.
واحتَجّ هؤلاء بحديث الغلام الذي قَتَله الخضر، فإنه لم يولد على الفطرة، بل طُبع كافرًا، وحديث أبي سعيد مرفوعًا:"ألا إن بني آدم خُلقوا طبقات شتى، فمنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت مؤمنًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت كافرًا، ومنهم من يولد مؤمنًا، ويحيا مؤمنًا، ويموت كافرًا، ومنهم من يولد كافرًا، ويحيا كافرًا، ويموت مؤمنًا".
ويردّ هذا التأويل لفظ الرواية الأخرى بلفظ: "ما من مولود يولد إلا على
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 223.
هذه الفطرة"
(1)
، فقد ذكره بأداة الحصر، فأفاد العموم، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى "الفطرة" المذكورة في هذا الحديث:
(اعلم): أنه قد اختَلَف السلف في المراد بها على أقوال كثيرة:
[أحدهما]: أن المراد: الخِلقة، فإن الفَطْر بمعنى الخَلْق، والمراد: الخلقة المعروفة الأُولى المخالفة لخلق البهائم؛ أي: على خلقة يَعرف بها ربه، إذا بلغ مبلغ المعرفة، ذكره ابن عبد البرّ عن جماعة من أهل الفقه والنظر، قال: وأنكروا أن يُفْطَر المولود على كفر، أو إيمان، وإنما يعتقد ذلك بعد البلوغ إذا مَيَّز، ولو فُطر في أول أمره على شيء ما انتقل عنه، وقد نجدهم يؤمنون، ثم يكفرون، ومحال أن يعقل الطفل حال ولادته كفرًا أو إيمانًا، والله تعالى يقول:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، فمن لا يعلم شيئًا استحال منه الكفر والإيمان، قال ابن عبد البرّ: هذا القول أصحّ ما قيل في ذلك.
[القول الثاني]: أن المراد هنا: الإسلام، حكاه ابن عبد البرّ عن أبي هريرة، والزهريّ، وغيرهما، وقال هؤلاء: هذا هو المعروف عند عامّة السلف، من أهل العلم بالتأويل، فقد أجمعوا في قول الله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] أنها دين الإسلام، واحتجوا بقول أبي هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث: اقرءوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ، واحتجوا بقوله في حديث عياض بن حمار رضي الله عنه:"إن الله خَلَق آدم وبنيه حنفاء مسلمين"، ثم ردّه ابن عبد البر بأن الإسلام مستحيل من الطفل، وقرَّر المازري ذلك بأن المراد بالفطرة: ما أُخذ عليهم في صُلب آدم يوم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، وأن الولادة تقع عليها، حتى يقع التعبير بالأبوين، وقرره أبو العباس القرطبيّ بأن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مُؤَهّلة لقبول الحقّ، كما خَلَق أعينهم، وأسماعهم قابلة للمرئيات، والمسموعات، فما دامت على ذلك
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 223.
القبول، وعلى تلك الأهلية، أدركت الحقّ، ودين الإسلام، وصحح هذا أبو العباس القرطبيّ بقوله في رواية مسلم:"على هذه الملة"، وهي إشارة إلى ملة الإسلام، قال: وقد جاء ذلك مصرَّحًا به في "صحيح مسلم": "وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم. . ." الحديث.
وفي معنى ذلك قول النوويّ: الأصح أن معناه: أن كل مولود يولد متهيأ للإسلام، فمن كان أبواه، أو أحدهما مسلمًا استَمَرّ على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما، فيتبعهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى:"يهوّدانه، وينصّرانه"؛ أي: يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمرّ عليه حُكمُ الكفر، ودينهما، فإن سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره. انتهى
(1)
.
[القول الثالث]: أن المراد: البداءة التي ابتدأهم عليها؛ أي: على ما فَطر الله عليه خَلْقه، من أنه ابتدأهم للحياة، والموت، والشقاء، والسعادة، قال محمد بن نصر المروزيّ: وهذا المذهب سببه ما حكاه أبو عبيد، عن عبد الله بن المبارك، أنه سئل عن قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة"، فقال: يفسِّره الحديث الآخر حين سئل عن أطفال المشركين، فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين"، قال: وقد كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا القول، ثم تركه، وقال ابنه عبد الله ما رسمه مالك في "الموطإ"، وذكره في أبواب القدر فيه من الآثار ما يدلّ على أن مذهبه في ذلك نحو هذا القول.
[القول الرابع]: أن معناه: أن الله تعالى قد فطرهم على الإنكار، والمعرفة، وعلى الكفر، والإيمان، فأخذ من ذرية آدم عليه السلام الميثاق حين خلقهم، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} قالوا جميعًا: {بَلَى} ، فأما أهل السعادة، فقالوا: بلى على معرفة له طوعًا من قلوبهم، وأما أهل الشقاوة، فقالوا: بلى كرهًا، لا طوعًا، قال محمد بن نصر المروزيّ: وسمعت إسحاق بن راهويه يذهب إلى هذا المعنى، واحتَجّ بقول أبي هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم:
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 208.
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} قال إسحاق: يقول: لا تبديل لخِلْقته التي جُبل عليها ولدُ آدم كلهم؛ يعني: من الكفر والايمان، والمعرفة والإنكار، قال: واحتَجَّ له بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال إسحاق: أجمع أهل العلم إنها الأرواح قبل الأجساد، واحتَجَّ لهذا أيضًا بحديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه في قصة الغلام الذي قَتَله الخضر، وأنه طُبع كافرًا، وبحديث عائشة رضي الله عنها، وقوله صلى الله عليه وسلم لها:"أوَ لا تدرين أن الله خلق الجنة، وخلق النار، فخلق لهذه أهلًا، ولهذه أهلًا؟ "
(1)
.
قال إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم، قال ابن عبد البر: إن أراد هؤلاء أن الله خلق الأطفال، وأخرجهم من بطون أمهاتهم ليعرف منهم العارف، ويعترف، فيؤمن، ويُنكر منهم المنكر، فيكفر، كما سبق له القضاء، وذلك في حين يصح منهم فيه الإيمان والكفر، فذلك ما قلنا، وإن أرادوا أن الطفل يولد عارفًا مقرًّا مؤمنًا وعارفًا جاحدًا كافرًا في حين ولادته، فهذا يكذبه العيان والعقل، قال: وقول إسحاق في هذا الباب لا يرضاه الحذّاق الفهماء من أهل السُّنَّة، وإنما هو قول المجبرة.
[القول الخامس]: أن معناه: ما أخذ الله من ذرية آدم من الميثاق قبل أن يخرجوا إلى الدنيا يوم استخرج ذرية آدم من ظهره، فخاطبهم:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} فأقرُّوا له جميعًا بالربوبية عن معرفة منهم به، ثم أخرجهم من أصلاب آبائهم، مخلوقين، مطبوعين على تلك المعرفة، وذلك الإقرار، قالوا: وليست تلك المعرفة بإيمان، ولا ذلك الإقرار بإيمان، ولكنه إقرار من الطبيعة للرب فطرةٌ ألزمها قلوبهم، ثم أرسل إليهم الرسل، فدعَوْهم إلى الاعتراف له بالربوبية، فمنهم من أنكر بعد المعرفة؛ لأنه لم يكن الله ليدعو خَلْقه إلى الإيمان به، وهو لم يُعرِّفهم نفسه، رواه أبو داود في "سننه" عن حماد بن سلمة أنه سئل عن هذا الحديث فقال: هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حين قال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} .
[القول السادس]: أن المراد بالفطرة: ما يقلّب الله قلوب الخلق إليه بما
(1)
رواه مسلم في هذا الباب.
يريد، فقد يكفر العبد، ثم يؤمن، فيموت مؤمنًا، وقد يؤمن، ثم يكفر، فيموت كافرًا، وقد يكفر، ثم لا يزال على كفره، حتى يموت عليه، وقد يكون مؤمنًا، حتى يموت على الإيمان، فالفطرة عند هؤلاء ما قدّره الله على عباده من أول أحوالهم إلى آخرها، سواء كانت حالة واحدة لا تنتقل، أو حالًا بعد حال، قال ابن عبد البرّ: وهذا وإن كان صحيحًا في الأصل، فإنه أضعف الأقاويل من جهة اللغة في معنى الفطرة، حكاها كلها ابن عبد البرّ وغيره.
[القول السابع]: أن المراد بالفطرة: ملّة أبيه؛ أي: دِينه؛ بمعنى: أن له حُكمه، حكاه القاضي عياض، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: سألت محمد بن الحسن عن هذا الحديث، فقال: كان هذا في أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، وقبل الأمر بالجهاد، قال أبو عبيد: كأنه يعني: أنه لو كان يولد على الفطرة، ثم مات قبل أن يهوِّداه أبواه، أو ينصّرانه، لم يرثهما، ولم يرثاه؛ لأنه مسلم، وهما كافران، ولَمَا جاز أن يُسْبَى، فلما فُرضت الفرائض، وتقررت السنن على خلاف ذلك عُلم أنه يولد على دينهما. انتهى.
وهذا يوافق القول الثاني أن المراد بالفطرة: الإسلام لله، وجعله منسوخًا لِمَا ذكره، والحقّ أنه لا يحتاج فيه إلى دعوى النسخ؛ لأنه وإن كان معناه الولادة على الإسلام، فقد أخبر في بقيته أن أبويه يهوّدانه، وينصّرانه؛ أي: يثبت له حكمهما بطريق التبعية، فالحكم بإسلامه هو الباطن، ويهوديته، أو نصرانيته هو في الظاهر.
وقال ابن عبد البرّ: أظن محمد بن الحسن حاد عن الجواب فيه لإشكاله عليه، أو لجهله به، أو لكراهة الخوض في ذلك، قال: وقوله: إن ذلك كان قبل الأمر بالجهاد، فليس كما قال؛ لأن في حديث الأسود بن سَرِيع ما يُبيّن أن ذلك كان بعد الأمر بالجهاد، وهو حديث صحيح، ثم رَوَى عن الأسود بن سَرِيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال قوم بلغوا في القتل حتى قتلوا الولدان؟ " فقال رجل: أوَ ليس أبناؤهم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوَ ليس خياركم أولاد المشركين؟ إنه ليس من مولود، إلا وهو يولد على الفطرة، فيعبِّر عنه لسانه، ويهوِّده أبواه، أو ينصّرانه"، ذكر هذا كلّه ولي الدين العراقيّ
(1)
.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 221.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أرجح الأقوال هو القول الثاني، وهو أن المراد بالفطرة هو الإسلام، وقد تقدّم أنه هو المعروف عند عامّة السلف، وصححه النووي، والقرطبيّ، قال النوويّ رحمه الله: والأصح أن معنى قوله: "يولد على الفطرة" أن كل مولود يولد متهيئًا للإسلام، فمن كان أبواه، أو أحدهما مسلمًا استمرّ على الإسلام في أحكام الآخرة والدنيا، وإن كان أبواه كافرين جرى عليه حكمهما في أحكام الدنيا، وهذا معنى:"يهوِّدانه، وينصِّرانه، ويمجِّسانه"؛ أي: يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن بلغ استمرّ عليه حُكْمُ الكفر ودِينهما، فإن كانت سبقت له سعادة أسلم، وإلا مات على كفره، وإن مات قبل بلوغه فالأصح أنه من أهل الجنة.
والجواب عن حديث: "الله أعلم بما كانوا عاملين" أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظه:"الله أعلم بما كانوا يعملون" لو بلغوا، ولم يبلغوا؛ إذ التكليف لا يكون إلا بالبلوغ.
وأما غلام الخضر، فيجب تأويله قطعًا؛ لأن أبويه كانا مؤمنين، فيكون هو مسلمًا، فيُتأوّل على أن معناه: أن الله أعلمُ أنه لو بلغ لكان كافرًا، لا أنه كافر في الحال، ولا يجري عليه في الحال أحكام الكفار، والله أعلم. انتهى.
والحاصل: أن أرجح الأقوال هو القول بأن الفطرة هي الإسلام، ويقوّي ذلك رواية مسلم بعد هذا بلفظ:"ما من مولود يولد إلا وهو على هذه الملّة"، فإنه صريح في كون معنى الفطرة هو الإسلام، ويقوّيه أيضًا ما سيأتي لمسلم في "كتاب صفة الجنّة" من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه الطويل، وفيه:"وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم. . ." الحديث، فهو أيضًا صريح في أنهم فُطروا على هذه الملّة، وهي الإسلام، فتأمَّله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في حكم الأطفال، هل هم من أهل الجنّة، أم من أهل النار؟
(اعلم): أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين، وأما أولاد المسلمين، فلا خلاف في كونهم من أهل الجنّة، كما حكاه القاضي أبو يعلى
الفرّاء الحنبليّ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: لا يُختلف فيهم أنهم من أهل الجنّة، وهذا هو المشهور بين الناس، وأما ما نُقل عن بعضهم أنهم توقّفوا، وقالوا: إن الوِلدان كلهم تحت المشيئة، فغريب جدًّا، كما نبّه عليه الحافظ ابن كثير في "تفسيره"
(1)
، فتنبّه.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه قد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في هذه المسألة على أقوال:
[أحدها]: أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحمَّادَين، وابن المبارك، وإسحاق، ونقله البيهقيّ في "الاعتقاد" عن الشافعيّ في حقّ أولاد الكفار خاصّةً، قال ابن عبد البرّ: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرّحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة، وأطفال الكفار خاصّة في المشيئة، والحجة فيه حديث:"الله أعلم بما كانوا عاملين".
قال ابن القيّم رحمه الله: قالوا: وقد رَوى ابن حبان في "صحيحه" من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاء العُطارديّ قال: سمعت ابن عباس يقول، وهو على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر هذه الأمة قَوّامًا، أو مقاربًا ما لم يتكلموا في الوِلدان، والقَدَر".
قال أبو حاتم: الوِلدان أراد بهم أطفال المشركين، قال ابن القيّم: وفيما استدلّت به هذه الطائفة نظر، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وَكَلَ عِلم ما كانوا يعملونه لو عاشوا إلى الله، وهذا جواب عن سؤالهم: كيف يكونون مع آبائهم بغير عمل؟ وهو طرف من الحديث، ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكره أبو داود
(2)
، والنبيّ صلى الله عليه وسلم وكَل العلم بعملهم إلى الله، ولم
(1)
راجع: "تفسير سورة الإسراء" لابن كثير 3/ 35.
(2)
أراد: ما أخرجه أبو داود في "سننه" 4/ 229: عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال: "هم من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يا رسول الله فذراري المشركين؟ قال: "من آبائهم"، قلت: بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين".
يقل: الله أعلم حيث يستقرون، أو أين يكونون، فالدليل غير مطابق لمذهب هذه الطائفة.
وأما حديث أبي رجاء عن ابن عباس في المنع من الكلام فيهم، ففي القلب مِن رَفْعه شيء
(1)
.
وبالجملة فإنما يدلّ على ذمّ من تكلم فيهم بغير علم، أو ضَرَب الأحاديث فيهم بعضها ببعض، كما فعل مع الذين أنكر عليهم كلامهم في القدر، وأما من تكلم فيهم بعلم وحقّ فلا يُذمّ. انتهى
(2)
.
[ثانيها]: أنهم تَبَع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة، وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة، من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وتعقبه بأن المراد: قوم نوح خاصّة، وإنما دعا بذلك لَمّا أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وأما حديث:"هم من آبائهم - أو منهم"، فذاك ورد في حكم الحربيّ.
ورَوَى أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وِلدان المسلمين؟، قال:"في الجنة"، وعن أولاد المشركين؟ قال:"في النار"، فقلت: يا رسول الله لم يُدرِكوا الأعمال، قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئتِ أسمعتك تضاغيهم
(3)
في النار"، وهو حديث ضعيف جدًّا؛ لأن في إسناده أبا عَقِيل مولى بُهَيَّة، وهو متروك.
وقال ابن القيّم رحمه الله: وهذا القول مذهب طائفة، وحكاه القاضي أبو يعلى روايةً عن أحمد، قال شيخنا -يعني: ابن تيميّة رحمه الله- وهو غلط منه على أحمد، وسبب غلطه أن أحمد سئل عنهم، فقال: هم على الحديث، قال القاضي: أراد حديث خديجة؛ إذ سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام، فقال:"إن شئت أسمعتُك تضاغيهم في النار".
(1)
صححه الشيخ الألبانيّ رحمه الله. راجع: "الصحيحة" 4/ 19.
(2)
"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" 12/ 321.
(3)
أي: صياحهم.
قال شيخنا: وهذا حديث موضوع، وأحمد أجلّ من أن يَحتج بمثله، وإنما أراد حديث عائشة:"الله أعلم بما كانوا عاملين".
[ثالثها]: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار.
قال ابن القيّم: وهذا أيضًا ليس بشيء، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة والنار، وأما الأعراف، فإن مآل أصحابها إلى الجنة، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم
(1)
.
[رابعها]: خَدَم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس، ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسيّ، وأبو يعلى، وللطبرانيّ، والبزار، من حديث سمرة مرفوعًا:"أولاد المشركين خَدَم أهل الجنة"، وإسناده ضعيف.
[خامسها]: أنهم يصيرون ترابًا، رُوي عن ثمامة بن أشرس.
[سادسها]: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلّطه ابن تيمية، بأنه قول لبعض أصحابه، ولا يُحفظ عن الإمام أصلًا.
[سابعها]: أنهم يُمتحنون في الآخرة، بأن تُرفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن أبي عُذّب، أخرجه البزار، من حديث أنس، وأبي سعيد، وأخرجه الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل، وقد صحت مسألة الامتحان في حقّ المجنون، ومن مات في الفترة، من طرق صحيحة، وحَكَى البيهقيّ في "كتاب الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح، ومال إليه ابن القيّم، قال: وهذا أعدل الأقوال، وبه يُجمع بين شمل الأدلّة، وتتّفق الأحاديث في هذا الباب.
قال الجامع عفا الله عنه: لو صحّت أحاديث امتحان الأطفال لكان هذا المذهب أعدل المذاهب، وأرجحها، كما قال ابن القيّم، لكنها غير ثابتة، فقد أخرجها أبو يعلى الموصليّ من حديث أنس رضي الله عنه، وفي سنده ليث بن أبي سُليم، وهو متروك، وأخرجها الذهليّ، والبزّار من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، وفي سندها عطيّة العوفيّ، وهو ضعيف جدًّا، ورُوي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفي سنده عمرو بن واقد الدمشقيّ، وهو متروك.
(1)
"حاشية ابن القيم على سنن أبي داود" 12/ 321.
والحاصل: أن أحاديث امتحان الأطفال غير ثابتة، وإنما يصحّ حديث امتحان الأصمّ، والأحمق، والْهَرِم، وأهل الفترة، فقد أخرجه أحمد من حديث الأسود بن سَرِيع رضي الله عنه، فقال في "مسنده":
(16344)
- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا معاذ بن هشام، حدّثنا أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سَرِيع، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصمّ، لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة، فأما الأصمّ، فيقول: رب قد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق، فيقول: رب قد جاء الإسلام، والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرِم، فيقول: رب لقد جاء الإسلام، وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة، فيقول: رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم لَيُطيعنّه، فيرسِل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده، لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا".
ثم ساق بالإسناد المذكور عن قتادة، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة مثله، غير أنه قال في آخره:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا، ومن لم يدخلها يُسحب إليها". انتهى
(1)
.
وهذا إسناد صحيح، فظهر بهذا أن حديث الامتحان بالنسبة للأصمّ، ومن ذُكر معه صحيح، لا حديث امتحان الأطفال، فترجيح القول بالامتحان في حقّهم به غير صحيح؛ لأن طُرقه كلها واهية، فلا يمكن تصحيحها بتعدّد طرقها، فتنبّه، وتأمّل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: تُعُقّب القول بالامتحان المذكور بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا عمل فيها، ولا ابتلاء. وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة، أو النار، وأما في عرصات القيامة فلا مانع من ذلك، وقد قال تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)} [القلم: 42] وفي "الصحيحين": "إن الناس يؤمَرون بالسجود، فيصير ظَهْر المنافق طبقًا، فلا يستطيع أن يسجد".
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 24.
[ثامنها]: أنهم في الجنة، قال النوويّ رحمه الله: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وإذا كان لا يعذِّب العاقل؛ لكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يعذِّب غير العاقل من بابِ أولى، ولحديث سمرة الطويل، وفيه:"والشيخ في أصل الشجرة إبراهيم عليه السلام، والصبيان حوله، فأولاد الناس. . ."، ولحديث عمة خنساء قالت: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال:"النبيّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة"، رواه أحمد، وإسناده حسن.
[تاسعها]: الوقف.
[عاشرها]: الإمساك، قال الحافظ رحمه الله: وفي الفرق بينهما دقة. انتهى
(1)
. قال الجامع عفا الله عنه: أرجح الأقوال عندي هو قول من قال: إنهم في الجنّة، كما هو ظاهر مذهب البخاريّ رحمه الله، وذكر النوويّ رحمه الله: أنه المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحقّقون للآية المذكورة: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فإن قال قائل: إنها في عذاب الدنيا. قلنا: اللفظ عامّ، فلا ينفي دخول عذاب الآخرة.
ومِن أصرح الأدلّة: حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه في "صحيح البخاريّ" أنه صلى الله عليه وسلم قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة، وحوله وِلدان، فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين، وأولاد المشركين، قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال:"نعم، وأولاد المشركين"، وهذا أوضح دليل، وأبْيَن حجة في المسألة.
وقد مال الإمام البخاريّ رحمه الله إلى ترجيح هذا القول، فقال في "صحيحه":"باب ما قيل في أولاد المشركين"، قال في "الفتح": هذه الترجمة تُشعر بأنه كان متوقفًا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في "تفسير سورة الروم" بما يدلّ على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة، كما سيأتي تحريره، وقد
(1)
"الفتح" 4/ 178 - 179، كتاب "الجنائز" رقم (1384).
رَتَّب أيضًا أحاديث هذا الباب ترتيبًا يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدّره بالحديث الدالّ على التوقف -وهو حديث:"الله أعلم بما كانوا عاملين"- ثم ثنى بالحديث المرجِّح لكونهم في الجنة -وهو حديث الفطرة- ثم ثلّث بالحديث المصرِّح بذلك -وهو حديث قصّة الرؤيا- فإن قوله في سياقه: "وأما الصبيان حوله، فأولاد الناس" قد أخرجه في "التعبير" بلفظ: "وأما الولدان الذين حوله، فكل مولود يولد على الفطرة"، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: "وأولاد المشركين"، ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس مرفوعًا:"سألت ربي اللّاهين من ذرية البشر، أن لا يعذبهم، فأعطانيهم"، إسناده حسن، وورد تفسير اللاهين بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس مرفوعًا، أخرجه البزار، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صُريم عن عمتها، قالت: قلت: يا رسول الله، مَن في الجنة؟ قال:"النبيّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة"، إسناده حسن. انتهى.
والحاصل: أن المذهب الراجح في الأطفال، سواء كانوا للمسلمين -وهذا بلا خلاف- أو للمشركين، فإنهم في الجنّة؛ لوضوح أدلّته، وقوّة حجته، وإلله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6733]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، كِلَاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَقَالَ:"كَمَا تُنتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً"، وَلَمْ يَذْكُرْ جَمْعَاءَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى السامىّ -بالمهملة- أبو محمد البصريّ، وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7698)
- حدّثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصّرانه، ويمجّسانه، كما تنتج البهيمة، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول: واقرؤوا إن شئتم: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} ". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6734]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيِدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ"، ثُمَّ يَقُولُ: اقْرَؤُوا: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السّرح المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى) بن حسان المصريّ، يُعرف بابن التّستُريّ، صدوق، تُكُلِّم في بعض سماعاته، قال الخطيب: بلا حجة [10](ت 243)(خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 134.
3 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله بن وهب الحافظ المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ) بن أبي النِّجَاد الأيليّ، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، وقيل غير ذلك (ع) تقدّم في "المقدّمة" 3/ 14.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف المدنيّ الفقيه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 275.
وقوله: (ثُمَّ يَقُولُ إلخ) فاعل "يقول" ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، كما بُيّن في الرواية الماضية، وليس ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيه إدراج، كما مرّ بيانه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الإشارة إلى دين الإسلام؛ أي: دين الإسلام هو الدين المستقيم.
والحديث متّفق عليه، وقد مضى شرحه وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6735]
(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، ويشَرِّكَانِهِ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كانُوا عَامِلِينَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل بابين.
2 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ)"يُلِدَ" بضمّ أوله، وكسر ثانيه، فعل ماض مغيَّر الصيغة، أصله: وُلِدَ، على وزن ضُرِب، أُبدلت واوه ياء؛ لانضمامها، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ: "يُلِدَ" بضم الياء المثناة تحتُ، وكسر اللام، على وزن ضُرِبَ، حكاه القاضي عن رواية السمرقنديّ، قال: وهو صحيح على إبدال الواو ياءً؛ لانضمامها، قال: وقد ذكر الهجريّ في "نوادره": يقال: وُلِد ويُلِد بمعنًى، قال القاضي: ورواه غير السمرقنديّ: "يُولَدُ". انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 209 - 210.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله القاضي عياض، وتبعه النوويّ، والسنوسيّ، وغيرهما من ضبط:"يُلِدَ" بضمّ الياء التحتانيّة هو الصواب، وأما ما ذكره القرطبيّ من ضَبْطه بالتاء الفوقيّة بدل الياء، فالظاهر أنه تصحيف، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
(فَأَبَوَاهُ)؛ أي: المولود، (يُهَوِّدَانِهِ)؛ أي: يعلّمانه دين اليهود، ويجعلانه يهوديًّا، (وَيُنَصِّرَانِهِ)؛ أي: يعلّمانه دين النصارى، ويجعلانه نصرانيًّا، (وَيُشَرِّكَانِهِ") بتشديد الراء؛ أي: يعلّمانه دين المشركين، ويجعلانه مشركًا. (فَقَالَ رَجُلٌ) لا يُعرف اسمه
(1)
: (يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني (لَوْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ)؛ أي: قبل أن يبلغ أن يعرف هذه الأديان، ويتبيَّنها، بأن مات صغيرًا؛ أي: فما حكمه، هل هو من أهل الجنة، أم من أهل النار؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ") قال ابن قتيبة: معنى قوله: "بما كانوا عاملين"؛ أي: لو أبقاهم، فلا تحكموا عليهم بشيء، وقال غيره: أي: عَلِم أنهم لا يعملون شيئًا، ولا يرجعون، فيعملوا، أو أخبر بعلم شيء لو وُجد كيف يكون، مثل قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، ولكن لم يُرِدْ أنهم يُجازَون بذلك في الآخرة؛ لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل، قاله في "الفتح"
(2)
.
والحديث متفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6736]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإسنَادِ، فِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ:"مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ، إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ"، وَفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، حَتَّى يُبَيِّنَ عَنْهُ لِسَانُهُ"، وَفي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ:"لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ، حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسَانُهُ").
(1)
"تنبيه المعلم" ص 438.
(2)
"الفتح" 2/ 247.
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم تقدَّموا قريبًا.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) ضمير التثنية لأبي معاوية، وعبد الله بن
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش، ساقها الإمام أحمد رحمه الله في
"مسنده"، فقال:
(7438)
- حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد، إلا على هذه الملة، حتى
يُبِين عنه لسانه، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يشرّكانه،، قالوا: يا رسول الله،
فكيف ما كان قبل ذلك؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". انتهى
(1)
.
وأما رواية عبد الله بن نُمير، فقد ساقها أيضًا أحمد مقرونًا بغيره، فقال:
(7436)
- حدّثنا أبو معاوية، ووكيع، ومحمد بن عبيد، قالوا: حدّثنا
الأعمش
…
وابن نُمير ثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس مولود يولد إلا على هذه الملة"، وقال وكيع مرةً: "على
الملة". انتهى
(2)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6737]
(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزاق، حَدَّثنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَدَا مَا حَدَّثَنَا أبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ
أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُولَدُ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَة، فَأَبوَاهُ
يُهَوِّدَانِه، وَيُنَصِّرَانِه، كَمَا تَنْتِجُونَ الإبِلَ، فَهَلْ تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ، حَتَّى تَكُونُوا
أنتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا؟ قَالَ: "اللهُ
أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدَّم قبل ثلاثة أبواب.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 253.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 253.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ اليمنيّ؛ أنه (قَالَ: هَذَا) مبتدأ، وهو إشارة
إلى ما تضمّنته "صحيفته" المشهورة من الأحاديث، وعدّتها (138) حديثًا. (مَا
حَدَّثَنَا) "ما" اسم موصول خبر المبتدأ، (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
فَذَكَرَ)؛ أي: همّام، (أَحَادِيثَ) وقد مرّ عَدَدُها آنفًا، وقوله:(مِنْهَا) خبر مقدّم
لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) لأنه مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه ("مَنْ يُولَدُ)
"من" اسم موصول مبتدأ خبره قوله: (يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ) بكسر الفاء، هي
في اللغة: الْخِلقة، والمراد بها هنا ما يراد في الآية الشريفة، وهي الدِّين؛ لأنه
قد اعتَوَرها البيان من أول الآية، وهو:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ} ، ومن آخرها
وهو: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
(1)
.
(فَأَبوَاهُ) الفاء إما للتعقيب، وهو ظاهر، وإما للتسبب؛ أي: إذا تقرر ذلك
فمن تغيَّر كان بسبب أبويه، وقوله:(يُهَوِّدَانِه، وَيُنَصِّرَانِهِ) معناه: أنهما يعلّمانه ما
هو عليه، ويصرفانه عن الفطرة، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: يُرَغِّبانه في ذلك، أو
أن كونه تبعًا لهما في الدين بولادته على فراشهما يوجب أن يكون حكمه
حكمهما، وقيل: معنى "يهودانه": يُحكم له بحكمهما في الدنيا، فإن سبقت له
السعادة أسلم إذا بلغ، وإلا مات على كفره، وإن مات قبل بلوغه فالصحيح أنه
من أهل الجنة، وقيل: لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا، إنما يُعتبر
الإيمان الشرعيّ المكتسب بالإرادة، والفعل، وطفل اليهودِيَّيْن مع وجود الإيمان
الفطريّ محكوم بكفره في الدنيا تبعًا لوالديه.
قال الكرمانيّ رحمه الله: [فإن قلت]: الضمير في "أبواه" راجع إلى كل
مولود؛ لأنه عامّ فيقضي تهويد كل المواليد، أو نحوه، وليس الأمر كذلك،
لبقاء البعض على فطرة الإسلام.
[قلت]: الغرض من التركيب: أن الضلالة ليست من ذات المولود،
ومقتضى طبعه، بل أينما حصلت فإنما هي بسبب خارج عن ذاته. انتهى
(2)
.
(كمَا تَنْتِجُونَ الإِبِلَ) ضُبط في النُّسخ بالقلم بفتح التاء الأُولى، وكسر
(1)
"عمدة القاري" 8/ 177.
(2)
"عمدة القاري" 8/ 177.
الثانية، من باب ضرب، والواو فاعل، و"الإبل" منصوب على المفعوليّة، وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "تُنْتَجُون" بضم أوله، وإسكان ثانيه، وفتح ثالثه، وقوله:"الإبلَ" منصوب على المفعولية، وهذا الفعل مبنيّ للفاعل، وإن كانت صيغته صيغة المبنيّ للمفعول، وقول أبي العباس القرطبيّ: إنه مبنيّ لِمَا لم يُسَمّ فاعله، إن أراد في الصورة، وإلا فهو وَهَمٌ، فقد ذُكر فاعله معه. انتهى
(1)
.
(فَهَلْ تَجِدُونَ فِيهَا جَدْعَاءَ)؛ أي: مقطوعة الأذن، (حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا؟ ") من باب نفع؛ أي: تقطعون أُذُنها، (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أفَرَأَيتَ)؛ أي: أخبرنا، فهو من إطلاق السبب على المسبَّب؛ لأن مشاهدة الأشياء طريق إلى الإخبار عنها، والهمزة فيه مقرّرة؛ أي: قد رأيت ذلك، فأخبرنا
(2)
، (مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا)؛ أي: ماذا حكمه، أهو من أهل الجنّة، أم من أهل النار؟.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أفرأيت من يموت صغيرًا": هذا السؤال إنما كان عن أولاد المشركين، كما جاء مفسّرًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، فأمَّا أولاد المؤمنين، فقد تقدم الاستدلال على أنهم في الجنة، وأما أطفال المشركين فاختُلف فيهم على ثلاثة أقوال
(3)
: فقيل: في النار مع آبائهم، وقيل: في الجنة، وقيل: تؤجّج لهم نار، ويؤمرون بدخولها، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى منهم دخل النار. وذهب قوم -وأحسبهم من غير أهل السُّنَّة- فقالوا: يكونون في برزخ.
وسبب اختلاف الثلاثة الأقوال: اختلاف الآثار في ذلك، ومخالفة بعضها لظاهر قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، والصبيّ والمجنون لا يفهمون، ولا يخاطبون، فهم كالبهائم، فلم يُبعث إليهم رسول، فلا يعذَّبون.
والحاصل من مجموع ذلك -وهو: القول الحقّ الجاري على أصول أهل الحقّ-: أن العذاب المترتب على التكليف لا يعذَّبه من لم يكلّف، ثم لله
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 221.
(2)
"شرح الشيخ الهرريّ" 24/ 562.
(3)
هذا على حَسَب ما ثبت لدى القرطبيّ، وإلا فقد تقدّم أن الأقوال عشرة، فتنبّه.
تعالى أن يعذِّب من شاء ابتداء من غير تكليف، من صبيّ أو مجنون، أو غير ذلك بحكم المالكية، وأنه لا حَجْر عليه، ولا حكم، فلا يكون ظالمًا بشيء من ذلك إن فعله، كما قررناه في الباب قبل هذا، وعلى هذا يدلّ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنهما:"إن الله خلق للجنة أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم"، وقد قدّمنا أن الأعمال معرّفات، لا موجبات. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ") قال القرطبيّ رحمه الله: معناه: الله أعلم بما جَبَلَهم عليه، وطَبَعهم عليه، فمن خلقه الله تعالى على جبلّة المطيعين كان من أهل الجنة، ومن خلقه الله على جبلّة الكفار من القسوة والمخالفة، كان من أهل النار، وهذا كما قال في غلام الخضر:"طُبع يوم طبع كافرًا"، وهذا الثواب والعقاب ليس مرتّبًا على تكليف، ولا مرتبطًا به، وإنما هو بحكم علمه ومشيئته.
وأما من قال: إنهم في النار مع آبائهم، فمعتمَده قوله صلى الله عليه وسلم:"هم من آبائهم"، ولا حجَّة فيه لوجهين:
أحدهما: أن المسألة علمية، وهذا خبر واحد، وليس نصًّا في الغرض.
وثانيهما: سلّمناه، لكنا نقول ذلك في أحكام الدنيا، وعنها سئل، وعليها خرج الحديث، وذلك أنهم قالوا: يا رسول الله إنا نبيّت أهل الدار من المشركين، وفيهم الذراري؟ فقال:"هم من آبائهم"؛ يعني: في جواز القتل في حال التبييت، وفي غير ذلك من أحكام آبائهم الدنيوية، والله تعالى أعلم. انتهى
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الباب، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف: رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6738]
(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: الدَّرَاوَرْدِيَّ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ
(1)
"المفهم" 6/ 678 - 679.
(2)
"المفهم" 6/ 678 - 679.
إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أمُّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَأَبَوَاهُ
(1)
بَعْدُ يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، وَيُمَجِّسَانِهِ
(2)
، فَإِنْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فَمُسْلِمٌ، كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ، يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ فِي حِضْنَيْهِ، إلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل أربعة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنِ الْعَلَاءِ) بن عبد الرحمن الْجهنيّ مولاهم المدنيّ، (عَنْ أَبِيهِ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ مولاهم المدنيّ، (عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"كُلُّ إنْسَانٍ تَلِدُهُ أمُّهُ عَلَى الْفِطْرَةِ)؛ أي: على ملّة الإسلام (وَأَبَوَاهُ) وفي نسخة: "أبواه" بحذف الواو، (بَعْدُ) بالبناء على الضمّ؛ لقطعها عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد أن ولدته أمه على الفطرة، (يُهَوِّدَانِهِ، أوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ) وفي بعض النسخ: "وينصّرانه، ويمجّسانه" بالواو، (فَإِنْ كَانَا)؛ أي: الأبوان، (مُسْلِمَيْنِ فَمُسْلِمٌ)؛ أي: فالمولود مسلم تبعًا لهما، (كُلُّ إِنْسَانٍ) هكذا النسخ بدون واو، و"كلُّ" مبتدأ، وقوله: (تَلِدُهُ أُمُّهُ) جملة في محل جرّ صفة لـ "إنسان"، وجملة قوله: (يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ) خبر المبتدأ، و"يلْكُز" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: لكزه لَكْزًا، من باب قَتَلَ: ضربه بجُمْع كفّه في صدره، وربّما أُطلق على جميع البدن، قاله الفيّوميّ
(3)
.
(فِي حِضْنَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ: "في حضنيه" بحاء مهملة مكسورة، ثم ضاد معجمة، ثم نون، ثم ياء، تثنية حِضْن، وهو الجَنْب، وقيل: الخاصرة، قال القاضي: ورواه ابن ماهان: "خِصْييه" بالخاء المعجمة، والصاد المهملة، وهو الأنثيان، قال القاضي: وأظنّ هذا وَهَمًا، بدليل قوله:"إلا مريم، وابنها"، وسبق شرح هذا الحديث في "كتاب الفضائل"، وسبق ذِكْر الغلام الذي قتله الخضر في فضائل الخضر. انتهى
(4)
.
(1)
وفي نسخة: "أبواه".
(2)
وفي نسخة: "أو ينصّرانه، أو يمجّسانه".
(3)
"المصباح المنير" 2/ 558.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 210 - 211.
(إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا") عليهما السلام وفي رواية للبخاريّ: "كلُّ بني آدم يطعن الشيطان
في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن، فطعن في
الحجاب"؛ أي: في المشيمة التي فيها الولد
(1)
، قال القرطبيّ: هذا الطعن من
الشيطان هو ابتداء التسليط، فحَفِظ الله مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها، حيث
قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، ولم يكن
لمريم ذرية غير عيسى عليه السلام
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6739]
(2659) - (حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَيُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب القُرَشيّ العامريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [7] (ت 158) وقيل: سنة تسع (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ) الليثيّ المدنيّ، نزيل الشام، ثقةٌ [3](ت 5 أو 107) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.
والباقون ذُكروا قبل أربعة أحاديث.
وقوله: (سُئِلَ عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ) وفي رواية ابن عباس: "ذراري المشركين"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل، لكن عند أحمد، وأبي داود، عن عائشة رضي الله عنهما ما يَحْتَمِل أن تكون هي السائلة، فأخرجا من طريق عبد الله بن أبي قيس، عنها: قالت: قلت: يا
(1)
قال في "الفتح" في موضع آخر: المراد بالحجاب: الجلدة التي فيها الجنين، أو الثوب الملفوف على الطفل. انتهى.
(2)
"الفتح" 8/ 52، كتاب "الأنبياء" رقم (3431).
رسول الله ذراريّ المسلمين؟ قال: "مع آبائهم"، قلت: يا رسول الله بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين. . ." الحديث.
ورَوَى عبد الرزاق من طريق أبي معاذ، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة: قالت: سألتْ خديجةُ النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين؟ فقال: "هم مع آبائهم"، ثم سألته بعد ذلك، فقال:"الله أعلم بما كانوا عاملين"، ثم سألته بعدما استَحْكَم الإسلام، فنزل:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال: "هم على الفطرة -أو قال-: في الجنة"، وأبو معاذ هو سليمان بن أرقم، وهو ضعيف، ولو صحّ هذا لكان قاطعًا للنزاع، رافعًا لكثير من الإشكال المتقدّم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6740]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ (ح) وَحَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللهِ- كُلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ، وَابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، مِثْلَ حَدِيثِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ في حَدِيثِ شُعَيْبٍ، وَمَعْقِلٍ: سُئِلَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ) هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرام السَّمَرقنديّ، أبو محمد الدارميّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ -بفتح الموحّدة- الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة [10]، (ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
(1)
"الفتح" 4/ 180.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
4 -
(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع وأربعين ومائتين (م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.
5 -
(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، أبو عليّ، نُسِب إلى جدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
6 -
(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ) الْجَزَريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ -بالموحّدة- مولاهم، صدوقٌ يخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنِ الزُّهْرِيِّ)؛ يعني: هؤلاء الثلاثة: معمر، وشعيب بن أبي حمزة، ومعقل بن عُبيد الله رووا هذا الحديث عن الزهريّ مثل رواية يونس، وابن أبي ذئب عنه.
وقوله: (سُئِلَ عَنْ ذَرَارِيِّ الْمُشْرِكِينَ) -بتشديد الياء، وتخفيفها-: جمع ذُرّية، وذريةُ الرجل: أولاده، ويكون واحدًا، وجمعًا
(1)
.
[تنبيه]: أما رواية معمر عن الزهريّ فساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(20077)
- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن عطاء بن يزيد، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". انتهى
(2)
.
وأما رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1318)
- حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني عطاء بن يزيد الليثيّ، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذراريّ
(1)
"عمدة القاري" 23/ 149.
(2)
"مصنف عبد الرزاق" 11/ 117.
المشركين؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". انتهى
(1)
.
وأما رواية معقل بن عبيد الله عن الزهريّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6741]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا، فَقَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عُمر الْعَدَنيّ، نزيل مكّة، و"سُفيان" هو: ابن عيينة، و"أبو الزنا" هو: عبد الله بن ذكوان، و"الأعرج" هو: عبد الرحمن بن هُرمُز.
وقوله: (مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ صَغِيرًا)"مَن" اسم موصول في محلّ جرّ بدل من "أطفال"، و"صغيرًا" حال من الفاعل.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6742]
(2660) - (وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: "اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ إذْ خَلَقَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكْر التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو بِشْرٍ) جعفر بن إياس أبو بشر بن أبي وحشية -بفتح الواو وسكون المهملة وكسر المعجمة وتثقيل التحتانية- ثقة من أثبت الناس في
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 465.
سعيد بن جبير، وضعّفه شعبة في حبيب بن سالم وفي مجاهد، من الخامسة، مات سنة خمس وقيل: ست وعشرين، (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ) الأسدي مولاهم الكوفي، ثقة ثبت فقيه، من الثالثة، وروايته عن عائشة وأبي موسى ونحوهما مرسلة، قُتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين، (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.
5 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم في الباب
الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: أبي بشر عن سعيد، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) قال في "الفتح": لم يسمع ابن عباس رضي الله عنهما هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، بَيَّن ذلك أحمد، من طريق عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عباس قال: كنت أقول في أولاد المشركين: هم منهم، حتى حدّثني رجل عن رجل، من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلقيته، فحدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ربهم أعلم بهم، هو خلقهم، وهو أعلم بما كانوا عاملين"، فأمسكت عن قولي. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ)؛ أي: عن حُكمهم، أهم من أهل الجنّة، أم من أهل النار؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("اللهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ") قال ابن قتيبة: أي: عَلِم أنهم لا يعملون شيئَّا، ولا يرجعون، فيعملون، أو أخبر بعلم الشيء لو وُجد كيف يكون، مثل قوله:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، ولكن لم يُرِد أنهم يُجَازَوْن بذلك في الآخرة؛ لأن العبد لا يجازى بما لم يعمل.
وقال ابن بطال: يَحْتَمِل قوله: "الله أعلم بما كانوا عاملين" وجوهًا مَن التأويل:
(1)
"الفتح" 4/ 180 رقم (1383).
أحدها: أن يكون قبل إعلامه أنهم من أهل الجنة.
الثاني: أي: على أيّ دين يميتهم لو عاشوا، فبلغوا العمل، فأما إذا عُدم منهم العمل فهم في رحمة الله التي ينالها من لا ذنب له.
الثالث: أنه مُجمل يفسره قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} الآية [الأعراف: 172]، فهذا إقرار عامّ يدخل فيه أولاد المؤمنين والمشركين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث، ممن أقرّ بهذا الإقرار من أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدِّم، لا يُقضَى له بغيره؛ لأنه لم يدخل عليه ما يَنقُضه إلى أن يبلغ الحنث، وأما من قال: حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} الآية [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7، والنجم: 83]
(1)
.
وقوله: (إذْ خَلَقَهُمْ) ظرف لـ "أعلم"؛ أي: حين خلقهم، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6742](2660)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1383) و"القدر"(6597)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4711)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1951 و 1952) وفي "الكبرى"(2078 و 2079)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 215 و 328 و 340 و 358)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6743]
(2661) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ بْنِ مَسْقَلَةَ، عَنْ أَبِي إسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أَبويهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا").
(1)
"عمدة القاري" 8/ 212.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ القعنبيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُوهُ) سليمان بن طرخان التيميّ مولاهم البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(رَقَبَةُ -بقاف، وموحّدة مفتوحتين- ابْنُ مَسْقَلَةَ) بالسين، ويقال فيه: مصقلة -بالصاد- العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مأمونٌ، وكان يمزح [6](ت 129)(خ م ت س فق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
5 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد الله بن عُبيد الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، اختلط بأخرة، وكان يدلّس [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
6 -
(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، سيد القرّاء، ويكنى أبا الطفيل أيضًا، من فُضلاء الصحابة رضي الله عنهم، اختُلف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من ثُمانيّات المصنّف، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، ورواية سليمان عن رقبة من رواية الأكابر عن الأصاغر؛ لأن سليمان من الطبقة الرابعة، ورقبة من السادسة على ما في "التقريب"، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْغُلَامَ) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف العلماء في الغلام، هل كان بالغًا أم لا؟ فقال الكلبيّ: كان بالغًا يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، فأخذه
الخضر، فصرعه، ونزع رأسه عن جسده، قال الكلبيّ: واسم الغلام: شمعون، وقال الضحاك: حيسون، وقال وهب: اسم أبيه: سلاس، واسم أمه: رحمى، وحَكَى السُّهَيليّ أن اسم أبيه: كازير، واسم أمه: سهوى.
وقال الجمهور: لم يكن بالغًا، ولذلك قال موسى: زاكية، لم تذنب، وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فإن الغلام في الرجال يقال على من لم يبلغ، وتقابله الجارية في النساء.
وكان الخضر قتله لمّا عَلِم من سِرّه، وأنه طُبع كافرًا كما في صحيح الحديث، وأنه لو أدرك لأرهق أبويه كفرًا، وقتل الصغير غير مستحيل؛ إذا أذن الله في ذلك، فإن الله تعالى الفعال لِمَا يريد، القادر على ما يشاء، وفي "كتاب العرائس": إن موسى لمّا قال للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً} [الكهف: 74] الآية، غَضِب الخضر، واقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب: كافر، لا يؤمن بالله أبدًا.
وقد احتَجّ أهل القول الأول بأن العرب تُبقي على الشابّ اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية [من الطويل]:
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا
…
غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَا
وقال صفوان لحسان [من الطويل]:
تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي
…
غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ
وفي الخبر: إن هذا الغلام كان يُفسد في الأرض، ويُقسم لأبويه أنه ما فَعَل، فيُقسمان على قَسَمه، ويَحميانه ممن يطلبه، قالوا: وقوله: {بِغَيْرِ نَفْسٍ} [المائدة: 32] يقتضي أنه لو كان عن قَتْل نفس لم يكن به بأس، وهذا يدلّ على كِبَر الغلام، وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس، وإنما جاز قتله؛ لأنه كان بالغًا عاصيًا. قال ابن عباس: كان شابًّا يقطع الطريق. وذهب ابن جبير إلى أنه بلغ سنّ التكليف؛ لقراءة أُبَيّ، وابن عباس:"وأما الغلام فكان كافرًا، وكان أبواه مؤمنين"، والكفر والإيمان من صفات المكلفين، ولا يُطلق على غير مكلّف، إلا بحكم التبعية لأبويه، وأبوا الغلام كانا مؤمنين بالنصّ، فلا يصدق عليه اسم الكافر إلا بالبلوغ، فتعيَّن أن يصار إليه،
والغلام من الاغتلام، وهو شدّة الشَّبَق. انتهى
(1)
.
(الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ) قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": في البخاريّ: قال يعلى: قال سعيد: وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا، فأضجعه، ثم ذبحه بالسكين، {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} لم تعمل بالحنث، وفي "الصحيحين":"ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل؛ إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده، فقتله. . ."، وقيل: إن الخضر مرّ بغلمان يلعبون، فأخذ بيده غلامًا ليس فيهم أضوأ منه، وأخذ حجرًا، فضرب به رأسه حتى دمغه، فقتله، قال القرطبيّ: ولا اختلاف بين هذه الأحوال الثلاثة، فإنه يَحْتَمِل أن يكون دمغه أوّلًا بالحجر، ثم أضجعه، فذبحه، ثم اقتلع رأسه، والله أعلم بما كان من ذلك، وحَسْبك بما جاء في "الصحيح". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما في "الصحيحين" من قوله: "فاقتلع رأسه
بيده" هو المعوّل عليه، وأما القولان الآخران، فلا يُعوّل عليهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(طُبِعَ كَافِرًا) بالبناء للمفعول، وفي رواية:"طُبع يوم طُبع كافرًا"؛ أي: خُلق يوم خُلق كافرًا؛ يعني: خُلق على أنه يَختار الكفر، فلا ينافي ما تقدّم من قوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة"؛ إذ المراد بالفطرة: استعداد قبول الإسلام، وهو لا ينافي كونه شقيًّا في جِبِلّته
(3)
. (وَلَوْ عَاشَ) ذلك الغلام (لأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا")؛ أي: حَمَلهما عليهما، وألحقهما بهما، والمراد بالطغيان ها هنا: الزيادة في الضلال، قاله النوويّ، وقال السنديّ: أي: كلّفهما الطغيان، وحَمَلهما عليه، وعلى الكفر؛ أي: ما تَرَكهما على الإيمان. انتهى
(4)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 21.
(2)
"تفسير القرطبيّ" 11/ 20 - 21.
(3)
"تحفة الأحوذيّ" 8/ 473.
(4)
"عون المعبود" 12/ 309.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6743](2661)، وتقدّم ضمن الحديث الطويل في "فضائل الخضر" برقم [46/ 6144](2380)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4705 و 4706)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3150)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 429 و 6/ 388)، و (عبد الرزّاق) في "تفسيره"(2/ 411)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(16/ 3)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 118 و 121)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 73)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 88)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6221)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 86)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1075)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 139 و 166)، و (البغويّ) في "تفسيره"(3/ 174)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6744]
(2662) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: تُوُفِّيَ صَبِيٌّ، فَقُلْتُ: طُوبَى لَهُ، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ لَا تَدْرِينَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ، وَخَلَقَ النَّارَ، فَخَلَقَ لِهَذِهِ أَهْلًا، وَبهَذِهِ أَهْلًا؟ ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيَّبِ) بن رافع الأسديّ الكاهليّ، ويقال: الثعلبيّ الكوفيّ، ثقةٌ ربّما وَهِم [6] تقدم في "البر والصلة والآداب" 48/ 6683.
2 -
(فُضَيْلُ بْنُ عَمْرٍو) الْفُقيميّ -بالفاء، والقاف، مصغرًا- أبو النضر الكوفيّ، ثقةٌ [6](ت 110)(م قد ت س ق) تقدم في "الايمان" 41/ 272.
3 -
(عَائِشَةُ بِنْتُ طَلْحَةَ) بن عبيد الله التيمية، أم عمران، كانت فائقة الجمال، وهي ثقة [3](ع) تقدم في "الصيام" 34/ 2714.
4 -
(عَائِشَةُ أمُّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها تقدّمت قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، وشرح الحديث يأتي بعده.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6745]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ طلحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ طُوبَى لِهَذَا، عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ، لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ، وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: "أَوَ غيْرَ ذَلِكَ؟ يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا، خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن طلحة بن عبيد الله التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ يخطئ [6](ت 148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا في الباب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: دُعِيَ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله قوله:(رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى جَنَازَةِ صَبيٍّ) وفي رواية النسائيّ: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيٍّ، مِنْ صِبْيَانِ الْأَنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ". (مِنَ الأَنْصَارِ) بفتح الهمزة: لقب لمسلمي الأوس والخزرج الذين نصروا الإسلام، وآووا المسلمين، قال في "اللسان": والأنصار أنصار النبيّ صلى الله عليه وسلم، غَلَبت عليهم الصفة، فجرى مَجْرَى الأسماء، وصار كأنه اسم الحيّ، ولذلك أُضيف إليه
بلفظ الجمع، فقيل: أنصاريّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى جواز النسبة إلى الجمع إذا أُجري مُجرى المفرد، كأنصار، أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
وَالْوَاحِدَ اذْكُرْ نَاسِبًا لِلْجَمْعِ
…
إِنْ لَمْ يُشَابِهْ وَاحِدًا بِالْوَضْعِ
(فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ طُوبَى لِهَذَا) قال الطيبيّ رحمه الله: "طوبى" فُعلى من الطيب، قُلبت الياء واوًا للضمة قبلها، قيل: معنى طوبى له: أطْيب المعيشة له. وقيل: معناه: أُصيب خيرًا، على الكناية؛ لأن إصابة الخير مستلزم لطِيب العيش له، فأَطلق اللازم، وأراد الملزوم. انتهى
(2)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: طُوبَى فُعلَى من الطِّيب، كأنّ أصله طُيْبَى، فقلبوا الياء واوًا للضمّة قبلها. وفي "التهذيب": والعرب تقول: طُوبَى لكَ، ولا تقول: طوباك، وهذا قول أكثر النحويين، إلا الأخفش، فإنه قال: من العرب مَن يُضيفها، فيقول: طوباك. وقال أبو بكر: طوباك إن فعلتَ كذا، قال: هذا مما يَلْحَن فيه العوامّ، والصواب: طوبى لك إن فعلتَ كذا وكذا.
وطوبَى شجرة في الجنّة، وفي التنزيل العزيز:{طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29]، وذهب سيبويه بالآية مذهب الدعاء، قال: هو في موضع رفع، يدلّك على رفعه رفعُ:{وَحُسْنُ مَآبٍ} . قال ثعلب: وقرئ: (طوبى لهم وحُسْنَ مآب) -أي: بالنصب- فجَعَل طوبى مصدرًا، كقولك: سَقْيًا له، ونظيرُهُ من المصادر: الرُّجعَى، واستَدَلَّ على أن موضعه نَصْبٌ بقوله:{وَحُسْنُ مَآبٍ} .
قال الزجّاج: جاء في التفسير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أن طُوبَى شجرة في الجنّة. وقيل: طوبى لهم: حُسنَى لهم. وقيل: خَيرٌ لهم. وقيل: خِيرَةٌ لهم. وقيل: طوبى اسم الجنّة بالهندية. وفي "الصحاح": طوبى اسم شجرة في الجنّة. قال أبو إسحاق: طُوبى فُعلَى من الطِّيبِ؛ والمعنى: أن العيش الطيّب لهم، وكلّ ما
(1)
"لسان العرب" 5/ 210.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 536.
قيل من التفسير يُسدِّد قول النحويين: إنها فُعلَى من الطِّيب. ورُوي عن سعيد بن جبير أنه قال: طوبى اسم الجنّة بالحبشيّة. وقال عكرمة: طوبى لهم: معناه الحسنى لهم. وقال قتادة: طوبى كلمة عربيّة، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا؛ وأنشد [من الطويل]:
طُوبَى لِمَنْ يَسْتَبْدِلُ الطَّوْدَ بِالْقُرَى
…
وَرِسْلًا بِيَقْطِينِ الْعِرَاقِ وَفُومِهَا
"الرِّسْلُ": اللَّبَن، و"الطَّوْدُ": الجبلُ، و"اليَقْطِينُ": القَرْعُ، وقال أبو عبيدة: كل ورقة اتّسعت، وسترت فهي يَقْطِين. و"الْفُومُ": الخبز، والحنطة، ويقال: هو الثُّوم. وفي الحديث: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء"
(1)
. طوبى اسم الجنّة، وقيل: شجرة فيها، وأصلها فُعْلَى من الطيب، فلما ضُمَّت الطاء، انقلبت الياء واوًا. وفي الحديث:"طوبى للشام؛ لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها"
(2)
. والمراد بها هاهنا: فُعلَى من الطِّيب، لا الجنّة، ولا الشجرة. انتهى كلام ابن منظور ببعض اختصار
(3)
.
(عُصْفُورٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو عصفور؛ أي: طير صغير، والعصفور بضم العين المهملة، على المشهور، وقد تُفتح، وأنكر الفتح بعضهم، طائر معروف، ذَكَر، والأنثى بالهاء، قيل: سُمّي بذلك لأنه عصى، وفَرّ
(4)
.
(مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ)؛ أي: هو مثلها، من حيث إنه لا ذَنْب عليه، وينزل في الجنة حيث يشاء. قال ابن الملك: شبّهته بالعصفور كما هو صغير، إما بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من الطيور، وإما لكونه خاليًا من الذنوب من عدم كونه مكلّفًا. انتهى.
قال القاريّ: والأظهر الثاني، فهو تشبيه بليغ، وما قيل: من أن هذا ليس
(1)
أخرجه مسلم في "الإيمان"، رقم الحديث (145).
(2)
حديث صحيح، أخرجه أحمد، والترمذي، والحاكم، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
(3)
"لسان العرب" في مادة: (طيب).
(4)
راجع: "تاج العروس من جواهر القاموس" 3/ 408.
من باب التشبيه؛ لأنه لا عصفور في الجنة، فممنوع؛ لِمَا ورد في الحديث:"إن في الجنّة طيرًا كأمثال الْبُخْت تأتي الرَّجل، فيُصيب منها، ثم تذهب كأن لم ينقص منها شيء"، وقد قال الله عز وجل:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)} [الواقعة: 21]. وأما ما ذكره ابن حجر -يعني: الهيتمي- من حديث: "أرواح الشهداء في أجواف طيور خُضْر. . ."
(1)
، وخبر:"إنما نسمة المؤمن -أي: روحه- طائر في شجر الجنة. . ."
(2)
، فليس يصلح سندًا للمنع، كما لا يخفى
(3)
. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الذي قال: إنه ليس من باب التشبيه، هو الطيبيّ، ونصّ عبارته في "الكاشف":
[فإن قلت]: هذا فيه إشكال؛ لأنه ليس من باب التشبيه، كما تقول: هذا كعصفور من عصافير الجنة؛ إذ ليس المراد أن ثمة عصفورًا، وهذا مشبَّه به، ولا من باب الاستعارة؛ لأنّ المشبّه والمشبَّه به مذكوران؛ لأن التقدير هو عصفور، والمقدّر كالملفوظ.
(1)
حديث أخرجه مسلم في "صحيحه"، ولفظه: عن مسروق قال: سألنا عبد الله عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169] قال: أمَا إنا قد سألنا عن ذلك، فقال:"أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربهم اطّلاعة، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات: فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يُسألوا، قالوا: يا رب نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا، حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُركوا".
(2)
حديث صحيح، أخرجه النسائيّ في "المجتبى" 8/ 104، رقم الحديث (2073). ولفظه:"إنما نَسَمَة المؤمن طائر، في شجر الجنة، حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة".
(3)
قال الجامع: الظاهر أنه صالح للمنع، فتأمّل.
(4)
راجع: "المرقاة" 1/ 269 - 270.
[قلت]: هو من باب الادّعاء، كقولهم: تحيّة بينهم ضربٌ وجيعٌ، وقولهم: القلم أحد اللسانين، جُعل بالادّعاء التحيّة والقلم ضربين: أحدهما المتعارف من الضرب واللسان، والآخر غير المتعارف من الضرب واللسان، فبيّن في الأول بقوله: ضرب وجيعٌ أن المراد غير المتعارف، كما بيّن في الثاني بقوله: أحد اللسانين أن المراد منه غير المتعارف، جَعَلت رضي الله عنها العصفور صنفين: أحدهما: المتعارف، وثانيهما: الأطفال من أهل الجنّة، وعيّنت بقولها:"من عصافير الجنة" أن المراد الثاني. وقولها: "لم يعمل السوء" بيان لإلحاق الطفل بالعصفور، وجَعْله منه، كما جَعَل القائل القلمَ لسانًا بواسطة إفصاحهما عن الأمر المضمر. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هكذا قرّر الطيبيّ أنه لا تشبيه هنا، لكن الحقّ أنه من باب التشبيه، وقد عرفت تحقيقه في كلام القاري المذكور قبله، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(لَمْ يَعْمَل) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ، (السُّوءَ) بضم السين المهملة، وتُفتَح؛ أي: الذَّنْب، قال المظهر: أي: لم يعمل ذنبًا يتعلّق بحقوق الله، وأما حقوق العباد، كإتلاف مال مسلم، وقَتْل نفس، فيؤخذ منه الغُرْم والدية، وإذا سرق يؤخذ منه المال، ولا تُقطع يده؛ لأنه من حقوق الله. انتهى، قال القاريّ: لا تُسمّى هذه الأفعال منه ذنوبًا. فتأمل
(2)
.
والحاصل: أنه لم يَجرِ عليه القلمُ بسبب سوء عمله، لكونه مرفوع القلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"رُفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ حتى يحتلم"، حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأبو داود، والحاكم.
(وَلَمْ يُدْرِكْهُ)؛ أي: لم يُدْرك وقت السوء، وهو ما بعد البلوغ، وقال القاري: أي: لم يَلحقه السوء، فيكون تأكيدًا، أو لم يُدرك هو السوء؛ أي:
(1)
"الكاشف" 2/ 536.
(2)
"المرقاة" 1/ 270.
وقته؛ لموته قبل التكليف، فضلًا عن عمله، والتأسيس أَولى، ومع إفادة المبالغة أحرى. قاله القاري.
قال العلامة القرطبيّ رحمه الله: إنما قالت عائشة لهذا؛ لأنها بَنَت الأمرَ على أن كل مولود يولد على فطرة الإسلام، وأن الله تعالى لا يعذّب حتى يبعث رسولًا، فحَكَمَت بذلك، فأجابها النبيّ صلى الله عليه وسلم بما ذكر. انتهى
(1)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("أَوَ غَيْرَ ذَلِكِ؟) بفتح الواو، ورفع "غيرُ"، وكسر الكاف، قال القاري: هو الصحيح المشهور من الروايات، والتقدير: أتعتقدين ما قلتِ؟، والحقّ غيرُ ذلك، وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنّة، فالواو للحال.
وفي "الفائق" للزمخشريّ: الهمزة للاستفهام؛ أي: الإنكاريّ، والواو عاطفة على محذوف، و"غيرُ" مرفوع بعامل مضمر، تقديره: أقلتِ هذا؟ ووقع غير ذلك. ويجوز أن تكون "أو" بسكون الواو التي هي لأحد الأمرين؛ أي: الواقع هذا أو غيرُ ذلك. وقيل: التقدير: أو هو غير ذلك. ورُوي بنصب "غيرَ"؛ أي: أو يكون غيرَ ذلك، أو التقدير: أو غير ما قلتِ. قاله القاري
(2)
.
وقال الطيبيّ: ويجوز أن تكون "أو" بمعنى "بل"، أنشد الجوهريّ [من الطويل]:
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى
…
وَصُورَتُهَا أوْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
يريد: بل أنت، وقوله تعالى:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَو يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147]؛ أي: بل يزيدون، كأنه صلى الله عليه وسلم لم يَرتَضِ قولها رضي الله عنها، فاضرب عنه، وأثبت ما يُخالفه؛ لِمَا فيه من الحكم بالغيب، والجزم بتعيين إيمان أبوي الصبيّ، أو أحدهما؛ إذ هو تبعٌ لهما، ومرجع معنى الاستفهام إلى هذا؛ لأنه لإنكار الجزم، وتقرير لعدم التعيين.
ولعلّ الرّدّ كان قبل إنزال ما أُنزل عليه في وِلدان المؤمنين. انتهى.
[فائدة مهمّة]: ذكر القاضي عياض رحمه الله في "المشارق" بحثًا مهمًّا يتعلّق بـ "أَوْ"، و"أَوَ"، فقال:
[فصل]: في "أَو كذا" بالإسكان، "وأَوَ كذا" بالفتح.
(1)
المفهم 6/ 679.
(2)
"المرقاة" 1/ 270.
فاعلم أنه متى جاءت هذه الصيغة على التقرير، أو التوبيخ، أو الردّ، أو الإنكار، أو الاستفهام كانت مفتوحة الواو، وإذا جاءت على الشكّ، أو التقسيم، أو الإبهام، أو التسوية، أو التخيير، أو بمعنى الواو، على رأي بعضهم، أو بمعنى "بل"، أو بمعنى "حتى"، أو بمعنى "إلى"، وكيف كانت عاطفة فهي ساكنة.
فمما يُشكل من ذلك في هذه الأصول قوله في حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه حين قال: إني لأراه مؤمنًا، فقال صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمًا"، هذه بسكون الواو، على معنى الإضراب عن قوله، والحكمِ بالظاهر، كأنه قال: بل قل: مسلمًا، ولا تقطع بإيمانه، فإن حقيقة الإيمان، وباطن الخَلْق لا يعلمه إلا الله، وإنما تَعْلم الظاهر، وهو الإسلام، وقد تكون بمعنى التي للشك؛ أي: لا تقطع بأحدهما دون الآخر، ولا يصحّ فتح الواو هنا جملةً.
ومثله قوله لعائشة رضي الله عنها حين قالت: عصفور من عصافير الجنة: "أو غير ذلك" بالسكون؛ أي: لا تقطعي على ذلك، فقد يكون غير ما تعتقديه، فعِلمه إلى الله تعالى، ومن فَتَح الواو في هذا ومثله أحال المعنى، وأفسده.
قال الجامع عفا الله عنه: لا إحالة للمعنى، ولا إفساد في الفتح، كما تقدّم تحقيقه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: ومثله قول المرأة: إنه لأسحر الناس، أوْ إنه لرسول الله حقًّا، على طريق الشكّ، وكذلك قوله في لحوم الحمر:"واكسروا القدور"، فقالوا: نهريق ما فيها، ونغسلها؟، فقال:"أو ذلك" بالسكون على الإباحة، والتسوية.
وأما قوله في حديث: "ما يفتح من زهرة الدنيا، أَوَ خيرٌ هو؟ " فهذا بفتح الواو؛ لأنه على جهة التقرير، والردّ، وهي واو الابتداء، قبلها ألف الاستفهام.
ومثله قوله في الحديث الآخر: "أَوَ في شكّ أنت يا بن الخطاب؟ " على جهة التوبيخ والتقرير، وكذلك:"أوَ ما طُفتِ بالبيت؟ " على جهة الاستفهام، وكذلك في الأشربة:"أَوَ مسكر هو؟ " على الاستفهام، وكذلك:"أَوَ تعلم ما النقير؟ " كله على الاستفهام، وكذلك قوله:"أَوَ قد فعلوها؟ "، وقوله:"أَوَ أملك أن نزع الله منك الرحمة؟ " على طريق التوبيخ، ورواه مسلم:"وأملك"
بغير ألف الاستفهام، ومثله:"أَوَ لم يعلم أبو القاسم، أول زمرة تدخل الجنة؟ " على التقرير، ومثله قوله:"أَوَ قد كان ذلك؟ "، "أَوَ فتح هو؟ " على الاستفهام، وفي حديث الصلاة في الكعبة:"أو في زواياها؟ " كذا رواه العذري بهذا اللفظ، والضبط على الاستفهام، وكذلك قوله:"أوَ هبلتِ، أَوَ جنة واحدة هي؟ " الأولى على التوبيخ، والثانية على التقرير والإنكار، كل هذا بفتح الواو، ومن روى مُنبِّهًا من الرواة شيئًا بالسكون، فهو خطأ مفسد للمعنى، مغيِّر له، وقد رواه بعضهم "أو هبلتِ"، وليس بشيء.
وقوله: "تبكين، أَو لا تبكين، فما زالت الملائكة تظله" الحديث، بسكون الواو، وقد يكون هذا شكًّا من الراوي، في أي الكلمتين قال؟، أو يكون على طريق التسوية للحالين؛ أي: سواء حالاكِ في ذلك، كحالة هو كذا، والأول أظهر. انتهى كلام القاضي عياض رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ مهمّ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا)؛ أي: يدخلونها، ويتنعّمون بها، (خَلَقَهُمْ لَهَا) قال الطيبيّ رحمه الله: كرّر "خلق" لإناطة أمر زائد عليه، وهو قوله:"وهم في أصلاب آبائهم" اهتمامًا بشأنه، كما قال زهير [من البسيط]:
مَنْ يَلْقَ يَوْمًا عَلَى عِلَّاتِهِ هَرِمًا
…
يَلْقَ السَّمَاحَةَ مِنْهُ وَالنَّدَى خُلِقَا
عِلَّاته بكسر العين؛ أي: على كل حال، و"هرمًا" اسم رجل، وكرّر "يَلْقَ"، وعلّق به السماحة والندى اهتمامًا به.
وقوله: (وَهُمْ في أَصْلَابِ آبَائِهِمْ) جملة في محلّ نصب على الحال؛ أي: قبل أن يولدوا، ويخرجوا إلى دار التكليف، قيل: عيّن في الأزل من سيكون من أهل الجنّة، ومن سيكون من أهل النار، فعبّر عن الأزل بأصلاب الآباء تقريبًا لأفهام العامّة. وقال الطيبيّ: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بقوله: "وهم في أصلاب آبائهم": خَلْق الذرّيّة في ظهر آدم عليه السلام، وإخراجها ذرّيّةً بعد ذُرّيّة من صُلب كل والد إلى انقراض العالم
(2)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 1/ 53 - 54.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 537.
(وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا) فيه إيماء إلى أنه لا اعتراض، فإنهم أهل لها أهليّة لا يعلمها إلا خالقها. (خَلَقَهُمْ لَهَا، وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ") ولفظ النسائيّ: "يَا عَائِشَةُ، خَلَقَ اللهُ عز وجل الْجَنَّةَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ، وَخَلَقَ النَّارَ، وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا، وَخَلَقَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ".
قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراج الحديث: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله هذا: تَرْك التزكية لأحد مات على الإسلام، ولئلا يُشهد بالجنة لأحد، وإن عُرف منه إتيان الطاعات، والانتهاء عن المزجورات؛ ليكون القوم أحرص على الخير، وأخوف من الربّ، لا أن الصبيّ الطفل من المسلمين يخاف عليه النار. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا لا يُعارِض ما تقدّم من قوله: إنه يُكتب، وهو في بطن أمّه شقيّ، أو سعيد؛ لِمَا قدّمناه من أن قضاء الله، وقَدَره راجع إلى عِلمه، وقُدرته، وهما أزليّان، لا أول لهما، ومقصود هذه الأحاديث كلها أنّ قدَر الله سبق على حدوث المخلوقات، وأن الله تعالى يُظهر من ذلك ما شاء، لمن شاء، متى شاء، قبل وجود الأشياء. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
المسألة الأولى: حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
المسألة الثانية: في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6744 و 6745 و 6746](2662)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4713)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1947) وفي "الكبرى"(2074)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(82)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1574)، و (أحمد) في "مسنده"(2361 و 25214)، و (الحميديّ) في "مسنده"(265)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(138 و 6173)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 195 - 196)، والله تعالى أعلم.
المسألة الثالثة: في فوائده:
(1)
"صحيح ابن حبان" 1/ 349.
(2)
المفهم 6/ 680.
1 -
(منها): إثبات القَدَر، وأن الله سبحانه وتعالى قدّر الأشياء، وعِلمها قبل أن يخلقها، ثم يخلقها على طِبق علمه، وتقديره، وأن الإيمان بذلك واجب.
2 -
(ومنها): عدم القطع لأحد بالجنّة، ولو صغيرًا، تأدبًا مع الله تعالى، فإنه الذي يعلم من هو أهل الجنة.
3 -
(ومنها): بيان أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وأن لهما أهلًا، لا يعلمهم إلا الله تعالى.
4 -
(ومنها): بيان مشروعية الصلاة على أطفال المسلمين.
5 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من شدّة العناية بأمور المسلمين، ولو كانوا صغارًا، فكان يعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويعِين فقيرهم.
5 -
(ومنها): مشروعية إعلام أهل الفضل حتى يصلّوا على موتى المسلمين، وليس ذلك من النعي المنهيّ عنه.
6 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في هذا الحديث إشارة إلى أن الثواب والعقاب لا لأجل الأعمال، وإلا لكان ذراريّ المسلمين والكافرين لا من أهل الجنّة، ولا من أهل النار، بل الموجب هو اللطف الربّانيّ، والخذلان الإلهيّ المقدّر لهم، وهم في أصلاب الآباء، فالواجب التوقّف، وعدم الجزم.
وقال النوويّ رحمه الله: أجمع من يُعتدّ به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين، فهو من أهل الجنّة؛ لأنه ليس مكلّفًا، وتوقّف فيه بعض من لا يُعتدّ به؛ لحديث عائشة رضي الله عنها هذا، وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير دليل قاطع، كما أنكر على سعد بن أبي وقّاص في قوله: إني لأراه مؤمنًا، فقال:"أو مسلمًا"، ويَحْتَمل أنه صلى الله عليه وسلم "قال هذا قبل أن يَعلَم أن أطفال المسلمين في الجنّة، فلما عَلِم قال في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم"، وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 207.
وقال السنديّ رحمه الله: قلت: وقد صرّح كثير من أهل التحقيق أن التوقّف في مثله أحوط؛ إذ ليست المسألة مما يتعلّق بها عمل، ولا عليها إجماع، وهي خارجة عن محل الإجماع على قواعد الأصول، إذ محل الإجماع هو ما يُدرك بالاجتهاد، دون الأمور المغيّبة، فلا اعتداد بالإجماع في مثله لو تمّ على قواعدهم، فالتوقّف أسلم، على أن الإجماع لو تمّ، وثبت لا يصحّ الجزم في مخصوص؛ لأن إيمان الأبوين تحقيقًا غيب، وهو المناط عند الله تعالى، والله تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القاري رحمه الله: والأصحّ ما تقدّم من أنه لم يرتض هذا القول منها؛ لِمَا فيه من الحكم بالغيب، والجزم بإيمان أصل الولد؛ لأنها أشارت إلى طفل معيّن، فالحكم عِلى شخص معيّن بأنه من أهل الجنة لا يجوز من غير ورود النصّ؛ لأنه من عِلم الغيب. وقد يقال: التبعيّة في الدنيا من الإيمان والكفر، وحُكمها من أمور الآخرة.
ففيه إرشاد للأمة إلى التوقّف في الأمور المبهمة، والسكوت عما لا علم لهم به، وحُسن الأدب بين يدي علام الغيوب.
وقال ابن حجر الهيتميّ الفقيه: ولعل هذا كان قبل ما نزل عليه في وِلدان المؤمنين والكفّار؛ إذ هم في الجنة إجماعًا في الأول، وعلى الأصحّ في الثاني. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله ابن حجر الهيتميّ رحمه الله هو الحقّ، كما تقدّم البحث فيه مستوفًى قريبًا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في الصلاة على الصبيان:
قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: أجمع أهل العلم على أن الطفل إذا عُرفت حياته، واستهلّ، صلّي عليه. واختلفوا في الصلاة على الطفل الذي لم يُعرف له حياة، فروينا عن ابن عمر، وابن عباس، وجابر أنهم قالوا: إذا استهلّ المولود صُلي عليه. وبه قال النخعيّ، والحسن، وعطاء، والزهريّ. وقال
(1)
"شرح السنديّ" 3/ 58.
(2)
راجع: "المرقاة شرح المشكاة" للقاري 1/ 271.
أحمد
(1)
، والحكم، وحماد، ومالك، والأوزاعيّ، والشافعيّ: إذا لم يستهل لم يصلّ عليه، وبه قال أصحاب الرأي.
وقالت طائفة: يصلى عليه، وإن لم يستهلّ، يروى ذلك عن ابن عمر.
وبه قال محمد بن سيرين، وسعيد بن المسيّب، وقال أحمد بن حنبل: إذا عُلم أنه ولد يغسل، ويصلّى عليه، وقال إسحاق: كما نُفخ فيه الروح صلي عليه، وكذلك قال أحمد، قال: إذا تمّت أربعة أشهر يصلى عليه؛ لأنه قد نُفخ فيه الروح، وقال إسحاق: مضت السُّنَّة في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصبيّ إذا سقط من بطن أمه ميتًا، بعد تمام خَلْقه، ونُفِخَ فيه الروح، وهو أن يمضي أربعة أشهر وعشرٌ، أنه يصلّى عليه، إنما الميراث في الاستهلال، وأما ما يُبعث يوم القيامة نسمةً تامّةً، وقد كُتب عليه الشقاء والسعادة، فلأيّ شيء يُترك الصلاة عليه؟، وقد ذُكر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"والطفل يصلَّى عليه"، رواه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، وثبت أن ابن عمر رضي الله عنه صلى على مولود، ذَكَر نافع أنه لم يكن استهلّ، وصلى أبو هريرة رضي الله عنه على المنقوص الذي لم يعمل خطيئة، وقال:"اللَّهُمَّ أعذه من عذاب القبر". انتهى كلام ابن المنذر رحمه الله باختصار
(2)
.
وقد رجّح المجد ابن تيميّة في "المنتقى" قول أحمد، وإسحاق، حيث قال: وإنما يُصلّى عليه إذا نُفخت فيه الروح، وهو أن يستكمل أربعة أشهر، فأما إن سَقَط لدونها فلا؛ لأنه ليس بميت؛ إذ لم يُنفخ فيه روح، وأصل ذلك حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق:"إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات، بكتب رزقه، وأجله، وشقيّ، أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح". متفق عليه. انتهى.
قال الشوكاني بعد ذِكر كلام ابن تيمية هذا: ومحلّ الخلاف فيمن سقط
(1)
لعل أحمد رحمه الله له قولان، وإلا فسيأتي أنه ممن يرى الصلاة، وإن لم يستهلّ، فتأمل.
(2)
"الأوسط" 5/ 403 - 406.
بعد أربعة أشهر، ولم يستهلّ، وظاهر حديث الاستهلال أنه لا يُصَلّى عليه، وهو الحقّ؛ لأن الاستهلال يدلّ على وجود الحياة قبل خروج السقط، كما يدلّ على وجودها بعده، فاعتبار الاستهلال من الشارع دليل على أن الحياة بعد الخروج من البطن معتبَرة في مشروعية الصلاة على الطفل، وأنه لا يكتفى بمجرّد العلم بحياته في البطن فقط. انتهى كلام الشوكاني رحمه الله تعالى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأرجح مذهب القائلين بالصلاة على المولود مطلقًا، سواء استهلّ، أو لم يستهلّ، بعد نفخ الروح فيه، وذلك أن يتمّ له أربعة أشهر، كما هو مذهب أحمد، وإسحاق، ورجّحه المجد ابن تيمية رحمهم الله تعالى، لحديث المغيرة بن شعبة:"والطفل يصلّى عليه" لفظ النسائىّ، ولفظ أبي داود:"السِّقْط يصلّى عليه"، وهو حديث صحيح.
وأما حديث الاستهلال الذي رجح به الشوكانيّ عدم الصلاة إذا لم يستهلّ، وهو ما أخرجه الترمذيّ، من حديث جابر رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الطفل لا يصلى عليه، ولا يَرِث، ولا يورث، حتى يستهلّ
(2)
"، ورواه ابن ماجه أيضًا، ولكنه لم يذكر: "ولا يورث"، فلا يصحّ الاحتجاج به؛ لأن في إسناد الترمذيّ: إسماعيل بن مسلم المكيّ، عن أبي الزبير، وإسماعيل ضعيف، وفي إسناد ابن ماجه: الربيع بن بدر، عن أبي الزبير، والربيع متروك أيضًا.
والصحيح أنه موقوف على جابر رضي الله عنه، فقد رواه ابن جريج وغيره، موقوفًا عليه.
فتبيّن بهذا أن اشتراط الاستهلال للصلاة على الطفل مما لا دليل عليه، بل الدليل الصحيح هو حديث المغيرة رضي الله عنه المذكور، بلفظ:"والطفل يُصلّى عليه"، وبلفظ:"والسقط يُصلّى عليه"، وهو على إطلاقه يعمّ المستهلّ، وغيره.
والحاصل: أن المذهب الراجح هو القول بالصلاة على الطفل مطلقًا، والله تعالى أعلم.
(1)
"نيل الأوطار" 4/ 57 - 58.
(2)
استهلال الصبي: تصويته عند ولادته، والمراد به: أن يوجد ما يُعلم به حياته، من صياح، أو اختلاج، أو نَفَس، أو حركة، أو عُطاس. أفاده في "مجمع البحار".
وبالسند المتصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6746]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى (ح) وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ (ح) وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْوِيّ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، بِإسْنَادِ وَكِيعٍ نَحْوَ حَدِيثِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) البزّاز الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن مُرّة الْخُلْقانيّ، أبو زياد الكوفيّ، لقبه شَقُوصًا -بفتح المعجمة، وضم القاف الخفيفة، وبالمهملة- صدوقٌ، يخطئ قليلًا [8] (ت 194) وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "المقدّمة" 5/ 27.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدِ) بن كُوسجان -بمهملة، ثم جيم- المروزيّ، أبو داود السِّنْجِيّ -بكسر المهملة، بعدها نون ساكنة، ثم جيم- ثقةٌ صاحب حديث، رحّالٌ، أَدِيبٌ [11](ت 257)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
4 -
(الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصِ) بن الفضل بن يحيىى بن ذكوان الْهَمْدانيّ -بفتح الهاء، وسكون الميم- أبو محمد الأصبهانيّ القاضي -أصله من الكوفة، وهو الذي نَقَل علم أهل الكوفة إلى أصبهان، وكان إليه القضاء، والفتوى، والرياسة بها، قاله أبو نعيم- صدوقٌ، من كبار [10].
روى عن إبراهيم بن طهمان، والسفيانين، وإسرائيل، وابن أبي روّاد، وفضيل بن عياض، وأبي يوسف القاضي، ومروان بن معاوية، ووكيع، وغيرهم.
وروى عنه أبو داود السِّنجيّ، وعبد الله بن إسحاق الجوهريّ، وأبو قِلابة الرَّقَاشيّ، ويحيى بن حكيم، والفلاس، ويونس بن حبيب، وعمر بن شَبّة، وغيرهم.
قال أبو حاتم: محله الصدق، وقال الحافظ أبو نعيم: وكان دَخْلُه كل سنة مائة ألف درهم، ما وجبت عليه زكاة قطّ، وقال أبو عاصم النبيل: ما أرى
بأصبهان ممن يُنتفع به مثله، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (1 أو 211).
تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا حديثان، هذا برقم (2662)، والحديث التالي برقم (2663).
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج المروزيّ الحافظ، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) بن واقد بن عثمان الضّبّيّ مولاهم، الْفِرْيابي -بكسر الفاء، وسكون الراء، بعدها تحتانية، وبعد الألف موحّدة- نزيل قَيْسارية، من ساحل الشام، ثقةٌ فاضلٌ، يقال: أخطأ في شيء من حديث سفيان، وهو مُقَدَّم فيه مع ذلك عندهم على عبد الرزاق [9](ت 212)(ع) تقدم في "القسامة" 2/ 4349.
7 -
(سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ) تقدّم قبل باب.
و"طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى" ذُكر قبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ) الضمير للحسين بن حفص، ومحمد بن يوسف الفريابيّ؛ يعني: أنهما رويا هذا الحديث عن سفيان الثوريّ، عن طلحة بن يحيى، عن عمّته عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها.
[تنبيه]: أما رواية إسماعيل بن زكريّاء عن طلحة بن يحيىى فساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6173)
- أخبرنا زكريا بن يحيىى الساجيّ، حدّثنا أبو الربيع الزَّهْرانيّ، حدّثنا إسماعيل بن زكريا، عن طلحة بن يحيىى، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِي بصبيّ من الأنصار، يصلي عليه، فقلت: يا رسول الله، عصفور من عصافير الجنة، قال صلى الله عليه وسلم:"أوَ لا تدرين أن الله خَلَق للجنة خَلْقًا، فجعلهم لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم، وخَلَق النار، وخلق لها أهلًا، وهم في أصلاب آبائهم؟ ". انتهى
(1)
.
وأما رواية الثوريّ عن طلحة، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الاعتقاد"، فقال:
(1)
"صحيح ابن حبان" 14/ 47.
أخبرنا
(1)
أبو ذرّ محمد بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكّر، قال: أنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفّار الزاهد، قال: أنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المؤدّب، قال: أنا الحسين بن حفص، عن سفيان، عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: أُتِي النبيّ صلى الله عليه وسلم بصبيّ من الأنصار ليصلي عليه، قالت: فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءًا، ولم يدره، فقال:"أو غير ذلك، يا عائشة إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلًا، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار، وخلق لها أهلًا، خلقها لهم، وهم في أصلاب آبائهم". انتهى
(2)
.
(7)(بَابُ بَيَانِ أَنَّ الآجَالَ، وَالأَرْزَاقَ، وَغَيْرَهَا، لَا تَزِيدُ، وَلَا تَنْقُصُ عَمَّا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6747]
(2663) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيّ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَأَيَّامِ مَعْدُودَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَنْ يُعَجِّلَ
(3)
شَيْئًا قَبْلَ حِلِّه، أَو يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّه، وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَاب فِي النَّار، أَو عَذَابٍ فِي الْقَبْر، كَانَ خَيْرًا، وَأَفْضَلَ"، قَالَ: وَذُكِرَتْ عِنْدَهُ الْقِرَدَةُ، قَالَ مِسْعَرٌ: وَأُرَاهُ قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ مِنْ مَسْخٍ، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلًا، وَلَا عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ، وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ").
(1)
هكذا النسخة دون أيّ رقم!!!.
(2)
"الاعتقاد" للبيهقيّ 1/ 165.
(3)
وفي نسخة: "إن يعجّل الله".
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مِسْعَرُ) بن كِدام الكوفيّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) -بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلّثة- الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 25/ 648.
3 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الله بن أبي عَقِيل الكوفيّ، ثقةٌ [4].
رَوَى عن أبيه، والمغيرة بن شعبة، وبلال بن الحارث، والمعرور بن سُويد، وقَزَعة بن يحيى، وابن المنتفق، وغيرهم.
وروى عنه أبو صخرة جامع بن شدّاد، وعلقمة بن مرثد، وزُبيد اليماميّ، ومحمد بن جُحادة، وأبو إسحاق السَّبيعيّ، وأبو إسحاق الشيبانيّ، وغيرهم.
قال العجليّ: كوفيّ، ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ في "الشمائل"، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
[تنبيه]: قوله: "اليشكريّ " بفتح الياء، وسكون الشين، وضمّ الكاف، وبعدها راء: نسبة إلى يشكُر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جَدِيلة بن أسد بن ربيعة، وهوأخو بكر، وتغلب ابني وائل، وقيل: هو يشكر بن بكر بن وائل، وهوأصحّ، قاله ابن الكلبيّ، وأبو عبيد، والمبرّد، ذكره في "اللباب"
(1)
.
4 -
(الْمَعْرُورُ بْنُ سُويدٍ) الأسديّ، أبوأمية الكوفيّ، ثقة [2] عاش مائة وعشرين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 42/ 279.
5 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 413.
آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه "عبد الله" مهملًا، وهو ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن السند كوفيّ، وقد سبق غير مرّة بيان ما يُميّز به عبد الله المهمل في الصحابة رضي الله عنهم، فلا تنس نصيبك، والله تعالى وليّ التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ) هي: رَمْلة بنت أبي سفيان بن حرب الأمويّة، أمّ المؤمنين، مشهورة بكنيتها، ماتت رضي الله عنها سنة اثنتين، أو أربع، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: وخمسين، تقدّمت في "المساجد ومواضع الصلاة" 3/ 1186.
وقوله: (زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) هكذا "زوج" بلا هاء للأنثى، وهي اللغة الفصحى، ويقال أيضًا:"زوجة" بالهاء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرجل زَوْجُ المرأة، وهي زَوْجُهُ أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، والجمع فيهما: أَزْوَاجٌ، قاله أبو حاتم، وأهل نجد يقولون في المرأة: زَوْجَةٌ بالهاء، وأهل الحرم يتكلمون بها، وعَكَس ابن السِّكِّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زَوْجٌ بغير هاء، وسائر العرب: زَوْجَةٌ، بالهاء، وجَمْعها: زَوْجَاتٌ، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخَوْف لَبْس الذكر بالأنثى؛ إذ لو قيل: تَرِكة فيها زَوْجٌ، وابن لم يُعْلَم أذكرٌ، هو أم أنثى؟. انتهى
(1)
.
(اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بجرّ "رسول" بدلًا من "زوجي"، (وَبِأَبيِ أَبِي سُفْيَانَ) صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأمويّ الصحابي الشهير، أسلم عام الفتح، ومات رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: بعدها، تقدمت ترجمته في "الزكاة" 44/ 2443.
(وَبِأَخِي مُعَاوِيةَ) بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية الأمويّ، أبو عبد الرحمن، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما الخليفة المشهور، أسلم قبل الفتح، وكَتَب الوحي، ومات رضي الله عنه في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 8/ 858.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 259.
وغَرَضُ أم حبيبة رضي الله عنها أن تطول أعمار هؤلاء الثلاثة، وتزيد، حتى يعيشوا دهرًا طويلًا، وتستمع بهم.
(قَالَ) عبد الله رضي الله عنه: (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ)؛ أي: مقدّرة بما لا مزيد فيه، ولا نقصان، (وَأَيَّام مَعْدُودَةٍ)؛ أي: معلوم عددها، وهي الأيام التي يعيشونها في علم الله سبحانه وتعالى، (وَأرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ) لهم بما لا مزيد فيه، ولا نقصان، (لَنْ يُعَجِّلَ) وفي بعض النسخ:"إن يُعجّلُ الله"، وعليها، فـ "إِن" بكسر، فسكون نافية، والفعل مرفوع بعدها، فهي بمعنى ما يعجّل الله، و"يُعجّل" بضم أوله، وتشديد الجيم، من التعجيل. (شَيْئًا) من الآجال، (قَبْلَ حِلِّهِ)؟ أي: قبل حلول وقته.
قال النوويّ رحمه الله: أما "حِلّه" فضبطناه بوجهين: فتح الحاء، وكسرها، في المواضع الخمسة، من هذه الروايات، وذكر القاضي أن جميع الرواة على الفتح، ومراده: رواة بلادهم، وإلا فالأشهر عند رواة بلادنا الكسر، وهما لغتان، ومعناه: وجوبه، وحينه، يقال: حَلَّ الأجل يَحُلّ - من باب ضرب - حِلًّا، وحَلًّا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حَلّه" كذا الرواية بفتح الحاء في الموضعين، وهو مصدر حَلّ الشيءُ يَحِلّ حَلًّا، وحُلولًا، ومحلًّا، والمحلّ أيضًا: الموضع الذي يُحَلّ فيه؛ أي: يُنزل. انتهى
(2)
.
وقال المرتضى رحمه الله: حَلَّ المَكانَ، وحَلّ به يَحُلّ، وَيحِلّ، مِن بابي نَصَرَ، وضَرَبَ، وهو ممّا جاء بالوَجْهين، كما ذكره الشيخ ابنُ مالكٍ أيضًا، حَلًّا، وحُلُولًا، وحَلَلًا مُحرَّكةً بفَكّ التضعيف، وهو نادِرٌ؛ أي: نَزَل به. وقال الراغب: أصْلُ الحَلّ: حَلُّ العُقْدة، ومنه:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)} [طه: 27]، وحَلَلْتُ: نَزلْتُ مِن حَلِّ الأَحْمالِ عندَ النزول، ثم جُرِّد استعمالُه للنُّزول، فقِيل: حَلَّ حُلُولًا: نَزَل. وفي "المِصباح": حَلَّ العَذابُ يَحُلّ، وَيحِلُّ حُلُولًا، هذه وحدَها بالضمِّ والكسر، والباقي بالكسر فقط، فتأمَّلْ، كاحْتَلَّهُ، واحْتَلَّ به، قال
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 213.
(2)
"المفهم" 6/ 681.
ابنُ سِيدَه: وكذا حَلَّ بالقَوم، وحَلَّهُم، واحْتَلَّ بهم، واحْتَلَّهم. انتهى باختصار
(1)
.
(أَو يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ)؛ أي: وقت حلوله، (وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللهَ) سبحانه وتعالى (أَنْ يُعِيذَكِ)؛ أي: يُجيرك، وَيعصمك (مِنْ عَذَاب فِي النَّار، أَو عَذَابٍ فِي الْقَبْر، كَانَ خَيْرًا) لك (وَأَفْضَلَ") مما سألت من الزيًادة في آجال محتمة، وأرزاق مقسومة، لا تزيد، ولا تنقص.
قال القرطبيّ رحمه الله: قد أررد بعض علمائنا على هذا سؤالًا، فقال: ما معنى صَرْفه لها عن الدعاء بطول الأجل، وحَضّه لها على العياذ من عذاب القبر، وكل ذلك مقدّرٌ، لا يدفعه أحدٌ، ولا يردّه سبب؟.
فالجواب: أنه صلى الله عليه وسلم لم ينهها عن الأول، وإنَّما أرشدها إلى ما هو الأَولى والأفضل، كما نصّ عليه، ووجهه كون الثاني أَولى وأفضل، أنه قيام بعبادة الاستعاذة من عذاب النار، والقبر، فإنَّه قد تَعَبّدنا بها في غير ما حديث، ولم يَتَعبّدنا بشيء من القِسْم الذي دعت هي به، فافترقا. وأيضًا: فانَّ التعوذ من عذاب القبر والنار تذكير بهما، فيخافهما المؤمن، فيحذرهما، ويتقيهما، فيجعل من المتقين الفائزين بخير الدنيا والآخرة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله.
وعبارة الأبيّ رحمه الله: قوله: "ولو كنت سألت إلخ" صَرَفها صلى الله عليه وسلم عن الدعاء بالزيادة في العمر إلى الدعاء بالمعافاة من عذاب القبر والنار؛ إرشادًا لها لِمَا هو الأفضل؛ لأنه كالصلاة والصوم من جملة العبادات، فكما لا يَحْسُن تركها اتكالًا على ما سَبَق من القدر، فكذلك لا يُترك الدعاء بالمعافاة. انتهى بتصرّف
(2)
.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله:
[فإن قيل]: كيف ردّها عن سؤال، وعَلّل بالقَدَر، وأمَرها بسؤال، وهو داخل في باب القدر أيضًا؟.
[فالجواب]: أن سؤال ما يجلب نفعًا في الآخرة، ويُظهِر عبوديةً من
(1)
"تاج العروس" ص 6985.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 94 - 95.
السائل أَولى مما يجتلب به مجرد النفع في الدنيا، فأراد منها التشاغل بأمور الآخرة. انتهى
(1)
.
(قَالَ) عبد الله رضي الله عنه: (وَذُكِرَتْ) بالبناء للمفعول، (عِنْدَهُ) صلى الله عليه وسلم (الْقِرَدَةُ) بكسر القاف، وفتح الراء: حيوان خبيث، والأنثى قِرَدةٌ، قاله الجوهريّ، والصغانيّ، ويُجمع الذَّكر على قُرُود، وأقراد، مثلُ حِمْل وحُمُول، وأحمال، وعلى قِرَدة أيضًا، مثالُ عِنَبة، وجَمْع الأنثى قِرَدٌ، مثلُ سِدْرة وسِدَر، قاله الفيّوميّ
(2)
.
(قَالَ مِسْعَرٌ) الراوي عن علقمة: (وَأُرَاهُ) بضمّ الهمزة؛ أي: أظنّ علقمة (قَالَ: وَالْخَنَازِيرُ)؛ أي: زاد ذكر الخنازير على القِرَدة، و"الخنزير" فِنْعِيلٌ: حيوان خبيث، ويقال: إنه حُرّم على لسان كل نبيّ
(3)
، وقوله:(مِنْ مَسْخٍ)؛ أي: أهي من ممسوخ بني إسرائيل، أم لا؟، وفي رواية الثوريّ التالية:"فقال رجل: يا رسول الله القردة والخنازير، هل هي مما مُسِخ؟ وحاصل سؤاله أن القردة والخنازير الموجودة الآن هل هي مما تناسل من الأمم الممسوخة من بني إسرائل أم لا؟ (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخِ)؛ أي: للمسوخ، ففيه إطلاق المصدر، وإرادة المفعول؛ يعني: أنه تعالى لم يجعل لآدمي ممسوخ قردًا، أو خنزيرًا (نَسْلًا)؛ أي: ذرّيّة في حياته، (وَلَا عَقِبًا)؛ أي: يعقبه بعد موته، (وَقَدْ كَانَتِ الْقِرَدَةُ، وَالْخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ")؛ يعني: القردة والخنازير كانت موجودة قبل حادثة المسخ.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إن الله تعالى لم يجعل لمسخ إلخ": يَحْتَمل أنه لا يولد له أصلًا، أو يولد له، لكن ينقرض في حياته؛ يعني: فليس هؤلاء القردة والخنازير من أعقاب مَن مُسِخ من بني إسرائيل، كما توهّمه بعض الناس، ثم استظهر على دفعه بقوله:"وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك"؛ أي: قَبْل مَسْخ مَن مُسخ من الإسرائيليين، فأنى لكم في أن هذه القردة والخنازير الموجودة الآن من نسل الممسوخ؟ هذا رجم بالغيب. انتهى
(4)
.
(1)
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 225.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 496.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 168.
(4)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 255.
وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: في الحديث دليل على أن الذين مُسخوا لم يَبْقَوا، ولم ينسلوا، وقد كان ابن قتيبة يقول: أنا أظنّ أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها، توالدت، ثم قال: إلا أن يصحّ حديث أم حبيبة، وقد صح حديثها، فلا يُلتفت إلى ظنّ ابن قتيبة. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث صريح في أن الآجال والأرزاق مقدرةٌ، لا تتغير عما قدّره الله تعالى، وعَلِمه في الأزل، فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقةً عن ذلك، وأما ما ورد في حديث:"صلة الرحم تزيد في العمر"، ونظائره فقد سبق تأويله في "باب صلة الأرحام" واضحًا.
وقال المازريّ هنا: قد تقرر بالدلائل القطعية أن الله تعالى أعلمُ بالآجال والأرزاق وغيرها، وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه، فإذا علم الله تعالى أن زيدًا يموت سنة خمسمائة استحال أن يموت قبلها، أو بعدها؛ لئلا ينقلب العلم جهلًا، فاستحال أن الآجال التي عَلِمها الله تعالى تزيد وتنقص، فيتعيَّن تأويل الزيادة أنها بالنسبة إلى ملَك الموت، أو غيره ممن وكّله الله بقبض الأرواح، وأمَره فيها بآجال ممدودة، فإنه بعد أن يأمره بذلك، أو يُثْبته في اللوح المحفوظ ينقص منه، ويزيد على حَسَب ما سَبَق به عِلمه في الأزل، وهو معنى قوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وعلى ما ذكرناه يُحْمَل قوله تعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].
(واعلم): أن مذهب أهل الحق أن المقتول مات بأجله، وقالت المعتزلة: قُطع أجله، والله أعلم.
[فإن قيل]: ما الحكمة في نهيها عن الدعاء بالزيادة في الأجل؛ لأنه مفروغ منه، ونَدْبها إلى الدعاء بالاستعاذة من العذاب، مع أنه مفروغ منه أيضًا كالأجل؟.
[فالجواب]: أن الجميع مفروغ منه، لكن الدعاء بالنجاة من عذاب النار، ومن عذاب القبر ونحوهما عبادة، وقد أمر الشرع بالعبادات، فقيل: أفلا نتكل على كتابنا، وما سبق لنا من القدر؟ فقال:"اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لِمَا خُلق له"،
(1)
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 225.
وأما الدعاء بطول الأجل، فليس عبادة، وكما لا يحسن ترك الصلاة، والصوم، والذكر؛ اتكالًا على القدر، فكذا الدعاء بالنجاة من النار، ونحوه، والله تعالى أعلم
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6747 و 6748 و 6749 و 6750](2663)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 74)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 390 و 413 و 433 و 445 و 466)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 68)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(1/ 296)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(12/ 307)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(3/ 50) وفي "مسنده"(1/ 599)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 456)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2/ 457)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان أن الآجال مضروبة محدودة، لا يتعدّاها أحد، وهذا معنى قوله تعالى:{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34].
2 -
(ومنها): أن الأرزاق مقسومة، لا تزيد، ولا تنقص، ولا يموت العبد حتى يستوفيها، فينبغي الرفق في طلبها، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس اتقوا الله، وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، خُذوا ما حَلّ، ودعوا ما حُرِّم"، رواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
(2)
.
وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، ولفظه: "إن رُوح القُدس نفث في رُوعي، أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلها،
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 213 - 214.
(2)
حديث صحيح، رواه ابن ماجه في "سننه" 2/ 725.
وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنّ أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته"
(1)
.
قال أبو العتاهية [من الطويل]:
أُقَلِّبُ طَرْفِي مَرةً بَعْدَ مَرَّةٍ
…
لِأَعْلَمَ مَا فِي النَّاسِ وَالْقَلْبُ يَنْقَلِبْ
فَلَمْ أَرَ عِزًّا كَالْقُنُوعِ لِأَهْلِهِ
…
وَأَنْ يُجْمِلَ الإِنْسَانُ مَا عَاشَ فِي الطَّلَبْ
(2)
3 -
(ومنها): ما قاله السهيليّ رحمه الله: في الحديث ردّ على زعم ابن قتبية أن "أل" في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة: 60] يدلّ على أن القردة والخنازير من نَسْل أولئك الذين مُسخوا.
[تنبيه]: قال ابن العربيّ: قوله: "الممسوخ لا ينسل" دعوى، وهذا أمر لا يُعلم بالعقل، وإنما طريق معرفته الشرع، وليس في ذلك أثر يُعَوّل عليه. انتهى.
قال المناويّ: وهو غُفول عُجاب مع ثبوته في أصح كتاب؛ يعني: "صحيح مسلم".
[فائدة]: قال الحافظ الزين العراقيّ: لو تحقق أن آدميًا مُسخ في صورة ما يؤكل لحمه، فهل يحرم، أو يحلّ؟ لم أر لأصحابنا فيه كلامًا، وقد قال ابن العربيّ: بحلّه؛ لأن كونه آدميًّا زال. انتهى
(3)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6748]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِه، عَنِ ابْنِ بِشْرٍ، وَوَكِيعٍ، جَمِيعًا: "مِنْ عَذَابٍ فِي النَّار، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(ابْنُ بِشْرٍ) هو: محمد بن بشر العبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
(1)
حديث صحيح. راجع: "صحيح الجامع" للشيخ الألبانيّ، حديث رقم (2085).
(2)
"الاستذكار" 8/ 272.
(3)
"فيض القدير" 2/ 254.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية ابن بشر عن مسعر هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6749]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ -وَاللَّفْظُ لِحَجَّاجٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ حَجَّاجٌ: حَدَّثنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيّ، عَنْ مَعْرُورِ بْنِ سُويدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَتْ أمّ حَبِيبَةَ: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِأَبيِ أَبيِ سُفْيَانَ، وَبِأَخى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكِ سَأَلْتِ اللهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لَا يُعَجِّلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ حِلِّه، وَلَا يُؤَخِّرُ مِنْهَا شَيْئًا بَعْدَ حِلِّه، وَلَوْ سَأَلْتِ اللهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّار، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ لَكَانَ خَيْرًا لَكِ"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ الْقِرَدَةُ، وَالْخَنَازِيرُ، هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ عز وجل لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَو يُعَذِّبْ قَوْمًا، فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ) هو ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
2 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقة حافظ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ)؛ أي: في أثر الأقدام، يقال: فلان مشى على آثار موطوءة؛ أي: لم يأت بشيء جديد، وإنما سلك مسلك من سبقه، والحاصل: أنكِ إذا دعوت لزيادة في العمر لم يحدث بذلك شيء جديد فيما قضاه الله تعالى في قضائه المبرم
(1)
.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 509.
وقوله: (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسمَّ ذلك الرجل.
وقوله: (هِيَ مِمَّا مُسِخَ؟) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أهي من الحيوان الذي مسخه الله عز وجل؟. وقوله: ("لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا، أَو يُعَذِّبْ قَوْمًا)"أو" للشكّ من الراوي.
وقوله: (فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلًا) بنصب "يجعل" بـ "أن" مضمرة وجَوبًا بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَابِ نَفْيٍ أَو طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَستْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
وقوله: (وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ")؛ أي: قبل مسخ بني إسرائيل، فدلّ على أنها ليست من المسخ، وجاء "كانوا" بضمير العقلاء مجازًا، لكونه جرى في الكلام ما يقتضي مشاركتها للعقلاء، كما في قوله تعالى:{رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4]، و {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6750]
(. . .) - (حَدَّثَنِيهِ أَبُو دَارُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الإِسْنَاد، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَآثَارٍ مَبْلُوعَةٍ"، قَالَ ابْنُ مَعْبَدٍ: وَرَوَى بَعْضُهُمْ: "قَبْلَ حِلِّهِ"؛ أَيْ: نُزُولِهِ).
رجال هذا الإسناد:
وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي، و"سفيان" هو: الثوريّ.
وقوله: ("وَآثَارٍ مَبْلُوغَةٍ")؛ أي: بلغ الماشي فيها نهايتها.
[تنبيه]: رواية الحسين بن حفصى عن سفيان الثوريّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 214.
(8) - (بَابٌ فِي الأَمْرِ بِالْقُوَّة، وَتَرْكِ الْعَجْز، وَالاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَتَفْوِيضِ الْمَقَادِيرِ للهِ عز وجل
-)
[6751]
(2664) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ، عَنِ الأَعْرَج، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ، وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيف، وَلمحي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِالله، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ الله، وَمَا شَاءَ
(1)
فَعَلَ، فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيس) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ -بسكون الواو- أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابد [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
2 -
(رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ) بن ربيعة بن عبد الله بن الْهُدير التيميّ، أبو عثمان المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [6].
أرسل عن سهل بن سعد، وروى عن زيد بن أسلم، وعامر بن عبد الله بن الزبير، ومحمد بن يحيىى بن حبان، وابن المنكدر، ونافع، وهشام بن عروة.
وروى عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وابن المبارك، وابن إدريس، وابن أبي فُديك، ووكيع، وغيرهم.
قال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو زرعة: إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القويّ، وقال أبو حاتم: منكَر الحديث، يُكتب حديثه، وقال النسائيّ: ليس به بأس، وقال ابن سعد عن الواقديّ: وكان ثقةً، قليل الحديث، وكان فيه عسر، وقال ابن وضاح: سمعت ابن نمير يقول: ربيعة بن
(1)
وفي نسخة: "وما شاء الله".
عثمان ثقةٌ، وقال مسعود السجزيّ عن الحاكم: كان من ثقات أهل المدينة، ممن يُجمع حديثه، وذَكَره ابن حبان في "الثقات".
وقال الواقديّ: مات سنة (154) وهو ابن سبع وسبعين سنةً، وكذا أرّخه ابن حبان في "الثقات".
أخرج له المصنّف، والنسائيّ في "اليوم والليلة"، وابن ماجه، وله عندهم هذا الحديث الواحد فقط، قال الحافظ: ووقع له ذِكر في البخاريّ ضمنًا في إثر علّقه. انتهى.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ) - بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة - ابن مُنقِذ الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ فقيةٌ [4](121) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 150.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من ربيعة، والباقون كوفيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ: محمد بن يحيىى عن الأعرج، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ)؛ أي: القادر على تكثير الطاعة، وهو مبتدأ خبره قوله:(خَيْرٌ)، وقوله:(وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ) عَطْف تفسير لـ "خير"، (مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ) متعلّق بـ "أحبّ"؛ أي: العاجز عن تكثير الطاعة، (وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ)؛ أي: أصل الخير موجود في كل منهما.
وقال النوويّ رحمه الله: القوة هنا يراد بها عزيمة النفس في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا أكثر إقدامًا على الغزو، والجهاد، وأسرع خروجًا وذهابًا في طلبه، وأشدَ عزيمةً في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاقّ في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها، ومحافظةً عليها، ونحو ذلك.
وقوله: "وفي كل خيرٌ" معناه: في كل من القويّ والضعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان، مع ما يأتي به الضعيف من العبادات. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "المؤمن القويّ خيرٌ إلخ"؛ أي: القويّ البدن، والنفس، الماضي العزيمة، الذي يَصلح للقيام بوظائف العبادات، من الصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على ما يُصيبه في ذلك، وغير ذلك مما يقوم به الدِّين، وتنهض به كلمة المسلمين، فهذا هو الأفضل، والأكمل، وأما من لم يكن كذلك من المؤمنين، ففيه خيرٌ من حيث كونه مؤمنًا، قائمًا بالصلوات، مكثّرًا لسواد المسلمين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"وفي كل خيرٌ"، لكنه قد فاته الحظ الأكبر، والمقام الأفخر. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قيل: أراد بالمؤمن القويّ: الذي قوي في إيمانه، وصَلُب في إيقانه بحيث لا يرى الأسباب، ووَثِق بمسبِّب الأسباب، والمؤمن الضعيف بخلافه، وهو أدنى مراتب الإيمان. قال: ويمكن أن يُذهَب إلى اللفّ والنشر، فيكون قوله:"احرص على ما ينفعك" بيانًا للقويّ، وقوله:"ولا تعجز" بيانًا للضعيف. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "لا يرى الأسباب" إن أراد أنه لا يعتمد على الأسباب، فمسلَّم، وإن أراد أنه لا يأخذ بالأسباب أصلًا، فهذا لا مدح فيه؛ لأنه خلاف هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب، ويحثّ عليها، وهو سيّد المتوكلين.
وبالجملة فالواجب على العبد أن يأخذ بالأسباب، ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على الله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
وقال القاري رحمه الله: قيل: المراد بالمؤمن القويّ: الصابر على مخالطة الناس، وتحمّل أذيّتهم، وتعليمهم الخير، وإرشادهم إلى الهدى، ويؤيّده ما أخرجه أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: "المؤمن الذي يُخالط الناس،
(1)
"شرح مسلم" 16/ 215.
(2)
"المفهم" 6/ 682.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3334.
ويصبر على أذاهم أفضل عن المؤمن الذي لا يُخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم"
(1)
.
(احْرِصْ) بكسر الراء، ومنه قوله تعالى:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37]، ويجوز فتحها، ففي القاموس: الْحِرْصَ بالكسر: الْجَشَعُ، وقد حَرَصَ، كضرب، وسَمِع، فهو حريص، وزاد في "التاج" ضبطًا ثالثًا، وهو كنصر.
[تنبيه]: اختُلِف في اشتقاق الحْرِصْ -بكسر، فسكون- وهو الْجَشَعُ، فقيل: مشتق عن حَرَصَ القصّارُ الثوبَ: إذا قشره بدقّة، وهذا قول الراغب، وقال الأزهريّ: أصلُ الحرص: الشقّ، وقيل للشَّرِهِ: حريصٌ؛ لأنه يَقشِر بحرصه وجوهَ الناس، وقيل: هو مأخوذ من السحابة الحارصة التي تقشر وجه الأرض، كأن الحارص ينال من نفسه بشدّة اهتمامه بتحصيل ما هو حريصٌ عليه، وهذا قول صاحب "الاقتطاف"، وقد نقله محمد بن الطيب الفاسي في شرح "القاموس"، واستبعده
(2)
.
والمعنى: كن حريصًا (عَلَى مَا يَنْفَعُكَ)؛ أي: من أمور الدين والدنيا، (وَاسْتَعِنْ بِاللهِ)؛ أي: على فِعلك، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم، (وَلَا تَعْجِزْ) بكسر الجيم، ومنه قوله عز وجل:{أَعَجَزْتُ} [المائدة: 31]، ويجوز فتحها على قلّة، ففي "القاموس": عَجَز كضرب، وسَمِع
(3)
؛ أي: ولا تعجز عن الحرص، والاستعانة، فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يعطيك قوّة على طاعته؛ إذا استقمت على استعانته، وقيل: معناه: لا تعجز عن العمل بما أُمرت، ولا تتركه مقتصرًا على الاستعانة به، فإن كمال الإيمان أن يُجمَع بينهما.
قال الطيبيّ: رحمه الله: يمكن أن يُذهب إلى اللفّ والنشر، فيكون قوله:"احرص على ما ينفعك"؛ أي: لا تترك الجهد بيانًا للقويّ، وقوله:"ولا تعجز" بيانًا للضعيف
(4)
.
(1)
حديث صحيح، رواه أحمد في "المسند" رقم (5022 و 23159).
(2)
راجع: "تاج العروس في شرح القاموس" 4/ 378.
(3)
كونه كسمع لغة رديئة، كما في "التاج".
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3334.
وقال النوويّ: معناه: احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز، ولا تَكْسِل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "احرص على ما ينفعك إلخ"؛ أي: استعمل الحرص، والاجتهاد في تحصيل ما تنتفع به في أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك، ومكارم أخلاقك، ولا تفرّط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متّكلًا على القدر، فتُنْسَب للتقصير، وتلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بدّ من الاستعانة بالله تعالى، والتوكّل عليه، والالتجاء في كل الأمور إليه، فمن سلك هذين الطريقين حصل على خير الدارين. انتهى
(2)
.
(وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ)؛ أي: من المكروه الدينيّ، أو الدنيويّ، وفي رواية لابن ماجه من طريق ابن عجلان، عن الأعرج:"فإن غلبك أمرٌ"، (فَلَا تَقُلْ: لَوْ) شرطيّة، وجوابها "كان كذا وكذا"، (أَنِّي فَعَلْتُ) مفعوله محذوف؛ أي: كذا وكذا، (كَانَ)؛ أي: لصار (كَذَا وَكَذَا)؛ أي: لا تقل هذا القول متأسّفًا على ما فات، فإن هذا القول غير سديد، ومع هذا غير مفيد، فقد قال تعالى جل شأنه:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، وقد قال:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23]، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك".
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: لو كان الأمر لي، وكنت مستبدًّا بالفعل والترك كان كذا وكذا، وفيه تأسّف على الفائت، ومنازعة للقدر، وإيهام بأن ما يفعله باستبداده، ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن "لو" تدلّ على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى، ولذلك استكرهه، وجعله يفتح عمل الشيطان. انتهى
(3)
.
(وَلَكِنْ قُلْ)؛ أي: بلسان القال، أو لسان الحال، قاله القاري، والأول
(1)
"شرف النوويّ " 16/ 215.
(2)
"المفهم" 6/ 682 - 683.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3335.
أظهر. (قَدَرُ اللهِ) يَحْتَمِل أن يكون اسمًا بمعنى التقدير، مضافًا إلى الجلالة، وهو خبرٌ لمحذوف؛ أي: هذا الأمر الذي أصابني قَدَرُ الله تعالى؛ أي: تقدير منه سبحانه وتعالى، أو هو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: قَدَرُ الله تعالى أصابني.
وَيحْتَمل أن يكون فعلًا ماضيًا بتشديد الدال، وتخفيفها، ورفع الجلالة على الفاعليّة؛ أي: قدّر الله عليّ هذا الأمر، وقع ذلك بمقتضى قضائه، وعلى وفِق قَدَره، ويؤيّد هذا الوجه ليتناسب مع قوله:"وما شاء فعل".
(وَمَا شَاءَ) وفي نسخة: "وما شاء الله"، (فَعَلَ) بحذف العائد؛ أي: فعله، فإنه فعّال لِمَا يريد، ولا رادّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإن أصابك شيء فلا تقل إلخ"؛ يعني: أن الذي يتعيّن بعد وقوع المقدور التسليمُ لأمر الله تعالى، والرضا بما قدّره، والإعراض عن الالتفات لِمَا مضى وفات، فإن افتكر فيما فاته من ذلك، وقال: لو أني فعلت كذا لكان كذا، جاءته وساوس الشيطان، ولا تزال به حتى تُفضي به إلى الخسران؛ لِتعارُض توهّم التدبير سابق المقادير، وهذا هو عمل الشيطان الذي نَهَى عنه النبيّ رحمه الله بقوله: "فلا تقل: لو
…
فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان"، ولا يُفهم من هذا: أنه لا يجوز النطق بـ "لو" مطلقًا؛ إذ قد نطق بها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أَسُق الهدي، ولجعلتها عمرة"
(1)
، و"لو كنت راجمًا أحدًا بغير بيّنة لرجمت هذه"
(2)
. وقال أبو بكر رضي الله عنه: "لو أنّ أحدهم نظر إلى رجليه لرآنا"، ومثله كثير؛ لأنَّ محل النهي عن إطلاقها إنما هو فيما إذا أُطلقت في معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور، فأمَّا لوأخبر بالمانع على جهة أن تتعلّق به فائدة في المستقبل، فلا يُختلَف في جواز إطلاقه؛ إذ ليس في ذلك فتحٌ لعمل الشيطان، ولا شيء يُفضي إلى ممنوع، ولا حرام، والله تعالى أعلم. انتهى
(3)
.
(فَإِنَّ) الفاء للتعليل؛ أي: لأن ("لَوْ)؛ أي: كلمة "لو" الشرطيّة، (تَفْتَحُ
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
متّفقٌ عليه.
(3)
"المفهم" 6/ 683.
عَمَلَ الشَّيْطَانِ") وفي رواية ابن ماجه المذكورة: "وإيّاك واللّوّ، فإن اللَّوّ تفتح عمل الشيطان"، قال الشاطبيّ رحمه الله: "لِمَ"، و"لو"، و"ليت" تورث القلب انفلاقًا.
وقال بعض شراح "المصابيح"؛ أي: إن قول "لو"، واعتقاد معناها يُفضي بالعبد إلى التكذيب بالقدر، أو عدم الرضا بصنع الله تعالى؛ لأن القدر إذا ظهر بما يَكره العبد قال: لو فعلت كذا لم يكن كذا، وقد قَدَّر في علم الله أنه لا يفعل إلا الذي فَعَل، ولا يكون إلا الذي كان، وقد أشار بقوله قبل ذلك:"ولكن قدّر الله، وما شاء فعل"، ولم يُرد كراهة التلفظ بـ "لو" في جميع الأحوال، وسائر الصور، وإنما عني الإتيان بها في صيغة تكون فيها منازعة القدر، والتأسف على ما فاته من أمور الدنيا، وإلا فقد ورد في القرآن، مثل:{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: 154]، وفي الحديث:"لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ"؛ لأنه لم يُرد به منازعة القدر.
وقال القاضي رحمه الله: قوله: "فإن لو تفتح"؛ أي: لو كان الأمر لي، وكنت مستبدًّا بالفعل والترك، كان كذا وكذا، وفيه تأسّف على الفائت، ومنازعة للقدر، وإيهام بأن ما كان يفعله باستبداده، ومقتضى رأيه خير مما ساقه القدر إليه، من حيث إن "لو" تدلّ على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيما مضى، ولذلك استكرهه، وجعله مما يَفتح عمل الشيطان، وقوله في حديث فسخ الحج إلى العمرة:"ولو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ"، ليس من هذا القبيل، وإنما هو كلام قُصد به تطييب قلوبهم، وتحريضهم على التحلل بأعمال العمرة.
وقال القاضي عياض رحمه الله: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنه لو فَعَل ذلك لم تُصبه قطعًا، فأما من رَدّ ذلك إلى مشيئة الله تعالى بأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله، فليس من هذا، واستَدَلَّ بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الغار:"لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا".
قال القاضي: وهذا لا حجة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن مُستَقبَلٍ، وليس فيه دعوى لردّ قدر بعد وقوعه، قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري في "باب ما يجوز من اللَّوّ"، كحديث: "لولا حِدْثانُ عهد قومك بالكفر، لأتممت البيت
على قواعد إبراهيم"، و"لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمت هذه"، و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، وشِبْه ذلك، فكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، فلا كراهة فيه؛ لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يَفعَل لولا المانع، وعما هو في قدرته، فأما ما ذهب فليس في قدرته.
قال القاضي: فالذي عندي في معنى الحديث أن النهي على ظاهره وعمومه، لكنه نهي تنزيه، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"فإن "لو" تفتح عمل الشيطان". انتهى.
قال النوويّ بعد نقل كلام القاضي ما نصّه: وقد جاء من استعمال "لو" في الماضي قوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"، وغير ذلك، فالظاهر أن النهي إنما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، فأما من قاله تأسفًا على ما فات من طاعة الله تعالى، أو ما هو متعذر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
. وهو بحثٌ نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
[فائدة مهمّة]: إنما دخلت "ال" على دالو" في رواية ابن ماجه المتقدّمة؛ لأنها أُريد لفظها، فاستُعملت استعمال الأسماء، وهذه قاعدة عامّة في كل ما أريد لفظه، سواء كان حرفًا، أو غيره، قال ابن مالك رحمه الله في "شرح الكافية": وإذا نُسب إلى حرف أو غيره حكمٌ هو للفظه دون معناه جاز أن يُحكى، وجاز أن يُعرب بما يقتضيه العوامل، فمن الحكاية قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إياك و"لو"، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:
بُثَيْنُ الْزَمِي "لا" إِنَّ "لا" إِنْ لَزِمْتِهِ
…
عَلَى كَثْرَةِ الْوَاشِينَ أيُّ مَعُونِ
ومن الأعراب قول الشاعر [من الخفيف]:
لَيْتَ شِعْرِي وَأَيْنَ مِنِّي "لَيْتٌ"
…
إِنَّ "لَوًّا" وَإِنَّ "لَيْتًا" عَنَاءُ
وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ونهاكم عن قِيلَ وقَالَ" على الحكاية، و"عن قيلٍ وقالٍ على الإعراب.
(1)
"شرح مسلم" 16/ 216.
وإذا كانت الكلمة على حرفين ثانيهما حرف لِيْن، وجُعلت اسمًا ضُعِّف ثانيهما، فقيل في "لَو":"لَوٌّ"، وفي "في": فِيٌّ، وفي "ما":"ماءٌ"، فُعِل بألف "ما" من التضعيف ما فُعِل بواو "لو"، وياء "في"، فاجتمعت ألِفان، فقُلبت الثانية همزةً.
ثم إنّ الأداة التي يُحكم لها بالاسميّة في هذا الاستعمال إن أُوّلت بـ "كلمة" مُنِعَ الصرف، وجاز أيضًا إن كانت ثُلاثيّة ساكنة الوسط، وإن أُوّلت بـ "لفظ" صُرِفت قولًا واحدًا.
وإلى هذا أشار في "الكافية" بقوله:
وَإِنْ نَسَبْتَ لأَدَاةٍ حُكْمَا
…
فَابْنِ أَوَ اعْرِبْ وَاجْعَلَنَّهَا اسْمَا
وَضَعِّفَنْ ثَانِيَ "فِي" و"لَو" و"مَا"
…
وِشِبْهِهَا وَإِنْ نَوَيْتَ الْكَلِمَا
فَأَنِّثَنْ وَذَكِّرِ إنْ لَفْظٌ قُصِدْ
…
وَصَرْفٌ اوْ مَنْعٌ عَلَى ذَيْنِ يَرِدْ
انتهى كلام ابن مالك رحمه الله تعالى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6751](2664)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(10457 و 10461)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(79) وفي "الزهد"(4168)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 366 و 370)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 474)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11124 و 230)، و (ابن حبّان" في "صحيحه" (5721 و 5722) وابن أبي عاصم في "السُّنَّة"(356)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(259 و 260 و 261 و 262)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(10/ 296)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1028)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(356)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 89) وفي "الأسماء والصفات"(1/ 263) وفي "شُعب الإيمان"(1/ 216) وفي "الاعتقاد"(1/ 159)، والله تعالى أعلم.
(1)
"شرح الكافية الشافية" 4/ 1716 - 1724 في "باب الحكاية".
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان وجوب الإيمان بالقدر.
2 -
(ومنها): بيان فضل المؤمن القويّ على غير القويّ؛ لأنه ينفع نفسه، وينفع المؤمنين.
3 -
(ومنها): بيان فضل الإيمان، وإن كان صاحبه ضعيفًا.
4 -
(ومنها): الحثّ على الحرص على تحصيل ما ينفع المؤمن من خير الدنيا والآخرة، وعدم التواني في طلب ذلك.
5 -
(ومنها): الحثّ على الاستعانة بالله سبحانه وتعالى في تحقيق ما يريده؛ لأن مجرّد الحرص لا يُجدي شيئًا إلا بعون من الله تعالى على حصوله، بل يكون حرصه وبالًا عليه، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال أمن الطويل،:
إِذَا كَانَ عَوْنُ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مُسْعِفًا
…
تَهَيَّا لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى
…
فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
6 -
(ومنها): ذمّ العجز، والتواني في طلب المنافع.
7 -
(ومنها): أنه إذا وقع بعد حرصه على طلب ما ينفعه خلاف مطلوبه، لا ينبغي له التأسّف، وقول:"لوأني فعلتُ كذا كان كذا" تسخّطًا لقدر الله تعالى، بل الواجب أن يستسلم لقضائه وقدره، ولا يتسخّط؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمُ بمصالح عباده، فربما يكون عكس ما حرص عليه خيرًا إما في الدنيا، وإما في الآخرة، قال الله عز وجل:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة: 216].
وقال: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]، بل الواجب عليه حينئذ أن يقول:"قدّر الله، وما شاء فعل".
والحاصل: أن نزول المكروه الدنيوي على العبد المؤمن خير له؛ لأنه إنما أصابه بما كسب من المخالفات، كما قال الله سبحانه وتعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]، ثم إن هذا الذي أصابه إما أن يكون تكفيرًا لِمَا اقترفه من السيئات، وهذا مطلب عظيم، وإما أن يكون رفعًا لدرجاته، وهذا أعلى وأغلى، والله تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): أن قول العبد: "لو فعلت كذا" يفتح عليه باب الشيطان؛ إذ
يحمله على تسخّط ما قدّر الله تعالى عليه، والتبرّم منه، وعدم الرضا بالقضاء، وسوء الظنّ بربه سبحانه وتعالى، وكلها من نزغات الشيطان، فلا ينبغي للعبد أن يفتح بابها؛ إذ يخسر دنياه وآخرته، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عباده الذين قال فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الآية [الحجر: 42]، وقال:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]، والله تعالى أعلم.
* * *
(49) - كتاب العلم
(1) - (بَابُ النَّهْيِ عَنِ اتِّباَعِ مُتَشَابِهِ الْقُرْآن، وَالتَّحْذِيرِ مِنْ مُتَّبِعِيه، وَالنَّهْيِ عَنِ الاخْتِلَافِ في الْقُرْآنِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6752]
(2665) - (حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)} [آل عمران: 7] قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى الله
(1)
، فَاحْذَرُوهُمْ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) الحارثيّ القعنبيّ البصريّ، مدنيّ الأصل، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التُّسْتَرِيُّ) نزيل البصرة، أبو سعيد، ثقةٌ ثبتٌ، إلا في روايته عن قتادة، ففيها لين، من كبار [7](ت 163) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.
[تنبيه]: قوله: "التُّسْتَريّ" بضم المثناة، وسكون السين المهملة، وفتح
(1)
وفي نسخة: "الذين سمّاهم الله".
المثناة، ثم راء: نسبة إلى تُسْتَر بلدة من كُور الأهواز، من خوزستان، يقولها الناس: ششتر، بها قبر البراء بن مالك رضي الله عنه، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "التستريّ": بضم التاء الأولى، وأما التاء الثانية فالصحيح المشهور فتحها، ولم يذكر السمعانيّ في كتابه "الأنساب"، والحازميّ في "المؤتلف"، وغيرهما من المحققين والأكثرون غيره، وذكر القاضي في "المشارق" أنها مضمومة كالأُولى، قال: وضبطها الباجيّ بالفتح، قال السمعانيّ: هي بلدة من كُور الأهواز، من بلاد خوزستان، يقول لها الناس ششتر، بها قبر البراء بن مالك الصحابيّ أخي أنس رضي الله عنهما. انتهى
(2)
.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُليكة زُهير بن عبد الله بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، أبو بكر، ويقال: أبو محمد التيمي المكي، كان قاضيًا لابن الزبير، ومؤذّنًا له، ثقة فقيه [3] تقدم في "المقدمة" 4/ 22.
4 -
(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصّدّيق التيميّ، ثقة أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار [3](ت 106)(ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.
5 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله؛ وفيه روايةُ تابعيّ عن تابعيّ: ابنُ أبي مليكة عن القاسم، والقاسم أحد الفقهاء السبعة، الذين جمعهم القائل بقوله:
إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ
…
مَقَالَتُهُ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ
فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسَمٌ
…
سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ
وأن عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، المجموعين في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الأثَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَابِرِ الْغُرَرْ
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 216.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 216 - 217.
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ
ثُمَّ ابنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
فَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ
وقد تقدّم هذا كلّه غير مرّة، وإنما أعدته تذكيرًا؛ لطول العهد به، وبالله تعالى التوفيق.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: تَلَا)؛ أي: قرأ (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) زاد في رواية ابن ماجه: "هذه الآية"، فاسم الإشارة مفعول "تلا"، وعلى هذه الرواية يكون المفعول قوله:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ} الآية؛ لأن المراد لفظه. (" {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}) قال الإمام ابن كثير رحمه الله: يُخبر الله سبحانه وتعالى أن في القرآن آيات محكمات، هُنَّ أم الكتاب؛ أي: بيناتٌ واضحاتُ الدلالة، لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أُخَر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس، أو بعضهم، فمَن رَدَّ ما اشتبه إلى الواضح منه، وحَكَّمَ مُحْكَمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى:({هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ})؛ أي: أصله الذي يُرْجَع إليه عند الاشتباه.
وقال الطيبيّ رحمه الله: سُمّيت أم الكتاب لأنها بيّنة في نفسها، مبيّنة لِمَا عداها من المتشابهات، فهي كالأصل لهما، كما سُمّيت مكة أم القرى لدَحْوِ الأرض منها. انتهى
(1)
.
({وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ})؛ أي: تَحْتَمِل دلالتها موافقة المحكم، وقد تَحتَمِل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختَلَفوا في المحكم والمتشابه على أقوال، سيأتي بيانها في المسألة الرابعة إن شاء الله تعالى.
[فائدة]: قوله: إنما لم تُصرَف "أُخَرُ"؛ لكونها عُدِلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام، كالكُبَر والصُّغَر، فلمّا عُدلت عن مجرى الألف واللام، مُنِعت الصرف. وقال أبو عبيد: لم يَصرفوها؛ لأن
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618.
واحدها لا يَنصرف في معرفة ولا نكرة. وأنكر ذلك المبرد، وقال: يجب على هذا ألا يَنصرِف غِضَاب وعِطاشٌ. وقال الكساليّ: لم تنصرف؛ لأنها صفة. وأنكره ذلك المبرد أيضًا، وقال: إن لُبَدًا وحُطَمًا صفتان، وهما منصرفان. وقال سيبويه: لا يجوز أن تكون "أُخَر" معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكانت معرفة، ألا ترى أنّ "سَحَرَ" معرفة في جميع الأقاويل لَمَّا كانت معدولةً عن "السَّحَر"، و"أَمْسِ" في قول من قال: ذهب أَمْسِ معدولًا عن "الأمس"، فلو كان "أُخَر" معدولًا أيضًا عن الألف واللام، لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة. ذكره القرطبيّ
(1)
.
وقال أبو البقاء رحمه الله: أصل المتشابه أن يكون بين اثنين، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة، كان كل منها مشابهًا للآخر، فصح وصفها بأنها متشابهة، وليس المراد أن الآية وحدها متشابهة في نفسها.
وحاصله: أنه ليس من شرط صحة الوصف في الجمع، صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك. ذكره في "الفتح"
(2)
.
وقال البخاريّ في "صحيحه": {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قال مجاهد: ما فيه من الحلال والحرام، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} يُصَدِّق بعضه بعضًا، هو مثل قوله:{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26]، وكقوله جلَّ ذِكره:{وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وكقوله:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 17]، {زَيْغٌ} شكّ، {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} المشتبهات، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون، {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} .
قال في "الفتح": قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} : المشتبهات، هو تفسير مجاهد أيضًا، وصله عبد بن حميد، ولفظه:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: شك، {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} المشتبهات: الباب الذي ضلّوا منه، وبه هلكوا.
وقال في "الفتح" أيضًا: قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون، و {يَقُولُونَ
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.
(2)
9/ 73.
آمَنَّا بِهِ} وصله عبد بن حميد أيضًا عن مجاهد في قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون تأويلَه، {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وعن قتادة قال: قال الراسخون كما يسمعون: آمنا به، كل من عند ربنا، المتشابه والمحكم، فآمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه فأصابوا.
قال الحافظ: وهذا الذي ذهب إليه مجاهد من تفسير الآية، يقتضي أن تكون الواو في {وَالرَّاسِخُونَ} عاطفة على معمول الاستثناء. وقد رَوَى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون في العلم آمنا به"، فهذا يدل على أن الواو للاستئناف؛ لأن هذه الرواية، وإن لم تثبت بها القراءة، لكن أقل درجاتها أن تكون خبرًا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدَّم كلامه في ذلك على مَن دونه، ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذمّ متَّبعي المتشابه؛ لِوَصْفهم بالزيغ، وابتغاءِ الفتنة، وصَرَّح بوِفق ذلك حديثُ الباب، ودلت الآية على مدح الذين فَوّضوا العلم إلى الله، وسَلّموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب. وحَكَى الفراء أن في قراءة أُبَيّ بن كعب مثل ذلك، أعني:"ويقول الراسخون في العلم آمنا به"
(1)
.
({هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ})؛ أي: ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل.
وقال القرطبيّ رحمه الله: {الَّذِينَ} رفع بالابتداء، والخبر:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} والزيغ: الميل، ومنه: زاغت الشمس، وزاغت الأبصار، ويقال: زاغ يزيغ: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، وهذه الآية تَعُمُّ كل طائفة من كافر، وزنديق، وجاهل، وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران. وقال قتادة في تفسير قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إن لم يكونوا الحرورية، وأنواع الخوارج فلا أدري من هم؟. انتهى
(2)
.
({فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ})؛ أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يُمكنُهم أن يُحَرِّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينْزِلوه عليها؛ لاحتمال لفظه لِمَا يصرفونه،
(1)
"الفتح" 9/ 72 - 73.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13.
فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال الله تعالى:({ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ})؛ أي: الإضلال لأتباعهم؛ إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم، لا لهم، كما لو احتجّ النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله، وكلمته، ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59]، وبقوله:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْق من مخلوقات الله، وعَبْد، ورسول من رُسُل الله.
قال الطبريّ رحمه الله: قيل: إن هذه الآية نزلت في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى. وقيل: في أمر مدّة هذه الأمة، والثاني أَولى؛ لأن أمر عيسى عليه السلام قد بيَّنه الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، فهو معلوم لأمته، بخلاف أمر هذه الأمة، فإن عِلْمه خفيّ عن العباد. ذكره في "الفتح"
(1)
.
وقوله تعالى: ({وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ})؛ أي: تحريفه على ما يريدون، وقال مقاتل بن حيان والسّدّيّ: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن
(2)
.
وقوله: ({وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}) جملة في محل نصب على الحال؛ أي: والحال أنه لا يعلم تأويل؛ أي: ما هو الحقّ، أو حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى. وقد اختَلَف القرّاء في الوقف ها هنا، وسيأتي البحث عنه مستوفي في المسألة الخامسة، إن شاء الله تعالى.
وقوله: ({وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}) مبتدأ؛ أي: الثابتون في علم الدين الكاملون فيه.
قال القرطبيّ رحمه الله: "الرسوخ": الثبوت في الشيء، وكلُّ ثابت راسخ، وأصله في الأَجرام: أن يَرسَخ الجبل والشجر في الأرض، قال الشاعر [من الطويل]:
(1)
"الفتح" 9/ 73.
(2)
راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 352 - 353.
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ
…
لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا
ورَسَخ الإيمانُ في قلب فلان يَرْسَخ رُسوخًا. وحَكَى بعضهم: رَسَخَ الغَديرُ: نَضَبَ ماؤه. حكاه ابن فارس، فهو من الأضداد، ورَسَخَ، ورَضَخَ، ورَصُنَ، ورَسَبَ كُلُّه ثَبَت فيه.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم، فقال:"هو مَن بَرَّت يمينه، وصَدَق لسانُه، واستقام قلبه"
(1)
.
[فإن قيل]: كيف كان في القرآن متشابه؟، والله يقول:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]؟، فكيف لم يجعله كله واضحًا؟.
[قيل له]: الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يَظهَر فضلُ العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحًا لم يظهر فضل بعضهم على البعض، وهكذا يفعل من يُصَنِّف تصنيفًا، يجعل بعضه واضحًا، وبعضه مشكلًا، ويترك لِلْجُثْوَة
(2)
موضعًا؛ لأنّ ما وإن وجودُه، قَلَّ بهاؤه. انتهى كلام القرطبيّ
(3)
.
وقال في "المرعاة": وحكمة وقوع المتشابه فيه: إعلام للعقول بقصورها؛ لتستسلم لبارئها، وتعترف بعجزها، وتَسلَم من العجب والغرور والتكبر والتعزّز. انتهى.
وقوله: ({يَقُولُونَ}) خبر المبتدأ، ({آمَنَّا بِهِ})؛ أي: بالمتشابه، ووكَلنا عِلمه إلى عالمه، ({كُلٌّ}) من المتشابه والمحكم، ({مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا})؛ أي: نزل من عنده، وهو حقّ وصواب.
وقال القرطبيّ: فيه ضمير عائد على كتاب الله محكمه ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا، وحذف الضمير لدلالة "كل" عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة. انتهى
(4)
.
(1)
أخرجه ابن جرير الطبريّ في "تفسيره" 5/ 223.
(2)
مثلثة الجيم، بعدها ثاء مثلّثة: أصلها الحجارة المجموعة، لكن المراد هنا: الجماعة.
(3)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19.
(4)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 19.
وقوله: ({وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ})؛ أي: ذو العقول الخالصة، وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله تعالى إليه في هذه الآية الكريمة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: أي: ما يقول هذا، ويؤمن، ويقف حيث وقف، ويدَع اتّباع المتشابه إلا ذو لُبّ، وهو العقل، ولبّ كل شيء خالصُهُ، فلذلك قيل للعقل: لبّ، و"أولو" جمع "ذو" من غير لفظه. انتهى.
وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: قوله إخبارًا عنهم: إنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ؛ أي: المتشابه، {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}؛ أي: الجميع من المحكم والمتشابه حقّ وصدق، وكل واحد منهما يُصَدِّق الآخرَ، ويشهد له؛ لأن الجميع من عند الله، وليس شيء من عند الله بمختلف، ولا متضادّ، كقوله:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، ولهذا قال تعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ؛ أي: إنما يَفْهَم، ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة، والفُهوم المستقيمة. انتهى
(1)
.
وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": وأما قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} فإنه يعني: من الكتاب آيات؛ يعني: بالآيات آيات القرآن، وأما المحكمات فإنهن اللواتي قد أُحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهنّ، وأدلتهنّ على ما جُعلن أدلة عليه من حلال، وحرام، ووعد، ووعيد، وثواب، وعقاب، وأمْر، وزجْر، وخبر، ومَثَل، وعظة، وعِبَر، وما أشبه ذلك.
ثم وصف جل ثناؤه هؤلاء الآيات المحكمات بأنهنّ هنّ أم الكتاب؛ يعني بذلك: أنهنّ أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين، والفرائض، والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة، من أمر دينهم، وما كُلّفوا من الفرائض في عاجلهم، وآجلهم.
وإنما سمّاهن أمّ الكتاب؛ لأنهن معظم الكتاب، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب تسمي الجامع معظم الشيء أمًّا له، فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر أمّهم، والمدبِّر معظم أمر القرية والبلدة أمها.
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 355.
ووَحَّد أم الكتاب، ولم يجمع، فيقول: هن أمهات الكتاب، وقد قال: هنّ؛ لأنه أراد: جميعُ الآيات المحكمات أمُّ الكتاب، لا أن كل آية منهن أم الكتاب، ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن أم الكتاب لكان لا شكّ قد قيل: هن أمهات الكتاب.
ونظير قول الله عز وجل: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} على التأويل الذي قلنا في توحيد الأم، وهي خبر لِـ {هُنَّ}: قوله تعالى ذِكره: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]، ولم يقل: آيتين؛ لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية؛ إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عِبْرةً.
ولو كان مراده الخبر عن كل واحد منهما على انفراده بأنه جُعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين؛ لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة.
وذلك أن مريم وَلَدت من غير رجل، ونَطَق ابنها، فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
قال: وأما قوله: {مُتَشَابِهَاتٌ} فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه:{وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]؛ يعني: في المنظر، مختلفًا في المطعم، وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه.
فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن منه اَيات محكمات بالبيان، هنّ أصل الكتاب الذي عليه عمادك، وعماد أمتك في الدِّين، وإليه مفزعك ومفزعهم، فيما افترضتُ عليك وعليهم، من شرائع الإسلام، وآيات أخر هنّ متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعاني. انتهى كلام ابن جرير: رحمه الله
(1)
.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنهما: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ابن ماجه: "فقال: يا عائشة": ("إِذَا رَأَيْتُمُ) بضمير المخاطبين، وإنما عدل إلى الجمع للتنبيه على أن معرفة هذا لا يخُصّ عائشة رضي الله عنهما، بل يعمّها وغيرها، وخاطب الغائبين،
(1)
"تفسير الطبريّ" 3/ 170 - 174.
وذكّر الضمير للتغليب، ففيه تغليبان متعاكسان، فليُتَأَمّل. قاله السنديّ رحمه الله.
وفي رواية البخاريّ: "فإذا رأيتِ" بتاء المخاطب، والخطاب لكل من يتأتّى له الخطاب، ولذا أتى بضمير الجمع في قوله:"فاحذروهم"، ويَحْتَمِل أن يكون بتاء المخاطبة، والخطاب لعائشة رضي الله عنها، ويكون قوله:"فاحذروهم" على أسلوب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية [الطلاق: 1]؛ لأنها أم المؤمنين؛ بيانًا لشرفها، وغزارة علمها، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت؛ إظهارًا لتقدّمه، واعتبارًا لترؤسه. قاله الطيبيّ
(1)
.
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)؛ أي: من الكتاب، (فَأُولَئِكَ) يَحْتَمِل أن يكون بفتح الكاف خطابًا لكلّ من يتأتى الخطاب، أو بكسرها خطابًا لعائشة رضي الله عنها، وفي رواية ابن ماجه:"إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عناهم الله". (الَّذِينَ سَمَّى اللهُ) وفي نسخة: "سمّاهم الله"؛ أي: في قوله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، (فَاحْذَرُوهُمْ")؛ أي: لا تجالسوهم، ولا تكالموهم أيها المسلمون، فإنهم أهل البدعة، فيحقّ لهم الإهانة. وقيل: أمْر بالحذر منهم احترازًا عن الوقوع في عقيدتهم، فالمقصود: التحذير من الإصغاء إليهم.
وقال في "الفتح": قوله: "فاحذروهم": في رواية الكشميهني: "فاحذرهم" بالإفراد، والأولى أَولى، والمراد: التحذير من الإصغاء إلى الذين يتبعون المتشابه من القرآن، وأول ما ظهر ذلك من اليهود - كما ذكره ابن إسحاق - في تأويلهم الحروف المقطعة، وأنّ عَدَدَها بالْجُمَّل مقدار مدّة هذه الأمة، ثم أول ما ظهر في الإسلام من الخوارج، حتى جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسّر بهم الآية، وقصة عمر في إنكاره على صَبِيغ
(2)
لَمّا بلغة أنه يتّبع المتشابه، فضربه على رأسه حتى أدماه. أخرجها الدارميّ وغيره.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 619.
(2)
"صَبيغ" بوزن أمير، كما ضبطه في "القاموس"، وهو ابن عِسْل بكسر العين، وسكون السين المهملتين، كان يُعنّتُ الناس بالغوامض والسؤالات، منْ مُتَشَابهِ القُرْآن، فنفاه عمر رضي الله عنه إلى البصرة بَعْدَ ضَرْبِه، وكتبَ إلى والِيها ألا يُؤوِيهُ تأدِيبًا، ونَهى عنْ مُجَالَسَتِه. انتهى. "تاج العروس" ص 5677.
وقال الخطابيّ رحمه الله: المتشابه على ضربين: أحدهما: ما إذا رُدَّ إلى الْمُحْكَم، واعتُبِر به عُرِف معناه، والآخر: ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل الزيغ، فيطلبون تأويله، ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه، فيُفْتَنون. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): في درجته: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قد اختُلف في إسناد هذا الحديث، قال: فأخرجه الشيخان من طريق يزيد بن إبراهيم التستريّ، عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه ابن ماجه من طريق أيوب السختيانيّ، عن ابن أبي مليكة، عنها.
قال في "الفتح": قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا، وكثيرًا أيضًّا ما يُدخل بينها وبينه واسطة، وقد اختُلف عليه في هذا الحديث، فأخرجه الترمذيّ من طريق أبي عامر الْجَزّار عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ومن طريق يزيد بن إبراهيم، كما في الباب -يعني: رواية الشيخين - بزيادة القاسم، ثم قال: روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا القاسم، وإنما ذَكره يزيد بن إبراهيم. انتهى. وقد أخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي الوليد الطيالسيّ، عن يزيد بن إبراهيم، وحماد بن سلمة جميعًا، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، فلم ينفرد يزيد بزيادة القاسم، وممن رواه عن ابن أبي مليكة بغير ذِكر القاسم: أيوبُ، أخرجه ابن ماجه من طريقه، ونافعُ بن عمر، وابن جريج، وغيرهما. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6752](2665)، و (البخاريّ) في "التفسير"(6/ 42 و 4547) وفي "خلق أفعال العباد"(30)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4598)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2993)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(7/ 47)،
(1)
"الفتح" 9/ 74 - 75.
(2)
"الفتح" 9/ 73.
و (أحمد) في "مسنده"(6/ 48)، و (الدارميّ) في "سننه"(147)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(73، و 76)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(2515 و 2516 و 2517 و 2518)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(6607 و 6609)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 164 و 6/ 244)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 9)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوة"(6/ 5545) وفي "الاعتقاد"(1/ 118)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم لمعنى هذه الآية الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى وكَلَ إليه بيان معاني القرآن لأمته، حيث قال عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ، وأهل البِدَع، ومن يتّبع المشكلات للفتنة، فأما من سأل عما أشكل عليه للاسترشاد، وتلطّف في ذلك، فلا بأس به، وجوابه واجب، وأما الأول فلا يُجاب، بل يُزجرُ، ويعزّر كما عزّر عمر بن الخطّاب رضي الله عنه صَبِيغَ بن عِسْل حين كان يتبع المتشابه. انتهى.
3 -
(ومنها): أن في ختم الآية بقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريض بالزائغين، ومَدْح للراسخين؛ يعني: من لم يتذكّر، ويَتّعِظ، ويتبع هواه، ليس من أولي الألباب، ومن ثَمَّ قال الراسخون:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8] خَضَعوا لباريهم؛ لاستنزال العلم اللدني، واستعاذوا به من الزيغ النفساني. قاله الطيبيّ
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قال بعضهم: دلت الآية على أن بعض القرآن محكم، وبعضه متشابه، ولا يعارض ذلك قوله عز وجل:{أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، ولا قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23] حتى زعم بعضهم أن كله محكم، وعكس آخرون؛ لأنّ المراد بالإحكام في قوله:{أُحْكِمَتْ} الإتقان في النظم،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 620.
وأن كلها حقٌّ من عند الله، والمراد بالمتشابه: كونه يُشبه بعضه بعضًا في حسن السياق والنظم أيضًا، وليس المراد: اشتباه معناه على سامعه.
وحاصل الجواب: أن المحكم وَرَدَ بإزاء معنيين، والمتشابه ورد بإزاء معنيين. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قال بعضهم: العقل مُبْتَلىً باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء البدن بأداء العبادة، فالحكيم إذا صَنّف كتابًا أجمل فيه أحيانًا؛ ليكون موضع خضوع المتعلم لأُستاذه، وكالملِك يتخذ علامة يمتاز بها من يُطلِعه على سر. وقيل: لو لم يُبْتَلَ العقلُ الذي هو أشرف البدن لاستمر العَالِم في أُبَّهَة العلم على التمرد، فبذلك يَستأنس إلى التذلل بعز العبودية، والمتشابه هو موضع خضوع العقول لباريها؛ استسلامًا واعترافًا بقصورها. ذكره في "الفتح"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالمحكم والمتشابه: قال العلامة أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة، فقال جابر بن عبد الله -وهو مقتضى قول الشعبيّ، وسفيان الثوريّ، وغيرهم-: المحكمات من آي القرآن ما عُرِف تأويله، وفُهِم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خَلْقه. قال بعضهم: ذلك مثلُ وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، والدجال، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور.
قال القرطبيّ: هذا أحسن ما قيل في المتشابه. وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء.
وقال أبو عثمان: المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها. وقال محمد بن الفضل: سورة الإخلاص؛ لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقد قيل: القرآن كله محكم؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . وقيل: كلّه متشابه؛ لقوله: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} .
(1)
"الفتح" 9/ 74.
(2)
9/ 74.
وهذا -كما قال القرطبيّ- ليس في معنى الآية في شيء، فإن قوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ؛ أي: في النظم والرَّصف، وأنه حقّ من عند الله. ومعنى {كِتَابًا مُتَشَابِهًا}؛ أي: يُشبه بعضه بعضًا، ويُصدِّق بعضه بعضًا، وليس المراد بقوله:{آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} هذا المعنى، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله:{إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ؛ أي: التبس علينا؛ أي: يَحتمل أنواعًا كثيرة من البقر. والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه، ولا يَحتمل إلا وجهًا واحدًا. وقيل: إن المتشابه: ما يحتمل وجوهًا، ثُمّ إذا ردّت الوجوه إلى وجه واحد، وأُبطل الباقي صار المتشابه محكمًا، فالمحكم أبدًا أصلٌ تُرَدُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المحكمات هو قوله في "سورة الأنعام": {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] إلى ثلاث آيات، وقوله في "بني إسرائيل":{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، قال ابنُ عطية: وهذا عندي مثال أَعطاه في المحكمات. وقال ابن عباس أيضًا: المحكمات: ناسخه وحرامه وفرائضه وما يُؤمَن به ويعمل به، والمتشابه: المنسوخات ومقدَّمه ومؤخَّره وأمثاله وأقسامه، وما يؤمَن به، ولا يعمل به. وقال ابن مسعود وغيره: المحكمات: الناسخات، والمتشابهات: المنسوخات، وقاله قتادة والربيع والضحاك.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المحكمات هي التي فيها حُجّة الرب، وعِصْمَةُ العباد، ودَفع الْخُصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وُضِعْنَ عليه، والمتشابهات لهنّ تصريف وتحريف وتأويل، ابْتَلَى اللهُ فيهن العباد. وقاله مجاهد، وابنُ إسحاق.
قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية. قال النحاس: أحسنُ ما قيل في المحكمات والمتشابهات: أن المحكمات ما كان قائمًا بنفسه، لا يَحتاج أن يُرجَع فيه إلى غيره، نحوُ:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} [الإخلاص: 4]{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، والمتشابهات نحو:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] يُرجَع فيه إلى قوله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه: 82]، وإلى قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
قال القرطبيّ: ما قاله النحاس يُبَيِّن ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أُحكِم، والإحكامُ: الإتقانُ، ولا شك في أنّ ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبه، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. والله أعلم.
وقال ابن خويزِ مَنْدَاد: للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختَلَفَ فيه العلماء: أيُّ الآيتين نسخت الأخرى، كقول عليّ وابن عباس رضي الله عنهم في الحامل المتوفى عنها زوجها: تَعْتَدُّ أقصى الأجلين، فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم يقولون: وَضْع الحمل، ويقولون: سورة النساء القُصْرَى نَسَخت أربعةَ أشهُر وعشرًا، وكان عليّ وابن عباس يقولان: لم تُنسخ. وكاختلِافهم في الوصية للوارث، هل نُسخت أم لم تنسخ؟ وكتعارض الآيتين أيُّهما أَولى أن تُقَدَّم إذا لم يُعرَف النسخ، ولم توجد شرائطه، كقوله تعالى:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] يَقتضِي الجمع بين الأقارب من مِلك اليمين، وقوله تعالى:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]، يمنع ذلك. ومنه أيضًا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه، وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين، ويكون الاسم مُحْتَمِلًا أو مُجملًا يَحتاج إلى تفسير؛ لأن الواجب منه قَدْر ما يتناوله الاسم أو جميعه، والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعًا، كما قرئ:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالفتح والكسر. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
[تنبيه]: قد اقتصر في "الفتح" على ذِكر قولين من هذه الأقوال، فقال: المحكم من القرآن ما وَضح معناه، والمتشابه نقيضه، وسُمّي المحكم بذلك؛ لوضوح مفردات كلامه، وإتقان تركيبه، بخلاف المتشابه.
وهذا هو معنى القول الذي رجحه ابن عطيّة.
قال: وقيل: المحكم: ما عُرِف المراد منه، إما بالظهور، وإما بالتأويل،
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 9 - 12.
والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال، والحروفِ المقطعة في أوائل السور.
وهذا هو القول الأول الذي استحسنه القرطبيّ.
قال: وقيل في تفسير المحكم والمتشابه أقوال أُخَر غير هذه نحوُ العشرة، ليس هذا موضع بَسْطها، وما ذكرته أشهرها، وأقربها إلى الصواب. وذكر الأُستاذ أبو منصور البغداديّ: أن الأخير هو الصحيح عندنا، وابن السمعانيّ: أنه أحسن الأقوال، والمختار على طريقة أهل السُّنَّة، وعلى القول الأول جرى المتأخرون. انتهى ما في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قال أبو منصور، وابن السمعاني هو الأرجح، وهو الذي استحسنه العلامة القرطبيّ، والحافظ ابن كثير
(2)
، والله تعالى أعلم.
وقال الطيبيّ رحمه الله في "شرح المشكاة": قد افتقرنا في بيان هذا الحديث إلى الكشف عن المراد بالمحكم والمتشابه، فيتّضح المحِقُّ من المبطِل من أبواب التأويل، فنقول -وبالله التوفيق-: المراد بالمحكم: ما اتضح معناه، والمتشابه بخلافه؛ لأن اللفظ الذي يفيد معنىً، إما أن يحتمل غيره أو لا، الثاني: النص، والأول إما أن تكون دلالته على ذلك المعنى راجحة أو لا، والأول هو الظاهر، والثاني إما أن يكون مساويه أو لا، والأول هو المجمل، والثاني المؤوّل، فالمشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه، هكذا ينبغي أن يقسّم؛ لأنه سبحانه وتعالى أوقع المحكم مقابلًا للمتشابه في قوله تعالى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ، وهو ما لم يتّضح معناه، فالواجب أن يُفَسَّر المحكم بما يقابله مما يتّضح معناه.
ويعضِد ما ذكرنا أسلوبُ الآية، وهو الجمع بين التفريق والتقسيم، وذلك أنه تعالى لَمّا فَرّق ما جَمَع في معنى الكتاب بأن قال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أراد أن يُضِيف إلى كُلٍّ منهما ما يناسبهما من الحكم،
(1)
"الفتح" 9/ 73.
(2)
راجع: "تفسير ابن كثير" 1/ 353.
فقال أوّلًا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} ، وثانيًا قال:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يُمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتّبعون المحكم، لكنه وضع موضع ذلك:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} ، وإنما وَضع {يَقُولُونَ آمَنَّا} موضع "يتبعون المحكم" لإيثار لفظ الرسوخ في الابتداء؛ لأن الرسوخ في العلم لا يحصل إلا بعد التتبع التام، والاجتهاد البليغ، فإذا استقام القلب على طريق الرشاد، ورَسَخَ القدمُ في العلم، أفصح صاحبه النطق بالقول الحق؛ إرشادًا للخلق، وكفى بدعاء الراسخين في العلم:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} شاهدًا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابِلٌ لقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، وفيه إشارة إلى أنّ الوقف على قوله:{إِلَّا اللَّهُ} ، والابتداءُ بقوله:{وَالرَّاسِخُونَ} وقفٌ تامّ، وإلى أن عِلم بعض المتشابه مختص بالله تعالى، وأنّ من حاول معرفته، هو الذي أشار إليه في الحديث بقوله:"فاحذروهم". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: ذكر الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" عن سعيد بن جبير قال رجل
(2)
لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} [الصافات: 27]، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42]، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، فقد كتموا في هذه الآية، وقال:{أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} ] إلى قوله: {دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30]، فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال:{أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى {طَائِعِينَ} [فصلت: 11]، فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء، قال:{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمً} [النساء: 96]، {عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56]، {سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، فكانه كان ثم مضى. فقال -يعني ابن عباس-: {فَلَا
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 618 - 619.
(2)
قال في "الفتح" 9/ 523: كان هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يُجالس ابن عبّاس بمكة، ويسأله، ويُعارضه. انتهى.
أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} [المؤمنون: 101] في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة:{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27)} ، وأما قوله:{مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ، {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون: تعالَوا نقول: لم نكن مشركين، فخُتِم على أفواههم، فتنطق جوارحهم بأعمالهم، فعند ذلك عُرِفَ أن الله لا يُكتَم حديثًا، وعنده {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية [الحجر: 2]. وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين، ثم دحا الأرض -أي: بسطها- ودَحْوُها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين، فذلك قوله:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)} [النازعات: 30]، فجُعِلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخُلِقت السماء في يومين. {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 96] سَمَّى نفسه ذلك؛ أي: لم يزل ولا يزال كذلك، فإن الله لم يُرِدْ شيئًا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلًّا من عند الله. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): في اختلاف أهل العلم في قوله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} : قال أبو عبد الله القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": اختَلَف العلماء في {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} هل هو كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله، فتكون الواو للجمع؟ فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تمّ عند قوله: إِلا اَللَّهَ هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم، وهو مذهب الكسائيّ، والأخفش، والفراء، وأبي عبيد، وغيرهم. قال أبو نَهِيك الأسدي: إنكم تَصِلُون هذه الآية، وإنها مقطوعة، وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، وقال مثل هذا عمر بن عبد العزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس، عن أشهب، عن مالك بن أنس.
(1)
راجع: "صحيح البخاريّ" في "تفسير حم السجدة".
و {يَقُولُونَ} على هذا خبرُ {الرَّاسِخُونَ} .
قال الخطابيّ: وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أَمَرنا بالإيمان به، والتصديق بما فيه قسمين: محكمًا ومتشابهًا، فقال عز من قائل:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} إلى قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ، فأَعلَمَ أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يَعلَم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه، ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} . ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وأبي بن كعب، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم. وإنما رُوي عن مجاهد أنه نَسَقَ {الرَّاسِخُونَ} على ما قبله، وزَعَم أنهم يعلمونه، واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمونه قائلين: آمنّا، وزعم أن موضع {يَقُولُونَ} نَصْبٌ على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تُضمِر الفعل والمفعول معًا، ولا تَذكُر حالًا إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حالٌ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبد الله راكبًا، بمعنى: أقبل عبد الله راكبًا، وإنما يجوز ذلك مع ذِكر الفعل، كقوله: عبد الله يتكلم، يصلح بين الناس، فكان "يصلح" حالًا، كقول الشاعر -أنشدنيه أبو عمر قال: أنشدنا أبو عباس ثعلب-:
أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا
(1)
لُكَالِكَا
…
يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا
أي: يقصر ماشيًا. فكان قوله عامة العلماء، مع مساعدة مذاهب النحويين له أَولى من قول مجاهد وحده. وأيضًا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئًا عن الخلق، ويُثبِته لنفسه، ثم يكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عز وجل:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقوله:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]،
(1)
"القطم": الغضبان، والمشتهي اللحم وغيره. و"اللكالك" -بضم اللام الأُولى وكسر الثانية-: الجمل الضخم.
فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه
(1)
، لا يَشرَكه فيه غيره، كذلك قوله تبارك وتعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، ولو كانت الواو في قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} للنَّسَقِ لم يكن لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فائدة. والله أعلم.
قال القرطبيّ: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره، فقد رُوي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون: آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم. و {يَقُولُونَ} على هذا التأويل نَصْبٌ على الحال من الراسخين، كما قال:
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا
…
وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ
وهذ البيت يَحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون "البرق" مبتدأ، والخبر "يلمع" على التأويل الأول، فيكون مقطوعًا مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفًا على "الريح"، و"يلمع" في موضع الحال على التأويل الثاني؛ أي: لامعًا.
واحتج قائلو هذه المقالة أيضًا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم، فكيف يَمدحهم، وهم جُهّال؟ وقد قال ابن عباس: أنا ممن يَعلَم تأويله. وقرأ مجاهد هذه الآية، وقال: أنا ممن يعلم تأويله، حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي.
قال القرطبيّ: وقد رَدّ بعضُ العلماء هذا القول إلى القول الأول، فقال: وتقدير تمام الكلام عند الله أن معناه: وما يعلم تأويله إلا الله؛ يعني: تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه، قائلين: آمنا به، كلٌّ من عند ربنا بما نُصِبَ من الدلائل في المحكم، ومكّن من رَدِّه إليه، فماذا علموا تأويل بعضه، ولم يعلموا البعض قالوا: آمنا بالجميع، كلٌّ من عند ربنا، وما لم يُحط به علمنا من الخفايا، مما في شَرْعه الصالح، فعِلمه عند ربنا.
[فإن قال قائل]: قد أشكل على الراسخين بعضُ تفسيره، حتى قال ابن عباس: لا أدري ما الأوّاه، ولا ما غِسْلِين؟.
[قيل له]: هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد عَلِم بعد ذلك، ففسَّر ما وقف عليه.
(1)
هكذا نسخة تفسير القرطبيّ: "بعلمه"، والظاهر أن الصواب "به"، والله تعالى أعلم.
وجواب أقطعُ من هذا، وهو أنه سبحانه لم يقل: وكلٌّ راسخ، فيجب هذا، فإذا لم يعلمه أحد عَلِمه الآخر.
ورجح ابن فُورَك أن الراسخين يعلمون التأويل، وأطنب في ذلك، وفي قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس:"اللَّهُمَّ فقِّهه في الدِّين، وعلِّمه التأويل" ما يبيّن لك ذلك؛ أي: علّمه معانيَ كتابك، والوقف على هذا يكون عند قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر
(1)
: وهو الصحيح، فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلَمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يَفهَم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يَعلم الجميع؟ لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يُعلَم البتة، كأمر الروح والساعة، مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى عِلمه أحدٌ، لا ابن عباس ولا غيره.
فمن قال من العلماء الْحُذّاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حَمْله على وجوه في اللغة، ومَنَاحٍ في كلام العرب فيُتَأوّل، ويعلَم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تاويل غير مستقيم، كقوله في عيسى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، إلى غير ذلك، فلا يُسمّى أحدٌ راسخًا إلا بأن يعلم من هذا النوع كثيرًا بحسب ما قُدِّر له، وأما من يقول: إن المتشابه هو المنسوخ، فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل، لكن تخصيصه المتشابهات بهذا غير صحيح. انتهى
(2)
.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد ذِكر القولين المتقدّمين ما نصّه: من العلماء من فَصّلَ هذا المقام، قال: التأويل يُطلَق، ويراد به في القرآن معنيان: أحدهما: التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى:{وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]، وقوله:{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أُخبِروا به من أمر المعاد،
(1)
هو شيخه القرطبيّ، صاحب كتاب "المفهم"، المتوفّى سنة 656 هـ.
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 16 - 18.
فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عز وجل، ويكون قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مبتدأ، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} خبره.
وأما إن أريد بالتأويل: المعنى الآخر، وهو التفسير والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله:{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي: بتفسيره، فإن أريد به هذا المعنى، فالوقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ؛ لأنهم يعلمون، وَيفهَمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كُنْه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله:{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالًا منهم، وساغ هذا، وإن كان من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إلى قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} الآية [الحشر: 8 - 10]، وقوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 22]؛ أي: وجاء الملائكة صفوفًا صفوفًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم عن أبي العباس القرطبيّ ترجيحه هو الأرجح، فتأمّله بتأنِّ وإنصاف، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قال أبو عبد الله القرطبيّ: قال شيخنا أبو العبّاس -يعني: القرطبيّ، صاحب "المفهم"-:
متّبعو المتشابه لا يخلوأن يتّبعوه، ويجمعوه طلبًا للتشكيك في القرآن، وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة، والقرامطة
(2)
الطاعنون في القرآن، أو طلبًا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة، الذين جمعوا ما في الكتاب والسُّنَّة، مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مُجَسم، وصورة مصورة، ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وإصبع، تعالى الله عن
(1)
"تفسير ابن كثير" 1/ 355.
(2)
"القرامطة": فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفُرْس الذين يعتقدون نبوّة زرادشت ومزدك وماني، وكانوا يُبيحون المحرّمات. راجع:"عقد الجمان" للعينيّ في حوادث سنة (278 هـ).
ذلك، أو يَتَّبِعوه على جهة إبداء تأويلاتها، وإيضاح معانيها، أو كما فعل صَبِيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال، فهذه أربعة أقسام:
(الأول): لا شك في كفرهم، وأن حكم الله فيهم القتل، من غير استتابة.
(الثاني): الصحيح القول بتكفيرهم؛ إذ لا فرق بينهم وبين عُبّاد الأصنام والصور، ويستتابون، فإن تابوا، وإلا قُتلوا، كما يُفعل بمن ارتد.
(الثالث): اختلفوا في جواز ذلك؛ بناءً على الخلاف في جواز تأويلها، وقد عُرِف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها، مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون: أَمِرُّوهم كما جاءت.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: إن أراد أن السلف يقولون باستحالة ظواهر الصفات، وأنه لا يجوز إثباتها لله تعالى، فهذا غلطٌ عليهم؛ لأن مذهبهم إثباتها لله تعالى على ظواهرها كما يليق بجلاله، وإن أراد أنهم يقولون باستحالة ثبوتها على الكيفية التي ثبتت بها للمخلوق، فهذا مسلَّمٌ، ولكن ظاهر عبارته فيها إيهام، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها، وحَمْلها على ما يصح حَمْله في اللسان عليها قط بتعيين مجمل منها.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا المذهب هو المذهب الذي سلكه الخلف، وخالفوا فيه السلف، وهو مذهب فاسدٌ، وقد بينّا ذلك في غير هذا الموضع، فتبصّر. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: (الرابع): الحكم فيه الأدبُ البليغ، كما فعله عمر بصَبِيغ. وقال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمة من السلف، يُعاقبون من يَسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن؛ لأن السائل إن كان يَبْغِي بسؤاله تخليد البدعة، وإثارة الفتنة، فهو حقيق بالنكير، وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده، فقد استحق العَتْبَ بما اجترم من الذنب؛ إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلًا إلى أن يَقصِدوا ضَعَفَة المسلمين بالتشكيك والتضليل، في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل، وحقائق التأويل، فمن ذلك: ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، أنبأنا سليمان بن حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم، عن
سليمان بن يسار، أن صَبِيغ بن عِسْل
(1)
قَدِم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، وعن أشياء، فبلغ ذلك عمرَ رضي الله عنه، فبعث إليه عمر فأحضره، وقد أَعَدَّ له عَراجين من عراجين النخل، فلما حَضَر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صَبِيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجّه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي، ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة، وقَذَفها في قلبه، فتاب وحَسُنت توبته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6753]
(2666) - (حَدَّثنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ الأنصَارِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا، قَالَ: فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: "إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) الجهضميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيُّ) أبو خالد المدنيّ، سكن البصرة، ثقة [3] قتلته الأزارقة (م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 57/ 1562.
(1)
هو: صبيغ بوزن أمير، ابن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عِسل -بكسر العين- ابن عمرو بن يربوع التميميّ، وقد يُنسب إلى جده الأعلى، فيقال: صَبيغ بن عسل. راجع: "القاموس"، وشرحه في مادّة "صبغ" و"عسل".
(2)
"الجامع لأحكام القرآن" 4/ 13 - 15.
5 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو) العاص رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير الصحابيّ، فمصريّ طائفيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه التحديث، والكتابة، والقول.
شرح الحديث:
عَنْ أبي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ؛ أنه (قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَبَاحٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما (قَالَ: هَجَّرْتُ) بتشديد الجيم؛ أي: بكّرت، وقال القاري: أي: أتيت في الهاجرة؛ أي: الظهيرة، قال المظهر: التهجير السير في الهاجرة، وهي وقت شدة الحرّ، ولعل خروجه في هذا الوقت؛ ليدركه صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الحجرة، فلا يفوته شيء من أقواله، وأفعاله، وفيه حثّ على تحمل المشقة، والإسراع إلى المسجد، وطلب العلم
(1)
. (اِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا)؛ أي: من الأيام، أو التنوين للتعظيم. (قَالَ) عبد الله (فَسَمِعَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ) قال القاري رحمه الله: صَرّح الرضيّ بأنه إذا أضيف الجزآن إلى متضمّنيهما، وكان المتضمّنان بلفظ واحد، فلفظ الإفراد في المضاف أَولى من لفظ المثنى، ولفظ الجمع فيه أَولى من الإفراد، لكن في عدّ الأصوات أجزاء منهما محل نظر، والظاهر أن جمع الأصوات على حقيقته، فإن كل حرف من كلمات الرجلين صوت معتمِد على مخرجه، وفي "تفسير الجلالين" عند قوله تعالى:{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أطلق قلوب على قلبين، ولم يعبّر به؛ لاستثقال الجمع بين تثنيتين فيما هو كالكلمة الواحدة. انتهى
(2)
.
وقوله: (اخْتَلَفَا) صفة لـ "رجلين"؛ أي: تنازعا، واختصما (فِي آيَةٍ)؛ أي: في معنى آية متشابهة، ويَحْتَمِل أن يكون اختلافهما في لفظها اختلافَ قراءة،
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 2/ 19.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 2/ 19.
(فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يُعْرَفُ) بالبناء للمجهول جملة حاليّة من "رسول الله"، (فِي وَجْهِهِ) متعلّق بـ "يُعرف"، وقوله:(الْغَضَبُ) مرفوع على أنه نائب الفاعل، وكان صلى الله عليه وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب لله سبحانه وتعالى، فيشتد به ذلك الغضب، حتى يُرَى أثره من حمرة اللون ونحوها في وجهه الكريم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) من الأمم اليهود، والنصارى؛ أي: تسببوا في إهلاك أنفسهم بالكفر، والابتداع، (بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ")؛ أي: الكتب المنزلة على أنبيائهم، فكفَر بعضهم بكتاب بعض، فهلكوا، فلا تختلفوا أنتم في الكتاب، وأراد بالاختلاف: ما أوقع في شكّ، أو شبهة، أو فتنة، أو شحناء، أو نحوها
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: يعني: أن الأمم السابقة اختلفوا في الكتب المنزلة، فكفَرَ بعضهم بكتاب بعض، فهلكوا، فلا تختلفوا أنتم في هذا الكتاب، والمراد بالاختلاف: ما أوقع في شكّ، أو شبهة، أو فتنة، أو شحناء، ونحو ذلك، لا الاختلاف في وجوه المعاني، واستنباط الأحكام، والمناظرة لإظهار الحقّ، فإنه مأمور به؛ فضلًا عن كونه منهيًّا عنه، قال الحرانيّ: والاختلاف انتقال من الخلاف، وهو تقابل بين اثنين فيما ينبغي انفراد الرأي فيه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: المراد بهلاك من قبلنا هنا: هلاكهم في الدِّين بكفرهم، وابتداعهم، فحذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مِثل فِعلهم، والأمرُ بالقيام عند الاختلاف في القرآن -أي: في الحديث التالي- محمول عند العلماء على اختلاف لا يجوز، أو اختلاف يوقع فيما لا يجوز، كاختلاف في نفس القرآن، أو في معنى منه، لا يسوغ فيه الاجتهاد، أو اختلاف يوقع في شكّ، أو شبهة، أو فتنة، وخصومة، أو شجار، ونحو ذلك، وأما الاختلاف في استنباط فروع الدِّين منه، ومناظرة أهل العلم في ذلك على سبيل الفائدة، وإظهار الحقّ، واختلافهم في ذلك، فليس منهيًّا عنه، بل هو مأمور به، وفضيلة ظاهرة، وقد
(1)
"التيسير بشرح الجامع الصغير" 1/ 364.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" 3/ 5.
أجمع المسلمون على هذا، من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى الآن، والله تعالى أعلم
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6753](2666)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 33)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 192)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(1/ 164)، و (أبو بكر الشيباني) في "الآحاد والمثاني"(2/ 109)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 417)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان تحريم الاختلاف في القرآن الكريم، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الاختلاف لم يكن اختلافًا في القراءة؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم قد سوّغ أن يُقرأ القرآن على سبعة أحرف، كما تقدَّم، ولم يكن أيضًا في كونها قرآنًا؛ لأنَّ ذلك معلوم لهم ضرورةً، ومثل هذا لا يَختلف فيه المسلمون، ولا يُقَرّون عليه؟ فإنَّه كفرٌ، فلم يبق إلا أنه كان اختلافًا في المعنى، ثم تلك الآية يَحْتَمِل أن تكون من المحكمات الظاهرة المعنى، فخالف فيها أحدهما الآخر، إما لقصور فهم، وإما لاحتمال بعيد، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ إذ قد تَرَك الظاهر الواضح، وعدل إلى ما ليس كذلك.
ويَحْتَمِل أن تكون من المتشابه، فتعرّضوا لتأويلها، فأنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، فيكون فيه حجَّة لمذهب السّلف في التسليم للمتشابهات، وتَرْك تأويلها. انتهى
(2)
.
2 -
(ومنها): شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته، حيث قام بتحذيرهم مما يؤدّي إلى ما هلكت الأمم السابقة بسببه.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 218 - 219.
(2)
"المفهم" 6/ 698.
3 -
(ومنها): بيان أن الاختلاف شرّ، لا خير فيه، ولا سيّما في القرآن الكريم، فإنه سبب للهلاك السريع، فالواجب على المسلمين أن يعملوا بما علموا منه، ويكلوا عِلم ما لم يعلموا إلى الله سبحانه وتعالى.
فقد أخرج أحمد، وابن ماجه بسند صحيح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارؤون، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضَرَبوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يُصدِّق بعضه بعضًا، فلا تكذّبوا بعضه ببعض، فما عَلِمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه".
4 -
(ومنها): أن المطلوب من المسلمين اتحادهم، وكونهم يدًا واحدة على من سواهم، فقد أخرج أبو داود، وصححه ابن خزيمة، وابن حبّان عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعًا:"المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويُجير عليهم أقصاهم، وهم يَدٌ على من سواهم، يَرُدّ مُشِدّهم على مُضعِفهم، ومُتَسَرِّعهم على قاعدهم. . ." الحديث.
وأخرج الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مَثَل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، لفظ مسلم، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6754]
(2667) - (حَدَّثنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو قُدَامَةَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُو قُدَامَةَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ) الإيادي -بكسر الهمزة، بعدها تحتانية- البصريّ المؤذّن، صدوق يخطئ
(1)
[8].
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا في "التقريب"، والحقّ أنه ضعيف، يُعتبر به، كما يظهر كلام الأئمة فيه في ترجمته بعد، فتنبّه.
روى عن أبي عمران الجوني، وسعيد الجريري، ومطر الوراق، وغيرهم.
وروى عنه أزهر بن القاسم، وزيد بن الحباب، وابن مهدي، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، ومسدد، وطالوت بن عباد، وغيرهم.
قال أحمد: مضطرب الحديث، وقال عمرو بن عليّ عن ابن مهديّ:
كان من شيوخنا، وما رأيت إلا جيدًا، وقال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقويّ يُكتب حديثه، ولا يُحتج به، وقال النسائيّ: ليس بذاك القويّ، واستشهد به البخاري متابعة في موضوعين، وقال ابن حبان: كان ممن كَثُر وَهَمه، حتى خرج عن جملة من يُحتج بهم إذا انفردوا، وقال الساجيّ: صدوق، عنده مناكير، وقال النسائيّ في "الجرح والتعديل": صالح.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا برقم (2667)، وحديث (2838):"إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة. . ." الحديث.
[تنبيه]: إنما أخرج مسلم للحارث بن عُبيد ما تابعه عليه همّام بن يحيى، وأبان بن يزيد العطّار، فلا يضرّ الكلام المذكور فيه آنفًا، ولكن كان الأَولى له تقديم روايتيهما على روايته؛ لكونهما ثقتين، بخلافه، كما وعد بذلك في مقدمة كتابه، حيث قال:"فإذا نحن تقصَّينا أخبار هذا المصنف من الناس -يعني: الطبقة الأُولى من أهل الحفظ والإتقان- أتبعناها أخبارًا يقع في أسانيدها بعض من ليس بالموصوف بالحفظ والإتقان كالصنف المقدَّم قبلهم" إلى آخر كلامه، والله تعالى أعلم.
3 -
(أَبُو عِمْرَانَ) عبد الملك بن حبيب الْجَوْنيّ البصري، المذكور في السند الماضي.
4 -
(جُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ) هو: جندب -بضمّ أوله، والدالُ تُفتح، وتضمّ- ابن عبد الله بن سفيان الْبَجَليّ، ثم الْعَلَقيّ -بفتحتين، ثم قاف- أبو عبد الله، وربما نُسب إلى جده، صحابيّ مشهور، مات رضي الله عنه بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله.
شرح الحديث:
(عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ) -بفتحتين -: نسبة إلى قبيلة بَجِيلة، وهو ابن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث، أخي الأزد بن الغوث، وقيل: إن بَجِيلة اسم أمهم، وهي من سعد العشيرة، وأختها باهلة، ولدتا قبيلتين عظيمتين، نزلت الكوفة، قاله في "اللباب"
(1)
. (قَالَ) جندب رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ)؛ يعني: اقرؤوه على نشاط منكم، وخواطركم مجموعة، فإذا حصل لكم ملالة، فاتركوه، فإنه أعظم من أن يقرأه أحد من غير حضور القلب، يقال: قام بالأمر: إذا جدّ فيه، وداوم عليه، وقام عن الأمر: إذا تركه، وتجاوز عنه، كذا فسَّره الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
وقال الكرمانيّ: الظاهر أن المراد: اقرؤوا القرآن ما دام بين أصحاب القراءة ائتلاف، فإذا حصل اختلاف فقوموا عنه، وقال ابن الجوزيّ: كان اختلاف الصحابة يقع في القراآت، واللغات، فأُمروا بالقيام عند الاختلاف؛ لئلا يجحد أحدهم ما يقرأه الآخر، فيكون جاحدًا لِمَا أنزل الله عز وجل
(3)
.
(فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ)؛ أي: في فَهْم معانيه، (فَقُومُوا")؛ أي: تفرقوا؛ لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشرّ، قال عياض: يَحْتَمِل أن يكون النهي خاصًّا بزمنه صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يكون ذلك سببًا لنزول ما يسوؤهم، كما في قوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: اقرؤوا، والزموا الائتلاف على ما دلّ عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف، أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق، فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجِب للألفة، وأعرضوا
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 121.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1681.
(3)
"عمدة القاري" 20/ 62.
عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم".
ويَحْتَمِل أنه ينهى عن القراءة إذا وقع الاختلاف في كيفية الأداء، بأن يتفرقوا عند الاختلاف، ويستمرّ كل منهم على قراءته، ومثله ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه لمّا وقع بينه وبين الصحابيين الآخرين الاختلاف في الأداء، فترافعوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كلكم مُحْسِنٌ"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: أشار البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى أنه اختلف في هذا الحديث، فقال بعد إخراجه من طريق سلام بن أبي مطيع ما نصّه: تابعه الحارث بن عبيد، وسعيد بن زيد، عن أبي عمران، ولم يرفعه حماد بن سلمة، وأبان، وقال غندر: عن شعبة، عن أبي عمران، سمعت جندبًا، قولَهُ، وقال ابن عون: عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر، قولَهُ، وجندب أصحّ، وأكثر. انتهى
(1)
.
فقال في "الفتح": قوله: "تابعه الحارث بن عبيد، وسعيد بن زيد، عن أبي عمران"؛ أي: في رفع الحديث، فأما متابعة الحارث، وهو ابن قُدامة الإياديّ، فوَصَلها الدارميّ
(2)
، عن أبي غَسّان مالك بن إسماعيل، عنه، ولفظه مثل رواية حماد بن زيد.
وأما متابعة سعيد بن زيد، وهوأخو حماد بن زيد، فوصلها الحسن بن سفيان في "مسنده" من طريق أبي هشام المخزوميّ، عنه، قال: سمعت أبا عمران قال: حدّثنا جندب
…
فذكر الحديث مرفوعًا، وفي آخره:"فإذا اختلفتم فيه، فقوموا".
قوله: "ولم يرفعه حماد بن سلمة، وأبان"؛ يعني: ابن يزيد العطّار، أما
(1)
"صحيح البخاريّ" 4/ 1929.
(2)
كان الأَولى للحافظ أن يعزو هذه الرواية إلى مسلم، فليُتنبّه.
رواية حماد بن سلمة فلم تقع لي موصولة، وأما رواية أبان، فوقعت في "صحيح مسلم" من طريق حَبّان بن هلال، عنه، ولفظه: قال لنا جندب، ونحن غلمان
…
فذكره، لكن مرفوعًا أيضًا، فلعله وقع للمصنف
(1)
من وجه آخر عنه موقوفًا.
قوله: "وقال غندر عن شعبة عن أبي عمران: سمعت جندبًا قولَهُ" وَصَله الإسماعيليّ من طريق بندار، عن غندر.
قوله: "وقال ابن عون عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن عمر قولَهُ": ابن عون هو: عبد الله البصريّ الإمام المشهور، وهو من أقران أبي عمران، وروايته هذه وَصَلها أبو عبيد، عن معاذ بن معاذ، عنه، وأخرجها النسائيّ من وجه آخر عنه.
قوله: "وجندب أصحّ، وأكثر"؛ أي: أصحّ إسنادًا، وأكثر طُرُقًا، وهو كما قال، فإن الجمّ الغفير رووه عن أبي عمران، عن جندب، إلا أنهم اختلفوا عليه في رَفْعه، ووقفه، والذين رفعوه ثقات حفاظ، فالحكم لهم.
وأما رواية ابن عون فشاذّة، لم يُتابَع عليها، قال أبو بكر بن أبي داود: لم يخطئ ابن عون قط إلا في هذا، والصواب عن جندب. انتهى.
ويَحْتَمِل أن يكون ابن عون حفظه، ويكون لأبي عمران فيه شيخ آخر، وإنما توارد الرواة على طريق جندب؛ لعلوّها، والتصريح برفعها، وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن أبي عمران هذا حديثًا آخر في المعنى، أخرجه من طريق حماد، عن أبي عمران الجونيّ، عن عبد الله بن رَباح، عن عبد الله بن عَمْرٍو، قال: هَجّرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلين اختلفا في آية، فخرج يُعرف الغضب في وجهه، فقال:"إنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف في الكتاب"، وهذا مما يُقَوِّي أن يكون لطريق ابن عون أصل، والله أعلم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيَّن بما سبق أن حديث جُندب بن عبد الله رضي الله عنه صحيح مرفوعًا، كما اتّفق عليه الشيخان، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
(1)
يعني: البخاريّ.
(2)
"الفتح" 11/ 310 - 311، كتاب "فضائل القرآن" رقم (5061).
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6754 و 6755 و 6756](2667)، و (البخاريّ) في "فضائل القرآن"(5060 و 5061) و"الاعتصام"(7364 و 7365)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 33)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 528)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 312)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 442)، و (سعيد بن منصور) في "سننه"(2/ 487)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1519)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(733 و 759)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(1674 و 1675)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 148)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1224)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب قراءة القرآن وقت النشاط، وحضور القلب؛ لأنه بذلك يوجد التدبّر الذي أنزل من أجله القرآن، كما قال الله عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29].
2 -
(ومنها) الأمر بالقيام عن قراءة القرآن، وتَرْكه إذا اختلفت القلوب، ولم يوجد لها حضور.
3 -
(ومنها): النهي عن اختلاف المسلمين في القرآن؛ لأن ذلك يؤدي إلى التفرّق، والتناحر، والتباغض، والتشاجر، وفيه الهلاك الشامل، كما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي بقوله:"إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب".
قال في "الفتح": وفي الحديث: الحضّ على الجماعة والألفة، والتحذير من الفُرقة، والاختلاف، والنهي عن المراء في القرآن بغير حقّ، ومن شرّ ذلك أن تظهر دلالة الآية على شيء يخالف الرأي، فيُتوسَّل بالنظر، وتدقيقه إلى تأويلها، وحَمْلها على ذلك الرأي، ويقع اللجاج في ذلك، والمناضلة عليه. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإذا اختلفتم فيه فقوموا":
(1)
"الفتح" 11/ 311 - 312، كتاب "فضائل القرآن" رقم (5061).
يَحْتَمِل هذا الخلاف أن يُحْمَل على ما قلناه آنفًا، قال القاضي: وقد يكون أمْره بالقيام عند الاختلاف في عصره وزمنه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا وجه للخلاف والتنازع حينئذ، لا في حروفه، ولا في معانيه، وهو صلى الله عليه وسلم حاضرٌ معهم، فيرجعون إليه في مُشْكِله، ويقطع تنازعهم بتبيانه.
قال القرطبيّ: ويظهر لي أن مقصود هذا الحديث: الأمر بالاستمرار في قراءة القرآن، وفي تدبّره، والزجرُ عن كل شيء يقطع عن ذلك، والخلاف فيه في حالة القراءة قاطع عن ذلك في أي شيء كان من حروفه، أو معانيه، والقلب إذا وقع فيه شيء لا يمكن ردّه على الفور، فأمَرهم بالقيام إلى أن تزول تشويشات القلب، ويستفاد هذا من قوله:"اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم"، فإن القراءة باللسان، والتدبّر بالقلب، فأمَر باستدامة القراءة مُدّة دوام تدبّر القلب، فإذا وقع الخلاف في تلك الحال انصرف اللسان عن القراءة، والقلب عن التدبّر.
وعلى هذا فمن أراد أن يتلو القرآن، فلا يبحثْ عن معانيه في حال قراءته مع غيره، ويُفرد لذلك وقتًا غير وقت القراءة، والله أعلم.
والحاصل: أن الباحثين في فهم معاني القرآن يجب عليهم أن يقصدوا ببحثهم التعاونَ على فهمه، واستخراج أحكامه، قاصدين بذلك وجه الله تعالى، ملازمين الأدب والوقار، فإن اتفقت أفهامهم، فقد كَمُلت نعمة الله تعالى عليهم، وإن اختلفت، وظهر لأحدهما خلاف ما ظهر للآخر، وكان ذلك من مثارات الظنون، ومواضع الاجتهاد، فحقّ كل واحد أن يصير إلى ما ظهر له، ولا يُثَرِّب على الآخر، ولا يلومه، ولا يجادله، وهذه حالة الأقوياء والمجتهدين، وأما من لم يكن كذلك فحقّه الرجوع إلى قول الأعلم، فإنَّه عن الغلط أبعدُ وأسلمُ، وأما إن كان ذلك من المسائل العلمية فالصائر إلى خلاف القطع فيها محروم، وخلافه فيها محرّم مذموم، ثم حُكمه على التحقيق: إما التكفير، أو التفسيق. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 699 - 700.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6755]
(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَد، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبٍ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ اللهِ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اقْرَؤوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ، فَإذَا اخْتَلَفْتمْ فَقُومُوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكَوْسَج المروزيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث التّنّوريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(هَمَّامُ) بن يحيىى بن دينار الْعَوْذيّ -بفتح العين المهملة، وسكون الواو، وكسر الذال المعجمة- أبو عبد الله، أوأبو بكر البصريّ، ثقةٌ رُبّما وَهِم [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: غرض المصنّف من إيراد هذه الرواية، والتي بعدها بيان متابعة همام، وأبان للحارث بن عبيد؛ لأنه مضعّفٌ، كما تقدّم في ترجمته، وقد أشرت سابقًا أنه كان الأَولى له أن يقدّم روايتيهما على روايته، فتنبّه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6756]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا أبُو عِمْرَانَ، قَالَ: قَالَ لَنَا جُنْدَبٌ، وَنَحْنُ غِلْمَانٌ بِالْكُوفَةِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ". بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدَّارِميُّ) أبو جعفر السَّرَخْسِيّ، ثقة حافظ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) -بفتح الموحّدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(أَبَانُ) بن يزيد العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقة له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 1/ 540.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية أبان بن يزيد عن أبي عمران هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
(2) - (بَابٌ فِي الأَلدِّ الْخَصِمِ)
" الألدّ": الشديد اللَّدَد؛ أي: الجدال، مُشتقّ من اللَّدِيدَين، وهما صفحتا العنق؛ والمعنى: أنه من أي جانب أخذ في الخصومة قَوِي، وقيل غير ذلك في معناه، مما سيأتي قريبًا -إن شاء الله تعالى -.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6757]
(2668) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَاَلِ إِلَى اللهِ الأَلدُّ الْخَصِمُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأمويّ مولاهم المكيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ) قال الكرمانيّ رحمه الله: الأبغض هو الكافر، فمعنى الحديث: أبغض الرجال
الكفّار: الكافر المعاند، أو أبغض الرجال المخاصمين. قال الحافظ رحمه الله: والثاني هو المعتمَد، وهو أعمّ من أن يكون كافرًا، أو مسلمًا، فإن كان كافرًا، فأفعل التفضيل في حقّه على حقيقتها في العموم، وإن كان مسلمًا، فسبب
البغض أن كثرة المخاصمة تُفضي غالبًا إلى ما يُذمّ صاحبه، أو يخصّ في حقّ المسلمين بمن يُخاصم في باطل، ويشهد للأول حديث:"كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا"، أخرجه الطبرانيّ، عن أبي أُمامة بسند ضعيف، وورد الترغيب في ترك المخاصمة، فعند أبي داود من طريق سليمان بن حبيب، عن أبي أُمامة رضي الله عنه، رفعه:"أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنّة لمن ترك المراء، وإن كان محقًّا"، وله شاهد عند الطبرانيّ من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، و"الربض" -بفتح الراء، والموحّدة، بعدها ضاد معجمة: الأسفل. انتهى
(1)
.
(إِلَى اللهِ الْألَدُّ الْخَصِمُ") بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة: فسَّره البخاريّ: بأنه الدائم الخصومة.
وقال ابن المنيّر رحمه الله: "الألدّ": مشتقّ من اللدد، وهو الاعوجاج والانحراف عن الحقّ، وأصله من اللديد، وهو جانب الوادي، ويُطلق على جانب الفم، ومنه "اللدود"، وهو صبّ الدواء منحرفًا عن وسط الفم إلى جانبه. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "الألد الخصم" -هو بفتح الخاء، وكسر الصاد - و"الألدّ": شديد الخصومة، مأخوذ من لديدَي الوادي، وهما جانباه؛ لأنه كلما احتُجّ عليه بحجة أخذ في جانب آخر، وأما "الخصم": فهو الحاذق بالخصومة، والمذموم هو الخصومة بالباطل في رفع حقّ، أو إثبات باطل. انتهى
(3)
.
وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: "الألد الخصم": الرواية "الْخَصْمُ" -بسكون الصاد- وقد قيّده بعضهم بكسرها، وكلاهما اسم للمخاصم، غير أن الذي بالسكون هو مصدر في الأصل، وُضع موضع الاسم، ولذلك يكون في المذكّر والمؤنّث، والتثنية، والجمع بلفظ واحد في الأكثر، ومن العرب من يُثنّيه، ويَجمعه؛ لأنه يَذهب به مذهب الاسم، وقد جاءت اللغتان في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا
(1)
"الفتح" 17/ 18، كتاب "الأحكام" رقم (7188).
(2)
"الفتح" 17/ 18.
(3)
"شرح النوويّ" 16/ 219.
الْمِحْرَابَ (21)} [ص: 21] ثم قال: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22]. فأما الذي بالكسر، فهو الشديد الخصومة. و"الألدّ": هو الشديد الخصومة، مأخوذ من اللديدَين، وهما جانبا الوادي؛ لأنه كلما أُخذ عليه جانب أخذ في جانب آخر، وقيل: لإعماله لَديدَيه، وهو صفحتا عنقه عند خصومته. وكان حكم "الألدّ" أن يكون تابعًا للـ "خصم"؛ لأن "الألدّ" صفة، و"الخصم" اسم، لكن لمّا كان الخصم مصدرًا في الأصل، وكان "الألدّ" صفة مشهورة عُكس الأمر، فجُعل التابع متبوعًا، وهذا على نحو قوله تعالى:{وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] وإنما يُقال: أسود غِرْبيب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6757](2668)، و (البخاريّ) في "المظالم والغصب"(2457) و"التفسير"(4523) و"الأحكام"(7188)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2976)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5425) وفي "الكبرى"(5987 و 11036)، و (أحمد) في "مسنده"(2375 و 23822 و 25176)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 653)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 132)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5697)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(209)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 108) وفي "شُعَب الإيمان"(6/ 340)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2499)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ذمّ شدّة الخصومة، والمراد به: الخصومة في دفع الحقّ، أو إثبات الباطل، كما سبق في كلام النوويّ رحمه الله، وهو الذي جاءت النصوص في ذمّه، فقد أخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه، وابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضلّ قوم بعد هُدًى كانوا عليه، إلا أوتوا
(1)
"المفهم" 6/ 689 - 690.
الجدل"، ثم تلا تلك الآية:{مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الخصم المبغوض عند الله تعالى هو الذي يقصد بخصومته مدافعة الحق، وردّه بالأوجه الفاسدة، والشُّبَهِ الموهمة، وأشد ذلك الخصومة في أصول الدين، كخصومة أكثر المتكلمين، المعرضين عن الطرق التي أرشد إليها كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسَلَف أمته إلى طُرُق مبتدعة، واصطلاحات مخترعة، وقوانين جدلية، وأمور صناعية، مدار أكثرها على مباحث سوفسطائية، أو مناقشات لفظية، تَرِد بسببها على الآخذ فيها شُبَهٌ، ربما يَعجَز عنها، وشكوك يذهب الإيمان معها، وأحسنهم انفصالًا عنها أجدلهم، لا أعلمهم، فكم من عالم بفساد الشبهة لا يقوى على حَلِّها، وكم من منفصل عنها لا يُدرك حقيقة علمها، ثم إن هؤلاء المتكلّمين قد ارتكبوا أنواعًا من المحال، لا يرتضيها الْبُلْهُ، ولا الأطفال، لَمّا بحثوا عن تَحَيُّز الجواهر، والألوان، والأحوال، ثم إنهم أخذوا يبحثون فيما أمسك عنه السلف الصالح، ولم يوجد عنهم بحثٌ واضح، وهو كيفية تعلقات صفات الله تعالى، وتعديدها، واتحادها في نفسها، وهل هي الذات أو غيرها؟، وفي الكلام، هل هو متحد، أو منقسم؟، وعلى الثاني: هل ينقسم بالنوع، أو الوصف؟، وكيف تعلَّق في الأزل بالمأمور، مع كونه حادثًا؟، ثم إذا انعدم المأمور، فهل يبقى ذلك التعلق؟، وهل الأمر لزيد بالصلاة مثلًا، هو نفس الأمر لعمرو بالزكاة؟ إلى غير ذلك من الأبحاث المبتدعة، التي لم يأمر الشارع بالبحث عنها، وسكت عنها الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم، بل نهوا عن الخوض فيها؛ لِعِلمهم بأنه بحث عن كيفية ما لا تُعلم كيفيته بالعقل، لكون العقول لها حدّ تقف عنده، وهو العجز عن التكييف، لا يتعدّاه، ولا فرق بين البحث عن كيفية الذات، وكيفية الصفات، ولذلك قال العليم الخبير:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ومن توقف في هذا، فليعلم أنه إذا كان حُجِب عن كيفية نفسه، مع وجودها، وعن كيفية إدراك ما يُدرك به، فهو عن إدراك غيره أعجز.
(1)
حسَّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
وغاية علم العلماء، وإدراك عقول الفضلاء أن يقطعوا بوجود فاعل لهذه المصنوعات، منزّه عن الشبيه، مقدَّس عن النظير، متصف بصفات الكمال.
ثم متى ثبت النقل، وأخبرنا الصادقون عنه بشيء من أوصافه، وأسمائه قبلناه، واعتقدناه، وما لم يتعرّضوا له، سكتنا عنه، وتركنا الخوض فيه، وهذه طريقة السلف، وما سواها مَهَاوٍ، وتَلَف، ويكفي في الردع عن الخوض في طرق المتكلمين، ما قد ورد في ذلك عن الأئمة المتقدمين، فمن ذلك قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من جعل دِينه غَرَضًا للخصومات، أكثر الشغل، والدِّين قد فُرغ منه، ليس بأمر يؤتكف على النظر فيه. وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: ليس هذا الجدال من الدين في شيء، وقال: كان يقال: لا تمكّن زائغ القلب من أُذنك، فإنك لا تدري ما يَعلق من ذلك. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: لأن يُبتلَى العبد بكلّ ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام، وإذا سمعت من يقول: الاسم هو المسمّى، أو غير المسمّى، فاشهد أنه من أهل الكلام، ولا دِين له. قال: وحكمي في أهل الكلام أن يُضربُوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر، والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسُّنَّة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، علماء الكلام زنادقة. وقال ابن عقيل: قال بعض أصحابنا: أنا أقطع أن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا، وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رضِيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت طريقة المتكلّمين أَولى من طريقة أبي بكر، وعمر، فبئسما رأيته. قال: وقد أفضى هذا الكلام بأهله إلى الشكوك، وبكثير منهم إلى الإلحاد، وببعضهم إلى التهاون بوظائف العبادات، وسبب ذلك إعراضهم عن نصوص الشارع، وتطلّبهم حقائق الأمور من غيره، وليس في قوة العقل ما يدرك ما في نصوص الشارع من الحِكَم التي استأثر بها، ولو لم يكن في الجدال، إلا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه الضلال، كما قال فيما خرّجه الترمذيّ:"ما ضلّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل"، وقال: إنه صحيح.
قال: وقد رجع كثير من أئمة المتكلّمين عن الكلام، بعد انقضاء أعمار مديدة، وآماد بعيدة، لَمّا لَطَف الله تعالى بهم، وأظهر لهم آياته، وباطن برهانه،
فمنهم: إمام المتكلّمين أبو المعالي إمام الحرمين (ت 478 هـ)، فقد حكى عنه الثقات أنه قال: لقد خلّيت أهل الإسلام، وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغُصت في كل شيء، نَهَى عنه أهل العلم رغبةً في طلب الحق، وهربًا من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكلّ إلى كلمة الحقّ، عليكم بدين العجائز، وأختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، والويل لابن الْجُوَينيّ.
وقال لأصحابه عند موته: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أنه يبلغ بي ما بلغتُ، ما تشاغلت به. وقال أحمد بن سنان: كان الوليد بن أبان الكرابيسيّ خالي، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: تعلمون أحدًا أعلم مني؟ قالوا: لا، قال: فتَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أفتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث، فإني رأيت الحقّ معهم. وقال أبو الوفاء بن عَقِيل: لقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم عُدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب. وهذا الشهرستاني، صاحب "نهاية الإقدام في علم الكلام" وَصَف حاله فيما وصل إليه من علم الكلام، وما ناله، فتمثّل بما قاله:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَصَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرِ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَو قَارعٍ سِنَّ نَادِمِ
ثم قال: عليكم بدِين العجائز، فإنه أسنى الجوائز.
قال القرطبيّ: ولو لم يكن في الكلام شيء يُذمُّ به إلا مسألتان، هما من مبادئه، لكان حقيقًا بالذمّ، وجديرًا بالذِّكر:
[إحداهما]: قول طائفة منهم: إن أول الواجبات الشك في الله تعالى؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر، أو القصد إلى النظر، وإليه أشار الإمام بقوله: ركبت البحر.
[والثانية]: قول جماعة منهم: إن من لم يعرف الله تعالى بالطرق التي طرّقوها، والأبحاث التي حرّروها، فلا يصح إيمانه، وهو كافر، فيلزمهم على هذا تكفير أكثر المسلمين، من السلف الماضين، وأئمة المسلمين، وأن من يبدأ بتكفيره: أباه، وأسلافه، حتى لقد أورد على بعضهم أن هذا يلزم منه تكفير أبيك، وأسلافك، وجيرانك، فقال: لا تُشَنِّع عليّ بكثرة أهل النار. قال: وقد رَدّ بعض من لم يقل بهاتين المسألتين من المتكلّمين ما على من قال بهما،
بطريق من النظر والاستدلال؛ بناء منهم على أن هاتين المسألتين نظريّتان، وهذا خطأ فاحشٌ، فالكلّ يُخَطَّئون، الطائفة الأولى بأصل القول بالمسألتين، والثانية بتسليم أن فسادها ليس بضروريّ، ومن شكّ في تكفير من قال: إن الشكّ في الله تعالى واجب، وأن معظم الصحابة، والمسلمين كفّار، فهو كافر شرعًا، أو مُختلّ العقل وضعًا؛ إذ كل واحدة منهما معلومة الفساد بالضرورة الشرعيّة الحاصلة بالأخبار المتواترة القطعيّة، وإن لم يكن كذلك، فلا ضروريّ يُصار إليه في الشرعيّات، ولا العقليّات، عصمنا الله تعالى من بِدَع المبتدعين، وسلك بنا طرُق السلف الماضين، وإنما طوّلت في هذه المسألة الأنفاس من هذه البدع في الناس، ولأنه قد اغترّ كثير من الجهال بزخرف تلك الأقوال، وقد بذلت ما وجب عليّ من النصيحة، والله تعالى يتولّى إصلاح القلوب الجريحة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد القرطبيّ رحمه الله في هذا التحقيق، فإنه بحث نفيسٌ أنيس، والله تعالى وليّ التوفيق.
[تنبيه]: قيل: إن سبب نزول قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة: 204] هو الأخنس بن شَرِيق، وكان رجلًا حلو المنطق؛ إذا لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألان له القول، وادَّعَى أنه يحبه، وأنه مسلم، ويُشهد الله على ما في قلبه؛ أي: يحلف، ويقول: الله شاهد على ما في قلبي من محبتك، ومن الإسلام، فقال الله في حقه:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} ؛ أي: شديد الجدال، والخصومة، والعداوة للمسلمين، والألد أفعل التفضيل، من اللدد، وهو شدة الخصومة، والخصام المخاصمة، وإضافة الألد بمعنى "في"، أو يُجعل الخصام ألدّ على المبالغة، وقيل: الخصام جمع خصم، كصعب وصعاب، بمعنى: هوأشدّ الخصوم خصومة، قاله في "العمدة"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 690 - 694، ببعض تغيير من "الفتح".
(2)
"عمدة القاري" 18/ 114.
(3) - (بَابُ اتِّبَاعِ سُنَنِ الْيَهُود، وَالنَّصَارَى)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6758]
(2669) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ؟ ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْهَرَويّ الأصل، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقَيليّ -بالضم - أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ رُبّما وَهِمِ [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ، مولى عمر، أبو عبد الله، وأبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة رضي الله عنها، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2] (94) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من زيد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَتَتَّبِعُنَّ) بمثناتين مفتوحتين، ثم موحّدة مكسورة، وعين مهملة مضمومة، ونون ثقيلة،
وأصله تتّبعون. (سَنَنَ) بالسين المهملة، والنون، بعدها نون أخرى؛ أي: طريق، وقال في "العمدة":"السنن" بفتح السين: السبيل والمنهاج، وقال الكرمانيّ: ويروى بالضم
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: "السنن" بفتح السين، والنون، وهو الطريق، والمراد بالشبر، والذراع، وجُحْر الضبّ: التمثيل بشدّة الموافقة لهم، والمراد: الموافقة في المعاصي، والمخالفات، لا في الكفر، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "السُّنَن" جمع سُنّة، وهي الطريقة حسنةً كانت أو سيّئةً، والمراد بها هنا: طريقة أهل الأهواء والبِدَع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من تغيير دِينهم، وتحريف كتابهم، كما أتى علي بني إسرائيل حذو النعل بالنعل. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم" قيَّدناه "سَنَن" بفتح السين، وهو الطريق، وبضمّها، وهو جمع سنّة، وهي الطريقة المسلوكة، وذِكر الشبر، والذراع، والْحُجْر أمثال تفيدُ أن هذه الأمة يطرأ عليها من الابتداع، والاختلاف، مثل الذي كان وقع لبني إسرائيل، وقد رَوَى الترمذيّ هذا المعنى بأوضح من هذا، فقال:"ليأتينّ على أمي ما أتى على بني إسرائيل، حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من يأتي أمه علانية، لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرّقت على ثنتين وسبعين ملّةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين، كلها في النار، إلا واحدة"، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"
(4)
، خرّجه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد رواه أبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان، وقال:"اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة"
(5)
؛ يعني: جماعة أصحابي، ومن
(1)
"عمدة القاري" 16/ 43.
(2)
"شرح النوويّ" 16/ 219 - 220.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3390.
(4)
حديث حسنٌ، رواه الترمذي برقم (2641).
(5)
حديث صحيح، رواه أبو داود برقم (4596).
تابعهم على هديهم، وسلك طريقهم، كما قال في حديث الترمذيّ.
وقد تبيّن بهذه الأحاديث أن الافتراق المحذَّر منه إنما هو في أصول الدِّين وقواعده؛ لأنه قد أَطلق عليها مِللًا، وأخبر أن التمسّك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار، ومثل هذا لا يقال على الاختلاف في الفروع، فإنه لا يوجب تعدّد الملل، ولا عذاب النار، وإنما هو على أحد المذهبين السابقَين: إما مُصيب، فله أجران، وإما مخطئ، فله أجر، على ما ذكرناه في الأصول. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
(الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وقال في "الفتح": قوله: "سنن" بفتح السين للأكثر، وقال ابن التين: قرأناه بضمها، وقال المهلّب: بالفتح أَولى؛ لأنه الذي يُستعمل فيه الذراع والشِّبر، وهو الطريق، قال الحافظ: وليس اللفظ الأخير ببعيد من ذلك، وقوله:(شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: حال مثل "يدًا بيد"
(2)
.
وقال في "العمدة": نُصِب بنزع الخافض، تقديره: لتتبعن سَنَن من قبلكم اتباعًا بشبر ملتبس بشبر، وذراعٍ ملتبس بذراع، وهذا كناية عن شدة الموافقة لهم في المخالفات، والمعاصي، لا في الكفر، وكذلك قوله:"لو سلكوا جحر ضب" بضم الجيم وسكون الحاء، والضب دويبة تُشبه الوَرَلَ، تأكله الأعراب، والأنثى ضبَّة، قال ابن خالويه: يعيش سبعمائة سنة، فأكثر، ولا يشرب ماءً
(3)
، وخصّ، وتقول العرب: هو قاضي الطير والبهائم، يقولون: اجتمعت إليه أول ما خلق الله الإنسان، فوصفته له، فقال الضب: تَصِفُون خَلْقًا يُنزل الطير من السماء، ويُخرج الحوت من الماء، فمن كان له جناح فليطر، ومن كان ذا مِخلب فليحتفر. ووجه التخصيص بجحر الضب؛ لشدة ضيقه، ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم، واتباعهم طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لوافقوهم. انتهى
(4)
.
(1)
"المفهم" 6/ 694 - 695.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3390.
(3)
كلام ابن خالويه يحتاج إلى دليل صحيح، والله أعلم.
(4)
"عمدة القاري" 16/ 43، و"فيض القدير" 5/ 261.
وفي رواية للبخاريّ: "شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا"، قال عياض: الشبر، والذراع، والطريق، ودخول الْجُحْر تمثيل للاقتداء بهم في كل شيء، مما نَهَى الشرع عنه وذمّه.
(حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ) بضمّ الجيم، وسكون الحاء المهملة، (ضَبٍّ) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الموحّدة: دُويبة معروفة، يقال: خُصّت بالذِّكر؛ لأن الضب يقال له: قاضي البهائم، قال الحافظ: والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لِجُحر الضب؛ لشدّة ضيقه، ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم، واتّباعهم طرائقهم، لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لتبعوهم. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضبّ إلخ" مبالغة في الاتباع، فإذا اقتصروا في الذي ابتدعوه، فستقتصرون، وإن بسطوا فستبسطوا، حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها، حتى كانت تقتل أنبياءها، فلما عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم قتلوا خلفاءه؛ تحقيقًا لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: الحديث إعلام، وإخبار بأن الأمة، والمراد غالبها تُشابِه الأمم في المعاصي، وباقي أنواع ما يأتونه غير الكفر، وهو تحذير عن تَشابُه من قبلهم في أفعالهم، وأخلاقهم، وقد صدق إخباره صلى الله عليه وسلم، فقد سلك الناس مسالك الأمم في الابتداع، والاتّساع، وإقامة الحدود على الضعفاء، دون الشرفاء، وقبول الرِّشا، والاتّساع في شهوات الدنيا، وزخرفة المساجد، واتخاذ القبور أوثانًا، وغير ذلك مما يعرفه كل عارف. انتهى
(3)
.
(لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ"، قُلْنَا) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تعيين القائل، (يَا رَسُولَ اللهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟)؛ أي: أتعني بمن نتّبعهم اليهود والنصارى؟، فأجابهم، فـ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("فَمَنْ؟ ") استفهام إنكار، والتقدير: فإن لم أُرِدْهم فمن سواهم؟ أي: ليس المراد غيرهم
(4)
.
(1)
"الفتح" 17/ 212، كتاب "الاعتصام" رقم (7320).
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" 5/ 261.
(3)
"التنوير شرح الجامع الصغير" 9/ 28.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3390.
وقد أخرج الطبرانيّ من حديث المستورِد بن شدّاد، رفعه:"لا تترك هذه الأمة شيئًا من سَنَن الأولين حتى تأتيه"، ووقع في حديث عبد الله بن عمرو عند الشافعيّ، بسند صحيح:"لتركبُنّ سنة من كان قبلكم حُلْوها، ومُرّها"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6758 و 6759](2669)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3456) و"الاعتصام"(7320)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2195)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2178)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 369)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 304 و 372 و 523 و 3/ 84 و 89 و 94)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(74 و 75) وفي "الزهد"(218)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6703)، و (الفريابيّ) في "صفة المنافق"(101)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4196 و 4223)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه بيان عَلَم من أعلام النبوّة، ومعجزة من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر مآل أمته، وأنها تتبع سنن الأمم الماضية، في قليلها، وكثيرها، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
2 -
(ومنها): ما قاله المناويّ رحمه الله: هذا الحديث لفظه لَفْظ الخبر، ومعناه النهي عن اتباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام؛ لأن نوره قد بَهَر الأنوار، وشريعته نسخت الشرائع، وذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، فقد اتبع كثير من أمته سنن فارس في مشيهم، ومراكبهم، وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب، وغيرها، وأهلِ الكتابين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور، حتى عبدها العوامّ، وقبول الرشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البِيض، وأن الحائض لا تمس عجينًا، إلى غير ذلك، مما هو
أشنع، وأبشع. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: أَعْلَم النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور، والبدع، والأهواء، كما وقع للأمم قبلهم، وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شرّ، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدِّين إنما يبقى قائمًا عند خاصّة من الناس.
قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع معظم ما أنذر به صلى الله عليه وسلم، وسيقع بقية ذلك.
4 -
(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله أخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع"، فقيل: يا رسول الله، كفارس، والروم؟ فقال:"ومَنِ الناسُ إلا أولئك؟ "
(2)
.
فقال الكرمانيّ: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مغاير لحديث أبي سعيد؛ لأن الأول فُسِّر بفارس والروم، والثاني باليهود والنصارى، ولكن الروم نصارى، وقد كان في الفرس يهود، أوْ ذَكَر ذلك على سبيل المثال؛ لأنه قال في السؤال: كفارس؟ انتهى.
قال الحافظ: ويعكر عليه جوابه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ومَن الناس إلا أولئك"؛ لأن ظاهره الحصر فيهم، وقد أجاب عنه الكرمانيّ بأن المراد: حصر الناس المعهود من المتبوعين.
قلت
(3)
: ووجهه أنه صلى الله عليه وسلم لَمّا بُعث كان مُلكُ البلاد منحصرًا في الفرس والروم، وجميع مَن عداهم من الأمم مِن تحت أيديهم، أو كل شيء بالنسبة إليهم، فصحّ الحصر بهذا الاعتبار.
ويَحْتَمِل أن يكون الجواب اختَلَف بحسب المقام، فحيث قال: فارس والروم، كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس، وسياسة الرعية، وحيث قيل: اليهود والنصارى، كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات: أصولها وفروعها، ومن ثم كان في الجواب عن الأول:"ومَن الناس إلا أولئك"، وأما
(1)
"فيض القدير" 5/ 261.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2669.
(3)
القائل هو الحافظ، فتنبّه.
الجواب في الثاني بالإبهام، فيؤيد الحمل المذكور، وأنه كان هناك قرينة تتعلق بما ذكرت.
[تنبيه]: استَدَلّ ابن عبد البرّ رحمه الله في "باب ذم القول بالرأي إذا كان على غير أصل" بما أخرجه من جامع ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، عن هشام بن عروة، أنه سمع أباه يقول: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيمًا حتى حَدَث فيهم المولَّدون، أبناء سبايا الأمم، فأحدثوا فيهم القول بالرأي، وأضلوا بني إسرائيل، قال: وكان أبي يقول: السننَ السننَ، فإن السنن قِوَام الدِّين.
وعن ابن وهب: أخبرني بكر بن مضر، عمن سمع ابن شهاب الزهريّ، وهو يذكر ما وقع الناس فيه من الرأي، وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي كان بأيديهم، حين استقلّوا الرأي، وأخذوا فيه.
وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق مكحول، عن أنس، قيل: يا رسول الله، متى يُترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال:"إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم".
وفي "مصنَّف قاسم بن أصبغ" بسند صحيح، عن عمر:"فساد الدين إذا جاء العلم من قِبَل الصغير، استعصى عليه الكبير، وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير، تابعه عليه الصغير"، وذكر أبو عبيد: أن المراد بالصِّغَر في هذا: صِغَر القَدْر، لا السنّ، والله تعالى أعلم
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6759]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو غَسَّانَ -وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الإسْنَادِ نَحْوَهُ.
قَال أبو إسْحاقَ، إبراهيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحيى، حَدَّثَنا ابنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثنا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عطاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَذَكَرَ الحَدِيثَ، نَحْوَهُ).
(1)
"الفتح" 17/ 212، كتاب "الاعتصام" رقم (7320).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم بن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
2 -
(أَبُو غَسَّانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ) هو: محمد بن مُطَرِّف بن داود الليثيّ المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقةٌ [7] مات بعد الستين ومائة (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.
و"زيد بن أسلم" ذُكر قبله، وشيوخ مسلم لم يُسمّوا، وقوله:"عِدّة" بكسر العين، وتشديد الدال؛ أي: جماعة من أصحابنا؛ أي: مشايخنا.
[تنبيه]: رواية محمد بن مطرّف عن زيد بن أسلم هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3269)
- حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا أبو غسّان، قال: حدّثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لتتبعُنّ سَنَن من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحْر ضَبّ لسلكتموه"، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:"فمن". انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: تكلّم الحافظ الرشيد العطّار في "غرر الفوائد" في هذا الحديث، حيث قال فيه مسلم:"حدثني عدّة من أصحابنا إلخ" ولم يسمّ منهم أحدًا، قال: وقد تقدَّم الجواب عن مثل هذا القول بما فيه كفاية، ومع ذلك فقد بَيّنّا أن البخاريّ قد رواه في "صحيحه" عن سعيد بن أبي مريم هذا، ثم ساق رواية البخاريّ بسنده، قال: وهكذا أورده البخاريّ في "صحيحه" في أحاديث بني إسرائيل، فثبت اتّصاله من هذا الوجه الآخر، والحمد لله، وقد وصله أيضًا إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد، راوي "صحيح مسلم"، فرواه عن الإمام أبي عبد الله محمد بن يحيىى الذُّهْليّ، عن سعيد بن أبي مريم كذلك، ولعل البخاريّ أحد العِدّة الذين سمع منهم مسلم هذا الحديث، ولم يسمِّهم، والله عز وجل أعلم. انتهى مختصر كلام الحافظ العطّار، وقد سبق في مقدّمة شرح المقدّمة بتمامه، فراجعه هناك، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1274.
[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله: قوله: "حدّثني عدّة من أصحابنا إلخ" قال المازريّ: هذا من الأحاديث المقطوعة في مسلم، وهي أربعة عشر، هذا آخرها، قال القاضي: قَلَّد المازريّ أبا عليّ الغسانيّ الجيانيّ في تسميته هذا مقطوعًا، وهي تسمية باطلة، وإنما هذا عند أهل الصنعة من باب رواية المجهول، وإنما المقطوع ما حُذف منه راوٍ.
قال النوويّ: وتسمية هذا الثاني أيضًا مقطوعًا مجاز، وإنما هو منقطع، ومرسل عند الأصوليين، والفقهاء، وإنما حقيقة المقطوع عندهم: الموقوف على التابعيّ، فمن بعده، قولًا له، أو فعلًا، أو نحوه، وكيف كان فمتن الحديث المذكور صحيح، متصلٌ بالطريق الأول، وإنما ذكر الثاني متابعةً، وقد سبق أن المتابعة يُحْتَمَلُ فيها ما لا يُحْتَمَلُ في الأصول، وقد وقع في كثير من النسخ هنا اتّصال هذا الطريق الثاني من جهة أبي إسحاق إبراهيم بن سفيان راوي الكتاب عن مسلم، وهو من زياداته، وعالي إسناده، قال أبو إسحاق: حدّثني محمد بن يحيى، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، فذكره بإسناده إلى آخره، فاتَّصَلت الرواية، والله أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إلخ) هو الفقيه النيسابوريّ، تلميذ مسلم، وغرضه به بيان علوّ السند، وذلك لأنه وصل إلى سعيد بن أبي مريم في روايته عن مسلم بواسطتين: مسلمٍ، وشيوخِه، بخلاف روايته هذه، فإنه وصل إليه بواسطة واحدة، هي محمد بن يحيى الذُّهليّ، عن سعيد بن أبي مريم.
(قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن سفيان الفقيه الزاهد النيسابوريّ، تلميذ مسلم، وراوية كتابه هذا، المتوفّى في رجب سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى) بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذُّهْليّ النيسابوريّ، ثقةٌ حافظٌ جليلٌ [11](ت 258) وله (86) سنةً، تقدّم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 220.
[تنبيه]: رواية محمد بن يحيى الذّهْليّ عن ابن أبي مريم هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6703)
- أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، قال: حدّثنا محمد بن يحيى الذُّهْليّ، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: حدّثنا أبو غَسّان، قال: حدّثني زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتتبعُنّ سنن الذين قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحْر ضبّ، لسلكتموه"، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فمن؟ ". انتهى
(1)
.
(4) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6760]
(2670) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَتِيقٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ"، قَالَهَا ثَلَاثًا).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.
2 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ) النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الإمام الناقد، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) تقدّم قبل باب.
5 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ عَتِيقٍ) المدنيّ، صدوقٌ [4] ومن قال فيه: ابن عتيك، فقد وَهِمَ (م د س ق) تقدم في "البيوع" 18/ 3923.
(1)
"صحيح ابن حبان" 15/ 95.
6 -
(طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ) هو: طلق -بسكون اللام- ابن حبيب الْعَنَزيّ -بفتح العين المهملة، والنون- البصريّ، صدوقٌ عابدٌ، رُمي بالإرجاء [3] مات بعد التسعين (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.
7 -
(الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسِ) بن معاوية بن حُصين التميميّ السعديّ، أبو بحر، اسمه الضحاك، وقيل: صخر، مخضرمٌ، ثقةٌ [2] قيل: مات سنة سبع وستين، وقيل: اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الزكاة" 10/ 2306.
8 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ثلاثة من التابعين، روى بعضهم عن بعض: سليمان بن عتيق، عن طلق، عن الأحنف، وأن صحابيّه من كبار فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ)؛ أي: المتعمِّقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم، وأفعالهم. (قَالَهَا)؛ أي: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة، أو الجملة (ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث مرّات؛ وإنما رددها ثلاثًا؛ تهويلًا، وتنبيهًا على ما فيه من الغائلة، وتحريضًا على التيقظ، والتبصر دونهم.
وقال ابن الأثير رحمه الله: "المتنطّعون": هم المتعمّقون المغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النِّطَع
(1)
وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استُعمل في كل تعمّق قولًا وفعلًا. انتهى
(2)
.
وقال الصنعانيّ رحمه الله: "المتنطّعون": المتعمّقون الخائضون فيما لا يَعنيهم، وقيل: المبالغون في عبادتهم بحيث يخرجون عن قوانين الشريعة،
(1)
بكسر النون، وفتح الطاء بوزن عِنَب: ما ظهر من غار الفم الأعلى، قاله في "المصباح" 2/ 611.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 73.
أقوالًا وأفعالًا؛ أي: هلكوا في الدين، كما هلك الرهبانيّة، ونحوهم. انتهى
(1)
.
وقال القاري رحمه الله: "المتنطّعون"؛ أي: المتكلفون في الفصاحة، أو المصوِّتون من قعر حلوقهم، والمردّدون لكلامهم في أفواههم رعونة في القول، قال التوربشتيّ: أراد بهم المتعمقين الغالين في خوضهم فيما لا يعنيهم من الكلام، والأصل في المتنطع الذي يتكلم بأقصى حلقه، مأخوذ من النِّطَع، وهو الغار الأعلى، وإنما ردد القول ثلاثًا تهويلًا وتنبيهًا على ما فيه من الغائلة، وتحريضًا على التيقظ، والتبصر دونهم، وكم تحت هذه الكلمة من مصيبة تعود على أهل اللسان، والمتكلفين في القول الذين يَرُومُون بسبك الكلام سَبْيَ قلوب الرجال، نسأل الله العافية.
قال الطيبيّ: لعل المذموم من هذا ما يكون القصد فيه مقصورًا على مراعاة اللفظ، ومجيء المعنى تابعًا للفظ، وأما إذا كان بالعكس، وكلام الله تعالى، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم مصبوب في هذا القالب، فيرفع الكلام إلى الدرجة القصوى، قال تعالى حكاية عن الهدهد:{وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: 22].
قال في "الكشاف": هذا من جنس الكلام الذي سماه الْمُحْدَثون البديعَ، وهو من محاسن الكلام التي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعًا، أو يصوغه عالم بجوهر الكلام، يحفظ معه صحة المعنى، وسَداده، ولقد جاء ها هنا زائدًا على الصحة، فحسُن، وبَدُع
(2)
لفظًا ومعنى، ألا ترى أنه لو وُضع مكان "بنبأ""بخبر" لكان المعنى صحيحًا، وهو كما جاء أصحّ؛ لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال.
وقال أبو الحسين الهرويّ صاحب "دلائل النبوة": اعلم أن التلاؤم يكون بتلاؤم الحروف، وتلاؤم الحركات والسكنات، وتلاؤم المعنى، فإذا اجتمعت هذه الوجوه خرج الكلام غايةً في العذوبة، وفي حصول بعضها دون بعض انحطاط درجة العذوبة عن الغاية، وسائر أقسام الفصاحة مع عدم التلاؤم يُعدّ
(1)
"التنوير شرح الجامع الصغير" 11/ 23.
(2)
بضمّ الدال؛ ككرُم.
تكلّفًا، وكلما ظهرت الصنعة أكثر، كان الكلام أقرب إلى التعسّف، وإذا حصل التلاؤم عظُم معه يُسْر الصنعة، وشَرف تأليف الكلام، ووَضْعه. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6760](2670)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4608)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 386)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 422 و 424 و 9/ 158)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 264)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(24/ 300)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): ذمّ التعمّق في الدِّين بحيث يتجاوز الحد المطلوب فيه، فإن الشريعة سمحة، فقد أخرج أحمد في "مسنده" عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه، قال: فمرّ رجل بغار فيه شيء من ماء، قال: فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء، ويصيب ما حوله من البقل، ويتخلى من الدنيا، ثم قال: لوأني أتيت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فإن أذن لي فعلتُ، وإلا لم أفعل، فأتاه، فقال: يا نبيّ الله إني مررت بغار، فيه ما يقوتني من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه، وأتخلى من الدنيا، قال: فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني لم أُبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بُعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده، لغَدْوة، أو روحة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصفّ خير من صلاته ستين سنة"
(2)
. انتهى
(3)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3098 - 3099، و"مرقاة المفاتيح" 9/ 33 - 34.
(2)
في إسناده: عليّ بن يزيد الألهانيّ: ضعّفوه، وصححه الشيخ الألباني: رحمه الله. راجع: "الصحيحة" 6/ 1022.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 266.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدّق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشيّ اللغة، ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام، ونحوهم. انتهى.
3 -
(ومنها): ذمّ التعمّق في البحث، ولا سيّما فيما لا نصّ فيه؛ إذا كان مما لا حاجة إليه في الدِّين، وإلا فلا ذمّ.
قال في "الفتح": قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نصّ على قسمين:
أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب، لا مكروه، بل ربما كان فرضًا على من تعيَّن عليه من المجتهدين.
ثانيهما: أن يدقّق النظر في وجوه الفروق، فيفرِّق بين متماثِلَين بفرق ليس له أثر في الشرع، مع وجود وَصْف الجمع، أو بالعكس، بأن يجمع بين متفرِّقَين بوصف طرديّ مثلًا، فهذا الذي ذمّه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب، ولا السُّنَّة، ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدًّا، فيصرف فيها زمانًا كان صرفه في غيرها أَولى، ولا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه.
وأشد من ذلك في كثرة السؤال البحث عن أمور مغيَّبة، ورَدَ الشرع بالإيمان بها، مع تَرْك كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهد في عالم الحسّ، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مُدّة هذه الأمة، إلى أمثال ذلك، مما لا يُعرف إلا بالنقل الصِّرف، والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث.
وأشد من ذلك ما يوقع كثرةُ البحث عنه في الشكّ والحيرة، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال: هذا اللهُ خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ".
وقال بعض الشُّرّاح: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يُفتي بالإذن: أن يسأل عن السِّلَع التي توجد في
الأسواق، هل يُكره شراؤها ممن هي في يده، من قَبْل البحث عن مصيرها إليه، أوْ لا، فيجيبه بالجواز، فإن عاد، فقال: أخشى أن يكون من نهب، أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع، ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حَرُم، وإن تردّد كُرِه، أو كان خلاف الأَولى، ولو سكت السائل عن هذا التنطع، لم يَزِد المفتي على جوابه بالجواز.
وإذا تقرر ذلك فمن يَسُدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يَقِلّ فهمه، وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل، وتوليدها، ولا سيما فيما يقلّ وقوعه، أو يندُر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة، والمغالبة، فإنه يُذَمّ فعله، وهو عَيْن الذي كرهه السلف، ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظًا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه الذين شاهدوا التنزيل، وحصّل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه، ومفهومه، وعن معاني السُّنَّة، وما دلت عليه كذلك، مقتصرًا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يُحْمَد، ويُنتفع به، وعلى ذلك يُحْمَل عَمَل فقهاء الأمصار، من التابعين، فمَن بعدهم، حتى حدثت الطائفة الثانية، فعارضتها الطائفة الأُولى، فكَثُر بينهم المراء والجدال، وتولّدت البغضاء، وتَسَمَّوا خُصومًا، وهم من أهل دين واحد، والواسط هو المعتدل من كل شيء، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي:"فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم"، فإن الاختلاف يجرّ إلى عدم الانقياد.
وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، وأما العمل بما ورد في الكتاب، والسُّنَّة، والتشاغل به، فقد وقع الكلام في أيهما أَولى، والإنصاف أن يقال: كلما زاد على ما هو في حقّ المكلَّف فرض عين، فالناس فيه على قسمين: من وجد في نفسه قوّة على الفهم، والتحرير، فتشاغُله بذلك أَولى من إعراضه عنه، وتشاغلِهِ بالعبادة؛ لِمَا فيه من النفع المتعدي، ومن وجد في نفسه قصورًا، فإقباله على العبادة أَولى؛ لعُسْر اجتماع الأمرين، فإن الأول لو ترك العلم لأوشك أن يضيع بعض الأحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم، وتَرَك العبادة، فاته الأمران؛ لعدم حصول الأول له، وإعراضه به عن الثاني.
انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.
ثم رأيت الحافظ ابن رجب كتب بحثًا نفيسًا، أحببت إيراده هنا، وإن كان تقدّم في كلام الحافظ؛ إلا أن فيه تحقيقات مفيدة - ولعل الحافظ أخذه منه، كما يشير إليه قوله السابق: قال بعض الأئمة إلخ.
قال رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون إلخ": المتنطع: هو المتعمق البحّاث عما لا يعنيه، وهذا قد يَتمسك به من يتعلق بظاهر اللفظ، وينفي المعاني، والقياس، كالظاهرية، والتحقيق في هذا المقام -والله أعلم - أن البحث عما لم يوجد فيه نصّ خاصّ، أو عامّ على قسمين:
أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفتوى، والمفهوم، والقياس الظاهر الصحيح، فهذا حقّ، وهو مما يتعيَّن فِعله على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية.
والثاني: أن يدقّق الناظر نظره، وفكره في وجوه الفروق المستبعدة، فيفرق بين متماثِلَين بمجرد فَرْق، لا يظهر له أثر في الشرع، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع، أو يجمع بين متفرِّقَين بمجرد الأوصاف الطارئة التي هي غير مناسبة، ولا يدلّ دليل على تأثيرها في الشرع، فهذا النظر والبحث غير مرضيّ، ولا محمود، مع أنه قد وقع في طوائف من الفقهاء، وإنما المحمود: النظر الموافق لِنَظر الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بعدهم، من القرون المفضلة، كابن عباس ونحوه، ولعل هذا مراد ابن مسعود رضي الله عنهم بقوله:"إياكم والتنطع، إياكم والتعمق، وعليكم بالعتيق"؛ يعني: ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
ومن كلام بعض أعيان الشافعية: لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق، كدأب أصحاب الرأي، والسر في تلك أن متعلَّق الأحكام في الحال الظنون وغلباتها، فإذا كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما، وجب القضاء باجتماعهما، وإن انقدح فرقٌ على بُعد، فافهموا ذلك، فإنه من قواعد الدين. انتهى.
ومما يدخل في النهي عن التعمّق والبحث عنه: أمور الغيب الخبرية التي أُمرنا بالإيمان بها، ولم يبيّن كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا
(1)
"الفتح" 12/ 267.
العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني، وهو مما يُنْهَى عنه، وقد يوجب الحيرةَ والشكَّ، ويرتقي إلى التكذيب.
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال الناس يسألون، حتى يقال: هذا خلق الله، فمن خلق اللهَ؟ فمن وجد من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت بالله"، وفي رواية له:"لا يزال الناس يسألونك عن العلم، حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله؟ "، وفي رواية له أيضًا:"ليسألنكم الناس عن كل شيء، حتى يقولوا: الله خلق كل شيء، فمن خلقه؟ ".
وخرّجه البخاريّ أيضًا، ولفظه:"يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغة، فليستعذ بالله، ولْيَنْتَهِ".
وفي "صحيح مسلم" عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: "إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟، ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ". وخرّجه البخاريّ، ولفظه:"لم يزل الناس يسألون، هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ ".
قال إسحاق بن راهويه: لا يجوز التفكر في الخالق، ويجوز للعباد أن يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم، ولا يزيدون على ذلك؛ لأنهم إن فعلوا تاهوا، قال: وقال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، ولا يجوز أن يقال: كيف تسبيح القِصَاع، والأَخْونة، والخبز، والمخبوز، والثياب المنسوجة؟ وكل هذا قد صح العلم فيهم أنهم يسبّحون، فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف شاء، وكما شاء، وليس للناس أن يخوضوا في ذلك، إلا بما علموا، ولا يتكلموا في هذا وشِبهه، إلا بما أخبر الله، ولا يزيدوا على ذلك، فاتقوا الله، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة، فإنه يُرديكم الخوض فيه عن سنن الحقّ. نَقَل ذلك كله حرب، عن إسحاق رحمه الله تعالى. انتهى ما كتبه ابن رجب رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، وتحقيقٌ سديد، والله تعالى أعلم.
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 171 في شرح الحديث الثلاثين: "إن الله فرض فرائض، فلا تضيّعوها. . ." الحديث.
(5) - (بَابُ رَفْعِ الْعِلْم، وَقَبْضِه، وَظُهُورِ الْجَهْل، وَالْفِتَنِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6761]
(2671) - (حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِث، حَدَّثَنَا أَبُو التَّيَّاح، حَدَّثَني أنسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، ويَثْبُتَ الْجَهْلُ، ويُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الأُبُلّيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد التّنّوريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو التَّيَّاحِ) -بمثناة، ثم تحتانية ثقيلة، وآخره حاء مهملة- يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ -بضم الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة - البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
4 -
(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الخادم الشهير، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (417) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالتحديث، وبالبصريين، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) -بفتح الهمزة -: أي: علاماتها، وهو جمع شَرَط -بفتح الشين، والراء- وبه سمِّيت شُرَط السلطان؛ لأنهم جعلوا لأنفسهم علامات يُعرفون بها
(1)
، والجارّ والمجرور خبر مقدّم لقوله:(أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ) لأنه في تأويل المصدر مبتدأ مؤخّر، ولا ينافي هذا ما في الرواية الأخرى:"أن يقلّ العلم"؛
(1)
"عمدة القاري" 2/ 82.
لأن القلة قد يراد بها العدم، أو القلة في ابتداء الأشراط، والعدم في أثنائها، فهو باعتبار الزمانين
(1)
.
ثم إن قوله: "أن يُرفع العلم" فيه إسناد مجازيّ، والمراد: رَفْعه بموت حَمَلته، وقبض العلماء، وليس المراد: محوه من صدور الحفاظ، وقلوب العلماء، والدليل عليه ما رواه الشيخان
(2)
عن عبد الله بن عَمْرِو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله عز وجل لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا، وأضلوا"، فقد بَيَّن هذا الحديث أن المراد برفع العلم هنا: قَبْض أهله، وهُمُ العلماء، لا محوه من الصدور، لكن بموت أهله، واتخاذ الناس رؤساء جهالًا، فيحكمون في دين الله تعالى برأيهم، ويُفتون بجهلهم، قال القاضي عياض: وقد وُجد ذلك في زماننا، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، قال الشيخ قطب الدين: قال هذا مع توافر العلماء في زمانه، فكيف بزماننا، قال العينيّ: قال: هذا مع كثرة الفقهاء والعلماء من المذاهب الأربعة، والمحدِّثين الكبار في زمانه، فكيف بزماننا الذي خلت البلاد عنهم، وتصدّر الجهال بالإفتاء، والتعيّن في المجالس، والتدريس في المدارس، فنسأل السلامة والعافية. انتهى
(3)
.
(وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ) ببناء الفعل للفاعل، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "ويثبت الجهل إلخ" هكذا هو في كثير من النسخ: "يَثْبُت الجهل" من الثبوت، وفي بعضها:"يُبَثّ" بضم الياء، وبعدها موحّدة مفتوحة، ثم مثلثة مشدّدة؛ أي: يُنشر، وَيَشيع. انتهى
(4)
.
(ويُشْرَبَ الْخَمْرُ) ببناء الفعل للمفعول، و"الخمر" في اللغة من التخمير، وهو التغطية، سُمّيت به؛ لأنها تُغَطي العقل، ومنه الخمار للمرأة، وفي "العباب": يقال: خَمْرَةٌ، وخَمْرٌ، وخُمُور، مثال تَمْرة، وتَمْر، وتمور، ويقال:
(1)
"فيض القدير" 2/ 532.
(2)
هو الحديث الآتي لمسلم في هذا الباب.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 82.
(4)
"شرح النوويّ" 16/ 221.
خمرة صِرْفٌ، وفي الحديث: الخمرة ما خامر العقل، وقال ابن الأعرابيّ: سمّيت الخمرة خمرًا؛ لأنها تُركت، فاختمرت، واختمارها: تغيير ريحها
(1)
.
(وَيَظْهَرَ الزِّنَا")؛ أي: يفشو، وينتشر، وفي الرواية التالية:"ويفشو الزنا"، والزنا يُمَدّ، ويُقصر، والقصر لأهل الحجاز، قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، والمدّ لأهل نجد، وقد زَنَى يَزني، وهو من النواقص اليائية، والنسبة إلى المقصور زَنَويّ، وإلى المدود زَنائيّ
(2)
، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، ومسائله تأتي في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6762]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ألَا أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يُحَدِّثكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعَهُ مِنْهُ: "إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ، وَيَفْشُوَ الزِّنَا، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَذْهَبَ الرِّجَالُ، وَتَبْقَى النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأةً قَيِّمٌ وَاحِدٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ بَشَّارٍ) أبو بكر بُندار العبديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) غندر، أبو عبد الله البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(شُعْبَةُ) بن الحجَّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(قَتَادَةَ) بن دعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا. و"أنس بن مالك رضي الله عنه " ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه
(1)
"عمدة القاري" 2/ 82.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 82.
أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، والمشهور بخدمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنال بذلك دعوته المباركة، فكَثُر ماله، وأولاده، وطال عمره، بحيث جاوز المائة، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: ألَا) بفتح الهمزة، وتخفيف اللام: أداة استفتاح وتنبيه، يُلقى بها للمخاطب تنبيهًا له، وإزالة لغفلته. (أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا)، وقوله:(سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محل نصب صفة لـ "حديثًا"، وقوله:(لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ) جملة من الفعل والمفعول والفاعل، في محل النصب، على أنها صفة لقوله:"حديثًا"، وقوله:(بَعْدِي) ظرف متعلّق بصفة "أحدٌ"، وفي رواية ابن أبي عروبة عن قتادة الآتية:"لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي"، وفي رواية البخاريّ:"لا يحدثكم به غيري"، وفي رواية أبي عوانة:"لا يحدثكم أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدي"
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله: عَرَف أنس رضي الله عنه أنه لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره؛ لأنه كان آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم، فلعل الخطاب بذلك كان لأهل البصرة، أو كان عامًّا، وكان تحديثه بذلك في آخر عمره؛ لأنه لم يبق بعده من الصحابة من ثبت سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا النادر، ممن لم يكن هذا المتن من مرويّه.
وقال ابن بطال رحمه الله: يَحْتَمِل أنه قال ذلك لَمّا رأى من التغيير، ونقص العلم؛ يعني: فاقتضى ذلك عنده أنه لفساد الحال، لا يحدثهم أحد بالحقّ، قال الحافظ: والأول أَولى. انتهى
(2)
.
وقوله: (سَمِعَهُ مِنْهُ) صلى الله عليه وسلم، صفة بعد صفة لـ "أحدٌ"، أو حال، ووقع في بعض النسخ:"سمعت منه"، وعليه فالجملة مستأنفة لبيان الحديث. ("إِنَّ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، وقوله:(مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ) خبر مقدّم
(1)
"عمدة القاري" 2/ 84.
(2)
"الفتح" 1/ 314، كتاب "العلم" رقم (81).
لقوله: (أَنْ يُرْفَعَ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، والنائب قوله:(الْعِلْمُ) وقَبْضه: إما بقبض العلماء، وإما بخفضهم عند الأمراء، وفي رواية للبخاريّ:"أن يقلّ العلم" وهو بكسر القاف من القلّة، قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون المراد بقلّته أول العلامة، وبرفعه آخرها، أوأُطلقت القلّة وأريد بها العدم، كما يُطلق العدم، ويراد به القلّة، وهذا ألْيَق؛ لاتحاد المخرج. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم كيفية رَفْع العلم، وظهور الجهل في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما الذي قال فيه:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. . ." الحديث، وهو نصّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، بل بموت العلماء، وبقاء الجهّال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يُفتون بالجهل، ويعلّمونه، فينتشر الجهل، ويظهر، وقد ظهر ذلك ووُجد على نحو ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك دليلًا من أدلّة نبوّته، وخصوصًا في هذه الأزمان؛ إذ قد وَليَ المدارس، والفتيا كثير من الجهّال، والصبيان، وحُرِمها أهل ذلك الشأن، غير أنه قد جاء في كتاب الترمذيّ عن جُبير بن نُفير، عن أبي الدرداء، ما يدلّ على أن الذي يُرفع هو العمل، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فشَخَص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوانٌ يُختلس فيه العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء"، فقال زياد بن لَبيد الأنصاريّ: وكيف يُختلس منّا، وقد قرأنا القران؟ فوالله لنَقرَأنّه، ولَنُقرِئنّه نساءنا، وأبناءنا، فقال:"ثَكِلتك أمك يا زياد! إن كُنتُ لأعدّك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة، والإنجيل، عند اليهود، والنصارى، فماذا تُغني عنهم؟ ". قال: فلقيت عُبادة بن الصامت، فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟، فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئتَ لأحدّثنّك بأول علم يُرفع: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب
(2)
، وقد خرّجه النسائيّ من حديث
(1)
"الفتح" 1/ 314، كتاب "العلم" رقم (81).
(2)
وصحَّحه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
جُبير بن نُفير أيضًا، عن عوف بن مالك الأشجعيّ، من طرق صحيحة.
قال: وظاهر هذا الحديث أن الذي يُرفع إنما هو العمل بالعلم، لا نَفْس العلم، وهذا بخلاف ما ظهر من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، فإنَّه صريح في رفع العلم.
قلت
(1)
: ولا تباعد فيهما، فإنَّه إذا ذهب العلم بموت العلماء، خَلَفهم الجهّال، فأفتوا بالجهل، فعُمِل به، فذهب العلم والعمل، وإن كانت المصاحف والكتب بأيدي الناس، كما اتَّفَق لأهل الكتابَيْن من قبلنا، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزياد على ما نصّ عليه النسائيّ:"ثكلتك أمك زِيادُ! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ "، وذلك أن علماءهم لمَّا انقرضوا خَلَفهم جهّالهم، فحرّفوا الكتاب، وجهلوا المعاني، فعَمِلوا بالجهل، وأفتوا به، فارتفع العلم والعمل، وبقيت أشخاص الكتب، لا تغني شيئًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (ويَظْهَرَ) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:(الْجَهْلُ، ويَفْشُوَ) بفتح أوله، وضم الشين، مبنيًّا للفاعل أيضًا؛ أي: يكثر، وينتشر، والفاعل قوله:(الزِّنَا) بالقصر، والمدّ، (ويُشْرَبَ) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول، ومصدره: الشرب، بضم الشين، وفتحها، وقُرئ بهما في المتواتر عند قوله تعالى:{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)} [الواقعة: 55]، ويجوز كسرها، ففي "القاموس": شَرِب كسَمِعَ شرْبًا، ويُثَلَّثُ. انتهى.
ونائب الفاعل قوله: (الْخَمْرُ)، وقوله:(وَيَذْهَبَ) بفتح أوله مبنيًّا للفاعل، والنائب قوله:(الرِّجَالُ)؛ أي: يموتون، وقوله:(وَتَبْقَى) بفتح أوله، مبنيًّا للفاعل، والفاعل قوله:(النِّسَاءُ) وفي رواية للبخاريّ: "وتكثر النساء"، قيل: سببه أن الفتن تكثر، فيكثر القتل في الرجال؛ لأنهم أهل الحرب دون النساء، وقال أبو عبد الملك: هو إشارة إلى كثرة الفتوح، فتكثر السبايا، فيتخذ الرجل الواحد عدّة موطوءات.
وتعقبه الحافظ، فقال: وفيه نظر؛ لأنه صرّح بالقلّة في حديث أبي موسى
(1)
القائل هو القرطبيّ رحمه الله.
(2)
"المفهم" 6/ 705 - 708.
الأشعريّ عند البخاريّ، فقال:"من قلة الرجال، وكثرة النساء" والظاهر أنها علامة محضة، لا لسبب آخر
(1)
، بل يُقَدِّر الله في آخر الزمان أن يقلّ من يولد من الذكور، ويكثر من يولد من الإناث، وكون كثرة النساء من العلامات مناسِبة لظهور الجهل، ورَفْع العلم.
وقوله: (حَتَّى يَكُونَ)"حتى" هنا للغاية، والفعل منصوب بـ "أن" مضمرة بعدها وجوبًا، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "حَتَّى" هَكَذَا إِضْمَارُ "أَنْ"
…
حَتْمٌ كـ"جُدْ حَتَّى تَسُرَّ ذَا حَزَنْ"
(لِخَمْسِينَ امْرَأةً) يَحْتَمِل أن يراد به حقيقة هذا العدد، أو يكون مجازًا عن الكثرة، ويؤيده أن في حديث أبي موسى:"وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأةً".
وقال في "العمدة": قوله: "لخمسين امرأة" يَحْتَمِل أن يراد بها حقيقة هذا العدد، وأن يراد بها كونها مجازًا عن الكثرة، ولعل السرّ فيه أن الأربعة في كمال نصاب الزوجات، فاعتُبر الكمال مع زيادة واحدة عليه، ثم اعتبر كل واحدة بعشر أمثالها؛ ليصير فوق الكمال؛ مبالغةً في الكثرة، أو لأن الأربعة منها يمكن تألّف العشرة؛ لأن فيها واحدًا، أو اثنين، وثلاثة، وأربعة، وهذا المجموع عشرة، ومن العشرات المئات، ومن المئات الألوف، فهي أصل جميع مراتب الأعداد، فزيد فوق الأصل واحد آخر، ثم اعتُبر كل واحدة منها بعشر أمثالها أيضًا تأكيدًا للكثرة، ومبالغة فيها. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلّف، فالأَولى عدم الخوض، والله تعالى أعلم.
(قَيِّمٌ وَاحِدٌ") برفع "قيّمٌ"؛ لأنه اسم "يكونَ"، و"واحدٌ" صفته، والقيّم بتشديد التحتانيّة: من يقوم بأمرهنّ، واللام للعهد إشعارًا بما هو معهود، من كون الرجال قوّامين على النساء، وكأن هذه الأمور الخمسة خُصّت بالذِّكر؛ لكونها مشعرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي الدِّين؛ لأن رَفْع العلم يُخلّ به، والعقلُ؛ لأن شرب الخمر يُخلّ به،
(1)
وللعينيّ تعقّب لكلام الحافظ هذا.
(2)
"عمدة القاري" 2/ 84.
والنسب؛ لأن الزنى يُخِل به، والنفس والمال؛ لأن كثرة الفتن تُخلّ بهما
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "القيم الواحد": بفتح القاف، وكسر الياء المشدّدة، وهو القائم بأمور النساء، وكذا القَيّام، والقوّام، يقال: فلان قوّام أهل بيته، وقيّامه، وهو الذي يُقيم شأنهم، ومنه قوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقِوَام الأمر أيضًا: مِلاكه الذي يقوم به، وأصل قَيِّم: قَيْوِم على وزن فَيْعِل، اجتَمَعت الواو والياء، وسَبَقت إحداهما بالسكون، فأُبدلت من الواو ياءٌ، وأُدغمت الياء في الياء، ولم يُعكس الأمر هنا هَرَبًا من الالتباس بِقَوَّم الذي هو ماض من التقويم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى هذا القلب، والإدغام أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:
إِنْ يَسْكُنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيا
…
وَاتَّصَلَا وَمِنْ عُرُوضٍ عَرِيَا
فَيَاءً الْوَاوَ اقْلِبَنَّ مُدْغِمَا
…
وَشَذَّ مُعْطًى غَيْرَ مَا قَدْ رُسِمَا
وقال ابن بطّال: قال المهلّب: هذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن، فيُقتل الرجال، والله أعلم.
ويَحْتَمِل قوله: "القيم الواحد"، معنيين: أحدهما: أن يكون قيّمًا عليهنّ، وناظرًا لهنّ، وقائمًا بأمورهنّ، ويَحْتَمِل أن يكون اتباع النساء له على غير الحلّ، والله أعلم.
قال الطحاويّ: ولمّا احتَمَل الوجهين نظرنا، هل رُوي في ذلك شيءٌ يدلّ على أحدهما؟ فذَكَر عليّ بن معبد بإسناده، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقول: "إذا عَمّت الفتنة يميّز الله أصفياءه، وأولياءه، حتى تطهر الأرض من المنافقين، والقتالين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذه
(1)
"الفتح" 1/ 314، كتاب "العلم" رقم (81).
(2)
"عمدة القاري" 2/ 84.
تقول: يا عبد الله، استرني، يا عبد الله، آوني"، فدل هذا الحديث على القول الأول. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6761 و 6762 و 6763](2671)، و (البخاريّ) في "العلم"(80 و 81) و"النكاح"(5231) و"الحدود"(6808) و"الأشربة"(5577)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2205)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 455)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4045)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20801)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1984)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 151 و 176 و 202 و 273)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 359)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2892 و 2901 و 2931 و 2961 و 3040 و 3062 و 3070 و 3085 و 3178)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 342)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6768)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 38) وفي "دلائل النبوة"(6/ 543)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 379)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(13/ 144)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه عَلَمًا من أعلام النبوّة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم بما سيكون في آخر الزمان، فوقع بعضه إلى الآن، وسيقع ما بقي على مرّ الأزمان.
2 -
(ومنها): ما قاله الكرمانيّ رحمه الله: وإنما كان اختلال هذه الأمور -يعني: الخمسة المذكورة في هذا الحديث - مؤذنًا بخراب العالم؛ لأن الخلق لا يُترَكون هَمَلًا، ولا نبيّ بعد نبينا -صلوات الله تعالى، وسلامه عليهم أجمعين - فيتعيّن ذلك.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله في "المفهم": في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ إذ أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمور ستقع، فوقعت خصوصًا في هذه الأزمان.
(1)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاريّ" 13/ 358.
وقال القرطبيّ في "التذكرة": يَحْتَمِل أن يراد بالقيّم: من يقوم عليهنّ، سواء كنّ موطوءات، أم لا، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك يقع في الزمان الذي لا يبقى فيه من يقول: الله الله، فيتزوج الواحد بغير عدد؛ جهلًا بالحكم الشرعيّ.
قال العينيّ: وقد وُجد ذلك من بعض أمراء التركمان، وغيرهم، من أهل هذا الزمان، مع دعواه الإسلام، والله المستعان. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: وأما رفع العلم فيكون بشيئين: أحدهما: بموت العلماء، كما قال في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:"ولكن يقبضه بقبض العلماء".
والثاني: بخساسة الهمم، واقتناعها باليسير منه، فإنها إذا دَنَت قصرت، وكَشْفُ هذا: أنك إذا تأملت من سَبَق من العلماء، رأيت كل واحد منهم يتفنّن في العلوم، ويرتقي في كل فنّ إلى أقصاه، حتى روينا عن الشعبيّ أنه قال: ما أروي أقلّ من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهرًا لا أُعيد.
ثم قال: أخبرنا القزاز، قال: أنبأنا أحمد بن عليّ الحافظ، قال: حدّثنا الصُّوريّ، قال: سمعت رجاء بن محمد بن عيسى المعدّل يقول: سألت الدارقطنيّ، فقلت له: رأى الشيخ مثل نفسه؟ فقال: إن كان في فنّ واحد، فقد رأيت من هو أفضل مني، وأما من اجتمع فيه ما اجتمع فيّ فلا.
ثم إن الرغبات فَتَرت في العلم، فصار صاحب الحديث يقتصر على ما علا إسناده، ويُعرِض عن الفقه، فلو وقعت مسألة في الطهارة، لم يهتد لجوابها، وصار الفقيه يقتصر على ما كُتب في التعليقة، ولا يدري هل الحديث الذي بنى عليه الحكم صحيح أم لا؟ وصار اللغويّ يشتغل بحفظ ألفاظ العرب، ولا يلتفت إلى الفقه، فهذا رَفْع العلم، ثم له رفع من حيث المعنى، وهو أنا إذا وجدنا العالِم المتقِن قد مال إلى الدنيا، وتشاغل بخدمة السلاطين، والتردد إليهم، غير آمر بالمعروف، ولا ناهٍ لهم عن منكر، وعَكَف على اللذات، وربما مزجها بحرام، كلُبس الحرير، لم يَبق لعلمه نور عند المقتبس، فصار كالطبيب المخلّط، لا يكاد يُقبل قوله في الْحِمْية، فمات العلم عنده،
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 3/ 94.
وهو موجود. نسأل الله عز وجل عزمًا مُجِدًّا، لا فتور فيه، وعملًا خالصًا، لا رياء معه. انتهى كلام ابن الجوزيّ رحمه الله، وهو تحقيق أنيسٌ، والله أعلم.
5 -
(ومنها): ما ذكره في "العمدة" على طريقة الأسئلة والأجوبة، فقال: منها: ما قيل: من أين عَرَف أنس رضي الله عنه أن أحدًا لا يحدّث بعده؟.
أجيب: بأنه لعله عرفه بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، أو قال بناءً على ظنه أنه لم يسمع الحديث غيره من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن بطال رحمه الله: يَحْتَمِل أن أنسًا رضي الله عنه قال ذلك؛ لأنه لم يَبق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره، أو لِمَا رأى من التغير، ونَقْص العلم، فوعظهم بما سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم في نقص العلم، أنه من أشراط الساعة؛ ليحضّهم على طلب العلم، ثم أتى بالحديث على نصّه.
قال العينيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون الخطاب بذلك لأهل البصرة خاصّة؛ لأنه آخر من مات بالبصرة رضي الله عنه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال أنس رضي الله عنه ذلك؛ لأنَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانوا انقرضوا في ذلك الوقت، فلم يبق منهم غيره، فإنه من آخرهم موتًا، تُوُفّي بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، على ما قاله خليفة بن خياط، وقيل: كان سنّه يوم مات مائة سنة وعشر سنين، وقيل: أقلّ من ذلك، والأول أكثر، وكان ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك. انتهى
(1)
.
ومنها: ما قيل: ما فائدة تخصيص هذه الأشياء الخمسة بالذكر؟.
أجيب: بأن فائدة ذلك: أنها مُشعِرة باختلال الضرورات الخمس، الواجبة رعايتها في جميع الأديان، التي بحفظها صلاح المعاش والمعاد، ونظام أحوال الدارين، وهي الدِّين، والعقل، والنفس، والنسب، والمال، فرَفْع العلم مُخِلّ بحفظ الدّين، وشرب الخمر بالعقل، وبالمال أيضًا، وقلة الرجال سبب الفتن بالنفس، وظهور الزنا بالنسب، وكذا بالمال.
ومنها: ما قيل: لِمَ كان اختلال هذه الأمور من علاماتها؟.
(1)
"المفهم" 6/ 704 - 705.
أجيب: بأن الخلائق لا يُترَكون سُدًى، ولا نبيّ بعد هذا الزمان، فتعيَّن خراب العالم، وقرب القيامة. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6763]
(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثنَا عَبْدَةُ، وَأَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَفي حَدِيثِ ابْنِ بِشْرٍ، وَعَبْدَةَ: لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكلابيّ، أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [8] (ت 187) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
4 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ)؛ يعني: كل هؤلاء الثلاثة: محمد بن بشر، وعبدة، وأبو أسامة رووا هذا الحديث عن سعيد بن أبي عروبة، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 84.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سعيد بن أبي عروبة.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(3070)
- حدّثنا عبيد الله، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: لأحدثنّكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحدّثكموه أحدٌ بعدي، سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويَظهر الجهل، ويُشرب الخمر، ويَفشو الزنى، ويقلّ الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6764]
(2672) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبِي، قَالَا: حَدَّثنا الأَعْمَشُ (ح) وَحَدَّثَني أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الله، وَأَبِي مُوسَى، فَقَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أيَّامًا، يُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، ويَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، ويَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة، بلا واسطة، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكاهليّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
"مسند أبي يعلى" 5/ 400.
8 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيق بن سلمة؛ أنه (قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ اللهِ) بن
مسعود رضي الله عنه (وَأبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه (فَقَالَا) ظاهر هذا أنهما قالا معًا، قال في "الفتح": قوله: "فقالا": يظهر من الروايتين اللتين بعدها أن الذي تلفّظ بذلك هو أبو موسى؛ لقوله في روايته: "فقال أبو موسى"، فذَكَره، ولا يعارض ذلك الرواية الثالثة من طريق واصل عن أبي وائل، عن عبد الله، وأحسبه رفعه، قال: "بين يدي الساعة
…
" فذكره؛ لاحتمال أن يكون أبو وائل سمعه من عبد الله أيضًا لدخوله في قوله في رواية الأعمش: "قالا"، وقد اتفق أكثر الرواة عن الأعمش على أنه عن عبد الله وأبي موسى معًا، ورواه أبو معاوية عن الأعمش، فقال: عن أبي موسى، ولم يذكر عبد الله، أخرجه مسلم
(1)
، وأشار ابن أبي خيثمة إلى ترجيح قول الجماعة، وأما رواية عاصم المعلّقة التي ختم بها الباب
(2)
فلولا أنه دون الأعمش وواصلٍ في الحفظ، لكانت روايته هي المعتمدة؛ لأنه جعل لكلّ من أبي موسى وعبد الله لفظ مَتْن غير الآخر، لكن يَحْتَمِل أن يكون المتن الآخر كان عند عبد الله بن مسعود مع المتن الأول". انتهى
(3)
.
(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أيَّامًا) وفي رواية للبخاريّ:
(1)
هي الرواية الثالثة لهذا الحديث.
(2)
هي قول البخاريّ 6/ 2590: وقال أبو عوانة، عن عاصم، عن أبي وائل، عن الأشعريّ، أنه قال لعبد الله: تعلم الأيام التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أيام الهرج، نحوه.
(3)
"الفتح" 16/ 457، كتاب "الفتن" رقم (7062 و 7063).
"لأيّامًا"، (يُرْفَعُ) بالبناء للمفعول، (فِيهَا الْعِلْمُ) مرفوع على أنه نائب الفاعل، (ويَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ) قال في "الفتح": معناه أن العلم يرتفع بموت العلماء، فكلما مات عالم يَنْقص العلم بالنسبة إلى فَقْد حامله، وينشأ عن ذلك الجهل بما كان ذلك العالِم ينفرد به عن بقية العلماء. (وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ، وَالْهَرْجُ: الْقَتْلُ") كذا في هذه الرواية، وقال: رواية جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش الآتية:"والهرج بلسان الحبشة: القتل" ونَسَبَ التفسير في رواية واصل عند البخاريّ لأبي موسى.
وأصل الهرج في اللغة العربية: الاختلاط، يقال: هَرَج الناس: اختلطوا، واختلفوا، وهَرَج القوم في الحديث: إذا كثروا، وخلّطوا، وأخطأ من قال: نسبة تفسير الهرج بالقتل للسان الحبشة وَهَمٌ من بعض الرواة، وإلا فهي عربيّة صحيحة، ووجه الخطأ أنها لا تُستعمل في اللغة العربية بمعنى القتل، إلا على طريق المجاز؛ لكون الاختلاط مع الاختلاف يُفضي كثيرًا إلى القتل، وكثيرًا ما يُسَمَّى الشيءُ باسم ما يؤول إليه، واستعمالها في القتل بطريق الحقيقة هو بلسان الحبشة، وكيف يُدَّعَى على مثل أبي موسى الأشعريّ الوهم في تفسير لفظة لغويّة؟ بل الصواب معه، واستعمال العرب الهرج بمعنى القتل لا يمنع كونها لغة الحبشة، وإن ورد استعمالها في الاختلاط والاختلاف، كحديث معقل بن يسار رضي الله عنه، رَفَعه:"العبادة في الهرج كهجرة إليّ"، أخرجه مسلم.
وذكر صاحب "المحكم" للهرج معاني أخرى، ومجموعها تسعة: شدّة القتل، وكثرة القتل، والاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وكثرة النكاح، وكثرة الكذب، وكثرة النوم، وما يُرَى في النوم غير منضبط، وعدم الإتقان للشيء، وقال الجوهريّ: أصل الهرج: الكثرة في الشيء؛ يعني: حتى لا يتميز. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت معاني الهرج المذكورة بقولي:
لِلْهَرْجِ تِسْعَةٌ مِنَ الْمَعَانِي
…
أي فِتَنٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ
كَثْرَةُ قَتْلٍ وَكَذَا اشْتِدَادُهُ
…
وَكَثْرَةُ الْكِذْبِ أَتَى عِدَادُهُ
(2)
(1)
"الفتح" 16/ 457 - 458، كتاب "الفتن" رقم (7062 و 7063).
(2)
بكسر العين: أي: عدّه منها.
وَكَثْرَةُ النَّوْمِ وَالاخْتِلَاطُ مَا
…
تَرَاهُ فِي النَّوْمِ بِلَا ضَبْطٍ سَمَا
وَكَثْرَةُ النِّكَاحِ أَيْضًا وَعَدَمْ
…
إِتْقَانِكَ الشَّيْءَ لِعَدِّهَا أَتَمّ
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعريّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6764 و 6765 و 6766 و 6767](2672)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7062 و 7063 و 7064 و 7065 و 7066) وفي "خلق أفعال العباد"(1/ 80)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2201)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4099 و 4100)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 389 و 402 و 405 و 450 و 4/ 392 و 405 و 439)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 204)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 47 و 48)، وفوائده تقدّمت قبله، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6765]
(
…
) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أبِي النَّضْر، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْر، حَدَّثنا عُبَيْدُ اللهِ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله، وَأَبى مُوسَى الأَشْعَرِيّ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبْدِ الله، وَأَبِي مُوسَى، وَهُمَا يَتَحَدَّثَان، فَقَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(أبُو بَكْرِ بْنُ النَّضْرِ بْنِ أَبِي النَّضْرِ) البغداديّ، وقد يُنسب لجدّه، واسمه وكنيته واحد، وقيل: اسمه محمد، وقيل: أحمد، ثقةٌ [11](ت 245)(م ت س) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
2 -
(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.
3 -
(عُبَيْدُ اللهِ الأَشْجَعِيُّ) ابن عبيد الرحمن، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ، مأمونٌ، أثبت الناس كتابًا في الثوريّ، من كبار [9](ت 182)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 10/ 146.
4 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن دينار القرشيّ، أبو محمد الكوفيّ الطحان، وربما نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
6 -
(حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ) ابن عليّ بن الوليد الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](3 أو 204) وله أربع، أو خمس وثمانون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
7 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفيّ، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ صاحب سنة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (عَنْ سُلَيْمَانَ) هو الأعمش المذكور قبله.
وقوله: (عَنْ شَقِيقٍ) هو أبو وائل المذكور قبله.
وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَابْنِ نُمَيْرٍ)؛ يعني: أن سفيان الثوريّ، وزائدة رويا هذا الحديث عن الأعمش بمثل ما رواه وكيع، وعبد الله بن نمير عن الأعمش بسنده السابق.
[تنبيه]: أما رواية سفيان الثوريّ عن الأعمش فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(3817)
- حدّثنا أبو النضر، ثنا الأشجعيّ، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، وأبي موسى الأشعريّ، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة أيامًا، يُرفع فيهنّ العلم، وينزل فيهنّ الجهل، ويكثر فيهنّ الهرج، قال: والهرج: القتل". انتهى
(1)
.
وأما رواية زائدة عن الأعمش، فقد ساقها أحمد أيضًا في "مسنده"، فقال:
(4306)
- حدّثنا حسين بن عليّ، عن زائدة، عن سليمان، عن شقيق،
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 402.
قال: كنت مع عبد الله، وأبي موسى، وهما يتحدثان، فذكرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قبل الساعة أيامٌ، يُرفع فيها العلم، وَينزل فيها الجهل، ويَكثر فيها الهرج، قال: قالا: الهرج: القتل". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6766]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ أبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(إِسْحَاقُ الْحَنْظَلِيُّ) هو ابن راهويه، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل الحديث الماضي؛ يعني: أن أبا معاوية روى هذا الحديث عن الأعمش بمثل ما روى عنه المتقدّمون قبله، وهم: وكيع، وابن نمير، والثوريّ، وزائدة.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه، ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4051)
- حدّثنا محمد بن عبد الله بن نُمير، وعليّ بن محمد، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من ورائكم أيامًا، يَنزل فيها الجهل، ويُرفع فيها العلم، وَيكثر فيها الهرج"، قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال:"القتل". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6767]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش،
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 450.
(2)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1345.
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: إِنِّي لَجَالِسٌ مَعَ عَبْدِ الله، وَأَبِي مُوسَى، وَهُمَا يَتَحَدَّثَان، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ مولاهم الكوفيّ، تقدّم قريبًا. والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش لم أجد من ساقها بتمامها، إلا أن البخاريّ رحمه الله قال في "صحيحه":
(6655)
- حدّثنا قتيبة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: إني لجالس مع عبد الله، وأبي موسى رضي الله عنهما، فقال أبو موسى: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم مثله، والهرج بلسان الحبشة: القتل. انتهى
(1)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6768]
(157)
(2)
- (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ"، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) التُّجيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْب) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم الحافظ المصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل أربعة أبواب.
(1)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2590.
(2)
هذا الرقم تقدّم.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.
[تنبيه]: هكذا في هذه الرواية أن ابن شهاب رواه عن حميد بن عبد الرحمن، وستأتي روايته عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة، وقد أخرجها البخاريّ أيضًا من طريق معمر عن الزهريّ عنه، ثم قال بعدها:"وقال شعيب، ويونس، والليث، وابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، عن حميد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم". انتهى.
فقال في "الفتح": قوله: "وقال يونس"؛ يعني: ابن يزيد، وشعيب؛ يعني: ابن أبي حمزة، والليث، وابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ، عن حميد؛ يعني: ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة؛ يعني: أن هؤلاء الأربعة خالفوا معمرًا في قوله: "عن الزهريّ، عن سعيد"، فجعلوا شيخ الزهريّ حميدًا، لا سعيدًا، وصنيع البخاريّ يقتضي أن الطريقين صحيحان، فإنه وصل طريق معمر هنا، ووصل طريق شعيب في "كتاب الأدب"، وكأنه رأى أن ذلك لا يقدح؛ لأن الزهريّ صاحب حديث، فيكون الحديث عنده عن شيخين، ولا يلزم من ذلك اطّراده في كل من اختُلِف عليه في شيخه، إلا أن يكون مثل الزهريّ في كثرة الحديث، والشيوخ، ولولا ذلك لكانت رواية يونس ومن تابعه أرجح، وليست رواية معمر مدفوعة عن الصحة؛ لِمَا ذُكر آنفًا. فأما رواية يونس، فوصلها مسلم
(1)
من طريق ابن وهب عنه، ولفظه:"ويُقبض العلم"، وقدّم:"وتظهر الفتن" على: "ويُلقى الشح"، وقال: "قالوا: وما الهرج؟ قال:
(1)
يعني: هذه الرواية التي نشرحها.
القتل" ولم يكرر لفظ "القتل"، ومثله له من رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج. . ."
(1)
، فذكره مقتصرًا عليه، وأخرجه أبو داود من رواية عنبسة بن خالد، عن يونس بن يزيد، بلفظ:"وينقص العلم".
وأما رواية شعيب، فوصلها البخاريّ في "كتاب الأدب" عن أبي اليمان عنه، وقال في روايته:"يتقارب الزمان، وينقص العمل"، وفي رواية الكشميهني:"العلم"، والباقي مثل لفظ معمر، وقال في روايتي يونس وشعيب عن الزهريّ:"حدّثني حميد بن عبد الرحمن".
وأما رواية الليث، فوصلها الطبرانيّ في "الأوسط" من رواية عبد الله بن صالح عنه به، مثل رواية ابن وهب.
وأما رواية ابن أخي الزهريّ، فوصلها الطبرانيّ أيضًا في "الأوسط" من طريق صدقة بن خالد، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن ابن أخي الزهريّ، واسمه محمد بن عبد الله بن مسلم، وقال في روايته:"سمعت أبا هريرة"، ولفظه مثل لفظ ابن وهب، إلا أنه قال:"قلنا: وما الهرج، يا رسول الله؟ "، وأخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن بن يعقوب، وهمام بن منبّه، وأبي يونس مولى أبي هريرة، ثلاثتهم عن أبي هريرة، قال بمثل حديث حميد بن عبد الرحمن، غير أنهم لم يذكروا:"ويُلقى الشحّ"، وساق أحمد لفظ همام، وأوله:"يُقبض العلم، ويقترب الزمن".
وقد جاء عن أبي هريرة من طريق أخرى زيادة في الأمور المذكورة، فأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق سعيد بن جبير عنه، رفعه:"لا تقوم الساعة حتى يظهر الفُحش، والبخل، ويُخَوَّن الأمين، ويؤتمَن الخائن، وتهلك الوُعُول، وتظهر التحوت"، قالوا: يا رسول الله وما التحوت، والوعول؟ قال:"الوعول: وجوه الناس، وأشرافهم، والتحوت: الذين كانوا تحت أقدام الناس، ليس يُعلم بهم".
(1)
سيأتي في: "باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما" بعد رقم (2888) ترقيم محمد فؤاد رحمه الله.
وله من طريق أبي علقمة: "سمعت أبا هريرة يقول: إن من أشراط الساعة. . ." نحوه، وزاد:"كذلك أنبأنا عبد الله بن مسعود، سمعته من حبي، قال: نعم، قلنا: وما التحوت؟ قال: فُسول الرجال، وأهل البيوت الغامضة، قلنا: وما الوعول؟ قال: أهل البيوت المصالحة". انتهى
(1)
.
(قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ) وفي رواية: "الزمن"، وهو لغة فيه.
واختُلف في معناه، فقيل: على ظاهره، فلا يظهر التفاوت في الليل والنهار بالقِصَر والطول، وقيل: المراد: قرب يوم القيامة، وقيل: تذهب البركة، فيذهب اليوم والليلة بسرعة، وقيل: المراد: يتقارب أهل ذلك الزمان في الشرّ، وعدم الخير، وقيل: تتقارب صدور الدُّوَل، وتطول مدة أحد؛ لكثرة الفتن، وقال النوويّ في شرح قوله:"حتى يقترب الزمان": معناه: حتى تقرب القيامة، ووهّاه الكرمانيّ، وقال: هو من تحصيل الحاصل، قال الحافظ: وليس كما قال، بل معناه: قُرْب الزمان العامّ من الزمان الخاصّ، وهو يوم القيامة، وعند قُرْبه يقع ما ذُكر من الأمور المنكرة
(2)
، وسيأتي تمام البحث فيه في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
(وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ)؛ أي: بقبض العلماء، كما يأتي بيانه في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بعد هذا الحديث، وفي الرواية الآتية:"وينقص العلم"، وكذا هو عند البخاريّ، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية المستملي، والسرخسيّ:"العمل".
قال: قد اختُلف في المراد بقوله: "ينقص العلم"، فقيل: المراد: نَقْص عِلم كل عالم، بأن يطرأ عليه النسيان مثلًا، وقيل: نقص العلم بموت أهله، فكلما مات عالم في بلد، ولم يَخْلُفه غيره نَقَص العلم من تلك البلد، وأما نَقَص العمل، فيَحْتَمِل أن يكون بالنسبة لكل فَرْد فَرْد، فإن العامل إذا دهمته
(1)
"الفتح" 16/ 451 - 453، كتاب "الفتن" رقم (7048).
(2)
"الفتح" 2/ 522.
الخطوب ألْهته عن أوراده، وعبادته، ويَحْتَمِل أن يراد به: ظهور الخيانة في الأمانات، والصناعات.
قال ابن أبي جمرة رحمه الله
(1)
: نَقْص العمل الحسيّ ينشأ عن نقص الدين ضرورةً، وأما المعنويّ فبحَسَب ما يدخل من الخلل، بسبب سوء المطعم، وقلة المساعد على العمل، والنفس ميالة إلى الراحة، وتحنّ إلى جنسها، ولكثرة شياطين الإنس الذين هم أضرّ من شياطين الجنّ.
وأما قبض العلم فسيأتي بَسْط القول فيه في شرح حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إن شاء الله تعالى -.
(وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ) بكسر الفاء، وفتح المثنّاة الفوقيّة: جمع فتنة، والمراد بظهورها: كثرتها، واشتهارها، وعدم التكاتم بها، والله المستعان.
[تنبيه]: قال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: أصل الفَتْن: إدخال الذهب في النار؛ لتظهر جودته من رداءته، ويُستعمل في إدخال الإنسان النار، ويُطلق على العذاب، كقوله:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، وعلى ما يحصل عند العذاب، كقوله تعالى:{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، وعلى الاختبار، كقوله:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، وفيما يُدفع إليه الإنسان من شدّة ورخاء، وفي الشدّة أظهر معنى، وأكثر استعمالًا، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ومنه قوله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73]؛ أي: يوقعونك في بَلِيّة، وشدّة في صرفك عن العمل بما أوحى إليك.
وقال أيضًا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله تعالى، ومن العبد، كالبلية، والمصيبة، والقتل، والعذاب، والمعصية، وغيرها من المكروهات، فإن كانت من الله فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر الله، فهي مذمومة، فقد ذم الله الإنسان بإيقاع الفتنة، كقوله:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، وقوله:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} [الصافات: 162]، وقوله:{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} [القلم: 6]، وكقوله:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49].
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 258.
وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استُعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أُطلقت على كل مكروه، أو آيل إليه، كالكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
(وَيُلْقَى الشُّحُّ) فعلٌ، ونائب فاعله، و"الشُّحّ" بضمّ الشين المعجمة، وتشديد الحاء المهملة: البخل، وشحَ يَشحّ، من باب قتل، وفي لغة من بابي ضرب، وتَعِبَ، فهو شحيح، وقوم أشحّاء، وأشحّةٌ، وتشاحّ القوم بالتضعيف: إذا شحّ بعضهم على بعض، قاله الفيوميّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "القاموس"، و"شرحه": الشحُّ مثلَّثَةً: البُخْل، والحِرْصُ. وقيل: هو أَشَدُّ البُخْل، وهو أَبْلَغ في المنْعِ من البُخْل. وقيل: البُخْل في أَفرادِ الأُمور، وآحادِهَا، والشُّحُّ عامٌّ. وقيل: البُخْلُ بالمال، والشُّحُّ بالمالِ والمَعروف، وقد شَحِحْتَ -بالكسر- به، وعليه تَشَحُّ -بالفتح-. انتهى
(3)
.
والمراد: إلقاؤه في قلوب الناس، على اختلاف أحوالهم، حتى يبخل العالم بعلمه، فيترك التعليم، والفتوى، ويبخل الصانع بصناعته، حتى يترك تعليم غيره، ويبخل الغني بماله، حتى يهلك الفقير، وليس المراد وجود أصل الشحّ؛ لأنه لم يزل موجودًا.
وقال ابن أبي جمرة: يَحْتَمل أن يكون إلقاء الشحّ عامًّا في الأشخاص، والمحذور من ذلك ما يترتب عليه مفسدة، والشحيح شرعًا هو من يمنع ما وجب عليه، وإمساك ذلك مُمْحِق للمال، مذهب لبركته، ويؤيده:"ما نقص مال من صدقة"، فإن أهل المعرفة فهموا منه أن المال الذي يخرج منه الحقّ الشرعيّ لا يلحقه آفة، ولا عاهة، بل يحصل له النماء، ومن ثَمّ سمّيت الزكاة؛ لأن المال ينمو بها، ويحصل فيه البركة. انتهى ملخصًا.
قال: وأما ظهور الفتن، فالمراد بها: ما يؤثّر في أمر الدين، وأما كثرة القتل، فالمراد بها: ما لا يكون على وجه الحقّ؛ كإقامة الحدّ والقصاص
(4)
.
(1)
"الفتح" 16/ 432، كتاب " الفتن" رقم (7048).
(2)
"المصباح المنير" 1/ 306.
(3)
"تاج العروس" ص 1643.
(4)
"بهجة النفوس" 4/ 258.
[تنبيه]: المحفوظ في الروايات: "يُلْقَى" بضم أوله، من الرباعيّ، وقال الحميديّ: لم تَضبط الرواة هذا الحرف، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح اللام، وتشديد القاف؛ أي: يُتَلَقَّى، ويُتَعَلَّم، ويُتواصَى به، كما في قوله:{وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80]، قال: والرواية بسكون اللام مخففًا تُفسد المعنى؛ لأن الإلقاء بمعنى الترك، ولو تُرك لم يكن موجودًا، وكان مدحًا، والحديث يُنبئ بالذمّ.
وتعقّبه الحافظ، وأجاد في ذلك، فقال: ليس المراد بالإلقاء هنا: أن الناس يُلقونه، وإنما المراد: أنه يُلقى إليهم؛ أي: يُوقَع في قلوبهم، ومنه:{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29]، قال الحميديّ: ولو قيل بالفاء، مع التخفيف، لم يستقم؛ لأنه لم يزل موجودًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: لو ثبتت الرواية بالفاء، لكان مستقيمًا، والمعنى: أنه يوجد كثيرًا مستفيضًا عند كل أحد، كما تقدمت الإشارة إليه.
وقال القرطبيّ في "التذكرة": يجوز أن يكون "يُلْفَى" بتخفيف اللام، والفاء؛ أي: يُترك لأجل كثرة المال، وإفاضته، حتى يهتم ذا المال من يقبل صدقته، فلا يجد، ولا يجوز أن يكون بمعنى: يوجد؛ لأنه ما زال موجودًا، قال الحافظ: كذا جزم به، وقد تقدّم ما يردّ عليه. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "ويلقى الشحّ"؛ أي: البخل والحرص، و"يلقى" بضم الياء، من الإلقاء، والمراد: إلقاؤه في قلوب الناس، على اختلاف أحوالهم، وليس المراد وجود أصل الشحّ؛ لأنه لم يزل موجودًا، وقال الحميديّ: المحفوظ في الروايات: "يُلقَى" بضم أوله، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح اللام، وتشديد القاف؛ أي: يُتَلَقَّى، ويُتعلّم، ويُتواصَى به، ويقال: يَحْتَمِل أن يكون إلقاء الشحّ عامًّا في الأشخاص، والمحذور من ذلك ما يترتب عليه مفسدة، والشحيح شرعًا: هو من مَنَع ما وجب عليه، وهو مثلث الشين، قال الكرمانيّ: وذلك ثابت في جميع الأزمنة، ثم قال: المراد غَلَبته، وكَثْرته، بحيث يراه جميع الناس.
(1)
"الفتح" 16/ 456.
[فإن قلت]: تقدّم في نزول عيسى؛ في "كتاب الأنبياء" أنه يَفيض المال حتى لا يقبله أحد، وفي "كتاب الزكاة":"لا تقوم الساعة حتى يطوف أحدكم بصدقته، لا يجد من يقبلها".
[قلت]: كلاهما من أشراط الساعة، لكن كل منهما في زمان غير زمان الآخر. انتهى
(1)
.
(وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ") ببناء الفعل للفاعل، (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون في ذلك المجلس، ولم يسمَّ أحد منهم، (وَمَا الْهَرْجُ؟) وفي رواية البخاريّ:"قالوا: يا رسول الله أَيُّما هو؟ " بفتح الهمزة، وتشديد الياء الأخيرة، بعدها ميم خفيفة، وأصله؛ أي: شيء هو؟ قال في "الفتح": ووقعت للأكثر بغير ألف بعد الميم، وضَبَطه بعضهم بتخفيف الياء، كما قالوا: أَيْشٍ في موضع: أيّ شيء، وفي رواية الإسماعيليّ:"وما هو؟ "، وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة:"قالوا: يا رسول الله، وما الهرج؟ " وهذه رواية أكثر أصحاب الزهريّ، وفي رواية عنبسة بن خالد، عن يونس، عند أبي داود:"قيل: يا رسول الله أَيْشٍ هو؟ قال: القتل القتل"، وفي رواية للطبرانيّ عن ابن مسعود:"القتل، والكذب". انتهى
(2)
.
قال الصغانيّ: وأصل الهرج: الكثرة في الشيء، ومنه قولهم في الجماع: بات يهرجها ليلته جمعاء، ويقال للفرس: مَرَّ يهرج، وإنه لَمِهْرَج، ومهراج؛ إذا كان كثير الجري، وهَرَج القوم في الحديث: إذا أفاضوا فيه، فأكثروا، والهراجة: الجماعة يهرجون في الحديث، وقال في آخر الفصل والتركيب: يدلّ على اختلاط وتخليط، وقال ابن دُريد: الهرج: الفتنة في آخر الزمان، وقال القاضي: الفتن بعض الهرج، وأصل الهرج والتهارج: الاختلاط والقتال، ومنه قوله:"فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة"، ومنه:"يتهارجون تهارج الحمر"، قيل: معناه: يتخالطون رجالًا ونساء، ويتناكحون مُزاناةً، ويقال: هَرَجها يهرجْها: إذا نكحها، ويهرجها بفتح الراء، وضمّها، وكسرها، قاله في "العمدة"
(3)
.
(1)
"عمدة القاري" 24/ 182 - 183.
(2)
"الفتح" 16/ 451.
(3)
"عمدة القاري" 2/ 92.
(قَالَ: "الْقَتْلُ") هذا صريح في أن تفسير الهرج مرفوع، ولا يعارض ذلك مجيئه في غير هذه الرواية موقوفًا، ولا كونه بلسان الحبشة، وعند البخاريّ في "كتاب العلم" من طريق سالم بن عبد الله بن عمر: سمعت أبا هريرة، فذكر نحو حديث الباب دون قوله:"يتقارب الزمان"، ودون قوله:"ويلقى الشحّ"، وزاد فيه:"ويظهر الجهل"، وقال في آخره:"قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ فقال هكذا بيده، فحرّفها، كأنه يريد القتل".
فيُجمَع بأنه جَمَع بين الإشارة والنطق، فحَفِظ بعض الرواة ما لم يحفظ بعضٌ، كما وقع لهم في الأمور المذكورة.
وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد، والطبرانيّ بسند حسن، من حديث خالد بن الوليد:"أن رجلًا قال له: يا أبا سليمان، اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أمَا وابن الخطاب حيّ فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل، فيفكر، هل يجد مكانًا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به، من الفتنة والشرّ؟ فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة أيام الهرج"، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [5/ 6768 و 6769 و 6770 و 6771](157)
(1)
و (البخاريّ) في "المناقب"(3609) و"الأدب"(6037) و"الفتن"(7061)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4255 و 4333)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2218)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4052)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20751)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 64)، و (أحمد) في "مسنده"(233/ 2 و 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6651 و 6711 و 6717)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4244)، والله تعالى أعلم.
(1)
هذا الرقم مضى.
(المسألة الثالثة): قال ابن بطال رحمه الله: معنى تقارب الزمان - والله أعلم - تقارُب أحوال أهله في قلة الدِّين، حتى لا يكون فيهم من يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر؛ لغلبة الفسق، وظهور أهله، وقد جاء في الحديث:"لا يزال الناس بخير ما تفاضلوا، فإذا تساووا هلكوا"؛ يعني: لا يزالون بخير ما كان فيهم أهل فضل وصلاح، وخوف من الله، يُلجأ إليهم عند الشدائد، ويُستشفَى بآرائهم، ويُتبرك بدعائهم، ويؤخذ بتقويمهم وآثارهم.
وقال الطحاويّ: قد يكون معناه في ترك طلب العلم خاصّة، والرضا بالجهل، وذلك لأن الناس لا يتساوون في العلم؛ لأن درجات العلم تتفاوت، قال تعالى:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، وإنما يتساوون إذا كانوا جهالًا، وكأنه يريد غلبة الجهل، وكثرته، بحيث يُفقد العلم بفقد العلماء.
قال ابن بطال رحمه الله: وجميع ما تضمّنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانًا، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشحّ في القلوب، وعمَّت الفتن، وكَثُر القتل.
قال الحافظ: الذي يظهر أن الذي شاهده كان منه الكثير، مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك، حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقبض العلم، فلا يبقى إلا الجهل الصِّرْف، ولا يَمْنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قويّ عن حذيفة رضي الله عنه قال:"يدرُس الإسلام كما يدرس وَشْي الثوب، حتى لا يُدرَى ما صيام، ولا صلاة، ولا نُسك، ولا صدقة، ويُسْرَى على الكتاب في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية. . ." الحديث.
وعند الطبرانيّ عن عبد الله بن مسعود قال: "وليُنزعن القرآن من بين أظهركم، يُسرَى عليه ليلًا، فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء"، وسنده صحيح، لكنه موقوف.
والواقع أن الصفات المذكورة وُجدت مباديها من عهد الصحابة رضي الله عنهم، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض، والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته.
وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحوُ ثلاثمائة وخمسين سنةً، والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقلّ بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها، والى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يأتي عليكم زمان، إلا الذي بعده شَرّ منه، حتى تلقوا ربكم"، رواه البخاريّ.
ثم نقل ابن بطال عن الخطابيّ في معنى تقارب الزمان المذكور في الحديث الآخر؛ يعني: الذي أخرجه الترمذيّ من حديث أنس، وأحمد من حديث أبي هريرة، مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السَّعَفَة"، قال الخطابيّ: هو من استلذاذ العيش، يريد - والله أعلم - أنه يقع عند خروج المهديّ، ووقوع الأَمَنة في الأرض، وغلبة العدل فيها، فيُستلذّ العيش عند ذلك، وتُستقصر مدّته، وما زال الناس يستقصرون مدة أيام الرخاء، وإن طالت، ويستطيلون مدة المكروه، وإن قصرت.
ومن طريف ما يروى فيه قول الشاعر [من الكامل]:
إِنَّ الْحَيَاةَ مَنَازِلٌ وَمَرَاحِلٌ
…
تُطْوَى وَتُنْشَرُ دُونَهَا الأَعْمَارُ
فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الْهُمُومِ طَوَيلَةٌ
…
وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِصَارُ
(1)
وتعقبه الكرمانيّ بأنه لا يناسب أخواته، من ظهور الفتن، وكثرة الهرج، وغيرهما.
قال الحافظ: وإنما احتاج الخطابيّ إلى تأويله بما ذُكر؛ لأنه لم يقع النقص في زمانه، وإلا فالذي تضمّنه الحديث قد وُجد في زماننا هذا، فإنا نجد من سرعة مَرّ الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا، وإن لم يكن هناك عيش مستلذّ، والحقّ أن المراد: نزع البركة من كل شيء، حتى من الزمان، وذلك من علامات قرب الساعة.
وقال بعضهم: معنى تقارُب الزمان: استواء الليل والنهار، وهذا مما قالوه في قوله:"إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب".
(1)
راجع البيتين في: "تكملة فتح الملهم" 5/ 523.
ونقل ابن التين عن الداوديّ أن معنى حديث الباب: أن ساعات النهار تقصر قرب قيام الساعة، ويقرب النهار من الليل. انتهى.
وتخصيصه ذلك بالنهار لا معنى له، بل المراد: نزع البركة من الزمان ليله ونهاره، كما تقدم.
قال النوويّ تبعًا لعياض وغيره: المراد بقِصَره: عدم البركة فيه، وأن اليوم مثلًا يصير الانتفاع به بقَدْر الانتفاع بالساعة الواحدة، قالوا: وهذا أظهر وأكثر فائدةً، وأوفق لبقية الأحاديث.
وقد قيل في تفسير قوله: "يتقارب الزمان": قِصَر الأعمار بالنسبة إلى كل طبقة، فالطبقة الأخيرة أقصر أعمارًا من الطبقة التي قبلها، وقيل: تقارُب أحوالهم في الشرّ، والفساد، والجهل، وهذا اختيار الطحاويّ، واحتجّ بأن الناس لا يتساوون في العلم والفهم، فالذي جنح إليه لا يناسب ما ذُكر معه إلا أن نقول: إن الواو لا ترتِّب، فيكون ظهور الفتن أولًا ينشأ عنها الهرج، ثم يخرج المهديّ، فيحصل الأمن.
قال ابن أبي جمرة: يَحْتَمِل أن يكون المراد بتقارب الزمان: قِصَره، على ما وقع في حديث:"لا تقوم الساعة حتى تكون السنة كالشهر"، وعلى هذا فالقِصَر يَحْتَمِل أن يكون حسيًّا، ويَحْتَمِل أن يكون معنويًّا، أما الحسيّ فلم يظهر بعدُ، ولعله من الأمور التي تكون قرب قيام الساعة، وأما المعنويّ فله مدّة منذ ظهر، يعرف ذلك أهل العلم الدينيّ، ومن له فطنة من أهل السبب الدنيوي، فانهم يجدون أنفسهم لا يقدر أحدهم أن يبلغ من العمل قَدْر ما كانوا يعملونه قبل ذلك، وَيشْكُون ذلك، ولا يدرون العلة فيه، ولعل ذلك بسبب ما وقع من ضعف الإيمان؛ لظهور الأمور المخالفة للشرع من عدة أوجه، وأشد ذلك الأقوات، ففيها من الحرام المحض، ومن الشُّبَه ما لا يخفى، حتى إن كثيرًا من الناس لا يتوقف في شيء، ومهما قَدَر على تحصيل شيء هَجَم عليه، ولا يبالي، والواقع أن البركة في الزمان، وفي الرزق، وفي النبت، إنما يكون من طريق قوّة الإيمان، واتباع الأمر، واجتناب النهي، والشاهد لذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96]. انتهى ملخّصًا
(1)
.
وقال البيضاويّ: يَحْتَمل أن يكون المراد بتقارب الزمان: تسارع الدول إلى الانقضاء، والقرون إلى الانقراض، فيتقارب زمانهم، وتتدانى أيامهم، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6769]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَان، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، أَنَّ أَبَا هرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ
(3)
"، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) الحافظ، صاحب "السنن"، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع البهرانيّ الحمصيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار الحمصيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ) وفي بعض النُّسخ: "ويقبض العمل".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير شعيب بن أبي حمزة.
[تنبيه]: رواية شُعيب بن أبي حمزة عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في"صحيحه"، فقال:
(5690)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيبٌ، عن الزهريّ، قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان، وينقص العمل، ويُلقى الشحّ، ويكثر الهرج"، قالوا: وما الهرج؟ قال: "القتل، القتل". انتهى
(4)
.
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 257.
(2)
"الفتح" 16/ 453 - 455.
(3)
وفي نسخة: "ويقبض العمل".
(4)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2245.
وساقها الطبرانيّ في "مسند الشاميين" بلفظ: "ويُقبض العلم"، كرواية مسلم، فقال:
(3065)
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، أخبرني حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان، ويُقبض العلم، ويُلقى الشحّ، ويكثر الهرج"، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: "القتل، القتل". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6770]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ"
(2)
، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِهِمَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى الساميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"سعيد" هو: ابن المسيِّب.
وقوله: (وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ) وفي بعض النسخ: "ويُقبض العلم".
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِهِمَا) فاعل "ذَكَرَ" ضمير معمر، وضمير "حديثهما" ليونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة.
[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6652)
- حدّثنا عياش بن الوليد، أخبرنا عبد الأعلى، حدّثنا معمر، عن الزهريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يتقارب الزمان، وينقص العلم، ويُلقى الشحّ، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"، قالوا: يا رسول الله، أيما هو؟ قال:"القتل، القتل". انتهى.
[تنبيه آخر]: قال الدارقطنيّ في "التتبّع": أخرج البخاريّ ومسلم حديث
(1)
"مسند الشاميين" 4/ 183 - 184.
(2)
وفي نسخة: "ويقبض العلم".
عبد الأعلى، عن معمر، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يتقارب الزمان. . ." الحديث.
قلت: وقد تابع حمادُ بن زيد عبدَ الأعلى، وقد خالفهما عبد الرزّاق، فلم يذكر أبا هريرة، وأرسله، ويقال: إن معمرًا حدّث بالبصرة مِن حِفظه بأحاديث وَهِمَ في بعضها، وقد خالفه فيه شعيب، ويونس، والليث بن سعد، وابن أبي الزهريّ، رووه عن الزهريّ، عن حميد، عن أبي هريرة، وقد أخرجا جميعًا حديث حميد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: ظاهر كلام الدارقطنيّ رحمه الله هذا يشير إلى تضعيف رواية معمر في كون شيخ الزهريّ سعيد بن المسيّب؛ لمخالفته الجماعة، فإنهم جعلوا شيخه حميد بن عبد الرحمن، لكن تقدّم قريبًا في كلام الحافظ رحمه الله أن الطريقين صحيحان، فقد صححهما الشيخان، حيث أخرجا الحديث من كلا الطريقين، فيُحمل على أن للزهريّ فيه شيخان، فلا تضرّ المخالفة في مثل هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6771]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، قَالُوا: حَدَّثنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِر، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْب، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِث، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كُلُّهُمْ قَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ الزُّهْرِيّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا:"وَيُلْقَى الشُّحُّ").
رجال هذا الإسناد: واحد وعشرون:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ) المقابريّ البغداديّ، ثقة عابدٌ [10](234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(قُتيْبَةُ) بن سعيد الثقفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(ابْنُ حُجْرٍ) -بضم المهملة وسكون الجيم- هو: عليّ بن حجر بن إياس السَّعْديّ أبو الحسن المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
5 -
(الْعَلَاءُ) عبد الرحمن الجهنيّ مولاهم المدنيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ مولاهم المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
8 -
(إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) أبو يحيى الرازيّ، كوفيّ الأصل، ثقةٌ فاضلٌ [9] (ت 200) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الزكاة" 43/ 2429.
9 -
(حَنْظَلَةُ) بن أبي سفيان، واسمه الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.
10 -
(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يشبَّه بأبيه في الهدي والسَّمْت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
11 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.
12 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
13 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) الأبناوي اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
14 -
أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد الله بن السرح المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
15 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
16 -
(أَبُو يُونُسَ) سُليم بن جُبير الدَّوسيّ المصريّ، مولى أبي هريرة، ثقةٌ [3](123)(بخ م دت) تقدم في "الإيمان" 34/ 240.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كُلُّهُمْ قَالَ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: عبد الرحمن بن يعقوب والد العلاء، وسالم بن عبد الله، وهمّام بن منبّه، وأبو يونس قال -وأفرد الضمير نظرًا للفظ "كل"- عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: أما رواية العلاء عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(4047)
- حدّثنا أبو مروان العثمانيّ، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقوم الساعة حتى يَفيض المال، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: "القتل، القتل، القتل" ثلاثًا. انتهى
(1)
.
وأما رواية سالم عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(85)
- حدّثنا المكيّ بن إبراهيم، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، قال: سمعت أبا هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُقبض العلم، ويظهر الجهل، والفتن، ويكثر الهرج"، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ فقال هكذا بيده، فحرّفها، كأنه يريد القتل. انتهى
(2)
.
وساقها أحمد رحمه الله في "مسنده" بلفظ المصنّف، فقال:
(7540)
- حدّثنا ابن نُمير، عن حنظلة، قال: سمعت سالِمًا قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقبض العلم، ويظهر الفتن، ويكثر الهرج"، قيل: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: "القتل". انتهى
(3)
.
وأما رواية همّام بن منبّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ساقها هو في "صحيفته"، فقال:
هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها:
(22)
- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يكثر فيكم المال، فيفيض، حتى يهمّ رب المال من يتقبّل منه صدقته، قال: وبُقبض العلم،
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1343.
(2)
"صحيح البخاريّ" 1/ 44.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 261.
ويقترب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج"، قالوا: الهرج ما هو يا رسول الله؟ قال: "القتل، القتل". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6772]
(2673) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ تقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ
(2)
مِنَ النَّاس، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاء، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ الئاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير نجن العوّام الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ ربّما دَلس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" حـ 1 ص 350.
2 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 407.
3 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وجرير فكوفيّ، ثم جزريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة المجموعين في قولي:
وَإِنْ تُرِدْ مَعْرِفَةَ الْعَبَادِلَهْ
…
فَابْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ عَمْرٍو عَادَلَهْ
مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَذَا ابْنُ عُمَرَا
…
وَغَلِّطَنْ مَنْ غَيْرَ هَذَا قَدْ يَرَى
(1)
"صحيفة همام" 1/ 33.
(2)
وفي نسخة: "ينزعه".
فَبَعْضُهُمْ نَجْلَ الزُّبَيْرِ تَرَكَا
…
وَنَجْلَ مَسْعُودٍ فَرِيقٌ أَشْرَكَا
فَكُلُّ ذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَاتَّبِعْ
…
سَبِيلَ مَنْ حَقَّقَ نَقْلًا تَرْتَفِعْ
وأنه ليس بينه وبين أبيه إلا إحدى عشرة سنة، والله تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير؛ أنه قال: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله تعالى عنهما.
[تنبيه]: قوله: "ابن العاص": أكثر ما يأتي في كتب الحديث والفقه، ونحوهما بحذف الياء، وهي لغة، والفصيح الصحيح:"العاصي" بإثبات الياء، وكذلك شدّاد بن الهادي، وابن أبي الموالي، فالفصيح الصحيح في كل ذلك، وما أشبهه إثبات الياء، ولا اغترار بوجوده في كتب الحديث، أو أكثرها بحذفها. قاله النوويّ
(1)
.
وإلى القاعدة المذكورة أشار في "الخلاصة" حيث قال:
وَحَذْفُ يَا الْمَنْقُوصِ ذِي التَّنْوِينِ مَا
…
لَمْ يُنْصَبَ أوْلَى مِنْ ثُبُوتٍ فَاعْلَمَا
وَغَيْرُ ذِي التَّنْوِينِ بِالْعَكْسِ وَفِي
…
نَحْوِ "مُرٍ" لُزُومُ رَدِّ الْيَا اقتُفِي
(يَقُولُ: "إِن اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ) جملة في محل رفع؛ لأنها خبر "إنّ"، (انْتِزَاعًا) يَحْتَمِل أن يكون نَصْبه على أنه مفعول مطلقٌ لـ "يَقبضُ"، مثلُ رجع القهقرى، وقعد جلوسًا، ويَحْتَمِل أن يكون مفعولًا مطلقًا مقدّمًا على فعله، وهو "ينتزعه"، والجملة حال من الضمير في "يقبضه"، ويَحْتَمِل أن يكون حالًا من "العلم"، بمعنى: مُنتَزعًا
(2)
.
والمراد بالعلم: هو العلم الشرعيّ الذي هو علم الكتاب والسُّنَّة؛ لأنه المراد عند الإطلاق، لا العلم الدنيويّ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُبعث من أجله، بدليل ما أخرجه مسلم رحمه الله في "صحيحه" من حديث عائشة وأنس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم مَرّ بقوم يُلَقِّحُون، فقال:"لو لم تفعلوا لَصَلَحَ"، قال: "فخرج
(1)
"شرح مسلم" 1/ 78 - 79.
(2)
راجع: "عمدة القاري" 2/ 89.
شِيصًا
(1)
، فَمَرّ بهم"، فقال: "ما لنخلكم؟ "، قالوا: قلت: كذا وكذا، قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
وأخرجه ابن ماجه في "كتاب الأحكام"(2462)، وأحمد في "مسنده" رقم (23773) من حديثهما بلفظ:"أَن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتًا، فقال: ما هذا الصوتُ؟ "، قالوا: النخل يُؤبّرونها، فقال: لو لم يفعلوا لَصَلَح"، فلم يؤيّروا عامئذٍ، فصار شيصًا، فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن كان شيئًا من أمر دنياكم فشأنُكُم به، وإن كان من أمور دينكم فإليّ".
وأخرجه أحمد في "مسنده" رقم (12086) من حديث أنس رضي الله عنه وحده، ولفظه: قال: سمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصواتًا، فقال:"ما هذا؟ "، قالوا: يُلَقِّحون النخل، فقال:"لو تركوه، فلم يُلَقِّحوه لصلح"، فتركوه، فلم يُلَقِّحوه، فخرج شِيصًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما لكم؟ "، قالوا: تركوه لَمّا قلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كان شيء من أمر دنياكم، فأنتم أعلم به، فإذا كان من أمر دينكم فإليّ".
(يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ)؛ أي: مَحْوًا من الصدور. قال ابن بطّال رحمه الله: معناه: إن الله لا ينزع العلم من العباد بعد أن يتفضّل به عليهم، ولا يسترجع ما وَهَبَ لهم من العلم المؤدّي إلى معرفته، وبَثّ شريعته، وإنما يكون انتزاعه بتضييعهم العلم، فلا يوجد من يَخلُف من مضى، فأنذر صلى الله عليه وسلم بقبض الخير كله.
وكان تحديث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد، والطبراني من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال: لمّا كان في حجة الوداع قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا العلم قبل أن يُقبَض، أو يُرفع"، فقال أعرابي: كيف يُرفَع؟ فقال: "ألا إنّ ذَهَاب العلم ذَهابُ حَمَلته"، ثلاث مرات.
وقال ابن الْمُنَيِّر: مَحْوُ العلم من الصدور جائز في القدرة، إلا أن هذا الحديث دَلّ على عدم وقوعه. انتهى.
(وَلَكِنْ) للاستدراك، (يَقْبِضُ الْعِلْمَ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب، والفعل مبنيّ للفاعل، والفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وهو من قبيل إقامة
(1)
هو التمر الذي لا يشتدّ نواه، ويقوى.
الظاهر موضع المُضْمَر؛ لزيادة تعظيم المضمر؛ إذ مقتضى الظاهر أن يقال: "ولكن يقبضه"، كما في قوله تعالى:{اللَّهُ الصَّمَدُ (2)} [الإخلاص: 2] بعد قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1]. قاله العينيّ
(1)
. (بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ)؛ أي: بسبب توفّيهم.
(حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا) وفي رواية البخاريّ: "حَتّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا" -بضم أوله، وكسر القاف- من الإبقاء، والفاعل ضمير "الله تعالى"، و"عالمًا" منصوب على المفعوليّة؛ أي: لم يُبقِ الله عالمًا.
وفي لفظ للبخاريّ: "حتى إذا لم يَبْقَ عالِمٌ"، وهو -بفتح أوله، وإسكان ثانية- من البقاء، و"عالم" مرفوع على الفاعليّة.
[فإن قلت]: "إذا" للاستقبال، و"لم" لقلب المضارع ماضيًا، فكيف يَجتمعان؟.
[أجيب]: بأنهما لمّا تعارضا تساقطا، فبقي على أصله، وهو المضارع، أو تعادلا، فيفيد الاستمرار.
[فإن قلت]: إذا كانت "إذا" شرطيّة يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ومن وجود المشروط وجود الشرط، لكنه ليس كذلك هنا؛ لجواز حصول الاتخاذ مع وجود العالم.
[أجيب]: بأن ذلك في الشُّرَط العقليّة، أما في غيرها فلا نُسلّم اطّراد هذه القاعدة، ثم الاستلزام إنما هو في موضع لم يكن للشَّرط فيه بدلٌ، فقد يكون لمشروط واحد شروط متعاقبة، كصحّة الصلاة بدون الوضوء عند التيمّم، أو المراد بالناس: جميعهم، فلا يصحّ أن الكلّ اتخذوا رؤوسًا جُهّالًا إلا عند عدم بقاء العالم مطلقًا، وذلك ظاهر. قاله في "العمدة"
(2)
.
(اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا) قال النووي رحمه الله: ضبطنا "رؤوسًا" -بضم الهمزة والتنوين- جمع رأس. قال في "الفتح": وفي رواية أبي ذرّ أيضًا: "رؤساء" بفتح الهمزة، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة، جَمْع رئيس، وكلاهما صحيح، والأول أشهر.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 89.
(2)
المصدر السابق 2/ 89.
(جُهَّالًا) -بضمّ الجيم، وتشديد الهاء-: جمع جاهل، صفة لـ "رؤوسًا".
[فإن قلت]: المراد بالجهل هنا: الجهل البسيط، وهو عدم العلم بالشيء، لا مع اعتقاد العلم به، أم الجهل المركّب، وهو عدم العلم بالشيء مع اعتقاد العلم به؟.
[أجيب]: بأن المراد: هو القَدْر المشترك بينهما المتناوِل لهما.
[فإن قلت]: أهذا مختصّ بالمفتين، أم عامّ للقضاة الجاهلين؟.
[أجيب]: بأنه عامّ؛ إذ الحكم بالشيء يستلزم الفتوى به. قاله في "العمدة"
(1)
.
وفيه التحذير عن اتخاذ الجهّال رؤوسًا.
(فَسُئِلُوا) بضم السين المهملة؛ أي: سألهم السائلون، (فَأَفْتَوْا) بفتح الهمزة، والتاء؛ أي: بيّنوا الحكم للسائلين (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وفي رواية أبي الأسود عند البخاريّ في "الاعتصام": "فيُفتُون برأيهم".
وفي هذا الحديث: الحثُّ على حفظ العلم، والتحذير من ترئيس الْجَهَلَة. وفيه أن الفتوى هي الرياسة الحقيقية، وذَمُّ من يُقْدِم عليها بغير علم. واستدل به الجمهور على القول بخلوّ الزمان عن مجتهد، ولله الأمر يفعل ما يشاء.
(فَضَلُّوا)؛ أي: في أنفسهم، من الضلال، (وَأَضَلُّوا")؛ أي: غيرهم ممن يقلّدهم رأيهم الفاسد، وهو من الإضلال.
[فإن قلت]: الضلال متقدّم على الإفتاء، فما معنى الفاء؟.
[أجيب]: بأن المجموع من الضلال والإضلال هو متعقّب على الإفتاء، وإن كان الجزء الأول مقدّمًا عليه؛ إذ الإضلال الذي بعد الإفتاء غير الضلال الذي قبله.
[فإن قلت]: الإضلال ظاهر، وأما الضلال فإنما يلزم أن لو عَمِل بما أفتى، وقد لا يَعمَل به.
[أجيب]: بأن إضلاله لغيره ضلال له، عَمِل بما أفتى أو لم يَعمَل. قاله في "العمدة"
(2)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"عمدة القاري" 2/ 90.
(2)
المصدر السابق 2/ 90.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال في "الفتح" ما حاصله: قال الدارقطنيّ: لم يرو عن مالك هذا الحديث في "الموطإ" إلا مَعْن بن عيسى، وراه أصحاب مالك، كابن وهب وغيره عن مالك خارج "الموطإ"، وأفاد ابن عبد البر أن سليمان بن يزيد رواه أيضًا في "الموطإ". والله أعلم.
قال الحافظ: وقد اشتَهَر هذا الحديث من رواية هشام بن عروة، فوقع لنا من رواية أكثر من سبعين نفسًا عنه، من أهل الحرمين، والعراقين، والشام، وخُرَاسان، ومصر، وغيرها، ووافقه على روايته عن أبيه عروةَ: أبو الأسود المدني، وحديثه في "الصحيحين"، والزهريّ وحديثه في النسائيّ، ويحيى بن أبي كثير وحديثه في "صحيح أبي عوانة"، ووافق أباه على روايته عن عبد الله بن عمرو: عُمَر بن الحكم بن ثوبان، وحديثه في مسلم. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6772 و 6773 و 6774 و 6775](2673)، و (البخاريّ) في "العلم"(100) و"الاعتصام"(7307) وفي "خلق أفعال العباد"(47)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2652)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5907)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(52)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 15)، و (معمر) في "جامعه"(11/ 256)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 256)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2292)، و (الحميديّ) في "مسنده"(581)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 505)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 162 و 190 و 203)، و (الدارميّ) في "سننه"(245)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4571 و 6719 و 6723)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 21) و" الصغير"(1/ 279)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 392)، و (البزّار) في "مسنده"(6/ 400 و 402)، و (القضاعيّ) فسي "مسند الشهاب "(2/ 162)، و (ابن عبد البرّ) في "جامع بيان
(1)
"الفتح" 1/ 257، كتاب "العلم".
العلم وفضله" (1/ 148 - 149)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (147)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه الحثَّ على حفظ العلم والاشتغال به.
2 -
(ومنها): أن الفتوى هي الرئاسة الحقيقيّة، وذمّ من يُقْدِم عليها بغير علم.
3 -
(ومنها): التحذير عن اتّخاذ الْجُهّال رؤساء.
4 -
(ومنها): وجوب اجتناب الرأي والقياس، وهو محمول على الرأي المذموم، كما سيأتي بيانه في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.
5 -
(ومنها): أن فيه دلالةً للقائلين بجواز خلوّ الزمان عن المجتهد، على ما هو مذهب الجمهور، خلافًا للحنابلة.
ومسألة خلوّ الزمان عن المجتهد مشهورة في كتب الأصول، وحاصلها أن الجمهور يَرَوْن جوازه، وخالف في ذلك الحنابلة، وذهب العلامة ابن دقيق العيد إلى أنه لا يجوز ما لم تأت أشراط الساعة الكبرى، كطلوع الشمس من مغربها، فإذا أتت جاز الخلوّ عنه.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما قاله ابن دقيق العيد هو الأرجح؛ للحديث الآتي.
ثم على القول بالجواز أنه لم يثبُت وقوعه، وقيل: يقع؛ لحديث "الصحيحين": "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"؛ أي: الساعة، والمراد به: إتيان الأشراط المذكورة.
ودليل الوقوع: حديث الباب المتّفق عليه، وحديث البخاريّ:"إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، وَيثبُت الجهل"، والمراد برفع العلم: قَبْض أهله.
قال الجامع: لا خلاف بين الأحاديث؛ إذ هي على معنى واحد، وهو أن المراد بالحديثين الأخيرين: عند قرب الساعة، فيكونان بمعنى الحديث الأول؛ أي: أن قبض العلم ورفعه يكون عند قرب الساعة بظهور أشراطها المذكورة، والله تعالى أعلم.
وإلى ما ذُكر أشار السيوطيّ رحمه الله تعالى:
جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَنْ مُجْتَهِدِ
…
وَمُطْلَقًا يَمْنَعُ قَوْمُ أَحْمَدِ
وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ لَا إِنْ أَتَتِ
…
أَشْرَاطُهَا وَالْمُرْتَضَى لَمْ يَثْبُتِ
(1)
وقال في "الفتح": استُدِلّ بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور، خلافًا لأكثر الحنابلة وبعضٍ من غيرهم؛ لأنه صريح في رَفْع العلم بقبض العلماء، وفي ترئيس أهل الجهل، ومن لازِمه الحكم بالجهل، وإذا انتفى العلم، ومن يحكم به استلزم انتفاء الاجتهاد، والمجتهد.
وعورض هذا بحديث: "لا تزال طائفة من أمتي، ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله"، وفي لفظ:"حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله"، وفي رواية مسلم:"ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، ولم يشك وهو المعتمَد.
وأجيب أوّلًا بأنه ظاهر في عدم الخلوّ، لا في نفي الجواز، وثانيًا بأن الدليل للأول أظهر؛ للتصريح بقبض العلم تارةً، وبرفعه أخرى، بخلاف الثاني، وعلى تقدير التعارض فيبقى أن الأصل عدم المانع.
قالوا: الاجتهاد فرض كفاية، فيستلزم انتفاؤه الاتفاق على الباطل.
وأجيب بأن بقاء فرض الكفاية مشروط ببقاء العلماء، فأما إذا قام الدليل على انقراض العلماء فلا؛ لأن بفقدهم تنتفي القدرة، والتمكن من الاجتهاد، وإذا انتفى أن يكون مقدورًا لم يقع التكليف به، هكذا اقتصر عليه جماعة.
قال: وقد تقدم -يعني: عند البخاريّ- في "باب تغيّر الزمان حتى تُعبد الأوثان"، في أواخر "كتاب الفتن" ما يشير إلى أن محل وجود ذلك عند فَقْد المسلمين بهبوب الريح التي تَهُبّ بعد نزول عيسى عليه السلام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من الإيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهو بمعناه عند مسلم، كما بيّنته هناك، فلا يَرِدُ اتفاق المسلمين على تَرْك فرض الكفاية، والعمل بالجهل؛ لعدم وجودهم، وهو المعبَّر عنه بقوله:"حتى يأتي أمر الله"، وأما الرواية بلفظ:"حتى تقوم الساعة" فهي محمولة على إشرافها بوجود آخر أشراطها، ويؤيده ما أخرجه أحمد، وصححه الحاكم، عن
(1)
راجع ما كتبته على: "الكوكب الساطع" ص 556 - 557.
حذيفة، رفعه:"يَدْرُس الإسلام كما يَدْرُس وشي الثوب"، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وجوّز الطبريّ أن يضمَر في كل من الحديثين المحلّ الذي تكون فيه تلك الطائفة، فالموصوفون بشرار الناس الذين يبقَون بعد أن تقبض الريح من تقبضه يكونون مثلًا ببعض البلاد، كالمشرق الذي هوأصل الفتن، والموصوفون بأنهم على الحقّ يكونون مثلًا ببعض البلاد، كبيت المقدس؛ لقوله في حديث معاذ:"إنهم بالشام"، وفي لفظ:"ببيت المقدس".
قال الحافظ: وما قاله وإن كان محتمَلًا يردّه قوله في حديث أنس في "صحيح مسلم": "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله"، إلى غير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.
ويمكن أن تنزل هذه الأحاديث على الترتيب في الواقع، فيكون أولًا رفع العلم بقبض العلماء المجتهدين الاجتهاد المطلق، ثم المقيّد ثانيًا، فإذا لم يبق مجتهد استووا في التقليد، لكن ربما كان بعض المقلدين أقرب إلى بلوغ درجة الاجتهاد المقيّد من بعض، ولا سيما إن فرّعنا على جواز تجزيء الاجتهاد، ولكن لغلبة الجهل يقدّم أهل الجهل أمثالهم، وإليه الإشارة بقوله:"اتخذ الناس رؤساء جهالًا"، وهذا لا ينفي ترئيس بعض من لم يتصف بالجهل التامّ، كما لا يمتنع ترئيس من يُنسب إلى الجهل في الجملة في زمن أهل الاجتهاد.
وقد أخرج ابن عبد البرّ في كتاب العلم، من طريق عبد الله بن وهب، سمعت خلاد بن سلمان الحضرميّ يقول: حدّثنا دَرّاج أبو السمح يقول: يأتي على الناس زمان يُسمّن الرجل راحلته حتى يسير عليها في الأمصار، يلتمس من يفتيه بسُنّة، قدعمل بها، فلا يجد إلا من يفتيه بالظنّ. فيُحمَل على أن المراد: الأغلب الأكثر في الحالين، وقد وُجد هذا مشاهدًا، ثم يجوز أن يقبض أهل تلك الصفة، ولا يبقى إلا المقلد الصِّرْف، وحينئذ يتصور خلو الزمان عن مجتهد، حتى في بعض الأبواب، بل في بعض المسائل، ولكن يبقى من له نسبة إلى العلم في الجملة، ثم يزداد حينئذ غلبة الجهل، وترئيس أهله، ثم يجوز أن يقبض أولئك، حتى لا يبقى منهم أحد، وذلك جدير بأن يكون عند خروج الدجال، أو بعد موت عيسى عليه السلام، وحينئذ يُتصوّر خلو
الزمان عمن يُنسب إلى العلم أصلًا، ثم تَهُبّ الريح، فتقبض كل مؤمن، وهناك يتحقق خلوّ الأرض عن مسلم فضلًا عن عالم، فضلًا عن مجتهد، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، والعلم عند الله تعالى. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): أن الداوديّ قال: هذا الحديث خرج مخرج العموم، والمراد به الخصوص؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ حتى يأتي أمر الله"، ويقال: هذا بعد إتيان أمر الله تعالى، إن لم يُفسّر إتيان الأمر بإتيان القيامة، أو عدم بقاء العلماء إنما هو في بعض المواضع كما في بيت المقدس مثلًا، إن فسَّرناه به، فيكون محمولًا على التخصيص جمعًا بين الأدلّة.
7 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله تعالى: هذا الحديث بيّن كيفيةَ رفع العلم، وظهور الجهل، وهو نصّ في أن رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، بل بموت العلماء، وبقاء الجهّال الذين يتعاطون مناصب العلماء في الفتيا والتعليم، يُفتون بالجهل، ويُعلّمونه، فينتشر الجهل، ويظهر، وقد ظهر ذلك، ووُجد على نحو ما أخبر صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك دليلًا من أدلّة نبوّته، وخصوصًا في هذه الأزمان، إذ قد وَليَ المدارس والفتيا كثيرٌ من الجهّال والصبيان، وحُرِمها أهل ذلك الشأن. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في تقسيم الرأي على ثلاثة أقسام:
قال الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه النافع "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين":
الرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه، والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به، وأفتَوْا به، وسوّغوا القول به، وذمّوا الباطل، ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به، وأطلقوا ألسنتهم بذمّه وذمّ أهله.
والقسم الثالث سوّغوا العمل والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه،
(1)
"الفتح" 17/ 188 - 190.
(2)
"المفهم" 6/ 705.
حيث لا يُوجد منه بدٌّ، ولم يُلزموا أحدًا العمل به، ولم يُحرّموا مخالفته، ولا جعلوا مخالفه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خَيَّروا بين قبوله وردّه، فهو بمنزلة ما أُبيح للمضطرّ من الطعام والشراب الذي يَحرُم عند عدم الضرورة إليه، كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعيّ عن القياس، فقال لي: عند الضرورة. وكان استعمالهم لهذا النوع بقَدْر الضرورة، لم يُفْرِطُوا فيه، ويُفَرّعوه، ويولّدوه، ويوسّعوه كما صنع المتأخّرون بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها، كما يوجد كثير من الناس يَضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه، وتعسّر حفظه، فلم يَتَعَدَّوا في استعماله قَدْر الضرورة، ولم يَبْغُوا العدول إليه مع تمكّنهم من النصوص والآثار، كما قال تعالى في المضطرّ إلى الطعام المحرّم:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]، فالباغي: الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصّل إلى المذكّى، والعادي: الذي يتعدّى قدرَ الحاجة بأكملها.
فالرأي الباطل أنواع:
[أحدها]: الرأي المخالف للنّصّ، وهذا مما يُعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحلّ الفُتيا به ولا القضاء، وإن وقع فيه مَن وقع بنوع تأويل وتقليد.
[النوع الثاني]: هو الكلام في الدِّين بالْخَرْص والظنّ، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص، وفهمِها، واستنباط الأحكام منها، فإن مَن جهلها، وقاس برأيه فيما سُئل عنه بغير علم، بل لمجرّد قَدْر جامع بين الشيئين أُلحق أحدهما بالآخر، أو لمجرّد قدر فارقٍ يراه بينهما يُفرّق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل فضلّ وأضلّ.
[النوع الثالث]: الرأي المتضمّن تعطيل أسماء الربّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال، من الْجَهْميّة، والمعتزلة، والقَدَريّة، ومن ضاهاهم، حيث استعمل أهله قياساتهم الفاسدة، وآراءهم الباطلة، وشُبَههم الداحضة في ردّ النصوص الصحيحة الصريحة، فردّوا لأجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رُواتها وتخطئتهم، ومعاني
النصوص التي لم يجدوا إلى ردّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف والتأويل، فأنكروا لذلك رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وأنكروا كلامه، وتكليمه لعباده، وأنكروا مُباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلُوّه على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجنّ والإنس عن تعلّق قدرته ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوا لأجلها حقائق ما أخبر به سبحانه وتعالى عن نفسه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله، ونعوت جلاله، وحَرَّفوا لأجلها النصوص عن مواضعها، وأخرجوها عن معانيها وحقائقها بالرأي المجرّد الذي حقيقته أنه ذُبالة
(1)
الأذهان، ونُخالة الأفكار، وعُفارة الآراء، ووساوس الصدور، فملؤوا به الأوراق سوادًا، والقلوب شكوكًا، والعالم فسادًا.
وكلُّ من له مُسكة من عقل يَعلَم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استَحكَم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استَحكَم هلاكه، ولا أمّة إلا فسد أمرُها أتمّ فساد، فلا إله إلا الله كم نُفي بهذه الآراء من حقّ، وأُثبت بها من باطل، وأُميت بها من هُدى، وأُحيي بها من ضلالة؟ وكم هُدم بها من مَعْقِل الإيمان، وعُمِّر بها من دِين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل هذه الآراء الذين لا سَمْع لهم ولا عقل، بل هم شرّ من الْحُمُر، وهم الذين يقولون يوم القيامة:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].
[النوع الرابع]: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيّرت به السنن، وعَمَّ البلاء، وتربّى عليه الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير.
فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتّفق سلف الأمة، وأئمتها على ذمّه، وإخراجه من الدِّين.
[النوع الخامس]: ما ذكره أبو عمر بن عبد البرّ عن جمهور أهل العلم، أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه والتابعين رضي الله عنهم أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ
(1)
الذُّبالة بالضم: فتيلة السراج. قاله في "اللسان".
المعضلات والأغلوطات، وردّ الفروع والنوازل بعضها على بعض قياسًا، دون ردّها على أصولها، والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن ينزل، وفُرِّعت، وشُقِّقت قبل أن تقع، وتكلّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظنّ، قالوا: وفي الاشتغال بهذا، والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على جهلها، وتَرْك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه، واحتجّوا على ما ذهبوا إليه بأشياء
(1)
.
ثم ذكر من طريق أسد بن موسى، ثنا شريك، عن ليث، عن طاوس، عن ابن عمر، قال:"لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يَلعَن مَن يسأل عما لم يكن"
(2)
.
ثم ذكر من طريق أبي داود، ثنا إبراهيم بن موسى الرازيّ، ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ، عن عبد الله بن سعد، عن الصُّنابحيّ، عن معاوية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم "نهى عن الأُغلوطات"
(3)
.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعيّ بإسناده مثله، وقال: فسّره -يعني: صِعاب المسائل -. وقال الوليد بن مسلم عن الأوزاعيّ، عن عبد الله بن سعد، عن عبادة بن نُسيّ، عن الصنابحيّ، عن معاوية بن أبي سفيان أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أما تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عُضَل المسائل؟
(4)
.
واحتجّوا أيضًا بحديث سهل بن سعد رضي الله عنهما وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره المسائل وعابَها
(5)
.
(1)
راجع: "جامع بيان العلم" 2/ 1054.
(2)
"جامع بيان العلم"(2036)، وهو ضعيف؛ لأن في سنده ليث بن أبي سليم، متروك، وشريك متكلّم فيه.
(3)
أخرجه أحمد 5/ 435، وأبو داود رقم (3656) وهو ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن سعد بن فروة البجليّ: مجهول.
(4)
إسناده ضعيف جدًّا، في سنده سليمان بن أحمد الواسطيّ: متروك الحديث، بل كذّبه بعضهم، وعنعنة الوليد، وهو مدلّس، وجهالة عبد الله بن سعد.
(5)
متّفقٌ عليه.
وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال"
(1)
.
وأخرج بسنده عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن مالك، عن الزهريّ، عن سهل بن سعد قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها"
(2)
.
وأخرج أيضًا عن الأوزاعيّ، عن عبدة بن أبي لبابة قال:"وددتُ أن أحظى من أهل الزمان أن لا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم"
(3)
.
وأخرج أيضًا عن إسماعيل بن عيّاش، ثنا شُرحبيل بن مسلم، أنه سمع الحجاج بن عامر الثُّماليّ -وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إياكم وكثرة السؤال"
(4)
.
قال: وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، فقال: أما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؟ فقد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، وقال الله عز وجل:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاف؟.
واحتجّوا أيضًا بما رواه ابن شهاب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، أنه سمع أباه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحرّم على المسلمين، فحرّم عليهم من أجل مسألته"
(5)
.
وقد جاء ذمّ الرأي في كلام السلف رحمهم الله، فقد سئل الشعبيّ - وهو من كبار التابعين، وقد أدرك مائة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن معظمهم - عن مسألة من النكاح، فقال للسائل: إن أخبرتك برأي، فبُلْ عليه. وعنه قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوه، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الْحُشّ
(6)
. وعن عمرو بن دينار، قال: قيل لجابر بن زيد: إنهم
(1)
حديث متّفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
حديث صحيح.
(3)
إسناده حسن.
(4)
إسناده حسن.
(5)
حديث متّفقٌ عليه.
(6)
أي: الكنيف.
يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غدًا. وعن ابن عيينة قال: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقوله هو برأيه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الناس: أنه لا رأي لأحد مع سنة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي نضرة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصريّ: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تُفت برأيك إلا أن يكون سنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن أبي وائل قال: إياك ومجالسة من يقول: أرأيت أرأيت. وعن ابن شهاب قال: دَعُوا السُّنَّة تمضي، لا تَعَرَّضُوا لها بالرأي. وعنه قال -وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي، وتَرْكهم السنن-: إن اليهود والنصارى إنما انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتّبعوا الرأي، وأخذوا فيه. وسأل رجل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئًا، فقال له الرجل: فأخبرني -أصلحك الله- برأيك، فقال: لا، ثم أعاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: إني لعلّي إن أخبرتك برأيي، ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيًا غيره، فلا أجدك. وقال البخاريّ: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسيّ، ثنا مالك بن أنس، قال: كان ربيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يُشبه حالك، أنا أقول برأيي، من شاء أخذه، وعمل به، ومن شاء تركه. وقال الفريابيّ: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّورقيّ قال: سمعت عبد الرحمن بن مهديّ يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوب السختيانيّ: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تَجْتَرُّ؟ قال: أكره مَضْغ الباطل. وقال الفريابيّ: ثنا العباس بن الوليد بن مَزْيَد، أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعيّ يقول: عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوا لك القول. وقال أبو زرعة: ثنا أبو مسهر، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل لا يُجيب حتى يقول: لا حول ولا قوّة إلا بالله، هذا الرأي، والرأي يُخطئ ويُصيب. وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: عِلمنا هذا رأي، وهوأحسن ما قَدَرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه. وقال الطحاويّ: ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ثنا أشهب بن عبد العزيز، قال: كنت عند مالك، فسئل عن الْبَتّة، فأخذت ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل،
فعسى في العشيّ أقول: إنها واحدة. وقال معن بن عيسى القزّاز: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشرٌ أُخطئ وأُصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسُّنَّة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه. قال ابن القيّم رحمه الله: فرضي الله عن أئمة الإسلام، وجزاهم عن نصيحتهم خيرًا، ولقد امتثل وصيّتهم وسلك سبيلهم أهل العلم والدِّين من أتباعهم.
وأما المتعصّبون فإنهم عكسوا القضيّة، ونظروا في السُّنَّة، فما وافق أقوالهم منها قبِلُوه، وما خالفها تحيّلوا في ردّه، أو ردّ دلالته، وإذا جاء نظير ذلك، أو أضعف منه سندًا ودلالةً، وكان يوافق قولهم قبِلوه، ولم يستجيزوا ردّه، واعترضوا به على منازِعهم، وأشاحوا، وقرّروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السند بعينه، أوأقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك، أو أقوى منه في خلاف قولهم دفعوه، ولم يقبلوه.
وقال بقيّ بن مخلد: ثنا سحنون والحارث بن مسكين، عن ابن القاسم، عن مالك أنه كان يكثر أن يقول:{إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32].
وقال القعنبيّ: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلّمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب وما لي لا أبكي؟ ومن أحقّ بالبكاء منّي؟ والله لوددتُ أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سَوْطًا، وقد كانت لي السعة فيما قد سُبقتُ إليه، وليتني لم أُفتِ بالرأي.
وقال ابن أبي داود: ثنا أحمد بن سنان قال: سمعت الشافعيّ يقول: مَثلُ الذي ينظر في الرأي، ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عُولج حتى برئ، فأُعقل ما يكون قد هاج به.
وقال ابن أبي داود: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد ترى أحدًا نظر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَل
(1)
. وقال عبد الله بن أحمد أيضًا: سمعت أبي يقول: الحديث الضعيف أحبّ إليّ من الرأي، فقال
(1)
"الدَّغَل" بفتحتين، والغين المعجمة، و"الدَّخَل" بالخاء المعجمة بوزنه: الفساد.
عبد الله: سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يَعرِف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي، فتنزل به النازلة، فقال أبي: يسأل أصحاب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من الرأي.
قال ابن القيّم: وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مُجمِعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أَولى من القياس والرأي، وعلى ذلك بَنَى مذهبه، كما قدّم حديث القهقهة مع ضَعفه على القياس والرأي، وقدّم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر
(1)
مع ضعفه على الرأي والقياس، ومنع قطع السارق بسرقة أقلّ من عشرة دراهم، والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثر الحيض عشرة أيام، والحديث فيه ضعيف، وشَرَط في إقامة الجمعة المصرَ، والحديث فيه كذلك، وتَرَك القياس المحض في مسائل الآبار؛ لآثار فيها غير مرفوعة، فتقديم الحديث الضعيف، وآثار الصحابة على القياس والرأي قوله، وقول الإمام أحمد، وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسمّيه المتأخّرون حسنًا قد يسميه المتقدّمون ضعيفًا.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قول ابن القيّم رحمه الله: إن مذهب أبي حنيفة تقديم الحديث الضعيف على القياس، ثم ذكر أمثلة على ذلك، محل نظر، فإنهم إذ قد فعلوا ذلك في الأمثلة المذكورة، فيا ليتهم وقفوا عليه، لكنهم يردّون الأحاديث الصحيحة بالقياس، كما فعلوا في حديث المصرّاة المتّفق عليه، وكالحديث المتفق عليه أيضًا:"لا صلاة إلا بأم القرآن"، وكحديث بيع العرايا، وكحديث تحريم الرجوع في الهبة إلا للوالد، وكحديث:"لا زكاة في حبّ ولا ثمر حتى يبلغ خمسة أوسق"، وغير ذلك من الأحاديث الصحيحة التي ردّوها بأنها تخالف القياس، وقد أجاد ابن القيّم حيث أورد نيّفًا وخمسين مثالًا لِمَا خالف فيه الحنفيّة وغيرهم الأحاديث الصحيحة، فراجعه تستفد
(2)
، وبالله تعالى التوفيق.
(1)
القيد بالسفر محل نظر، وما أظنه شرطًا عندهم، فليُنظر.
(2)
راجع: "إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين" 1/ 617 - 699.
وأيضًا قوله: وليس المراد بالحديث الضعيف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين محل نظر، فإنه لا ينطبق على مذهب الحنفيّة، كما تشهد به الأحاديث التي أوردها ابن القيّم أمثلة لذلك، فإنها ضعيفة على اصطلاحهم، فتأملها بإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: والمقصود أن السلف جميعهم على ذمّ الرأي والقياس المخالف للكتاب والسُّنَّة، وأنه لا يحلّ العمل به، لا فُتيا، ولا قضاءً، وأن الرأي الذي لا يُعلم مخالفته للكتاب والسُّنَّة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام، ولا إنكار على من خالفه.
وأخرج الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ بسنده عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه قال [من الكامل]:
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ آثَارُ
…
نِعْمَ الْمَطِيّةُ لِلْفَتَى الأَخْبَارُ
لَا تُخْدَعَنَّ عَنِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ
…
فَالرَّأْيُ لَيْلٌ وَالْحَدِيثُ نَهَارُ
وَلَرُبَّمَا جَهِلَ الْفَتَى طُرُقَ الْهُدَى
…
وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ لَهَا أَنْوَارُ
ولبعض أهل العلم [من البسيط]:
الْعِلْمُ قَالَ اللَّهُ قَالَ رَسُولُهُ
…
قَالَ الصَّحَابَةُ لَيْسَ خُلْفٌ فِيهِ
مَا الْعِلْمُ نَصْبُكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً
…
بَيْنَ النُّصُوصِ وَبَيْنَ رَأْيِ سَفِيهِ
كَلَّا وَلَا نَصْبُ الْخِلَافِ جَهَالَةً
…
بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ رَأْي فَقِيهِ
كَلَّا وَلَا رَدُّ النُّصُوصِ تَعَمُّدًا
…
حَذَرًا مِنَ التَّجْسِيمِ وَالَتَّشْبِيهِ
حَاشَا النُّصُوصَ مِنَ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ
…
مِنْ فِرْقَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّمْوِيهِ
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت أنواع الرأي الباطل التي تقدّم بيانها في "التحفة المرضيّة"، فقلت:
أَنْوَاعُ الرَّأْيِ الْبَاطِل
أَحَدُهَا الرايُ الْمُخَالِفُ النُّصُوصْ
…
وَلَا نَرَى فَرِيقَهُ سِوَى اللُّصُوصْ
بُطْلَانُهُ يُعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ
…
مِنْ دِينِ الإِسْلَامِ فَسِمْ بِفِرْيَةِ
وَثَانِهَا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِلَا
…
عِلْمٍ تَخَرُّصًا وَظَنًّا حُظِلَا
(1)
راجع: "إعلام الموقعين" 1/ 75 - 81.
مُقَصِّرًا فِي فَهْمِهِ النُّصُوصَا
…
مُسْتَعْمِلًا آرَاءَهُ خُصُوصَا
ثَالِثُهَا الرَّأْيُ الَّذِي تَضَمَّنَا
…
تَعْطِيلَ أَسْمَاءِ الإِلَهِ عَلَنَا
مُتَّبِعًا آرَاءَ أَهْلِ الْبِدَعِ
…
فِي رَدِّهِمْ نُصُوصَ شَرعٍ فَلْتَعِ
فَقَابَلُوا النُّصُوصَ بِالتَّحْرِيفِ .. وَغَيَّرُوا الْمَعْنَى إِلَى السَّخِيفِ
رَابِعُهَا الرَّأْيُ الَّذِي قَدْ أُحْدِثَتْ
…
الْبِدَعُ الَّتِي بِهِ قَدْ ثَبَتَتْ
عَمَّ بِهِ الْبَلَا وَغُيِّرَ السُّنَنْ
…
جَنَّبَنَا إلَهُنَا كُلَّ الْفِتَنْ
فَهَذِهِ الأَنْوَاعُ كُلُّهَا اتَّفَقْ
…
سَلَفُ الأمَّةِ بِذَمٍّ مَا أَحَقّ
والله تعالى أعلم بالصواب.
(المسألة الخامسة): في بيان الرأي المحمود:
(اعلم): أن الرأي المحمود أنواع:
(الأول): رأي أفقه الأمة، وأبرّهم قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلّهم تكلّفًا، وأصحّهم قُصُودًا، وأكملهم فطرةً، وأتمّهم إدراكًا، وأصفاهم أذهانًا، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، فنسبة آرائهم وقُصُودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته، والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم. قال الشافعيّ رحمه الله في "رسالته البغداديّة" التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفرانيّ، وهذا لفظه:
وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن، والتوراة، والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله، وهنّأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصدّيقين والشهداء والصالحين، أدَّوا إلينا سُنَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه، والوحي يَنزِل عليه، فعلِموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عامًّا وخاصًّا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنّته ما عرفنا وجَهِلْنا، وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورَع، وعقلٍ، وأمر استُدرك به علم، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أحمدُ، وأَولى بنا مِن رَأْينا عند أنفسنا، ومن أدرَكْنا ممن يُرضَى، أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سُنَّة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول
بعضهم إن تفرّقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يُخالفه غيره أخذنا بقوله.
ولَمّا كان رأي الصحابة رضي الله عنهم عند الشافعيّ بهذه المثابة، قال في الجديد في "كتاب الفرائض" في ميراث الجدّ والإخوة: وهذا مذهبٌ تلقّيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض.
وقال: والقياس عندي قتل الراهب لولا ما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه، فَتَرك صريح القياس لقول الصدّيق رضي الله عنه. وقال في رواية الربيع عنه: والبدعة ما خالف كتابًا، أو سُنَّةً، أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجعل ما خالف قول الصحابيّ بدعة.
والمقصود: أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، وكيف يساويهم، وقد كان أحدهم يرى الرأي، فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر رضي الله عنه في أسارى بدر أن تُضرب أعناقهم، فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن تُحجب نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزل القرآن بموافقته، ورأى أن يُتّخذ مقام إبراهيم مُصلّى، فنزل القرآن بموافقته، إلى غير ذلك من موافقاته.
وقد قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لَمّا حكّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم في بني قريظة: إني أرى أن تَقتل مُقاتِلهم، وتَسبي ذرياتهم، وتغنم أموالهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سماواته". متّفقٌ عليه.
ولَمّا اختلفوا إلى ابن مسعود رضي الله عنه شهرًا في الْمُفَوِّضة قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، والله ورسوله بريء منه، أرى أن لها مهر نسائها، لا وَكْس ولا شَطَط، ولها الميراث، وعليها العدّة، فقام ناس من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأة منّا، يقال لها: بَرْوَع بنت واشق مثلَ ما قضيت به، فما فرِحَ ابن مسعود رضي الله عنه بشيء بعد الإسلام فَرَحه بذلك. حديث صحيح، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ وابن ماجه، وغيرهم.
وحقيقٌ بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم خيرًا لنا مِن رَأْينا لأنفسنا، وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً وعلمًا ومعرفة وفهمًا عن الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ونصيحةً للأمة، وقلوبهم
على قلب نبيّهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم يتلقّون العلم والإيمان من مشكاة النبوّة غَضًّا طريًّا لم يَشُبْهُ إشكال، ولم يَشُبْه خلاف، ولم تدنّسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس.
(النوع الثاني من الرأي المحمود): الرأي الذي يُفسّر النصوص، ويُبيّن وجه الدلالة منها، ويقرّرها، ويوضّح محاسنها، ويُسهّل طريق الاستنباط منها، كما قال عبدان: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يُفسّر لك الحديث، وهذا هو الفهم الذي يختصّ الله سبحانه وتعالى به من يشاء من عباده.
ومثال هذا: رأي الصحابة رضي الله عنهم في العَوْل في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين، وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جرّ الولاء، ورأيهم في المُحْرم يقع على أهله بفساد حجه، ووجوب المضيّ فيه، والقضاء، والهدي مِن قابل، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا، وقضتا، وَأطعمتا لكلّ يوم مسكينًا، ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر تصلّي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلّت الظهر والعصر، ورأيهم في الكَلالة، وغير ذلك.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنا عاصم الأحول، عن الشعبيّ قال: سئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد
(1)
.
(النوع الثالث من الرأي المحمود): هو الرأي الذي تواطأت عليه الأمّة، وتلقّاه خلفهم عن سلفهم، فإن ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا، كما تواطؤوا عليه من الرواية والرؤيا، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد تعدّدت منهم رؤيا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد
(1)
رواه الدارميّ في "مسنده"(2976) وعبد الرزاق في "مصنفه"(19191)، والبيهقيّ في "سننه" 6/ 224. وفيه انقطاع؛ لأن الشعبيّ لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه.
تواطأت في السبع الأواخر". متّفقٌ عليه، فاعتبر صلى الله عليه وسلم تواطؤ رؤيا المؤمنين، فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها، ولهذا كان من سَدَاد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليس عنده فيها نصّ عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم جَمَع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعلها شُورى بينهم.
قال البخاريّ: حدّثنا سُنيد، ثنا يزيد، عن العوّام بن حَوْشَب، عن المسيّب بن رافع قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب، ولا في السُّنَّة، سُمِّي صوافي الأمراء
(1)
، فيُرفع إليهم، فجُمع له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحقّ
(2)
.
(الرابع من الرأي المحمود): الاجتهاد بالرأي على ضوء الكتاب والسُّنَّة، ورأي الصحابة، وذلك يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها ففي السُّنَّة، فإن لم يجدها في السُّنَّة، فبما قضى به الخلفاء الراشدون، أو اثنان منهم، أو واحد، فإن لم يجده فبما قاله واحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإن لم يجده اجتهد رأيه، ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقضية أصحابه رضي الله عنهم، فهذا هو الرأي الذي سوّغه الصحابة، واستعملوه، وأقرّ بعضهم بعضًا عليه.
قال عليّ بن الجعد: أنبأنا شعبة عن سيّار، قال: أخذ عمر رضي الله عنه فرسًا من رجل على سَوْم، فحَمَل عليه، فعطِبَ، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا، فقال الرجل: إني أرضى بشُريح العراقيّ، فقال شريح: أخذتَه صحيحًا سليمًا، فأنت ضامنٌ حتّى تردّه صحيحًا سليمًا، قال: فكأنه أعجبه، فبعثه قاضيًا، وقال: ما استبان لك من كتاب الله فلا تسأل عنه، فإن لم تَسْتَبِن في كتاب الله فمن السُّنَّة، فإن لم تجده في السُّنَّة فاجتهد رأيك.
وقال أبو عبيد: ثنا كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقان، وقال أبو نُعيم:
(1)
صوافي الأمراء: ما اختارهم الأمراء للفتيا من أهل العلم.
(2)
ضعيف؛ لأن سُنَيد ضعيف مع إمامته ومعرفته، راجع:"التقريب" ص 138.
عن جعفر بن بُرقان، عن معمر البصريّ، عن أبي الْعَوّام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس، قال: أتيت سعيد بن أبي بُردة، فسألته عن رُسُل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بُردة، فأخرج إليه كتُبًا، فرأيت في كتاب منها.
رجعنا إلى حديث أبي العوّام، قال: كتب عمر إلى أبي موسى:
"أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسُنّةٌ متّبعة، فافهم إذا أُدْلِي إليك، فإنه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له، آسِ الناسَ في مجلسك، وفي وجهك، وقضائك، حتى لا يطمع شريفٌ في حَيْفك، ولا يَيْأس ضعيف من عَدْلك، البيِّنة على المدّعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائزٌ بين المسلمين، إلا صُلحًا أحلّ حرامًا، أو حرّم حلالًا، ومن ادّعى غائبًا، أو بيّنةً فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن بيّنه أعطيتَه بحقّه، وإن أعجزه ذلك استحللت عليه القضيّة، فإن ذلك هو أبلغ في العذر، وأجلى للعماء، ولا يمنعنّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليومَ، فراجعت فيه رأيك، فهُديتَ فيه لرُشدك أن تراجع فيه الحقّ، فإن الحقّ قديم لا يُبطله شيء، ومراجعة الحقّ خيرٌ من التمادي في الباطل، والمسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض، إلا مجرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حدّ، أو ظَنينًا في ولاء، أو قرابة، فإن الله تعالى تولّى من العباد السرائر، وسَتَر عليهم الحدود إلا بالبيّنات والأيمان، ثم الفَهْمَ الْفَهْمَ فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن، ولا سُنَّة، ثم قايِس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثالَ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبّها إلى الله، وأشبهها بالحق، وإياك والغضبَ، والْقَلَقَ، والضجَرَ، والتأذّي بالناس، والتنكّر عند الخصومة، أو الخصوم -شكّ أبو عبيد- فإن القضاء في مواطن الحقّ مما يوجب الله به الأجر، ويُحسن به الذِّكر، فمن خلصت نيّته في الحقّ ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزيّن بما ليس في نفسه شأنه الله، فإن الله تعالى لا يَقبَلُ من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنّك بثواب عند الله في عاجل رزقه، وخزائن رحمته. والسلام عليك ورحمة الله".
قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا
(1)
.
قال ابن القيّم رحمه الله: وهذا كتاب جليلٌ تلقّاه العلماء بالقبول، وبَنَوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمّله، والتفقّه فيه. انتهى
(2)
. وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ.
قال الجامع عفا الله عنه: قد نظمت أنواع الرأي المحمود التي تقدّمت بيانها في "التحفة المرضيّة" أيضًا، فقلت:
أَنْوَاعُ الرَّأْيِ الْمَحْمُودِ
أَحَدُهَا رَأْيُ الصَّحَابَةِ الْكِرَامْ
…
أَفْقَهُ الأمَّةِ وَقُدْوَةُ الأَنَامْ
أَبَرُّهَا قَلْبًا أَقَلُّ تَكْلِفَهْ
…
قَدْ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ أَهْلُ مَعْرِفَهْ
وَعَرَفُوا تَأْوِيلَهُ وَفَهِمُوا
…
مَقَاصِدَ الشَّرْعِ وَنِعْمَ الْمَغْنَمُ
فَرَأْيُهُمْ خَيْرٌ لَنَا مِنْ رَأْيِنَا
…
وَكَيْفَ لَا وَقَدْ أَتَانَا عَلَنَا
أَيْ مِنْ قُلُوبٍ مُلِئَتْ إِيمَانَا
…
وَحِكَمًا وَاتَّسَعَتْ إِيقَانَا
قُلُوبُهُمْ قَلْبً النَّبِيِّ شَاكَلَتْ
…
وَسَائِطُ الْعُلُومِ عَنْهُمْ رُفِعَتْ
فَنَقَلُوا غَضًّا طَرِيًّا لَمْ يُشَبْ
…
بِمَا يُدَنِّسُ نَقَاهُ مِنْ رِيَبْ
وَثَانِهَا الرَّأْيُ الَّذِي تُفَسَّرُ
…
بِهِ النّصوصُ غَوْرُهَا يُبَعْثَرُ
ثَالِثُهَا الرَّأْيُ الَّذِي قَدْ أَجْمَعُوا
…
عَلَيْهِ فَاكْتَسَى صَوَابًا يُقْطَعُ
رَابِعُهَا الرَّأْيُ الَّذِي أَتَاكَ مِنْ
…
بُعَيْدِ بَحْثِكَ الشَّدِيدِ الْمُطْمَئِنّ
مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ سُنَّةٍ فَمَا
…
الْخُلَفَا قَضَاؤُهُمْ بِهِ سَمَا
ثُمَّ بِمَا قَالَ الصّحَابُ الْبَرَرَهْ
…
فَأَنْتَ بَعْدَ ذَا تَرَى مَا الْخِيَرَهْ؟
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6773]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِي: ابْنَ زبدٍ - (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ (ح)
(1)
رواه البيهقيّ 10/ 135 من حديث سعيد بن أبي بردة وجادةً، قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: وهي وجادة صحيحة من أصحّ الوجادات، وهي حجة. انظر تخريجه مفصّلًا في:"إرواء الغليل" 8/ 241 - 242 رقم (2619).
(2)
راجع: "إعلام الموقّعين" 1/ 69 - 87.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثنا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، وابْنُ نُمَيْرٍ، وَعَبْدَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّئنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ (ح) وَحَدَّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أخْبَرَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاج، كلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيه، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو، عَلَى رَأْسِ الْحَوْل، فَسَأَلْتُهُ، فَرَدَّ عَلَيْنَا الْحَدِيثَ، كَمَا حَدَّثَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة وعشرون:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عَبَّادُ بْنُ عَبَّادِ) بن حبيب بن الْمُهَلَّب بن أبي صُفْرة الأزديّ المهلّبيّ، أبو معاوية البصريّ، ثقة ربّما وَهِم [7](ت 179) أو بعدها بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
5 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(ابْنُ إِدْرِيسَ) هو: عبد الله بن إدريس الأوديّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
7 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيىى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
8 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة الكوفيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
9 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم) بن ميمون البغداديّ السمين، تقدّم أيضًا قريبًا.
10 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِع) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
11 -
(عُمَرُ بْنُ عَلِيِّ) بن عطاء بن مُقَدَّم -بقاف، وزن محمد- البصريّ،
واسطيّ الأصل، ثقةٌ وكان يدلس شديدًا [8] (ت 190) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 13.
12 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قريبًا.
13 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السّلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.
والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ)؛ يعني: أن كل هؤلاء الاثنا عشر، وهم: حماد بن زيد، وعبّاد بن عبّاد، وأبو معاوية، ووكيع، وعبد الله بن إدريس، وأبو أسامة، وعبد الله بن نُمير، وعبدة بن سليمان، وسفيان بن عيينة، ويحيى القطّان، وعمر بن عليّ المقدّميّ، وشعبة رووا هذا الحديث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
[تنبيه]: أما رواية حماد بن زيد عن هشام بن عروة، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6719)
- أخبرنا أبو يعلى من كتابه، قال: حدّثنا أبو الربيع الزهرانيّ، قال: حدّثنا حماد بن زيد، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من الناس، ولكن يقبض العلماء بعلمهم، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا". انتهى
(1)
.
وأما رواية سفيان بن عيينة، عن هشام، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(581)
- حدّثنا سفيان، قال: ثنا هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لا يقبض العلم انتزاعًا ينزعه من قلوب الرجال، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يترك عالِمًا اتخذ الناس رؤسًا جهالًا، فسألوهم، فأفتوهم بغير علم، فضلوا، وأضلوا"، قال عروة: ثم لبثت سنةً، ثم لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص في الطواف، فسألته عنه، فأخبرني به عنه. انتهى
(2)
.
وأما رواية وكيع عن هشام، فقد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(1)
"صحيح ابن حبان" 15/ 114.
(2)
"مسند الحميديّ" 1/ 264.
(37590)
- حدّثنا وكيع، عن هشام، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْقَ عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا، وأضلّوا". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي أسامة عن هشام، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(20139)
- حدّثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهانيّ إملاءً، أنبأ أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصريّ بمكة (ح) وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قالا: ثنا الحسن بن عليّ بن عفان العامريّ، ثنا أبوأسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يَترك عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فأفتوا بغير علم، فضلّوا، وأضلُّوا"، لفظ حديث أبي العباس. انتهى
(2)
.
وأما رواية يحيى القطّان عن هشام، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(6511)
- حدّثنا يحيى، عن هشام، أملاه علينا، حدّثني أبي، سمعت عبد الله بن عمرو، من فيه إلى فِيَّ، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالِمًا اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسُئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا". انتهى
(3)
.
وأما رواية عبدة بن سليمان عن هشام فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(2652)
- حدّثنا هارون بن إسحاق الهمدانيّ، حدّثنا عبدة بن سليمان،
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 7/ 505.
(2)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 116.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 162.
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالِمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا، وأضلُّوا"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى
(1)
.
وأما روايات الباقين، فلم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6774]
(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي جَعْفَرٌ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَم، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ حُمْرَانَ) -بضم المهملة- ابن عبد الله بن حُمران بن أبان، أبو عبد الرحمن البصريّ، صدوقٌ يخطئ قليلًا [9].
رَوَى عن ابن عون، وشعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وأشعث بن عبد الملك، وعوف الأعرابيّ، وعبد الحميد بن جعفر، وغيرهم.
وروى عنه أحمد، وإسحاق، وبندار، وأبو موسى، ومحمد بن يزيد بن إبراهيم، وعبدة بن عبد الله الصفار، وغيرهم.
قال ابن معين: صدوقٌ صالحٌ، وقال أبو حاتم: مستقيم الحديث، صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال ابن شاهين: شيخ ثقةٌ مُبَرِّزٌ.
وقال ابن أبي عاصم: مات سنة ست ومائتين، وقال غيره: سنة خمس.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 31.
2 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، وربما وَهِمَ [6](153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.
3 -
(أَبُوه جَعْفَرُ) بن عبد الله بن الحكم الأنصاريّ أبو عبد الحميد المدنيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 187/ 22.
4 -
(عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ) بن رافع بن سِنان المدنيّ الأنصاريّ، حليف الأوس، ثقةٌ [3](خت م دت س) تقدم في "الرضاع" 17/ 3648.
[تنبيه]: كون عمر بن الحكم هذا هو ابن رافع هو الصواب، وهو الذي نصّ عليه الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف"
(1)
، فما وقع عند بعض الشرّاح
(2)
من أنه ابن ثوبان، فغير صحيح، فإن عمر بن الحكم بن ثوبان لم يُخرج له مسلم إلا في موضع واحد في الصوم [2733](1159)، وأما هذا فقد أخرج له في ثلاثة مواضع برقم
(3)
(1469 و 2673 و 2911)، فليُتنبّه.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية عمر بن الحكم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6775]
(. . .) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ أَبَا الأَسْوَدِ حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْر، قَالَ: قَالَتْ فِي عَائِشَةُ: يَا ابْنَ أُخْتِي بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو مَارٌّ بِنَا إِلَى الْحَجّ، فَالْقَهُ، فَسَائِلْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا كثِيرًا، قَالَ: فَلَقِيتُهُ، فَسَاءَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ يَذْكُرُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ عُرْوَةُ: فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْتَرخُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِي فِي النَّاسِ رُؤُوسًا جُهَّالًا، يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَضِلُّونَ، وَيُضِلُّونَ"، قَالَ
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 368.
(2)
راجع: "شرح الشيخ الهرري" 24/ 605.
(3)
هذه الأرقام بترقيم الأستاذ محمد فؤاد رحمه الله.
عُرْوَةُ: فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ بِذَلِكَ، أَعْظَمَتْ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَتْهُ، قَالَتْ: أَحَدَّثَكَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ عُرْوَةُ: حَتَّى إِذَا كَانَ قَابِلٌ، قَالَتْ لَهُ: إِنَّ ابْنَ عَمْرٍ وقَدْ قَدِمَ، فَالْقَهُ، ثُمَّ فَاتِحْهُ حَتَّى تَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ فِي الْعِلْم، قَالَ: فَلَقِيتُهُ، فَسَاءَلْتُهُ، فَذَكَرَهُ لِي نَحْوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فِي مَرَّتِهِ الأُولَى، قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا أَخْبَرْتُهَا بِذَلِكَ، قَالَتْ: مَا أَحْسِبُهُ إِلَّا قَدْ صَدَقَ، أَرَاهُ لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا، وَلَمْ يَنْقُصْ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو شُرَيْحٍ) عبد الرحمن بن شُريح بن عبيد الله الْمَعَافريّ -بفتح الميم، والعين المهملة- الإسكندرانيّ، ثقةٌ فاضلٌ، لم يُصِب ابن سعد في تضعيفه [7](ت 167)(ع) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 16.
2 -
(أَبُو الأَسْوَدِ) محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفل بن خُويلد بن أسد بن عبد الْعُزَّى الأسديّ المدنيّ، يتيم عروة، ثقةٌ [6] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 573.
[تنبيه]: كون أبي الأسود هنا هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة هو الصواب، كما نصّ عليه الحافظ أبو الحجاج المزّي رحمه الله في "تحفته"
(1)
، واللفظ في "الفتح"
(2)
، فما وقع عند بعض الشرّاح
(3)
من أنه أبو الأسود الديليّ، فغلط، فلتنتبه، وبالله تعالى التوفيق.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، غير عروة، فمدنيّ، وفيه من اشتهر بكنيته أكثر من اسمه، وهما أبو شُريح، وأبو الأسود، وأبو شُريح ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وأنه مسلسل بالتحديث، والإخبار.
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 360.
(2)
راجع: "الفتح" 17/ 184، كتاب "الاعتصام" رقم (7307).
(3)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 24/ 605.
شرح الحديث:
(عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ)؛ أنه (قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها: (يَا ابْنَ أُخْتِي)؛ أي: لأنه وَلَدُ أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، (بَلَغَنِي أَن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما (مَارٌّ بِنَا)؛ أي: بالمدينة النبويّة، قادمًا من مصر (إِلَى الْحَجّ، فَالْقَهُ) بوصل الهمزة، وفتح القاف أمْر مِن لقي يلقى، كرضيَ يرضَى، (فَسَائِلْهُ) أمْر من المساءلة، وهو أن يسأل أحدهما الآخر، وبالعكس، لكن المراد هنا أن يسأل عروة، ويجيب عبد الله رضي الله عنه، فيكون السؤال من جانب، والجواب من جانب، والله تعالى أعلم.
(فَإِنَّهُ) الفاء تعليّليّة؛ أي: لأنه (قَدْ حَمَلَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِلْمًا كثِيرًا) فينبغي أن تستفيد من عِلمه بالسؤال. (قَالَ) عروة: (فَلَقِيتُهُ) بكسر القاف، كما أشرت إليه آنفًا. (فَسَاءَلْتُهُ عَنْ أَشْيَاءَ) مما يحتاج إليه من أمور الدين التي تلقّاها عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما بيّنه بقوله:(يَذْكُرُهَما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) جملة "يذكرها" صفة لـ "أشياء". (قَالَ عُرْوَةُ: فَكَانَ فِيمَا ذَكَرَ) عبد الله: (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْتَزعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا) وفي رواية البخاريّ: "إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاكموه"، وفي لفظ:"أعطاهموه" بالهاء ضمير الغيبة بدل الكاف، وفي رواية له في "كتاب العلم" من طريق مالك عنه:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد"، وفي رواية:"من قلوب العباد". أخرجه الحميديّ في "مسنده" عنه، والوارد في أكثر الروايات لفظ:"من الناس"، وفي رواية للطبرانيّ:"إن الله لا ينزع العلم انتزاعًا ينتزعه منهم، بعد أن أعطاهم"، ولم يذكر على من يعود الضمير، وفي رواية للطبرانيّ أيضًا:"إن الله لا ينزع العلم من صدور الناس بعد أن يعطيهم إياه".
قال الحافظ: وأظن عبد الله بن عمرو إنما حدَّث بهذا جوابًا عن سؤال مَن سأله عن الحديث الذي رواه أبوأمامة، قال: لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملٍ آدم، فقال:"يا أيها الناس خُذوا من العلم قبل أن يُقبض، وقبل أن يرفع من الأرض. . ." الحديث، وفي آخره:"إلا أن ذهاب العلم ذهاب حَمَلَتِه" ثلاث مرات، أخرجه أحمد، والطبرانيّ، والدارميّ، فبيّن عبد الله بن عمرو أن الذي وَرَدَ في قبض العلم، ورَفْع العلم، إنما هو على
الكيفية التي ذكرها، وكذلك أخرج قاسم بن أصبغ، ومن طريقه ابن عبد البرّ أن عمر سمع أبا هريرة يحدّث بحديث:"يُقْبَض العلم" فقال: إن قبض العلم ليس شيئًا يُنزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء، وهو عند أحمد، والبزار، من هذا الوجه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "وأظنّ عبد الله بن عمرو إلخ" في هذا الظنّ نظر، فتأمله بإمعان، والله تعالى أعلم.
(وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ) ببناء الفعل للفاعل، و"العلم" منصوب على المفعوليّة، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، و"العلم" نائب فاعله، وفي رواية للبخاريّ:"ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم"، قال في "الفتح": كذا فيه، والتقدير: ينتزعه بقبض العلماء مع علمهم، ففيه بعض قلب، وفي رواية هشام:"ولكن يقبض العلم بقبض العلماء"، وفي رواية معمر:"ولكن ذهابهم قبض العلم"، ومعانيها متقاربة.
(وَيُبْقِي) بضمّ أوله، من الإبقاء رباعيًّا؛ أي: يُبقي الله عز وجل (فِي النَّاسِ رُؤُوسًا) قال النوويّ رحمه الله: قوله: "رؤوسًا" ضبطناه في البخاريّ: "رؤوسًا" بضم الهمزة، وبالتنوين، جمع رأس، وضبطوه في مسلم هنا بوجهين: أحدهما هذا، والثاني رؤساء، بالمدّ جمع رئيس، وكلاهما صحيح، والاول أشهر. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "فيبقى ناسٌ جهالٌ". قال في "الفتح": هو بفتح أول "يَبقَى"، وفي رواية حرملة:"ويُبقي في الناس رؤوسًا جهالًا"، وهو بضم أول "يُبقي"، قال: ولفظة "رؤوساء" هي رواية الأكثر، وفي رواية هشام:"حتى إذا لم يَبقَ عالم"، وفي لفظ:"لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسا جهالًا"، وفي لفظ:"حتى إذا لم يترك عالمًا"، وعند الطبرانيّ:"فيصير للناس رؤوس جهالٌ"، وفي رواية عنده:"بعد أن يعطيهم إياه، ولكن يذهب العلماء، كلما ذهب عالم ذهب بما معه من العلم، حتى يَبقَى من لا يعلم".
(جُهَّالًا) بضمّ الجيم: جمع جاهل، كما قال في "الخلاصة":
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 224.
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
(يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم) بضم حرف المضارعة، من الإفتاء، وهو بيان الحكم، يقال: أفتى العالمً: إذا بَيّنَ الحكم
(1)
. (فَيَضِلُّونَ) بفتح الياء ثلاثيًّا من الضلال؛ أي: يضلّون في أنفسهم، (وَيُضِلُونَ") بضم الياء، من الإضلال؛ أي: يُضلّون غيره، وفي رواية للبخاريّ:"يُستَفْتَون، فيفتون برأيهم، فيَضلون، ويُضلون"، وفي رواية محمد بن عجلان:"يستفتونهم، فيفتونهم"، وفي رواية هشام بن عروة:"فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضَلّوا، وأضلّوا"، قال في "الفتح": وهي رواية الأكثر، وخالف الجميع قيسُ بن الربيع، وهو صدوقٌ، ضُعِّف من قِبَل حفظه، فرواه عن هشام بلفظ:"لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلًا، حتى نشأ فيهم أبناء سبايا الأمم، فأفتوا بالرأي، فضلوا، وأضلوا"، أخرجه البزار، وقال تفرّد به قيس، قال: والمحفوظ بهذا اللفظ ما رواه غيره عن هشام، فأرسله.
قال الحافظ: والمرسل المذكور أخرجه الحميديّ في "النوادر"، والبيهقي في "المدخل" من طريقه، عن ابن عيينة، قال: حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه، فذكره كرواية قيس سواءً. انتهى
(2)
.
(قَالَ عُرْوَةُ: فَلَمَّا حَدَّثْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنه (بِذَلِكَ)؛ أي: بحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما -المذكور، (أَعْظَمَتْ ذَلِكَ)؛ أي: رأته عظيمًا (وَأنكَرَتْهُ) الظاهر أن إنكارها ليس تكذيبًا لعبد الله، ولا لعروة، وإنما ظنًّا منها في إمكان الخطأ، بالزيادة، أو النقص، أو نحو ذلك؛ لأن الإنسان عُرضة للنسيان، والله تعالى أعلم. (قَالَتْ: أَحَدَّثَكَ) عبد الله (أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ هَذَا؟)؛ أي: النصّ المذكور، (قَالَ عُرْوَةُ: حَتى إِذَا كَانَ قَابِل) "كان" هنا تامّة؛ أي: حتى إذا جاء العام القابل، (قَالَتْ) عائشة (لَهُ)؛ أي: لعروة: (إِنَّ ابْنَ عَمْرِو) رضي الله عنهما (قَدْ قَدِمَ) بكسر الدال؛ أي: أتى من مصر للحجّ، (فَالْقَهُ) تقدّم ضبطه. (ثُمَّ فَاتِحْهُ)؛ أي: افتح الكلام معه (حَتَّى تَسْأَلهُ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَكَ فِي الْعِلْمِ)؛ أي: لتتأكّد من ضبطه. (قَالَ) عروة: (فَلَقِيتُهُ، فَسَاءَلْتُهُ) وفي رواية البخاريّ: "ثم إن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 4621.
(2)
"الفتح" 17/ 186.
عبد الله بن عمرو حجّ بعدُ، فقالت: يا ابن أختي انطلق إلى عبد الله، فاستثبت لي منه الذي حدّثتني عنه، فسألته، فحدّثني به كنحو ما حدّثني". (فَذَكَرَهُ لِي نَحْوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ فِي مَرَّتِهِ الأُولَى)؛ أي: في العام الماضي، ووقع في رواية سفيان بن عيينة:"قال عروة: ثم لبثت سنةً، ثم لقيت عبد الله بن عمرو في الطواف، فسألته، فأخبرني به"، فأفاد أن لقاءه إياه في المرة الثانية كان بمكة، وكأنّ عروة كان حجّ في تلك السنة من المدينة، وحج عبد الله من مصر، فبلغ عائشة، ويكون قولها:"قد قَدِم"؛ أي: من مصر طالبًا لمكة، لا أنه قَدِم المدينة؛ إذ لو دخلها لَلَقِيه عروة بها، ويَحْتَمِل أن تكون عائشة حجَّت تلك السنة، وحجَّ معها عروة، فقَدِم عبد الله بعدُ فلقيه عروة بأمر عائشة رضي الله عنها، قاله في "الفتح"
(1)
.
(قَالَ عُرْوَةُ: فَلَفَا أَخْبَرْتُهَا)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (بِذَلِكَ، قَالَتْ: مَا) نافية، (أَحْسِبُهُ) بكسر السين، وفتحها، يقال: حَسِبْتُ زيدًا قائمًا أَحْسَبُهُ، من باب تَعِب، في لغة جميع العرب، إلا بني كنانة، فإنهم يكسرون المضارع مع كسر الماضي أيضًا، على غير قياس حِسْبَانًا، بالكسر: بمعنى ظننت، قاله الفيوميّ رحمه الله
(2)
.
(إِلَّا قَدْ صَدَقَ، أَرَاهُ) بضمّ الهمزة، وفتحها؛ أي: أظنه (لَمْ يَزِدْ فِيهِ)؛ أي: في الحديث (شَيْئًا)؛ أي: خطأ، (وَلَمْ يَنْقُصْ) منه شيئًا، وفي رواية البخاريّ:"فأتيت عائشة، فأخبرتها، فعجِبت، فقالت: والله لقد حَفِظ عبد الله بن عمرو".
قال الحافظ: هذه الرواية تَحْتَمِل أن عائشة كان عندها علم من الحديث، وظنّت أنه زاد فيه، أو نقص، فلما حدّث به ثانيًا كما حدّث به أولًا تذكرت أنه على وِفق ما كانت سمعت، ولكن رواية حرملة -يعني: رواية مسلم هذه- التي ذَكَر فيها أنها أنكرت ذلك، وأعظمته ظاهرة في أنه لم يكن عندها من الحديث علم، ويؤيد ذلك أنها لم تستدلّ على أنه حَفِظه إلا لكونه حدّث به بعد سنة كما حدّث به أوّلًا، لم يَزد، ولم ينقص.
(1)
"الفتح" 17/ 186.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 134.
قال عياض: لم تتهم عائشة عبد الله رضي الله عنهما، ولكن لعلها نسبت إليه أنه مما قرأه من الكتب القديمة؛ لأنه كان قد طالع كثيرًا منها، ومن ثَمّ قالت: أحدّثك أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ انتهى.
وعلى هذا فرواية معمر له عن الزهريّ عن عروة، عن عبد الله بن عمرو هي المعتمَدة، وهي في "مصنّف عبد الرزاق"، وعند أحمد، والنسائيّ، والطبرانيّ من طريقه، ولكن الترمذيّ لمّا أخرجه من رواية عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة قال: روى الزهري هذا الحديث عن عروة، عن عبد الله بن عمرو، وعن عروة عن عائشة، وهذه الرواية التي أشار إليها رواية يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة، أخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والبزار من طريق شبيب بن سعيد، عن يونس، وشبيب في حفظه شيء، وقد شذ بذلك.
ولمّا أخرجه عبد الرزاق من رواية الزهريّ، أردفه برواية معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عبد الله بن عمرو، قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرفع الله العلم بقبضه، ولكن يقبض العلماء. . ." الحديث.
وقال ابن عبد البرّ في "بيان العلم": رواه عبد الرزاق أيضًا عن معمر، عن هشام بن عروة، بمعنى حديث مالك، قال الحافظ: ورواية يحيى أخرجها الطيالسيّ عن هشام الدستوائيّ عنه.
ووجدت عن الزهريّ فيه سندًا آخر، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق العلاء بن سليمان الرقيّ، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فذكر مثل رواية هشام سواءً، لكن زاد بعد قوله:"وأضلوا عن سواء السبيل"، والعلاء بن سليمان ضعّفه ابن عبديّ، وأورده من وجه آخر عن أبي هريرة بلفظ رواية حرملة التي مضت، وسنده ضعيف، ومن حديث أبي سعيد الخدريّ بلفظ:"يقبض الله العلماء، ويقبض العلم معهم، فتنشأ أحداث ينزو بعضهم على بعض نَزْو العير على العير، ويكون الشيخ فيهم مستضعفًا"، وسنده ضعيف.
وأخرج الدارميّ من حديث أبي الدرداء قولَهُ: "رَفْعُ العلم ذهابُ
العلماء"، وعن حذيفة: "قَبْض العلم قَبْض العلماء"، وعند أحمد عن ابن مسعود قال: "هل تدرون ما ذهاب العلم؟ ذهاب العلماء"، وأفاد حديث أبي أمامة الذي أشرت إليه أوّلًا وقت تحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وبقيّة مسائله قبل حديثين، فأذكر هنا مسألتين لم تُذكرا هناك، فأقول:
(المسألة الأولى): أخرج البخاريّ رحمه الله هذا الحديث في "صحيحه"، فقال:(6877) - حدّثنا سَعِيدُ بن تَلِيدٍ، حدّثني ابن وَهْب، حدّثني عبد الرحمن بن شُرَيْحٍ، وَغَيْرُهُ، عن أبي الْأَسْوَد، عن عُرْوَةَ، قال. حَجَّ عَلَيْنَا عبد اللهِ بن عَمْرٍ و، فَسَمِعْتُهُ يقول: سمعت النبيً صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ لَا يَنْرعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أعطاهموه انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ منهم معِ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ، فَيُفْتُونَ بِرَأيِهِمْ، فَيُضِلُّون، وَيَضِلُّونَ"، فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بن عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ، فقالت: يا ابن أُخْتِي انْطَلِقْ إلى عبد الله، فَاسْتَثْبِتْ لي منه الذي حَدَّثْتَنِي عنه، فَجِئْتُهُ، فَسَأَلْتُهُ، فَحَدَّثَنِي بِه، كَنَحْوِ ما حدّثني، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرْتُهَا، فَعَجِبَتْ، فقالت: والله لقد حَفِظَ عبد اللهِ بن عَمْرٍو. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": قوله: "وغيره" هو ابن لهيعة أبهمه البخاريّ؛ لِضَعفه، وجَعَل الاعتماد على رواية عبد الرحمن، لكن ذكر الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر في الجزء الذي جَمَعه في الكلام على حديث معاذ بن جبل في القياس: إن عبد الله بن وهب حدّث بهذا الحديث عن أبي شُريح وابن لهيعة جميعًا، لكنه قدّم لفظ ابن لهيعة، وهو مثل اللفظ الذي هنا، ثم عَطَف عليه رواية أبي شريح، فقال بذلك.
قلت
(2)
: وكذلك أخرجه ابن عبد البر في باب العلم من رواية سحنون، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، فساقه، ثم قال ابن وهب: وأخبرني عبد الرحمن بن شُريح، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عبد الله بن عمرو بذلك، قال ابن طاهر: ما كنا ندري هل أراد بقوله بذلك اللفظ والمعنى، أو
(1)
"صحيح البخاريّ "6/ 2665.
(2)
القائل هو: صاحب "الفتح".
المعنى فقط؟ حتى وجدنا مسلمًا أخرجه عن حرملة بن يحيىى، عن ابن وهب، عن عبد الرحمن بن شُريح وحده، فساقه بلفظ مغاير للفظ الذي أخرجه البخاريّ، قال: فعُرف أن اللفظ الذي حذفه البخاريّ هو لفظ عبد الرحمن بن شُريح الذي أبرزه هنا، والذي أورده هو لفظ الغير الذي أبهمه. انتهى.
قال: وكنت أظنّ أن مسلمًا حَذَف ذكر ابن لهيعة عمدًا؛ لضعفه، واقتصر على عبد الرحمن بن شريح، حتى وجدت الإسماعيليّ أخرجه من طريق حرملة بغير ذكر ابن لهيعة، فعرفت أن ابن وهب هو الذي كان يجمعهما تارةً، ويُفرد ابن شريح تارةً، وعند ابن وهب فيه شيخان آخران بسند آخر، أخرجه ابن عبد البرّ في "بيان العلم" من طريق سحنون: حدّثنا ابن وهب، حدّثنا مالك، وسعيد بن عبد الرحمن، كلاهما عن هشام بن عروة، باللفظ المشهور.
قال: وهذا الحديث مشهور عن هشام بن عروة، عن أبيه، سرد أبو القاسم عبد الرحمن بن الحافظ أبي عبد الله بن منده في كتاب "التذكرة" أسماء الذين رووه عن هشام، فزادوا على أربعمائة نفس وسبعين نفسًا، منهم: من الكبار شعبة، ومالك، وسفيان الثوريّ، والأوزاعيّ، وابن جريج، ومسعر، وأبو حنيفة، وسعيد بن أبي عروبة، والحمادان، ومعمر، بل أكبر منهم، مثل يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وموسى بن عقبة، والأعمش، ومحمد بن عجلان، وأيوب، وبكير بن عبد الله بن الأشج، وصفوان بن سليم، وأبو معشر، ويحيى بن أبي كثير، وعمارة بن غزيّة، وهؤلاء العشرة كلهم من صغار التابعين، وهم من أقرانه، ووافق هشامًا على روايته عن عروة أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن النوفلي، المعروف بيتيم عروة، وهو الذي رواه عنه ابن لهيعة، وأبو شريح، ورواه عن عروة أيضًا ولداه: يحيى، وعثمان، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو من أقرانه، والزهريّ، ووافق عروة على روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص: عُمر بن الحكم بن ثوبان، أخرجه مسلم من طريقه، ولم يَسُق لفظه، لكن قال: بمثل حديث هشام بن عروة، وكأنه ساقه من رواية جرير بن عبد الحميد، عن هشام. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 17/ 183 - 184، كتاب "الاعتصام" رقم (7307).
(المسألة الثانية): في ذكر الفوائد الزائدة في هذه الرواية
(1)
:
1 -
(منها): أن في حديث أبي أمامة رضي الله عنه من الفائدة الزائدة أن بقاء الكتب بعد رفع العلم بموت العلماء، لا يغني من ليس بعالم شيئًا، فإن في بقيته:"فسأله أعرابيّ، فقال: يا نبيّ الله كيف يُرفع العلم منا، وبين أظهرنا المصاحف، وقد تعلمنا ما فيها، وعلّمناها أبناءنا، ونساءنا، وخَدَمنا؟ فرفع إليه رأسه، وهو مغضب، فقال: وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف، لم يتعلقوا منها بحرف فيما جاءهم به أنبياؤهم"، قال الحافظ: ولهذه الزيادة شواهد من حديث عوف بن مالك، وابن عمرو، وصفوان بن عَسّال، وغيرهم، وهي عند الترمذيّ، والطبرانيّ، والدارميّ، والبزار، بألفاظ مختلفة، وفي جميعها هذا المعنى.
وقد فَسّر عمر قبض العلم بما وقع تفسيره به في حديث عبد الله بن عمرو، وذلك فيما أخرجه أحمد من طريق يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، فذكر الحديث، وفيه:"ويُرفع العلم، فسمعه عمر، فقال: أما إنه ليس ينزع من صدور العلماء، ولكن بذهاب العلماء"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون عند عمر مرفوعًا، فيكون شاهدًا قويًّا لحديث عبد الله بن عمرو.
2 -
(ومنها): أن فيه الزجرَ عن ترئيس الجاهل؛ لِمَا يترتب عليه من المفسدة، وقد يَتَمَسّك به من لا يجيز تولية الجاهل بالحكم، ولو كان عاقلًا عفيفًا، لكن إذا دار الأمر بين العالم الفاسق، والجاهل العفيف، فالجاهل العفيف أَولى؛ لأن وَرَعه يمنعه عن الحكم بغير علم، فيحمله على البحث والسؤال.
3 -
(ومنها): أن فيه حضَّ أهل العلم، وطَلَبَته على أخذ بعضهم عن بعض، وشهادة بعضهم لبعض بالحفظ والفضل.
4 -
(ومنها): أن فيه حضّ العالم طالبه على الأخذ عن غيره؛ ليستفيد ما ليس عنده.
5 -
(ومنها): التثبت فيما يحدّث به المحدّث إذا قامت قرينة الذهول، ومراعاة الفاضل من جهة قول عائشة رضي الله عنها: اذهب إليه، ففاتحه، حتى تسأله عن الحديث، ولم تقل له: سله عنه ابتداءً؛ خشيةً من استيحاشه.
(1)
المراد: الرواية التي ساقها مسلم هنا، والروايات التي ذُكرت في الشرح أيضًا.
6 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: التوفيق بين الآية والحديث في ذم العمل بالرأي، وبين ما فعله السلف من استنباط الأحكام أن نص الآية ذمّ القول بغير علم، فُخَصّ به من تكلم برأي مجرد عن استناد إلى أصل، ومعنى الحديث: ذمّ من أفتى مع الجهل، ولذلك وَصَفهم بالضلال، والإضلال، وإلا فقد مَدَح من استنبط من الأصل بقوله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، فالرأي إذا كان مستندًا إلى أصل من الكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع، فهو المحمود، وإذا كان لا يستند إلى شيء منها، فهو المذموم، قال: وحديث سهل بن حُنيف، وعمر بن الخطاب، وإن كان يدلّ على ذمّ الرأي، لكنه مخصوص بما إذا كان معارضًا للنصّ، فكأنه قال: اتهموا الرأي إذا خالف السُّنَّة، كما وقع لنا حيث أَمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحلل، فأحببنا الاستمرار إلى الإحرام، وأَرَدْنا القتال؛ لنكمل نسكنا، ونقهر عدونا، وخفي عنا حينئذ ما ظهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم، مما حُمدت عقباه، وعمر هو الذي كتب إلى شُريح:"انظر ما تبيّن لك من كتاب الله، فلا تسأل عنه أحدًا، فإن لم يتبيّن لك من كتاب الله، فاتّبع فيه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يتبيّن لك من السُّنَّة، فاجتهد فيه رأيك"، هذه رواية سيّار، عن الشعبيّ، وفي رواية الشيبانيّ عن الشعبيّ، عن شريح: أن عمر كتب إليه نحوه، وقال في آخره:"اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن، فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن، فبما قضى به الصالحون، فإن لم يكن، فإن شئت فتقدّم، وإن شئت فتأخر، ولا أرى التاخر إلا خيرًا لك"، فهذا عمر أمَر بالاجتهاد، فدلّ على أن الرأي الذي ذمّه: ما خالف الكتاب، أو السُّنَّة.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح، عن ابن مسعود، نحو حديث عمر، من رواية الشيبانيّ، وقال في آخره:"فإن جاءه ما ليس في ذلك، فليجتهد رأيه، فإن الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، فَدَعْ ما يريبك إلى ما لا يريبك". انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 17/ 190 - 191، كتاب "الاعتصام " رقم (7307).
(6) - (بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، أَو سَيِّئةً، وَمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، أَو ضَلَالَةٍ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6776]
(1017)
(1)
- (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيد، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ، قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَة، فَأَبْطَؤُوا عَنْهُ، حَتَّى رُئيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِه، قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الأنصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا، حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ) الْخَطْميّ -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة- الكوفيّ، ثقة [4](م د تم ق) تقدم في "الزكاة" 21/ 2354.
2 -
(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح -بالتصغير- الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطار، مشهور بكنيته، ثقة فاضل [4](ت 100)(ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.
3 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ الْعَبْسِيُّ) -بالموحّدة- الكوفيّ، ثقة [3](بخ م د س ق) تقدم في "الزكاة" 8/ 2298.
[تنبيه]: قوله: "الْعَبْسيّ" بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة، بعدها
(1)
هذا الرقم تقدّم.
سين مهملة: نسبة إلى عبْس بن بَغِيض بن ريث بن غَطَفان بن سعد بن قيس عيلان بن مُضر بن نِزار بن مَعَدّ بن عبدنان، قاله في "اللباب"
(1)
.
4 -
(جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن جابر الْبَجَليّ الصحابيّ المشهور مات رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 207.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه زهير، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، موسى بن عبد الله وأبي الضحى، عن عبد الرحمن بن هلال، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وكان جميلًا طويلًا، وقال جرير: ما جحبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسّم في وجهي، وقال عبد الملك بن عُمير: رأيت جرير بن عبد الله، وكأن وجهه شقة قمر، وقال له عمر بن الخطاب: يرحمك الله، نِعم السيّد كنت في الجاهليّة، ونِعم السيّد أنت في الإسلام
(2)
.
شرح الحديث:
(عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) الْبَجليّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ نَاسٌ) تقدّم أنه اسم وُضع للجمع، كالقوم، والرهط، وواحده إِنْسَانٌ، من غير لفظه، مشتقّ من نَاسَ يَنُوسُ: إذا تَدَلَّى، وتحرّك، فيُطلق على الجنّ والإنس، قال تعالى:{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)} ، ثم فَسَّر النّاس بالجنّ والإنس، فقال:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)} ، وسُمّي الجنّ نَاسًا كما سُمُّوا رجالًا، قال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6]، وكانت العرب تقول: رأيت نَاسًا من الجنّ، لكن غلب استعماله في الإنس، ويُصَغَّر النَّاسُ على نُوَيْسٍ، قاله الفيوميّ رحمه الله
(3)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 315.
(2)
"تهذيب التهذيب" 1/ 296.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 630.
(مِنَ الأَعْرَابِ) بفتح الهمزة: أهل البدو من العرب، الواحد أَعْرَابِيّ بالفتح أيضًا، وهو الذي يكون صاحب نُجْعَة، وارتياد للكلإ، وزاد الأزهريّ، فقال: سواء كان من العرب، أو من مواليهم، فمن نزل البادية، وجاور البادين، وظَعَن بِظَعْنهم، فهم أَعْرَابٌ، ومن نزل بلاد الرِّيف، واستوطن المدُن، والقرى العربية وغيرها، ممن ينتمي إلى العرب، فهم عَرَبٌ، وإن لم يكونوا فصحاء، ويقال: سُمُّوا عَربًا؛ لأن البلاد التي سكنوها تُسَمَّى العَرَبَاتَ، ويقال: العَرَبُ العَارِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان يَعْرُب بن قَحْطان، وهو اللسان القديم، والعَرَبُ المُسْتَعْرِبَةُ: هم الذين تكلموا بلسان إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- وهي لغات الحجاز، وما والاها، والعُرْبُ، وزانُ قُفْل لغة في العَرَب، ويُجمع العَرَبُ على أَعْرُبٍ، مثلُ زَمَن وأَزْمُن، وعلى عُرُبٍ بضمتين، مثل أَسَد وأسُد، قاله الفيوميّ رحمه الله
(1)
.
وتقدّم حديث جرير رضي الله عنه هذا في "كتاب الزكاة" مطوّلًا، وأوله: "كنّا في صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء قوم عُراةٌ، مُجتابي النِّمار، أو العباء، متقلّدي السوف، عامّتهم من مضر، بل كلّهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
" الحديث.
(إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَيْهِمُ الصُّوفُ) جملة في محل نصب على الحال من "ناس"، أو صفة بعد صفة، (فَرَأَى) صلى الله عليه وسلم (سُوءَ حَالِهِمْ، قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَة)؛ أي: احتياج إلى المساعدة، (فَحَثَّ)؛ أي: حرّض صلى الله عليه وسلم (النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ)؛ أي: على أن يتصدّقوا عليهم، (فَأَبْطَؤُوا)؛ أي: تأخّر الناس (عَنْهُ)؛ أي: عن تنفيذ ما أمرهم به، (حَتَّى رُئِيَ) بالبناء للمفعول، (ذَلِكَ)؛ أي: كراهة إبطائهم (فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) جرير رضي الله عنه: (ثُمَّ) بعد إبطائهم، ورؤية كراهة ذلك في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم، (إِن رَجُلًا) بكسر "إنّ" لوقوعها في الابتداء، ولم يُسمَّ هذا الرجل، كما سبق في "الزكاة". (مِنَ الأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ) بضمّ الصاد المهملة، وتشديد الراء: وعاء الدراهم، والدنانير، جمعها صُرَرٌ، مثل غرفة وغُرَف، وقوله:(مِنْ وَرِقٍ) بيان لـ "صُرّة"، و"الورق" بفتح الواو، وكسر الراء، وتسكّن
(1)
"المصباح المنير" 2/ 400.
للتخفيف: النُّقرة المضروبة، ومنهم يقول: النقرة مضروبة كانت، أو غير مضروبة، وقال الفارابيّ: الورق: المال من الدراهم، ويُجمع على أوراق
(1)
.
(ثُمَّ جَاءَ آخَرُ) لا يُعرف، (ثُمَّ تَتَابَعُوا)؛ أي: تبع بعضهم بعضًا في المجيء بشيء من المال، (حَتَّى عُرِفَ) بالبناء للمفعول، (السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ) صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية السابقة:"حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلّل كأنه مُذْهَبَةٌ". (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) حينما رأى ذلك: ("مَنْ سَنَ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً)؛ أي: من أتى بطريقة مرضيّة، يُقتدى به فيها، (فَعُمِلَ بِهَا) بالبناء للمفعول؛ أي: عمل الناس بتلك السُّنَّة (بَعْدَهُ)؛ أي: بعد إتيانه بها، سواء كان في حياته، أو بعد مماته، (كُتِبَ لَهُ) بالبناء للمفعول، (مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ) بفتح، فكسر، (بِهَا) وقوله:(وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ)"لا" نافية، و"ينقص" بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر، والجارّ والمجرور متعلّق به، و"شيء" مرفوع على الفاعليّة؛ لأن "ينقُص" هنا لازم، وهو مما يُستعمل لازمًا، ومتعدّيًا، يقال: نَقَصَ نَقْصًا، من باب قَتَلَ، ونُقْصَانًا، وانْتَقَصَ: ذهب منه شيءٌ بعد تمامه، ونَقَصْتُهُ، يتعدَّى، ولا يتعدَّى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القرآن في قوله:{نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41]، و {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109]، وفي لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة، والتضعيف، ولم يأت في كلام فصيح، ويتعدى أيضًا بنفسه إلى مفعولين، فيقال: نَقَصْتُ زيدًا حقَّه، وانْتَقَصْتُهُ مثله، قاله الفيوميّ رحمه الله
(2)
.
وفي رواية النسائيّ: بنصب "شيئًا"، فيكون من المتعديّ، والله تعالى أعلم. (وَمَنْ سَن فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيئَةً)؛ أي: من فعل فعلًا قبيحًا، والسُّنَّة السيّئة هي الطريقة المذمومة، وهي التي تُبتدع بعد تمام الدين على أنها منه، وهي الْمَعنيّة بقوله صلى الله عليه وسلم:"كل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"، (فَعُمِلَ) بالبناء للمفعول، (بِهَا بَعْدَهُ)؛ أي: فاقتدى الناس به في تلك السُّنَّة السيّئة، (كُتِبَ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ) بكسر، فسكون؛ أي: إثم (مَنْ عَمِلَ) بفتح، فكسر، (بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ") بالرفع على الفاعليّة،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 655.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 621.
والمعنى: أنهم يتحمّلون أوزار عملهم السيّئ كاملةً، وهو يتحمّل وزر تسبّبه في ذلك، والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم في "كتاب الزكاة" برقم [21/ 2351](1017) وقد استوفيت البحث فيه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6777]
(
…
) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ مُسْلِم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَحَثَّ عَلَى الصًّدَقَة، بِمَعْنَى حَدِيثِ جَرِيرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"مسلم" هو: ابن صُبيح، أبو الضحى. [تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:
(9802)
- حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن عبد الرحمن بن هلال العبسيّ، عن جرير، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحَثّنا على الصدقة، فأبطأوا، حتى رُئي في وجهه الغضب، ثم إن رجلًا من الأنصار، جاء بصُرّة، فأعطاها، فتتابع الناس، حتى رئي في وجهه السرور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من سنّ سُنَّة حسنةً، كان له أجرها، ومثل أجر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أجورهم شيئًا، ومن سنّ سُنَّة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئًا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6778]
(
…
) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هِلَالٍ الْعَبْسِيُّ،
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 2/ 350.
قَالَ: قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَسُنُّ عَبْدٌ سُنَّةً صَالِحَةً، يُعْمَلُ بِهَا بَعْدَهُ"، ثُمَّ ذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلَ) راشد السلميّ الكوفيّ، ثقةٌ [5](ت 142)(م د س) تقدم في "الزكاة" 8/ 2298.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية محمد بن أبي إسماعيل، عن عبد الرحمن بن هلال الْعَبْسيّ هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "المعجم الكبير"، فقال:
(2441)
- حدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدّد، ثنا يحيى بن سعيد (ح) وحدّثنا أبو حصين القاضي، ثنا يحيى الْحِمّانيّ، ثنا عليّ بن مُسهر، قالا: ثنا محمد بن أبي إسماعيل، ثنا عبد الرحمن بن هلال الْعَبْسيّ، قال: قال جرير بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَسُنّ العبد سُنَّة صالحة، يُعمل بها بعده، إلا كان له مثل أجر من يَعمل بها، لا ينقص من أجورهم شيءٌ، ولا يستنّ عبد سُنَّة سيئة، يُعمل بها بعده، إلا كان عليه مثل وزر من يعمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيءٌ"، وأتى ناس من الأعراب، فقالوا: يأتينا مُصَدِّقوك، فيظلموننا، قال:"أَرْضُوا مصدِّقيكم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6779]
(
…
) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْر، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثنَا أَبِي، قَالُوا: حَدَّثنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).
(1)
"المعجم الكبير" 2/ 344.
رجال هذا الإسناد: سبعة عشر:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) هو: عبيد الله بن عمر بن ميسرة، أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصحّ، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.
2 -
(أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن أبي الشوَارب الأمويّ البصريّ، واسم أبي الشوارب: محمد بن عبد الرحمن بن أبي عثمان، صدوقٌ، من كبار [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.
4 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وضّاح بن عبد الله اليشكريّ الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الكوفيُّ، ويقال له: الْفَرَسيّ -بفتح الفاء، والراء، ثم سين مهملة- نسبة إلى فَرَس له سابقٍ، كان يقال له الْقَبطيّ -بكسر القاف، وسكون الموحّدة-، وربما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقة، فصيحٌ فقيهٌ، تغيّر حفظه، وربما دَلَّس [4](ت 136) وله مائة وثلاث سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.
6 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذِ) بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
7 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
8 -
(عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ) وهبِ بنِ عبد الله السُّوائيّ -بضم السين المهملة- الكوفيّ، ثقةٌ [4](116)(ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.
9 -
(الْمُنْذِرُ بْنُ جَرِيرِ) بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، ثقة
(1)
[3](م د س ق) تقدم في "الزكاة" 21/ 2351.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
(1)
هو الأَولى مما قاله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم، ووثقه ابن حبّان، والذهبيّ في "الكاشف"، ولا يُعلم فيه جرح لأحد، فتنبّه.
[تنبيه]: أما رواية عبد الملك بن عُمير، عن المنذر بن جرير عن أبيه، فقد قدّمت من ساقها في "كتاب الزكاة" برقم [21/ 2351](1017).
وأما رواية عون بن أبي جُحيفة عن المنذر بن جرير، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19197)
- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عون بن أبي جحيفة،
عن المنذر بن جرير، عن أبيه، قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار،
قال: فجاءه قوم حُفاة عُراة، مُجتابي النمار، أو العباء، متقلدي السيوف، عامّتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى بهم من الفاقة، قال: فدخل، ثم خرج، فأمر بلالًا، فأَذَّن، وأقام، فصلى، ثم خطب، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1]-إلى آخر الآية- {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وقرأ الآية التي في الحشر:{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، تَصَدَّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره -حتى قال- ولو بشق تمرة"، قال فجاء رجل من الأنصار بصُرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس، حتى رأيت كُومين من طعام، وثياب، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه؛ يعني كأنه مُذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سُنَّة سيئة، كان عليه وِزرها، ووِزر من عمل بها بعده، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء". انتهى
(1)
.
[تنبيه]: قد تقدّم في "الزكاة" أن قلت في هذه الرواية: لم أجد من ساقها بتمامها، والآن -بحمد الله تعالى وفضله- وجدت ذلك، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6780]
(2674) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 358.
هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم -قَالَ:"مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا").
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ دَعَا إِلى هُدًى)؛ أي: إلى ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، ونَكَّره؛ ليشيع، فيتناول الحقير، كإماطة الأذى عن الطريق
(1)
.
قال الطيبيّ رحمه الله: الْهُدَى: إما الدلالة الموصلة إلى البُغية، أو مطلق الإرشاد، والمراد في هذا الحديث: ما يُهْتَدَى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسب التنكير مطلق شائعٌ في جنس ما يقال له: هُدًى، يُطلق على القليل والكثير، والعظيم، والحقير، فأعظمه هُدَى مَن دعا إلى الله، وعَمِل صالِحًا، وقال: إني من المسلمين، وأدناه هُدَى من دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المسلمين، ومن ثَمّ عَظُم شأن الفقيه الداعي المثذر حتى فُضّل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نَفْعه يعمّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدين، ونرجو من رحمة الله وكرمه أن يكون سعينا في هذا الكتاب منتظمًا في هذا السلك، ويرحم الله عبدًا قال: آمين. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: آمين آمين آمين.
(كَانَ لَهُ)؛ أي: لذلك الداعي (مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ) فعمل بدلالته، أو امتثل أمره، (لَا يَنْقُصُ) بضمّ القاف، من باب نصر، (ذَلِكَ) قال القاري رحمه الله: إشارة إلى مصدر "كان"، كذا قيل: والأظهر أنه راجع إلى الأجر. (مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا) قال ابن الملك: هو مفعول به، أو تمييز؛ بناءً على أن النقص يأتي لازمًا، ومتعدّيًا. انتهى، وتعقّبه القاري، فقال: والظاهر أن "شيئًا" مفعول به؛ أي: شيئًا من أجورهم، أو مفعول مطلق؛ أي: من النقص. انتهى
(2)
.
وهذا دَفع لِمَا يُتَوهَّم أن أجر الداعي إنما يكون مِثْلًا بالتنقيص من أجر
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 2/ 61.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 1/ 394.
التابع، وبضم أجر التابع إلى أجر الداعي، وضمير الجمع في "أجورهم" راجع إلى "مَنْ" باعتبار المعنى.
وإنما استَحَقَّ الداعي إلى الهدى ذلك الأجر؛ لكون الدعاء إلى الهدى خَصْلة من خصال الأنبياء رضي الله عنه
(1)
.
(وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ)؛ أي: من أرشد غيره إلى فعل إثم، وإن قلّ، أو أمَره به، أو أعانه عليه، (كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ) لتولّده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان، والعبد يستحق العقوبة على السبب، وما تولّد منه، كما يعاقب السكران على جنايته حال سُكره؛ لِمَنْع السبب، فلم يُعذَر السكران، فإن الله يعاقب على الأسباب المحرّمة، وما تولّد منها، كما يثيب على الأسباب المأمور بها، وما تولّد منها، ولذا كان على قابيل القاتل لأخيه كِفْل من ذَنْب كل قاتل؛ لأنه أول من سنّ القتل، كما في الحديث
(2)
. (لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا") قال القاضي البيضاويّ: أفعال العباد، وإن لم تكن موجبة للثواب والعقاب، إلا أن عادة الله سبحانه وتعالى جرت بربطها بها ارتباطَ المسبَّبات بالأسباب، وفِعل العبد ما له تأثير في صدوره بوجه، فكما يترتب الثواب والعقاب على ما يباشره يترتب أيضًا على ما هو مسبَّب عن فعله، كالإشارة إليه، والحثّ عليه، وَلَمّا كانت الجهة التي استوجب بها المتسبّب الأجر غير الجهة التي استوجب بها المباشِر، لم ينقص أجره من أجره شيئًا. انتهى.
قال القاري: وبهذا يُعلم أن للنبيّ صلى الله عليه وسلم من مضاعفة الثواب بحَسَب تضاعُف أعمال أمته مما لا يُعَدّ، ولا يُحَدّ، وكذا السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكذا بقية السلف بالنسبة إلى الخلف، وكذا العلماء المجتهدون بالنسبة إلى أتباعهم، وبه يُعرف فضل المتقذمين على المتأخرين في كل طبقة وحين.
[تنبيه]: قال ابن حجر: لو تاب الداعي للإثم، وبقي العمل به، فهل
(1)
"عون المعبود" 12/ 236.
(2)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 2/ 61.
ينقطع إثم دلالته بتوبته؛ لأن التوبة تجبّ ما قبلها، أو لا؟ لأن شرطها ردّ الظلامة، والإقلاعُ، وما دام العمل بدلالته موجودًا فالفعل منسوب إليه، فكأنه لم يردّ، ولم يُقلع، كل مُحْتَمِلٌ، ولم أر في ذلك نقلًا، والمنقدح الآن الثاني. انتهى.
وتعقّبه القاري، فقال: والأظهر الأول، وإلا فيلزم أن نقول بعدم صحة توبته، وهذا لم يقل به أحد، ثم ردّ المظالم مقيدٌ بالممكن، وإقلاع كل شيء بحسبه حتمًا، وأيضًا استمرار ثواب الأتباع مبنيّ على استدامة رضا المتبوع به، فإذا تاب، ونَدِم انقطع، كما أن الداعي إلى الهدى إن وقع في الردى -نعوذ بالله منه- انقطع ثواب المتابعة له، وأيضًا كان كثير من الكفار دُعاةً إلى الضلالة، وقُبِل منهم الإسلام؛ لِمَا أن الإسلام يَجُبّ ما قبله، فالتوبة كذلك، بل أقوى، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله القاري هو الذي يظهر لي؛ لوضوح حجّته، وأستنار محجّته.
وخلاصته: أن من تاب من الدعاء إلى الإثم، وحَسُنت توبته، لا يُشترط ترك المدعوّين تلك الضلالة، ولكن ينبغي له أن يقوم بدعوتهم إلى الهدى، كما دعاهم إلى الضلالة، إن استطاع ذلك، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6780](2674)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4609)، و (الترمذيّ) في "العلم"(2674)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(206)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 397)، و (الدارميّ) في "سننه"(1/ 130 و 131)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(112)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(109)، والله تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 2/ 27.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ والتحريض على الدعوة إلى الخيرات، وسَنّ السنن الحسنات.
2 -
(ومنها): التحذير من الدعوة إلى البدع والخرافات التي لا يؤيّدها دليلٌ شرعيّ، بل يردّها ويُبطلها، قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث، وحديث جرير المتقدّم صريحان في الحثّ على استحباب سنّ الأمور الحسنة، وتحريم سَنّ الأمور السيّئة، وأن من سن سُنَّة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنَّة سيئة كان عليه مثل وِزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم، أو عبادة، أوأدب، أو غير ذلك. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن بعض الأعمال لا ينقطع ثوابها، وكذا أوزارها، وهي التي تكون سببًا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحًا للخير، لا مفتاحًا للشرّ، وقد أخرج ابن ماجه في "سننه" من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الخير خزائن، ولتلك الخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحًا للخير، مِغْلاقًا للشر، وويل لعبد جعله الله مِفتاحًا للشرّ، مِغلاقًا للخير"
(2)
.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا الحديث أبلغ شيء في فضل تعليم العلم اليوم، والدعاء إليه، وإلى جميع سبل الخير والبرّ
(3)
.
5 -
(ومنها): ما قاله بعضهم: إن في هذا الحديث وحديث: "من سنّ سُنَّة حسنةً إلخ" المتقدم ما يدلّ على أن كل أجر حصل للدالّ والداعي حصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم مثله زيادةً على ما له من الأجر الخاصّ من نفسه على دلالته، أو
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 226 - 227.
(2)
حسنه الشيخ الألبانيّ في "الصحيحة" 3/ 320 - 321 رقم (1332).
(3)
"تنوير الحوالك" 1/ 170.
هدايته للمهتدي، وعلى ما له من الأجور على حسناته الخاصّة من الأعمال، والمعارف، والأجور التي لا تصل جميع أمته إلى عَرْف نَشْرها، ولا يبلغون عُشر عشرها، وهكذا نقول: إن جميع حسناتنا، وأعمالنا الصالحة، وعبادات كل مسلم مسطّرة في صحائف نبينا صلى الله عليه وسلم زيادةً على ما له من الأجر، ويحصل له من الأجور بعدد أمته أضعافًا مضاعفةً، لا تحصى، يقصر العقل عن إدراكها؛ لأن كل عالم، ودالّ، يحصل له أجر إلى يوم القيامة، ويتجدد لشيخه في الهداية مثل ذلك الأجر، ولشيخ شيخه مثلاه، وللشيخ الثالث أربعة، والرابع ثمانية، وهكذا تضعف في كل مرتبة بعدد الأجور الحاصلة قبله إلى أن ينتهي إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ إذا فرضت المراتب عشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبيّ صلى الله عليه وسلم ألفين وثمانية وأربعين، وهكذا كل ما زاد واحدًا يتضاعف ما كان قبله أبدًا إلى يوم القيامة، وهذا أمر لا يحصره إلا الله، فكيف إذا أُخذ مع كثرة الصحابة والتابعين والمسلمين في كل عصر، وكل واحد من الصحابة يحصل له بعدد الأجور الذي ترتّبت على فِعله إلى يوم القيامة، وكل ما يحصل لجميع الصحابة حاصل بجملته للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه يظهر رجحان السلف على الخلف، وأنه كلما ازداد الخلف ازداد أجر السلف، وتضاعف، ومن تأمل هذا المعنى، ورُزق التوفيق انبعثت همته إلى التعليم، ورَغِب في نشر العلم؛ ليتضاعف أجره في الحياة، وبعد الممات على الدوام، ويكفّ عن إحداث البدع، والمظالم، من المكوس وغيرها، فإنها تضاعف عليه السيئات بالطريق المذكور، ما دام يعمل بها عامل، فليتأمل المسلم هذا المعنى، وسعادة الدالّ على الخير، وشقاوة الدالّ على الشرّ. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
* * *
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" 6/ 127.
(50) - (كِتَاب الذِّكْر، وَالدُّعَاء، وَالتَّوْبَةِ)
أما "الذّكْرُ" بالكسر: فقال المجد رحمه الله: هو الحِفْظُ للشيء، كالتَّذْكار، والشيءُ يَجْري على اللسان، والصِّيتُ، كالذُّكْرَةِ بالضم، والثَّناءُ، والشرفُ، والصلاةُ للهِ تعالى، والدُّعاءُ، والكتابُ فيه تفصيلُ الدِّينِ. انتهى
(1)
.
وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: الذّكر: تارة يقال، ويراد به هيئة للنفس، بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ، إلا أن الحفظ يقال اعتبارًا بإحرازه، والذِّكر يقال اعتبارًا باستحضاره، وتارةً يقال لحضور الشيء القلب، أو القول، ولذلك قيل: الذّكر ذِكران:
ذِكر بالقلب، وذِكر باللسان، وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان، وذكر لا عن نسيان، بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له: ذكر، فمن الذكر باللسان قوله تعالى:{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]، وقوله تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]، وقوله:{هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} [الأنبياء: 24]، وقوله:{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] أي: القرآن، وقوله تعالى:{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} [ص: 1]، وقوله:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]؛ أي: شرف لك، ولقومك، وقوله:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] أي: الكتب المتقدمة. وقوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا} [الطلاق: 10، 11]، فقد قيل: الذكر ها هنا وَصْف للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن عباس، أخرجه عنه ابن مردويه
(2)
، كما أن الكلمة وصف لعيسى عليه السلام من حيث إنه بُشِّر به في الكتب المتقدمة، فيكون قوله: رَسُو، بدلًا منه، وقيل:{رَسُولًا} منتصب بقوله: {ذِكْرًا} كأنه قال: قد أنزلنا إليكم كتابًا ذكرًا
(1)
"القاموس المحيط" ص 507.
(2)
راجع: "الدر المنثور" 8/ 209.
رسولًا يتلو، قال: ومن الذكر عن النسيان قوله: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، ومن الذكر بالقلب واللسان معًا قوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوأَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وقوله:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، وقوله:{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [الأنبياء: 105]؛ أي: من بعد الكتاب المتقدم.
وقوله: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]؛ أي: ذِكر الله لعبده أكبر من ذِكر العبد له، وذلك حثّ على الإكثار من ذكره. والذكرى: كثرة الذكر، وهو أبلغ من الذكر، قال تعالى:{رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43]، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55]، في آي كثيرة. انتهى كلام الراغب رحمه الله باختصار
(1)
.
وأما الدعاء، فهو الرغبة إلى الله تعالى، يقال: دعا دُعاء بالضمّ، ودَعْوَى بالفتح والقصر، أفاده المجد
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: دعوت الله دعاءً: ابتَهَلت إليه بالسؤال، ورغِبت فيما عنده من الخير
(3)
.
وقال الراغب رحمه الله: الدعاء كالنداء، إلا أن النداء قد يقال بيا، أو أيا، ونحو ذلك من غير أن يُضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم، نحو: يا فلان، وقد يُستعمل كل واحد منهما موضع الآخر. قال تعالى:{كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} [البقرة: 171]، ويستعمل استعمال التسمية، نحو: دعوت ابني زيدًا؛ أي: سمّيته، قال تعالى:{لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]، حثًّا على تعظيمه، وذلك مخاطبة من كان يقول: يا محمد، ودعَوْتُه: إذا سألته، وإذا استغثته، قال تعالى:{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} [البقرة: 68]؛ أي: سَلْه، وقال:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوأَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)}
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 1/ 328 - 329.
(2)
"القاموس المحيط" ص 434.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 194.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: 40، 41]، تنبيهًا أنكم إذا أصابتكم شدّة لم تفزعوا إلا إليه. انتهى كلام الراغب رحمه الله
(1)
.
وأما التوبة: فهي الرجوع، يقال: تاب من ذنبه يتوب توبًا، وتوبةً، ومتابًا: أقلع، وقيل: التوبة هي التوب، ولكن الهاء لتأنيث المصدر، وقيل: التوبة واحدة، كالضربة، فهو تائبٌ، وتاب الله عليه: غفر له، وأنقذه من المعاصي، فهو توّابٌ مبالغةٌ، واستتابه: سأله أن يتوب، قاله الفيوميّ رحمه الله
(2)
.
وقال الراغب رحمه الله: التوب: تَرْك الذَّنْب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت، وأسأت، وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع: تَرْك الذَّنْب لِقُبحه، والندم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارُك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة. وتاب إلى الله، فذِكْر "إلى الله" يقتضي الإنابة، نحو:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} [النور: 31] {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة: 74]، وتاب الله عليه؛ أي: قَبِل توبته، منه:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} [التوبة: 117]، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187].
والتائب يقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى الله، والله تائب على عبده.
والتواب: العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركًا لجميعه، وقد يقال ذلك لله تعالى لكثرة قبوله توبة العباد حالًا بعد حال. وقوله:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71]؛ أي: التوبة التامة، وهو الجمع بين ترك القبيح
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 1/ 315.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 78.
وتحرّي الجميل. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 54]. انتهى كلام الراغب رحمه الله
(1)
.
(1) - (بَابُ الْحَثِّ عَلَى ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6781]
(2675) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ- قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ. عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُني، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتانِي يَمْشِي، أتيْتُهُ هَرْوَلَةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(قتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم في الحديث الماضي.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
4 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر في الحديث الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، أحفظ من روى الحديث في دهره.
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 1/ 169.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)؛ أي: أنا قادر على أن أعمل به ما ظنّ أني عامل به.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف
(1)
، قال الحافظ رحمه الله: وكأنه أخذه من جهة التسوية، فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف؛ لأنه لا يختاره لنفسه، بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال أهل التحقيق: مقيَّد بالمحتضِر، ويؤيد ذلك حديث:"لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله"، وهو عند مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، وأما قبل ذلك ففي الأَولى أقوال، ثالثها الاعتدال.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: المراد بالظن هنا: العلم، وهو كقوله:{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "المفهم": قيل: معنى "ظن عبدي بي": ظن الإجابة عند الدعاء، وظن القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها، تمسّكًا بصادق وَعْده، وجزيل فضله، قال: ويؤيده قوله في الحديث الآخر: "ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة". قال: وكذلك ينبغي للتائب، والمستغفر، والعامل أن يجتهد في القيام بما عليه من ذلك موقنًا بأن الله يقبل عمله، ويغفر ذنبه؛ فإن الله تعالى قد وعد بقبول التوبة الصادقة، والأعمال الصالحة، وهو لا يُخلف الميعاد، فإن اعتقد، أو ظن أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس من رحمة الله، وهو من الكبائر، ومن مات على ذلك وُكِل إلى ما ظَنّ كما في بعض طرق الحديث المذكور:"فليظنّ بي عبدي ما شاء"
(3)
، قال: وأما ظن المغفرة مع الإصرار، فذلك محض الجهل، والغِرّة، وهو يجرّ إلى مذهب المرجئة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الكيّس من دان نفسه، وعمِل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها،
(1)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 25/ 118.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 275.
(3)
رواه أحمد، وصححه ابن حبّان.
وتمنّى على الله"
(1)
، والظنّ تغليب أحد المجوَّزين بسبب يقتضي التغليب، فلو خلا عن السبب المغلِّب لم يكن ظنًّا، بل غِرّةً وتمنّيًا. انتهى
(2)
.
(وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي) قال القرطبيّ رحمه الله: أصل الذكر: التنبه بالقلب للمذكور، والتيقظ له، ومنه قوله:{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40]؛ أي: تذكّروها، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها" متّفقٌ عليه؛ أي: إذا تذكّرها بقلبه، وهو في القرآن كثير، وسمّي القول باللسان ذكرًا؛ لأنَّه دلالة على الذكر القلبيّ، غير أنه قد كَثُر اسم الذكر على القول اللسانيّ حتى صار هو السابق للفهم، وأصلُ "مَعَ": الحضور، والمشاهدة، كما قال تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وكما قال:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] أي: مطّلع عليكم، ومحيط بكم، وقد ينجرّ مع ذلك الحفظ والنصر، كما قيل في قوله تعالى:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ؛ أي: أحفظكما ممن يريد كيدكما.
وإذا تقرر هذا، فيمكن أن يكون معنى:"وأنا معه إذا ذكرني": أن من ذَكر الله تعالى في نفسه مفرّغةً مما سواه، رفع الله عن قلبه الغفلات، والموانع، وصار كأنه يرى الله تعالى، ويشاهده، وهي الحالة العليا التي هي: أن تذكر الله كأنك تراه، فإن لم تصل إلى هذه الحالة، فلا أقلّ من أن يذكره، وهو عالم بأن الله يسمعه، ويراه، ومن كان هكذا كان الله له أنيسًا إذا ناجاه، ومجيبًا إذا دعاه، وحافظًا له من كل ما يتوقّعه ويخشاه، ورفيقًا به يوم يتوفاه، ومُحِلًّا له من الفردوس أعلاه. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وأنا معه إذا ذكرني"؛ أي: بعلمي، وهو كقوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] والمعية المذكورة أخصّ من المعية التي في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} - إلى قوله -: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُو} [المجادلة: 7].
وقال ابن أبي جمرة: معناه: فأنا معه حَسَب ما قصد من ذِكره لي، قال:
(1)
رواه الترمذيّ، وحسّنه.
(2)
"المفهم" 7/ 5 - 6.
(3)
"المفهم" 7/ 6 - 7.
ثم يَحْتَمِل أن يكون الذكر باللسان فقط، أو بالقلب فقط، أو بهما، أو بامتثال الأمر، واجتناب النهي، قال: والذي تدلّ عليه الأخبار أن الذكر على نوعين: أحدهما: مقطوع لصاحبه بما تضمّنه هذا الخبر، والثاني: على خطر، قال: والأول يستفاد من قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة: 7]، والثاني من الحديث الذي فيه:"من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعْدًا"
(1)
، لكن إن كان في حال المعصية يذكر الله بخوف ووَجَل مما هو فيه، فإنه يرجى له. انتهى
(2)
.
(إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي)؛ أي: إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًّا، ذكرته بالثواب والرحمة سرًّا.
وقال ابن أبي جمرة
(3)
: يَحْتَمِل أن يكون مثل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ومعناه: اذكروني بالتعظيم، أذكركم بالإنعام، وقال تعالى:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]؛ أي: أكبر العبادات، فمَن ذَكره، وهو خائف آمنه، أو مستوحشٌ آنسه، قال تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ذكرته بالإنعام" الحقّ أن ذكر الله تعالى لعبد على ظاهره، فهو سبحانه وتعالى إذا ذكره عبده في نفسه، ذكره هو في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير من ملئه، ذكرًا حقيقيًّا، لا مجازيًّا، فتأويل "ذَكَر" بالإنعام صَرْف وتأويل لمعنى ذِكر الله تعالى لعبده إلى لازمه، فلا يصحّ، فتنبّه، وسيأتي قريبًا زيادة تحقيق لذلك -إن شاء الله تعالى -.
وقال القرطبيّ: قوله: "في نفسي": النفس: اسم مشترَك، يُطلق على نفس الحيوان، وهي المتوفاة بالموت والنوم، ويُطلق ويراد به الدم، والله تعالى منزه عن ذينك المعنيين، ويُطلق، ويراد به ذات الشيء، وحقيقته، كما يقال: رأيت زيدًا نفسه، عينه؛ أي: ذاته، وقد يطلق، ويراد به الغيب، كما قد قيل
(1)
قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: ضعيف جدًّا، وقال في موضع آخر: باطل. "الضعيفة" 1/ 54.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 276.
(3)
"بهجة النفوس" 4/ 276.
(4)
"الفتح" 17/ 356، كتاب "التوحيد" رقم (7405).
في قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116]؛ أي: ما في غيبك، والأليق بهذا الحديث أن يكون معناه: أن من ذَكر الله تعالى خاليًا منفردًا بحيث لا يطّلع أحد من الخليقة على ذكره، جازاه الله على ذلك بأن يذكره بما أعدّ له من كرامته التي أخفاها عن خليقته، حتى لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، وقد قلنا: إن التسليم هو الطريق المستقيم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: كلام القرطبيّ هذا من جنس ما قبله، فالحقّ كما قال هو في آخر كلامه: إن التسليم هو الطريق المستقيم، أن نسلّم أن الله تعالى له نَفْس، لا كنفس المخلوقات، بل على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فإذا ذكره عبده في نفسه ذكره في نفسه ذكرًا حقيقيًّا، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ) بفتح الميم واللام مهموزًا: الجماعة، قال الفيّوميّ رحمه الله: الملأ: مهموزًا: أشراف القوم، سُمّوا بذلك لملاءتهم بما يُلتمَس عندهم، من المعروف، وجَودة الرأي، أو لأنهم يملؤون العيون أُبّهةً، والصدور هيبةً، والجمع: أملاء، مثلُ سبب وأسباب. انتهى
(1)
.
(ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن من يذكره في ملأ من الناس، ذكًره الله تعالى في ملأ من الملائكة؛ أي: أثنى عليه، ونوّه باسمه في الملائكة، وأمر جبريل أن ينادي بذكره في ملائكة السماوات، كما تقدَّم، وهو ظاهرٌ في تفضيل الملائكة علي بني آدم، وهو أحد القولين للعلماء. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قال بعض أهل العلم: يستفاد منه أن الذكر الخفيّ أفضل من الذكر الجهريّ، والتقدير: إن ذكرني في نفسه ذكرته بثواب، لا أُطْلِع عليه أحدًا، وإن ذكرني جهرًا ذكرته بثواب أُطْلِع عليه الملأ الأعلى. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "ذكرته بثواب إلخ" هو من جنس ما سبق
(1)
"المصباح المنير" 2/ 580.
(2)
"المفهم" 7/ 7 - 8.
(3)
"الفتح" 17/ 356.
من التأويل، فلا تلتفت إليه، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا) بكسر الشين المعجمة، وسكون الموحّدة: ما بين طرفي الخنصرِ والإبهام بالتفريج المعتاد، والجمع أشبار، مثلُ حِمْل وأَحمال، والبُصْمُ بضم الباء الموحّدة، وسكون الصاد المهملة: ما بين الخنصر والبنصر، والْعَتَبُ بعين مهملة، وتاء مثناة من فوقُ، ثم باء موحّدةٌ، وزانُ سبب: ما بين الوسطى والسبابة، ويقال: هو جَعْلك الأصابع الأربع مضمومةً، والفِتْرُ: ما بين السبابة والإبهام، والفَوْتُ: ما بين كل إصبعين طولًا، والوَضِيم بالضاد المعجمة، وزانُ أمير: ما بين البنصر والوسطى، وشَبَرْتُ الشيءَ شَبْرًا، من باب قتل: قِستُهُ بالشِّبْر، وكم شَبْرُ ثوبك؟ بالفتح؛ إذا سألت عن المصدر، قاله الفيوميّ رحمه الله
(1)
.
(تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا) بكسر الذال المعجمة: اليد من كل حيوان، لكنها من الإنسان من الْمِرْفق إلى أطراف الأصابع، وهو مؤنّث، وبعض العرب يذكّره، وهو شاذّ
(2)
.
(وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا) قال أبو حاتم السجستانيّ: هو مذكّر، يقال: هذا باعٌ، وهو مسافة ما بين الكفّين إذا بسطتهما يمينًا وشمالًا. انتهى
(3)
.
وقال الخطابيّ: البدع معروف، وهو قدر مَدّ اليدين، وأما البوع بفتح الموحّدة، فهو مصدر باع يبوع بَوْعًا، قال: ويَحْتَمِل أن يكون بضم الباء، جَمْع باع، مثل دار ودُور.
قال الحافظ: وأغرب النوويّ، فقال: البدع، والبُوع، والبَوْع بالضم، والفتح، كله بمعنًى، فإن أراد ما قال الخطابيّ، وإلا لم يصرّح أحد بأن البوع بالضم والباع بمعنى واحد.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لم يصرح أحد إلخ فيه نظر لا يخفى،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 302 - 303.
(2)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 207 - 208.
(3)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 66.
فقد ذكر صاحب "القاموس""الْبُوْع" فيه الفتح، والضمّ، ووافقه شارحه المرتضى، حيث قال: البَاعُ: قَدرُ مَدِّ اليَدَيْن، ومَا بَيْنَهُمَا من البَدَن، كالبَوْعِ -أي: بالفتح- ويُضَمُّ، الأَخِيرَةُ هُذَلِيَّة، قال أَبُو ذُؤيبٍ [من الطويل]:
فلَوْ كانَ حَبْلًا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً
…
وخَمْسِينَ بُوعًا نَالَهَا بالأَنَامِلِ
(1)
والحاصل: أن ما قاله النوويّ صحيح.
وقال الباجيّ: البدع طُول ذراعي الإنسان، وعضديه، وعَرْض صدره، وذلك قَدْر أربعة أذرع، وهو من الدواب قدر خطوها في المشي، وهو ما بين قوائمها. انتهى
(2)
.
(وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي) من باب رمى يرمي، يقال: مشى يمشي مَشْيًا: إذا كان على رجليه سريعًا كان، أو بطيئًا
(3)
. (أتيْتُهُ هَرْوَلَةً") يقال: هَرْول هرولةً: إذا أسرع في مشيه دون الْخَبَب، ولهذا يقال: هو بين المشي والْعَدْو، وجعل جماعة الواو أصلًا
(4)
،
قال ابن بطال: وصَف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصَف العبد بالتقرب إليه، ووصَفه بالإتيان والهرولة، كل ذلك يَحْتَمِل الحقيقة والمجاز، فحَمْلها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات، وتداني الأجسام، وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعيَّن المَجاز؛ لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرًا وذراعًا، وإتيانه، ومشيه معناه: التقرب إليه بطاعته، وأداء مفترضاته، ونوافله، ويكون تقرّبه سبحانه من عبده، وإتيانه، والمشي: عبارة عن إثابته على طاعته، وتقرّبه من رحمته، وبكون قوله:"أتيته هرولةً"؛ أي: أتاه ثوابي مسرعًا، ونَقَل عن الطبريّ أنه إنما مَثَّل القليل من الطاعة بالشبر منه، والضعف من الكرامة، والثواب بالذراع، فجعل ذلك دليلًا على مبلغ كرامته لمن أدمن على طاعته، أن ثواب عمله له على عمله الضعف، وأن الكرامة مجاوزة حدّه إلى ما يثيبه الله تعالى.
(1)
"تاج العروس" ص 5115.
(2)
"الفتح" 17/ 586، كتاب "التوحيد" رقم (7536).
(3)
"المصباح المنير" 2/ 574.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 637.
وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَو أَدْنَى (9)} [النجم: 9] فإن المراد به: قُرب الرتبة، وتوفير الكرامة، والهرولة كناية عن سرعة الرحمة إليه، ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر، قال: والهرولة ضَرْب من المشي السريع، وهي دون الْعَدْو.
وقال صاحب "المشارق": المراد بما جاء في هذا الحديث: سرعة قبول توبة الله للعبد، أو تيسير طاعته، وتقويته عليها، وتمام هدايته، وتوفيقه، والله أعلم بمراده.
وقال الراغب: قُرب العبد من الله التخصيص بكثير من الصفات التي يصح أن يوصف الله بها، وإن لم تكن على الحدّ الذي يوصف به الله تعالى، نحو الحكمة، والعلم، والحلم، والرحمة، وغيرها، وذلك يحصل بإزالة القاذورات المعنوية، من الجهل، والطيش، والغضب، وغيرها، بقدر طاقة البشر، وهو قُرب روحانيّ لا بدنيّ، وهو المراد بقوله:"إذا تقرب العبد مني شبرًا تقربت منه ذراعًا". انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ: قوله: "وإن تقرّب إليّ شبرًا إلخ" هذه كلّها أمثالٌ ضُربت لمن عَمِل عملًا من أعمال الطاعات، وقَصَد به التقرّب إلى الله تعالى، تدلّ على أن الله تعالى لا يُضيع عمل عامل، وإن قل، بل يقبله، ويجعل له ثوابه مضاعفًا، ولا يَفهَم من هذا الحديث الْخُطا: نقلَ الأقدام إلا من ساوى الْحُمُر في الأفهام.
[فإن قيل]: مقتضى ظاهر هذا الخطاب أن من عمل حسنة جوزي بمثليها، فإنَّ الذراع: شبران، والباع: ذراعان، وقد تقرر في الكتاب والسُّنَّة أن أقلّ ما يُجازَى على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لا تحصى، فكيف وجه الجمع؟.
[قلنا]: هذا الحديث ما سيق لبيان مقدار الأجور، وعدد تضاعيفها، وإنما سيق لتحقيق أن الله تعالى لا يُضيّع عمل عامل قليلًا كان أو كثيرًا، وأن الله تعالى يُسرع إلى قبوله، وإلى مضاعفة الثواب عليه إسراع من جيء إليه
(1)
"الفتح" 17/ 584 - 585، كتاب "التوحيد" رقم (7536).
بشيء، فبادِر لِأَخْذه، وتبشبش له بشبشة من سُرّ به، ووقع منه الموقع، ألا ترى قوله:"وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، وفي لفظ آخر:"أسرعت إليه"، ولا تتقدّر الهرولة والإسراع بضعفي المشي، وأما عدد الأضعاف، فيؤخذ من موضع آخر، لا من هذا الحديث، والله أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن ما تضمّنه هذا الحديث من ذِكر التقرّب، والمشي، والهرولة على ظاهره حسبما يقتضيه سياق الكلام، ومعلوم أن المشي المضاف للعبد، والهرولة المضافة إلى الله سبحانه وتعالى ليس المراد به قطع المسافة، بل مزيد التقرّب.
والحاصل: أن الله سبحانه وتعالى يتقرّب من عبده متى شاء، وكيف شاء، وذلك مما يدلّ عليه اسمه "القريب"، فهو سبحانه وتعالى قريبٌ من داعيه، وعابديه، ويقرّب من يشاء من عباده، وهذا لا يُشْكِل على مذهب أهل السُّنَّة والجماعة القائلين بمباينة الله عز وجل لخلقه، وأن بعض خَلْقه أقرب إليه من بعض، وإنما يُنكر ذلك، ويستشكله نفاة علوّ الله تعالى من الأشاعرة وغيرهم
(1)
، فافهم الحقيقة، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6781 و 6782 و 6783](2675)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7537 و 7405) وفي "خلق أفعال العباد"(ص 85)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3603)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 412)، و (ابن ماجه) في "الأدب"(3822)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 251 و 413 و 516 و 517 و 524 و 534 و 535)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(376 و 811 و 812)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(2/ 413)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع ما كتبه الشيخ البرّاك على هامش: "الفتح" 17/ 584 - 585، كتاب "التوحيد" رقم (7536).
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات القول لله تعالى، وأنه يتكلّم إذا شاء بما شاء، ويكلّم من شاء إذا شاء.
2 -
(ومنها): إثبات النَّفْس لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
3 -
(ومنها): بيان أن الجزاء من جنس العمل.
4 -
(ومنها): بيان فضل الله تعالى، وعظيم كرمه على عباده حيث يجزيهم بضُعْفَي ما عملوا، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
5 -
(ومنها): أن الشيخ البراك كتب تحقيقًا نفيسًا عند قول صاحب "الفتح": "ذكرته في نفسي": ذكرته بالثواب والرحمة سرًّا، ونقل عن ابن أبي جمرة في قوله:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} : أذكركم بالإنعام، فقال البرّاك: والذكر من حيث هو يكون بالقول والفعل، وهو في مثل هذا السياق أظهر في القول، بل حَمْله عليه في هذا الحديث متعيّن؛ لقوله: "في نفسه
…
في نفسي"، وقوله: "في ملأ
…
في ملأ خير منهم"، فبان بذلك أن الله تعالى يذكر عبده بكلام في نفسه؛ أي: دون أن يُعلِم بذلك أحدًا من ملائكته، وقد يذكره بشهود من شاء من ملائكته، مثلُ ثنائه عليه، والإخبار بأنه يحبّه، كما في الحديث المشهور: "إذا أحبّ الله عبدًا نادى جبريل إن الله يحبّ فلانًا، فأحبّه. . ." وبهذا يتبيّن أن تأويل ذِكر الله لعبده بالرحمة والثواب، أو الإنعام صَرْف للكلام عن ظاهره بلا حجة، وكأن الذي قال ذلك يذهب إلى أن الله تعالى لا يتكلّم بكلام حقيقيّ يُسمعه إذا شاء لمن شاء من عباده، وهذا موجَب مذهب الأشاعرة في كلام الله سبحانه وتعالى، وهوأنه معنى نفسيّ، ليس بحرف، ولا صوت، فلا يُتصوّر سماعه منه، وهو ظاهر الفساد. انتهى كلام البرّاك
(1)
، وهو تحقيق نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف العلماء في تفضيل الملائكة على البشر، وعكسه:
قال ابن بطال: هذا الحديث نصّ في أن الملائكة أفضل من بني آدم،
(1)
تعليق الشيخ البراك على هامش "الفتح" 17/ 356.
وهو مذهب جمهور أهل العلم، وعلى ذلك شواهد من القرآن، مثل:{إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَو تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، والخالد أفضل من الفاني، فالملائكة أفضل من بني آدم.
وتُعُقّب بأن المعروف عن جمهور أهل السُّنَّة أن صالحي بني آدم أفضل من سائر الأجناس، والذين ذهبوا إلى تفضيل الملائكة: الفلاسفة، ثم المعتزلة، وقليل من أهل السُّنَّة، من أهل التصوف، وبعض أهل الظاهر، فمنهم من فاضل بين الجنسين، فقالوا: حقيقة الملَك أفضل من حقيقة الإنسان؛ لأنها نورانية، وخيّرة، ولطيفة، مع سعة العلم، والقوّة، وصفاء الجوهر، وهذا لا يستلزم تفضيل كل فرد على كل فرد؛ لجواز أن يكون في بعض الأناسي ما في ذلك وزيادة، ومنهم من خصّ الخلاف بصالحي البشر والملائكة، ومنهم من خصه بالأنبياء، ثم منهم من فضّل الملائكة على غير الأنبياء، ومنهم من فضّلهم على الأنبياء أيضًا إلا على نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن أدلة تفضيل النبيّ على الملَك أن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم على سبيل التكريم له، حتى قال إبليس:{أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62].
ومنها: قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]؛ لِمَا فيه من الإشارة إلى العناية به، ولم يثبت ذلك للملائكة.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)} [آل عمران: 33].
ومنها: قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 13]، فدخل في عمومه الملائكة، والمسخَّر له أفضل من المسخَّر، ولأن طاعة الملائكة بأصل الخلقة، وطاعة البشر غالبًا مع المجاهدة للنفس؛ لِمَا طُبعت عليه من الشهوة، والحرص، والهوى، والغضب، فكانت عبادتهم أشقّ، وأيضًا فطاعة الملائكة بالأمر الوارد عليهم، وطاعة البشر بالنصّ تارةً، وبالاجتهاد تارةً، والاستنباط تارةً، فكانت أشقّ، ولأن الملائكة سَلِمت من وسوسة الشياطين، وإلقاء الشُّبَه، والإغواء الجائزة على البشر، ولأن الملائكة تشاهد حقائق الملكوت، والبشر لا يعرفون ذلك إلا بالإعلام، فلا يَسْلَم منهم مِن
إدخال الشبهة من جهة تدبير الكواكب، وحركة الأفلاك إلا الثابت على دينه، ولا يتم ذلك إلا بمشقة شديدة، ومجاهدات كثيرة.
وأما أدلة الآخرين: فقد قيل: إن حديث الباب أقوى ما استُدِلّ به لذلك؛ للتصريح بقوله فيه: "في ملأ خير منهم"، والمراد بهم: الملائكة، حتى قال بعض الغلاة في ذلك: وكم من ذاكر لله في ملأ، فيهم محمد صلى الله عليه وسلم ذكرهم الله في ملأ خير منهم.
وأجاب بعض أهل السُّنَّة بأن الخبر المذكور ليس نصًّا، ولا صريحًا في المراد، بل يطرقه احتمال أن يكون المراد بالملأ الذين هم خير من الملأ الذاكر: الأنبياء، والشهداء، فإنهم أحياء عند ربهم، فلم ينحصر ذلك في الملائكة.
وأجاب آخر، وهو أقوى من الأول: بأن الخيرية إنما حصلت بالذاكر والملأ معًا، فالجانب الذي فيه ربّ العزة خيرٌ من الجانب الذي ليس هو فيه بلا ارتياب، فالخيرية حصلت بالنسبة للمجموع على المجموع.
قال الحافظ: وهذا الجواب ظهر لي، وظننت أنه مبتكَر، ثم رأيته في كلام القاضي كمال الدين ابن الزملكانيّ في الجزء الذي جمعه في الرفيق الأعلى، فقال: إن الله قابَل ذِكر العبد في نفسه بذكره له في نفسه، وقابل ذكر العبد في الملأ بذكره له في الملأ، فإنما صار الذكر في الملأ الثاني خيرًا من الذكر في الأول؛ لأن الله هو الذاكر فيهم، والملأ الذين يذكرون، والله فيهم، أفضل من الملأ الذين يذكرون، وليس الله فيهم.
ومن أدلة المعتزلة: تقديم الملائكة في الذكر في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 98]، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
وتُعُقِّب بأن مجرد التقديم في الذكر لا يستلزم التفضيل؛ لأنه لم ينحصر فيه، بل له أسباب أخرى، كالتقديم بالزمان، في مثل قوله:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ} [الأحزاب: 7]، فقدَّم نوحًا على إبراهيم عليه السلام لتقدُّم زمان نوح، مع أن إبراهيم أفضل.
ومنها قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172]، وبالغ الزمخشريّ فادَّعَى أن دلالتها لهذا المطلوب قطعية بالنسبة لعلم المعاني، فقال في قوله تعالى:{وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} ؛ أي: ولا من هوأعلى قَدْرًا من المسيح، وهم الملائكة الكروبيون الذين حول العرش، كجبريل، وميكائيل، وإسرافيل، قال: ولا يقتضي علم المعاني غير هذا، من حيث إن الكلام إنما سيق للردّ على النصارى؛ لغلوّهم في المسيح، فقيل لهم: لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هوأرفع درجة منه. انتهى، ملخصًا.
وأجيب بأن الترقي لا يستلزم التفضيل المتنازَع فيه، وإنما هو بحسب المقام، وذلك أن كلًّا من الملائكة والمسيح عُبِد من دون الله، فرُدّ عليهم بأن المسيح الذي تشاهدونه، لم يتكبّر عن عبادة الله، وكذلك من غاب عنكم من الملائكة لا يتكبر، والنفوس لِمَا غاب عنها أَهْيب ممن تشاهده، ولأن الصفات التي عبدوا المسيح لأجلها، من الزهد في الدنيا، والاطلاع على المغيبات، وإحياء الموتى بإذن الله موجودة في الملائكة، فإن كانت توجب عبادته فهي موجبة لعبادتهم بطريق الأَولى، وهم مع ذلك لا يستنكفون عن عبادة الله تعالى، ولا يلزم من هذا الترقي ثبوت الأفضلية المتنازَع فيها.
وقال البيضاويّ: احتَجَّ بهذا العطف من زعم أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وقال: هي مُساقة للردّ على النصارى في رَفْع المسيح عن مقام العبودية، وذلك يقتضي أن يكون المعطوف عليه أعلى درجة منه، حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه.
وجوابه: أن الآية سيقت للردّ على عَبَدة المسيح والملائكة، فأريدَ بالعطف: المبالغة باعتبار الكثرة دون التفضيل، كقول القائل: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس، ولا مرؤوس، وعلى تقدير إرادة التفضيل: فغايته تفضيل المقربين ممن حول العرش، بل من هو أعلى رتبة منهم على المسيح، وذلك لا يستلزم فَضْل أحد الجنسين على الآخر مطلقًا.
وقال الطيبيّ: لا تتم لهم الدلالة إلا إن سُلِّم أن الآية سيقت للردّ على النصارى فقط، فيصح، لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه،
والذي يدّعي ذلك يحتاج إلى إثبات أن النصارى تعتقد تفضيل الملائكة على المسيح، وهم لا يعتقدون ذلك، بل يعتقدون فيه الإلهية، فلا يتم استدلال من استَدَلّ به، قال: وسياق الآية من أسلوب التتميم والمبالغة، لا للترقي، وذلك أنه قَدَّم قوله {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى قوله -:{وَكِيلًا} [النساء: 171]، فقرَّر الوحدانية، والمالكية، والقدرة التامة، ثم أتبعه بعدم الاستنكاف، فالتقدير: لا يستحقّ من اتصف بذلك أن يستكبر عليه الذي تتخذونه أيها النصارى إلهًا؛ لاعتقادكم فيه الكمال، ولا الملائكة الذين اتخذها غيركم آلهة؛ لاعتقادهم فيهم الكمال.
قال الحافظ: وقد ذكر ذلك البغويّ مُلخصًا، ولفظه: لم يقل ذلك رفعًا لمقامهم على مقام عيسى، بل ردًّا على الذين يدّعون أن الملائكة آلهة، فردّ عليهم، كما ردّ على النصارى الذين يدّعون التثليث.
ومنها: قوله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50]، فنفى أن يكون ملَكًا، فدلّ على أنهم أفضل.
وتُعُقّب بأنه إنما نفى ذلك؛ لكونهم طلبوا منه الخزائن، وعِلم الغيب، وأن يكون بصفة الملَك، مِن ترك الأكل، والشرب، والجماع، وهو من نمط إنكارهم أن يرسل الله بشرًا مثلهم، فنفى عنه أنه ملك، ولا يستلزم ذلك التفضيل.
ومنها: أنه سبحانه لمّا وصف جبريل؛ ومحمدًا صلى الله عليه وسلم قال في جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)} [الحاقة: 40]، وقال في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)} [التكوير: 22]، وبين الوصفين بَوْنٌ بَعِيدٌ.
وتُعُقّب بأن ذلك إنما سيق للردّ على من زعم أن الذي يأتيه شيطان، فكان وَصْف جبريل بذلك تعظيمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد وَصَفَ النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير هذا الموضع بمثل ما وَصَف به جبريل هنا، وأعظم منه.
وقد أفرط الزمخشريّ في سوء الأدب هنا، وقال كلامًا يستلزم تنقيص المقام المحمديّ، وبالغ الأئمة في الردّ عليه في ذلك، وهو من زلاته الشنيعة. انتهى
(1)
.
(1)
"الفتح" 17/ 356 - 360، كتاب "التوحيد" رقم (7405).
قال الجامع عفا الله عنه: هذه المسألة هكذا اختلف المتأخرون فيها، وما كان ينبغي لهم ذلك؛ لأنها ليست من المسائل التي كُلّفنا بها، وإلا لأنزل الله تعالى بيان حكمها صريحًا، أو بيّنها النبيّ صلى الله عليه وسلم بيانًا شافيًا، فهي مما لا يعني المكلّفين عِلمه، و"من حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"؛ إذ فيه إضاعة للوقت، وشَغْلٌ له عما هو أهمّ.
قال الشيخ ابن أبي العزّ رحمه الله في شرح العقيدة الطحاويّة بعدما ذكر الخلاف: والأدلّة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدلّ على الفضل، لا على الأفضليّة، ولا نزاع في ذلك.
قال: وللشيخ تاج الدين الفزاريّ مصنّف سمّاه: "الإشارة في البشارة" في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بِدَع علم الكلام التي لم يتكلّم فيها الصدر الأول من الأمّة، ولا مَن بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقّف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلّق بها من الأمور الدينيّة كبير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنّفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكلّ متكلّم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يَخْلُ كلامه عن ضَعف واضطراب. انتهى
(1)
.
والحاصل: أن الأسلم أن نعتقد أن الله سبحانه وتعالى فضّل الملائكة، وفضّل خيار بني آدم، وأما التفضيل بين الجنسين، فَنكِلُ علمه إلى الله تعالى، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6782]
(
…
) - (حَدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْب، قَالَا: حَدَّثنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.
(1)
"شرح العقيدة الطحاويّة" 2/ 700 بنسخة ترتيب الشيخ خالد فوزي.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعممش هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3822)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعليّ بن محمد، قالا: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله سبحانه: "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم، وإن اقترب إليّ شبرًا، اقتربت إليه ذراعًا، وإن أتاني يمشي، أتيته هرولةً". انتهى
(1)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6783]
(. . .) - (حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدثنَا عَبْدُ الرَّزاق، حَدَّثنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِن اللهَ قَالَ: إِذَا تَلَقَّانى عَبْدِي بِشِبْرٍ، تَلَقيْتُهُ بِذِرَاعٍ، وَإِذَا تَلَقانى بِذِرَاعٍ، تَلَقَّيْتُهُ بِبَاعٍ، وَإِذَا تَلَقَّانى بِبَاعٍ، أَتَيْتُهُ
(2)
بِأَسْرَعَ").
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل باب، فلا حاجة إلى إعادته، ومعنى الحديث واضح يُعلم مما سبق.
وقوله: (أَتَيْتُهُ بِأَسْرَعَ) ووقع في بعض النُّسخ: "جئته، أتيته بأسرع"، قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النّسخ: "جئته أتيته"، وفي بعضها:"جئته بأسرع" فقط، وفي بعضها:"أتيته" وهاتان ظاهرتان، والأول صحيح أيضًا، والجمع بينهما للتوكيد، وهو حسنٌ، لا سيما عند اختلاف اللفظ، والله تعالى أعلم. انتهى.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6784]
(2676) - حَدَّثنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثنَا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُرَيْعٍ- حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِم، عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ، يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ،
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1255.
(2)
وفي نسخة: "جئته".
فَقَالَ: "سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ"، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أُمَيةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) -بالياء، والشين المعجمة- أبو بكر البصريّ، صدوقٌ [10](231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ) -بتقديم الزاي- مصغّرًا، أبو معاوية البصريّ، ثقة ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غِياث البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ: العلاء عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ في طَرِيقِ مَكَّةَ، فَمَرَّ عَلَى جَبَل، يُقَالُ لَهُ: جُمْدَانُ) قال ابن الأثير رحمه الله: هو بضم الجيم، وسكون الميَم، في آخره نون: جبل على ليلة من المدينة، مَرّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"سيروا، هذا جُمْدان"
(1)
.
وقال ابن منظور رحمه الله: وجُمْدان: موضع بين قُديد وعُسفان، من منازل أسلم، قال حسان [من البسيط]:
لَقَدْ أَتَى عَنْ بَنِي الْجَرْبَاءِ قَوْلُهُمُ
…
وَدُونَهُمْ دَفُّ جُمْدَانَ فَمَوْضُوعُ
(2)
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للصحابة الذين معه في ذلك السير: ("سِيرُوا، هَذَا جُمْدَانُ، سبَقَ الْمُفَرِّدُونَ")؛ أي: المنفردون المعتزلون عن الناس، مِنْ فَرَدَ: إذا اعتزل،
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 292.
(2)
"لسان العرب" 3/ 132.
وتخلى للعبادة، فكأنه أفرد نفسه بالتبتل إلى الله؛ أي: سبقوا بنيل الزُّلْفَى، والعروج إلى الدرجات الْعُلَى، رُوي بتشديد الراء، وتخفيفها، قال النوويّ في "الأذكار": والمشهور الذي قاله الجمهور: التشديد
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سبق المفردون إلخ": وإنما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا القول عقيب قوله: "هذا جُمْدان"؛ لأن جُمْدان جبل منفرد بنفسه هنالك، ليس بحذائه جبل مثله، فكأنه تفرّد هناك، فذكّره بهؤلاء المفرّدين، والله أعلم. وهؤلاء القوم سبقوا في الدنيا إلى الأحوال السنية، وفي الآخرة إلى المنازل العلية. انتهى
(2)
.
(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الذين كانوا معه، (وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("الذاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذاكِرَاتُ") وفي رواية: "قال: الذين أَهْتَرُوا في ذكر الله عز وجل"، وفي رواية:"المستهترون بذكر الله"؛ يعني: الذين أُولعوا به، يقال: أُهْتِر فلان بكذا، واستُهْتِر، فهو مُهْتَر به، ومُستَهْتَر؛ أي: مُولَع به، لا يتحدث بغيره، ولا يفعل غيره، وقيل: أراد بقوله: "أُهتروا في ذكر الله" كَبِروا في طاعته، وهلكت أقرانهم، من قولهم: أُهتِر الرجلُ فهو مُهْتَرٌ: إذا سقط في كلامه من الكِبَر، قاله ابن الأثير رحمه الله
(3)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "سبق المفردون إلخ"، هكذا الرواية فيه:
"الْمُفَرِّدون" بفتح الفاء، وكسر الراء المشدّدة، وهكذا نقله القاضي عن متقني شيوخهم، وذكر غيره أنه رُوي بتخفيفها، وإسكان الفاء، يقال: فَرَدَ الرجلُ بالتخفيف، وفَرَّد بالتشديد، وأفرد، وقد فسَّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذاكرين الله كثيرًا، والذاكرات، تقديره: والذاكراته، فحُذفت الهاء هنا، كما حُذفت في القرآن لمناسبة رؤس الآي، ولأنه مفعول يجوز حذفه، وهذا التفسير هو مراد الحديث، قال ابن قتيبة وغيره: وأصل المفرّدين: الذين هلك أقرانهم، وانفردوا عنهم، فبَقُوا يذكرون الله تعالى، وجاء في رواية:"هم الذين أهْتِرُوا في ذكر الله"؛ أي: لَهِجوا به، وقال ابن الأعرابيّ: يقال: فَرَّد الرجلُ: إذا تفقّه،
(1)
"فيض القدير" 4/ 92.
(2)
"المفهم" 7/ 9.
(3)
"النهاية في غريب الأثر" 5/ 241 - 242.
واعتزل، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. انتهى
(1)
.
وقال في "المشارق": قوله: "سبق الْمُفَرِّدون" بفتح الفاء، وكسر الراء، كذا ضبطناه، قال ابن الأعرابيّ: يقال: فَرَّدَ الرجلُ مشدّد الراء: إذا تفقه، واعتزل الناس، وخلا بمراعاته الأمر والنهي، وقال ابن قتيبة: هم الذين هلك لِدَاتُهم من الناس، وبَقُوا هم يذكرون الله، وقال الأزهريّ: هم المتَخَلُّون عن الناس بذكر الله، وقيل: المنفرد بذكر الله: الذي لم يخلط به غيره، وبعضها قريب من بعض، راجعة إلى معنى الانعزال عن الناس لعبادة الله، وقد جاء مفسَّرًا في حديث، "قيل: من المفردون؟ فقال: هم الذين اهْتِروا في ذكر الله، يضع الذكر أثقالهم، فيأتون خِفَافًا"، وقيل: أُهْتِروا: أصابهم خبال، وقيل: المفرّدون: الموحِّدون الذين لا يرون إلا الله تعالى، واعتقدوه واحدًا فردًا، وأخلصوا له بكلّيتهم، وهو من معنى ما قبله، وقيل: معناه مثل قولهم: هَرِم فلان في طاعة الله؛ أي: لم يزل ملازمًا لها حتى هَرِم، وقيل: أُهتِروا: اشتَهَروا، وقيل: أُولعُوا. انتهى
(2)
.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وروى موسى بن عُبيدة، عن أبي عبد الله القَرّاظ، عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نُسير بالقريب من جُمدان؛ إذِ استَنْبَه، فقال:"يا معاذ أين السابقون؟ " فقلت: قد مَضَوا، وتخلّف أناس، فقال:"يا معاذ إن السابقين الذين يُسْتَهْتَرون بذكر الله"، خرّجه جعفر الفريانيّ
(3)
.
قال: ومن هذا السياق يظهر وَجْه ذِكر السابقين في هذا الحديث، فإنه لمّا سبق الركب، وتخلّف بعضهم، نَبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يُديمون ذكر الله، ويولَعُون به، فإن الاستهتار بالشيء هو الوُلوع به، والشّغَفُ حتى لا يكاد يفارق ذكره، وهذا على رواية من رواه:"الْمُسْتَهْتَرُون"، ورواه بعضهم، فقال فيه:"الذين أُهْتِرُوا في ذكر الله"، وفسّر ابن قتيبة الْهَتْر
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 4.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 151.
(3)
موسى بن عُبيدة ضعيف، ورواه أيضًا الطبرانيّ في "الكبير" 20/ 326، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 10/ 75 وقال: فيه موسى بن عُبيدة، وهو ضعيف.
بالسقط في الكلام، كما في الحديث:"المستبّان شيطانان، يتكاذبان، ويتهاتران"، قال: والمراد من هذا الحديث: مَن عُمِّر، وخَرِف في ذكر الله وطاعته، قال: والمراد بالمفردين على هذه الرواية: من انفرد بالعمر عن القَرْن الذي كان فيه، وأما على الرواية الأُولى، فالمراد بالمفردين: المتخلّون من الناس بذكر الله تعالى، كذا قال، ويَحْتَمِل، وهو الأظهر أن المراد بالانفراد على الروايتين: الانفراد بهذا العمل، وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسيّ، إما عن القرن، أو عن المخالطة، والله أعلم.
ومن هذا المعنى قولُ عُمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة: ليس السابق اليوم من سبق بعيره، وإنما السابق مَن غُفر له. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6784](2676)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3596)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 323)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(858)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 155)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 495)، و (الحاكم الترمذيّ) في "نوادر الأصول"(2/ 89)، و (البيهقيّ) في "شُعَب الإيمان"(1/ 314)، والله تعالى اْعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل ذكر الله سبحانه وتعالى ذكرًا كثيرًا.
2 -
(ومنها): بيان معنى "المفردين"، و"هم الذاكرون الله تعالى والذاكرات"، وفي رواية:"هم الذين أُهتِروا في ذكر الله"، وفي رواية:"هم المستَهْتَرون في ذكر الله، يضع عنهم الذكر أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خِفَافًا".
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذه الكثرة المذكورة في هذا
(1)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 511 - 512.
الحديث هي المأمور بها في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41)} [الأحزاب: 41]، وهذا المساق يدلّ على أن هذا الذكر الكثير واجب، ولذلك لم يكتف بالأمر، حتى أكّده بالمصدر، ولم يكتف بالمصدر، حتى أكّده بالصفة، ومثل هذا لا يكون في المندوب، وظهر أنه ذكرٌ كثير واجبٌ، ولا يقول أحد بوجوب الذكر باللسان دائمًا، وعلى كل حال، كما هو ظاهر هذا الأمر، فتعيّن أن يكون ذكر القلب، كما قاله مجاهد، وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس شيء من الفرائض إلا وله حدّ ينتهي إليه، إلا ذكر الله، ولم يقل هو ولا غيره -فيما علمناه-: إن ذكر الله باللسان يجب على الدوام، فلزم أنه ذكر القلب.
وإذا ثبت ذلك، فذكر القلب لله تعالى، إما على جهة الإيمان، والتصديق بوجوده، وصفات كماله، وأسمائه، فهذا يجب استدامته بالقلب ذكرًا، أو حكمًا، في حال الغفلة؛ لأنَّه لا يُنفكّ عنه إلا بنقيضه، وهو الكفر، والذكر الذي ليس راجعًا إلى الإيمان: هو ذكر الله عند الأخذ في الأفعال، فيجب على كل مكلّف أن لا يُقْدِم على فعل من الأفعال، ولا قول من الأقوال، ظاهرًا، ولا باطنًا، إلا بعد أن يعرف حكم الله في ذلك الفعل؛ لإمكان أن يكون الشرع مَنَعه منه، فإمَّا على طريق الاجتهاد، إن كان مجتهدًا، أو على طريق التقليد، إن كان غير مجتهد، ولا ينفكّ المكلّف عن فعل، أو قول دائمًا، فذِكر الله تعالى يجب عليه دائمًا، ولذلك قال بعض السلف: اذكرِ اللهَ عند همّك إذا هممت، وحُكمك إذا حكمت، وقَسْمك إذا قسمت. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في ذكر ما ورد من الترغيب في الإكثار من ذكر الله عز وجل: (اعلم): أن الحافظ ابن رجب رحمه الله جمع في كتابه الممتع "جامع العلوم والحكم" ما ورد في ذلك أحببت إيراده هنا؛ لكونه مجموعًا احتوى على فوائد كثيرة، وعوائد غزيرة.
(1)
"المفهم" 7/ 9 - 10.
قال رحمه الله تعالى عند شرح حديث عبد الله بن بُسْر قال: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كَثُرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامعٌ؟ قال:"لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله"، خرّجه الإمام أحمد بهذا اللفظ، وخرّجه الترمذيّ، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" بمعناه، وقال الترمذيّ: حسنٌ غريبٌ، وكلهم خرّجه من رواية عمرو بن قيس الكنديّ، عن عبد الله بن بُسْر، وخرّجه ابن حبان في "صحيحه" وغيره من حديث معاذ بن جبل، قال: آخر ما فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت له: أيّ الأعمال خير، وأقرب إلى الله؟ قال:"أن تموت، ولسانك رطب من ذكر الله".
قال: قد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأن يذكروه ذكرًا كثيرًا، ومدح مَن ذكره كذلك، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41 - 42]،، وقال تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]، وقال تعالى:{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرّ على جبل يقال له: جُمْدان، فقال:"سيروا هذا جُمدان، سبق المفردون"، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات"، وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه:"سبق المفردون"، قالوا: ومن المفردون؟ قال: "الذين يُهْتَرُون في ذكر الله"، وخرّجه الترمذيّ، وعنده: قالوا: يا رسول الله، وما المفردون؟ قال:"الْمُسْتَهْتَرون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم، فيأتون يوم القيامة خِفافًا".
وروى موسى بن عُبيدة، عن أبي عبد الله القَرّاظ، عن معاذ بن جبل، قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نُسير بالقريب من جُمدان؛ إذِ استَنْبَه، فقال:"يا معاذ أين السابقون؟ " فقلت: قد مَضَوا، وتخلّف أناس، فقال:"يا معاذ إن السابقين الذين يُسْتَهْتَرون بذكر الله"، خرّجه جعفر الفريانيّ
(1)
.
(1)
موسى بن عُبيدة ضعيف، ورواه أيضًا الطبرانيّ في "الكبير" 20/ 326، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 10/ 75 وقال: فيه موسى بن عُبيدة، وهو ضعيف.
قال: وبهذا الإسناد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من أحبّ أن يرتع في رياض الجنة، فلُيْكثر ذِكر الله"
(1)
.
وخرّج الإمام أحمد، والنسائيّ، وابن حبان، في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"استكثروا من الباقيات الصاحات"، قيل: وما هنّ يا رسول الله؟ قال: "التكبير، والتسبيح، والتهليل، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله"
(2)
.
وفي "المسند"، و"صحيح ابن حبان" عن أبي سعيد الخدريّ أيضًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"أكثروا ذكر الله، حتى يقولوا: مجنون"
(3)
.
وروى أبو نعيم في "الحلية" من حديث ابن عباس مرفوعًا: "أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون: إنكم تُراؤون"
(4)
.
وخرّج الإمام أحمد، والترمذيّ من حديث أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أيّ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: "الذاكرون الله كثيرًا"، قيل: يا رسول الله، ومِن الغازي في سبيل الله؟ قال:"لو ضَرَب بسيفه في الكفار والمشركين، حتى ينكسر، ويتخضب دمًا، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة"
(5)
.
وخرّج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله، فقال: أيّ الجهاد أعظم أجرًا يا رسول الله؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا" ثم قال: أيّ الصائمين أعظم؟ قال: "أكثرهم لله ذكرًا"، ثم ذكر لنا الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة كُلًّا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"أكثرهم لله ذكرًا"، فقال أبو بكر: ذهب الذاكرون بكل خير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجل"
(6)
.
(1)
رواه ابن أبي شيبة 10/ 302، وفي سنده موسى بن عُبيدة المذكور، ضعيف.
(2)
في سنده درّاج، ضعيف في روايته عن أبي الهيثم.
(3)
في سنده درّاج عن أبي الهيثم: ضعيف.
(4)
قال الهيثميّ في "المجمع" 10/ 76: وفيه الحسن بن أبي جعفر الجعفريّ، وهو ضعيف.
(5)
إسناده ضعيف، فيه ابن لَهِيعة، ضعيف، ودرّاج عن أبي الهيثم ضعيف أيضًا.
(6)
ضعيف، في سنده ابن لهيعة، وزبّان بن فائد ضعيفان.
وقد خرّجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه.
وفي "صحيح مسلم" عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه.
وقال أبو الدرداء: الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله، يدخل أحدهم الجنة، وهو يضحك، وقيل له: إن رجلًا أعتق مائة نسمة، فقال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبًا من ذكر الله.
وقال معاذ: لأنْ أذكر الله من بُكرة إلى الليل أحبّ إليّ من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] قال: أن يطاع فلا يعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكْفَر، خرّجه الحاكم مرفوعًا، وصححه، والمشهور وَقْفه.
وقال زيد بن أسلم: قال موسى: يا رب قد أنعمت عليّ كثيرًا، فدُلّني على أن أشكرك كثيرًا، قال: اذكرني كثيرًا، فإن ذكرتني كثيرًا، فقد شكرتني، وإذا نسيتني فقد كفرتني.
وقال الحسن: أحبُّ عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرًا، وأتقاهم قلبًا.
وقال أحمد بن أبي الحواريّ: حدّثني أبو المخارق، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مررت ليلة أُسري بي برجل مُغَيَّب في نور العرش، فقلت: من هذا؟، أملَك؟، قيل: لا، قلت: أنبيّ؟ قيل: لا، قلت: من هو؟ قال: هذا رجل كان لسانه رطبًا من ذكر الله، وقلبه معلق بالمساجد، ولم يستسب والديه قط.
وقال ابن مسعود: قال موسى: ربِّ أيّ الأعمال أحب إليك أن أعمل به؟ قال: تذكرني، فلا تنساني.
المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه، فلو كُلِّف أن ينسى ذكره لَمَا قَدَر، ولو كُلّف أن يكفّ عن ذكره بلسانه لَمَا صبر. [من الخفيف]:
كَيْفَ يَنْسَى الْمُحِبُّ ذِكْرَ حَبِيبٍ
…
اسْمُهُ فِي فُؤَادِهِ مَكْتُوبُ
كان بلال رضي الله عنه كلما عذبه المًشركون في الرمضاء على التوحيد، يقول:
أحدٌ أحدٌ، فإذا قالوا له: قل: واللات والعزى، قال: لا أُحسنه. [من المتقارب]:
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ
…
وَتَأْبَى الطّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
كان الثوريّ يُنشد:
لَا لِأَنّي أَنْسَاكَ أُكْثِرُ ذِكْرَكَ
…
وَلَكِنْ بِذَاكَ يَجْرِي لِسَانِي
سَمِع الشبليّ قائلًا يقول: يا الله، يا جواد، فاضطرب، فتذكر قول الشاعر [من الطويل]:
وَدَاعٍ دَعَا إِذْ نَحْنُ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنى
…
فَهَيَّجَ أَشْوَاقَ الْفُؤَادِ وَمَا يَدْرِي
دَعَا بِاسْمِ لَيْلَى غَيْرَهَا فَكَأنَّمَا
…
أَطَارَ بِلَيْلَى طَائِرًا كَانَ فِي صَدْرِي
وقال آخر [من الطويل]:
إِذَا ذُكِرَ الْمَحْبُوبُ عِنْدَ حَبِيبِهِ
…
تَرَنَّحَ نَشْوَانٌ وَحَنَّ طَرُوبُ
قيل لمحمد بن النضر: أما تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش، وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟. [من الوافر]:
كَتَمْتُ اسْمَ الْحَبِيبِ مِنَ الْعِبَادِ
…
وَرَدَّدتُ الصَّبَابَةَ فِي فُؤَادِي
فَوَا شَوْقًا إَلَى بَلَدٍ خَلِيِّ
…
لَعَلّي بِاسْمِ مَنْ أَهْوَى أُنَادِي
فإذا قوي حال المحب ومعرفته لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل فهو بين الخلق بجسمه، وقلبه معلّقٌ بالمحل الأعلى، كما قال عليّ في وصفهم: صَحِبوا الدنيا بأجساد، أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، وفي هذا المعنى قيل:
جِسْمِي مَعِي غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمُ
…
فَالْجِسْمُ فِي غُرْبَةٍ وَالرُّوحُ فِي وَطَنِ
وقال غيره [من الكامل]:
وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ فِي الْفُؤَادِ مُحَدّثِي
…
وَأَبَحْتُ جِسْمِي مَنْ أَرَادَ جُلُوسِي
فَالْجِسْمُ مِنِّي لِلْجَلِيسِ مُؤَانِسٌ
…
وَحَبِيبُ قَلْبِي فِي الْفُؤَادِ أَنِيسِي
وهذه كانت حال الرسل والصدّيقين، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الأنقال: 45].
وفي الترمذيّ مرفوعًا: "يقول الله: إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني، وهو مُلاقٍ قِرْنه"
(1)
.
وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} [البقرة: 200]، وقال تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103]، وقال تعالى:{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [النساء: 103] وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} [الجمعة: 10].
فأمَر بالجمع بين الابتغاء من فضله وكثرة ذكره، ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق، ومواطن الغفلة، كما في "المسند"، والترمذيّ، و"سنن ابن ماجه" عن ابن عمر مرفوعًا:"من دخل سوقًا يُصاح فيه، ويباع فيه، فقال: لا إله إلا وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة"
(2)
.
وفي حديث آخر: "ذاكر الله في الغافلين، كمَثَل المقاتل عن الفارّين، وذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء، في وسط شجر يابس"
(3)
.
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة، وإن كان في السوق، وإن حرّك به شفته فهوأفضل.
وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة.
والتقى رجلان منهم في السوق، فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس، فخَلَوَا في موضع، فذكرا الله، ثم تفرقا، ثم مات أحدهما، فلقيه الآخر في منامه، فقال له: أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق؟
[فصل]: في وظائف الذكر الموظَّفة في اليوم والليلة:
(1)
قال الترمذيّ: هذا حديث غريب، ليس إسناده بالقويّ.
(2)
صححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ، وصححه الشيخ الألبانيّ.
(3)
ضعيف، قال الشيخ الألبانيّ: ضعيف معضل.
معلوم أن الله فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس مرات بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها الموقتة، وشرع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه ذكرًا يكون لهم نافلة، والنافلة الزيادة، فيكون ذلك زيادة على الصلوات الخمس، وهي نوعان:
أحدهما: ما هو من جنس الصلاة، فشَرَع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها، أو بعدها، أو قبلها وبعدها سننًا، فتكون زيادة على الفريضة، فإن كان في الفريضة نَقْص جُبر نقصها بهذه النوافل، وإلا كانت النوافل زيادة على الفرائض.
وأطول ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة، ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، فشَرَع ما بين كل واحدة من هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة؛ لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر، فشَرع ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر صلاة الوتر، وقيام الليل، وشرع ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر صلاة الضحى، وبعض هذه الصلوات آكد من بعض، فآكدها الوتر، ولذلك اختَلَف العلماء في وجوبه، ثم قيام الليل، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يداوم عليه حضرًا وسفرًا، ثم صلاة الضحى، وقد اختَلَف الناس فيها، وفي استحباب المدوامة عليها، وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحةٌ، وورد الترغيب أيضًا في الصلاة عقب زوال الشمس.
وأما الذكر باللسان فمشروع في جميع الأوقات، ويتأكد في بعضها، فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات، وأن يذكر الله عقب كل صلاة منها مائة مرة، ما بين تسبيح، وتحميد، وتكبير، وتهليل.
ويُستحب أيضًا الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوّع بعدهما، وهما الفجر والعصر، فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وهذان الوقتان -أعني وقت الفجر، ووقت العصر- هما أفضل أوقات النهار للذكر، ولهذا أمَر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن، كقوله:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 42]، وقوله:{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25)} [الإنسان: 25]، وقوله:{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وقوله:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، وقوله: {فَسُبْحَانَ
اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)} [الروم: 17]، وقوله:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3]، وقوله:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)} [الأعراف: 205]، وقوله:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130]، وقوله:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
وأفضل ما فُعِل في هذين الوقتين من الذكر صلاة الفجر، وصلاة العصر، وهما أفضل الصلوات، وقد قيل في كل منهما: إنها الصلاة الوسطى، وهما البَرْدان اللذان من حَافَظَ عليهما دخل الجنة، ويليهما من أوقات الذكر الليلُ والنهارُ، ولهذا يُذكر بعد هذين الوقتين في القرآن تسبيح الليل وصلاته.
والذِّكر المطلق يدخل فيه الصلاة، وتلاوة القرآن، وتعلّمه، وتعليمه، والعلم النافع، كما يدخل فيه التسبيح، والتكبير، والتهليل.
ومن أصحابنا
(1)
من رجح التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر.
وسئل الأوزاعيّ عن ذلك، فقال: كان هديهم ذكر الله، فإن قرأ فحسن، وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة، وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة: إنه أفضل من التلاوة حينئذ، والأذكار، والأدعية المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصباح والمساء كثيرة جدًّا.
ويستحب أيضًا إحياء ما بين العشاءين بالصلاة والذكر، وقد تقدم حديث أنس أنه نزل في ذلك قوله تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16].
ويستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل، كما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة، وهو مذهب الإمام أحمد وغيره، حتى يفعل هذه الصلاة في أفضل وقتها، وهو آخره، ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل بالصلاة، أو بالذكر، وانتظار الصلاة في المسجد، ثم إذا صلى العشاء، وصلى بعدها ما يتبعها من سنتها الراتبة، أو أوتر بعد ذلك، إن كان يريد أن يوتر قبل النوم، فإذا أوى إلى فراشه بعد ذلك للنوم، فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على طهارة، وذكر، فيسبّح، ويحمد، ويكبّر تمام مائة، كما عَلَّم
(1)
يعني: الحنبليّة.
النبيّ صلى الله عليه وسلم فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما أن يفعلاه عند منامهما، ويأتي بما قُدّر عليه من الأذكار الواردة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم عند النوم، وهي أنواع متعددة، من تلاوة القرآن، وذكر الله، ثم ينام على ذلك، فإذا استيقظ من الليل، وتقلّب على فراشه، فليذكر الله كلما تقلب، ففي صحيح البخاريّ عن عبادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن تَعَارّ من الليل، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا، استجيب له، فإن عَزَم، فتوضأ، ثم صلى قُبلت صلاته".
وفي الترمذيّ عن أبي أمامة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أوى إلى فراشه طاهرًا، يذكر الله حتى يدركه النعاس، لم تمض ساعة من الليل يسأل الله فيها شيئًا من خيري الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه"
(1)
.
وخرّج أبو داود معناه من حديث معاذ، وخرّجه النسائي من حديث عمر بن عبسة.
وللإمام أحمد من حديث عَمرو بن عبسة في هذا الحديث: "وكان أول ما يقول إذا استيقظ: سبحانك لا إله إلا أنت، فاغفر لي، إلا انسلخ من خطاياه، كما تنسلخ الحية من جلدها".
وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من منامه يقول: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني، وإليه النشور".
ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد، أتى بذلك كله على ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويختم تهجده بالاستغفار في السَّحَر، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار، وإذا طلع الفجر صلى ركعتي الفجر، ثم صلى الفجر، واشتغل بعد صلاة الفجر بالذكر المأثور إلى أن تطلع الشمس، على ما تقدم ذكره، فمن كان حاله على ما ذكرنا، لم يزل لسانه رطبًا من ذكر الله، فيُستحب الذِّكر في يقظته
(1)
ضعّفه بعضهم بشهر بن حوشب.
قال الجامع: الحقّ أن شهرًا حسن الحديث، كما حقّقت ذلك في "شرح النسائيّ"، ويشهد للحديث حديث البخاريّ المذكور قبله، فالحديث صحيح.
حتى ينام عليه، ثم يبدأ به عند استيقاظه، وذلك من دلائل صدق المحبة، كما قال بعضهم [من الطويل]:
وَآخِرُ شَيءٍ أَنْتَ فِي كُلِّ هَجْعَةٍ
…
وَأَوَّلُ شَيْءٍ أَنْتَ وَقْتَ هُبُوبِي
وأما ما يفعله الإنسان في آناء الليل وأطراف النهار، من مصالح دينه، وبدنه، ودنياه، فعامة ذلك يُشرع ذكر اسم الله عليه، فيُشرع له ذكر اسم الله وحَمْده على أكله، وشربه، ولباسه، وجماعة لأهله، ودخول منزلة، وخروجه منه، ودخوله الخلاء، وخروجه منه، وركوبه دابته، وشممي على ما يذبحه من نُسُك وغيره.
ويُشرع له حمد الله على عطاسه، وعند رؤية أهل البلاء في الدِّين أو الدنيا، وعند التقاء الإخوان، وسؤال بعضهم بعضًا عن حاله، وعند تجدد ما يحبه الإنسان من النعم، واندفاع ما يكرهه من النقم، وأكمل من ذلك أن يحمد الله على السرّاء والضرّاء، والشدّة والرخاء، ويحمده على كل حال.
ويُشرع له دعاء الله عند دخول السوق، وعند سماع أصوات الديكة بالليل، وعند سماع الرعد، وعند نزول المطر، وعند اشتداد هبوب الرياح، وعند رؤية الأهلة، وعند رؤية باكورة الثمار.
ويُشرع أيضًا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرب، وحدوث المصائب الدنيوية، وعند الخروج للسفر، وعند نزول المنازل في السفر، وعند الرجوع من السفر.
ويُشرع التعوذ بالله عند الغضب، وعند رؤية ما يَكره في منامه، وعند سماع أصوات الكلاب والحمير بالليل.
ويُشرع استخارة الله عند العزم على ما لا يظهر الخِيَرة فيه.
وتجب التوبة إلى الله، والاستغفار من الذنوب، كلها صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَو ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
فمن حافظ على ذلك لم يزل لسانه رطبًا بذكر الله في كل أحواله.
[فصل]: قد ذكرنا في أول الكتاب
(1)
أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بُعث بجوامع الكلم
(1)
يعني: كتابه "جامع العلوم والحكم".
فكان صلى الله عليه وسلم يعجبه جوامع الكلم، ويختاره على غيره من الذكر، كما في "صحيح مسلم" عن ابن عباس، عن جويرية بنت الحارث، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بُكرة، حين صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحَى، وهي جالسة، فقال:"ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لقد قلت بعدكِ أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وُزنت بما قلتِ منذ اليوم، لَوَزَنَتْهُنّ: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته".
وخرّجه النسائيّ، ولفظه:"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، عدد خَلْقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته".
وخرّجه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ من حديث سعد بن أبي وقاص، أنه دخل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على امرأة، وبين يديها نَوًى، أو قال: حصى تسبح به، فقال:"ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا، وأفضل؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك"
(1)
.
وخرّج الترمذيّ من حديث صفية، قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين يديّ أربعة آلاف نواة، أسبّح بها، فقلت: سبّحت بهذه، فقال:"ألا أعلمك بأكثر مما سبّحت به؟ " فقلت: علّمني، فقال:"قولي: سبحان الله عدد خلقه"
(2)
.
وخرّج النسائيّ، وابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي أمامة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ به، وهو يحرك شفتيه، فقال:"ماذا تقول يا أبا أمامة؟ " قال: أذكر ربي، قال: "ألا أخبرك بأكثر، أو أفضل من ذكرك الليل مع النهار، والنهار مع الليل؟ أن تقول: سبحان الله عدد ما خلق، سبحان الله ملء ما خلق، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء، وسبحان الله عدد ما أحصَى كتابه، وسبحان الله ملء ما أحصى
(1)
حديث صحيح.
(2)
حسّنه بعضهم.
كتابه، وسبحان الله عدد كل شيء، وسبحان الله ملء كل شيء، وتقول: الحمد لله مثل ذلك"
(1)
، وخرّج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء.
قال: وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يعجبه من الدعاء جوامعه، ففي "سنن أبي داود" عن عائشة، قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك
(2)
.
وخرّجه الفريابيّ وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها أيضًا؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة عليك بجوامع الدعاء: اللَّهُمَّ إني أسألك من الخير كله، عاجله، وآجله، ما علمت منه، وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله، عاجله، وآجله، ما علمت منه، وما لم أعلم، اللَّهُمَّ إني أسألك من خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك صلى الله عليه وسلم، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة، وما قرَّب إليها، من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرَّب إليها، من قول وعمل، وأسألك ما قضيت لي من قضاء أن تجعل عاقبته رشدًا". وخرّجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء، وعند الحاكم:"عليكِ بالكوامل"، وذَكَره.
وخرَّجه أبو بكر الأثرم، وعنده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:"ما منعك أن تأخذي بجوامع الكلم، وفواتحه. . ." وذكر هذا الدعاء.
وخرّجه الترمذيّ من حديث أبي أمامة، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء كثير، لم نحفظ منه شيئًا، فقلنا: يا رسول الله دعوت بدعاء كثير، لم نحفظ منه شيئًا، قال:"ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله؟ تقولون: اللَّهُمَّ إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شرّ ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"
(3)
.
وخرّجه الطبرانيّ وغيره من حديث أم سلمة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في
(1)
صححه ابن حبّان.
(2)
صححه ابن حبّان، والحاكم، ووافقه الذهبيّ.
(3)
صححه ابن حبّان، والحاكم، ووافقه الذهبيّ.
دعاء له طويل: "اللَّهُمَّ إني أسألك فواتح الخير، وخواتمه، وجوامعه، وأوله، وآخره، وظاهره، وباطنه"
(1)
.
وفي "المسند" أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنًا له يدعو، ويقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة، ونعيمها، وإستبرقها، ونحوًا من هذا، وأعوذ بك من النار، وسلاسلها، وأغلالها، فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء"، وقرأ هذه الآية:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)} [الأعراف: 55]، وإن حسبك أن تقول: اللَّهُمَّ إني أسألك الجنة، وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما قرّب إليها من قول وعمل
(2)
.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود قال: كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام على الله، السلام على جبريل، وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:"إن الله هو السلام، فإذا قعد أحدكم في الصلاة، فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قالها: أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ثم ليتخيّر من المسألة ما شاء".
وفي "المسند" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُلِّم مفاتح الخير، وجوامعه، أو جوامع الخير، وفواتحه، وخواتمه، وإن كنا لا ندري ما نقول في صلاتنا، حتى عَلَّمنا، فقال:"قولوا: التحيات لله. . ." فذكره إلى آخره. انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله باختصار
(3)
، وهو بحث نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، والله تعالى أعلم.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة
(1)
قال الترمذيّ: حديث حسن غريب، مع أن في سنده ليث بن أبي سُليم، وهو سيّئ الحفظ.
(2)
في إسناده مولى سعد: مجهول.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 1/ 453.
عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة - عفا الله عنه وعن والديه -:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الواحد والأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم - المسمَّى - البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله يوم الجمعة المبارك بعد صلاة الجمعة، وهو اليوم الثامن عشر من عشر من شهر رجب
(1)
(18/ 7 / 1433 هـ الموافق 8 حزيران 2012 م).
أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".
ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الثاني والأربعون مفتتحًا بـ (2) - (بَابٌ فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَفَضْلِ مَنْ أَحْصَاهَا)[6785](2677).
"سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *
(1)
قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة شهران فقط، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].