الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الجامع عفا الله عنه: شرعت في كتابة الجزء الثاني والأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله يوم الجمعة من شهر رجب (18/ 7 / 1433 هـ).
(2) - (بَابٌ: فِي أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَفَضْلِ مَنْ أَحْصَاهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6785]
(2677) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعًا عَنْ سُفْيَانَ - وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو - حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "للهِ تِسْعَةٌ
(1)
وَتِسْعُونَ اسْمًا، مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: "مَنْ أَحْصَاهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قبل بابين.
5 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "إن لله تسعة".
6 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من أبي الزناد، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان، وفي رواية للبخاريّ:"قال: حفظناه من أبي الزناد، عن الأعرج". قال في "الفتح": قوله: "حفِظناه من أبي الزناد": في رواية الحميديّ في "مسنده": "عن سفيان، حدّثنا أبو الزناد"، وكذا أخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريقه.
(عَنِ الأَعْرَجِ) عبد الرحمن بن هُرْمُز (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "عن أبي هريرة روايةً قال"، قال في "الفتح": قوله: "رواية": في رواية الحميديّ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللبخاريّ في "التوحيد" من رواية شعيب، عن أبي الزناد بسنده:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"، ووقع عند الدارقطنيّ في "غرائب مالك" من رواية عبد الملك بن يحيى بن بكير، عن أبيه، عن ابن وهب، عن مالك بالسند المذكور، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"قال الله عز وجل: لي تسعة وتسعون اسمًا".
(قَالَ: "للهِ) خبر مقدّم لقوله: (تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ) وفي بعض النسخ: "إن لله تسعةً وتسعين"(اسْمًا) قال في "الفتح": كذا في معظم الروايات بالنصب على التمييز، وحَكَى السهيليّ أنه روى بالجرّ، وخرّجه على لغة من يجعل الإعراب في النون، ويُلزم الجمع الياء، فيقول: كم سنينُك برفع النون، وعددتُّ سنينَك بالنصب، وكم مَرّ من سنينِك بكسر النون، ومنه قول الشاعر [من الوافر]:
وَمَاذَا تَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي
…
وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ
بكسر النون، فعلامة النصب في الرواية فتح النون، وحُذف التنوين؛
لأجل الإضافة. انتهى
(1)
؛ أي: لإضافة "تسعة" إلى "اسم".
زاد في رواية همّام بن منبّه التالية: "مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا" برفع "مائةٌ"، ونَصْبه على البدل في الروايتين؛ يعني: رواية: "لله تسعة وتسعون"، ورواية:"إن لله تسعةً وتسعين".
وقوله: "إلا واحدًا" هكذا في رواية مسلم بالتذكير، ووقع عند البخاريّ بلفظ "واحدةٍ" بالتأنيث، فقال: فقال ابن بطال: كذا وقع هنا، ولا يجوز في العربية، قال: ووقع في رواية شعيب في "الاعتصام": "إلا واحدًا" بالتذكير، وهو الصواب.
وتعقّبه الحافظ، فقال: كذا قال، وليست الرواية المذكورة في "الاعتصام" بل في "التوحيد"، وليست الرواية التي هنا خطأ، بل وَجّهوها، وقد وقع في رواية الحميديّ هنا:"مائة غير واحد" بالتذكير أيضًا، وخُرِّج التأنيث على إرادة التسمية، وقال السهيليّ: بل أنَّث الاسم؛ لأنه كلمة، واحتَجَّ بقول سيبويه: الكلمة: اسم، أو فعل، أو حرف، فسمَّى الاسم كلمة، وقال ابن مالك: أنَّث باعتبار معنى التسمية، أو الصفة، أو الكلمة.
وقد اختلف العلماء في حكمة قوله: "مائة إلا واحدًا" بعد قوله: "تسعة وتسعون اسمًا"، قيل: لدفع الالتباس بسبع وسبعين، وللاحتياط فيه بالزيادة والنقصان
(2)
، وسيأتي تمام البحث في ذلك في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
(مَنْ حَفِظَهَا) قال في "العمدة": المراد بالحفظ: القراءة بظهر القلب، فيكون كناية عن التكرار؛ لأن الحفظ يستلزم التكرار، وقيل: معناه: العمل بها، والطاعة بمعنى كل اسم منها، والإيمان بها، ومعنى الرواية الأخرى:"من أحصاها": عدّها في الدعاء بها، وقيل: أحسنَ المراعاة لها، والمحافظة على ما تقتضيه، وصدَّق معانيها، وقيل: من أحصاها؛ أي: كرر مجموعها. انتهى
(3)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "من أحصاها": حفظها، أو أطاق القيام بحقّها، أو
(1)
"الفتح" 14/ 474، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
(2)
"عمدة القاري" 23/ 29.
(3)
"عمدة القاري" 23/ 29.
عرفها، أو أحاط بمعانيها، أو عمل بمقتضاها، بأن وَثَق بالرزق إذا قال: الرزاق مثلًا، وهكذا، وعدّها كلمة كلمة؛ تبركًا، وإخلاصًا.
وقوله: "تسعة وتسعون اسمًا" ليس للحصر بها، ودليل ذلك خبر:"أسألك بكلّ اسم سمّيتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، وإنما خصّها لأنها أشهرها، أو أظهرها معنى، أو لتضمّنها معاني ما عداها، أو لأن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل، ومنتهى الإفراد بلا تكرار تسعة وتسعون، أو لغير ذلك. انتهى
(1)
.
وقال العلامة ابن القيّم رحمه الله: قوله: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا
…
إلخ"، الكلام جملة واحدة، وقوله: "من أحصاها دخل الجنة" صفة لا خبر مستقلّ، والمعنى: له أسماء متعددة، من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وهذا كما تقول: لفلان مائة مملوك، وقد أعدّهم للجهاد، فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم، مُعَدُّون لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه. انتهى
(2)
.
(دَخَلَ الْجَنَّةَ) عبَّر بالماضي تحقيقًا لوقوعه، وتنبيهًا على أنه وإن لم يقع فهو في حكم الواقع لأنه كائن لا محالة
(3)
.
(وَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ)؛ يعني: أنه واحد، لا شريك له، والوِتر بكسر الواو، وفَتحها، وقرئ بهما، (يُحِبُّ الْوِتْرَ") من الأعمال، وكثير من الطاعات، ولهذا جعل الله الصلوات خمسًا، والطواف سبعًا، ونَدَب التثليث في أكثر الأعمال، وخلق السماوات سبعًا، والأرضين سبعًا، وغير ذلك
(4)
.
وقال في "الفتح": قوله: "وإن الله وتر" يجوز فتح الواو، وكسرها، والوتر: الفرد، ومعناه في حقّ الله: أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته، ولا انقسام.
(1)
"فيض القدير" 2/ 478.
(2)
"بدائع الفوائد" 1/ 177.
(3)
"الفتح" 14/ 486، و"عمدة القاري" 23/ 29.
(4)
"عمدة القاري" 23/ 29.
وقوله: "يحب الوتر": قال عياض: معناه أن للوتر في العدد فضلًا على الشفع في أسمائه؛ لكونه دالًّا على الوحدانية في صفاته.
وتُعُقِّب بأنه لو كان المراد به الدلالة على الوحدانية لَمَا تعددت الأسماء، بل المراد: أن الله يحب الوتر من كل شيء، وإن تعدَّدَ ما فيه الوتر، وقيل: هو منصرف إلى من يعبد الله بالوحدانية، والتفرد على سبيل الإخلاص، وقيل: لأنه أمَر بالوتر في كثير من الأعمال، والطاعات، كما في الصلوات الخمس، ووتر الليل، وأعداد الطهارة، وتكفين الميت، وفي كثير من المخلوقات؛ كالسماوات والأرض. انتهى ملخصًا.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الظاهر أن الوتر هنا للجنس؛ إذ لا معهود جرى ذِكره، حتى يُحْمَل عليه، فيكون معناه: أنه وتر يحب كل وتر شَرَعه، ومعنى محبته له: أنه أمَر به، وأثاب عليه، ويصلح ذلك العموم ما خلقه وترًا من مخلوقاته، أو معنى محبته له: أنه خصصه بذلك؛ لحكمة يعلمها، ويَحْتَمِل أن يريد بذلك وترًا بعينه، وإن لم يجر له ذكر، ثم اختَلَف هؤلاء، فقيل: المراد صلاة الوتر، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: يوم الجمعة، وقيل: يوم عرفة، وقيل: آدم، وقيل غير ذلك، قال: والأشبه ما تقدم من حَمْله على العموم، قال: ويظهر لي وجه آخر، وهو أن الوتر يراد به التوحيد، فيكون المعنى: أن الله في ذاته، وكماله، وأفعاله واحد، ويحب التوحيد؛ أي: أن يوحَّد، ويُعتَقَد انفراده بالألوهية دون خَلْقه، فيلتئم أول الحديث وآخره، والله أعلم
(1)
.
قال الحافظ: لعل من حَمَله على صلاة الوتر استَنَد إلى حديث عليّ رضي الله عنه: "إن الوتر ليس بحتم كالمكتوبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوتر، ثم قال: أوتروا يا أهل القرآن، فإن الله وتر يحب الوتر"، أخرجوه في السنن الأربعة، وصححه ابن خزيمة، واللفظ له، فعلى هذا التأويل تكون اللام في هذا الخبر للعهد؛ لتقدُّم ذِكر الوتر المأمور به، لكن لا يلزم أن يُحمل الحديث الآخر على هذا، بل العموم فيه أظهر، كما أن العموم في حديث عليّ مُحْتَمِل أيضًا.
[تنبيه]: قد طعن أبو زيد البلخيّ في صحة الخبر، بأن دخول الجنة ثبت
(1)
"المفهم" 7/ 18.
في القرآن مشروطًا ببذل النفس والمال، فكيف يحصل بمجرد حِفظ ألفاظ تُعَدّ في أيسر مدّة؟.
قال الحافظ: وتُعُقّب بأن الشرط المذكور ليس مطَّردًا، ولا حَصْر فيه، بل قد تحصل الجنة بغير ذلك، كما ورد في كثير من الأعمال غير الجهاد أن فاعله يدخله الجنة، وأما دعوى أن حفظها يحصل في أيسر مدة، فإنما يَرِد على من حَمَل الحفظ والإحصاء على معنى أن يسردَها عن ظهر قلب، فأما من أوّله على بعض الوجوه المتقدمة، فإنه يكون في غاية المشقّة، ويمكن الجواب عن الأول بأن الفضل واسع، قاله في "الفتح"
(1)
، وهو تعقّب جيّد، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَفِي رِوَايَة ابْنِ أَبِي عُمَرَ: "مَنْ أَحْصَاهَا") بيّن به اختلاف شيوخه في لفظ الحديث، فرواه عمرو الناقد، وزهير بن حرب بلفظ:"من حفظها دخل الجنّة"، ورواه محمد بن يحيى بن أبي عمر بلفظ:"من أحصاها دخل الجنّة"، وسيأتي البحث في معنى الإحصاء مستوفي في المسألة الثالثة - إن شاء الله تعالى -.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6785 و 6786](2677)، و (البخاريّ) في "الشروط"(2736) و"الدعوات"(6410) و"التوحيد"(7392)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3507 و 3508)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 393)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3861)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19656)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 267 و 427 و 499 و 503)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 5) وفي "مسند الشاميين"(4/ 386)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(807 و 808)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 17)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 122)،
(1)
"الفتح" 14/ 476 - 487، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
و (تمّام) في "فوائده"(1/ 250)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(6/ 84 و 10/ 27) وفي "شُعب الإيمان"(1/ 115) وفي "الاعتقاد"(1/ 50) وفي "الأسماء والصفات"(ص 5)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1257)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قد حقّق الحافظ رحمه الله طرق هذا الحديث، حيث قال بعد ذكر رواية ابن عيينة عن أبي الزناد، المذكورة هنا ما نصّه:
هذا الحديث رواه عن الأعرج أيضًا موسى بن عقبة عند ابن ماجه، من رواية زهير بن محمد عنه، وسَرَدَ الأسماء.
ورواه عن أبي الزناد أيضًا شعيب بن أبي حمزة، كما عند البخاريّ في "الشروط" و"التوحيد"، وأخرجه الترمذيّ من رواية الوليد بن مسلم، عن شعيب، وسَرَدَ الأسماء، ومحمد بن عجلان، عند أبي عوانة، ومالك عند ابن خزيمة، والنسائيّ، والدارقطنيّ في "غرائب مالك"، وقال: صحيح عن مالك، وليس في "الموطأ" قَدْر ما عند أبي نعيم في طرق الأسماء الحسنى، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، عند الدارقطنيّ، وأبو عوانة، ومحمد بن إسحاق، عند أحمد، وابن ماجه، وموسى بن عقبة، عند أبي نعيم، من رواية حفص بن ميسرة عنه.
ورواه عن أبي هريرة أيضًا همام بن مُنبِّه، عند مسلم، وأحمد، ومحمد بن سيرين، عند مسلم، والترمذيّ، والطبرانيّ في "الدعاء"، وجعفر الفريابي في "الذِّكر"، وأبو رافع، عند الترمذيّ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، عند أحمد، وابن ماجه، وعطاء بن يسار، وسعيد المقبريّ، وسعيد بن المسيِّب، وعبد الله بن شقيق، ومحمد بن جبير بن مُطعِم، والحسن البصريّ، أخرجها أبو نعيم بأسانيد عنهم، كلها ضعيفة، وعراك بن مالك، عند البزار، لكن شكّ فيه.
ورويناها في "جزء المعالي"، وفي "أمالي الجرفي" من طريقه بغير شكّ.
ورواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مع أبي هريرة: سلمان الفارسيّ، وابن عباس، وابن عمر، وعليّ، وكلها عند أبي نعيم أيضًا بأسانيد ضعيفة، وحديث عليّ في "طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن السُّلَميّ، وحديث ابن عباس، وابن عمر معًا في الجزء الثالث عشر من "أمالي أبي القاسم بن بشران"، وفي "فوائد أبي عمر بن حيويه" انتقاء الدارقطنيّ.
قال: هذا جميع ما وقفت عليه من طرقه، وقد أطلق ابن عطية في "تفسيره" أنه تواتر عن أبي هريرة، فقال: في سرد الأسماء نظرٌ، فإن بعضها ليس في القرآن، ولا في الحديث الصحيح، ولم يتواتر الحديث من أصله، وإن خرّج في "الصحيح"، ولكنه تواتر عن أبي هريرة. كذا قال، ولم يتواتر عن أبي هريرة أيضًا، بل غاية أمره أن يكون مشهورًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في سرد الأسماء المذكورة:
قال الحافظ رحمه الله: لم يقع في شيء من طرق هذا الحديث سرد الأسماء، إلا في رواية الوليد بن مسلم، عند الترمذيّ، وفي رواية زهير بن محمد، عن موسى بن عقبة، عند ابن ماجه، وهذان الطريقان يرجعان إلى رواية الأعرج، وفيهما اختلاف شديد في سرد الأسماء، والزيادة، والنقص، على ما سأشير إليه.
ووقع سرد الأسماء أيضًا في طريق ثالثة، أخرجها الحاكم في "المستدرك"، وجعفر الفريابيّ في "الذِّكر" من طريق عبد العزيز بن الحصين، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.
واختَلَف العلماء في سرد الأسماء، هل هو مرفوع، أو مدرج في الخبر من بعض الرواة؟ فمشى كثير منهم على الأول، واستدَلُّوا به على جواز تسمية الله تعالى بما لم يَرِد في القرآن بصيغة الاسم؛ لأن كثيرًا من هذه الأسماء كذلك.
وذهب آخرون إلى أن التعيين مُدْرَج؛ لخلوّ أكثر الروايات عنه، ونقله عبد العزيز النخشبيّ عن كثير من العلماء، قال الحاكم بعد تخريج الحديث من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بسياق الأسماء الحسنى، والعلة فيه عندهما تفرُّد الوليد بن مسلم، قال: ولا أعلم خلافًا عند أهل الحديث أن الوليد أوثق، وأحفظ، وأجلّ واعلم، من بشر بن شعيب، وعليّ بن عياش، وغيرهما، من أصحاب شعيب، يشير إلى أن بشرًا، وعليًّا، وأبا اليمان، رووه عن شعيب بدون سياق الأسماء، فرواية أبي اليمان عند البخاريّ، ورواية عليّ عند النسائيّ، ورواية بشر عند
البيهقيّ، وليست العلة عند الشيخين تفرّد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه، والاضطراب، وتدليسه، واحتمال الإدراج.
قال البيهقيّ: يَحْتَمِل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معًا، ولهذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان تخريج التعيين.
وقال الترمذيّ بعد أن أخرجه من طريق الوليد: هذا حديث غريب، حدّثنا به غير واحد عن صفوان، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان، وهو ثقة، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا نعلم في شيء من الروايات ذِكر الأسماء إلا في هذه الطريق، وقد رُوي بإسناد آخر عن أبي هريرة، فيه ذِكر الأسماء، وليس له إسناد صحيح. انتهى.
قال الحافظ: ولم ينفرد به صفوان، فقد أخرجه البيهقيّ من طريق موسى بن أيوب النصيبيّ، وهو ثقة، عن الوليد أيضًا.
وقد اختُلف في سنده على الوليد، فأخرجه عثمان الدارميّ في "النقض على المريسيّ" عن هشام بن عمّار، عن الوليد، فقال: عن خُليد بن دعلج، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، فذَكره بدون التعيين، قال الوليد: وحدّثنا سعيد بن عبد العزيز مثل ذلك، وقال: كلها في القرآن: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)} [الحشر: 22]، وسرد الأسماء، وأخرجه أبو الشيخ ابن حيّان من رواية أبي عامر القرشيّ، عن الوليد بن مسلم، بسند آخر، فقال: حدّثنا زهير بن محمد، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال زهير: فبلَغنا أن غير واحد من أهل العلم قال: إن أولها أن تفتتح بلا إله إلا الله، وسَرَد الأسماء، وهذه الطريق أخرجها ابن ماجه، وابن أبي عاصم، والحاكم، من طريق عبد الملك بن محمد الصنعانيّ، عن زهير بن محمد، لكن سرد الأسماء أوّلًا، فقال بعد قوله:"من حفظها دخل الجنة": الله الواحد الصمد
…
إلخ، ثم قال بعد أن انتهى العدّ: قال زهير: فبلَغَنا عن غير واحد من أهل العلم أن أولها يُفتتح بلا إله إلا الله له الأسماء الحسنى.
قال الحافظ: والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعانيّ،
ورواية الوليد تُشعر بأن التعيين مدرَج، وقد تكرر في رواية الوليد عن زهير ثلاثة أسماء، وهي: الأحد، الصمد، الهادي، ووقع بدَلها في رواية عبد الملك: المُقْسِط، القادر، الوالي، وعند الوليد أيضًا: الوالي، الرشيد، وعند عبد الملك: الوالي، الراشد، وعند الوليد: العادل، المنير، وعند عبد الملك: الفاطر، القاهر، واتفقا في البقية.
وأما رواية الوليد عن شعيب، وهي أقرب الطرق إلى الصحة، وعليها عَوّل غالب من شرح الأسماء الحسنى، فسياقها عند الترمذيّ:"هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المُقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البَرّ التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور".
وقد أخرجه الطبرانيّ عن أبي زرعة الدمشقيّ، عن صفوان بن صالح، فخالف في عدّة أسماء، فقال:"القائم الدائم" بدل: "القابض الباسط"، و"الشديد" بدل:"الرشيد"، و"الأعلى المحيط مالك يوم الدين" بدل:"الودود المجيد الحكيم".
ووقع عند ابن حبان، عن الحسن بن سفيان، عن صفوان:"الرافع" بدل: "المانع".
ووقع في "صحيح ابن خزيمة" في رواية صفوان أيضًا مخالفة في بعض الأسماء، قال:"الحاكم" بدل: "الحكيم"، و"القريب" بدل:"الرقيب"، و"المولى" بدل:"الوالي"، و"الأحد" بدل:"المغني".
ووقع في رواية البيهقيّ، وابن منده، من طريق موسى بن أيوب، عن
الوليد: "المغيث" بالمعجمة، والمثلثة، بدل:"المقيت" بالقاف، والمثناة.
ووقع بين رواية زهير وصفوان المخالفة في ثلاثة وعشرين اسمًا، فليس في رواية زهير:"الفتاح القهار الحكم العدل الحسيب الجليل المحصي المقتدر المقدم المؤخر البر المنتقم المغني النافع الصبور البديع الغفار الحفيظ الكبير الواسع الأحد مالك الملك ذو الجلال والإكرام"، وذكر بدلها:"الرب الفرد الكافي القاهر المبين - بالموحدة - الصادق الجميل البادي - بالدال - القديم البارّ - بتشديد الراء - الوفي البرهان الشديد الواقي - بالقاف - القدير الحافظ العادل المعطي العالم الأحد الأبد الوتر ذو القوّة".
ووقع في رواية عبد العزيز بن الحصين اختلاف آخر، فسقط فيها مما في رواية صفوان من "القهار" إلى تمام خمسة عشر اسمًا على الولاء، وسقط منها أيضًا:"القوي الحليم الماجد القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل المقسط الجامع الضار النافع الوالي الرب"، فوقع فيها مما في رواية موسى بن عقبة المذكورة آنفًا ثمانية عشر اسمًا على الولاء، وفيها أيضًا:"الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر الأكرم الفاطر الخلاق الفاتح المثيب - بالمثلثة، ثم الموحدة - العلام المولى النصير ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الإله المدبر" - بتشديد الموحدة -.
قال الحاكم: إنما أخرجت رواية عبد العزيز بن الحصين شاهدًا لرواية الوليد، عن شعيب؛ لأن الأسماء التي زادها على الوليد كلها في القرآن. كذا قال، وليس كذلك، وإنما تؤخذ من القرآن بضرب من التكلف، لا أن جميعها وَرَدَ فيه بصورة الأسماء.
وقد قال الغزاليّ في "شرح الأسماء" له: لا أعرف أحدًا من العلماء عُني بطلب أسماء، وجمعها سوى رجل من حفاظ المغرب، يقال له عليّ بن حزم، فإنه قال: صَحّ عندي قريب من ثمانين اسمًا يشتمل عليها كتاب الله، والصحاح من الأخبار، فلتطلب البقية من الأخبار الصحيحة، قال الغزاليّ: وأظنه لم يبلغة الحديث؛ يعني: الذي أخرجه الترمذيّ، أو بَلَغه، فاستضعف إسناده، قال الحافظ: الثاني هو مراده، فإنه ذَكَر نحو ذلك في "المحلَّى"، ثم قال: والأحاديث الواردة في سرد الأسماء ضعيفة، لا يصح شيء منها أصلًا، وجميع
ما تتبعته من القرآن ثمانية وستون اسمًا، فإنه اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم، لا ما يؤخذ من الاشتقاق؛ كالباقي من قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، ولا ما ورد مضافًا؛ كالبديع من قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، وسأبيّن الأسماء التي اقتصر عليها قريبًا.
وقد استضعف الحديث أيضًا جماعة، فقال الداوديّ: لم يثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَيَّن الأسماء المذكورة.
وقال ابن العربيّ: يَحْتَمِل أن تكون الأسماء تكملة الحديث المرفوع، ويَحْتَمِل أن تكون مِن جَمْع بعض الرواة، وهو الأظهر عندي.
وقال أبو الحسن القابسيّ: أسماء الله وصفاته لا تُعلم إلا بالتوقيف من الكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع، ولا يدخل فيها القياس، ولم يقع في الكتاب ذِكر عدد معيَّن، وثبت في السُّنَّة أنها تسعة وتسعون، فأخرج بعض الناس من الكتاب تسعة وتسعين اسمًا، والله أعلم بما أخرج من ذلك؛ لأن بعضها ليست أسماء؛ يعني: صريحةً.
ونقل الفخر الرازيّ عن أبي زيد البلخيّ أنه طعن في حديث الباب، فقال: أما الرواية التي لم يُسرَد فيها الأسماء، وهي التي اتفقوا على أنها أقوى من الرواية التي سُردت فيها الأسماء، فضعيفة من جهة أن الشارع ذكر هذا العدد الخاصّ، ويقول: إن من أحصاه دخل الجنة، ثم لا يسأله السامعون عن تفصيلها، وقد عَلِمت شدّة رغبة الخلق في تحصيل هذا المقصود، فيمتنع أن لا يطالبوه بذلك، ولو طالبوه لبيَّنها لهم، ولو بيَّنها لَمَا أغفلوه، ولنُقل ذلك عنهم، وأما الرواية التي سُردت فيها الأسماء، فيدلّ على ضَعفها عدم تناسبها في السياق، ولا في التوقيف، ولا في الاشتقاق؛ لأنه إن كان المراد الأسماء فقط، فغالبها صفات، وإن كان المراد الصفات، فالصفات غير متناهية.
وأجاب الفخر الرازيّ عن الأول بجواز أن يكون المراد من عدم تفسيرها: أن يستمروا على المواظبة بالدعاء بجميع ما ورد من الأسماء؛ رجاء أن يقعوا على تلك الأسماء المخصوصة، كما أُبهمت ساعة الجمعة، وليلة القدر، والصلاة الوسطى.
وعن الثاني بأن سَرْدها إنما وقع بحسب التتبع، والاستقراء على الراجح،
فلم يحصل الاعتناء بالتناسب، وبأن المراد: من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة، بحَسَب ما وقع الاختلاف في تفسير المراد بالإحصاء، فلم يكن القصد حَصْر الأسماء. انتهى.
قال الحافظ: وإذا تقرر رجحان أن سرد الأسماء ليس مرفوعًا، فقد اعتنى جماعة بتتبّعها من القرآن، من غير تقييد بعدد، فروينا في "كتاب المائتين" لأبي عثمان الصابونيّ بسنده إلى محمد بن يحيى الذُّهْليّ أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبرانيّ، عن أحمد بن عمرو الخلال، عن ابن أبي عمرو: حدّثنا محمد بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين، سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى، فقال: هي في القرآن.
وروينا في "فوائد تمام" من طريق أبي الطاهر بن السرح، عن حبان بن نافع، عن سفيان بن عيينة الحديث؛ يعني: حديث: "إن لله تسعة وتسعين اسمًا"، قال: فوَعَدَنا سفيان أن يُخرجها لنا من القرآن، فأبطأ، فأتينا أبا زيد، فأخرجها لنا، فعرضناها على سفيان، فنظر فيها أربع مرّات، وقال: نعم هي هذه.
وهذا سياق ما ذكره جعفر، وأبو زيد، قالا: ففي "الفاتحة" خمسة: "الله رب الرحمن الرحيم مالك"، وفي "البقرة":"محيط قدير عليم حكيم علي عظيم تواب بصير ولي واسع كاف رؤوف بديع شاكر واحد سميع قابض باسط حي قيوم غني حميد غفور حليم"، وزاد جعفر:"إله قريب مجيب عزيز نصير قويّ شديد سريع خبير". قالا: وفي "آل عمران": وهاب قائم"، زاد جعفر الصادق: "باعث منعم متفضل"، وفي "النساء": "رقيب حسيب شهيد مقيت وكيل"، زاد جعفر: "علي كبير"، وزاد سفيان: "عفوّ"، وفي "الأنعام": "فاطر قاهر"، زاد جعفر: "مميت غفور برهان"، وزاد سفيان: "لطيف خبير قادر"، وفي "الأعراف": "محيي مميت"، وفي "الأنفال": "نِعم المولى ونعم النصير"، وفي "هود": "حفيظ مجيد ودود فعال لِمَا يريد"، زاد سفيان: "قريب مجيب"، وفي "الرعد": "كبير متعال"، وفي "إبراهيم": "منان"، زاد جعفر: "صادق وارث"، وفي "الحِجر": "خلاق"، وفي "مريم": "صادق وارث"، زاد جعفر: "فَرْد"، وفي "طه" عند جعفر وحده: "غفار"، وفي "المؤمنين": "كريم"، وفي "النور": "حق مبين"، زاد سفيان: "نور"، وفي "الفرقان": "هاد"، وفي "سبأ": "فتاح"،
وفي "الزمر": "عالم" عند جعفر وحده، وفي "المؤمن":"غافر قابل ذو الطول"، زاد سفيان:"شديد"، وزاد جعفر:"رفيع"، وفي "الذاريات":"رزاق ذو القوة المتين" بالتاء، وفي "الطور":"بَرّ"، وفي "اقتربت":"مقتدر"، زاد جعفر:"مليك"، وفي "الرحمن":"ذو الجلال والإكرام"، زاد جعفر:"رب المشرقين ورب المغربين باقي معين"، وفي "الحديد":"أول آخر ظاهر باطن"، وفي "الحشر":"قدوس سلام مؤمن مهيمن عزيز جبار متكبر خالق بارئ مصور"، زاد جعفر:"ملك"، وفي "البروج":"مبدئ معيد"، وفي "الفجر":"وتر" عند جعفر وحده، وفي "الإخلاص":"أحد صمد".
قال: هذا آخر ما رويناه عن جعفر، وأبي زيد، وتقرير سفيان من تتبّع الأسماء من القرآن، وفيها اختلاف شديد، وتكرار، وعدّة أسماء لم تَرِدْ بلفظ الاسم، وهي:"صادق منعم متفضل منان مبدئ معيد باعث قابض باسط برهان معين مميت باقي"، ووقفت في "كتاب المقصد الأسنى" لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الزاهد أنه تتبّع الأسماء من القرآن، فتأملته فوجدته كرر أسماء، وذكر مما لم أره فيه بصيغة الاسم:"الصادق والكاشف والعلام"، وذكر من المضاف:"الفالق" من قوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، وكان يلزمه أن يذكر "القابل" من قوله:{وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3].
قال: وقد تتبّعت ما بقي من الأسماء مما ورد في القرآن بصيغة الاسم، مما لم يُذكر في رواية الترمذيّ، وهي:"الرب الإله المحيط القدير الكافي الشاكر الشديد القائم الحاكم الفاطر الغافر القاهر المولى النصير الغالب الخالق الرفيع المليك الكفيل الخلاق الأكرم الأعلى المبين - بالموحدة - الحفي - بالحاء المهملة، والفاء - القريب الأحد الحافظ"، فهذه سبعة وعشرون اسمًا إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذيّ مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تَكْمُل بها التسعة والتسعون، وكلها في القرآن، لكن بعضها بإضافة؛ كالشديد، من:{شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] والرفيع، من:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15]، والقائم من قوله:{قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، والفاطر من:{فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 10]، والقاهر من:{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، والمولى والنصير من:{نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40]،
والعالم من: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [المؤمنون: 92]، والخالق من قوله:{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، والغافر من:{غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر: 3]، والغالب من:{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21]، والرفيع من:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15]، والحافظ من قوله:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [يوسف: 64]، ومن قوله:{وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقد وقع نحو ذلك من الأسماء التي في رواية الترمذيّ وهي المحيي من قوله:{لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [الروم: 50]، والمالك من قوله:{مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26]، والنور من قوله:{نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، والبديع من قوله:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 117]، والجامع من قوله:{جَامِعُ النَّاسِ} [آل عمران: 9]، والحَكَم من قوله:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [الأنعام: 114]، والوارث من قوله:{وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [الحجر: 23]، والأسماء التي تقابل هذه مما وقع في رواية الترمذيّ مما لم تقع في القرآن بصيغة الاسم، وهي سبعة وعشرون اسمًا:"القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل العدل الجليل الباعث المحصي المبدئ المعيد المميت الواجد الماجد المقدم المؤخر الوالي ذو الجلال والإكرام المقسط المغني المانع الضار النافع الباقي الرشيد الصبور"، فإذا اقتُصر من رواية الترمذيّ على ما عدا هذه الأسماء، وأبدلت بالسبعة والعشرين التي ذكرتها خَرَج من ذلك تسعة وتسعون اسمًا، وكلها في القرآن واردة بصيغة الاسم، ومواضعها كلها ظاهرة من القرآن، إلا قوله:"الحفيّ" فإنه في سورة "مريم" في قول إبراهيم: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47]، وقلّ من نبَّه على ذلك.
قال: ولا يبقى بعد ذلك إلا النظر في الأسماء المشتقة من صفة واحدة، مثل:"القدير والمقتدر والقادر والغفور والغفار والغافر والعلي والأعلى والمتعال والملك والمليك والمالك والكريم والأكرم والقاهر والقهار والخالق والخلاق والشاكر والشكور والعالم والعليم"، فإما أن يقال: لا يمنع ذلك من عدّها، فإن فيها التغاير في الجملة، فإن بعضها يزيد بخصوصية على الآخر ليست فيه، وقد وقع الاتفاق على أن الرحمن الرحيم اسمان مع كونهما مشتقين من صفة واحدة، ولو مُنع مِن عدّ ذلك للزم أن لا يُعَدّ ما يَشترك الاسمان فيه مَثَلًا من حيث المعنى، مثل: الخالق البارئ المصور، لكنها عُدّت؛ لأنها ولو
اشتركت في معنى الإيجاد والاختراع، فهي مغايرة من جهة أخرى، وهي أن الخالق يفيد القدرة على الإيجاد، والبارئ يفيد الموجد لجوهر المخلوق، والمصور يفيد خالق الصورة في تلك الذات المخلوقة، وإذا كان ذلك لا يمنع المغايرة لم يمتنع عدّها أسماء مع ورودها، والعلم عند الله تعالى.
وهذا سَرْدها لِتُحفظ، ولو كان في ذلك إعادة، لكنه يُغتفر لهذا القصد:"الله الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار التواب الوهاب الخلاق الرزاق الفتاح العليم الحليم العظيم الواسع الحكيم الحي القيوم السميع البصير اللطيف الخبير العلي الكبير المحيط القدير المولى النصير الكريم الرقيب القريب المجيب الوكيل الحسيب الحفيظ المقيت الودود المجيد الوارث الشهيد الولي الحميد الحق المبين القوي المتين الغني المالك الشديد القادر المقتدر القاهر الكافي الشاكر المستعان الفاطر البديع الغافر الأول الآخر الظاهر الباطن الكفيل الغالب الحكم العالم الرفيع الحافظ المنتقم القائم المحيي الجامع المليك المتعالى النور الهادي الغفور الشكور العفوّ الرؤوف الأكرم الأعلى البرّ الحفيّ الربّ الإله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". انتهى ما حققه الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن مما سبق من التحقيق أن سرد الأسماء مرفوعًا غير ثابتٌ، وإنما هو مدرج من بعض الرواة، وقد حقّق الحافظ رحمه الله عدّها مما في القرآن، فأجاد، وأفاد، وبالله تعالى التوفيق.
(المسألة الخامسة): قال جماعة من العلماء: الحكمة في قوله: "مائة إلا واحدٌ" بعد قوله: "تسعة وتسعون" أن يتقرر ذلك في نفس السامع جمعًا بين جهتي الإجمال والتفصيل، أو دفعًا للتصحيف الخطيّ والسمعيّ.
وقال الطيبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: ما فائدة هذا التأكيد -يعني: قوله: "مائة إلا واحد" -؟.
[قلت]: ما ذكره الشيخ التوربشتيّ: إن معرفة أسماء الله تعالى، وصفاته
(1)
"الفتح"(14/ 466 - 473، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
توقيفيّة، تُعلم من طريق الكتاب والسُّنَّة، ولم يكن لنا أن نتصرّف فيها بما نهتدي إليه بمبلغ علمنا، ومنتهى عقولنا، وقد مُنعنا عن إطلاق ما لم يَرد به التوقيف من ذلك، وإن جوّزه العقل، وحكم به القياس، كأن الخَطْب في ذلك غير هيّن، والمخطئ فيه غير معذور، والنقصان عنه كالزيادة فيه غير مرضيّ، وكان الاحتمال في رسم الخطّ واقعًا باشتباه تسعة وتسعين في زلّة الكاتب، وهفوة القلم بسبعة وتسعين، أو سبعة وسبعين، أو تسعة وسبعين، فينشأ الاختلاف في المسموع من المسطور، فأكّده به حسمًا لمادّة الخلاف، وإرشادًا إلى الاحتياط في هذا الباب. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): استُدِلّ بهذا الحديث على صحة استثناء القليل من الكثير، وهو متفق عليه، وأبعدَ من استَدَلّ به على جواز الاستثناء مطلقًا، حتى يدخل استثناء الكثير حتى لا يبقى إلا القليل.
وأغرب الداوديّ فيما حكاه عنه ابن التين، فنقل الاتفاق على الجواز، وأن من أقرّ، ثم استثنى عُمل باستثنائه، حتى لو قال: له عليّ ألف إلا تسعمائة وتسعة وتسعين، أنه لا يلزمه إلا واحد.
وتعَقّبه ابن التين، فقال: ذهب إلى هذا في الإقرار جماعة، وأما نَقْل الاتفاق فمردود، فالخلاف ثابت، حتى في مذهب مالك، وقد قال أبو الحسن اللَّخْميّ منهم: لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثنتين، وقع عليه ثلاث، ونقل عبد الوهاب وغيره عن عبد الملك وغيره أنه لا يصح استثناء الكثير من القليل،، ومن لطيف أدلتهم أن من قال: صمت الشهر إلا تسعًا وعشرين يومًا، يُستهجن؛ لأنه لم يصم إلا يومًا، واليوم لا يسمى شهرًا، وكذا من قال: لقيت القوم جميعًا إلا بعضهم، ويكون ما لقي إلا واحدًا.
قال الحافظ: والمسألة مشهورة، فلا يُحتاج إلى الإطالة فيها. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة السابعة): في اختلاف أهل العلم هل هذا العدد للحصر، أو لا؟:
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1766.
(2)
"الفتح" 14/ 474، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
(اعلم): أنهم اختلفوا في هذا العدد: هل المراد به حصر الأسماء الحسنى في هذه العدّة، أو أنها أكثر من ذلك، ولكن اختصت هذه بأن من أحصاها دخل الجنة؟ فذهب الجمهور إلى الثاني، ونَقَل النوويّ اتفاق العلماء عليه، فقال: ليس في الحديث حصر أسماء الله تعالى، وليس معناه أنه ليس له اسم غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث: أن هذه الأسماء من أحصاها دخل الجنة، فالمراد: الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبار بحصر الأسماء، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان:"أسألك بكلّ اسم هو لك، سمَّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، وعند مالك، عن كعب الأحبار في دعاء:"وأسألك بأسمائك الحسنى، ما علمتُ منها وما لم أعلم"، وأورد الطبريّ عن قتادة نحوه، ومن حديث عائشة أنها دعت بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك.
وقال الخطابيّ رحمه الله: في هذا الحديث إثبات هذه الأسماء المخصوصة بهذا العدد، وليس فيه مَنْع ما عداها من الزيادة، وإنما التخصيص؛ لكونها أكثر الأسماء، وأبْينها معاني، وخبر المبتدأ في الحديث هو قوله:"من أحصاها" لا قوله: "لله"، وهو كقولك: لزيد ألف درهم، أعدّها للصدقة، أو لعمرو مائة ثوب، من زاره ألبسه إياها.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: لا قوله: "لله"، فيه نظر لا يخفى، بل الصواب أن الخبر "لله"، وأما جملة:"من أحصاها دخل الجنّة": فإما خبر بعد خير، وإما نعت للعدد المذكور، فيكون قيدًا فيه، فيكون المعنى: أن تلك الأسماء الموصوفة بهذا كائنة لله، فلا يكون مانعًا من ثبوت أسماء أخرى لله عز وجل غير موصوفة بما ذُكر، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم" نحو ذلك، ونقل ابن بطال عن القاضي أبي بكر بن الطيب قال: ليس في الحديث دليل على أنه ليس لله من الأسماء إلا هذه العدة، وإنما معنى الحديث: أن من أحصاها دخل الجنة، ويدلّ على عدم الحصر أن أكثرها صفات، وصفات الله لا تتناهى.
وقيل: إن المراد: الدعاء بهذه الأسماء؛ لأن الحديث مبني على قوله:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها تسعة وتسعون، فيُدعَى بها، ولا يدعى بغيرها، حكاه ابن بطال عن المهلّب، وفيه نظر؛ لأنه ثبت في أخبار صحيحة الدعاء بكثير من الأسماء التي لم تَرِد في القرآن، كما في حديث ابن عباس في قيام الليل:"أنت المقدّم، وأنت المؤخر"، وغير ذلك.
وقال الفخر الرازيّ: لمّا كانت الأسماء من الصفات، وهي إما ثبوتية حقيقية؛ كالحيّ، أو إضافية؛ كالعظيم، وإما سلبية؛ كالقدوس، وإما من حقيقية وإضافية؛ كالقدير، أو من سلبية إضافية؛ كالأول، والآخر، وإما من حقيقية وإضافية سلبية؛ كالمَلِك، والسُّلوب غير متناهية؛ لأنه عالم بلا نهاية، قادر على ما لا نهاية له، فلا يمتنع أن يكون له من ذلك اسم، فيلزم أن لا نهاية لأسمائه.
وحَكَى القاضي أبو بكر بن العربيّ عن بعضهم: أن لله ألف اسم، قال ابن العربيّ: وهذا قليل فيها.
ونقل الفخر الرازيّ عن بعضهم: أن لله أربعة آلاف اسم، استأثر بعلم ألف منها، وأعْلَم الملائكة بالبقية، والأنبياء بألفين منها، وسائر الناس بألف.
قال الجامع عفا الله عنه: هذه - كما قال الحافظ رحمه الله دعوى تحتاج إلى دليل، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
واستدلّ بعضهم لهذا القول بأنه ثبت في نفس حديث الباب: "وهو وتر، يحب الوتر"، والرواية التي سُردت فيها الأسماء لم يُعَدّ فيها الوتر، فدلّ على أن له اسمًا آخر غير التسعة والتسعين.
وتعقبه من ذهب إلى الحصر في التسعة والتسعين؛ كابن حزم: بأن الخبر الوارد لم يثبت رَفْعه، وإنما هو مُدْرَج.
واستَدلّ أيضًا على عدم الحصر بأنه مفهوم عدد، وهو ضعيف، وابن حزم ممن ذهب إلى الحصر في العدد المذكور، وهو لا يقول بالمفهوم أصلًا، ولكنه احتجّ بالتأكيد في قوله صلى الله عليه وسلم:"مائة إلا واحدٌ". قال: لأنه لو جاز أن يكون له اسم زائد على العدد المذكور، لَزِم أن يكون له مائة اسم، فيبطل قوله:"مائة إلا واحدٌ"، وهذا الذي قاله ليس بحجة؛ لأن الحصر المذكور عندهم باعتبار
الوعد الحاصل لمن أحصاها، فمن ادَّعَى على أن الوعد وقع لمن أحصى زائدًا على ذلك أخطأ، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون هناك اسم زائد.
واحتَجّ بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]، وقد قال أهل التفسير: من الإلحاد في أسمائه تسميته بما لم يَرِد في الكتاب، أو السُّنَّة الصحيحة، وقد ذَكَر منها في آخر "سورة الحشر" عدّةً، وخَتَم ذلك بأن قال:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الحشر: 24]، قال: وما يُتخيل من الزيادة في العدة المذكور لعله مكرر معنى، وإن تغاير لفظًا؛ كالغافر، والغفار، والغفور، مثلًا، فيكون المعدود من ذلك واحدًا فقط، فإذا اعتُبر ذلك، وجُمعت الأسماء الواردة نصًّا في القرآن، وفي "الصحيح" من الحديث لم تزد على العدد المذكور.
وقال غيره: المراد بالأسماء الحسنى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ما جاء في الحديث: "إن لله تسعةً وتسعين اسمًا"، فإن ثبت الخبر الوارد في تعيينها وجب المصير إليه، وإلا فليتتبع من الكتاب العزيز والسُّنَّة الصحيحة، فإن التعريف في الأسماء للعهد، فلا بدّ من المعهود، فإنه أمَر بالدعاء بها، ونَهَى عن الدعاء بغيرها، فلا بدّ من وجود المأمور به.
قال الحافظ: والحوالة على الكتاب العزيز أقرب، وقد حَصَل بحمد الله تتبّعها، وبقي أن يُعْمَد إلى ما تكرر لفظًا ومعنى من القرآن، فيُقتصر عليه، ويتتبع من الأحاديث الصحيحة تكملة العدة المذكورة، فهو نمط آخر من التتبع، عسى الله أن يُعِين عليه بحوله، وقوته، آمين.
[فصل]: وأما الحكمة في القَصْر على العدد المخصوص، فذكَرَ الفخر الرازيّ عن الأكثر أنه تعبُّد لا يُعقل معناه، كما قيل في عدد الصلوات وغيرها، ونُقل عن أبي خلف محمد بن عبد الملك الطبريّ السلميّ قال: إنما خَصّ هذا العدد إشارةً إلى أن الأسماء لا تؤخذ قياسًا.
وقيل: الحكمة فيه أن معاني الأسماء، ولو كانت كثيرة جدًّا موجودة في التسعة والتسعين المذكورة.
وقيل: الحكمة فيه أن العدد زوج وفرد، والفرد أفضل من الزوج، ومنتهى الإفراد من غير تكرار تسعة وتسعون؛ لأن مائة وواحدًا يتكرر فيه الواحد، وإنما
كان الفرد أفضل من الزوج؛ لأن الوتر أفضل من الشفع؛ لأن الوتر من صفة الخالق، والشفع من صفة المخلوق، والشفع يحتاج للوتر من غير عكس.
وقيل: الكمال في العدد حاصل في المائة؛ لأن الأعداد ثلاثة أجناس: آحاد، وعشرات، ومئات، والألف مبتدأ لآحاد آخر، فأسماء الله مائة استأثر الله منها بواحد، وهو الاسم الأعظم، فلم يُطلِع عليه أحدًا، فكأنه قيل: مائة، لكن واحد منها عند الله.
وقال غيره: ليس الاسم الذي يكمل المائة مخفيًّا، بل هو الجلالة، وممن جزم بذلك السهيليّ، فقال: الأسماء الحسنى مائة على عدد درجات الجنة، والذي يكمل المائة:"الله"، ويؤيده قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فالتسعة والتسعون لله، فهي زائدة عليه، وبه تكمل المائة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن الأَولى في هذا أن يردّ إلى العليم الخبير، فلا داعي للاختلاف في تعيين وجه الحكمة، وليست معرفته من التكليفيّات، فتبصّر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(المسألة الثامنة): في اختلاف أهل العلم في معنى: "من أحصاها
…
إلخ":
قال الخطابيّ رحمه الله: الإحصاء في مثل هذا يَحْتَمِل وجوهًا:
أحدها: أن يعُدّها حتى يستوفيها، يريد أنه لا يقتصر على بعضها، لكن يدعو الله بها كلّها، ويثني عليه بجميعها، فيستوجب الموعود عليها من الثواب.
ثانيها: المراد بالإحصاء: الإطاقة، كقوله تعالى:{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20]، ومنه حديث:"استقيموا، ولن تحصوا"؛ أي: لن تبلغوا كنه الاستقامة، والمعنى: من أطاق القيام بحقّ هذه الأسماء، والعمل بمقتضاها، وهو أن يعتبر معانيها، فيُلزم نفسه بواجبها، فإذا قال: الرزاق، وَثِق بالرزق، وكذا سائر الأسماء.
ثالثها: المراد بالإحصاء: الإحاطة بمعانيها، من قول العرب: فلان ذو
(1)
"الفتح" 14/ 475 - 477، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
حصاة؛ أي: ذو عقل ومعرفة. انتهى ملخّصًا
(1)
.
وقال القرطبيّ: المرجوّ من كرم الله تعالى أن من حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب، مع صحة النية أن يُدخله الله الجنة، وهذه المراتب الثلاثة للسابقين، والصدّيقين، وأصحاب اليمين.
وقال غيره: معنى أحصاها: عَرَفها؛ لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمنًا، والمؤمن يدخل الجنة.
وقيل: معناه: عدّها معتقدًا؛ لأن الدهريّ لا يعترف بالخالق، والفلسفيّ لا يعترف بالقادر.
وقيل: أحصاها، يريد بها وجه الله، وإعظامه.
وقيل: معنى أحصاها: عَمِل بها، فإذا قال: الحكيم مثلًا سَلّم جميع أوامره؛ لأن جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال: القدوس استحضر كونه منزهًا عن جميع النقائص، وهذا اختيار أبي الوفا بن عقيل.
وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها؛ كالرحيم، والكريم، فإن الله يحب أن يرى حلاها على عبده، فَلْيُمَرِّن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى؛ كالجبار، والعظيم، فيجب على العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها، وحفظها، ويؤيّده أن من حفظها عدًّا، وأحصاها سردًا، ولم يعمل بها يكون كمن حَفِظ القرآن، ولم يعمل بما فيه، وقد ثبت الخبر في الخوارج أنهم يقرؤون القرآن، ولا يجاوز حناجرهم.
قال الحافظ: والذي ذكره مقام الكمال، ولا يلزم من ذلك أن لا يَرِد الثواب لمن حفظها، وتعبّد بتلاوتها، والدعاء بها، وإن كان متلبسًا بالمعاصي، كما يقع مثل ذلك في قارئ القرآن سواءً، فإن القارئ، ولو كان متلبسًا بمعصية غير ما يتعلق بالقراءة، يثاب على تلاوته عند أهل السُّنَّة، فليس ما بحثه ابن
(1)
"الأعلام" 3/ 1342، و "الفتح" 14/ 474، "كتاب الدعوات" رقم (6410).
بطال بدافع لقول من قال: إن المراد حِفْظها سردًا، والله أعلم.
وقال النوويّ: قال البخاريّ وغيره من المحققين: معناه: حَفِظها، وهذا هو الأظهر؛ لثبوته نصًّا في الخبر، وقال في "الأذكار": هو قول الأكثرين.
وقال ابن الجوزيّ: لمّا ثبت في بعض طرُق الحديث "من حفظها" بدل: "أحصاها" اخترنا أن المراد: العدّ؛ أي: من عدّها؛ ليستوفيها حفظًا.
وتعقّبه الحافظ، فقال: وفيه نظر؛ لأنه لا يلزم من مجيئه بلفظ: "حفظها" تعيّن السرد عن ظهر قلب، بل يَحْتَمِل الحفظ المعنويّ.
وقيل: المراد بالحفظ: حفظ القرآن؛ لكونه مستوفيًا لها، فمن تلاه، ودعا بما فيه من الأسماء حصل المقصود، قال النوويّ: وهذا ضعيف.
وقيل: المراد: مَنْ تتبّعها من القرآن.
وقال ابن عطية: معنى أحصاها: عدّها، وحفظها، ويتضمن ذلك الإيمان بها، والتعظيم لها، والرغبة فيها، والاعتبار بمعانيها.
وقال الأصيليّ: ليس المراد بالإحصاء عدّها فقط؛ لأنه قد يعدّها الفاجر، وإنما المراد: العمل بها.
وقال أبو نعيم الأصبهانيّ: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء، والإيمان بها.
وقال أبو عمر الطلمنكيّ: من تمام المعرفة بأسماء الله تعالى، وصفاته التي يستحق بها الداعي والحافظ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المعرفة بالأسماء والصفات، وما تتضمن من الفوائد، وتدلّ عليه من الحقائق، ومن لم يعلم ذلك، لم يكن عالِمًا لمعاني الأسماء، ولا مستفيدًا بذكرها ما تدلّ عليه من المعاني.
وقال أبو العباس بن معد: يَحْتَمِل الإحصاء معنيين:
أحدهما: أن المراد: تتبّعها من الكتاب والسُّنَّة، حتى يحصل عليها.
والثاني: أن المراد: أن يحفظها بعد أن يجدها محصاةً، قال: ويؤيده أنه ورد في بعض طرقه: "من حفظها"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون صلى الله عليه وسلم أطلق أوّلًا قوله: "من أحصاها دخل الجنة"، ووَكَل العلماء إلى البحث عنها، ثم يسَّر على الأمة الأمر، فألقاها إليهم محصاةً، وقال:"من حفظها دخل الجنة".
وتعقّبه الحافظ بأنه احتمال بعيد جدًّا؛ لأنه يَتَوقف على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم حدّث بهذا الحديث مرتين، إحداهما قبل الأخرى، ومن أين يُثبت ذلك، ومخرج اللفظين واحد؟ وهو عن أبي هريرة، والاختلاف عن بعض الرواة عنه في أيّ اللفظين قاله. انتهى.
قال: وللإحصاء معانٍ أخرى، منها الإحصاء الفقهيّ، وهو العلم بمعانيها من اللغة، وتنزيلها على الوجوه التي تحتملها الشريعة
(1)
، ومنها: الإحصاء النظريّ، وهو أن يعلم معنى كل اسم بالنظر في الصيغة، ويستدلّ عليه بأثره الساري في الوجود، فلا تمرّ على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني الأسماء، وتعرف خواصّ بعضها، وموقع القيد، ومقتضى كل اسم، قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء، قال: وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن بما يقتضيه كل اسم من الأسماء، فيعبد الله بما يستحقه من الصفات المقدسة التي وجبت لذاته، قال: فمن حصلت له جميع مراتب الإحصاء، حصل على الغاية، ومن مُنح مَنحًى من مناحيةا، فثوابه بقدر ما نال، والله أعلم.
[تنبيه]: وقع في "تفسير ابن مردويه"، وعند أبي نعيم من طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة بدل قوله:"من أحصاها دخل الجنة": "من دعا بها دخل الجنة"، وفي سنده حصين بن مخارق، وهو ضعيف، وزاد خُليد بن دُعْلج في روايته التي تقدمت الإشارة إليها:"وكلّها في القرآن"، وكذا وقع من قول سعيد بن عبد العزيز، وكذا وقع في حديث ابن عباس، وابن عمر معًا بلفظ:"من أحصاها دخل الجنة، وهي في القرآن"، قاله في "الفتح"
(2)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(المسألة التاسعة): قيل: استُدِلّ بهذا الحديث على أن الاسم هو المسمى، حكاه أبو القاسم القشيريّ في "شرح أسماء الله الحسنى"، فقال: في
(1)
وقع في نسخة "الفتح"، بلفظ: وتنزيهها على الوجوه التي تحملها الشريعة، ولا يخفى ما فيه.
(2)
"الفتح" 14/ 483 - 486.
هذا الحديث دليل على أن الاسم هو المسمى؛ إذ لو كان غيره كانت الأسماء غيره؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] ثم قال: والمَخْلَص من ذلك أن المراد بالاسم هنا: التسمية.
وقال الفخر الرازيّ: المشهور من قول أصحابنا: أن الاسم نفس المسمى، وغير التسمية، وعند المعتزلة: الاسم نفس التسمية، وغير المسمى، واختار الغزاليّ أن الثلاثة أمور متباينة، وهو الحقّ عندي؛ لأن الاسم إن كان عبارة عن اللفظ الدال على الشيء بالوضع، وكان المسمى عبارة عن نفس ذلك الشيء المسمى، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، وهذا مما لا يمكن وقوع النزاع فيه.
وقال أبو العباس القرطبيّ في "المفهم": الاسم في العرف العامّ هو الكلمة الدالة على شيء مفرد، وبهذا الاعتبار لا فرق بين الاسم والفعل والحرف؛ إذ كل واحد منها يصدق عليه ذلك، وإنما التفرقة بينها باصطلاح النحاة، وليس ذلك من غرض المبحث هنا.
وإذا تقرر هذا عُرف غلط من قال: إن الاسم هو المسمى حقيقةً، كما زعم بعض الجهلة، فألزم أن من قال: نار احتَرَق، فلم يقدر على التخلص من ذلك، وأما النحاة فمرادهم بأن الاسم هو المسمى: أنه من حيث إنه لا يدلّ إلا عليه، ولا يُقصد إلا هو، فإن كان ذلك الاسم من الأسماء الدالة على ذات المسمى، دلّ عليها من غير مزيد أمر آخر، وإن كان من الأسماء الدالة على معنى زائد، دلّ على أن تلك الذات منسوبة إلى ذلك الزائد خاصّة دون غيره.
وبيان ذلك أنك إذا قلت: زيد مثلًا، فهو يدل على ذات متشخصة في الوجود، من غير زيادة ولا نقصان، فإن قلت: العالم، دلّ على أن تلك الذات منسوبة للعلم، ومن هذا صحّ عقلًا أن تتكثر الأسماء المختلفة على ذات واحدة، ولا توجب تعددًا فيها، ولا تكثيرًا، قال: وقد خفي هذا على بعضهم، ففرّ منه هربًا من لزوم تعدّد في ذات الله تعالى، فقال: إن المراد بالاسم: التسمية، ورأى أن هذا يخلصه من التكثر، وهذا فرار من غير مفرّ إلى مفرّ، وذلك أن التسمية إنما هي وَضْع الاسم، وذكر الاسم فهي نسبة الاسم إلى
مسماه، فإذا قلنا: لفلان تسميتان، اقتضى أن له اسمين ننسبهما إليه، فبقي الإلزام على حاله، من ارتكاب التعسف.
ثم قال القرطبيّ: وقد يقال: الاسم هو المسمى على إرادة أن هذه الكلمة التي هي الاسم تُطلق، ويراد بها المسمى، كما قيل ذلك في قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]؛ أي: سبِّح ربك، فأُريدَ بالاسم المسمى.
وقال غيره: التحقيق في ذلك أنك إذا سمّيت شيئًا باسم، فالنظر في ثلاثة أشياء: ذلك الاسم، وهو اللفظ، ومعناه قبل التسمية، ومعناه بعدها، وهو الذات التي أُطلق عليها اللفظ، والذات واللفظ متغايران قطعًا، والنحاة إنما يُطلقونه على اللفظ؛ لأنهم إنما يتكلمون في الألفاظ، وهو غير مسمى قطعًا، والذات هي المسمى قطعًا، وليست هي الاسم قطعًا، والخلاف في الأمر الثالث، وهو معنى اللفظ قبل التلقيب، فالمتكلمون يطلقون الاسم عليه، ثم يختلفون في أنه الثالث، أو لا، فالخلاف حينئذ إنما هو في الاسم المعنويّ، هل هو المسمى، أو لا؟، لا في الاسم اللفظيّ، والنحويُّ لا يطلق الاسم على غير اللفظ؛ لأنه محطّ صناعته، والمتكلم لا ينازعه في ذلك، ولا يمنع إطلاق اسم المدلول على الدال، وإنما يزيد عليه شيئًا آخر، دعاه إلى تحقيقه ذِكر الأسماء والصفات، وإطلاقها على الله تعالى، قال: ومثال ذلك أنك إذا قلت: جعفر لقبه أنف الناقة، فالنحويّ يريد باللقب لَفْظ: أنف الناقة، والمتكلم يريد معناه، وهو ما يُفهم منه من مدح، أو ذمّ، ولا يمنع ذلك قول النحويّ: اللقب لفظ يُشعر بِضَعَة أو رِفْعَة؛ لأن اللفظ يُشعر بذلك؛ لدلالته على المعنى، والمعنى في الحقيقة هو المقتضِي للضَّعَة والرِّفْعة، وذات جعفر هي الملقبة عند الفريقين، وبهذا يظهر أن الخلاف في أن الاسم هو المسمى، أو غير المسمى خاصّ بأسماء الأعلام المشتقة.
ثم قال القرطبيّ: فأسماء الله، وإن تعددت، فلا تعدُّد في ذاته، ولا تركيب، لا محسوسًا كالجسميات، ولا عقليًّا كالمحدودات، وإنما تعددت الأسماء بحسب الاعتبارات الزائدة على الذات، ثم هي من جهة دلالتها على أربعة أضرب:
الأول: ما يدل على الذات مجردة؛ كالجلالة، فإنه يدل عليه دلالة مطلقة، غير مقيدة، وبه يُعرف جميع أسمائه، فيقال: الرحمن مثلًا من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، ولهذا كان الأصحّ أنه اسم عَلَمٌ غير مشتقّ، وليس بصفة.
قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن "الله" مشتقّ، وقد استوفيت بحثه في "شرح المقدّمة"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
قال: الثاني: ما يدلّ على الصفات الثابتة للذات؛ كالعليم، والقدير، والسميع، والبصير.
الثالث: ما يدلّ على إضافة أمرٍ ما إليه؛ كالخالق، والرازق.
الرابع: ما يدلّ على سلب شيء عنه؛ كالعليّ، والقدوس.
وهذه الأقسام الأربعة منحصرة في النفي والإثبات، ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الكلام في كون الاسم هو المسمّى، أو غيره من فضول البحث الذي لا يعني المكلّف الخوض فيه، وقد أشبع الكلام فيه شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله وحقّقه تحقيقًا، لا تجده محرّرًا عند غيره، ثمّ قال: إن النزاع اشتَهَر في ذلك بعد الأئمّة: أحمد، وغيره، ونَقَل عن أبي جعفر الطبريّ أن القول في الاسم والمسمّى من الحماقات المبتدَعة التي لا يُعرف فيها قولٌ لأحد من الأئمّة، وإنّ حَسْبَ الإنسان أن ينتهي إلى قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، وهذا هو القول بأن الاسم للمسمّى، وهذا الإطلاق اختيار أكثر المنتسبين إلى السُّنَّة، من أصحاب الإمام أحمد، وغيره
…
إلى آخر ما قاله رحمه الله تعالى. انظر: "مجموع الفتاوى" 6/ 185 - 212 تستفد علومًا جَمَّة.
والحاصل: أن الخوض في هذه المسألة من فضول الكلام، و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، فالأَولى بالمسلم الشحيح على دينه عدم الخوض في المسائل المبتدَعة إلا للرّدّ عليها، وإن دعت الحاجة إليه، ولا بُدّ فما عليه الأكثرون من أهل السُّنَّة هو الذي نُرجّحه، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 14/ 477 - 479، و"المفهم" 7/ 15.
(المسألة العاشرة): في اختلاف أهل العلم في الأسماء هل هي توقيفيّة، أم لا؟:
(اعلم): أنهم اختلفوا فيها، هل هي توقيفية؛ بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نصّ، إما في الكتاب، أو السُّنَّة، فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية، وقالت المعتزلة، والكرامية: إذا دلّ العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حقّ الله جاز إطلاقه على الله.
وقال القاضي أبو بكر، والغزاليّ: الأسماء توقيفية، دون الصفات، قال: وهذا هو المختار، واحتج الغزاليّ بالاتفاق على أنه لا يجوز لنا أن نسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم لم يسمِّه به أبوه، ولا سمَّى به نفسه، وكذا كل كبير من الخلق، قال: فإذا امتنع ذلك في حقّ المخلوقين فامتناعه في حقّ الله أَولى، واتفقوا على أنه لا يجوز أن يُطلق عليه اسم، ولا صفة تُوْهِم نقصًا، ولو ورد ذلك نصًّا، فلا يقال: ماهِدٌ، ولا زارعٌ، ولا فالقٌ، ولا نحو ذلك، وإن ثبت في قوله:{فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48]، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64]، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 95]، ونحوها، ولا يقال له: ماكر، ولا بنّاء، وإن ورد:{وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا} [الذاريات: 47].
وقال أبو القاسم القشيريّ: الأسماء تؤخذ توقيفًا من الكتاب والسُّنَّة والإجماع، فكل اسم وَرَدَ فيها وجب إطلاقه في وَصْفه، وما لم يَرِدْ لا يجوز، ولو صحّ معناه.
وقال أبو إسحاق الزجاج: لا يجوز لأحد أن يدعو الله بما لم يصف به نفسه، والضابط: أن كل ما أذن الشرع أن يُدعى به، سواء كان مشتقًّا، أو غير مشتقّ، فهو من أسمائه، وكل ما جاز أن يُنسب إليه، سواء كان مما يدخله التأويل أو لا، فهو من صفاته، ويطلق عليه اسمًا أيضًا.
وقال الْحَلِيميّ: الأسماء الحسنى تنقسم إلى العقائد الخمس:
الأولى: إثبات الباري ردًّا على المعطِّلين، وهي الحيّ والباقي والوارث، وما في معناها.
والثانية: توحيده ردًّا على المشركين، وهي الكافي والعليّ والقادر ونحوها.
والثالثة: تنزيهه ردًّا على المشبهة، وهي القدوس والمجيد والمحيط وغيرها.
والرابعة: اعتقاد أن كل موجود من اختراعه ردًّا على القول بالعلّة والمعلول، وهي الخالق والبارئ والمصور والقويّ وما يلحق بها.
والخامسة: أنه مدبِّر لِمَا اخترع، ومصرِّفه على ما شاء، وهو القيوم والعليم والحكيم وشِبْهها.
وقال أبو العباس بن معد: من الأسماء ما يدل على الذات عينًا، وهو الله، وعلى الذات مع سلب؛ كالقدوس والسلام، ومع إضافة كالعليّ العظيم، ومع سلب وإضافة؛ كالملِك والعزيز، ومنها ما يرجع إلى صفة؛ كالعليم والقدير، ومع إضافة؛ كالحليم والخبير، أو إلى القدرة مع إضافة؛ كالقهار، وإلى الإرادة مع فعل، وإضافة؛ كالرحمن الرحيم، وما يرجع إلى صفة فعل؛ كالخالق والبارئ، ومع دلالة على الفعل؛ كالكريم واللطيف.
قال: فالأسماء كلها لا تخرج عن هذه العشرة، وليس فيها شيء مترادف؛ إذ لكل اسم خصوصية ما، وإن اتفق بعضها مع بعض في أصل المعنى. انتهى كلامه.
قال الحافظ: ثم وقفت عليه منتزَعًا من كلام الفخر الرازيّ في "شرح الأسماء الحسنى"، وقال الفخر أيضًا: الألفاظ الدالة على الصفات ثلاثة: ثابتة في حقّ الله قطعًا، وممتنِعة قطعًا، وثابتة لكن مقرونة بكيفية.
فالقسم الأول: منه ما يجوز ذِكره مفردًا، ومضافًا، وهو كثير جدًّا؛ كالقادر والقاهر، ومنه ما يجوز مفردًا، ولا يجوز مضافًا إلا بشرط؛ كالخالق، فيجوز خالق، ويجوز خالق كل شيء مثلًا، ولا يجوز خالق القِرَدة، ومنه عكسه، يجوز مضافًا، ولا يجوز مفردًا؛ كالمنشئ، يجوز منشئ الخلق، ولا يجوز منشئ فقط.
والقسم الثاني: إن وَرَدَ السمع بشيء منه أُطلق، وحُمل على ما يليق به.
والقسم الثالث: إن وَرَدَ السمع بشيء منه أُطلق ما وَرَدَ منه، ولا يقاس
عليه، ولا يُتصرف فيه بالاشتقاق؛ كقوله تعالى:{وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54]{يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] فلا يجوز ماكر، ومستهزئ.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في المسألة: أنهم اختلفوا في كون أسمائه تعالى وصفاته توقيفيّة، أم لا على أقوال: أحدها: أنها توقيفيّة، وهو الراجح، والثاني: أنه يجوز إطلاق كل ما يليق به تعالى من الأسماء والصفات، والثالث: يجوز في الوصف، دون الاسم، والصواب عندي المذهب الأول، كما أشرت إليه، وحجته قول الله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، فقد أمَر الله سبحانه وتعالى بدعائه بأسمائه الحسنى، ولا يُعرف أنها حسنى، إلا إذا أثبتها النصّ الصحيح، فلا يجوز دعاؤه بغير ما ثبت فيه، وهذا بالنسبة للدعاء، وأما التسمية، فأمرها واسع، فإذا ورد فعل، أو مصدر جاز أن نُطلق الوصف منهما عليه تعالى، كما قال الشافعيّ رحمه الله في "الرسالة"، فقد قال في خطبتها:"الجاعلنا من خير أمة"، وكإطلاق لفظ الشارع أخذًا من قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13]، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة الحادية عشرة): في اختلاف أهل العلم في الاسم الأعظم:
(اعلم): أنه قد أنكره قوم؛ كأبي جعفر الطبريّ، وأبي الحسن الأشعريّ، وجماعة بعدهما؛ كأبي حاتم بن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلّانيّ فقالوا: لا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض، ونَسَبَ ذلك بعضهم لمالك؛ لكراهيته أن تُعادَ سورة، أو تُردَّد دون غيرها من السور؛ لئلا يُظَنّ أن بعض القرآن أفضل من بعض، فيؤذِن ذلك باعتقاد نقصان المفضول عن الأفضل، وحملوا ما ورد من ذلك على أن المراد بالأعظم: العظيم، وأن أسماء الله كلها عظيمة.
وعبارة أبي جعفر الطبريّ: اختَلَفت الآثار في تعيين الاسم الأعظم، والذي عندي أن الأقوال كلها صحيحة؛ إذ لم يَرِد في خبر منها أنه الاسم الأعظم، ولا شيء أعظم منه، فكأنه يقول: كل اسم من أسمائه تعالى يجوز وَصْفه بكونه أعظم، فيرجع إلى معنى عظيم، كما تقدم.
وقال ابن حبان: الأعظمية الواردة في الأخبار إنما يراد بها: مزيد ثواب الداعي بذلك، كما أُطلق ذلك في القرآن، والمراد به: مزيد ثواب القارئ،
وقيل: المراد بالاسم الأعظم: كل اسم من أسماء الله تعالى دعا العبد به مستغرقًا، بحيث لا يكون في فكره حالتئذ غير الله تعالى، فإن من تأتّى له ذلك استجيب له، ونُقل معنى هذا عن جعفر الصادق، وعن الجنيد، وعن غيرهما.
وقال آخرون: استأثر الله تعالى بعلم الاسم الأعظم، ولم يُطلع عنيه أحدًا من خلقه، وأثبته آخرون معيَّنًا، واضطربوا في ذلك.
قال الحافظ رحمه الله: وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولًا:
الأول: الاسم الأعظم: "هو"، نقله الفخر الرازيّ عن بعض أهل الكشف، واحتَجّ له بأن من أراد أن يعبّر عن كلام معظَّم بحضرته لم يقل له: أنت قلت كذا، وإنما يقول: هو يقول؛ تأدبًا معه.
الثاني: "الله"؛ لأنه اسم لم يُطلق على غيره، ولأنه الأصل في الأسماء الحسنى، ومن ثَم أضيفت إليه.
الثالث: "الله الرحمن الرحيم"، ولعل مستنَده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنهما؛ أنها سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعلّمها الاسم الأعظم، فلم يفعل، فصلّت، ودعت:"اللَّهُمَّ إني أدعوك الله، وأدعوك الرحمن، وأدعوك الرحيم، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها، ما علمت منها وما لم أعلم. . ." الحديث، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لها:"إنه لفي الأسماء التي دعوتِ بها".
قلت
(1)
: وسنده ضعيف، وفي الاستدلال به نظر لا يخفى.
الرابع: "الرحمن الرحيم الحي القيوم"؛ لِمَا أخرج الترمذيّ من حديث أسماء بنت يزيد؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)} [البقرة: 163]، وفاتحة "سورة آل عمران": {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)}، أخرجه أصحاب "السنن" إلا النسائيّ، وحسّنه الترمذيّ، وفي نسخة صححه، وفيه نظر؛ لأنه من رواية شهر بن حوشب.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا طَعَن الحافظ في هذا الحديث بسبب شهر بن حوشب، وفيه نظر؛ لأنه ثقةٌ، وأقلّ أحواله أن يكون حسن الحديث،
(1)
القائل هو: الحافظ رحمه الله.
كما حقّقته في "شرح المقدّمة" لهذا الكتاب، فإن كان طعنه في تحسين الترمذيّ له، فالحقّ مع الترمذيّ، وإن كان في تصحيحه، فعسى، والله تعالى أعلم.
الخامس: "الحي القيوم"، أخرج ابن ماجه من حديث أبي أُمامة:"الاسم الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه"، قال القاسم الراوي عن أبي أمامة: التمسته منها، فعرفت أنه "الحي القيوم"، وقوّاه الفخر الرازيّ، واحتَجّ بأنهما يدلّان من صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما.
السادس: "الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام الحي القيوم"، وَرَدَ ذلك مجموعًا في حديث أنس، عند أحمد، والحاكم، وأصله عند أبي داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان.
السابع: "بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام"، أخرجه أبو يعلى، من طريق السريّ بن يحيى، عن رجل من طيّء، وأثنى عليه، قال: كنت أسأل الله أن يريني الاسم الأعظم، فأُريته مكتوبًا في الكواكب في السماء.
الثامن: "ذو الجلال والإكرام"، أخرج الترمذيّ من حديث معاذ بن جبل، قال: سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال:"قد استجيب لك، فَسَلْ"، واحتَجّ له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة في الإلهية؛ لأن في الجلال إشارة إلى جميع السلوب، وفي الإكرام إشارة إلى جميع الإضافات.
التاسع: "الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، من حديث بُريدة رضي الله عنه، وهوأرجح من حيث السند من جميع ما ورد في ذلك.
العاشر: "رب رب"، أخرجه الحاكم من حديث أبي الدرداء، وابن عباس، بلفظ:"اسم الله الأكبر رب رب"، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها:"إذا قال العبد: يا رب يا رب! قال الله تعالى: لبيك عبدي، سَلْ تُعْطَ"، رواه مرفوعًا وموقوفًا.
الحادي عشر: دعوة ذي النون، أخرج النسائيّ، والحاكم، عن فَضَالة بن عُبيد رفعه:"دعوة ذي النون في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لم يَدْعُ بها رجل مسلم قظ، إلا استجاب الله له".
الثاني عشر: نَقَل الفخر الرازيّ عن زين العابدين أنه سأل الله أن يعلمه الاسم الأعظم، فرأى في النوم:"هو الله الله الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم".
الثالث عشر: هو مخفيّ في الأسماء الحسنى، ويؤيده حديث عائشة المتقدم لَمّا دعت ببعض الأسماء، وبالأسماء الحسنى، فقال لها صلى الله عليه وسلم:"إنه لفي الأسماء التي دعوت بها".
الرابع عشر: كلمة التوحيد، نَقَله عياض كما تقدم قبل هذا، ذكره في "الفتح"
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: الأرجح عندي عدم تعيينه بِاسْم خاصّ؛ لعدم نصّ صريح بذلك، وإنما هو في مضمون كلام، كما تقدّمت النصوص المشيرة إليه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: استُدِلّ بحديث الباب على انعقاد اليمين بكل اسم ورد في القرآن، أو الحديث الثابت، قال الحافظ: وهو وجه غريب، حكاه ابن كجّ من الشافعية، ومَنَع الأكثر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا فليحلف بالله"، وأجيب بأن المراد: الذات، لا خصوص هذا اللفظ، وإلى هذا الإطلاق ذهب الحنفية، والمالكية، وابن حزم، وحكاه ابن كجّ أيضًا.
والمعروف عند الشافعية والحنابلة وغيرهم من العلماء أن الأسماء ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يختص بالله؛ كالجلالة، والرحمن، ورب العالمين، فهذا ينعقد به اليمين إذا أُطلق، ولو نوى به غير الله.
ثانيها: ما يُطلق عليه، وعلى غيره، لكن الغالب إطلاقه عليه، وأنه يقيّد
(1)
"الفتح" 14/ 481 - 482.
في حقّ غيره بضرب من التقييد؛ كالجبار، والحقّ، والربّ، ونحوها، فالحلف به يمين، فإن نوى به غير الله، فليس بيمين.
ثالثها: ما يُطلق في حقّ الله، وفي حق غيره على حدّ سواء؛ كالحيّ، والمؤمن، فإن نوى به غير الله، أوأَطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى، فوجهان، صحح النوويّ أنه يمين، وكذا في "المحرر"، وخالف في الشرحين، فصحح أنه ليس بيمين.
واختلف الحنابلة، فقال القاضي أبو يعلى: ليس بيمين، وقال المجد بن تيمية في "المحرر": إنها يمين. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأرجح ما ذهب إليه الشافعيّة، والحنابلة، وغيرهم من تقسيم الاسم ثلاثة أقسام
…
إلخ، فهو أقرب، كما لا يخفى على من تأمّله، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثانية عشرة): قد ذكر الإمام ابن القيّم رحمه الله في كتابه "بدائع الفوائد" بحثًا نفيسًا يتعلّق بأسماء الله تعالى، وصفاته، أحببت إيراده هنا؛ لنفاسته، قال رحمه الله:
إن أسماءه تعالى منها: ما يُطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره، وهو غالب الأسماء؛ كالقدير، والسميع، والبصير، والعزيز، والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدْعَى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز، يا حليم، يا غفور، يا رحيم، وأن يُفرَد كل اسم، وكذلك في الثناء عليه، والخبر عنه بما يَسُوْغُ لك الإفراد والجمع.
ومنها: ما لا يُطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابله؛ كالمانع، والضارّ، والمنتقم، فلا يجوز أن يُفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي، والنافع، والعفوّ، فهو المعطي المانع، الضارّ النافع، المنتقم العفوّ، المعزّ المذلّ؛ لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم عطاءً ومنعًا، ونفعًا وضرًّا، وعَفْوًا وانتقامًا، وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار، فلا يسوغ، فهذه
(1)
"الفتح" 14/ 482 - 483.
الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة، فاعلمه.
فلو قلت: يا مذلّ، يا ضارّ، يا مانع، وأخبرت بذلك لم تكن مثنيًا عليه، ولا حامدًا له، حتى تذكر مقابلها.
قال: وإن الصفات ثلاثة أنواع: صفات كمال، وصفات نقص، وصفات لا تقتضي كمالًا ولا نقصًا، وإن كانت القسمة التقديرية تقتضي قسمًا رابعًا، وهو ما يكون كمالًا ونقصًا باعتبارين، والرب تعالى منزه عن الأقسام الثلاثة، وموصوف بالقسم الأول، وصفاته كلها صفات كمال محض، فهو موصوف من الصفات بأكملها، وله من الكمال أكمله، وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته، هي أحسن الأسماء، وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها، ولا يؤدي معناها، وتفسيرُ الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمرادف محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم.
وإذا عرفت هذا، فله من كل صفة كمال أحسن اسم، وأكمله، وأتمّه معنى، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب، أو نقص، فله من صفة الإدراكات: العليم الخبير، دون العاقل الفقيه، والسميع البصير، دون السامع والباصر والناظر.
ومن صفات الإحسان: البرّ الرحيم الودود، دون الرفيق والشفوق، ونحوهما، وكذلك العلي العظيم، دون الرفيع الشريف، وكذلك الكريم دون السخي، والخالق البارئ المصور، دون الفاعل الصانع المشكِّل، والغفور العفوّ، دون الصفوح الساتر، وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه، منها أكملها، وأحسنها، وما لا يقوم غيره مقامه.
فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا تعدِل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه، ووَصَفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وَصَفه به المُبْطِلون والمعطِّلون.
قال: ومن أسمائه الحسنى ما يكون دالًّا على عدة صفات، ويكون ذلك الاسم متناولًا لجميعها تناوُلَ الاسم الدال على الصفة الواحدة لها، كما تقدم
بيانه؛ كاسمه العظيم والمجيد والصمد، كما قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في "تفسيره": الصمد: السيد الذي قد كَمَل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع شرفه وسؤدده، وهو الله سبحانه، هذه صفته، لا تنبغي إلا له، ليس له كفوًا أحد، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار
(1)
.
وهذا مما خَفِي على كثير ممن تعاطى الكلام في تفسير الأسماء الحسنى، ففسَّر الاسم بدون معناه، ونَقَصَه من حيث لا يعلم، فمن لم يُحِطْ بهذا علمًا بَخَس الاسم الأعظم حقّه، وهَضَمه معناه، فتدبره.
ثم ذكر قاعدة جامعة لِمَا تقدم من الوجوه، وهي معرفة الإلحاد في أسمائه، حتى لا يقع فيه:
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)} [الأعراف: 180]، والإلحاد في أسمائه هو العدول بها، وبحقائقها، ومعانيها عن الحقّ الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل، كما يدل عليه مادته (ل ح د)، فمنه اللحد، وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه الملحد في الدين المائل عن الحقّ إلى الباطل، قال ابن السِّكّيت: الملحد: المائل عن الحقّ المُدْخِل فيه ما ليس منه، ومنه الملتحَد، وهو مُفتعَل من ذلك، وقوله تعالى:{وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]؛ أي: من تعدل إليه، وتهرب إليه، وتلتجئ إليه، وتبتهل، فتميل إليه عن غيره، تقول العرب: التحد فلان إلى فلان: إذا عدل إليه.
إذا عُرف هذا، فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:
أحدها: أن يسمى الأصنام بها؛ كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقة، فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم، وآلهتهم الباطلة.
(1)
إسناده ضعيف.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله؛ كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له موجبًا بذاته، أو علة فاعلة بالطبع، ونحو ذلك.
وثالثها: وَصْفه بما يتعالى عنه، ويتقدس من النقائص؛ كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجَحْد حقائقها؛ كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات، ولا معاني، فيُطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم والمريد، ويقولون: لا حياة له، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلًا وشرعًا ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطَوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله، وجحدوها، وعطّلوها، فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي، والمتوسط، والمنكوب، وكل من جحد شيئًا عما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك، فليستقلّ، أو ليستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى الله عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا، فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله، وجحدوها، وهؤلاء شبّهوها بصفات خَلْقه، فجَمَعهم الإلحاد، وتفرّقت بهم طُرُقه، وبرّأ الله تعالى أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وورثته القائمين بسُنَّته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبّهوها بصفات خَلْقه، ولم يَعْدِلوا بها عما أُنزلت عليه لفظًا، ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات، فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شبّه حتى كأنه يعبد صنمًا، أو عطّل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا.
وأهل السُّنَّة وسط في النِّحَل، كما أن أهل الإسلام وسط في الْمِلَل، توقَدُ مصابيح معارفهم {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]،
فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره، ويسهّل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنه قريب مجيب.
ثم قال رحمه الله: فعليك بمعرفتها، ومراعاتها، ثم اشرح الأسماء الحسنى، إن وجدت قلبًا عاقلًا، ولسانًا قائلًا، ومحلًّا قابلًا، وإلا فالسكوت أَولى بك، فجناب الربوبية أجلّ وأعزّ مما يخطر بالبال، أو يعبِّر عنه المقال، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] حتى ينتهي العلم إلى من أحاط بكل شيء علمًا. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6786]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاق، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ عِنَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"، وَزَادَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ وِتْرٌ، يُحِبُّ الْوِتْرَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العباد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.
2 -
(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ، كبير القَدْر [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.
والباقون ذُكروا في الحديث الماضي، وقبله بحديث.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"بدائع الفوائد" 1/ 177 - 181.
(3) - (بَابُ الْعَزْمِ بِالدُّعَاءِ، وَلَا يَقُلْ: إِنْ شِئْتَ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6787]
(2678) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلْيَعْزِمْ فِي الدُّعَاء، وَلَا يَقُل: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِني، فَإنَّ اللهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ)
(1)
إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين وهو ابن ثلاث وثمانين، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ)
(2)
البناني - بموحدة ونونين - البصري ثقة من الرابعة، مات سنة ثلاثين، (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.
3 -
(أَنَسُ) بن مالك الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني نسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا دَعَا أَحَدُكمْ، فَلْيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ)؛ أي: ليجزم، ولا يتردد، مِن عزمت على الشيء: إذا صمّمت على فِعله، وقيل: عَزْم المسألة: الجزم بها من غير ضَعف في الطلب، وقيل: هو
(1)
تقريب التهذيب 1/ 105.
(2)
تقريب التهذيب 1/ 357.
حُسن الظن بالله تعالى في الإجابة، والحكمة فيه أن في التعليق صورة الاستغناء عن المطلوب منه، وعن المطلوب، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في موضع آخر: معنى الأمر بالعزم: الجِدّ فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلّق ذلك بمشيئه الله تعالى، وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلّقه بمشيئه الله تعالى، وقيل: معنى العزم: أن يُحسن الظنّ بالله تعالى في الإجابة. انتهى.
وقال المناويّ: قال الزمخشريّ: والعزم: التصميم، والمضيّ على فِعل شيء، أو تَرْكه بعقد القلب عليه، وأن يتصلب فيه، فإن الله يعطي ما يشاء لمن يشاء، ومن هو كذلك "لا مستكره" -بكسر الراء- وفي رواية:"لا مكره له"؛ أي: يستحيل أن يُكرهه أحد على شيء؛ لأن الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أراد إسعاد عبد من عبيدة ألهمه الدعاء، وليس في الوجود من يُكرهه على خلاف مراده، فالتعليق بالمشيئة وغيرها من قبيل العبث الذي ينزَّه جناب المدعوّ المقدَّس عنه، فيُكره ذلك تنزيهًا، ومن قال: لا يجوز؛ كابن عبد البرّ أراد نفي الحلّ المستوي الطرفين، كما أشار إليه النوويّ، فإطلاق التحريم بدون هذه الإرادة سقيم. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قوله: "فإطلاق التحريم
…
سقيم" فيه نظر لا يخفى، بل الظاهر أنه للتحريم، وأن عدم إطلاقه هو السقيم، كما لا يخفى ذلك على الفهيم، فتبصّر، ولا تكن أسير التقليد.
(وَلَا يَقُل: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي) وفي حديث أبي هريرة التالي: "فلا يقل: اللَّهُمَّ اغفر لي إن شئت"، وفي حديثه الثالث:"لا يقولنّ أحدكم: اللَّهمَّ اغفر لي إن شئت، اللَّهُمَّ ارحمني إن شئت"، وفي رواية عند البخاريّ:"اللَّهُمَّ ارزقني إن شئت"، وهذه كلها أمثلة، والرواية الأولى تتناول جميع ما يُدعَى به.
(فَإِنَّ اللهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ") وفي حديث أبي هريرة: "وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أَعْطَاهُ"، وفي حديثه أيضًا:"ليعزم في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء، لا مُكرِه له".
(1)
"الفتح" 13/ 451.
(2)
"فيض القدير" 1/ 342.
ومعنى قوله: (لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ)؛ أي: لأن التعليق يوهم إمكان إعطائه على غير المشيئة، وليس بعد المشيئة إلا الإكراه، والله تعالى لا مكره له.
ومعنى قوله: "ليعظّم الرغبة"؛ أي: يبالغ في ذلك بتكرار الدعاء، والإلحاح فيه، ويَحْتَمِل أن يراد به: الأمر بطلب الشيء العظيم الكثير، ويؤيّده ما في آخر هذه الرواية:"فإن الله لا يتعاظمه شيء".
والمستكره، والمكرِه بمعنى واحد، والمراد: أن الذي يحتاج إلى التعليق بالمشيئة ما إذا كان المطلوب منه يتأتى إكراهه على الشيء، فيخفف الأمر عليه، ويُعلَم بأنه لا يطلب منه ذلك الشيء إلا برضاه، وأما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن ذلك، فليس للتعليق فائدة.
وقيل: المعنى أن فيه صورة الاستغناء عن المطلوب، والمطلوب منه، والأول أَولى. قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: عَزْم المسألة: الشدّة في طلبها، والحزم من غير ضَعف في الطلب، ولا تعليق على مشيئة، ونحوها، وقيل: هو حسن الظن بالله تعالى في الإجابة، ومعنى الحديث: استحباب الجزم في الطلب، وكراهة التعليق على المشيئة، قال العلماء: سبب كراهته أنه لا يتحقّق استعمال المشيئة إلا في حقّ من يتوجه عليه الإكراه، والله تعالى منزه عن ذلك، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث:"فإنه لا مستكره له"، وقيل: سبب الكراهة أن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب، والمطلوب منه. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت لك - وسيأتي أيضًا - أن الظاهر المستفاد من الحديث التحريم، لا الكراهة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يقولنّ أحدكم: اللَّهُمَّ اغفر لي إن شئت": إنما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا القول؛ لأنَّه يدلّ على فتور الرغبة، وقلّة التهمّم بالمطلوب، وكأن هذا القول يتضمّن أن هذا المطلوب إن حصل، وإلا استغني عنه، ومن كان هذا حاله لم يُتحقّق من حاله الافتقار، والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلًا على قلّة اكتراثه بذنوبه، وبرحمة ربه،
(1)
"الفتح" 13/ 451.
(2)
"شرح النووي" 17/ 7.
وأيضًا فإنَّه لا يكون موقنًا بالإجابة، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ"
(1)
.
ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَكْتَفِ بالنهي عن ذلك، حتى أمَر بنقيضه، فقال:"ليعزم في الدعاء"؛ أي: ليجزم في طلبه، وليحقق رغبته، ويتيقّن الإجابة، فإنَّه إذا فعل ذلك دلّ على علمه بعظيم قَدْر ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنه مفتقر لِمَا يطلب، مضطرّ إليه، وقد وعد الله المضطرّ بالإجابة بقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].
وقوله: "فإنَّ الله لا مستكره له": إظهار لعدم فائدة تقييد الاستغفار والرحمة بالمشيئة؛ لأنَّ الله تعالى لا يضطرّه إلى فعل شيء، دعاءٌ، ولا غيره، بل يفعل ما يريد، ويحكم ما يشاء، ولذلك قيّد الله تعالى الإجابة بالمشيئة في قوله:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]، فلا معنى لاشتراط مشيئته فيما هذا سبيله، فأما اشتراطها في الإيمان فقد تقدَّم القول فيه. انتهى كلام القرطبي رحمه الله
(2)
، وهو بحث مفيدٌ، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6787](2678)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6336) و"التوحيد"(7464) وفي "الأدب المفرد"(608)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 151)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 21)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الدعاء، وطلب الحوائج الدنيويّة، والأخرويّة من الله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعالى أمَر به، فقال:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]،
(1)
حديث صحيح، رواه الترمذيّ برقم (3474).
(2)
"المفهم" 7/ 29 - 30.
وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية [البقرة: 186]، وهو سبحانه وتعالى يغضب إذا تُرك دعاؤه، يدلّ على ذلك خَتْمه الآية الأُولى بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، بخلاف المخلوق، فإنه يغضب إذا سئل، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال [من الكامل]:
لَا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً
…
وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
…
وَبُنَيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
2 -
(ومنها): وجوب العزم في المسألة، وعدم التردّد فيها، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: لا يجوز لأحد أن يقول: اللَّهُمَّ أعطني إن شئت، وغير ذلك من أمور الدين والدنيا؛ لأنه كلام مستحيل، لا وجه له؛ لأنه لا يفعل إلا ما شاءه، قال في "الفتح"؛ وظاهره أنه حَمَل النهي على التحريم، وهو الظاهر، وحَمَل النوويّ النهي في ذلك على كراهة التنزيه، وهو أَولى، ويؤيده ما في حديث الاستخارة. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: بل الأَولى ما دلّ عليه كلام ابن عبد البرّ رحمه الله من التحريم؛ لأن النصّ ورد بصيغة النهي، والأمر، وهما للتحريم، والوجوب ما لم يصرفهما صارف، ولا صارف هنا، ولا دلالة لدعاء الاستخارة على ما قاله، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في الحديث أنه ينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، ويكون على رجاء الإجابة، ولا يقنط من الرحمة، فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعنّ أحدًا الدعاءَ ما يعلم في نفسه؛ يعني: من التقصير، فإن الله قد أجاب دعاء شرّ خلقه، وهو إبليس حين قال:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)} [الحجر: 36].
وقال الداوديّ: معنى قوله: "ليعزم المسألة": أن يجتهد، ويُلِحّ، ولا يقل: إن شئت؛ كالمستثنى، ولكن دعاء البائس الفقير.
4 -
(ومنها): بيان أن الرب سبحانه وتعالى لا يفعل إلا ما يشاء، لا يُكرهه أحد على ما يختاره، كما قد يكره الشافع المشفوع له عنده، وكما يكره السائل المسؤول إذا ألح عليه، فالرغبة يجب أن تكون إليه، كما قال:{وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 8]،
والرهبة تكون منه، كما قال:{وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6788]
(2679) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاء، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ، فَلَا يَقُل: اللَّهُمَّ اغْفِر لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْألةَ، وَلْيُعَظِّمِ الرَّغبَةَ، فَإنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أَعْطَاهُ").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل بابين، وكذا شَرْح الحديث تقدّم في الحديث الماضي، وفيه:
مسألتان تتعلّقان به:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6788 و 6789](2679)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6339) و"التوحيد"(7477) وفي "الأدب المفرد"(608)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3497)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 151)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3854)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 213)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 199)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 243)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(896 و 977)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6789]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ - عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمْ فِي الدُّعَاء، فَإنَّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، لَا مُكْرِهَ لَهُ").
(1)
"فيض القدير" 1/ 343.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأنصَارِيُّ) هو: إسحاق بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطميّ، أبو موسى المدنيّ، قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(أنسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضَمْرة، أو عبد الرحمن الليثيّ، أبو ضَمْرة المدنيّ، ثقة [8](ت 200) وله ست وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ) - بضم المعجمة، وموحدتين - هو: الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذُباب الدَّوْسيّ - بفتح الدّال - المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [5](ت 146)(عخ م مد ت س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 54/ 1529.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ مِينَاءَ) - بكسر الميم، وسكون التحتانية، ثم نون - أبو معاذ المدنيّ، وقيل: البصريّ، صدوقٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 77/ 398.
و"أبو هريرة رضي الله عنه " ذُكر قبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.
(4) - (بَابُ كَرَاهَةِ تَمَنِّي الْمَوتِ؛ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6790]
(2680) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيز، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيَن أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ؛ لِضُرٍّ نَزَلَ بِه، فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا، فَلْيَقُل: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبل حديث، و"عبد العزيز" هو: ابن صُهيب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (419) من رباعيّات الكتاب.
شرح الحديث:
(عَنْ أنسِ) بن مالك رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ) بالنون المشددة، فـ "لا" ناهية، والفعل مؤكّد بنون التوكيد الثقيلة. وسيأتي في الحديث المذكور آخر الباب بلفظ:"لا يتمنّى" بإثبات الألف، وسيأتي الكلام عليه هناك - إن شاء الله تعالى -.
[تنبيه]: زاد البخاري في أول هذا الحديث من طريق الزهريّ، عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف:"أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يُدخل أحدًا عملُه الجنّة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمّدني الله بفضل، ورحمة، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنّينّ أحدكم الموت. . ." الحديث.
(أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) الخطاب للصحابة رضي الله عنهم، والمراد هُمْ ومَن بَعدَهم من المسلمين عمومًا. (لِضُرٍّ) بضمّ الضاد المعجمة، وفَتْحها، قرئ بهما في السبع.
(نَزَلَ بِهِ)؛ أي: لأجل ضرر حصل له في بدنه، أو أهله، أو ماله، قال التوربشتيّ: النهي عن تمنّي الموت، وإن أُطلق في هذا الحديث فالمراد منه: المقيّد، كما في الحديث الآتي، فعلى هذا: يُكره تمنّي الموت من ضرّ أصابه في نفسه، أو ماله؛ لأنه في معنى التبرّم عن قضاء الله في أمر يضرّه في دنياه، وينفعه في آخرته، ولا يُكره للخوف في دينه من فساد. انتهى.
وقال في "الفتح": حَمَل هذا الضرّ جماعة من السلف على الضر الدنيويّ، فإن وُجد الضر الأخرويّ، بأن خَشِي فتنة في دينه، لم يدخل في النهي، ويمكن أن يؤخذ ذلك من رواية ابن حبان:"لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضر نزل به في الدنيا"، على أن "في" في هذا الحديث سببية؛ أي: بسبب أمر من الدنيا، وقد فعل ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، ففي "الموطأ" عن عمر رضي الله عنه؛ أنه قال:"اللَّهُمَّ كَبِرت سنّي، وضعفت قوّتي، وانتشرت رعيّتي، فاقبضني إليك غير مضيّع، ولا مفَرِّط"، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر، عن عمر رضي الله عنه.
وأخرج أحمد وغيره من طريق عبس، ويقال: عابس الغفاريّ؛ أنه قال: يا طاعون خذني، فقال له عُلَيم الكِنديّ: لِمَ تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا يتمنينّ أحدكم الموت"، فقال: إني سمعته يقول: "بادروا بالموت ستًّا: إمرة السفهاء، وكثرة الشُّرَط، وبيع الحكم. . ." الحديث.
وأخرج أحمد أيضًا من حديث عوف بن مالك نحوه، وأنه قيل له: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عُمِّر المسلم كان خيرًا له. . ." الحديث، وفيه الجواب نحوه، وأصرح منه في ذلك حديث معاذ الذي أخرجه أبو داود، وصححه الحاكم في القول في دُبُر كل صلاة، وفيه:"وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفّني إليك غير مفتون".
(فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا) اسم "كان" ضمير يعود إلى "أحدكم"، و"متمنّيًا" خبرها، وجملة:"لا بُدّ" معترضة، وهي في محل نصب على الحال، قال الفيّوميّ رحمه الله:"لا بُدّ من كذا"؛ أي: لا مَحِيد عنه، ولا يُعرف استعماله إلا مقرونًا بالنفي. انتهى
(1)
.
وحاصل المعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يتمنّى الموت، فإن كان لا محيد عن التمنّي، فلا يتمنّ صريحًا، بل يعدل عنه إلى التفويض إلى الله تعالى الذي هو أعلم بمصالح عباده، وهو بهم رؤوف رحيم، فيسأله معلقًا بوجود الخير فيه.
وفي رواية للبخاريّ: "فإن كان لا بُدّ فاعلًا، فليقل
…
"، وفي لفظ له: "فإن كان ولا بدّ متمنيًا للموت، فليقل. . ." الحديث؛ أي: فلا يتمنّ صريحًا، بل يعدل عنه إلى التعليق بوجود الخير فيه.
قال في "الفتح": وهذا يدلّ على أن النهي عن تمنّي الموت مقيّد بما إذا لم يكن على هذه الصيغة؛ لأن في التمني المطلق نوع اعتراض، ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور بها نوع تفويض، وتسليم للقضاء.
قال: وفي قوله: "فإن كان، لا بدّ
…
إلخ" ما يَصرِفُ الأمرَ عن حقيقته من الوجوب، أو الاستحباب، ويدلّ على أنه لمطلق الإذن؛ لأن الأمر بعد الحظر لا يبقى على حقيقته، وقريب من هذا السياق ما أخرجه أصحاب "السنن" من حديث المقدام بن معد يكرب: "حسبُ ابن آدم لُقيمات يُقمن صُلبه، فإن كان ولا بدّ، فثلث للطعام. . ." الحديث؛ أي: إذا كان لا بدّ من الزيادة على اللُّقيمات، فليقتصر على الثلث، فهو إذن بالاقتصار على الثلث،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 38.
لا أمْر يقتضي الوجوب، ولا الاستحباب. انتهى
(1)
.
(فَلْيَقُلِ: اللَّهُمَّ أَحْيِني)؛ أي: أبقني على الحياة، (مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ) "ما" مصدريّة ظرفية؛ أي: مدّة كون الحياة (خيرًا لِي)؛ أي: من الموت، وهو أن تكون الطاعة غالبة على المعصية، والأزمنة خالية عن الفتن والمحن، (وَتَوَفَّني)؛ أي: أمِتْني (إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لي")؛ أي: من الحياة، بأن يكون الأمر بعكس ما تقدّم.
قال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": لمّا كانت الحياة حاصلة، وهو متّصف بها حَسُن الإتيان بـ "ما"؛ أي: ما دامت الحياة متصفة بهذا الوصف، ولمّا كانت الوفاة معدومة في حال التمني لم يحسن أن يقول:"ما كانت"، بل أتى بـ "إذا" الشرطيّة، فقال:"إذا كانت"؛ أي: إذا آل الحال إلى أن تكون الوفاة بهذا الوصف. انتهى.
والظاهر: أن هذا التفصيل، يشمل ما إذا كان الضرّ دينيًّا أو دنيويًّا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6790 و 6791 و 6792](2680)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5671) و"الدعوات"(6351)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3108)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(971)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1820 و 1821) وفي "الكبرى"(1946 و 1947) وفي "عمل اليوم والليلة"(1055 و 1057 و 1059 و 1060 و 1061)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4265)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 44)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 101 و 104 و 163 و 247)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1246 و 1398)، و (ابن حبّان في "صحيحه" (2966 و 3001)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1937)،
(1)
"الفتح" 13/ 45 - 46، "كتاب المرضى" رقم (5671).
و (الطبرانيّ) في "المعجم الصغير"(1/ 138)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 427 و 455 و 7/ 6)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 377) وفي "شُعب الإيمان"(7/ 180 و 238)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1444)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن تمني الموت، وعن الدعاء به، وهو محمول على الكراهة على ما قيل، وحَمَله بعضهم على التحريم، وهو الظاهر.
2 -
(ومنها): أن قوله: "فإن كان لا بدّ متمنيًا، فليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"، ليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تَرْكه أفضل من الدعاء به، فإنه رتَّب الأمر به على كون المتمني لا بدّ أن يقع منه صورة تمنّ مع نهيه أوّلًا عن ذلك، وكذا قال النوويّ: في هذه الحالة الأفضل الصبر، والسكون للقضاء.
3 -
(منها): ما قاله في "الفتح": لا يَرِد على هذا الحديث مشروعية الدعاء بالعافية مثلًا؛ لأن الدعاء بتحصيل الأمور الأخروية، يتضمن الإيمان بالغيب، مع ما فيه من إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والتذلل له، والاحتياج، والمسكنة بين يديه، والدعاء بتحصيل الأمور الدنيوية؛ لاحتياج الداعي إليها، فقد تكون قُدّرت له إن دعا بها، فكل من الأسباب والمسببات مقدّر، وهذا كله بخلاف الدعاء بالموت، فليست فيه مصلحة ظاهرة، بل فيه مفسدة، وهي طلب إزالة نعمة الحياة، وما يترتب عليها من الفوائد، لا سيما لمن يكون مؤمنًا، فإن استمرار الإيمان من أفضل الأعمال، والله أعلم. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): أن الحديث قد دلّ على أن الوفاة قد تكون خيرًا للعبد، فما الجمع بينه وبين قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإنه لا يزيد المؤمن من عمره إلا خيرًا؟ ".
[قلت]: إنْ حُمل المؤمن على الكامل في الإيمان، فالأمر في ذلك واضح، فإن ذلك الذي تكون الوفاة خيرًا له ليس كامل الإيمان، وإنْ حُمل على مطلق الإيمان، فالغالب أن تكون الحياة خيرًا له، كما تقدم، وهذه
(1)
"الفتح" 17/ 81 - 82، "كتاب التمنّي" رقم (7235).
الصورة التي تكون الوفاة فيها خيرًا له نادرة، فلا يدعو بها، ولا يعتمد عليها على ظنّ نفسه فيها، إلا إن وَكَل الأمر في ذلك إلى علم الله تعالى، قاله وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(المسألة الرابعة): في الحديث النهي عن تمنّي الموت، وعن الدعاء به، وهو محمول على الكراهة، كما حَكَى العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" الإجماع عليه، وقال: إن هذا هو الصارف عن حمل النهي على التحريم، قال وليّ الدين: لكن صرّح أبو عمر بن عبد البرّ بالتحريم، فقال: المتمني للموت ليس بمحبّ للقاء الله عز وجل، بل هو عاصٍ لله تعالى في تمنّيه للموت؛ إذا كان بالنهي عالِمًا، ثم قال العراقيّ: وقد صحّ عن عمر رضي الله عنه الدعاء بالموت، فيما رواه مالك في "الموطإ" أنه قال: اللَّهُمَّ قد ضَعُفت قوّتي، وكَبُرت سنّي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيِّع، ولا مقصِّر، فما جاوز ذلك الشهر حتى قُبض رضي الله عنه. قال العراقيّ: وليس فيه أن ذلك لخوف فتنة.
وتعقّبه ولده، فقال: بل ظاهره أنه لخوف فتنة في الدين، فإنه خائف لضَعف قوته، وانتشار رعيته، وكثرتهم، أن يقع تضييع منه لأمورهم، وتقصير في القيام بحقوقهم، فلمّا خَشِي هذه الفتنة دعا بالموت.
قال العراقيّ: وقد جاء تمني الموت عن جماعة من السلف خوفًا من إظهار أحوالهم التي بينهم وبين الله تعالى، لا يحبون اطلاع الخلق عليها.
قال وليّ الدين: الظاهر أن ذلك لخوف الفتنة في الدين أيضًا، خَشُوا من ظهور أعمالهم وأحوالهم وخروجها من السرّ إلى العلانية تطرّق المفسدات إليها، من الرياء، والإعجاب، وكانوا في راحة بالاختفاء، فطلبوا الموت خوفًا من مفسدة الظهور.
[فإن قلت]: دعا يوسف الصديق عليه السلام بالموت في قوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101]، قال قتادة: لم يتمن الموت أحد إلا يوسف عليه السلام حين تكاملت عليه النعم، وجُمع له الشمل اشتاق إلى لقاء ربه.
قال وليّ الدين: المختار في تفسير تلك الآية أن مراده: توفّني عند
(1)
"طرح التثريب" 3/ 258.
حضور أجَلي مسلمًا، وليس مراده استعجال الموت، وبتقدير حَمْلها على الدعاء بالموت، فقد اختَلَف أهل الأصول في أن شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا أم لا؟ وبتقدير أن يكون شرعًا لنا، فشَرْطه أن لا يَرِد في شرعنا ما ينسخه، وقد وَرَدَ في شرعنا نَسْخه في هذا الحديث.
[فإن قلت]: فقد دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالموت حيث قال في آخر مرض موته: "اللَّهُمَّ اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى"، وقد أورده البخاريّ في "صحيحه" في "باب تمني المريض الموت".
[قلت]: ليس هذا دعاء بالموت، وإنما هو رِضًى به عند مجيئه، فإن الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - لا يُقبَضُون عند انتهاء آجالهم حتى يُخَيَّروا؛ إكرامًا لهم، وتعظيمًا لشأنهم، ولن يختاروا لأنفسهم إلا ما يختاره الله لهم، فلما خُيّر النبيّ صلى الله عليه وسلم عند انتهاء أجله اختار ما اختاره الله له، ورضي بالموت، وأحبه، وطلبه بعد التخيير، لا ابتداء، وقد قال في الحديث:"ولا يَدْع به من قبل أن يأتيه"، وذلك يقتضي أنه لا كراهة في طلبه عند تحقق مجيئه؛ لِمَا في ذلك من إظهار الرضا بقضاء الله تعالى، والاستبشار بما يَرِد من عنده، ولكن الآحاد لا سبيل إلى تحقيق هذا، وأن يخيَّروا على لسان ملَك مشافهةً صريحةً، وغاية ما يقع للواحد منهم منام، أو خاطر صحيح، لا يَصِل به إلى القطع به، ولو استَبْشَر عند ذلك بقلبه؛ لِمَا يَرِد عليه من أمر الله لكان حسنًا، والله تعالى أعلم
(1)
.
[فإن قلت]: إذا منعتم أن يكون للآحاد طريق إلى تحقيق هذا، وحسمتم الباب فيه، فما معنى هذا التقييد في قوله:"من قبل أن يأتيه"؟.
[قلت]: فيه وجهان:
أحدهما: أنه أشار بذلك إلى حالة نزول الموت، فإنه ينبغي للعبد أن تكون حاله فيها حال المتمني للموت الداعي به، راضيًا به مطمئن القلب إلى ما ورد عليه من أمر الله تعالى، غير جازع، ولا قَلِقٍ.
ثانيهما: أنه أشار بقوله: "من قبل أن يأتيه" إلى أن في الدعاء بالموت قبل حلوله نوع اعتراض، ومراغمة للمقدور المحتوم.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 254.
[فإن قلت]: وسائر الأدعية كذلك؛ لأنها إما مقدَّرة، فلا فائدة في سؤالها؛ لوقوعها لا محالة، أو غير مقدَّرة، ففي سؤالها اعتراض، ومراغمة للقَدَر، وهذا يؤدي إلى سدّ باب الدعاء، وهو باطل.
[قلت]: أما الدعاء بالمغفرة، والرحمة، والأمور الأخروية، ففيه إظهار الافتقار، والمسكنة، والخضوع، والتذلل، والاحتياج.
وأما الدعاء بالأمور الدنيوية، فلاحتياج للعبد إليها، وظهور المصلحة فيها، وقد تكون قُدِّرت له إن دعا بها، دون ما إذا لم يَدْع بها، فالأسباب مقدرة، كما أن المسبَّبات مقدرة، وأما الدعاء بالموت، فلم يَظهر فيه مصلحة؛ لِمَا فيه من طلب إزالة نعمة الحياة، وما يَترتب عليها من الفوائد، كما سيأتي تقريره
(1)
.
(المسألة الخامسة): أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المعنى في النهي عن تمني الموت، والدعاء به، وهو انقطاع الأعمال بالموت، ففي الحياة زيادة الأجور، بزيادة الأعمال، ولو لم يكن إلا استمرار الإيمان، فأيُّ عمل أعظم منه؟ وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لَمّا سُئل عن أفضل الأعمال -:"إيمان بالله"، فبدأ به.
[فإن قلت]: قد يُسلب الإيمان بالله - والعياذ بالله -.
[قلت]: إنْ سبق له في علم الله خاتمة السوء، فلا بدّ من وقوع ذلك، طال عمره، أو قَصُر، وإن سبقت له السعادة، فزيادة عمره زيادةٌ في حسناته، ورَفْع في درجاته، كَثُرت أو قلّت.
وقد رَوَى أحمد في "مسنده" من رواية عليّ بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذَكَّرنا، ورَقَّقنا، فبكى سعد، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني متّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا سعد أعندي تتمنى الموت؟ " فردّد ذلك ثلاث مرات، ثم قال:"يا سعد إن كنت خُلقت للجنة فما طال من عمرك، أو حَسُن من عملك، فهو خير لك".
[فإن قلت]: فما معنى قوله: "وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا"، فقد يزيده شرًّا بالأعمال السيئة؟.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 254 - 255.
[قلت]: إنْ حُمل على المؤمن الكامل الإيمان، فواضح، فإن ذاك لا يصدر منه إلا خير، وإنْ حُمل على مطلق المؤمن، بحيث يتناول المخلِّط فهو أيضًا لا يزيده عمره إلا خيرًا؛ لكثرة المكفرات، والمضاعفة للأعمال الصالحة، فما دام معه أصل الأعمال، فحسناته مقبولة مضاعفة، وسيئاته محفوفة بالمكفِّرات، بحيث لا يبقى منها إن شاء الله إلا اليسير، يمحوه الكرم المحض، والعفو العظيم.
[فإن قلت]: قوله في الرواية الأخرى: "إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يَسْتَعْتِب"، يُسأل عنه، فيقال: لم تنحصر القسمة في هذين الوصفين، فلعله بكونه مسيئًا يزداد إساءة، فيكون زيادة العمر زيادة له في السيئات، كما في الحديث الصحيح:"شرّ الناس من طال عمره، وساء عمله"، أو لعله يكون محسنًا، فتنقلب حاله إلى الإساءة - والعياذ بالله تعالى -.
[قلت]: تَرَجِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم له زيادة الإحسان، أو الانكفاف عن السوء، فبتقدير أن يدوم على حاله، فإذا كان معه أصل الإيمان، فهو خير له بكل حال، كما تقدّم، وعلى تقدير أن يخف إحسانه، فذاك الإحسان الخفيف الذي دام عليه، مضاعف له مع أصل الإيمان، وإن زادت إساءته، فالإساءة كثير منها يُكَفَّر، وما لا يُكفَر يُرجَى العفو عنه، كما تقدم، فما دام معه الإيمان فالحياة خير له، كما تقدم.
وقال الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ": هذا خرج مخرج الرجاء، وحُسن الظن بالله تعالى، وأن المحسن يرجو من الله تعالى الزيادة في توفيقه للزيادة فيه، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط، بل لا يقطع رجاءه من الله تعالى، كما قال تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 53] انتهى.
(المسألة السادسة): أطلق في حديث أبي هريرة رضي الله عنه النهي عن تمني الموت، وقيّده في حديث أنس رضي الله عنه في "الصحيحين" بأن يكون تمنّيه لضرّ نزل به، فقال:"لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضرّ نزل به"، ومطلق الضرّ يشمل الدنيويّ، والأخرويّ، لكن المراد إنما هو الضرّ الدنيويّ، من مرض، أو فاقة، أو محنة، من عدوّ، أو نحو ذلك، من مشاقّ الدنيا، كما هو مبيَّن في رواية
النسائيّ، وابن حبان، في "صحيحه"، فقال:"لا يتمنينّ أحدكم الموت؛ لضرّ نزل به في الدنيا"، وهو الذي أراده أيوب عليه السلام في قوله:{مَسَّنِيَ الضُّرّ} [الأنبياء: 83]، وإخوة يوسف عليه السلام في قولهم:{مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [يوسف: 88]، فأما الضر في الدين، فهو خوف الفتنة في دِينه، فالظاهر أنه لا بأس معه بالدعاء بالموت، وتمنيه، ويدلّ لذلك قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وليس به الدّين، إلا البلاء"، متّفقٌ عليه.
[فإن قلت]: قد عُرف أن تمني الموت للضرّ الدنيوي منهيّ عنه، والضرّ الأخرويّ لا بأس به، فإذا كان تمنيه لغير ضرّ دنيويّ، ولا أخرويّ، كيف حكمه؟.
[قلت]: مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه النهي عنه، ومفهوم التقييد بالضرّ في حديث أنس رضي الله عنه أنه غير منهيّ عنه، وقد يقال: هذا المفهوم غير معمول به؛ لأن التقييد خرج مخرج الغالب، في أن الناس لا يتمنون الموت إلا لضرّ نزل بهم، فيفعلون ذلك ضيقًا وضجرًا وسخطًا للمقدور، ولم تَجْر عادة الناس بتمني الموت بغير سبب، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له، ولعل هذا أرجح، فيكون تمني الموت في صورة انتفاء الضرر الدنيويّ والأخرويّ منهيًّا عنه أيضًا.
وقد يستثنى من النهي صورة أخرى، وهي ما إذا فَعَل ذلك شوقًا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا بأس به، وقد فعله جماعة من السلف، ورُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:"ليأتينّ عليكم زمان، يأتي الرجل إلى القبر، فيقول: يا ليتني مكان هذا، ليس به حبّ الله، ولكن من شدّة ما يرى من البلاء"، وهذا في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثله من قِبَل الرأي، فظهر بذلك أن تمني الموت، والدعاء به جائز، إن كان لمصلحة دينية، وهو خوف الفتنة في دينه، أو الشوق إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إن كان في ذلك المقام، ومكروه فيما عدا ذلك، وفي حديث معاذ مرفوعًا:"وإذا أردت بالناس فتنة، فتوفني إليك غير مفتون"، وقال تعالى حكاية عن مريم عليه السلام:{يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم: 23].
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قرّر وليّ الدين رحمه الله استثناء تمنّي الموت حبًّا لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعندي في ذلك نظر، فعموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا يتمنّى أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد، وإما مسيئًا فلعله يَستعتب" - رواه البخاريّ بهذا اللفظ -، عامّ يتناول هذا المستثنى، فلا وجه لاستثنائه، فتبصّر، والله تعالى أعلم.
(المسألة السابعة): [إن قلت]: إذا كانت الآجال مقدرةً، لا يزداد فيها، ولا ينقص منها، فما الذي يؤثر تمني الموت في ذلك، وما الحكمة من النهي عنه؟.
[قلت]: هذا هو المعنى المقتضي للنهي عنه؛ لأنه عَبَث، لا فائدة فيه، وفيه مراغمة المقدور، وعدم الرضا به، مع ما تقدم من كون المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا.
[فإن قلت]: إذا تقرر أن التمني للموت لا يؤثر في الأعمال؛ لتقديرها، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في اليهود:"أنهم لو تمنوا الموت لماتوا جميعًا"؟
[قلت]: ذاك قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم بوحي خاصّ، أوحي إليه في حقّ أولئك اليهود أنهم لو تمنّوا الموت لماتوا، فرُتِّبت آجالهم على وصفٍ إن وُجد منهم ماتوا، وإن لم يوجد بَقُوا إلى وقت مقدّر لهم، والله تعالى يعلم هل يتمنون الموت، فتقرب آجالهم، أو لم يتمنونه، فتبعد آجالهم؟ والأسباب مقدرة، كما أن المسبَّبات مقدرة، وهذا كما في الحديث الصحيح؛ أنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أرأيت رُقًى نَسترقِي بها، ودواءً نَتَدَاوى به، هل يردّ من قدر الله شيئًا؟، فقال:"هي من قدر الله تعالى". ذكر الفوائد كلها الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله في كتابه الممتع "طرح التثريب في شرح التقريب"
(1)
، وهي فوائد حسان، ونُزهة قرائح ذوي العرفان، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6791]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثنا عَفَّانُ، حَدَّثنا حَمَادٌ - يَعْني: ابْنَ سَلَمَةَ - كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أنسٍ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِه، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ:(مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ").
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 253 - 258.
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي خَلَفٍ) محمد بن أحمد بن أبي خَلَف السّلَميّ البغداديّ الْقَطِيعيّ، ثقةٌ [10](ت 237) مات وله سبع وستون سنةً (م د) تقدم في "الإيمان" 92/ 502.
2 -
(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حَسّان الْقَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيما "90/ 476.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.
4 -
(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، ورُبّما وَهِم، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
5 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ ثقةٌ عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيّر حِفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
6 -
(ثَابِتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (220) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ ثَابِتٍ)؛ يعني: أن كلًّا من شعبة، وحمّاد بن سلمة رويا هذا الحديث عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه.
وقوله: (غَيْرَ أنَّهُ قَالَ) ضمير "أنه"، لثابت، وكذا فاعل "قال" ضميره أيضًا.
[تنبيه]: أما رواية شعبة عن ثابت، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5347)
- حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا ثابت البنانيّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يتمنينّ أحدكم الموت، من ضرّ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلًا، فليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". انتهى
(1)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2146.
وقد ساقها أيضًا أحمد رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(13188)
- حدّثنا رَوْح، ثنا شعبة، قال: سمعت ثابتًا البنانيّ قال: سمعت أنس بن مالك، يحدّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"لا يتمنّ أحدكم الموت، من ضرّ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلًا، فليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفّني ما كانت الوفاة خيرًا لي". انتهى
(1)
.
وأما رواية حمّاد بن سلمة عن ثابت، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(13604)
- حدّثنا عفان، أنا حماد، عن ثابت، عن أنس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يتمنينّ أحدكم الموت، من ضرّ أصابه، ولكن ليقل: اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". انتهى
(2)
.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6792]
(. . .) - (حَدَّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِد، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أنسٍ، وَأَنَسٌ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ، قَالَ أَنَسٌ: لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ" لَتَمَنَّيْتُهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(حَامِدُ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عمر بن عبيد الله بن أبي بكرة الثقفيّ البكراويّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، قاضي كرمان، وقيل: إن حفصًا جده هو ابن عبد الرحمن بن أبي بكرة، ثقة [10](233)(خ م) تقدم في "الطهارة" 26/ 649.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ) بن زياد العبديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8] (176) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.
3 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصريّ، ثقةٌ، لم يتكلم فيه إلا القطان، فكأنه بسبب دخوله في الولاية [4] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 208.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 247.
4 -
(النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ) بن مالك الأنصاريّ، أبو مالك البصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة بضع ومائة (ع) تقدم في "العتق" 2/ 3767.
و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (حَدَّثنَا عَاصِمٌ) هو ابن سليمان المعروف بالأحول، وقد سَمع من أنس، وربما أدخل بينهما واسطة كهذا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (وَأنسٌ يَوْمَئِذٍ حَيٌّ) جملة حاليّة؛ يعني: أن النضر حدّث عاصمًا بهذا الحديث، والحال أن أنسًا رضي الله عنه حيّ؛ يعني: أن النضر حدّث به في حياة أبيه.
وقوله: (لَا يَتَمَنَّيَنَّ) وفي رواية للبخاريّ: "لا يتمنَّى"، قال في "الفتح": قوله: "لا يتمنى" كذا للأكثر بلفظ النفي، والمراد به النهي، أو هو للنهي، وأُشبعت الفتحة، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"لا يتمنينّ" بزيادة نون التأكيد، ووقع في رواية همام:"لا يتمنّ أحدكم الموت، ولا يَدْع به قبل أن يأتيه"، فجَمَع في النهي عن ذلك بين القصد والنطق، وفي قوله:"قبل أن يأتيه" إشارة إلى الزجر عن كراهيته إذا حضر؛ لئلا يدخل فيمن كره لقاء الله تعالى، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم عند حضور أجله:"اللَّهُمَّ ألحقني بالرفيق الأعلى"، وكلامه صلى الله عليه وسلم بعدما خُيِّر بين البقاء في الدنيا والموت، فاختار ما عند الله، وقد خَطَب بذلك، وفهمه عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما تقدم بيانه في "المناقب".
وحكمة النهي عن ذلك أن في طلب الموت قبل حلوله نوع اعتراض، ومراغمة للقدر، وإن كانت الآجال لا تزيد، ولا تنقص، فإن تمني الموت لا يؤثر في زيادتها، ولا نقصها، ولكنه أمر قد غُيِّب عنه.
قال النوويّ رحمه الله: في الحديث التصريح بكراهة تمني الموت؛ لضرّ نزل به، من فاقة، أو محنة بعدوّ ونحوه، من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضررًا، أو فتنة في دِينه فلا كراهة فيه؛ لمفهوم هذا الحديث، وقد فعله خلائق من السلف لذلك، وفيه أن من خالف، فلم يصبر على الضرّ، وتمنى الموت لضرّ نزل به، فليقل الدعاء المذكور.
(1)
"الفتح" 17/ 82.
قال الحافظ: ظاهر الحديث المنع مطلقًا، والاقتصار على الدعاء مطلقًا، لكن الذي قاله الشيخ لا بأس به لمن وقع منه التمني؛ ليكون عونًا له على ترك التمني. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما دلّ عليه ظاهر الحديث من المنع مطلقًا هو الأَولى، لا ما قاله الشيخ النووي، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6793]
(2681) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ، وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فِي بَطْنِهِ، فَقَالَ: لَوْمَا
(2)
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيس) الأوديّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.
4 -
(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِم) البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ مخضرمٌ ثقةٌ [2] ويقال: له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاز المائة، وتغير (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.
5 -
(خَبَّابُ) - بموحدتين الأولى مثقّلة - ابن الأرَتّ التميميّ، أبو عبد الله،
(1)
"الفتح" 17/ 82.
(2)
وفي نسخة: "لولا أنّ".
من السابقين إلى الإسلام، وكان يُعَذَّب في الله، وشهد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 33/ 1407.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه قيس، من كبار التابعين، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، وإليه أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الحديث" حيث قال:
وَذَاكَ قَيْسٌ مَا لَهُ نَظِيرُ
…
وَعُدَّ عِنْدَ حَاكِمٍ كَثِيرُ
وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وكان يُعذّب في الله سبحانه وتعالى.
شرح الحديث:
(عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ) واسم أبي حازم: حُصين بن عوف، وقيل: عوف بن عبد الحارث، وقيلَ: عبد عوف بن الحارث بن عوف؛ أنه (قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابِ) بموحدتين الأولى مثقّلة، ابن الأرتّ - بهمزة وراء مفتوحتين، وتشديد التاء المثناة من فوقُ - أبي عبد الله، التميميّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، سُبي في الجاهلية، وبِيع بمكة، ثم حالف بني زُهرة، وأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، قيل: أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، فعُذّب عذابًا شديدًا لذلك، ذُكر أن عمر بن الخطّاب سأله عما لقي في ذات الله، فكشف عن ظهره، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، قال خبّاب: لقد أُوقدت لي نار، وسُحِبتُ عليها، فما أطفأها إلا وَدَك ظهري. وشهد بدرًا، والمشاهد كلها، وكان قَيْنًا في الجاهليّة، يعمل السيوف، ثمّ نزل الكوفة، ومات بها سنة (37 هـ) مُنصَرَفَ عليّ رضي الله عنه من صِفِّين، وصَلَّى عليه عليّ رضي الله عنه، وقيل: لمّا رجع عليّ من صفّين مرّ على قبر خبّاب رضي الله عنه، فقال: رحم الله خبّابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مُجاهدًا، وابتُلي في جسمه أحوالًا، ولن يُضيّع الله أجره. تقدّمت ترجمته في "المساجد ومواضع الصلاة" 33/ 1407.
زاد في رواية البخاريّ: "نعوده"، وقوله:(وَقَدِ اكتَوَى) جملة حاليّة من
"خبّاب"؛ أي: والحال أنه قد اكتوى (سَبْعَ كَيَّاتٍ فِي بَطْنِهِ) فيه بيان سبب عيادتهم له، وهو أنه كان مريضًا، فاكتوى لمرضه، فعُدناه؛ يعني: أنه قد تداوى بالكيّ من مرض أصابه في بطنه سبع كَيّات.
و"الكيّ": هو إحراق الجلد بحديدة ونحوها، قال الطيبيّ رحمه الله: الكيّ علاج معروف في كثير من الأمراض، وقد ورد النهي عن الكيّ، فقيل: النهي لأجل أنهم كانوا يرون الشفاء منه، وأما إذا اعتقد أنه سبب، وأن الشافي هو الله، فلا بأس به، ويجوز أن يكون النهي من قِبَل التوكّل، وهو درجة أخرى غير الجواز. انتهى. ويؤيده حديث:"لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربّهم يتوكلون" متّفق عليه.
وقال في "العمدة": قوله: "وقد اكتوى": النهي الذي جاء عن الكيّ هو لمن يعتقد أن الشفاء من الكيّ، أما من اعتقد أن الله عز وجل هو الشافي، فلا بأس به، أو ذلك للقادر على مداواة أخرى، وقد استعجل، ولم يجعله آخر الدواء. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: أخرج هذا الحديث أحمد في "مسنده" من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال: دخلت على خباب، وقد اكتوى سبعًا فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يتمنى أحدكم الموت" لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهمًا، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم، قال: ثم أُتي بكفنه، فلما رآه بكى، قال: لكن حمزة لم يوجد له كفن إلا بردة مَلْحَاء
(2)
؛ إذا جُعلت على رأسه قَلَصَت عن قدميه، وإذا جُعلت على قدميه قلصت عن رأسه، حتى مُدَّت على رأسه وجُعل على قدميه الإذخر. انتهى.
وفي رواية الترمذيّ: "فقال: ما أعلم أحدًا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لقي من البلاء ما لقيتُ"؛ أي: من الوجع الذي أصابه. وحَكَى الحافظ العراقيّ رحمه الله في "شرح الترمذيّ" احتمالَ أن يكون أراد بالبلاء: ما فُتح عليه من المال بعد أن كان لا يجد درهمًا، كما وقع صريحًا في رواية عنه، قال:"لقد كنتُ وما أجد درهمًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ناحية بيتي أربعون ألفًا"؛ يعني:
(1)
"عمدة القاري" 21/ 226.
(2)
أي: فيها خطوط بيض وسُود.
الآن. وتعقّبه بأن غيره من الصحابة كان أكثر مالًا منه؛ كعبد الرحمن بن عوف، واحتمالَ أن يكون أراد: ما لقي من التعذيب في أول الإسلام من المشركين، وكأنه رأى أن اتساع الدنيا عليه يكون ثواب ذلك التعذيب، وكان يُحبّ أن لو بقي له أجره مُوَفّرًا في الآخرة. قال: ويحتمل أن يكون أراد: ما فَعَلَ من الكيّ مع ورود النهي عنه، كما قال عمران بن حُصين رضي الله عنهما:"نُهينا عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا". قال: وهذا بعيد، قال الحافظ: وكذلك الذي قبله. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ) خبّاب رضي الله عنه (لَوْمَا) وفي بعض النسخ: "لولا" وهما بمعنى واحد، موضوعان للدلالة على امتناع شيء لوجود غيره، كما قال في "الخلاصة":
"لَوْلَا" و"لَوْمَا" يَلْزَمَانِ الابْتِدَا
…
إِذَا امْتِنَاعًا بِوُجُودٍ عَقَدَا
(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ)؛ أي: لأستريح من شدّة المرض الذي من شأن الجِبِلّة البشريّة أن تنفِرَ منه، ولا تصبر عليه.
وفيه أن الدعاء بالموت ممنوع، وهذا لا يعارض ما تقدّم من حديث أنس رضي الله عنه؛ لأن المراد هنا: الدعاء بالجزم، وهناك بالتعليق، كما تقدّم إيضاحه قريبًا.
وقال في "الفتح": الدعاء بالموت أخصّ من تمنّي الموت، وكلّ دعاء تمنّ، من غير عكس.
[تنبيه]: هذا الحديث ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:
(5348)
- حدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: دخلنا على خَبّاب نعوده، وقد اكتوى سبع كيّات، فقال: إن أصحابنا الذين سَلَفُوا مَضَوا، ولم تَنْقُصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب، ولولا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت، لدعوت به، ثم أتيناه مرّة أخرى، وهو يبني حائطًا له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في هذا التراب. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 13/ 46، "كتاب المرضى" رقم (5672).
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2147.
وقوله: "إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا"؛ أي: لم تنقص أجورهم بمعنى أنهم لم يتعجلوها في الدنيا، بل بقيت موفَّرة لهم في الآخرة، وكأنه عَنَى بأصحابه: بعض الصحابة ممن مات في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأما من عاش بعده، فإنهم اتسعت لهم الفتوح، ويؤيده حديثه الآخر:"هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مضى، لم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير".
ويَحْتَمِل أن يكون عَنَى: جميع من مات قبله، وأن من اتسعت له الدنيا لم تؤثّر فيه، إما لكثرة إخراجهم المال في وجوه البِرّ، وكان من يحتاج إليه إذ ذاك كثيرًا، فكانت تقع لهم الموقع، ثم لمّا اتسع الحال جدًّا، وشَمِل العدل في زمن الخلفاء الراشدين، استغنى الناس، بحيث صار الغني لا يجد محتاجًا يضع بِرّه فيه، ولهذا قال خباب: وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب؛ أي: الإنفاق في البنيان.
وأغرب الداوديّ، فقال: أراد خباب بهذا القول: الموت؛ أي: لا يجد للمال الذي أصابه إلا وَضْعه في القبر، حكاه ابن التين، وردّه، فأصاب، وقال: بل هو عبارة عما أصابوا من المال، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6793 و 6794](2681)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5672) و"الدعوات"(6349 و 6350) و"الرقاق"(6430 و 6431) و"التمنّي"(7234)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(970) و"صفة القيامة"(2483)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 4) و"الكبرى"(1949)، و (أحمد) في "مسنده"(9/ 105 و 110 و 112 و 6/ 395)، و (الحميديّ) في "مسنده"(154)،
(1)
"الفتح" 13/ 47، "كتاب المرضى" رقم (5672).
و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2999)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3668 و 3669 و 3670 و 3671 و 3672 و 3675 و 3679)، و (الحاكم) في "المستدرك"(3/ 383)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 146)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1046)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 377) و"شعب الإيمان"(7/ 393)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان النهي عن الدعاء بالموت.
2 -
(ومنها): بيان جواز التداوي بالكيّ، وقد ورد النهي عنه، قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه":"باب من اكتوى، أو كَوَى غيره، وفَضْلِ من لم يكتو"، قال في "الفتح": كأنه أراد أن الكيّ جائز للحاجة، وأن الأَولى تركه إذا لم يتعيَّن، وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه، أو بغيره لنفسه، أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في حديث ابن عباس مرفوعًا قال:"الشفاء في ثلاثة: في شَرْطة مِحْجم، أو شَرْبة عسل، أو كيّة بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكيّ"، وفَضْل تركه من قوله:"وما أحب أن أكتوي".
وقد أخرج مسلم من طريق أبي الزبير، عن جابر قال:"رُمِي سعد بن معاذ على أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ومن طريق أبي سفيان عن جابر:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُبَيّ بن كعب طبيبًا، فقطع منه عِرقًا، ثم كواه"، وروى الطحاويّ، وصححه الحاكم، عن أنس قال:"كواني أبو طلحة في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وأصله في البخاريّ، وأنه كُوِي من ذات الجنب.
وعند الترمذيّ عن أنس: "أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كَوَى أسعد بن زُرارة من الشوكة"، ولمسلم عن عمران بن حصين رضي الله عنه:"كان يُسَلَّم عليّ حتى اكتويتُ فتُرك، ثم تركت الكيّ، فعاد"، وله عنه من وجه آخر: أن الذي كان انقطع عني رجع إليّ؛ يعني: تسليم الملائكة، كذا في الأصل، وفي لفظ:"أنه كان يسلّم عليّ، فلما اكتويت أُمسك عني، فلما تركته عاد إليّ"، وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذيّ عن عمران:"نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكيّ، فاكتوينا، فما أفلحنا، ولا أنجحنا"، وفي لفظ:"فلم يُفلحن، ولم ينجحن"، وسنده قويّ.
والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأَولى؛ لِمَا يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاصّ بعمران؛ لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيّه، فلما اشتدّ عليه كواه، فلم ينجح.
وقال ابن قتيبة: الكيّ نوعان: كيّ الصحيح؛ لئلا يَعتلّ، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافَع، والثاني: كيّ الجرح إذا نَغَل؛ أي: فسد، والعِضو إذا قُطع، فهو الذي يُشرع التداوي به، فإن كان الكيّ لأمر مُحْتَمِل فهو خلاف الأَولى؛ لِمَا فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقّق.
وحاصل الجمع: أن الفعل يدلّ على الجواز، وعدم الفعل لا يدلّ على المنع، بل يدلّ على أن تَرْكه أرجح من فِعْله، وكذا الثناء على تاركه.
وأما النهي عنه، فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعيَّن طريقًا إلى الشفاء، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله صنه: قد تبيّن مما سبق أن الأَولى عدم الكيّ، لكن لو استعمله يجوز، فبهذا تجتمع الأحاديث في هذا الباب، والله تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): ذمّ إنفاق المال في البناء، إلا بقدر ما تدعو إليه الحاجة؛ لقول خبّاب رضي الله عنه:"إن المسلم ليؤجَر في كل شيء ينفقه، إلا في شيء يجعله في هذا التراب"، وهو وإن كان موقوفًا، إلا أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قِبَل الرأي، وقد روي مرفوعًا صريحًا، أخرجه الطبراني من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد، وعمر كذّبه ابن معين
(2)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6794]
(. . .) - (حَذَثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَيَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، قَالَا: حَدَّثنا مُعْتَمِرٌ (ح) وَحَدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإسْنَادِ).
(1)
"الفتح" 13/ 90 - 91، "كتاب الطبّ" رقم (5704).
(2)
راجع: "الفتح" 13/ 48.
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقة [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
2 -
(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا خلال الأبواب الخمسة الماضية، و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله، و"أبوه" هو: عبد الله بن نمير، و"أبو أسامة" هو: حمّاد بن أسامة.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإسْنَادِ)؛ يعني: كل هؤلاء الستّة: سفيان بن عيينة، وجرير بن عبد الحميد، ووكيع بن الجرّاح، وعبد الله بن نُمير، ومعتمر بن سليمان، وأبو أسامة رووا هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، وخباب رضي الله عنه.
[تنبيه]: أما رواية سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(154)
- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا إسماعيل بن أبي خالد، قال: ثنا قيس، قال: عُدنا خبابًا، وقد اكتوى في بطنه سبعًا، فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت، لدعوت به، ثم قال: فإنه قد مضى قَبْلنا أقوام، لم ينالوا من الدنيا شيئًا، وأنّا قد بقينا بعدهم، حتى نلنا من الدنيا ما لا يدري أحدنا في أيّ شيء يضعه، إلا في التراب، وأن المسلم يؤجَر في كل شيء ينفقه، إلا فيما أنفق في التراب. انتهى
(1)
.
وأما رواية وكيع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6066)
- حدّثني يحيى بن موسى، حدّثنا وكيع، حدّثنا إسماعيل، عن قيس، قال: سمعت خبّابًا، وقد اكتوى يومئذ سبعًا في بطنه، وقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت بالموت، إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مضوا، ولم تنقصهم الدنيا بشيء، وإنا أصبنا من الدنيا ما لا نجد له موضعًا إلا التراب. انتهى
(2)
.
(1)
"مسند الحميديّ" 1/ 83.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2362.
وأما روايات الباقين، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6795]
(2682) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، وَلَا يَدْع بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ
(1)
، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمْرُهُ إِلَّا خَيْرًا").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناوي الصنعانيّ؛ أنه (قَالَ: هَذَا) إشارة إلى الأحاديث المجموعة في الصحيفة المشهورة، فـ "هذا" مبتدأ، و (مَا) اسم موصول خبره؛ أي: الذي (حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: حال كونه آخذًا له عنه صلى الله عليه وسلم. (فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ) مجموعها (138) حديثًا، (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الأحاديث، وهو خبر مقدّم لقوله:(وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) لِقَصْد لفظه، فهو مبتدأ محكيّ. (لَا يَتَمَنَّى) قال في "الفتح": كذا للأكثر بلفظ النفي، والمراد به: النهي، أو هو للنهي، وأُشبعت الفتحة، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"لا يتمنّينّ" بزيادة نون التأكيد. انتهى.
وقال الطيبيّ: الياء في قوله: "لا يتمنى" مُثْبَتة في رسم الخطّ في كُتُب الحديث، فلعله نهي وَرَدَ على صيغة الخبر، أو المراد منه: لا يتمنّ، فأُجري مُجرى الصحيح. وقيل: هو لفظ النهي، وأشبعت الفتحة. قيل: والنفي بمعنى النهي أبلغ وآكد، لإفادته أن من شأن المؤمن انتفاء ذلك عنه، وعدم وقوعه عنه بالكليّة، أو لأنه قدّر أن المنهيّ حين ورد النهي عليه انتهى عن المنهيّ عنه، وهو يخبر عن انتهائه، ولو تُرك على النهي المحض ما كان أبلغ. انتهى.
وقال المناويّ رحمه الله: "لا يتمنى" نَهْيٌ أُخرج بصورة النفي؛ للتأكيد، ذكره
(1)
وفي نسخة: "انقطع أمله".
القاضي، وهو كما في "الكشاف" أبلغ وآكد؛ لأنه قُدّر أن المنهي حال ورود النهي عليه انتهى عن المنهيّ عنه، وهو يُخبر عن انتهائه، كأنه يقول: لا ينبغي للمؤمن المتزود للآخرة، والساعي في ازدياد ما يثاب عليه، من العمل الصالح، أن يتمنى ما يمنعه عن البرّ، والسلوك لطريق الله، وعليه الخبر، قال:"خير الناس من طال عمره، وحَسُن عمله"
(1)
؛ لأن مَن شأنه الازدياد، والترقي من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، حتى ينتهي إلى مقام القُرْب، كيف يَطلب القطع عن مطلوبه؟
(2)
.
(لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ) لدلالته على عدم الرضا بما أنزل الله به من المشاقّ، ولأن ضرر المرض مطهِّر للإنسان من الذنوب، والموت قاطع له، ولأن الحياة نعمة، وطلب إزالة النعمة قبيح
(3)
.
(وَلَا يَدْعُ بِهِ)؛ أي: لا يسأل الله تعالى الموت، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأتِيَهُ) الموت بانقضاء أجله، وقوله:(إِنَّهُ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، والجملة تعليليّة؛ أي: إنما نُهي عن تمنّي الموت، والدعاء به؛ لأنه إذا مات
…
إلخ، وَيَحْتَمل أن يكون بفتح الهمزة إن صحّت الرواية، بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأنه (إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ) بالعين المهملة، وفي بعض النسخ:"أمله" بالميم بدل العين؛ أي: رجاءه، والمعنى: أن الإنسان ينقطع ما يعمله من الخيرات في حياته إذا مات، فلا ينبغي له أن يتمنّى الموت، ولا أن يدعو به، وإن أصابه ما أصابه من البأساء والضرّاء؛ لئلا تنقطع. خيراته، وقوله:(وَإِنَّهُ) كسابقه، والضمير للشأن، وهو ضمير تفسّره جملة بعده، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كـ"إِنَّهُ زيدٌ شَرَى"
أي: إن الحال والشأن (لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ) منصوب على أنه مفعول مقدّم، (عُمْرُهُ) مرفوع على أنه فاعل مؤخّر، (إِلَّا خَيْرًا") وفيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمني الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب
(1)
حديث صحيح: أخرجه أحمد، والترمذيّ.
(2)
"فيض القدير" 6/ 444.
(3)
"فيض القدير" 6/ 444.
منها العمل، والعمل يُحَصِّل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد، فهو أفضل الأعمال، ولا يَرِد على هذا أنه يجوز أن يقع الارتداد - والعياذ بالله تعالى - عن الإيمان؛ لأن ذلك نادر، والإيمان بعد أن تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، وعلى تقدير وقوع ذلك، وقد وقع، لكن نادرًا، فمن سبق له في علم الله خاتمة السوء، فلا بدّ من وقوعها طال عمره أو قصر، فتعجيله بطلب الموت لا خير له فيه، ويؤيّده حديث أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لسعد:"يا سعد إن كنت خُلقت للجنة، فما طال من عمرك، أو حَسُن من عملك فهو خير لك". أخرجه أحمد بسند ليّن.
واستُشكل بأنه قد يعمل السيئات، فيزيده عمره شرًّا.
وأجيب بأجوبة:
أحدها: حَمْل المؤمن على الكامل، وفيه بُعْدٌ.
والثاني: أن المؤمن بصدد أن يعمل ما يُكَفّر ذنوبه، إما من اجتناب الكبائر، وإما من فِعل حسنات أخر، قد تقاوم بتضعيفها سيئاته، وما دام الإيمان باقيًا فالحسنات بصدد التضعيف، والسيئات بصدد التكفير.
والثالث: يُقيّد ما أُطلق في هذه الرواية بما وقع في الرواية الأخرى من الترجي، حيث جاء بقوله:"لعله يستعتب"، والترجي مشعر بالوقوع غالبًا لا جزمًا، فخرج الخبر مخرج تحسين الظن بالله، وأن المحسن يرجو من الله الزيادة، بأن يوفقه للزيادة من عمله الصالح، وأن المسيء لا ينبغي له القنوط من رحمة الله، ولا قَطْع رجائه، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ"، ويدلّ على أن قِصَر العمر قد يكون خيرًا للمؤمن حديث أنس رضي الله عنه، وفيه:"وتوفَّني إذا كان الوفاة خيرًا لي"، وهو لا ينافي حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"إن المؤمن لا يزيده عمره إلا خيرًا" إذا حُمل حديث أبي هريرة على الأغلب، ومقابله على النادر، قاله في "الفتح"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 13/ 49 - 50، "كتاب المرضى" رقم (5673).
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6795](2682)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 48)، و (معمر) في "الجامع"(11/ 314)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 314)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 316 و 350)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3015)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 377) و"الزهد الكبير"(2/ 239)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1446)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): أخرج البحاريّ رحمه الله في "صحيحه" حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بسياق آخر، أحببت إيراده هنا؛ ليكون مكمّلًا لحديثه المذكور هنا، قال رحمه الله:
(5349)
- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، قال: أخبرني أبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف؛ أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "لا، ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله بفضل ورحمة، فسدّدوا، وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت، إما محسنًا، فلعله أن يزداد خيرًا، وأما مسيئًا فلعله أن يستعتب". انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": قوله: "إما محسنًا، فلعله يزداد، وإما مسيئًا، فلعله يَستعتب"، كذا لهم بالنصب فيهما، وهو على تقدير عامل نَصْب، نحو:"يكون"، ووقع في رواية أحمد عن عبد الرزاق، بالرفع فيهما.
وقوله: "يَستعتب"؛ أي: يَسترضي اللهَ بالإقلاع، والاستغفار، والاستعتابُ طلب الإعتاب، والهمزة للإزالة؛ أي: يطلب إزالة العتاب، عاتَبه: لامَه، وأعتبه: أزال عتابه، قال الكرمانيّ: وهو مما جاء على غير القياس؛ إذ الاستفعال إنما يُنبنى من الثلاثيّ، لا من المزيد فيه. انتهى
(2)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2147.
(2)
"الفتح" 13/ 222.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إما محسنًا"، و"إما مسيئًا" بكسر همزة "إما" فيهما، ونَصْب "محسنًا" و"مسيئًا"، قال القاضي: وهو الرواية المعتدّ بها، تقديره: إن كان محسنًا، فحُذف الفعل بما استكن فيه، من الضمير، وعُوِّض عنه "مَا"، وادغم في ميمها النون، ويَحْتَمِل أن يكون "إمّا" حرف تقسيم، و"محسنًا" منصوب بأنه خبر "يكون"، والتقدير: إما أن يكون محسنًا، أو حالٌ والعامل فيه ما دلّ عليه الفعل السابق؛ أي: إما أن يتمناه محسنًا. انتهى.
ورُوي بفتحها، ورَفْع "محسن" بجعله صفة لمبتدأ محذوف، وما بعده خبره.
وقال ابن مالك رحمه الله: تقديره: إما أن يكون محسنًا، وإما أن يكون مسيئًا، فحَذَف "يكون" مع اسمها، وأَبقَى الخبر، قال: و"لعل" هنا شاهد على مجيئها للرجاء المجرد عن التعليل، وأكثر مجيئها في الرجاء؛ إذا كان معه تعليل.
وتعقبه الدمامينيّ، فقال: اشتمل كلامه على أمرين ضعيفين، قابِلَين للنزاع:
أما الأول: فجَزْمه بأن "محسنًا" و"مسيئًا" خبر ليكون محذوفًا، مع احتمال أن يكونا حالين من فاعل "يتمنى"، وهو "أحدكم"، وعطف أحد الحالين على الآخر، وأتى بعد كل حال بما ينبه على علة النهي عن تمني الموت، والأصل: لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا، واما مسيئًا؛ أي: سواء كان على حالة الإحسان، أو الإساءة، أما إذا كان محسنًا فلا يتمناه، لعله يزداد إحسانه إحسانًا، فيضاعف ثوابه، وإما أن يكون مسيئًا، فلا يتمناه، فلعله يَندَم على إساءته، ويطلب الرضا، فيكون سببًا لمحو ذنوبه.
وأما الثاني: فادعاؤه أن أكثر مجيء "لعل" للترجي، وهذا قَيْد ممنوع، وكتُب أكابر النحاة طافحة بالإعراض عنه.
وقوله: "فلعله يستعتب"؟؛ أي: يطلب الْعُتْبَى؛ أي: الرضا من الله، بأن يحاول إزالة غضبه بالتوبة، وردّ المظالم، وتدارك الفائت، وإصلاح العمل، ذكره القاضي.
وقال التوربشتيّ: والنهي وإن أُطلق لكن المراد منه التقييد بما وُجّه به من تلك الدلالة، وقد تمناه كثير من الصديقين شوقًا إلى لقاء الله تعالى، وتنعمًا
بالوصول لحضرته، وذلك غير داخل تحت نهي التقييد، والمطلق راجع للمقيد. انتهى.
هذا وليس لك أن تقول: لم تَنحصِر القسمة في هذين الوصفين، فلعله يكون مسيئًا فيزداد إساءة، فتكون زيادة العمر زيادة له في الشقاء، كما في خبر:"شَرّ الناس من طال عمره، وساء عمله"
(1)
. أو لعله يكون محسنًا، فتنقلب حاله إلى الإساءة؛ لأنا نقول: تَرَجِّي النبيّ صلى الله عليه وسلم له زيادة الإحسان، أو الانكفاف عن السوء بتقدير أن يدوم على حاله، فإذا كان معه أصل الإيمان، فهو خير له بكل حال، وبتقدير أن يَخِفّ إحسانه، فذلك الإحسان الخفيف الذي داوم عليه مضاعف له مع أصل الإيمان، وإن زادت إساءته، فالإساءة كثير منها مكفَّر، وما لا يُكَفَّر يرجى العفو عنه، فما دام معه الإيمان، فالحياة خير له، كما بيَّنه المحقق أبو زرعة
(2)
.
وقال في "الفتح": ظاهر الحديث انحصار حال المكلف في هاتين الحالتين، وبقي قسم ثالث، وهو أن يكون مخلِّطًا، فيستمرّ على ذلك، أو يزيد إحسانًا، أو يزيد إساءة، أو يكون محسنًا، فينقلب مسيئًا، أو يكون مسيئًا، فيزداد إساءةً.
والجواب: أن ذلك خرج مخرج الغالب؛ لأن غالب حال المؤمنين ذلك، ولا سيما والمخاطَب بذلك شفاهًا الصحابة رضي الله عنهم.
قال: وقد خطر لي في معنى الحديث أن فيه إشارةً إلى تغبيط المحسن بإحسانه، وتحذير المسيء من إساءته، فكأنه يقول: من كان محسنًا، فليترك تمني الموت، وليستمرّ على إحسانه، والازدياد منه، ومن كان مسيئًا، فليترك تمني الموت، وليُقلِع عن الإساءة؛ لئلا يموت على إساءته، فيكون على خطر، وأما من عدا ذلك، ممن تضمّنه التقسيم، فيؤخذ حكمه من هاتين الحالتين؛ إذ لا انفكاك عن أحدهما، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
تقدّم أنه صحيح.
(2)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" 6/ 444 - 445.
(3)
"الفتح" 17/ 83 - 84، "كتاب التمنّي" رقم (7235).
(5) - (بَابٌ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله اللهُ أوّلَ الكتاب قال:
[6796]
(2683) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أنسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(هَدَّابُ
(1)
بْنُ خَالِدِ) بن خالد بن الأسود الْقَيْسيّ، ويقال في اسمه: هُدْبة - بضم أوله، وسكون الدال، بعدها موحّدة - أبو خالد البصريّ ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع و (23)(خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقة رُبّما وَهِمَ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(قتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ، أبو الخطّاب البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، ذُكر في الباب الماضي.
5 -
(عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ) بن قيس الأنصاريّ الْخَزْرجيّ، أبو الوليد الصحابيّ الشهير، أحد النُّقباء، البدريّ، مات رضي الله عنه بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثثتان وسبعون سنةً، وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما، قال سعيد بن عُفير: كان طوله عشرة أشبار (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى عبادة رضي الله عنه، فمدنيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
(1)
بفتح الهاء، وتشديد الدال المهملة.
شرح الحديث:
(عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، وفي رواية شعبة، عن قتادة التالية:"قال: سمعت أنسًا يُحدّث"(عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) رضي الله عنه وقد رواه حميد، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، أخرجه أحمد، والنسائيّ، والبزار، من طريقه، وذكر البزار أنه تفرَّد به، فإن أراد مطلقًا وَرَدَت عليه رواية قتادة، وإن أراد بقيد كونه جَعَله من مسند أنس سَلِم
(1)
.
(أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ)؛ أي: المصير إلى الدار الآخرة، بمعنى أن المؤمن عند الغَرْغَرة يُبَشَّر برضوان الله تعالى، فيكون موته أحبّ إليه من حياته. قيل: الحب هنا هو الذي يقتضيه الإيمان بالله، والثقة بوعده، دون ما يقتضيه حكم الجِبِلَّة.
قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: قال العلماء: معنى هذا الحديث: عند الاحتضار، والمعاينة، فحينئذ يُكشف الغطاء، فأهل السعادة يبشَّرون بما أعدَّه الله لهم، وأراده فيهم، وهو معنى محبته لقاءهم
(2)
، فيغتبطون، ويُسَرّون بذلك، ويحبون الموت؛ لتحصيل تلك الكرامة، وأهل الشقاوة كُشف لهم عن حالهم، فكرهوا الورود على ربهم؛ لِمَا تيقنوا من تعذيبه لهم، والله تعالى قد أبعدهم عنه، وأراد بهم العذاب، وهو معنى كرهه لقاءهم
(3)
، فـ"مَنْ" هنا خبرية، غير شرطية، وليس معنى الحديث: أن سبب حب الله لقاء هؤلاء حبهم ذلك، ولا أن سبب كراهة الله لقاء هؤلاء كراهتهم ذلك، ولكنه صفة حال هؤلاء وهؤلاء في أنفسهم، وعند ربهم، كأنه قال: من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله فهو الذي كره الله لقاءه، فيستدل باستبشار
(1)
راجع: "الفتح" 14/ 698، "كتاب الرقاق" رقم (6507).
(2)
هذا فيه نظر؛ لأنه صَرْف لمعنى الكلام إلى غير وجهه، بل المعنى أن صفة المحبّة ثابتة لله تعالى، ثم يترتّب على ذلك إكرامه، وإنعامه، وإرادة الخير له، هذا هو مذهب السلف، فتنبّه.
(3)
هذا نظير ما سبق في المحبّة، فصفة الكراهية ثابتة له سبحانه وتعالى، ثم يترتب عليه ما ذُكر، فهو من لوازمها، فتنبّه.
المحتضر بعد المعاينة على الخير، وبانكماشه بعدها على الشرّ، وقد فَسّرت عائشة رضي الله عنها الحديث بذلك، وروته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجب الرجوع إليه.
وقال ابن عبد البرّ بعد نقله هذا المعنى عن أهل العلم: وقال أبو عبيدة: ليس وجهه عندي كراهة الموت وشدته؛ لأن هذا لا يكاد يخلو منه أحد، ولكن المكروه من ذلك إيثار الدنيا، والركون إليها، وكراهته أن يصير إلى الله، والدار الآخرة، قال: ومما يبيِّن ذلك أن الله تعالى قد عاب قومًا في كتابه بحب الحياة الدنيا، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} [يونس: 7]، وقال:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، وقال:{وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة: 7]، قال: فهذا يدلّ على أن الكراهية للقاء الله تعالى ليست بالكراهية للموت، وإنما هو الكراهية للنُّقلة من الدنيا إلى الآخرة. انتهى.
وقال المازريّ: من قُضي بموته لا بدّ أن يموت، وإن كان كارهًا لقاء الله، ولو كره الله موته ما مات، ولا لقيه، فيُحمل الحديث على كراهة الله تعالى الغفران له، وإرادته لإبعاده من رحمته. انتهى.
قال وليّ الدين: وظاهر عبارته تقتضي عدم الغفران لمن كره الموت مطلقًا، وليس كذلك، فالصواب في معنى الحديث ما فسره به قائله صلى الله عليه وسلم.
انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال الكرمانيّ
(2)
: ليس الشرط سببًا للجزاء، بل الأمر بالعكس، ولكنه على تأويل الخبر؛ أي: من أحب لقاء الله أَخْبِره بأن الله أحب لقاءه، وكذا الكراهة، وقال غيره فيما نقله ابن عبد البرّ وغيره:"مَنْ" هنا خبرية، وليست شرطية، فليس معناه أن سبب حب الله لقاء العبد حب العبد لقاءه، ولا الكراهة، ولكنه صفة حال الطائفتين في أنفسهم عند ربهم، والتقدير: من أحب لقاء الله فهو الذي أحب الله لقاءه، وكذا الكراهة.
وتعقّبهم الحافظ - وقد أجاد في ذلك - فقال: ولا حاجة إلى دعوى نفي
(1)
"طرح التثريب" 3/ 263 - 264.
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 23/ 25.
الشرطية، فسيأتي في "التوحيد" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"قال الله عز وجل: إذا أحب عبدي لقائي، أحببت لقاءه. . ." الحديث، فيتعين أن "مَنْ" في حديث الباب شرطية
(1)
.
وقال ابن الأثير الجزريّ رحمه الله في "النهاية": المراد بلقاء الله هنا: المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت؛ لأن كُلًّا يكرهه، فمن ترك الدنيا، وأبغضها أحبّ لقاء الله، ومن آثرها، ورَكِن إليها كَرِه لقاء الله؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت. قال: وقول عائشة رضي الله عنه: "والموت دون لقاء الله" يبيّن أن الموت غير اللقاء، ولكنه مُعترِضٌ دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، وَيحْتَمِلَ مشاقّه حتى يصل إلى الفوز باللقاء
(2)
.
قال الطيبيّ رحمه الله: يريد أن قول عائشة رضي الله عنها: "إنا لنكره الموت" يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث: الموت، وليس كذلك؛ لأن لقاء الله غير الموت، بدليل قوله في الرواية الأخرى:"والموت دون لقاء الله"، لكن لمّا كان الموت سببًا إلى لقاء الله عبّر عنه بلقاء الله.
قال الحافظ: وقد سبق ابن الأثير إلى تأويل لقاء الله بغير الموت الإمام أبو عبيد القاسم بن سلّام، فقال: ليس وجهه عندي كراهة الموت، وشدّته؛ لأن هذا لا يكاد يخلو عنه أحد، ولكن المذموم من ذلك إيثار الدنيا، والركون إليها، وكراهية أن يصير إلى الله، وإلى الدار الآخرة، قال: ومما يُبيّن ذلك أن الله تعالى عاب قومًا بحبّ الحياة، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} الآية [يونس: 7]. انتهى.
وقال الخطابيّ: معنى محبّة العبد للقاء الله: إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحبّ استمرار الإقامة فيها، بل يستعدّ للارتحال عنها، والكراهةُ بضدّ ذلك. انتهى.
وقال النوويّ: معنى الحديث: أن المحبّة والكراهة التي تُعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تُقبل فيها التوبة، حين ينكشف الحال للمُحتَضِر، ويظهر له ما هو صائر إليه. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 14/ 698.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 266.
(3)
راجع: "الفتح" 14/ 701، "كتاب الرقاق" رقم (6507).
(أَحَبَّ الله لِقَاءَهُ) إنما عدل عن الضمير إلى الظاهر؛ تفخيمًا وتعظيمًا ودَفعًا لتوهّم عود الضمير على الموصول؛ لئلا يتّحد في الصورة المبتدأ والخبر، ففيه إصلاح اللفظ لتصحيح المعنى، وأيضًا فعَوْد الضمير على المضاف إليه قليل.
قال الحافظ: وقرأت بخط ابن الصائغ في "شرح المشارق": يَحْتَمِل أن يكون "لقاء الله" مضافًا للمفعول، فأقامه مقام الفاعل، و"لقاءه" إما مضاف للمفعول، أو للفاعل الضمير، أو للموصول؛ لأن الجواب إذا كان شرطًا، فالأَولى أن يكون فيه ضمير، نعم هو موجود هنا، ولكن تقديرًا. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال العلماء: محبة الله لعبده: إرادته الخير له، وهدايته إليه، وإنعامه عليه، وكراهته له على الضدّ من ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا الله تعالى عنه: قوله: "قال العلماء" أراد به: علماء الكلام، والأشاعرة، لا علماء السلف؛ لأن تفسير محبّة الله تعالى بإرادة الخير ونحوه ليس مذهبَ السلف رضي الله عنهم، بل هو تفسير باللازم، وهو غير صحيح، بل الذي عليه السلفُ، وأهلُ الحديث إثبات صفة المحبّة لله تعالى حقيقةً على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ثم إذا أحبّ الله عبده أراد له الخير، وهداه إليه، وأنعم عليه، وعلى هذا الكراهة، فليُتفطّن، والله تعالى أعلم.
(وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ)؛ أي: حين يرى ما له من العذاب عند الغرغرة، (كَرِهَ الله لِقَاءَهُ") فأبعده من رحمته، وأدناه من نقمته، وفيه إثبات صفة المحبّة، والكراهية لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6796 و 6797](2683)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6502)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1066)، و (النسائيّ) في
(1)
"الفتح" 14/ 699، "كتاب الرقاق" رقم (6507).
"المجتبى"(1836 و 1837) و"الكبرى"(1962 و 1963)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(574)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 107 و 5/ 316 و 321)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 708)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3009)، و (البزّار) في "مسنده"(780)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(3/ 430)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 13)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1449)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): فضل محبة لقاء الله تعالى.
2 -
(ومنها): بيان أن الجزاء من جنس العمل، فإنه قابَل المحبّة بالمحبّة، والكراهة بالكراهة.
3 -
(ومنها): بيان معنى كراهة لقاء الله - كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها بأنه ليس المراد كراهة الموت، بل ما يكون وقت الاحتضار من حال العبد عند ما يُبشَّرُ المؤمن، ويُنذَرُ الكافرُ، فإذا استبشر المؤمن، وانقبض الكافر كان ذلك علامة حب لقاء الله، وكراهته.
4 -
(ومنها): البداءة بأهل الخير في الذِّكر لِشَرَفهم، وإن كان أهل الشرّ أكثر.
5 -
(ومنها): أن المحتضر إذا ظهرت عليه علامات السرور كان ذلك دليلًا على أنه بُشّر بالخير، وكذا بالعكس.
6 -
(ومنها): أن محبة لقاء الله لا تدخل في النهي عن تمنّي الموت؛ لأنها ممكنة مع عدم تمني الموت، كأن تكون المحبة حاصلة لا يفترق حاله فيها بحصول الموت ولا بتأخره، وأن النهي عن تمني الموت محمول على حالة الحياة المستمرّة، وأما عند الاحتضار والمعاينة، فلا تدخل تحت النهي، بل هي مستحبّة، والله تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن في كراهة الموت في حالة الصحة تفصيلًا، فمن كرهه إيثارًا للحياة على ما بعد الموت من نعيم الآخرة كان مذمومًا، ومن كرهه خشية أن يُفضي إلى المؤاخذة كان يكون مقصّرًا في العمل، لم يستعدّ له بالأُهبة بأن يتخلّص من التبعات، ويقوم بأمر الله كما يجب فهو معذور، لكن ينبغي لمن
وجد ذلك أن يبادر إلى أخذ الأهبة حتى إذا حضره الموت لا يكرهه، بل يحبّه لِمَا يرجو بعده من لقاء الله تعالى.
8 -
(ومنها): أن فيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء، وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت أخذًا من حديث عائشة رضي الله عنها الآتي:"والموت قبل لقاء الله". واللقاء أعمّ من الرؤية، فإذا انتفى اللقاء انتفت الرؤية، وقد ورد بأصرح من هذا في "صحيح مسلم" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه مرفوعًا في الحديث الطويل الآتي في "الفتن"، وفيه:"تعلّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6797]
(. . .) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِت، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: رواية شعبة عن قتادة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1962)
- حدّثنا محمد بن المثنى، قال: نا محمد
(1)
، قال: ثنا شعبة، عن قتادة، قال: سمعت أنسًا يحدّث عن عبادة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله، كره الله لقاءه". انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6798]
(2684) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، حدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ، حَدَّثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءهُ"، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ،
(1)
هو: ابن جعفر غُندر.
فَقَالَ: "لَيْسَ كَذَلِك، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَرِضْوَانِهِ، وَجَنَّتِهِ، أَحَبَّ لِقَاءَ الله، فَأحبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ الله، وَسَخَطِهِ، كَرِهَ لِقَاءَ الله، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) - براء مضمومة، ثم زاي ثقيلة -: نسبة إلى الرّزّ المعروف المأكول، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ يَهِم [10](231)(م) تقدم في "الجهاد والسّير" 27/ 4601.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ) هو: خالد بن الحارث بن عُبيد بن سُليم، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.
[تنبيه]: قوله: "الْهُجَيميّ" بضمّ الهاء، وفتح الجيم بعدها ميم: نسبة إلى محلّة بالبصرة نزلها بنو الْهُجيم بن عمرو بن تميم بن مُرّ بن أُدّ، بطن من تميم، فنُسبت المحلّ إليهم، قاله في "اللباب"
(1)
.
3 -
(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهْران اليشكريّ، أبو النضر البصريّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة المذكور في السند الماضي.
5 -
(زُرَارَةُ) - بضم أوله - ابن أوفى العامريّ الْحَرَشيّ - بمهملة، وراء مفتوحتين، ثم معجمة - أبو حاجب البصريّ، قاضيها، ثقةٌ عابدٌ [3] مات فَجْأة في الصلاة سنة ثلاث وتسعين (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
6 -
(سَعْدُ بْنُ هِشَامِ) بن عامر الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3] استشهد بأرض الهند (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1688.
7 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين غير شيخه، فبغداديّ، وسعد وعائشة، فمدنيّان، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 382.
بعض: قتادة، عن زُرارة، عن سعد، ورواية الآخرين من رواية الأقران، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وأفقه نساء الأمة رضي الله عنها.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ الله لِقَاءَهُ") تقدم شرح هذه الجمل، قالت عائشة رضي الله عنها:(فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟) الهمزة للاستفهام، و"كراهية" خبر لمحذوف، بيّن في رواية النسائيّ، ولفظه:"كراهية لقاء الله كراهية الموت؟ "، وهو بتقدير أداة الاستفهام، وقولها:(فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ) ولفظ النسائيّ: "كلنا نكره الموت"، بلا فاء، والجملة مستأنفة بَيَّنت بها سبب الاستفهام؛ أي: إنما استفهمتُ عن معنى كراهية لقاء الله خوفًا من أن ندخل فيها، حيث إننا نكره الموت.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَيْس كَذَلِكِ)؛ أي: ليس معنى كراهية لقاء الله كراهية الموت، وفي رواية النسائيّ:"قال: ذاك عند موته" والإشارة إلى المذكور، من محبة لقاء الله تعالى، وكراهيته؛ يعني: أن كراهية لقاء الله تعالى ليس مطلقًا، بل هو في وقت معيّن، وذلك عند موته، ومعاينته ما أعدّ له، من عظيم الثواب، وأليم العقاب.
(وَلَكِنَّ) بتشديد النون، فقوله:(الْمُؤْمِنَ) منصوب على أنه اسم "لكن"، وَيَحْتمل أن يكون بتخفيف النون، و"المؤمن" مرفوع على الابتداء خبره:"أحب لقاء الله"، (إِذَا بُشِّر) بالبناء للمفعول؛ أي: إذا بشّرته الملائكة عند احتضاره (بِرَحْمَةِ الله، وَرِضْوَانِه، وَجَنَّتِه، أَحَبَّ لِقَاءَ الله، فَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ) وفي رواية البخاريّ: "بُشر برضوان الله وكرامته"، وفي حديث حميد، عن أنس:"ولكن المؤمن إذا حُضر جاءه البشير من الله، وليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله، فأحبّ الله لقاءه"، وفي رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى:"ولكنه إذا حُضر فأما إن كان من المقرّبين، فرَوح وريحان وجنّة نعيم، فإذا بُشّر بذلك أحبّ لقاء الله، والفه للقائه أحبّ".
(وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ) بالبناء للمفعول أيضًا، (بِعَذَابِ الله، وَسَخَطِهِ، كَرِهَ
لِقَاءَ الله، وَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ") قال الخطابيّ رحمه الله: تضمّن حديث الباب من التفسير ما فيه غُنية عن غيره، واللقاء يقع على أوجه منها: المعاينة. ومنها: البعث؛ كقوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} [الأنعام: 31]؛ أي: بالبعث. ومنها: الموت؛ كقوله تعالى: {كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} الآية [العنكبوت: 5]، وقوله:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} الآية [الجمعة: 8]. انتهى.
وقال النووي رحمه الله: هذا الحديث يفسّر آخرُهُ أوّلَهُ، ويبيّن المراد بباقي الأحاديث المطلقة:"من أحبّ لقاء الله، ومن كره لقاء الله".
ومعنى الحديث: أن الكراهة المعتبَرة هي التي تكون عند النزع في حالةٍ لا تُقبل توبته، ولا غيرها، فحينئذ يُبشّر كلُّ إنسان بما هو صائر إليه، وما أُعدّ له، ويُكشف له عن ذلك، فأهل السعادة يُحبّون الموت، ولقاءَ الله، لينتقلوا إلى ما أُعدّ لهم، ويحبّ اللهُ لقاءهم؛ أي: فيُجزِل لهم العطاء والكرامة، وأهل الشقاوة يَكرهون لقاءه، لِمَا عَلِمُوا من سوء ما يَنتقلون إليه، وَيَكره الله لقاءهم؛ أي: يُبعدهم عن رحمته وكرامته، ولا يريد ذلك بهم، وهذا معنى كراهته سبحانه لقاءهم، وليس معنى الحديث أن سبب كراهة الله تعالى لقاءَهُم كراهتُهُم ذلك، ولا أن حبّه لقاءَ الآخرين حبُّهم ذلك، بل هو صفة لهم. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6798 و 6799 و 6800 و 6801](2684) وعلّقه البخاريّ في "الرقاق"(6507)، و (النسائيّ) في "الجنائز"(1838) و"الكبرى"(1964)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4264)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 44 و 55 و 207 و 236)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 716)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3010)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(4301)،
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 12 - 13.
و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1450) وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6799]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرِ) بن عثمان الْبُرْسانيّ - بضمّ الموحّدة، وسكون الراء، ثم مهملة - أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ قد يخطئ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية محمد بن بكر عن سعيد بن أبي عروبة هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:
(1067)
- وحدّثنا محمد بن بشّار، حدّثنا محمد بن بكر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن زُرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام، عن عائشة؛ أنها ذَكَرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كَرِه لقاء الله كره الله لقاءه"، قالت: فقلت: يا رسول الله كلنا نكره الموت؟، قال:"ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله، ورضوانه، وجنته، أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشِّر بعذاب الله، وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6800]
(. . .) - (حَدَّثنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الشَّعْبيِّ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ، وَالْمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ اللهِ").
(1)
"جامع الترمذيّ" 3/ 379.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) - بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء - القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقة [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
2 -
(زَكَرِيَّاءُ) بن أبي زائدة خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقة، وكان يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
3 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.
4 -
(شُرَيْحِ بْنُ هَانِئِ) بن يزيد الحارثيّ الْمَذْحِجيّ، أبو الْمِقْدام الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ، قُتل مع ابن أبي بكرة بسجستان سنة (78)(بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 15/ 596.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (وَالْمَوْتُ قَبْلَ لِقَاءِ اللهِ) قال الحافظ رحمه الله: هذه الزيادة من كلام عائشة رضي الله عنها فيما يظهر لي، ذكرَتْها استنباطًا مما تقدم. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هكذا أشار الحافظ إلى كون هذه الزيادة مدرجة في الحديث، ولم يذكر حجته على الإدراج، والذي يظهر لي أنها مرفوعة من نفس الحديث، فقد أخرجها مسلم وغيره، ولم يُشر أحد إلى إدراجها، فليُتنبّه، والله تعالى أعلم.
قال: وفيه أن الله تعالى لا يراه في الدنيا أحد من الأحياء، وإنما يقع ذلك للمؤمنين بعد الموت، وأصرح من هذا حديث:"فاعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا"، حديث صحيح، أخرجه مسلم بنحوه.
وقال ابن الأثير رحمه الله: المراد بلقاء الله: المصير إلى الدار الآخرة، وطَلَب ما عند الله، وليس الغرض به الموت؛ لأن كلًّا يكرهه، فمن ترك الدنيا، وأبغضها، أحب لقاء الله، ومن آثرها، ورَكِن إليها، كَرِه لقاء الله؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت.
وقوله: "والموت قبل لقاء الله" يبيّن أن الموت غير اللقاء، ولكنه مُعترِض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، وَيَحتَمِل مشاقّه حتى يصل إلى الفوز باللقاء. انتهى
(1)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6801]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ، أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ
(2)
؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه المذكور في الباب الماضي.
2 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبيعيّ - بفتح المهملة، وكسر الموحّدة - الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
والباقون تقدموا قبله.
[تنبيه]: رواية عيسى بن يونس عن زكريّا هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1779)
- أخبرنا عيسى بن يونس، عن زكريا، وهو ابن زائدة، عن الشعبيّ، قال: حدّثني شُريح بن هانئ؛ أن عائشة حدّثته، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كَرِه لقاء الله كَرِه الله لقاءه، والموت قبل لقاء الله". انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6802]
(2685) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ، عَنْ
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 266.
(2)
وفي نسخة: "حدّثته".
(3)
"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 1036.
مُطَرِّفٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"، قَالَ: فَأتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَقَدْ هَلَكْنَا، فَقَالَتْ: إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ، بِقَوْل رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ"، وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ، فَقَالَتْ: قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْه، وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ، وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ، وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ، وَتَشَنَّجَتِ الأَصَابعُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ).
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سهل الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقة [10](230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.
2 -
(عَبْثَرُ) - بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثلثة - ابن القاسم الزُّبيديّ - بالضم - أبو زُبيد كذلك الكوفيّ، ثقة [8](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 48/ 305.
3 -
(مُطَرِّفُ) - بضم أوله، وفتح ثانية، وتشديد الراء المكسورة - ابن طَرِيف، أبو بكر، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [6](ت 141) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 472.
[تنبيه]: كون مطّرف هنا هو ابن طَرِيف هو الظاهر؛ فما وقع لبعض الشارحين
(1)
من أنه ابن عبد الله بن الشِّخِّير ففيه نظر لا يخفى؛ لأن ابن عبد الله متقدّم الطبقة؛ لأنه من الطبقة الثانية، مات سنة (87) وقيل:(95)، فيَبعد أن يدركه عبثر؛ وهو من الطبقة الثامنة، ولأنه قد ذكر في "التهذيب" ابن طريف ممن روى عنه عبثر، وروى هو عن الشعبيّ، ولم يذكر ابن عبد الله بن الشّخّير راويًا عن الشعبيّ، ولا عبثرًا ممن روى عنه.
(1)
راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 30.
وبالجملة فكونه ابن عبد الله الظاهر أنه غلطٌ، ومما يؤيّد ذلك أن ابن راهويه أخرج هذا الحديث في "مسنده"
(1)
عن جرير بن عبد الحميد، عن مطرّف هذا، وبيقين أن جريرًا لم يلق مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير؛ لأنه مات سنة (87) أو سنة (95)، ووُلد جرير سنة (107)؛ أي: بعد موته بأكثر من عشر سنين، فاتّضح بهذا أن مطرّفًا هنا هو ابن طَريف بلا شكّ، ولله الحمد والمنّة.
والباقون ذُكروا قبله، و"عامر" هو: الشعبيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ) الحارثيّ الْمَذْحِجيّ المخضرم الكوفيّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ)؛ أي: المصير إلى الدار الآخرة، (أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ) فيه إثبات المحبّة والكراهية لله عز وجل على ما يليق بجلاله، دون تأويل، كما ذهب إليه شُرّاح هذا الحديث، على ما أوضحناه قريبًا. (وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ") فيه أن الجزاء من جنس العمل. (قَالَ) شريح (فَأتَيْتُ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَذْكُرُ) جملة في محل نصب على الحال من المفعول، (عَنْ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، إِنْ كَانَ كَذَلِكَ)؛ أي: إن كان الحديث كما ذكره أبو هريرة رضي الله عنه، وإنما قال ذلك؛ لاحتمال أن يكون أخطأ فيه أبو هريرة رضي الله عنه، أو أخطأ هو في فَهْمه، فلعل عائشة رضي الله عنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالفه، أو لعلها تفهّمه المراد منه. (فَقَدْ هَلَكْنَا)؛ أي: لكون الموت مبغوضًا إلى النفس بالطبع. (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (إِنَّ الْهَالِكَ مَنْ هَلَكَ، بِقَوْلِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذه الجملة قدّمتها قبل استفهامها حديث أبي هريرة؛ لتبيّن أن الهالك كل الهالك
(1)
راجع: "مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 904.
هو الذي هلك بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا منجى، ولا ملجأ له، بل هو الخاسر في الدنيا والآخرة. (وَمَا ذَاكَ؟)؛ أي: ما هو الحديث الذي ذكره أبو هريرة؟ (قَالَ) أبو هريرة: (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ") وقوله: (وَلَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ) وفي رواية النسائيّ: "وَلَكِنْ لَيْسَ مِنَّا أَحَدٌ"، (إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ الْمَوْتَ) هذه الجملة من كلام شريح بَيَّنَ بها وجهَ الإشكال من الحديث. (فَقَالَتْ) عائشة رضي الله عنها:(قَدْ قَالَهُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: هذا الحديث الذي حدّثك به أبو هريرة، ففيه تصديق من عائشة رضي الله عنها لأبي هريرة بأنه حفظ الحديث كما هو، ولم يغيّره، (وَلَيْسَ بِالَّذِي تَذْهَبُ إِلَيْهِ) الباء زائدة؛ أي: ليس المراد ما تفهمه أنت من الإطلاق، بل هو مقيّد بحالة الاحتضار حين يُبَشَّر المؤمن بخير، ويُنذَر الكافر بشرّ، وإلى هذا أشارت بقولها:(وَلَكِنْ إِذَا شَخَصَ الْبَصَرُ) بفتح الشين، والخاء، يقال: شَخَصَ البصر، من باب منع: إذا ارتفع، ويتعدّى بنفسه، فيقال: شَخَصَ الرجلُ بَصَرَه: إذا فتح عينيه، لا يَطْرِف، وربّما يُعَدّى بالباء، فيقال: شَخَص الرجل ببصره، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
ومعناه هنا: ارتفاع الأجفان إلى فوقُ، وتحديدُ النظر.
وفي رواية النسائيّ: "وَلَكِنْ إِذَا طَمَحَ الْبَصَرُ". قال المجد: طَمَحَ بصرُهُ إليه، كمنع: ارتفع، ووقع في نسخة "الكبرى":"وطفح البصر" بالفاء بدل الميم، والظاهر أنه تصحيف، فإن الطَّفْح معناه الامتلاء، ولا يناسب هنا.
(وَحَشْرَجَ الصَّدْرُ) كَدَحْرَج، قال المجد رحمه الله: الحَشْرَجَة: الغَرْغَرة عند الموت، وتردُّدُ النَّفَس. (وَاقْشَعَرَّ الْجِلْدُ)؛ أي: قام شعره، وأخذته قُشَعْرِيرَةٌ؛ أي: رِعْدَةٌ، (وَتَشَنَّجَتِ الأَصَابعُ) قال النوويّ رحمه الله: تشنّج الأصابع: تقبّضُها.
قال في "الفتح": وهذه الأمور هي حالة المحتضِر، وكأن عائشة رضي الله عنها أخذته من معنى الخبر الذي رواه عنها سعد بن هشام مرفوعًا لمّا قالت له:"فكلنا نكره الموت؟ فقال: ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّر برحمة الله، ورضوانه، وجنته، أحب لقاء الله، فاحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشّر بعذاب الله، وسخطه، كره لقاء الله، وكره الله لقاءه".
(1)
"المصباح المنير" 1/ 306.
(فَعِنْدَ ذَلِكَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كرِهَ لِقَاءَ اللهِ كرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ) وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "إذا أراد الله بعبد خيرًا قيّض له قبل موته بعام ملَكًا يسدّده، ويوفّقه حتى يقال: مات بخير ما كان، فإذا حُضر ورأى ثوابه اشتاقت نفسه، فذلك حين أحبّ لقاء الله، وأحبّ الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبد شرًّا قَيّض له قبل موته بعام شيطانًا، فأضلّه، وفَتَنه، حتى يقال: مات بشرّ ما كان عليه، فإذا حُضر، ورأى ما أُعِدّ له من العذاب جَزِعَت نفسه، فذلك حين كره لقاء الله، وكره الله لقاءه"، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6802 و 6803](2685)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7504) دون قصّة عائشة رضي الله عنها، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1067)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1834 و 1835 و 1838) و"الكبرى"(1960 و 1961 و 1964)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4418)، و (مالك) في "الموطأ"(567)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 346 و 420)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1590)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3008)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(12/ 311)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1448)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أؤلَ الكتاب قال:
[6803]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنِي جَرِيرٌ، عَنْ مُطَرِّفٍ، بِهَذَا الإسناد، نَحْوَ حَدِيثِ عَبْثَرٍ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن مطرّف هذه ساقها إسحاق بن راهويه رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(1590)
- أخبرنا جرير، عن مُطَرِّف، عن الشعبيّ، عن شُريح بن هانئ، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه"، قال: فأتيت عائشة، فأخبرتها، فقلت لها: لئن كان ما يقول أبو هريرة حقًّا، فقد هلكنا، فقالت: إن الهالك لَمَن هلك في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك؟ قلت: يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه"، فقالت: وأنا أشهد به، هل تدري متى يكون ذاك؟ إنما يكون إذا طَمَح البصر، وحَشْرَج الصدر، وانشجبت الأصابع، واقشَعَرّ الجلد، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن أبغض لقاء الله أبغض الله لقاءه. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6804]
(2686) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيُّ) عبد الله بن بَرّاد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، الكوفيّ، صدوق [10](خت م) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
3 -
(بُرَيْدُ) بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ يخطئ قليلًا [6](ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
4 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، وُلد بالبصرة، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
(1)
"مسند إسحاق بن راهويه" 3/ 904.
5 -
(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا قد مضى شرحه مستوفي في حديث عبادة رضي الله عنه وما بعده، وفيه:
مسألتان:
(المسألة الأولى): هذا الحديث متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6804](2686)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6508)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7301)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 152)، و (القُضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 266)، والله تعالى أعلم.
(6) - (بَابُ فَضْلِ الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ تَعَالَى)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6805]
(2675)
(1)
- (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ) - بضم الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف - الكلابيّ أبو عبد الله الرَّقّيّ، صدوقٌ يَهِم في حديث الزهريّ [7] (ت 150) وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البَكّائيّ - بفتح الموحّدة، والتشديد - أبو عوف الكوفيّ، نَزَل الرَّقَّة، وهو ابن أخت ميمونة أم
(1)
تقدّم هذا الرقم.
المؤمنين رضي الله عنها، يقال: له رؤية، ولا يثبت، وهو ثقةٌ [3](103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في "باب الحثّ على ذكر الله تعالى"[1/ 6781](2675) فراجعه تستفد.
وقوله: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي)؛ أي: أعامله على حسب ظنه، وأفعل به ما يتوقعه مني، فليُحْسِن رجاءه، أوأنا قادر على أن أعمل به ما ظن أني أعامله به، فالمراد: الحثّ على تغليب الرجاء على الخوف، والظنّ على بابه، ذكره القاضي رحمه الله.
قال: ويمكن تفسيره بالعلم، والمعنى: أنا عند يقينه بي، وعِلمه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليّ، وأن ما قضيت من خير وشرّ، فلا مردّ له، لا معطي لِمَا منعت، ولا رادّ لِمَا أعطيت؛ أي: إذا تمكن العبد في مقام التوحيد، ورسخ في مقام الإيمان، والوثوق به، قَرُب منه، ورفع دونه الحجاب، بحيث إذا دعاه أجاب، وإذا سأله استجاب.
وجزم بعض المتأخرين بثاني احتماليه، فقال: معناه: عند يقينه بي، فالاعتماد عليّ، والوثوق بوعدي، والرهبة من وعيدي، والرغبة فيما عندي، أعطيه إذا سألني، وأستجيب له إذا دعاني، كل ذلك على حسب ظنه، وقوّة يقينه، والظن قد يَرِد بمعنى اليقين، قال الله تعالى:{الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]؛ أي: يوقنون، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ أي: إن ظن بي خيرًا أفعل به خيرًا، وإن ظن بي شرًّا أفعل به شرًّا.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به، فإن من أساء الظن به ظَنّ به خلاف كماله الأقدس، وظنَّ به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعّد عليه بما توعّد به غيره، فقال:{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} [الفتح: 6]، وقال:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23].
وقال الكرماني رحمه الله: وفيه إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف؛
أي: لأن العاقل إذا سمعه لا يَعْدِل إلى ظنّ إيقاع الوعيد، وهو جانب الخوف، بل إلى ظنّ وقوع الوعد، وهو جانب الرجاء، وهو كما قال المحققون مقيَّد بالمحتضِر، وفي غيره أقوال، ثالثها الاعتدال. انتهى
(1)
.
وقال ابن أبي جمرة رحمه الله: المراد بالظنّ هنا: العلم؛ لقوله: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118].
وفي "المفهم": معنى "ظن عبدي بي": ظنُّ الإجابة عند الدعاء، وظنّ القبول عند التوبة، وظن المغفرة عند الاستغفار، وظن المجازاة عند فعل العبادة بشروطها؛ تمسكًا بصادق وعده
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "أنا عند ظن عبدي بي" إن ظن بي خيرًا فله مقتضى ظنه، وإن ظن بي شرًّا؛ أي: أني أفعل به شرًّا فله ما ظنَّه، فالمعاملة تدور مع الظنّ، فذا حسنُ ظنه بربه وَفّى له بما أَمَل وظنّ، والتطيّر سوء الظنّ بالله، وهروب عن قضائه، فالعقوبة إليه سريعة، والمقت له كائن، ألا ترى إلى العصابة التي فرَّت من الطاعون، كيف أماتهم؟.
وقال الحكيم الترمذيّ: الظن: ما تردَّد في الصدر، وإنما يحدث من الوهم، والظن هاجسة النفس، وللنفس إحساس بالأشياء، فإذا عرض أمر دبّر لها الحسّ شأن الأمر العارض، فما خرج لها من التدبير، فهو هواجس النفس، فالمؤمن نور التوحيد في قلبه، فإذا هجست نفسه لعارض أضاء النور، فاستقرت النفس، فاطمأن القلب، فحَسُن ظنه؛ لأن ذلك النور يُريه من علائم التوحيد، وشواهده، ما تسكن النفس إليه، وتعلم أن الله كافيه وحَسْبه في كل أموره، وأنه كريم رحيم عطوف به، فهذا حسن الظن بالله.
وأما إذا غلب شَرَهُ النفس، وشهواتها، فيفور دخان شهواتها، كدخان الحريق، فيُظلم القلب، وتغلب الظلمة على الضوء، فتحيى النفس بهواجسها، وأفكارها، وتضطرب، ويتزعزع القلب عن مستقره، وتفقد الطمأنينة، وتَعْمَى عين الفؤاد؛ لكثرة الظلمة والدخان، فذلك سوء الظن بالله، فإذا أراد الله بعبد خيرًا أعطاه حُسن الظن، بأن يزيده نورًا يقذفه في قلبه؛ ليقشع ظلمة الصدر،
(1)
"فيض القدير" 2/ 312.
(2)
"فيض القدير" 4/ 490.
كسحاب ينقشع عن ضوء القمر، ومن لم يُمنح ذلك، فصدره مظلم؛ لِمَا أتت به النفس من داخل شهواتها، والعبد ملوم على تقوية الشهوات من استعمالها، فإذا استعملها فقد قوّاها، ككانون كلما ألقيت فيه حطبًا ازداد لَظًا، ودخانًا. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي) المراد بالمعيّة هنا هي المعيّة الخاصة بالمؤمنين، وهي معيّة العون، والنصر، والتوفيق، والقبول، والرضى، {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46].
يعني: أن الله تعالى مع الداعي، يسمع دعاءه، ويستجيب له، ويُنيله مطلوبه، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6806]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ - وَابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ - وَهُوَ التَّيْمِيُّ - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عليه السلام: إِذَا تَقَرَّبَ عَبْدِي مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا - أَو بُوعًا - وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان الناقد المشهور، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقة [9](194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
3 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين
قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد
(1)
"فيض القدير" 4/ 491.
استوفيت شرحه، وبيان مسائله في الباب الأول:"باب الحثّ على ذكر الله تعالى"[1/ 6781](2675) فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.
وقوله: (أَو بُوعًا)"أو" هنا للشكّ من الراوي، و"البُوع" بفتح الباء، وتضمّ، قال المجد رحمه الله: البدع: قدر مدّ اليدين، كالْبَوع - بالفتح - ويُضمّ، جمعه أبواع. انتهى.
وقال الخطابيّ: البدع معروف، وهو قدر مَدّ اليدين، وأما البَوْع بفتح الموحّدة، فهو مصدر باع يبوع بَوْعًا، قال: ويَحْتَمِل أن يكون بضم الباء، جمع باع، مثل دار ودُور.
قال الحافظ: وأغرب النوويّ، فقال: البدع، والبُوع، والبَوْع بالضم، والفتح، كله بمعنًى، فإن أراد ما قال الخطابيّ، وإلا لم يصرّح أحد بأن البوع بالضم والباع بمعنى واحد. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: قول الحافظ: لم يصرح أحد
…
إلخ فيه نظر لا يخفى، فقد قدّمت أن ما قاله النوويّ صواب، وليس خطأ، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَإِذَا أَتَاني يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) فيه إثبات صفة الإتيان، والهرولة لله تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، وقد تقدم البحث فيه مستوفي في الباب المذكور، فارجع إليه، وبالله تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6807]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيه، بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَلَمْ يَذْكُرْ: "إِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.
2 -
(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، تقدّم قبل باب.
و"أبوه" ذُكر في السند الماضي.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ
…
إلخ) الظاهر أن المصنّف رحمه الله لم تقع له هذه
الزيادة في رواية شيخه محمد بن عبد الأعلى، وإلا فقد وقعت في رواية ابن حبّان الآتية في التنبيه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية المعتمر، عن أبيه هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(376)
- أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدّثنا محمد بن المتوكل، قال: حدّثنا المعتمر بن سليمان، قال: حدّثني أبي، قال: أنبأنا أنس بن مالك، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: إذا تقرّب عبدي مني شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإذا تقرب مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني مشيًا أتيته هرولة، وإن هرول سعيت إليه، والله أوسع بالمغفرة". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6808]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ - وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي
(2)
، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا اقْتَرَبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروًا في الباب وقبله.
والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل خمسة أبواب، ولله الحمد والمنّة.
(1)
"صحيح ابن حبان" 2/ 100.
(2)
وفي نسخة: "عبدي بي".
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6809]
(2687) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُويدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (يَقُولُ اللهُ عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَأَزِيدُ
(1)
، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَة، فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا
(2)
، أَو أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطِيئَةً، لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً".
قَالَ إبراهِيمُ: حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَثنَا وَكِيْعٌ، بِهَذَا الحَدِيثِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْمَعْرُورُ بْنُ سُويدٍ) الأسديّ، أبو أمية الكوفيّ، ثقةٌ [2] عاش مائة وعشرين سنةً (ع) تقدم في: الإيمان" 42/ 279.
2 -
(أَبُو ذَرٍّ) الغِفَاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جندب بن جُنادة على الأصح، وقيل: بُرير بموحّدة مصغرًا، أو مكبرًا، واختُلف في أبيه أيضًا، تقدّم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه كثيرة جدًّا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمةّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ) الغفاريّ جُندب بن جُنادة رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ)؛ أي: جاء بها يوم القيامة غير مُبطَلة، ولذا لم يقل: من فعل الحسنة، والمراد بفرد من أفرادها: أَيَّ فرد كان، والمعنى: من جاء يوم القيامة متلبسًا بها متصفًا بأنه قد عملها في الدنيا، (فَلَهُ عَشْرُ
(1)
وفي نسخة: "وأزيده".
(2)
وفي نسخة: "بمثلها".
أَمْثَالِهَا)؛ أي: ثواب عشر حسنات أمثالها، حُذف المميز الموصوف، وأقيم الصفة مقامه، فلا يُعترض بأن الأمثال جمع مِثْل، وهو مذكر، فكان قياسه عشرة بالتاء، على القاعدة، والجواب أن المعدود محذوف، وهو موصوف أمثالها، والحسنات مؤنث، فناسب تذكير العدد؛ يعني: أنه رُوعي في ذلك الموصوف المحذوف، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها، ثم حُذف الموصوف، وأقيم صفته مقامه، وتُرك العدد على حاله.
والحاصل: إن له عشر مثوبات، كل منها مثل تلك الحسنة في الكيفية، وهذا أقل المضاعفة بمقتضى الوعد، ولذا قال:(وَأَزِيدُ) وفي بعض النسخ: "أو أزيده " بـ "أو"، و"أزيد" بصيغة المتكلم؛ أي: لمن أريد الزيادة من أهل السعادة على عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة إلى ما لا يعلم قَدْره إلا الله تعالى، وهذا معنى قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261].
وقال النوويّ رحمه الله: قوله تعالى: "فله عشر أمثالها، أو أزيد" معناه: أن التضعيف بعشرة أمثالها لا بُدّ بفضل الله ورحمته، ووعده الذي لا يُخلَف، والزيادة بعدُ بكثرة التضعيف إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، يحصل لبعض الناس دون بعض، على حسب مشيئته سبحانه وتعالى. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأزيد" مفتوح الهمزة، مكسور الزاي، مضموم الدال، على أنه فعلٌ مضارع، وكذا رويته، وقد رُوي هذا الحرف بالواو الجامعة، وبـ "أو" التي معناها أحد الشيئين، وهو إشار إلى معنى قوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]، والحسنة تعمّ الحسنات كلها، فأيّ حسنة عملها المسلم ضوعف ثوابها كذلك، ولا معنى لقول من قَصَرها على بعض الحسنات دون بعض، فإنَّه يلزمهم مخالفة اللفظ العامّ، والكرم التامّ. انتهى
(2)
.
(وَمَنْ جَاءَ بالسَّيِّئَةِ) غير مكفَّرة (فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)؛ أي: عدلًا، وفي نسخة:"بمثلها"، (أَو أَغْفِرُ)؛ أي: أسترها عنه فضلًا وكرمًا، والمعنى: إن جازيته، فأجازيه بمثلها دون تضعيفها، كما في الحسنات، وإن شئت سترتها
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 12.
(2)
"المفهم" 24/ 12.
عنه، ولا أجازيه عليها أصلًا، وهذا من كمال فضله، وهو محمول على ما سوى الشرك، فإن سيئته لا يُغفر، كما بيّنه الله تعالى بقوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وقال الطيبيّ رحمه الله: خَصّ ذِكر الجزاء بالثانية؛ لأن ما يقابل العمل الصالح كله إفضال وإكرام من الله، وما يقابل السيئة فهو عدل وقصاص، فلا يكون مقصودًا بالذات كالثواب، فخُصَّ بالجزاء، وأما إعادة السيئة نكرة، فلتنصيص معنى الوحدة المبهمة في السيئة المعرفة المطلقة وتقريرها، وأما معنى الواو في "وأزيد" فلمطلق الجمع، إن أريد بالزيادة الرؤية، كقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وإن أريدَ بها الإضعاف فالواو بمعنى "أو" التنويعية، كما هي في قوله:"أو أغفر". قال القاري: والأظهر ما قاله ابن حجر من أن العشر والزيادة يمكن اجتماعهما، بخلاف جزاء مثل السيئة ومغفرتها، فإنه لا يمكن اجتماعهما، فوجب ذكر "أو" الدالة على أن الواقع أحدهما فقط. انتهى
(1)
.
وقوله: (وَمَنْ تَقَرَّبَ)؛ أي: طَلَب القُرب (مِنِّي) بالطاعة (شِبْرًا)؛ أي: مقدارًا قليلًا، قال الطيبي رحمه الله:"شبرًا" و"ذراعًا" و"باعًا" في الشرط والجزء منصوبات على الظرفية؛ أي: من تقرب إليّ مقدار شِبْر (تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا)؛ أي: مقدار شبرين، (وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا) قال الباجيّ: البدع طول ذراعي الإنسان، وعضديه، وعَرْض صدره، وذلك قَدْر أربعة أذرع، وقيل: هو قَدْر مدّ اليدين، وما بينهما من البدن، (وَمَنْ أَتَانِي) حال كونه (يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً) هي الإسراع في المشي، دون الْعَدْو، وقال الطيبيّ: هي حال؛ أي: مهرولًا، أو مفعول مطلق؛ لأن الهرولة نوع من الإتيان، فهو كرجعت القهقرى، لكن الحَمْل على الحال أَولى؛ لأن قرينه "يمشي" حال لا محالة. انتهى.
وقد تقدّم أن الإتيان، والهرولة ونحوهما مما يُمرّ على ظاهره، مع تنزيه الله تعالى عن مماثلة مخلوقاته، كما هو مذهب السلف، فتنبّه، ولا تقلّد الشرّاح المأوِّلين، والله تعالى وليّ التوفيق.
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 774.
ثم رأيت صاحب "المرعاة شرح المشكاة" قال: قال النوويّ: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره - أي: لأنه يقتضي قطع المسافات، وتداني الأجسام، وذلك في حقه تعالى محال - ومعناه: من تقرب إليّ بطاعتي، تقربت إليه برحمتي، والتوفيق، والإعانة، وإن زاد زدت، فإن أتاني يمشي، وأسرع في طاعتي، أتيته هرولة؛ أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها، ولم أُحْوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود، والمراد: أن جزاءه يكون تضعيفه على حسب تقرّبه. انتهى، وكذا فسّره سائر الشرّاح.
ثم قال صاحب "المرعاة": قلت: لا حاجة إلى هذا التأويل، والتفسير، والصواب أن يُحْمَل هذا الحديث كأمثاله على ظاهره، فنؤمن به على ما يليق بعظمة الله تعالى، كالمجيء، والنزول، ونحوهما، وربنا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: لقد أجاد صاحب "المرعاة"، وأفاد، فهكذا ينبغي لشارح الحديث أن يكون مع ظواهر النصوص، إلا إذا وجد دليلًا صارفًا يصرفه عنها، ولا يوجد صارف في إجراء أحاديث الصفات على ظواهرها، إلا ما تخيّله المتأخرون الذين تأثّروا بأفكار أهل الكلام، ففسَّروها بالمعنى الذي يكون للمخلوق، ثم فرّوا من التشبيه، فأداهم ذلك إلى نفي معانيها، وهذا هو الخطأ المُبِين، فإن هذه الصفات إذا اتّصف بها الله عز وجل تكون على المعنى اللائق به، فلا تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، اللَّهُمَّ أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.
(وَمَنْ لَقِيَنِي) بكسر القاف، (بِقُرَابِ الأَرْضِ) بضم القاف على المشهور، وهو ما يقارب مِلأها، وحُكِي كسر القاف، نفله القاضي عياض وغيره، وقال ابن الأثير: أي: بما يقارب ملأها، وهو مصدر قارب يقارب
(2)
.
وقوله: (خَطِيئَةً) منصوب على التمييز، وقوله:(لَا يُشْرِكُ بِي) حال من فاعل "لقيني" العائد إلى "من"، (شَيْئًا) مفعول مطلق، أو مفعول به، (لَقِيتُهُ
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 774.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 4/ 34.
بِمِثْلِهَا)؛ أي: بمثل الخطيئة المقدّرة بقراب الأرض، (مَغْفِرَةً") منصوب على التمييز.
وقال في "المرعاة": قوله: "لقيته بمثلها مغفرة"؛ أي: إن أردت ذلك له؛ لقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ونكتة حذفه في الحديث استغناءً بعلمه منها، ومبالغة في سعة باب الرحمة.
قال الطيبيّ: المقصود من الحديث: دفع الياس بكثرة الذنوب، فلا ينبغي أن يغترّ في الاستكثار من الخطايا، قال ابن الملك: فإنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ولا يعلم أنه من أيِّهم. انتهى.
وهذا المقصود من آخر الحديث، وأما أوله ففيه الترغيب والتحثيث على المجاهدة في الطاعة والعبادة؛ دفعًا للتكاسل والقصور.
[واعلم]: أنه قلَّما يوجد في الأحاديث حديث أرجى من هذا الحديث، فإنه صلى الله عليه وسلم رَتّب قوله:"لقيته بمثلها مغفرة" على عدم الإشراك بالله فقط، ولم يذكر الأعمال الصالحة، لكن لا يجوز لأحد أن يغترّ، ويقول: إذا كان كذلك، فأكثر الخطيئة، حتى يكثر الله المغفرة، وإنما قال تعالى ذلك كيلا ييأس المذنبون من رحمته، ولا شك أن لله مغفرة، وعقوبة، ومغفرته أكثر، ولكن لا يعلم أنه من المغفورين، أو من المعاقبين، فإذن ينبغي للمؤمن أن يكون بين الخوف والرجاء. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وقؤله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو: ابن محمد بن سفيان، أبو إسحاق الفقيه النيسابوريّ المتوفّى سنة (308 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.
(حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ) السّلَميّ، قاضي نيسابور، صدوقٌ [11] لم يصحّ أن مسلمًا روى عنه، وإنما روى عنه إبراهيم بن محمد المذكور في مواضع علا فيها إسناده، مات سنة (244) تقدم في "الطلاق" 3/ 3679.
(حَدَّثَنَا وَكِيع) بن الجرّاح المذكور في السند الماضي، (بِهَذَا الْحَدِيثِ) المذكور آنفًا.
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 774.
وغرض إبراهيم من هذا بيان علوّ إسناده، حيث إنه وصل فيه إلى وكيع بواسطة واحدة، وهو الحسن بن بشر، بينما كان وصوله من طريق مسلم بواسطتين: مسلم، وأبو بكر بن أبي شيبة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6809 و 6810](2687)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(56)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3888)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 62)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 147 و 148 و 153 و 155 و 169 و 180)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 200) وفي "الدعاء"(1/ 523)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 491)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1063 و 1068)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1/ 219 و 9/ 398)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 16 و 5/ 390)، وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6810]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، أَو أَزِيدُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا في الإسناد الماضي.
[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21398)
- حدّثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن المعرور بن سُويد، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: من عمل حسنة فله عشر أمثالها، أو أَزِيدُ، ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها، أو أَغْفِر، ومن عمل قُراب الأرض خطيئة، ثم لقيني لا يشرك بي شيئًا، جعلت له مثلها مغفرة، ومن
اقترب إليّ شبرًا اقتربت إليه ذراعًا، ومن اقترب إليّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشى أتيته هرولةً". انتهى
(1)
.
(7) - (بَابُ كَرَاهَيةِ الدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6811]
(2688) - (حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّابِ زِيادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَدْ خَفَتَ، فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ، أَو تَسْأَلُهُ إِياهُ؟ "، قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أقولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَة، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الذُنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: سُبْحَانَ الله، لَا تُطِيقُهُ - أَو لَا تَسْتَطِيعُهُ - أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو الْخَطَّابِ زَيادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسَّانِيُّ)
(2)
النُّكريّ - بضم النون - البصريّ، ثقةٌ [10](ت 254)(ع) تقدم في "الزكاة" 44/ 2432.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نسِب لجدّه، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(حُمَيْدُ) بن أبي حُميد الطويل، أبو عُبيدة البصريّ، اختُلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقةٌ
(3)
، وعابه زائدة لدخوله في شيء من أمر
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 153.
(2)
بفتح الحاء، وتشديد السين المهملتين، وآخره نون: نسبة إلى أحد أجداده، قاله في "اللباب" 1/ 364.
(3)
زاد في "التقريب": مدلّس، وأسقطتها؛ لأنه لا يدلّس إلا ما سمعه من ثابت، فالواسطة ثقة معروف، فلا ينبغي إطلاق اسم المدلّس عليه إلا ببيان ذلك، فليُتنبّه.
الأمراء [5](ت 2 أو 143) وهو قائم يصلي، وله خمس وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.
4 -
(ثَابِتُ) بن أسلم البُنانيّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.
5 -
(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، ذُكر في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم المجموعون في قولي:
اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ
…
ذَوُو الأصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ
فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ
…
الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ
أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ
…
نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي
وَابْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا
…
وَابْنُ الْمُثَنى وَزِيَادٌ يُحتَذَى
وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، يقال: لزمه أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ) من العيادة، وهي زيارة المريض، (رَجُلًا) لم يعرف اسمه
(1)
. (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَدْ خَفَتَ) بفتح الفاء، من باب نصر؛ أي: ضَعُف، من خَفُت الصوت: إذا ضَعُف، وسكن. وفي الترمذيّ:"قد جُهِد"، وهو بصيغة المجهول، قال في "القاموس": جَهَد المرضُ فلانًا: هَزَله
(2)
. (فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ) بفتح الفاء، وسكون الراء: وَلَدُ الطير عند خروجه من البيضة؛ يعني: أن المرض أضعفه حتى صار ضعيفًا مثل الفرخ؛ لِضَعفه، وكثرة نحافته، وفي "الأدب المفرد":"دخل على رجل قد جُهِد من المرض، فكأنه فرخ منتوف"؛ أي: وَلَدُ الطائر الذي استُؤصل ريشه، وفي
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 442.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 612.
"شرح السُّنَّة": أعاد رجلًا قد صار مثل الفرخ المنتوف"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد خَفَت حتى صار مثل الفرخ"؛ أي: ضَعُف، ونَحِلَ
(2)
جسمه، وخفي كلامه، وتشبيهه له بالفرخ يدلّ على أنه تناثر أكثر شعره، ويَحْتَمِل أن يكون شبَّهه به؛ لِضَعفه، والأول أوقع في التشبيه، ومعلومٌ أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر، ولا قُوّة
(3)
.
(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ)، وقوله:(أَو) الظاهر أنها للشكّ من الراوي، هل قال:"هل كنت تدعو بشيء"، أو قال:(تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟)؛ أي: الشيء.
وقال القاري: "أو تسأله إياه" قيل: شكّ من الراوي، وقال الطيبيّ: الظاهر أن "أو" ليس شكَّ الراوي، بل من قوله صلى الله عليه وسلم، سأله أولًا: هل دعوت الله بشيء من الأدعية التي تسأل فيها مكروهًا؟، أو هل سألت الله البلاء الذي أنت فيه؟، وعلى هذا فالضمير المنصوب عائد إلى البلاء المفهوم من قوله:"قد خَفَت"، فيكون قد عمّ أوّلًا، وخصّ ثانيًا. انتهى
(4)
.
وجعل ابن حجر "أو" للتنويع، وجعل الدعاء مختصًّا بالتلويح، والسؤال بالتصريح، وهو وجه وجيه. انتهى
(5)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن كونها للشكّ أقرب، وأنسب لظاهر السياق، فتأمله بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ) الرجل: (نَعَمْ، كُنْتُ) أدعوه، (أَقُولُ) في دعائي:(اللَّهُمَّ مَا كنْتَ) قال الطيبيّ: "ما" يجوز أن تكون شرطيّةً، وقوله:"فعجّله" جوابها، أو موصولة، وقوله:"فعجّله" خبرها، ودخلت الفاء لتضمّنها معنى الشرط
(6)
. (مُعَاقِبِي بِهِ فِي الآخِرَة، فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا)؛ أي: عاقبني به في الدنيا قبل
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 612.
(2)
من بابي نفع، وتعب.
(3)
"المفهم" 7/ 31.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1935.
(5)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 432.
(6)
راجع: "الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1935.
الآخرة؛ لأن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى، (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"سُبْحَانَ اللهِ) تنزيه لله تعالى عن الظلم، وعن العجز، أو تعجُّبٌ من الداعي في هذا المطلب، وهو أقرب. (لَا تُطِيقُهُ - أَو لَا تَسْتَطِيعُهُ) هكذا نُسخ "صحيح مسلم" بـ "أو" وهي للشكّ من الراوي، ووقع في "المشكاة": "ولا تستطيعه" بالواو، وعليها جرى الشرّاح، فقال القاري: "لا تطيقه"؛ أي: في الدنيا، "ولا تستطيعه" في العقبى، أو كُرِّر للتأكيد، وقال الطيبيّ: قوله: "لا تطيقه" بعدما صار الرجل كالفرخ، وبعد قوله: "كنت أقول" لحكاية الحال الماضية المستمرّة إلى الحال والاستقبال. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تطيقه"؛ يعني: أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد، لا في الدنيا؛ لأنَّ نشأة الدنيا ضعيفة، لا تَحْتَمِل العذاب الشديدَ، والألم العظيم، بل إذا عَظُم عليه ذلك هلك ومات، فأمَّا نشأة الآخرة فهي للبقاء، إما في نعيم، أو في عذاب؛ إذ لا موت، كما قال في حقّ الكفار:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]، - فنسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة - ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أحسن ما يقال، فقال:(أفَلَا قُلْتَ) بدل ما قلت: (اللَّهُمَّ آتِنَا)؛ أي: أعطنا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)؛ أي: عافية من البلاء والأمراض، (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)؛ أي: معافاة من العذاب والعقاب، (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ") وكان هذا الدعاء أكثر ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو به، كما سيأتي من حديث أنس رضي الله عنه، وذلك لأنَّه من الدعوات الجوامع التي تتضمّن خير الدنيا والآخرة، وذلك أن "حسنة" نكرة في سياق الطلب، فكانت عامّة، فكأنه يقول: أعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة، وقد اختلفت أقوال المفسرين في الآية اختلافًا يدلّ على عدم التوقيف، وعلى قلة التأمّل لموضع الكلمات، فقيل: الحسنة في الدنيا هي: العلم والعبادة، وفي الآخرة: الجنة، وقيل: العافية والعاقبة، وقيل: المال وحسن المآل، وقيل: المرأة الصالحة، والحور العين، والصحيح: الحَمْل على العموم، قاله القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
(قَالَ) أنس رضي الله عنه: (فَدَعَا) النبيّ صلى الله عليه وسلم (اللهَ) سبحانه وتعالى (لَهُ)؛ أي: لذلك الرجل
(1)
"المفهم" 7/ 30 - 31.
حتى يشفيه، (فَـ) استجاب الله دعاء حبيبه صلى الله عليه وسلم، (شَفَاهُ)؛ أي: أبرأه. من ذلك المرض، وهذا الذي شرحت به من أن الضمير في "فدعا" للنبيّ صلى الله عليه وسلم هو ظاهر السياق؛ لقوله:"فدعا له" باللام، ووقع في "المشكاة" بلفظ:"فدعا به"، وعليه جرى الشرّاح، فقالوا:"فدعا الله به"؛ أي: دعا الرجل بهذا الدعاء الجامع
…
إلخ، ويؤيّد هذا ما سيأتي من رواية النسائيّ بلفظ:"فقالها الرجل، فعُوفي"
(1)
، فإنه صريح في كون الرجل هو الداعي لنفسه بهذا الدعاء.
ويَحْتَمل حَمْل رواية مسلم هذه عليها، فيكون معنى قوله:"فدعا له"؛ أي: دعا الرجل لنفسه، أو يُحمل بأنه دعا لنفسه، ودعا له النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضًا، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رضي الله عنه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6811 و 6812 و 6813 و 6814](2688)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(727 و 728)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3487)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7506) وفي "عمل اليوم والليلة"(1053)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 347)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 261)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 107 و 288)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(936 و 941)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1383)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): مشروعيّة عيادة المريض، ولو كان العائد أميرًا، أو نحوه.
2 -
(ومنها): استحباب سؤال المريض سبب مرضه؛ ليبحث له عن الأدوية المناسبة له.
(1)
"السنن الكبرى" 6/ 261.
3 -
(ومنها): جواز التسبيح عند التعجب.
4 -
(ومنها): كراهية تمنّي البلاء، وإن كان على الوجه الذي فعله هذا الرجل؛ لأنه لا يطيقه، فيحمله على الضَّجَر والتشكيّ من ربه.
5 -
(ومنها): استحباب الدعاء بهذا الدعاء الجامع لخيرات الدنيا والآخرة، وكان أكثر دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما تقدّم.
6 -
(ومنها): أنه ينبغي للعبد أن يسأل الله عز وجل العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6812]
(. . .) - (حَدَّثنَاهُ عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ: "وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الزِّيَادَةَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول، أبو عُمَر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.
2 -
(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ، تقدّم قبل باب.
و"حُميد" الطويل ذُكر قبله.
وقوله: (حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ) ظاهره أن حميدًا رواه عن ثابت عن أنس رضي الله عنه، لكن الذي عند النسائيّ في "الكبرى" و"عمل اليوم والليلة" كما يأتي في التنبيه، أنه رواه عن أنس دون واسطة ثابت، ولعل هذا مما دلّسه حميد، فقد قدّمنا أنه كان يدلّس ما رواه عن ثابت خاصّة، والظاهر أن هذا منه، وقد قدّمنا أيضًا أن تدليسه لا يضرّ؛ لكون الواسطة ثقةً معروفًا، وهو ثابت البنانيّ، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث عن حميد هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(10892)
- وأخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدّثنا خالد بن الحارث، قال: حدّثنا حميد، عن أنس، قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا، قد صار مثل
الفرخ، فقال له:"هل كنت تدعو بشيء، أو تسأله إياه؟ " قال: كنت أقول: اللَّهُمَّ ما كنت معاقبي به في الآخرة، فعَجِّله لي في الدنيا، قال:"سبحان الله! لا تستطيعه، أو لا تطيقه، ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6813]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِه، يَعُودُهُ، وَقَدْ صَارَ كَالْفَرْخِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ حُمَيْدٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا طَاقَةَ لَكَ بِعَذَابِ اللهِ"، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَدَعَا اللهَ لَهُ، فَشَفَاهُ).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل بابين، و"عفّان" هو: ابن مسلم الصفّار، و"حمّاد" هو: ابن سلمة.
وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لحمّاد بن سلمة، وكذا فاعل قوله:"وَلَمْ يَذْكُرْ" له أيضًا.
[تنبيه]: رواية حمَّاد بن سلمة عن ثابت هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده" بسند المصنّف، فقال:
(3511)
- حدّثنا زهير، حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد، حدّثنا ثابت، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من أصحابه يعوده، وقد صار كالفرخ، فقال له:"هل سألت الله؟ " قال: قلت: اللَّهُمَّ ما كنت معاقبي في الآخرة، فعجِّله لي في الدنيا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا طاقة لك بعذاب الله، هلّا قلت: اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6814]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ الْعَطَّارُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ).
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 260.
(2)
"مسند أبي يعلى" 6/ 227.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَالِمُ بْنُ نُوحٍ الْعَطَّارُ) هو: سالم بن نوح بن أبي عطاء البصريّ، أبو سعيد العطار، صدوقٌ له أوهام [9] مات بعد المائتين (بخ م دت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 55/ 1532.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مِهران، أبو النضر البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
[تنبيه]: رواية قتادة عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، بسند المصنّف، فقال:
(10894)
- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدّثنا سالم بن نوح، قال سعيد بن أبي عروبة: أخبرنا قتادة، عن أنس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على رجل يعوده، فإذا هو كأنه هامة، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هل سألت ربك من شيء؟ " قال: نعم، قلت: اللَّهُمَّ ما أنت معاقبي به في الآخرة، فعَجِّله لي في الدنيا، فقال:"سبحان الله، ألا قلت: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة"، فقالها الرجل، فعوفي. انتهى
(1)
.
(8) - (بَابُ فَضْلِ مَجَالِسِ الذِّكْرِ)
قال الجامع عفا الله عنه: قال في "العمدة": المراد بذكر الله هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب فيها، والإكثار منها، وقد يُطلق ذِكر الله، ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه الله تعالى، أو نَدَب إليه؛ كقراءة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة، وقال الرازيّ رحمه الله: المراد بذكر اللسان: الألفاظ الدالة على التسبيح، والتحميد، والتمجيد، والذكرُ بالقلب: التفكر في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف، من الأمر، والنهي، حتى
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 261.
يَطِّلِع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله تعالى، والذكر بالجوارح: هو أن تصير مستغرقة في الطاعات. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": المراد بالذكر هنا: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها، مثل الباقيات الصالحات، وهي:"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وما يلتحق بها من الحوقلة، والبسملة، والحسبلة، والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة.
ويُطلق ذكر الله أيضًا ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة، ثم الذكر يقع تارة باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يُشترط استحضاره لمعناه، ولكن يشترط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب فهو أكمل، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذِّكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح، مهما فُرض من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحّح التوجه، وأخلص لله تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال.
وقال الفخر الرازيّ: المراد بذكر اللسان: الألفاظ الدالة على التسبيح، والتحميد، والتمجيد، والذكرُ بالقلب: التفكر في أدلة الذات والصفات، وفي أدلة التكاليف، من الأمر والنهي، حتى يَطَّلع على أحكامها، وفي أسرار مخلوقات الله، والذكرُ بالجوارح: هو أن تصير مستغرقة في الطاعات، ومن ثَمّ سمى الله الصلاة ذكرًا، فقال:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
ونُقل عن بعض العارفين قال: الذِّكر على سبعة أنحاء: فذِكْرُ العينين بالبكاء، وذِكْرُ الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرجاء، وذكر الروح بالتسليم والرضاء. انتهى
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 23/ 27.
(2)
"الفتح" 14/ 458، "كتاب الدعوات" رقم (6408).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6815]
(2689) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ للهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً سَيَّارَةً، فُضْلًا، يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْر، فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ، قَعَدُوا مَعَهُمْ، وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ، حَتى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَإِذَا تَفَرَّقُوا عَرَجُوا، وَصَعِدُوا إِلَى السَّمَاءِ. قَالَ: فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عز وجل، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْضِ يُسَبّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيَسْأَلُونَكَ، قَالَ: وَمَاذَا يَسْأَلُوني؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: لَا أَيْ رَبّ، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ، قَالَ: وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ، قَالَ: وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟ قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا، وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا، قَالَ: فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَان عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ، هُمُ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد الْعَمّيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُوهُ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم في الباب الماضي.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من سُهيل، وشيخه بغداديّ، والباقيان بصريّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه.
[تنبيه]: روى البخاريّ هذا الحديث من طريق جرير - يعني: ابن عبد الحميد - عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
فقال في "الفتح": قوله: "عن أبي صالح" لم أره من حديث الأعمش إلا بالعنعنة، لكن اعتَمَد البخاريّ على وَصْله؛ لكون شعبة رواه عن الأعمش، كما سأذكره، فإن شعبة كان لا يحدث عن شيوخه المنسوبين للتدليس إلا بما تحقق أنهم سمعوه.
وقوله: "عن أبي هريرة" كذا قال جرير، وتابعه الفضيل بن عياض، عند ابن حبان، وأبو بكر بن عياش عند الإسماعيليّ، كلاهما عن الأعمش، وأخرجه الترمذيّ عن أبي كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش، فقال: عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد، هكذا بالشك للأكثر، وفي نسخة: وعن أبي سعيد بواو العطف، والأول هو المعتمَد، فقد أخرجه أحمد عن أبي معاوية بالشك، وقال: شك الأعمش، وكذا قال ابن أبي الدنيا، عن إسحاق بن إسماعيل، عن أبي معاوية، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من رواية عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد، وقال: شك سليمان - يعني: الأعمش - قال الترمذيّ: حسن صحيح، وقد رُوي عن أبي هريرة من غير هذا الوجه؛ يعني: كما تقدم بغير تردد. انتهى
(1)
.
(عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) أنه (قَالَ: "إِنَّ للهِ تبارك وتعالى مَلَائِكَةً سَيارَةً) مبالغة في السائرة؛ أي: يسيرون في الأرض، وفي رواية:"سيّاحين"، (فُضْلًا) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه على أوجه:
أحدها: - وهو أرجحها، وأشهرها في بلادنا - "فُضُلا" بضم الفاء، والضاد.
والثانية: بضم الفاء، وإسكان الضاد، ورجّحها بعضهم، وادَّعَى أنها أكثر وأصوب.
(1)
"الفتح" 14/ 458 "كتاب الدعوات" رقم (6408).
والثالثة: بفتح الفاء، وإسكان الضاد، قال القاضي: هكذا الرواية عند جمهور شيوخنا في البخاريّ ومسلم.
والرابعة: "فُضُلٌ" بضم الفاء والضاد، ورفع اللام، على أنه خبر مبتدأ محذوف.
والخامسة: "فضلاء" بالمدّ جمع فاضل.
قال العلماء: معناه على جميع الروايات: أنهم ملائكة زائدون على الحفظة وغيرهم، من المرتّبين مع الخلائق، فهؤلاء السيارة لا وظيفة لهم، وإنما مقصودهم حِلَق الذّكر. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "إن لله ملائكةً": زاد الإسماعيليّ من طريق عثمان بن أبي شيبة، وابن حبان من طريق إسحاق بن راهويه، كلاهما عن جرير:"فضلًا"، وكذا لابن حبان من طريق فضيل بن عياض، وكذا لمسلم من رواية سهيل، قال عياض في "المشارق" ما نصه: في روايتنا عن أكثرهم بسكون الضاد المعجمة، وهو الصواب، ورواه العذريّ والهوزنيّ:"فُضْل" بالضم، وبعضهم بضم الضاد، ومعناه: زيادةً على كتاب الناس، هكذا جاء مفسرًا في البخاريّ، قال: وكان هذا الحرف في كتاب ابن عيسى: "فُضَلاء" بضم أوله، وفتح الضاد، والمدّ، وهو وَهَمٌ هنا، وإن كانت هذه صفتهم عز وجل، وقال في "الإكمال": الرواية فيه عند جمهور شيوخنا في مسلم والبخاريّ بفتح الفاء، وسكون الضاد، فذَكَر نحو ما تقدم، وزاد: هكذا جاء مفسَّرًا في البخاريّ في رواية أبي معاوية الضرير.
وقال ابن الأثير في "النهاية": "فضلًا"؛ أي: زيادة عن الملائكة المرتبين مع الخلائق، ويُروى بسكون الضاد، وبضمها، قال بعضهم: والسكون أكثر وأصوب، ثم ذكر كلام النوويّ السابق.
قال: وقال الطيبيّ: "فُضْلًا" بضم الفاء، وسكون الضاد، جمع فاضل، كمبُزْل وبازل. انتهى.
قال الحافظ: ونسبة عياض هذه اللفظة للبخاريّ وَهَمٌ، فإنها ليست في
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 14.
"صحيح البخاريّ" هنا في جميع الروايات، إلا أن تكون خارج الصحيح، ولم يُخْرِج البخاريّ الحديث المذكور عن أبي معاوية أصلًا، وإنما أخرجه من طريقه الترمذيّ، وزاد ابن أبي الدنيا، والطبرانيّ في رواية جرير:"فُضْلًا عن كُتّاب الناس"
(1)
، ومثله لابن حبان، من رواية فضيل بن عياض، وزاد:"سياحين في الأرض"، وكذا هو في رواية أبي معاوية، عند الترمذيّ، والإسماعيليّ، عن كتاب الآبديّ، ولمسلم من رواية سهيل، عن أبيه:"سيّارةً فُضْلًا". انتهى
(2)
.
(يَتَبَّعُونَ مَجَالِسَ الذِّكْرِ) وفي رواية البخاريّ: "يطوفون في الطُّرُق يلتمسون أهل الذكر"، وفي حديث جابر بن أبي يعلى:"إن لله سرايا من الملائكة، تَقِف، وتَحُلّ بمجالس الذكر في الأرض". (فَإذَا وَجَدُوا مَجْلِسًا فِيهِ ذِكْرٌ) وفي رواية البخاريّ: "فإذا وجدوا قومًا"، وفي رواية فضيل بن عياض:"فإذا رأوا قومًا".
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر
…
إلخ"؛ يعني: مجالس العلم والتذكير، وهي المجالس التي يُذكر فيها كلام الله، وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبار السلف الصالحين، وكلام الأئمة الزهّاد المتقدِّمين، المبرأة عن التصنع والبدع، والمنزَّهة عن المقاصد الرديئة، والطمع، وهذه المجالس قد انعدمت في هذا الزمان، وعُوِّض منها الكذب والباع، ومزامير الشيطان - نعوذ بالله تعالى من حضورها -، ونسأله العافية من شرورها. انتهى
(3)
.
(قَعَدُوا مَعَهُمْ)؛ أي: مع القوم الذين وجدوهم في مجلس الذكر، وفي رواية البخاريّ:"فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم"، وفي رواية أبي معاوية:"بُغيتكم".
وقوله: "هلموا" على لغة أهل نجد، وأما أهل الحجاز، فيقولون للواحد، والاثتين، والجمع: هَلُمَّ، بلفظ الإفراد.
(وَحَفَّ) بفتح أوله، وتشديد الفاء، من باب نصر؛ أي: أحاط (بَعْضُهُمْ
(1)
أي: هم غير الملائكة الذين يكتبون أعمال الناس.
(2)
"الفتح" 14/ 461 - 462، "كتاب الدعوات" رقم (6458).
(3)
"المفهم" 7/ 11 - 12.
بَعْضًا بِأَجْنِحَتِهِمْ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في كثير من نُسَخ بلادنا: "حَفّ" بالفاء، وفي بعضها:"حَضّ" بالضاد المعجمة؛ أي: حَثّ على الحضور، والاستماع، وحَكَى القاضي عن بعض رواتهم:"وحَطّ" بالطاء المهملة، واختاره القاضي، قال: ومعناه: أشار بعضهم إلى بعض بالنزول، ويؤيد هذه الرواية قوله بعده في البخاريّ:"هَلُمّوا إلى حاجتكم"، ويؤيد الرواية الأولى، وهي "حَفّ" قوله في البخاريّ:"يَحُفّونهم بأجنحتهم"؛ أي: يُحدِقون بهم، ويستديرون حولهم، ويحوف بعضهم بعضًا
(1)
.
وقال في "الفتح": "فيحفّونهم بأجنحتهم"؛ أي: يُدْنون بأجنحتهم حول الذاكرين، والباء للتعدية، وقيل: للاستعانة. (حَتَّى يَمْلَئُوا مَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا) بالضم، بمعنى القربى، صفة لـ "السماء"؛ أي: السماء القريبة إلى الأرض، (فَإِذَا تَفَرَّقُوا)؛ أي: افترق الملائكة عن مجلس الذكر؛ لانتهائه، أو المراد: فإذا تفرّق أهل المجلس عن مجلس ذِكرهم (عَرَجُوا) بفتح أوله، وثانيه، من باب نصر؛ أي: صَعِد الملائكة، فقوله:(وَصَعِدُوا) بفتح أوله، وكسر ثانية عَطْف تفسير لـ "عَرَجوا". (إِلَى السَّمَاء، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ عز وجل) هذا السؤال من الله تعالى للملائكة، هو على جهة التنبيه للملائكة على قوله:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، وإظهار لتحقيق قوله:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وهو من نحو مباهاة الله تعالى الملائكة بأهل عرفة حين قال لهم:"ما أراد هؤلاء؟ انظروا إلى عبادي جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا، أُشهدكم أني قد غفرت لهم"
(2)
، وكذلك نُصَّ عليه في الحديث. انتهى
(3)
.
وقوله: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ) جملة في محل نصب على الحال من الجلالة، وفي رواية البخاريّ؟ "قال: فيسألهم ربهم عز وجل، وهوأعلم منهم"، وفي رواية الكشميهنيّ: "بهم" كذا للإسماعيلي، قال في "الفتح": وهي جملة معترضة، وَرَدَت لِرَفع التوهم (مِنْ أَيْنَ جِئْتُمْ؟) وفي رواية الترمذيّ: "فيقول الله: أيّ شيء
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 14 - 15.
(2)
رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(2840).
(3)
"المفهم" 7/ 122.
تركتم عبادي يصنعون؟ "، وفي رواية البخاريّ: "ما يقول عبادي؟ "، (فَيَقُولُونَ: جِئْنَا مِنْ عِنْدِ عِبَادٍ لَكَ فِي الأَرْض، يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيُهَلِّلُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ)؛ أي: يعظِّمونك بذكر صفات كمالك، وجلالك، (وَيَسْأَلُونَكَ) وفي رواية أبي معاوية: "فيقولون: تركنا هم يحمدونك، ويمجّدونك، ويذكرونك"، وفي رواية الإسماعيليّ: "قالوا: ربنا مررنا بهم، وهم يذكرونك
…
إلخ"، وفي حديث أنس عند البزار: "ويعظّمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلُّون على نبيّك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم".
قال الحافظ رحمه الله: ويؤخذ من مجموع هذه الطرق المراد بمجالس الذكر، وأنها التي تشتمل على ذكر الله بأنواع الذكر الواردة، من تسبيح، وتكبير، وغيرهما، وعلى تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، وعلى الدعاء بخيري الدنيا والآخرة، وفي دخول قراءة الحديث النبويّ، ومدارسة العلم الشرعيّ، ومذاكرته، والاجتماع على صلاة النافلة في هذه المجالس نظرٌ، والأشبه اختصاص ذلك بمجالس التسبيح، والتكبير، ونحوهما، والتلاوة حسبُ، وإن كانت قراءة الحديث، ومدارسة العلم، والمناظرة فيه من جملة ما يدخل تحت مسمى ذِكر الله تعالى. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن دخول مجالس العلم في مجالس الذكر هو الأظهر، ولو فرضنا عدم دخولها، فما ورد في فضل العلماء، وطلّاب العلم لا يكون أدنى مما ورد في الذكر، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله وملائكته، وأهل السماوات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلّون على معلِّم الناس الخير"، رواه الترمذيّ، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح.
وأخرج أبو داود عم أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات، ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على
(1)
"الفتح" 14/ 463، "كتاب الدعوات" رقم (6408).
العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُوَرّثوا دينارًا، ولا درهمًا، وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وسيأتي لمسلم قريبًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل، وفيه:"ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة".
فهذه النصوص الواردة في العلماء، وطلاب العلم ليست بأنقص مما ورد في حديث الباب للذاكرين، على أنهم في الحقيقة من الذاكرين الله كثيرًا، والذاكرات؛ لأنهم يتدراسون كتاب الله، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتفقّهون فيهما، وهذا هو الذكر بعينه، فتأمّل بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
(قَالَ) الله عز وجل للملائكة: (وَمَاذَا يَسْأَلُونِي؟)؛ أي: شيء يسأل هؤلاء الذاكرون؟ (قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ جَنَّتَكَ)؛ أي: أن تُدخلهم فيها، وفي رواية البخاريّ:"يسبّحونك، ويكبّرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله، ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدّ لك عبادةً، وأشدّ لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا، قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يسألونك الجنة. . ." الحديث.
(قَالَ) الله تعالى: (وَهَلْ رَأَوْا جَنَّتِي؟) حتى يسألوني أن أدخلهم فيها، (قَالُوا: لَا أَيْ رَبِّ)؛ أي: لم يَرَوْها، وإنما أخبرتَهم بها في كتابك، وعلى لسان رسولك، فآمنوا، وصدَّقوا، واشتاقوا إليها، (قَالَ) الله تعالى:(فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا جَنَّتِي؟)؛ أي: فكيف يكون شوقهم إليها لو رأوها؟ زاد في رواية البخاريّ: "لو أنهم رأوها كانوا أشدّ عليها حرصًا، وأشدّ لها طلبًا، وأعظم فيها رغبةً".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فكيف لو رأوا جنتي؟ " هذا يدلّ على أن للمعاينة زيادةَ مزيّة على العلم في التحقيق والوضوح، فإنَّ هؤلاء القوم المتذكّرين للجنة والنار كانوا عالمين بذلك، ومع ذلك، فإنَّ الله تعالى قال:"فكيف لو رأوها"، يعني: لو رأوها لحصل من اليقين والتحقيق زيادةٌ على ما عندهم، ولتحصيل هذه الزيادة سأل موسى عليه السلام الرؤية، والخليل عليه السلام مشاهدة
إحياء الموتى، وقد تقدَّم هذا المعنى. انتفى
(1)
.
(قَالُوا: وَيَسْتَجِيرُونَكَ)؛ أي: يطلبون منك الأمان من النار، وأن تحفظهم منها، (قَالَ) الله تعالى:(وَمِمَّ يَسْتَجِيرُونَنِي؟ قَالُوا: مِنْ نَارِكَ يَا رَبِّ قَالَ) الله تعالى: (وَهَلْ رَأَوْا نَارِي؟) حتى يستجيروني منها، (قَالُوا: لَا)؛ أي: لم يروها، وإنما آمنوا بها، وصدّقوا بما أنزلته في كتابك، وعلى لسان رسولك صلى الله عليه وسلم من أغلالها، وأنكالها، وأهوالها الشداد، (قَالَ) الله تعالى:(فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا نَارِي؟)؛ أي: فكيف حالهم لو رأوا ناري عيانًا ومشاهدةً؟، زاد في رواية البخاريّ:"كانوا أشدّ منها فرارًا، وأشدّ لها مخافةً"، وفي رواية أبي معاوية:"كانوا أشدّ منها هَرَبًا، وأشدّ منها تعوّذًا وخوفًا".
(قَالُوا: وَيَسْتَغْفِرُونَكَ)؛ أي: يطلبون منك مغفرة ذنوبهم، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُ) الله عز وجل: (قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) ذنوبهم (فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا)؛ أي: من دخول الجنّة، ومغفرة الذنوب، (وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا)؛ أي: من النار، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُونَ)؛ أي: الملائكة عليه السلام، وفي رواية البخاريّ:"فيقول ملَك من الملائكة"، ويُجمع بأن الذي قال أحدهم، ونُسب إليهم لرضاهم به. (رَبِّ) بحذف حرف النداء؛ أي: يا رب (فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ)؛ أي: كثير الخطأ (إِنَّمَا مَرَّ) بهم (فَجَلَسَ مَعَهُمْ) وفي رواية البخاريّ: "يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان، ليس منهم، إنما جاء لحاجة"، في رواية أبي معاوية:"فيقولون: إن فيهم فلانًا الخطّاء، لم يُرِدْهم، إنما جاء لحاجة".
قال القرطبيّ رحمه الله؛ إنما استبعدت الملائكة أن يدخل هذا مع أهل المجلس في المغفرة؛ لأنَّه لم تكن عادَتُه حضور مجالس الذكر، وإنما كانت عادته ملازمة الخطايا، فعَرَض له هذا المجلس، فجلسه، فدخل مع أهله فيما قُسِم لهم من المغفرة، والرحمة، فيُستفاد منه الترغيب العظيم، في حضور مجالس الذكر، ومجالسة العلماء، والصالحين، وملازمتهم. انتهى
(2)
.
(قَالَ: فَيَقُولُ: وَلَهُ)؛ أي: لفلان الخطَّاء (غَفَرْتُ) خطاياه بسببهم؛ لأنهم
(1)
"المفهم" 7/ 12.
(2)
"المفهم" 7/ 13.
(هُمُ الْقَوْمُ) في تعبيره باللام إشعار بالكمال؛ أي: هم القوم كل القوم على حدّ قول الشاعر [من الطويل]:
وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُم
…
هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
(لَا يَشْقَى بِهِمْ)؛ أي: بسببهم، وبسبب إكرام الله تعالى لهم، (جَلِيسُهُمْ)؛ أي: مُجالِسهم، ولو لم يُرد ذلك، ولا قَصَده، وإنما قَصْده غرض آخر من الأغراض الدنيويّة.
قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يشقى بهم جليسهم" هذه مبالغة في إكرامهم، وزيادةٌ في إعلاء مكانتهم، ألا ترى أنه أَكْرَم جليسهم بنحو ما أُكرموا به؛ لِأَجْلهم، وإن لم يشفعوا فيه، ولا طلبوا له شيئًا، وهذه حالةٌ شريفةٌ، ومنزلة مُنيفة، لا خيّبنا الله منهم، وجعلنا من أهلها. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"، وللترمذيّ:"لا يشقى لهم جليس".
قال في "الفتح": وهذه الجملة مستأنفة لبيان المقتضِي لكونهم أهل الكمال، وقد أخرج جعفر في "الذكر" من طريق أبي الأشهب، عن الحسن البصريّ، قال:"بينا قوم يذكرون الله؛ إذ أتاهم رجل، فقعد إليهم، قال: فنزلت الرحمة، ثم ارتفعت، فقالوا: ربنا فيهم عبدك فلان، قال: غَشُّوهم رحمتي، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، وفي هذه العبارة مبالغة في نفي الشقاء عن جليس الذاكرين، فلو قيل: لَسَعِد بهم جليسهم، لكان ذلك في غاية الفضل، لكن التصريح بنفي الشقاء أبلغ في حصول المقصود. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"المفهم" 7/ 123.
(2)
"الفتح" 14/ 464، "كتاب الدعوات" رقم (6408).
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6815](2689)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6408)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3600)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 251 و 252 و 258 و 259 و 382)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(856 و 857)، و (الحاكم) في "المستدرك "(1/ 495)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 399)، و (الأصفهانيّ) في "العظمة"(3/ 989)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 530)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل مجالس الذكر، والذاكرين، وفضل الاجتماع على ذلك، قال النوويّ رحمه الله: وفي هذا الحديث فضيلة الذكر، وفضيلة مجالسه، والجلوس مع أهله، وإن لم يشاركهم، وفضل مجالسة الصالحين، وبركتهم، والله أعلم. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان أن جليس الذاكرين يندرج معهم في جميع ما يتفضل الله تعالى به عليهم؛ إكرامًا لهم، ولو لم يشاركهم في أصل الذكر.
3 -
(ومنها): بيان محبة الملائكة عليه السلام بني آدم، واعتنائهم بهم.
4 -
(ومنها): بيان أن السؤال قد يصدر من السائل، وهو أعلم بالمسؤول عنه من المسؤول؛ لإظهار العناية بالمسؤول عنه، والتنويه بقَدْره، والإعلان بشَرَف منزلته.
5 -
(ومنها): ما قيل: إن في خصوص سؤال الله الملائكة عن أهل الذكر الإشارةَ إلى قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]، فكأنه قيل لهم: انظروا إلى ما حصل منهم من التسبيح، والتقديس، مع ما سُلِّط عليهم من الشهوات، ووساوس الشيطان، وكيف عالجوا ذلك، وضاهوكم في التسبيح، والتقديس.
6 -
(ومنها): ما قيل أيضًا: إنه يؤخذ من هذا الحديث: أن الذكر الحاصل من بني آدم أعلى وأشرف من الذكر الحاصل من الملائكة؛ لحصول
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 15.
ذكر الآدميين مع كثرة الشواغل، ووجود الصوارف، وصدوره في عالم الغيب، بخلاف الملائكة في ذلك كله.
7 -
(ومنها): بيان كَذِب من ادَّعَى من الزنادقه أنه يَرَى الله تعالى جهرًا في دار الدنيا، وقد ثبت في "صحيح مسلم" من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، رفعه:"واعلموا أنكم لم تروا ربكم حتى تموتوا".
8 -
(ومنها): أن فيه جوازَ القَسَم في الأمر المحقّق تأكيدًا له، وتنويهًا به.
9 -
(ومنها): أن فيه أن الذي اشتَمَلت عليه الجنة من أنواع الخيرات، والنارُ من أنواع المكروهات فوق ما وُصفتا به، وأن الرغبة، والطلب من الله، والمبالغة في ذلك من أسباب الحصول، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
10 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: ذِكر الله تعالى ضربان: ذكر بالقلب، وذكر باللسان، وذكر القلب نوعان:
أحدهما - وهو أرفع الأذكار، وأجلّها -: الفكر في عظمة الله تعالى وجلا له، وجبروته، وملكوته، وآياته في سمواته وأرضه، ومنه الحديث:"خير الذكر الخفي"
(2)
، والمراد به هذا.
والثاني: ذِكره بالقلب عند الأمر، والنهي، فيمتثل ما أمر به، ويترك ما نَهَى عنه، ويقف عما أشكل عليه.
وأما ذكر اللسان مجردًا فهو أضعف الأذكار، ولكن فيه فضل عظيم، كما جاءت به الأحاديث، قال: وذَكر ابن جرير الطبريّ وغيره اختلاف السلف في ذِكر القلب واللسان أيهما أفضل؟ قال القاضي: والخلاف عندي إنما يُتصور في مجرد ذكر القلب تسبيحًا، وتهليلًا، وشِبههما، وعليه يدلّ كلامهم، لا أنهم مختلفون في الذكر الخفي الذي ذكرناه، وإلا فذلك لا يقاربه ذكر اللسان،
(1)
"الفتح" 14/ 464 - 465، "كتاب الدعوات" رقم (6408).
(2)
حديث ضعيف، أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" 3/ 91، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "خير الذكر الخفيّ، وخير الرزق - أو العيش - ما يكفي"، وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة: ضعيف.
فكيف يفاضله، وإنما الخلاف في ذكر القلب بالتسبيح المجرد، ونحوه، والمراد بذكر اللسان مع حضور القلب، فإن كان لاهيًا فلا.
واحتَجّ من رَجّح ذكر القلب بأن عمل السر أفضل، ومن رجح ذكر اللسان قال: لأن العمل فيه أكثر، فإن زاد باستعمال اللسان اقتضى زيادة أجر.
قال القاضي: واختلفوا هل تكتب الملائكة ذكر القلب؟ فقيل: تكتبه، ويجعل الله تعالى لهم علامة، يعرفونه بها، وقيل: لا يكتبونه؛ لأنه لا يَطّلع عليه غير الله.
قال النوويّ رحمه الله: الصحيح أنهم يكتبونه، وأن ذكر اللسان مع حضور القلب أفضل من القلب وحده، والله أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: ما صححه النوويّ رحمه الله هو الصحيح عندي؛ لأنه الذي تدلّ عليه ظواهر النصوص، فتأمل بالإمعان، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في ذِكر بعض ما ورد في فضل الذكر:
(اعلم): أنه ورد في فضل الذكر أحاديث غير ما في الباب:
منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. . ." الحديث، متَّفقٌ عليه، وقد تقدّم قبل باب.
ومنها: ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا، رفعه:"يعقد الشيطان. . ." الحديث، وفيه: "فإن قام، فذكر الله انحلت عقدة
…
".
ومنها: ما يأتي لمسلم بعد بابين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما مرفوعًا: "لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى، إلا حفّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة. . ." الحديث.
ومن حديث أبي ذرّ رضي الله عنه رفعه: "أحب الكلام إلى الله ما اصطفى لملائكته: سبحان ربي وبحمده. . ." الحديث.
ومن حديث معاوية رضي الله عنه رفعه: "أنه قال لجماعة جلسوا يذكرون الله تعالى: أتاني جبريل، فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة".
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 189، و"شرح النوويّ" 17/ 15 - 16.
ومن حديث سمرة رضي الله عنه رفعه: "أحب الكلام إلى الله أربع: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، لا يضرّك بأيهن بدأت".
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس".
وأخرج الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه الحاكم، عن الحارث بن الحارث الأشعريّ رضي الله عنه في حديث طويل، وفيه:"فآمركم أن تذكروا الله، وإن مثل ذلك، كمثل رجل خرج العدوّ في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حِصْن حصين أحرز نفسه منهم، فكذلك العبد لا يُحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى".
وعن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه: "أن رجلًا قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شرائع الإسلام قد كَثُرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رَطْبًا من ذكر الله"، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم.
وأخرج ابن حبان نحوه أيضًا من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وفيه: أنه السائل عن ذلك.
وأخرج الترمذيّ من حديث أنس رضي الله عنه رفعه: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر".
وأخرج الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه الحاكم، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه مرفوعًا:"ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى، قال: ذكر الله عز وجل ".
ويُجمع - كما قال الحافظ رحمه الله بين حديث أبي الدرداء هذا وبين ما ورد في فضل المجاهد أنه كالصائم لا يفطر، وكالقائم لا يَفْتُر، وغير ذلك مما يدلّ على أفضليته على غيره من الأعمال الصالحة، بأن المراد بذكر الله - والله أعلم - في حديث أبي الدرداء هو الذكر الكامل، وهو ما يَجتمع فيه ذكر اللسان والقلب بالتفكر في المعنى، واستحضار عظمة الله تعالى، وأن الذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممن يقاتل الكفار مثلًا من غير استحضار لذلك، وأن أفضلية
الجهاد إنما هي بالنسبة إلى ذكر اللسان المجرد، فمن اتفق له أنه جمع ذلك، كمن يذكر الله بلسانه وقلبه، واستحضاره، وكل ذلك حال صلاته، أو في صيامه، أو تصدّقه، أو قتاله الكفار مثلًا فهو الذي بلغ الغاية القصوى، والعلم عند الله تعالى.
وأجاب القاضي أبو بكر بن العربيّ رحمه الله بأنه ما من عمل صالح إلا والذكر مشترَط في تصحيحه، فمن لم يذكر الله بقلبه عند صَدَقته، أو صيامه مثلًا فليس عمله كاملًا، فصار الذكر أفضل الأعمال من هذه الحيثية، ويشير إلى ذلك حديث:"نية المؤمن أبلغ من عمله "
(1)
، ذكره الحافظ رحمه الله، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.
(9) - (بَابُ فَضْلِ الدُّعَاءِ بِـ "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ")
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6816]
(2690) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ - عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ - قَالً: سَأَلَ قَتَادَةُ أَنَسًا: أَيُّ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ؟ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، قَالَ: وَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) ابن إبراهيم البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) الْبُنانيّ البصريّ، تقدَّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
(1)
حديث لا يثبت، بل قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: موضوع.
والباقيان ذُكرا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (420) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين غير شيخه، فنسائيّ، ثمّ بغداديّ، وفيه قوله:"يعني: ابن عُليّة"، وقوله:"وهو ابن صُهيب" إنما أتى بـ "يعني"، وبـ "هو" لأن زُهيرًا لم ينسب إسماعيل إلى أمه، وكذا إسماعيل لم ينسب شيخه إلى أبيه، بل أهملهما، فزاد المصنّف:"ابن عليّة"، وكذا زاد هو أو شيخه:"ابن صهيب" للبيان، ففصل زيادته بـ "يعني" وبـ "هو" للتمييز، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" بقوله:
وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَو وَصْف مَنْ
…
فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ
بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَو بِـ "إِنَّ" أَو بِـ "هُو". . . أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَه
أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ
…
وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ
وفيه أنس رضي الله عنه الخادم الشهير، وأحد المكثرين السبعة المجموعين في قولي:
الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ
…
مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَابِرِ الْغُرَرْ
أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ
…
فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ
ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ
…
وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ - وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ -) بضمِّ الصاد المهملة، مصغّرًا الْبُنَانيّ أنه (قَالَ: سَأَلَ قَتَادَةُ) بن دِعَامة السَّدُوسيّ، وهذا يدلّ على أن عبد العزيز حضر السؤال، فيكون من روايته عن أنس، لا عن قتادة، ولهذا في رواية البخاريّ من طريق عبد الوارث:"عن عبد العزيز، عن أنس"، وقد ثبت أيضًا أنه سأل أنسًا، كما سأله قتادة، ففي رواية ابن حبّان من طريق شعبة عن إسماعيل ابن عليّة عن عبد العزيز بن صُهيب قال: قلت لأنس بن مالك؛ أخبرني عن دعاء كان يدعو به النبيّ صلى الله عليه وسلم
…
الحديث. (أَنَسًا) رضي الله عنه، وقوله:(أَيُّ دَعْوَةٍ) تفسير للسؤال، و"أيُّ" استفهاميّة مبتدأ، خبرها جملة قوله: (كَانَ
يَدْعُو بِهَا)؛ أي: بالدعوة (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (أَكثَرَ؟) منصوب على الحال، أو نَعْت للمصدر؛ أي: دعاء أكثر. (قَالَ) أنس رضي الله عنه جوابًا للسؤال: (كَانَ كثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو (النبيّ صلى الله عليه وسلم (بِهَا) أكثر، وقوله:(يَقُولُ) بتقدير "أن" المصدريّة؛ أي: أن يقول، وحَذْفها مع رَفْع الفعل قياس على الصحيح؛ وليس شاذًّا؛ لوقوعه في القرآن، في قوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24]، وإنما الشاذّ، حَذْفها مع نَصْب الفعل، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
والمصدر المؤّول خبر "كان".
"اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)؛ يعني: الصحة، والكفاف، والعفاف، والتوفيق للخير، (وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)؛ يعني: الثواب، والرحمة، (وَقِنَا) بالعفو والمغفرة، (عَذَابَ النَّارِ") الذي استحققناه بسوء أعمالنا
(1)
، وسيأتي بيان اختلاف العلماء في تفسير الحسنة في المسألة الرابعة - إن شاء الله تعالى -.
(قَالَ) عبد العزيز: (وَكَانَ أَنَسٌ) رضي الله عنه (إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ)؛ أي: واحدة، فالتاء للمرّة، (دَعَا بِهَا)؛ أي: بهذه الدعوة، وهي: "اللَّهُمَّ آتنا
…
إلخ"، (فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَا)؛ أي: كثير، (دَعَا بِهَا)؛ أي: الدعوة المذكورة (فِيهِ)؛ أي: في جملة الدعاء الكثير.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي نعيم، حدّثنا عبد السلام أبو طالوت: كنت عند أنس، فقال له ثابت: إن إخوانك يسألونك أن تدعو لهم، فقال:"اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار - فذكر القصّة، وفيها -: إذا آتاكم الله ذلك، فقد آتاكم الخير كله".
وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" من حماد بن سلمة، عن ثابت أنهم قالوا لأنس بن مالك: ادع الله لنا، فقال:"اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، فأعادها، فقالوا: زدنا، فقال:"ما تريدون؟ سألت لكم خير الدنيا والآخرة. . ." الحديث
(2)
.
قال القاضي عياض: إنما كان يُكثر الدعاء بهذه الآية؛ لِجَمْعها معاني
(1)
"فيض القدير" 2/ 151.
(2)
"صحيح ابن حبان" 3/ 218.
الدعاء كلّه، من أمر الدنيا والآخرة، قال: والحسنة عندهم ها هنا النعمة، فسأل نعيم الدنيا والآخرة، والوقاية من العذاب، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بذلك، ودوامه
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 6816 و 6817](2690)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4522) و"الدعوات"(6389) وفي "الأدب المفرد"(682)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1519)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 261 و 301) وفي "عمل اليوم والليلة"(1056)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2036)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 208 و 247)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 248)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 404)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(937 و 938 و 939 و 940)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3397 و 3525)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1381 و 1382)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعيّة الدعاء، والآيات، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة.
2 -
(ومنها): استحباب الدعاء بهذا الدعاء: "اللَّهُمَّ آتنا في الدنيا حسنة. . ."؛ لكثرة ملازمة النبيّ صلى الله عليه وسلم له.
3 -
(ومنها): أن من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبّ الجوامع من الدعاء، كهذا الدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء، وَيدَع ما سوى ذلك"
(2)
.
4 -
(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من الحرص والطلب من أكابرهم
(1)
"إكمال المعلم" 8/ 3.
(2)
حديث صحيح. رواه أبو داود في "سننه" 2/ 77.
الدعاء لهم، والإلحاح عليهم؛ رجاء بركتهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البركة مع أكابركم"
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف أهل العلم في تفسير الحسنة المذكورة في الآية:
(اعلم): أنه قد اختلفت عبارات السلف في تفسيرها، فعن الحسن قال: هي العلم، والعبادة في الدنيا، أخرجه ابن أبي حاتم بسند صحيح، وعنه بسند ضعيف: الرزق الطيب، والعلم النافع، وفي الآخرة: الجنة.
وتفسير الحسنة في الآخرة بالجنة، نقله ابن أبي حاتم أيضًا عن السّدّيّ، ومجاهد، وإسماعيل بن أبي خالد، ومقاتل بن حيّان.
وعن ابن الزبير: يعملون في دنياهم لدنياهم وآخرتهم.
وعن قتادة: هي العافية في الدنيا والآخرة.
وعن محمد بن كعب القُرَظيّ: الزوجة الصالحة من الحسنات، ونحوه عن يزيد بن أبي مالك.
وأخرج ابن المنذر من طريق سفيان الثوريّ قال: الحسنة في الدنيا: الرزق الطيب، والعلم، وفي الآخرة: الجنة.
ومن طريق سالم بن عبد الله بن عمر قال: الحسنة في الدنيا: الْمُنَى، ومن طريق السدّيّ قال: المال.
ونقل الثعلبي عن السديّ، ومقاتل: حسنة الدنيا: الرزق الحلال الواسع، والعمل الصالح، وحسنة الآخرة: المغفرة والثواب.
وعن عطيّة: حسنة الدنيا: العلم، والعمل به، وحسنة الآخرة: تيسير الحساب، ودخول الجنة. وبسنده عن عوف قال: من آتاه الله الإسلام، والقرآن، والأهل، والمال، والولد، فقد آتاه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة.
ونقل الثعلبيّ عن سلف الصوفية أقوالًا أخرى متغايرة اللفظ، متوافقة المعنى، حاصلها السلامة في الدنيا وفي الآخرة، واقتصر الكشّاف على ما نَقَله
(1)
رواه الطبرانيّ في "المعجم الأوسط" 9/ 16، وصححه ابن حبّان، والحاكم.
الثعلبيّ عن عليّ أنها في الدنيا: المرأة الصالحة، وفي الآخرة: الحوراء، وعذاب النار: المرأة السوء.
وقال الشيخ عماد الدين ابن كثير: الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيويّ، من عافية، ودار رَحْبة، وزوجة حسنة، وولد بارّ، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك، مما شملته عباراتهم، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا.
وأما الحسنة في الآخرة فأعلاها دخول الجنة، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب، وغير ذلك، من أمور الآخرة.
وأما الوقاية من عذاب النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم، وتَرْك الشبهات، قال الحافظ: أو العفو محضًا، ومراده بقوله: وتوابعه: ما يلتحق به في الذكر، لا ما يتبعه حقيقة، ذكر هذا كلّه في "الفتح"، وهو بحثٌ نفيسٌ
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6817]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقنَا عَذَابَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري، أبو المثنى البصري القاضي، ثقةٌ متقن، من كبار التاسعة، مات سنة ست وتسعين، تقدم في "المقدمة" 3/ 7.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.
(1)
"الفتح" 14/ 430 - 431، "كتاب الدعوات" رقم (6389).
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
(10) - (بَابُ فَضْلِ التَّهْلِيلِ، وَالتَّسْبِيحِ، وَالدُّعَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6818]
(2691) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَا جَاءَ بِه، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ كثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَتْ خَطَايَاهُ
(1)
، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكريا النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ أبو عبد الله المدنيّ الفقيه إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلِّها: مالك، عن نافع، عن ابن عمر [7](ت 179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.
3 -
(سُمَيٌّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 130) مقتولًا بقُديد (ع) تقدم في "الصلاة" 18/ 918.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "حُطّت عنه خطاياه".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك وغيره، وفيه مالك أحد الأئمة الأربعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ سُمَيٍّ) بسين مهملة، مصغّرًا، وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة في "مسنده": عن زيد بن الْحُبَاب، عن مالك: حدّثني سُمَيّ مولى أبي بكر، أخرجه ابن ماجه، وفي رواية عبد الله بن سعيد بن أبي هند: عن سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث. (عَنْ أَبِي صَالِحٍ) ذكوان السمّان، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية عبد الله بن سعيد:"أنه سمع أبا هريرة"؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ)؛ أي: لا معبود بحقّ، وقوله:(إِلَّا اللهُ) قيل: في موضع رفع بدلًا من "لا إله" لا خبرٌ؛ لأن "لا" لا تعمل في المعارف، ولو قلنا: خبر للمتبدإ، أو لـ "لا" فلا يصح أيضًا؛ لِمَا يلزم عليه من تنكير المبتدإ، وتعريف الخبر، لكن قال السفاقسيّ: قد أجاز الشلوبين أن خبر المبتدأ يكون معرفة، ويسوغ الابتداء بالنكرة في النفي. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن ما أجازه الشلوبين هو الحقّ، فقوله:"إلا الله" هو الخبر؛ لأن هذه الجملة جملة مفيدة دون تقدير، فلا حاجة إلى ما تكلّفه الكثيرون من تقدير الخبر، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، وبالله تعالى التوفيق.
ثم أكّد الحصر المستفادَ من "لا إله إلا الله" بقوله: (وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ) و"شريك" مبني على الفتح، وخبر "لا" متعلق قوله:"له" مع ما فيه من تكثير حسنات الذاكر، فـ "وحدَهُ" حال مؤوّلة بـ "منفردًا"؛ لأن الحال لا تكون معرفة، "ولا شريك له" حال ثانية، مؤكدة لمعنى الأُولى. (لَهُ الْمُلْكُ) بضم الميم،
(1)
"شرح الزرقاني على الموطّأ" 2/ 35.
وقوله: (وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جملة حالية أيضًا، ومن مَنَع تعدد الحال جعل "لا شريك له" حالًا من ضمير "وحده" المؤولة بـ "منفردًا"، وكذا "له الملك" حال من ضمير المجرور في "له"، وما بعد ذلك معطوفات، قاله الزرقانيّ رحمه الله
(1)
.
وقال في "الفتح": هكذا في أكثر الروايات، وورد في بعضها زيادة:"يُحيي ويميت"، وفي أخرى زيادة:"بيده الخير"، وسيأتي بيان من زاد ذلك. (فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ) وفي رواية عبد الله بن سعيد:"إذا أصبح"، ومثله في حديث أبي أمامة عند جعفر الفريابيّ في "الذكر"، ووقع في حديث أبي ذرّ تقييده بأن ذلك في دُبُر صلاة الفجر قبل أن يتكلم، لكن قال:"عشر مرات"، وفي سندهما شهر بن حوشب، وقد اختُلف عليه، وفيه مقال، قاله في "الفتح"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم غير مرّة، أن الحقّ في شهر، أنه حسن الحديث، فلا تغفل.
(كَانَتْ)؛ أي: هذه الكلمات، وللبخاريّ:"كان" بالتذكير؛ أي: هذا الذكر، (لَهُ عَدْلَ) بفتح العين؛ أي: مثل ثواب إعتاق (عَشْرِ) بسكون الشين، (رِقَابِ) قال الفرّاء: العدل بالفتح: ما عَدَل الشيءَ من غير جنسه، وبالكسر: المِثلَ، ذكره في "الفتح".
وقال الفيّوميّ رحمه الله: عِدْلُ الشيءِ بالكسر: مِثله من جنسه، أو مقداره، قال ابن فارس: والعِدْلُ: الذي يعادل في الوزن والقدر، وعَدْلُهُ بالفتح: ما يقوم مقامه من غير جنسه، ومنه قوله تعالى:{أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، وهو مصدر في الأصل، يقال: عَدَلْتُ هذا بهذا عَدْلًا، من باب ضرب: إذا جعلته مِثله، قائمًا مقامه، قال تعالى:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، وهو أيضًا الفدية، قال تعالى:{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الأنعام: 70]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ، وَلا عَدْلٌ". انتهى
(3)
.
وقوله: (رِقَابٍ) جمع رقبة، وهي في الأصل: العنق، فجُعلت كنايةً عن
(1)
"شرح الزرقانيّ" 2/ 35.
(2)
"الفتح" 14/ 446.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 396.
جميع ذات الإنسان؛ تسميةً للشيء ببعضه؛ أي: يضاعَف ثوابها حتى يصير مثل أصل ثواب العتق المذكور
(1)
.
وفي رواية عبد الله بن سعيد: "عدل رقبة"، ويوافقه رواية مالك حديث البراء بلفظ:"من قال: لا إله إلا الله"، وفي آخره:"عشر مرات، كنّ له عدل رقبة"، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، ونظيره في حديث أبي أيوب عند البخاريّ.
وأخرج جعفر الفِرْيابيّ في "الذكر" من طريق الزهريّ: أخبرني عكرمة بن محمد الدؤليّ؛ أن أبا هريرة قال: "من قالها فله عدل رقبة، ولا تعجزوا أن تستكثروا من الرقاب"، ومثله رواية سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، لكنه خالف في صحابيه، فقال: عن أبي عياش الزُّرَقيّ، أخرجه النسائيّ.
(وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ) قال الطيبيّ رحمه الله: جَعَل في هذا الحديث التهليل ماحيًا من السيئات مقدرًا معلومًا، وفي حديث التسبيح جعل التسبيح ماحيًا لها مقدار زبد البحر، فيلزم أن يكون التسبيح أفضل، وقد قال في حديث التهليل:"ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به".
أجاب القاضي عياض بأن التهليل المذكور في هذا الحديث أفضل؛ لأن جزاءه مشتمل على محو السيئات، وعلى عتق عشر رقاب، وعلى إثبات مائة حسنة، والحرز من الشيطان
(2)
.
(وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا) بكسر الحاء المهملة، وسكون الراء، وبالزاي؛ أي: حِصْنًا مانعًا (مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ)؛ أي: في اليوم الذي قال فيه ذلك، وهو منصوب على الظرفيّة متعلّق بـ "حِرْزًا". (ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ) قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن الله تعالى يحفظه من الشيطان في ذلك اليوم، فلا يقدر أن يَحمله على زلّة، أو وسوسة ببركة تلك الكلمات. انتهى.
وفي رواية عبد الله بن سعيد: "وحُفظ يومه حتى يمسي"، وزاد:"ومن قال مثل ذلك حين يمسى كان له مثل ذلك"، ومثل ذلك في طرق أخرى يأتي التنبيه عليها بعدُ. (وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ) وللبخاريّ: "ولم يأت أحد
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 214.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 214.
بأفضل مما جاء"، (إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: معنى "عَمِل": قال، فسمّى القول عملًا، كما قد صرح به في الرواية الأخرى، والذِّكر من الأعمال التي لا تنفع إلا بالنيّة، والإخلاص. انتهى
(1)
.
وفي رواية البخاريّ: "إلا رجل عَمِل أكثر منه"، وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه:"لم يجئ أحد بأفضل من عمله، إلا من قال أفضل من ذلك"، أخرجه النسائيّ بسند صحيح إلى عمرو، قال في "الفتح": والاستثناء في قوله: "إلا رجل" منقطع، والتقدير: لكن رجل قال أكثر مما قاله، فانه يزيد عليه، ويجوز أن يكون الاستئناء متصلًا. انتهى
(2)
.
وقال الزرقانيّ رحمه الله: قوله: "إلا أحد" استثناء منقطع؛ أي: لكن أحد عمل أكثر مما عمل، فإنه يزيد عليه، أو متّصل بتأويل.
قال ابن عبد البرّ: فيه تنبيه على أن المائة غاية في الذكر، وأنه قلّ من يزيد عليه، وقال: إلا أحد؛ لئلا يُظَنّ أن الزيادة على ذلك ممنوعة، كتكرار العمل في الوضوء.
ويَحْتَمِل أن يريد: لا يأتي أحد من سائر أبواب البرّ بأفضل مما جاء به، إلا أحد عَمِل من هذا الباب أكثر من عمله، ونحوه قول القاضي عياض: ذِكْرُ المائة دليل على أنها غاية للثواب المذكور، وقوله:"إلا أحد" يَحْتَمِل أن يريد الزيادة على هذا العدد، فيكون لقائله من الفضل بحسابه؛ لئلا يُظَنّ أنه من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، وأنه لا فضل في الزيادة عليها، كما في ركعات السنن المحدودة، وأعداد الطهارة.
ويَحْتَمِل أن تراد الزيادة من غير هذا الجنس من الذكر وغيره؛ أي: إلا أن يزيد أحد عملًا آخر من الأعمال الصالحة.
وظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن الأجر يحصل لمن قال هذا التهليل في اليوم متواليًا، أو مفرَّقًا في مجلس، أو مجالس، في أول النهار، أو في آخره، لكن الأفضل أن يأتي به متواليًا في أول النهار؛ ليكون له حِرزًا في جميع
(1)
"المفهم" 7/ 21.
(2)
"الفتح" 14/ 447، "كتاب الدعوات" رقم (6403).
نهاره، وكذا في أول الليل؛ ليكون له حرزًا في جميع ليله. انتهى
(1)
.
(وَمَنْ) شرطيّة جوابها قوله: "حُطّت خطاياه"، (قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ) معناه: تنزيهَ الله عما لا يليق به، من كل نقص، فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويُطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويُطلق، ويراد به صلاة النافلة، وأما صلاة التسبيح فسمِّيت بذلك؛ لكثرة التسبيح فيها، و"سبحان" اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره: سَبَّحتُ الله سُبحانًا، كسبحت الله تسبيحًا، ولا يُستعمل غالبًا إلا مضافًا، وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: سبحت اللهَ، ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل؛ أي: نَزَّه اللهُ نفسه، والمشهور الأول، وقد جاء غير مضاف في الشعر، كقوله:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا أُنَزِّهُهُ
(2)
وقال في "العمدة": قوله: "سبحان الله" اسم مصدر للتسبيح، وقيل: بل سبحان مصدر؛ لأنه سُمع له فعل ثلاثيّ، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، وقد يُفرد، وإذا أُفرد مُنع الصرفَ؛ للتعريف، وزيادة الألف والنون، كقوله:
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ
…
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ
وجاء مُنوّنًا، كقوله:
سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَانًا يَعُودُ لَهُ
…
وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجَمَدُ
(3)
فقيل: صُرف ضرورةً، وقيل: هو بمنزلة قبلُ، وبعدُ، إن نُوي تعريفه بقي على حاله، وإن نُكِّر أُعرب منصرفًا، وهذا البيت يساعد على كونه مصدرًا، لا اسم مصدر، ولوروده منصرفًا، ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة، لا معرفة، وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية، فلا ينصرف، والناصب له فِعل مقدَّر، لا يجوز إظهاره، وعن الكسائيّ: إنه مُنادًى، تقديره: يا سبحانك، ومنعه جمهور النحويين، وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: سبحت اللهَ، ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل؛ أي: نَزَّه اللهُ نفسَهُ، والأول
(1)
"شرح الزرقانيّ" 2/ 36.
(2)
"الفتح" 14/ 454، "كتاب الدعوات" رقم (6403).
(3)
"الْجَمَد" محرّكةً: الثلج. "ق".
هو المشهور، ومعناه: تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويُطلق التسبيح، ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويُطلق ويراد به الصلاة النافلة. انتهى
(1)
.
وقال ابن الأثير رحمه الله: قد تكرر في الحديث ذِكر التسبيح على اختلاف تصرف اللفظة، وأصل التسبيح: التنزيه، والتقديس، والتبرئة من النقائص، ثم استُعمل في مواضعَ تقرُب منه اتساعًا، يقال: سبّحتة أسبّحة تسبيحًا وسبحانًا، فمعنى سبحان الله: تنزيه الله، وهو نصب على المصدر بفعل مضمر، كأنه قال: أبرئ الله من السوء براءة. وقيل: معناه: التسرّع إليه، والخفة في طاعته. وقيل: معناه: السرعة إلى هذه اللفظة. وقد يُطلق التسبيح على غيره، من أنواع الذكر مجازًا؛ كالتحميد، والتمجيد، وغيرهما. وقد يُطلق على صلاة التطوع، والنافلة. ويقال أيضًا للذكر، ولصلاة النافلة: سبحة، يقال: قضيت سبحتي، والسبحة من التسبيح، كالسُّخْرة من التسخير.
وإنما خُصَّت النافلة بالسبحة، وإن شارَكَتْها الفريضة في معنى التسبيح؛ لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة: سبحة؛ لأنها نافلة كالتسبيحات، والأذكار في أنها غير واجبة. انتهى
(2)
.
(وَبِحَمْدِهِ) قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبّح الله متلبسًا بحمدي له، من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبّح الله، وأتلبّس بحمده، ويَحْتَمِل أن يكون الحمد مضافًا للفاعل، والمراد من الحمد: لازِمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق، ونحوه، ويَحْتَمِل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فيكون "سبحان الله" جملة مستقلّة، "وبحمده" جملة أخرى.
وقال الخطابيّ في حديث "سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك": أي: بقوّتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبّحتك، لا بحولي، وبقوتي، كأنه يريد: أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبَّب، قاله في "الفتح"
(3)
.
(فِي يَوْمٍ) متعلّق بـ "قال"، (مِائَةَ مَرَّةٍ) صفة لمصدر مقدّر؛ أي: قولًا مائة
(1)
"عمدة القاري" 23/ 25.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" 2/ 833.
(3)
"الفتح" 13/ 541.
مرّة، (حُطَّتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: أزيلت، ومُحيت (خَطَايَاهُ) وفي نسخة:"حُطّت عنه خطاياه"، (وَلَوْ كَانَتْ) تلك الخطايا في الكثرة (مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ") "الزبد" بفتحتين: هو ما يعلو على وجه البحر عند هيجانه، واختصاص هذه الألفاظ بالذكر، واعتبار الأعداد المعيَّنة بحكمة تخصّها، لا يَطّلع عليها إلا من أمدّه الله تعالى بنور الوحي.
وقال في "الفتح": زاد في رواية: "من قال حين يمسي، وحين يصبح"، ويأتي في ذلك ما ذكره النوويّ من أن الأفضل أن يقول ذلك متواليًا في أول النهار، وفي أول الليل، والمراد بقوله:"وإن كانت مثل زبد البحر": الكناية عن المبالغة في الكثرة، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6818](2691)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3293) و"الدعوات"(6403)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3468)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة"(25 و 26)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3798)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 209)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(849)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(1/ 422)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 126)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1272)، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الذكر بما جاء في هذا الحديث.
2 -
(ومنها): بيان أن الذكر فضله عظيم، وإن كان من الأفعال التي لا مشقّة فيها، بل هي متيسّرة على الجميع، حيث إنها تُفعل قيامًا، وقعودًا، وعلى الجُنوب، وماشيًا، ومشتغلًا بأشغال أخرى، ومع هذا كلّه يحصل بها من الأجر ما لا يحصل بالأعمال الشاقّة، بل هي أفضل من الجهاد، والإنفاق في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال، فقد أخرج الترمذيّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند
مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ "، قالوا: بلى، قال: "ذِكر الله تعالى"
(1)
، وهو حديث صحيح.
3 -
(ومنها): بيان سعة فضل الله سبحانه وتعالى على عباده حيث شرع لهم الذي الميسور لكلّ أحد، ورتّب عليه الثواب الجزيل، فيُدرك العبد في أيام معدودة من الأجر والثواب ما يُدركه في سنين مديدة بغيره من الأعمال، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الحديث فيه دليل على أنه لو قال هذا التهليل أكثر من مائة مرة في اليوم، كان له هذا الأجر المذكور في الحديث على المائة، ويكون له ثواب آخر على الزيادة، وليس هذا من الحدود التي نُهي عن اعتدائها، ومجاوزة أعدادها، وأن زيادتها لا فضل فيها، أو تبطلها، كالزيادة في عدد الطهارة، وعدد ركعات الصلاة.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: الزيادة من أعمال الخير، لا من نفس التهليل.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: مطلق الزيادة، سواء كانت من التهليل، أو من غيره، أو منه ومن غيره، وهذا الاحتمال أظهر، والله أعلم
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وهذه الأجور العظيمة، والعوائد الجمة، إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأمّلها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإنْ لم يكن، فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنَّه من أعظم العبادات، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما قدَّمناه في الإحسان:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك"، متَّفقٌ عليه.
ثم لمّا كان الذاكرون في إدراكاتهم، وفهومهم مختلفين، كانت أجورهم على ذلك، بحَسَب ما أدركوا، وعلى هذا يُنَزّل اختلاف مقادير الأجور، والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 459.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 17.
مضاعَفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر، أو أقل، كما اتَّفَق هنا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدّم، فإنَّ فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علّق عليها من ثواب عِتْق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة:"من قال ذلك في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب"، وفي حديث أبي أيوب:"من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب"، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب
(1)
، والله تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قال القاضي عياض رحمه الله
(2)
: قوله: "حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر"، مع قوله في التهليل:"مُحيت عنه مائة سيئة" قد يُشعر بأفضلية التسبيح على التهليل؛ يعني: لأن عدد زبد البحر أضعاف أضعاف المائة، لكن تقدّم في التهليل:"ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به"، فيَحْتَمِل أن يُجمع بينهما بأن يكون التهليل أفضل، وأنه بما زِيد من رَفْع الدرجات، وكَتْب الحسنات، ثم ما جُعل مع ذلك من فضل عتق الرقاب، قد يزيد على فضل التسبيح، وتكفيره جميع الخطايا؛ لأنه قد جاء: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار، فحصل بهذا العتق تكفير جميع الخطايا عمومًا بعد حصر ما عدّد منها خصوصًا، مع زيادة مائة درجة، وما زاده عتق الرقاب الزيادة على الواحدة، ويؤيده الحديث الآخر:"أفضل الذكر التهليل"، وأنه أفضل ما قاله، والنبيّون من قبله، وهو كلمة التوحيد، والإخلاص، وقيل: إنه اسم الله الأعظم، وقد مَضَى شرح التسبيح، وأنه التنزيه عما لا يليق بالله تعالى، وجميع ذلك داخل في ضمن:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وحديث: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث جابر رضي الله عنه، ويعارضه في
(1)
"المفهم" 7/ 20 - 21.
(2)
"إكمال المعلم" 8/ 192.
الظاهر حديث أبي ذرّ: "قلت: يا رسول الله، أخبرني بأحبّ الكلام إلى الله، قال: إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده"، أخرجه مسلم، وفي رواية:"سئل: أيّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفاه الله لملائكته: سبحان الله وبحمده".
وقال الطيبيّ رحمه الله: في الكلام على حديث أبي ذرّ رضي الله عنه فيه تلميح بقوله تعالى حكاية عن الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] ويمكن أن يكون قوله: "سبحان الله وبحمده" مختصرًا من الكلمات الأربع، وهي:"سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"؛ لأن "سبحان الله" تنزيهٌ له عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى "لا إله إلا الله"، وقوله:"وبحمده" صريح في معنى "والحمد لله"؛ لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى "الله أكبر"؛ لأنه إذا كان كل الفضل والإفضال لله، ومن الله، وليس من غيره شيء من ذلك، فلا يكون أحد أكبر منه، ومع ذلك كله فلا يلزم أن يكون التسبيح أفضل من التهليل؛ لأن التهليل صريح في التوحيد، والتسبيح متضمِّن له، ولأن نفي الآلهة في قول:"لا إله" نفي لمضمونها، مِن فِعل الخلق، والرزق، والإثابة، والعقوبة، وقول:"إلا الله" إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضادّه، ويخالفه، من النقائص، فمنطوق "سبحان الله" تنزيه، ومفهومه توحيد، ومنطوق "لا إله إلا الله" توحيد، ومفهومه تنزيه؛ يعني: فيكون "لا إله إلا الله" أفضل؛ لأن التوحيد أصل، والتنزيه ينشأ عنه، والله أعلم.
وقد جمع القرطبيّ رحمه الله
(1)
بما حاصله: أن هذه الأذكار إذا أُطلق على بعضها أنه أفضل الكلام، أو أحبه إلى الله، فالمراد: إذا انضمت إلى أخواتها، بدليل حديث سمرة رضي الله عنه عند مسلم:"أحب الكلام إلى الله أربع، لا يضرك بأيهنّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، ويَحْتَمِل أن يُكتَفَى في ذلك بالمعنى، فيكون من اقتصر على بعضها كفى؛ لأن حاصلها التعظيم، والتنزيه، ومن نزَّهه فقد عظَّمه، ومن عظمه فقد نزهه. انتهى.
(1)
"المفهم" 7/ 19.
وقال النوويّ رحمه الله
(1)
: هذا الإطلاق في الأفضلية محمول على كلام الآدميّ، وإلا فالقرآن أفضل الذكر.
وقال البيضاويّ: الظاهر أن المراد من الكلام: كلام البشر، فإن الثلاث الأُوَل، وإن وُجدت في القرآن، لكن الرابعة لم توجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه.
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يُجمع بأن تكون "من" مضمرة في قوله: "أفضل الذكر لا إله إلا الله"، وفي قوله:"أحب الكلام" بناءً على أن لفظ أفضل وأحب متساويان في المعنى، لكن يظهر مع ذلك تفضيل "لا إله إلا الله"؛ لأنها ذُكرت بالتنصيص عليها بالأفضلية الصريحة، وذُكرت مع أخواتها بالأحبية، فحصل لها التفضيل تنصيصًا وانضمامًا، والله أعلم.
وأخرج الطبريّ من رواية عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:"إن الرجل إذا قال: لا إله إلا الله، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله عملًا حتى يقولها، وإذا قال: الحمد لله، فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبدٌ حتى يقولها".
ومن طريق الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"من قال: لا إله إلا الله، فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين".
[تكميل]: أخرج النسائيّ بسند صحيح، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"قال موسى: يا رب علِّمني شيئًا أذكرك به، قال: قل: لا إله إلا الله. . ." الحديث، وفيه:"لو أن السماوات السبع، وعامرهنّ والأرضين السبع، جُعلن في كِفّة، ولا إله إلا الله في كِفّة، لمالت بهنّ لا إله إلا الله"، فيؤخذ منه أن الذكر بلا إله إلا الله أرجح من الذكر بالحمد لله.
ولا يعارضه حديث أبي مالك الأشعريّ رضي الله عنه، رفعه:"والحمد لله تملأ الميزان"، فإن الملء يدلّ على المساواة، والرجحانُ صريح في الزيادة، فيكون أَولى، ومعنى "ملء الميزان": أن ذاكرها يمتلئ ميزانه ثوابًا.
وقال ابن بطال رحمه الله: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 14.
الشرف في الدين، والكمال؛ كالطهارة من الحرام، والمعاصي العظام، فلا تظنّ أن من أدمن الذكر، وأصرّ على ما شاءه من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح، ويشهد له قوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6819]
(2692) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ، وَحِينَ يُمْسِي: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ، لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأفضَلَ مِمَا جَاءَ بِه، إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ، أَو زَادَ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيُّ) هو محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.
3 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح، تقدّم قبل باب.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، من سُهيل، والباقيان بصريّان، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم القول فيه.
(1)
"شرح صحيح البخاريّ" لابن بطّال 10/ 134، و "الفتح" 17/ 633.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبحُ، وَحِينَ يُمْسِي)؛ أي: فيهما بأن يأتي ببعضها في هذا، وببعضها في هذا، أو في كل واحد منهما، وهو الأظهر، لكن كلام النوويّ الآتي يؤيد الأول، وكأنه اعتبر المتيقن الذي هو الأقل.
(سُبْحَانَ اللهِ)؛ أي: تنزيهًا لله تعالى عما لا يليق به من كل نقص، (وَبِحَمْدِهِ) الواو للحال؛ أي: سبحان الله حال كوني ملتبسًا بحمدي له من أجل توفيقه لي للتسبيح، (مِائَةَ مَرَّةٍ) سواء كانت متوالية، وهو الأفضل، والأَولى، وخصوصًا في أوله، أو متفرقة بعضها أول النهار، وبعضها آخره، (لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ) هذا القائل، وهو قول المائة المذكورة، (إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ) هذا القائل، (أَو زَادَ عَلَيْهِ") قال الطيبيّ؛ أي: يكون ما جاء به أفضل من كل ما جاء به غيره، إلا مما جاء به من قال مثله، أو زاد عليه، قيل: الاستثناء منقطع، والتقدير: لم يأت أحد بأفضل مما جاء به، لكن رجل قال مثل ما قاله، فإنه يأتي بمساواته، ولا يستقيم أن يكون متصلًا إلا على التأويل، نحو قوله:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
…
إِلا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ
(1)
وقيل: التقدير: لم يأت أحد بمثل ما جاء به، أو بأفضل مما جاء به إلخ، والاستثناء متصل.
ودلّ الحديث على أن من زاد على العدد المذكور، كان له الأجر المذكور والزيادة، فليس ما ذكره تحديدًا لا يجوز الزيادة عليه، كما في عدد الطهارة، وعدد الركعات. انتهى، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1820.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6819](2692)، و (أبو داود) في "الأدب"(4427)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3469)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 146) وفي "عمل اليوم والليلة"(1/ 380)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 371) وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6820]
(2693) - (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أَبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ - يَعْني: الْعَقَدِيَّ - حَدَّثَنَا عُمَرُ - وَهُوَ: ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ - عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: (مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ أبُو أَيُّوبَ الْغَيْلَانِيُّ) المازنيّ، أبو أيوب البصريّ، ثقةٌ
(1)
[11](6 أو 147)(م س) تقدّم في "المقدّمة" 4/ 21.
2 -
(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) - بفتح المهملة والقاف - عبد الملك بن عمرو الْقَيْسيّ البصريّ، ثقةٌ [9][4 أو 205](ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
3 -
(عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) الْهَمْدانيّ الوادعيّ الكوفيّ، أخو زكريا، صدوقٌ، رُمي بالقدر [6] مات بعد (150)(خ م س) تقدم في "الطهارة" 22/ 638.
4 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) السَّبيعي - بفتح السين المهملة، وكسر الموحّدة - ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ، مدلّس، اختلط بَأَخَرَة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
5 -
(عَمْرُو بْن مَيْمُونٍ) الأَوْديّ، أبو عبد الله، ويقال: أبو يحيى، مخضرم، مشهور، ثقةٌ، عابدٌ، نزل الكوفة [2] مات سنة أربع وسبعين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 152.
(1)
هذا أولى من قوله في "التقريب": صدوق، كما هو ظاهر من ترجمته، فتنبّه.
[تنبيه]: هذا الحديث بهذا الإسناد مقطوع؛ أي: موقوف على التابعيّ؛ لأنه قال: "عن عمرو بن ميمون قال: من قال: لا إله إلا الله
…
"، ويأتي متّصلًا مرفوعًا بالسند التالي - إن شاء الله تعالى -.
شرح الحديث:
(عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الأوديّ التابعيّ الكبير، أدرك الجاهليّة.
قال الجامع عفا الله عنه: أشرت آنفًا أنه مقطوع، ولكن يأتي في السند التالي أن عَمْرًا سمعه من ابن أبي ليلى، وابن أبي ليلى من أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاتّصل مرفوعًا، ولله الحمد.
[تنبيه]: وقع في رواية البخاريّ تعليقًا: "وقال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق: حدّثني عمرو بن ميمون"، فصرّح أبو إسحاق بالتحديث، فزالت عنه تهمة التدليس؛ لأنه كالن معروفًا بالتدليس، فتنبّه.
(قَالَ) عمرو بن ميمون راويًا عن ابن أبي ليلى، عن أبي أيوب رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:("مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَارٍ، كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ") عليع السلام، إنما خصّ بالذكر ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عِتق من كان من ولده له فضل على عتق غيره، وذلك لأن محمدًا، وإسماعيل، وإبراهيم - صلوات الله عليهم وسلامه - بعضهم من بعض، فمن كان من أولادهم فله شرف عظيم، ففي عِقته فضل جسيم
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): هذا الحديث متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6820 و 6821](2693)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6404)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3553)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 35) وفي "عمل اليوم والليلة"(112)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 418 و 5422)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 165)، والله تعالى أعلم.
(1)
راجع: "عمدة القاري" 23/ 23.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6821]
(. . .) - وَقَالَ سُلَيْمَانُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ رَبِيعِ بْنِ خُثَيْم، بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: مِنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: فَاتَيْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ، فَقُلْتُ: مِمَّنْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: مِنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: فَأَتَيْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَقُلْتُ: مِمَنْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي أَيُّوبَ الأنصَارِيِّ، يُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ) بفتح الفاء، وسكّنها بعض المغاربة، والصواب الفتح، واسم أبي السفر: سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد، الثوريّ، الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6] مات في خلافة مروان بن محمد (خ م د س ق) تقدم في "الإمارة" 10/ 4769.
2 -
(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَراحيل الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(رَبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ) - بضم الخاء المعجمة، وفتح المثلثة - ابن عائذ بن عبد الله الثوريّ، أبو يزيد الكوفيّ، ثقةٌ عابد مخضرم، قال له ابن مسعود رضي الله عنه: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك [2].
قال الشعبي: كان من معادن الصدق، وقال ابن معين: لا يُسأل عن مثله. وقال ابن حبان: أخباره في الزهد والعبادة أشد من أن يحتاج إلى الإغراق في ذكرها. وقال العجلي: تابعي ثقة. وكان خيارًا. مات بعد قتل الحسين سنة (63) وقيل: (61)، (خ م قد ت س ق).
4 -
(ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [2] اخُتلف في سماعه من عمر رضي الله عنه، مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين، قيل: إنه غَرِق (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
5 -
(أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ، من كبار الصحابة رضي الله عنه، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: هذا الإسناد فيه أربعة تابعيّون روى بعضهم عن بعض، وهم
الشعبيّ، وربيع بن خُثيم، وعمرو بن ميمون، وابن أبي ليلى، ورواية الثلاثة الآخرين من رواية الأقران، فكلهم من الطبقة الثانية، فتنبّه، والله تعالى أعلم.
وقوله: (وَقَالَ سُلَيْمَانُ) هو شيخه في السند الماضي سليمان بن عُبيد الله الغيلانيّ، وليس هذا تعليقًا، وإنما عطف على الإسناد الماضي، فهو متّصل، فتنئه.
وقوله: (بِمِثْلِ ذَلِكَ)؛ أي: ساق الحديث ربيع بن خُثيم عن عمرو بن ميمون بسنده بمثل ما ساقه أبو إسحاق عنه.
ويَحتَمل أن يكون المعنى: وساق سليمان الحديث بهذا السند، بمثل ما ساقه بسنده الماضي.
وقوله: (قَالَ: فَقُلْتُ لِلرَّبِيعِ
…
إلخ) فاعل "قال " ضمير الشعبيّ، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6822]
(2694) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاع، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَان، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَن، سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِه، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ) هو: محمد بن طَرِيف بن خليفة، أبو جعفر الكوفيّ، صدوقٌ، من صغار [10] (ت 242) وقيل: قبل ذلك (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 95/ 489.
4 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غَزْوان - بفتح المعجمة، وسكون الزاي - الضبَّيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
5 -
(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ أرسل عن ابن مسعود [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.
6 -
(أَبُو زرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه أربعة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير زُهير، وأبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه.
[تنبيه آخر]: قال الحافظ رحمه الله: لم أر هذا الحديث إلا من طريق محمد بن فضيل بهذا الإسناد، وقد تقدم في "الدعوات"، وفي "الأيمان والنذور"، وأخرجه أحمد، ومسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وابن حبان، كلهم من طريقه، قال الترمذيّ: حسن، صحيح، غريب، قال الحافظ: وجه الغرابة فيه: ما ذكرته من تفرّد محمد بن فضيل، وشيخه، وشيخ شيخه، وصحابيه. انتهى
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ) وفي رواية عند البخاريّ: (عن ابن فُضيل: حدّثنا عمارة"، (عَنْ أَبِي زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير البجليّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (كَلِمَتَانِ)؛ أي: كلامان، والكلمة تُطلق على الكلام، كما يقال: كلمة الشهادة، كلمة الإخلاص.
فقوله: "كلمتان" خبر مقدّم، و"خفيفتان" وما بعدها صفة، و"سبحان الله
…
إلخ" مبتدأ مؤخّر، والنكتة في تقديم الخبر: تشويق السامع إلى المبتدأ، وكلما طال الكلام في وَصْف الخبر حَسُن تقديمه؛ لأن كثرة الأوصاف الجميلة، تزيد السامع شوقًا. (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَان، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ) وَصَفهما بالخفة والثقل؛ لبيان قلة العمل، وكثرة الثواب، وقال
(1)
"الفتح" 17/ 631، "كتاب التوحيد" رقم (7563).
الطيبيّ: الخفة مستعارة للسهولة، شبّه سهولة جريان هذا الكلام على اللسان بما يَخِفّ على الحامل من بعض المحمولات، ولا يشقّ عليه، فذكر المشبَّه، وأراد المشبَّه به، وأما الثِّقَل فعلى حقيقته؛ لأن الأعمال تتجسم عند الميزان، والميزان هو الذي يوزن به في القيامة أعمال العباد، وفي كيفيته أقوال، والأصح أنه جسم محسوس، ذو لسان، وكِفّتين، والله تعالى يجعل الأعمال كالأعيان موزونة، أو يوزن صحف الأعمال، أو العباد أنفسهم، أو ثواب أعمالهم، والحقّ أن الكلّ يوزن؛ لأن النصوص وردت بكلّ ذلك، ذكره في "العمدة"
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "خفيفتان" فيه إشارة إلى قلة كلامهما، وأحرفهما، ورشاقتهما، قال الطيبيّ: الخفة مستعارة للسهولة، وشبّه سهولة جريانها على اللسان بما خف على الحامل من بعض الأمتعة، فلا تتعبه، كالشيء الثقيل، وفيه إشارة إلى أن سائر التكاليف صعبة شاقّة على النفس ثقيلة، وهذه سهلة عليها، مع أنها تُثَقّل الميزان، كثقل الشاقّ من التكاليف.
وقد سئل بعض السلف عن سبب ثقل الحسنة، وخفة السيئة، فقال: لأن الحسنة حضرت مرارتها، وغابت حلاوتها، فثقلت، فلا يحملنّك ثقلها على تَرْكها، والسيئة حضرت حلاوتها، وغابت مرارتها، فلذلك خَفّت، فلا يحملنّك خفتها على ارتكابها. انتهى
(2)
.
(حَبِيبَتَانِ)؛ أي: محبوبتان؛ والمعنى: محبوبٌ قائلهما، ومحبة الله للعبد تقدّم أنه حقيقة على ما يليق بجلاله.
قال الكرمانيّ رحمه الله
(3)
: فإن قيل: فَعِيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولا سيما إذا كان موصوفه معه، فَلِمَ عَدل عن التذكير إلى التأنيث؟.
فالجواب: أن ذلك جائز، لا واجب، وأيضًا فهو في المفرد، لا المثنى. سلّمنا، لكن أنّث لمناسبة الثقيلتين والخفيفتين، أو لأنها بمعنى الفاعل، لا المفعول، والتاء لنقل اللفظة من الوصفية إلى الاسمية، وقد يُطلق على ما لم يقع، لكنه متوقع، كمن يقول: خذ ذبيحتك للشاة التي لم تُذْبَح، فإذا وقع عليها
(1)
"عمدة القاري" 23/ 26.
(2)
"الفتح" 17/ 632.
(3)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 25/ 249 - 250.
الفعل فهي ذبيح حقيقةً. انتهى
(1)
.
(إِلَى الرَّحْمَنِ) إنما خصّ لفظ "الرحمن" من بين سائر الأسماء الحسنى؛ لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله تعالى على عباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الجزيل، وقال العينيّ رحمه الله: يجوز أن يقال: اختصاص ذلك لإقامة السجع؛ أعني: الفواصل، وهي من محسِّنات الكلام، على ما عُرف في علم البديع، وإنما نُهي عن سجع الكهان؛ لكونه متضفنًا للباطل. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": وفي هذه الألفاظ الثلاثة سجع مستعذب، وقد ورد النهي عنه، وهو محمول على ما كان متكلَّفًا، أو متضمِّنًا لباطل، لا ما جاء عَفْوًا، عن غير قصد إليه. انتهى
(3)
.
(سُبْحَانَ اللهِ) قد تقدّم أنه لازَم النصب بإضمار الفعل، و"سبحان" عَلَم للتسبيح، كعثمان علم للرجل، والعَلَم على نوعين: علم شخصيّ، وعلم جنسيّ، ثم إنه يكون تارةً للعين، وتارة للمعنى، فهذا من العَلَم الجنسي الذي للمعنى، قيل: لفظ "سبحان" واجب الإضافة، فكيف الجمع بين العَلَمية والإضافة؟
وأجيب: بأنه يُنَكَّر، ثم يضاف، كما قال الشاعر [من الطويل]:
عَلَا زَيْدُنَا يَوْمَ النَّقَا رَأْسَ زَيْدِكُمْ
…
بِأَبْيَضَ مَاضِي الشَّفْرَتَيْنِ يَمَانِ
ووجه تكرير "سبحان الله": الإشعار بتنزيهه على الإطلاق، ثم إن التسبيح ليس إلا ملتبسًا بالحمد؛ ليُعلم ثبوت الكمال له نفيًا وإثباتًا جميعًا
(4)
.
(وَبِحَمْدِهِ) قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبّح الله متلبسًا بحمدي له، من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبّح الله، وأتلبّس بحمده. ويَحْتَمِل أن يكون الحمد مضافًا للفاعل، والمراد من الحمد: لازِمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه.
وَيَحْتَمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم، والتقدير: وأثني عليه
(1)
"الفتح" 17/ 631 - 632.
(2)
"عمدة القاري" 23/ 26.
(3)
"الفتح" 17/ 631 - 632.
(4)
"عمدة القاري" 23/ 26.
بحمده، فيكون "سبحان الله" جملة مستقلّة، و"بحمده" جملة أخرى.
[تنبيه]: قال في "الفتح": واتفقت الروايات عن محمد بن فضيل على ثبوت "وبحمده" إلا أن الإسماعيليّ قال بعد أن أخرجه من رواية زهير بن حرب، وأحمد بن عبدة، وأبي بكر بن أبي شيبة، والحسين بن عليّ بن الأسود، عنه: لم يقل أكثرهم: "وبحمده".
قال الحافظ: وقد ثبت من رواية زهير بن حرب عند الشيخين، وعند مسلم عن بقية من سمَّيت من شيوخه، والترمذيّ عن يوسف بن عيسى، والنسائيّ عن محمد بن آدم، وأحمد بن حرب، وابن ماجه عن عليّ بن محمد، وعليّ بن المنذر، وأبو عوانة عن محمد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحمسيّ، وابن حبان أيضًا من رواية محمد بن عبد الله بن نمير، كلهم عن محمد بن فضيل، كأنها سقطت من رواية أبي بكر، وأحمد بن عبدة، والحسين. انتهى
(1)
.
(سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ") قال الحافظ رحمه الله: هكذا عند الأكثر بتقديم "سبحان الله وبحمده" على "سبحان الله العظيم"، وتقدم
(2)
في "الدعوات" عن زهير بن حرب بتقديم "سبحان الله العظيم" على "سبحان الله وبحمده"، وكذا هو عند أحمد بن حنبل، عن محمد بن فضيل، وكذا عند جميع من سمَّيته قبلُ، قال: وقد وقع لي بعلوّ في "كتاب الدعاء" لمحمد بن فضيل، من رواية عليّ بن المنذر عنه، بثبوت "وبحمده" وتقديم "سبحان الله وبحمده". انتهى
(3)
.
[تنبيه]: قال الكرمانيّ رحمه الله: صفات الله وجودية؛ كالعلم، والقدرة، وهي صفات الإكرام، وعدمية، كلا شريك له، ولا مثل له، وهي صفات الجلال، فالتسبيح إشارة إلى صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام، وتَرْك التقييد مشعر بالتعميم؛ والمعنى: أنزهه عن جميع النقائص وأحمده بجميع الكمالات، قال: والنظم الطبيعيّ يقتضي تقديم التخلية على التحلية، فقدَّم التسبيح الدالّ على التخلي على التحميد الدالّ على التحلي، وقدّم لفظ "الله"؛ لأنه اسم الذات المقدسة الجامع لجميع الصفات، والأسماء الحسنى، ووَصَفه
(1)
"الفتح" 17/ 632 - 633.
(2)
أي: في "صحيح البخاريّ".
(3)
"الفتح" 17/ 632 - 633.
بالعظيم؛ لأنه الشامل لِسَلْب ما لا يليق به، وإثبات ما يليق به؛ إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل، ونحو ذلك، وكذا العلم بجميع المعلومات، والقدرة على جميع المقدورات، ونحو ذلك، وذَكَر التسبيح متلبسًا بالحمد؛ ليعلم ثبوت الكمال له نفيًا وإثباتًا، وكَرّره تأكيدًا، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة، نحو سبحان، وسَبِّحْ بلفظ الأمر، وسَبَّحَ بلفظ الماضي، ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تُدرَك بالعقل، بخلاف الكمالات، فإنها تقصر عن إدراك حقائقها، كما قال بعض المحققين: الحقائق الإلهية لا تُعرف إلا بطريق السلب، كما في العلم
(1)
، لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، وأما معرفة حقيقة علمه فلا سبيل إليه. انتهى
(2)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [10/ 6822](2694)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6406) و"الأيمان والنذور"(6682) و"التوحيد" 75631) وفي "خلق أفعال العباد"(1/ 64)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3467)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 207) وفي "عمل اليوم والليلة"(830)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3806)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 232)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 288 و 289)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(831 و 841)، و (أبو يعلى) في (مسنده" (6096)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1171)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(1/ 420) وفي "الأسماء والصفات"(ص 499) وفي "الاعتقاد"(1/ 211)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1264)، والله تعالى أعلم.
(1)
هكذا نسخة "الفتح"، ولعله: كما في العالم، والله تعالى أعلم.
(2)
"الفتح" 17/ 633 - 634.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان الترغيب، والتخفيف، والحثّ على الذِّكر المذكور؛ لمحبة الرحمن له، والخفة بالنسبة لِمَا يتعلق بالعمل، والثِّقَل بالنسبة لإظهار الثواب.
2 -
(ومنها): أنه جاء ترتيب هذا الحديث على أسلوب عظيم، وهو أن حُبّ الرب سبحانه وتعالى سابق، وذِكر العبد، وخفة الذكر على لسانه تالٍ، ثم بَيّن ما فيهما من الثواب العظيم النافع يوم القيامة.
3 -
(ومنها): الحثّ على إدامة هذا الذكر، وقد تقدم في فضل التسبيح:"من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه، وإن كانت مثل زَبَد البحر"، وإذا ثبت هذا في قول:"سبحان الله وبحمده" وحدها، فإذا انضمت إليها الكلمة الأخرى، فالذي يظهر أنها تفيد تحصيل الثواب الجزيل المناسب لها، كما أن من قال الكلمة الأولى، وليست له خطايا مثلًا، فإنه يحصل له من الثواب ما يوازن ذلك.
4 -
(ومنها): أن فيه إيرادَ الحكم المرغّب في فعله بلفظ الخبر؛ لأن المقصود من سياق هذا الحديث الأمر بملازمة الذكر المذكور.
5 -
(ومنها): أن من البديع المقابلةَ، والمناسبةَ، والموازنةَ في السجع؛ لأنه قال:"حبيبتان إلى الرحمن" ولم يقل: للرحمن؛ لموازنة قوله: "على اللسان"، وعَدَّى كلًّا من الثلاثة بما يليق به.
6 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى امتثال قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39]، وقد أخبر الله تعالى عن الملائكة في عِدّة آيات أنهم يسبّحون بحمد ربهم، وأخرج مسلم عن أبي ذرّ رضي الله عنه، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أيُّ الكلام أحب إلى الله؟ قال: "ما اصطفى الله لملائكته: سبحان ربي وبحمده، سبحان ربي وبحمده"، وفي لفظ له:"إن أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده"، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6823]
(2695) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أقولَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ").
قال الجامع عفا الله عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل ثلاثة أبواب.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ أَقُولَ: سُبْحَانَ الله، وَالْحَمْدُ لله، وَلَا إلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ") قال القرطبيّ رحمه الله: أي: من أن تكون له الدنيا بكلّيتها، فيَحْتَمِل أن يكون هذا على جهة الإغياء على طريقة العرب في ذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون معنى ذلك أن تلك الأذكار أحبّ إليه من أن تكون له الدنيا، فينفقها في سبيل الله، وفي أوجه البرّ، والخير، وإلا فالدنيا من حيث هي دنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وكذلك هي عند أنبيائه، وأهل معرفته، فكيف تكون أحبّ إليه من ذِكر أسماء الله تعالى وصفاته التي يحصل بها ذلك الثواب العظيم، والحظ الجزيل؟ انتهى
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله ما حاصله: إنما كانت أحبّ إليه؛ لأنها الباقيات الصالحات، وفيه أن الذكر أفضل من الصدقة، وبه أفتى السيوطيّ، قال: بل وأفضل من جميع العبادات، وتقدَّمه لذلك الغزاليّ، قال: ولذلك لم يرخّص في تَرْكه في حال من الأحوال. انتهى
(2)
.
وقال القاري رحمه الله: قوله: "أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس"؛ أي: من الدنيا وما فيها من الأموال وغيرها، كذا قيل، قال ابن حجر
(3)
: فـ "أحبّ" ليس على حقيقته؛ والمعنى: أنها أحب إليّ باعتبار ثوابها الكثير الباقي من الدنيا بأسرها، لزوالها وفنائها، وهذا نحو حديث:"ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها".
وقال ابن العربيّ: أطلق المفاضلة بين قول هذه الكلمات وبين ما طلعت
(1)
"المفهم" 7/ 22 - 23.
(2)
"فيض القدير" 5/ 256.
(3)
يعني: الهيتميّ الشافعيّ شارح "المشكاة".
عليه الشمس، ومن شَرْط المفاضلة استواء الشيئين في أصل المعنى، ثم يزيد أحدهما على الآخر.
وأجاب ابن بطال بأن معناه: أنها أحب إليه من كل شيء؛ لأنه لا شيء إلا الدنيا والآخرة، فأخرج الخبر من ذِكر الشيء بذكر الدنيا؛ إذ لا شيء سواها إلا الآخرة.
وأجاب ابن العربيّ بما حاصله: أن "أفعل" قد يراد به أصل الفعل، لا المفاضلة؛ كقوله تعالى:{خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، ولا مفاضلة بين الجنة والنار، أو الخطاب واقع على ما استقرّ في نفس أكثر الناس، فإنهم يعتقدون أن الدنيا لا شيء مثلها، وأنها المقصود، فأخبر بأنها عنده خير مما تظنون أنه لا شيء أفضل منه.
وقيل: يَحْتَمِل أن يكون المراد أن هذه الكلمات أحبّ إلِيّ من أن تكون لي الدنيا، فأتصدق بها.
والحاصل: أن الثواب المترتب على قول هذا الكلام أكثر من ثواب من تصدّق بجميع الدنيا، ويؤيده حديث:"لو أن رجلًا في حِجره دراهم يقسمها، وآخر يذكر الله كان الذاكر لله أفضل".
ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أحبّ إلِيّ من جَمْع الدنيا، واقتنائها، وكانت العرب تفتخر بجمع الأموال. انتهى
(1)
، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هما [10/ 6823](2695)، و (الترمذيّ) في "الدعوات "(3597)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 288)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 206 و 209) وفي "عمل اليوم والليلة"(835)، و (ابن حبّان)
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 5/ 209.
في "صحيحه"(834)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 423)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1277)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6824]
(2696) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِي بْنُ مُسْهِرٍ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى الْجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَب بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: عَلِّمْنِي كَلَامًا أَقَولُهُ، قَالَ:"قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ للهِ كثِيرًا، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ، إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ لِرَبِّي، فَمَا لِي؟ قَالَ:"قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي"، قَالَ مُوسَى: أَمَّا "عَافِني" فَأَنَا أَتَوَهَّمُ، وَمَا أَدْرِي، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِهِ قَوْلَ مُوسَى).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُوسَى الْجُهَنِيُّ) هو: موسى بن عبد الله، ويقال: ابن عبد الرحمن، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ، لم يصحّ أن القطان طعن فيه [6](ت 144)(م ت س ق) تقدم في "الحج" 91/ 3382.
[تنبيه]: قوله: "الْجُهَنِيُّ" بضمّ الجيم، وفتح الهاء: نسبة إلى جُهينة، وهي قبيلة من قُضاعة، واسمه: زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن إلحاف بن قُضاعة، نزلوا الكوفة والبصرة، قاله في "اللباب"
(1)
.
2 -
(مُصْعَبُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ، أبو زُرارة المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 103)(ع) تقدم في "الطهارة" 2/ 541.
3 -
(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقّاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق الصحابيّ الشهير، مات رضي الله عنه بالعقيق سنة خمس وخمسين، على المشهور (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 317.
والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب
(1)
.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين سوى مصعب، وأبيه، فمدنيّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو أحد السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم وفاةً، وأول من رَمَى بسهم في سبيل الله رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ)؛ أي: رجل من سُكّان البادية، ولا يعرف
(2)
. (إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) الأعرابيّ: (عَلِّمْني كَلَامًا)؛ أي: ذكرًا (أَقُولُهُ)؛ أي: أذكر الله به، وأدعو به لنفسي. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ) بدأ بالتوحيد لِشَرفه؛ لأنه مبدأ كل عبادة. (اللهُ أَكْبَرُ)؛ أي: من كل كبير، أو من أن يُحاط بكنه كبريائه، (كَبِيرًا) قال النوويّ رحمه الله: منصوب بفعل محذوف؛ أي: كبّرت كبيرًا، أو ذكرت كبيرًا. انتهى
(3)
، وزاد الطيبيّ رحمه الله فقال: ويجوز أن يكون حالًا مؤكّدةً، كقولك: زيدٌ أبوك عَطُوفًا. انتهى
(4)
.
قال الجامع عفا الله عنه: وإلى الحال المؤكّدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَعَامِلُ الْحَالِ بِهَا قَدْ أُكِّدَا
…
فِي نَحْوِ "لَا تَعْثُ فِي الأرْضِ مُفْسِدَا"
(وَالْحَمْدُ للهِ كَثِيرًا)؛ أي: حمدًا كثيرًا، (وَسُبْحَانَ اللهِ) وفي بعض النسخ:"سبحان الله" بحذف الواو، (رَبِّ الْعَالَمِينَ) المراد: جميع الخلائق، وإنما غلّب ذوي العلم؛ لِشَرفهم. (لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ، إِلَّا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ") قال القاري رحمه الله: وجاء في رواية البزّار بلفظ: "العليّ العظيم"، وهو المشهور على
(1)
أي: ما عدا عبد الله بن نُمير، فتقدّم قبل خمسة أبواب.
(2)
"تنبيه المعلم" ص 442.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 19 - 20.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1832.
الألسنة، وإن لم يَرِد في الصحيح
(1)
، وقال الطيبيّ رحمه الله: لم يرد في أكثر الروايات إلا عن الإمام أحمد بن حنبل، فإنه أردفها بقوله:"العليّ العظيم". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد صحّ الختم بـ "الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ"، كما هو عند مسلم هنا، وصحّ الختم أيضًا بـ "العليّ العظيم"، فقد أخرج ابن ماجه في "سننه" بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعارّ من الليل، فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم، ثم دعا: رب اغفر لي، غفر له. . ." الحديث.
وقد جمع بينهما ابن حبّان في "صحيحه" في حديث الباب، ولفظه:"قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم العزيز الحكيم"
(3)
.
والحاصل: أن الختم قد صحّ بهما، والله تعالى أعلم.
(قَالَ (الأعرابيّ: (فَهَؤُلَاءِ) الْجُمَل المذكورة (لِرَبِّي)؛ أي: ثناء، وحمد، وتمجيد لربيّ سبحانه وتعالى، (فَمَا لِي)؛ أي: فأيّ شيء من الدعاء لنفسي؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("قُلِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)؛ أي: استر سيّئاتي، وامح خطيئاتي، (وَارْحَمْنِي) بالتوفيق للطاعة في حركاتي، وسكناتي، (وَاهْدِنِي) لأحسن الأحوال، والأخلاق، قال ابن حبّان رحمه الله: كل ما في هذه الأخبار: "اللَّهُمَّ اهدني"، "اللَّهُمَّ إني أسألك الهدى"، وما يُشبهها من الألفاظ، إنما أريد بها: الثبات على الهدى، والزيادة فيه؛ إذ محال أن يدعو المؤمن بسؤال الهداية، وقد هداه الله
(4)
قبل ذلك. انتهى
(5)
.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 5/ 209.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1833.
(3)
"صحيح ابن حبان" 3/ 226.
(4)
وقع في النسخة: "أن يؤمن المؤمن بسؤال الزيادة"، والظاهر أنه تصحيف.
(5)
"صحيح ابن حبان" 3/ 226.
(وَارْزُقْني") رزقًا حلالًا طيّبًا مباركًا.
(قَالَ مُوسَى) الجهنيّ: (أَمَّا "عَافِني")؛ أي: لفظ "عافني"، ومعناه: عا فني من الابتلاء بما يضرّ في المآل، (فَأَنَا أذوَهَّمُ)؛ أي: أتردّد، وأشكّ هل قاله مصعب بن سعد في الحديث، أم لا؟، وقوله؛ (وَمَا أَدْرِي) تأكيد لـ "أتوهّم"؛ أي: لم أعلم ذلك علمًا يقينًا.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي حَدِيثِهِ قَوْلَ مُوسَى) غرضه بيان اخلاف شيخيه: أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير في ذكر قول موسى الجهني المذكور في توهّمه، فذكره ابن نمير، ولم يذكره ابن أبي شيبة، بل اقتصر بذكر الحديث دون ذكر توهّمه وتردّده، والله تعالى أعلم.
مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6824](2696)، و (أحمد) في مسنده" (1/ 180 و 185)، و (عبد بن حميد) في "مسنده" (136)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (768 و 796)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (946)، و (الشاشيّ) في "مسنده" (1/ 128)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء" (1/ 487)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6825]
(2697) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ - يَعْني: ابْنَ زَيادٍ - حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُ مَنْ أَسْلَمَ، يَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْني، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْني").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ) فضيل بن حسين البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) الْعَبْديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ) سعد بن طارق بن أشيم الكوفيّ، ثقةٌ [4] مات في حدود (140)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
[تنبيه]: قوله: "الأشجعيّ" بفتح الهمزة: نسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، قبيلة مشهورة، قاله في "اللباب"
(1)
.
4 -
(أَبُوهُ) طارق بن أشيم - بالشين المعجمة، وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعيّ، صحابيّ له أحاديث، قال مسلم: لم يرو عنه غير ابنه (بخ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنف رحمه الله كلاحقيه، وهو (421) من رباعيّات الكتاب، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، له أربعة أحاديث فقط
(2)
، ولم يرو له البخاريّ، ولا أبو داود، فتنبّه.
شرح الحديث:
عن سعد بن طارق أبي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ (عَنْ أَبِيهِ) طارق بن أشيم الأشجعيّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ) طارق رضي الله عنه: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلمُ مَنْ أَسْلَمَ)؛ أي: دخل في الإسلام، وفي الرواية التالية: "قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ، عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ
…
"، وقوله: (يَقُولُ) بحذف "أن" المصدريّة، ورَفْع الفعل، وتقدّم أنه جائز، وليس شاذًّا، فقد وقع في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} الآية [الروم: 24]، وإنما الشاذّ رَفْع الفعل مع حَذْف "أنْ"، كما قال في "الخلاصة":
وَشَذَّ حَذْفُ "أَنْ" وَنَصْبٌ فِي سِوَى
…
مَا مَرَّ فَاقْبَلْ مِنْهُ مَا عَدْلٌ رَوَى
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) ذنوبي (وَارْحَمْنِي) بالتوفيق، والتيسير، (وَاهْدِنِي) إلى صراطك المستقيم الموصل إلى رضاك العميم، والمراد به: ثبّتني؛ لأنه مسلم، (وَارْزُقْنِي")؛ أي: كل ما أحتاج إليه من الخيرات، من أولاد، وأموال، ونحوها، وفي الرواية التالية:"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي"، والله تعالى أعلم.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 205 - 206.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6825 و 6826 و 6827](2697)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(651)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3845)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 472 و 6/ 394)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 24)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(744 و 848)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 711)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(8/ 317)، والله تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[8626]
(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَزْهَرَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، عَنْ أَبِيه، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسلَمَ، عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِني، وَعَافِني، وَارْزُقْني").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ أَزْهَرَ الْوَاسِطِيُّ) هو: سعيد بن يحيى بن الأزهر بن نَجِيح، أبو عثمان، نُسب إلى جدّه، ثقةٌ [10](3 أو 244)(م ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 51/ 1518.
والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير.
[تنبيه]: هذا الإسناد من رباعيّات المصنّف رحمه الله كسابقه، ولاحقه، وهو (422) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) يَحْتَمل أن يدعو بها في صلاته، أو أعمّ من ذلك، والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[8627]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنْ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، كَيْفَ
أَقُولُ حِينَ أَسْأَلُ رَبِّي؟ قَالَ: "قُل: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْني، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي"، وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلَّا الإِبْهَامَ "فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ، وَآخِرَتَكَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ، أبو خالد الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف، كسابقيه.
وقوله: (وَيَجْمَعُ أَصَابِعَهُ إِلا الإبْهَامَ)؛ أي: إشارة إلى أن الكلمات أربع.
وقوله: (فَإِنَّ هَؤُلَاءِ تَجْمَعُ لَكَ دُنْيَاكَ، وَآخِرَتَكَ)؛ أي: أمور دنياك، وأمور آخرتك، قال بعضهم: حضور الذاكر عند نُطقه بشيء من الأسماء الإلهية لا بد منه، حتى يعرف من يُذكر؟، وكيف يَذكر؟ ومن يَذكر؟ والله خير الذاكرين، وقال بعضهم: يُشترط حضور القلب، وفراغه من الشواغل الدنيوية، والكدورات الجسمانية، وإلا فلا يلومنّ إلا نفسه. انتهى.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا هو الأكمل، والأنجح في المقاصد، وإلا فذكر الله تعالى مطلوب في كل حال، ولو لم يُحضر الذاكر قلبه، إلا أنه ينبغي إحضاره، والمجاهدة في ذلك، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)} [العنكبوت: 69].
والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[8628]
(2698) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ مُوسَى الْجُهَنِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُوسَى الْجُهَنِيُّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ "، فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ: "يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَو يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ").
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد تقدّم قبل ثلاثة أحاديث، غير مروان، وهو:
1 -
(مَرْوَانُ) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الْفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ودمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يدلس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقد في "الإيمان" 8/ 138.
شرح الحديث:
(عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ) أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبِي) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَيَعْجِزُ) بكسر الجيم على اللغة الفصحى، وتُفتح على قلّة، قال الفيّوميّ: عَجَزَ عن الشيءِ عَجْزًا، من باب ضرب، ومَعْجَزَةٌ بالهاء، وحَذْفها، ومع كل وجه فتح الجيم، وكسرها: ضَعُفَ عنه، وعَجِزَ عَجَزًا، من باب تَعِبَ لغة لبعض قيس عَيْلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد روى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابي أنه لا يقال: عَجِزَ الإنسان بالكسر، إلا إذا عَظُمَت عَجِيزَتُهُ. انتهى
(1)
.
(أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ) بكسر السين، من باب ضَرَب يَضْرِب
(2)
. (كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ ")؛ أي: لأن الحسنة بعشر أمثالها، كما وعد الله تعالى بذلك في قوله:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} ، ووعد أن يضاعف أكثر لمن يشاء، فقال:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]. (فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ) لم أعرف هذا السائل، (كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَو يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في عامة نُسخ "صحيح مسلم": "أو يحط" بـ "أو"، وفي بعضها:"ويحط" بالواو، وقال الحميديّ في "الجمع بين الصحيحين": كذا هو في كتاب مسلم: "أو يحط" بـ "أو"، وقال الْبَرْقانيّ: ورواه شعبة، وأبو عوانة، ويحيى القطان، عن يحيى الذي رواه مسلم من جهته، فقالوا:"ويحط" بالواو، والله أعلم. انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 393.
(2)
ومن هنا يتبيّن أن قولهم الآن: كَسِبَ - بكسر السين - في الماضي: من اللحن الشائع، فليُتنبّه.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 20.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أو يُحَطّ" كذا وقع هذا اللفظ في بعض النسخ بألِف قبل الواو، وفي بعضها بإسقاط الألِف، وهو صحيح روايةً ومعنًى؛ لأن الله قد جمع ذلك كلّه لقائل تلك الكلمات كما تقدم، ولو صحّت رواية الألِف لَحُملت على المذهب الكوفيّ في أن "أو" تكون بمعنى الواو. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما قالوا أن أكثر الرواة على الواو، ولا مانع من صحّة "أو"؛ لأنها تأتي بمعنى الواو، فيكون الحديث مفيدًا لحصول الفضيلتين، فيكتب له ألْف حسنة، ويحطّ له عنه ألْف خطيئة.
ثم المراد بالخطايا: هي الصغائر؛ لأن الكبائر لا تُحطّ إلا بالتوبة، أو عفو الله الكريم، ولكن لا يُستبعد أن يعفو الله عنها بسبب هذا الذكر، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6828](2698)، و (الترمذيّ) في "الدعوات "(3463)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 45) وفي "عمل اليوم والليلة"(152)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 294)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 174 و 180 و 185)، و (الحميديّ) في "مسنده"(80)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 76)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء، (1703)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (723)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (825)، و (البزّار) في "مسنده" (3/ 361)، و (الشاشيّ) في "مسنده" (1/ 129)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان" (1/ 423)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (1266)، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 7/ 24.
(11) - (بَابُ فَضْلِ الاجْتِمَاعِ عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى الذِّكْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6829]
(2699) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِي - وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى - قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ
(1)
كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ
(2)
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْد، مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيه، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الله، يَتْلُونَ كِتَابَ الله، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرعْ بِهِ نَسَبُهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، تقدّم في السند الماضي.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ الْهَمْدَانِيُّ) الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة، بلا واسطة، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قبل حديثين.
5 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.
(1)
وفي نسخة: "من مؤمن".
(2)
وفي نسخة: "ييسّر الله عليه".
6 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
7 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين إلى الأعمش، سوى يحيى، فنيسابوريّ، والباقيان مدنيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ) بتشديد الفاء؛ أي: فَرّج، قال الطيبيّ رحمه الله: يقال: نفّست عنه كَرْبه: إذا رفعته، وفرّجته عنه، مأخوذ من قولهم: أنت في نفَس: أي: سَعَة، كأن من كان في كربة وضيق سُدّ عنه مداخل الأنفاس، فإذا فُرّج عنه فُتحت المداخل، والمعنى هنا: من أزال، وأذهب
(1)
. (عَنْ مُؤْمِنٍ) وفي بعض النسخ: "من مؤمن"، والمراد: أيّ مؤمن، ولو كان فاسقًا؛ مراعاة لإيمانه
(2)
، وفي رواية ابن ماجه:"عن مسلم".
(كُرْبَةً) بضمّ الكاف، وسكون الراء: اسم مِن كَرَبه الأمر، من باب نصر: إذا شقّ عليه، وأهمّه، والجمع: كرب؛ أي: حزنًا، وعناءً، وشدّة، ولو حقيرة، قال القاري: وقال الطيبيّ: قوله: "كربة"؛ أي: غمًّا وشدّةً، نكّرها تقليلًا، وميّز بها بعد الإبهام، وبيّنها بقوله:"من كُرَب الدنيا"؛ للإيذان بتعظيم شأن التنفيس؛ يعني: أن أقلّه المختصّ بالدنيا يفيد هذه الفائدة، فكيف بالكثير المختصّ بالعقبى؟، فلذلك لم يقيّد هذه القرينة بما قيّده في القرينتين الأخيرتين من ذِكر الدنيا والآخرة معًا، ولأنهما تخصيص بعد التعميم؛ اهتمامًا بشأنهما. انتهى
(3)
. (مِنْ كُرَبِ) بضمّ الكاف، وفتح الراء، جمع كُربة، مثلُ غُرْفة وغُرَف،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 1/ 414.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
(الدُّنْيَا) الفانية المنقضية، و"من" تبعيضية، أو ابتدائية. (نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً)؛ أي: عظيمة، (مِنْ كُرَب يَوْم الْقِيَامَةِ)؛ أي: الباقية الغير المتناهية، فلا يَردُ أنه تعالى قال:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 165]، فإنه أعمّ من أن يكون في الكمية، أو الكيفية، ولمّا كان الخلق كلهم عيال الله، وتنفيس الكرب إحسان، فجازاه الله جزاء وفاقًا؛ لقوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]
(1)
.
(وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ)؛ أي: سَهّل على فقير، وهو يشمل المؤمن والكافر المعاهَد؛ أي: من كان له دَين على فقير، فسَهَّل عليه بإمهال، أو بترك بعضه، أو كله، وقال الطيبيّ: المعسر: من رَكِبه الدَّين، وتعسّر عليه قضاؤه، (يَسَّرَ اللهُ) وفي بعض النسخ:"يُيَسّر الله"، (عَلَيْهِ) بدل تيسيره على عبده مجازاةَ بجنسه، (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)؛ أي: في أمورهما. (وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا)؛ أي: في قبيحٍ يفعله، فلا يَفْضحه، أو كساه ثوبًا، قاله القاري، وقال غيره: أي: ستر بدنه باللباس، أو عيوبه بعدم الغيبة له، والذبّ عن معايبه، وهذا على من ليس معروفًا بالفساد، وأما المعروف به، فيُستحب أن تُرفع قصته إلى الوالي، ولو رآه في معصية، فينكرها بحسب القدرة، وإن عجز يرفعها إلى الحاكم؛ إذا لم يترتب عليه مفسدة، وأما جرح الرواة والشهود، وأمناء الصدقات، فواجب
(2)
.
(سَتَرَهُ اللهُ)؛ أي: سَتَر عيوبه، وقبيح عمله، وقال المظهر: يجوز أن يراد بالستر: الظاهر، وأن يراد: سَتْر من ارتكب ذنبًا، فلا يفضحه
(3)
. (فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ) الواو للاستئناف، وهو في عون العبد تذييل للكلام السابق. (مَا كَانَ الْعَبْدُ) "ما" مصدريّة ظرفيّة؛ أي: مدّةَ كون العبد مشغولًا في عون أخيه بأي وجهٍ كان، من جلب نفع، أو دفع ضرّ. (فِي عَوْنِ أَخِيهِ)؛ أي: مشغولًا بقضاء حاجة أخيه المسلم، وفيه إشارة إلى فضيلة عون الأخ على أموره، والمكافأة عليها بجنسها من العناية الإلهية، سواء كان بقلبه، أو بدنه، أو بهما؛ لدفع المضارّ، أو جلب المسارّ؛ إذ الكل عون.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 1/ 414.
(2)
راجع: "المرعاة" 1/ 308.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "والله في عون العبد" تذييل للسابق، لا سيّما على دفع المضرّة عن أخيه المسلم، وعلى جلب النفع له، ولذلك أخرجه من سياق الشرطية، وبنى الخبر على المبتدأ؛ ليقوى به الحكم، وخصّ العبد بالذكر تشريفًا له بنسبة العبديّة له، كما شرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، وكرّره، وقال:"في عون العبد"، ولم يقل: والله يعينه في كذا، كما قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]؛ أي: إن الله يوقع العون في العبد، ويجعله مكانًا له؛ مبالغة في الإعانة. انتهى
(1)
.
ولمّا فرغ من الحثّ على الشفقة على خَلْق الله تعالى أتبعه بما يُنبئ عن التعظيم لأمر الله تعالى؛ لأن العلم وسيلة إلى العمل، ومقدّمة له، ومن ثمّ ختمه بقوله:"ومن بطّأ به عمله"، فقال:
(وَمَنْ سَلَكَ)؛ أي: دخل، أو مشى (طَرِيقًا)؛ أي: قريبًا، أو بعيدًا، قيل: التنوين للتعميم؛ إذ النكرة في الإثبات قد تفيد العموم؛ أي: سببًا؛ أيّ سبب كان، من التعلّم، والتعليم، والتصنيف، والكدح فيه، ومفارقة الأوطان، والضرب في البلدان، والإنفاق فيه، وغير ذلك مما لا يُحصى كثرةً، وقال في "المرعاة":"ومن سلك طريقًا" حقيقيًّا حسّيًّا، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، أو معنويًّا، مثل حِفظ العلم، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهّم له، ونحو ذلك من الطرق المعنويّة التي يُتوصّل بها إلى العلم. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ومن سلك
…
إلخ"؛ أي: من مشى إلى تحصيل علم شرعيّ، قاصدًا به وجه الله تعالى، جازاه الله عليه بأن يوصله إلى الجنة مسلمًا مكرمًا.
وقوله (يَلْتَمِسُ فِيهِ)؛ أي: يطلب، والجملة حاليّة، أو صفة لـ "طريقًا". (عِلْمًا) نَكّره؛ ليشمل كل نوع من أنواع علوم الدِّين، قليله، أو كثيرة؛ إذا كان بنيّة القربة، والنفع، والانتفاع، وفيه استحباب الرحلة في طلب العلم، وقد
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
ذهب موسى إلى الخضر - عليهما الصلاة والسلام - وقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]،، ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد.
(سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ)؛ أي: بذلك السلوك، أو الطريق، أو الالتماس، أو العلم، والباء سببيّة. (طَرِيقًا) موصلًا، ومُنْهِيًا (إِلَى الْجَنَّةِ)؛ أي: يسهّل الله له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسّره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، أو يُيسّر الله له إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك، وقد يُيسّر الله لطالب العلم علومًا أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، أو يسهّل الله له طريق الجنة الحسيّ يوم القيامة، وهو الصراط، وما قبله، وما بعده من الأهوال، فييسّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به.
(وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ)؛ أي: مجمع (مِنْ بُيُوتِ اللهِ) بضمّ الباء، وتكسر، وإنما عدل عن المساجد إلى بيوت الله؛ ليشمل كل ما يبنى تقربًا إلى الله تعالى، من المساجد، والمدارس، والرُّبُط.
وقال القرطبيّ رحمه الله: بيوت الله هي المساجد، كما قال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]. انتهى، والأول أقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: (يَتْلُونَ) حال من "قوم"؛ لتخصيصه. (كِتَابَ اللهِ)؛ أي؛ القرآن الكريم، مع التدبّر فيما يتعلق بذات الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ومعرفة الحلال والحرام، وغير ذلك مما حواه الكتاب من عجائب الدنيا والآخرة.
(وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ) قيل: المراد بالتدارس: قراءة بعضهم على بعض تصحيحًا لألفاظه، أو كشفًا لمعانيه، والأظهر: إجراؤه على عمومه، فيشمل جميع ما يتعلّق بالقرآن، من التعليم، والتعلم، والتفسير، والتحقيق في مبانيه، والاستكشاف عن دقائق معانيه.
(إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ) يجوز فيه كسر الهاء، وضم الميم، وهو الأكثر، وضمهما، وكسرهما. (السَّكِينَةُ) قيل: المراد بالسكينة هنا: الرحمة، وهو الذي
اختاره القاضي عياض، قال النوويّ: وهو ضعيف؛ لِعَطْف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة، والوقار، وهو أحسن. انتهى
(1)
، وقيل: إنها شيء من مخلوقات الله تعالى، فيه طمأنينة، ورحمة، ومعه الملائكة، وقال القرطبيّ: هي إما السكون، والوقار، والخشوع، وإما الملائكة الذين يستمعون القرآن، سُمُّوا بذلك؛ لِمَا هم عليه من السكون والخشوع. انتهى
(2)
.
(وَغَشِيَتْهُمُ)؛ أي: أتتهم، وعَلَتهم، وغطّتهم (الرَّحْمَةُ)؛ أي: فتكفّر خطيئاتهم، وتُرفع درجاتهم، ويصلون إلى جنته وكرامته، (وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ)؛ أي: أحدقت ملائكة الرحمة، والبركة، وأحاطت بهم، أو طافت بهم، وداروا حولهم إلى سماء الدنيا، يستمعون القرآن، ودراستهم، ويحفظونهم من الآفات، ويزورونهم، ويصافحونهم، ويؤمّنون على دعائهم، (وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)؛ أي: في الملأ الأعلى، والطبقة العليا من الملائكة المقرّبين، ثم يَحْتَمل أن يكون هذا الذكر ذكر ثناء وتشريف، وَيَحْتَمل أن يكون ذكر مباهاة؛ أي: أن الله تعالى يباهي بهم الملائكة، يقول: انظروا إلى عبادي تركوا أشغالهم، وأقبلوا عليّ، يذكروني، ويقرؤون كتابي، كما ثبت ذلك فيمن يقف بعرفة.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وذِكر الله لعبده هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته، ومباهاته به، وتنويهه بذكره. قال الربيع بن أنس: إن الله ذاكر مَن ذكره، وزائد مَنْ شكره، ومعذِّب مَن كفره، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب: 41، 42]، وصلاة الله على عبده هي ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويهه بذكره، كذا قال أبو العالية، ذكره البخاريّ في "صحيحه". انتهى
(3)
.
(وَمَنْ بَطَّأَ) بتشديد الطاء، من التبطئة، ضدّ التعجل؛ كالإبطاء، والْبُطء، نقيض السرعة، وفي رواية ابن ماجه:"ومن أبطأ"، والباء في (ط) للتعدية؛ أي: من أخّره، وجعله بطيئًا عن بلوغ درجة السعادة. (عَمَلُهُ) السيئ في الآخرة، أو تفريطه للعمل الصالح في الدنيا، (لَمْ يُسْرعْ بِهِ) من الإسراع؛ أي:
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 21.
(2)
"المفهم" 6/ 687 - 688.
(3)
"جامع العلوم والحكم" 2/ 307.
لم يقدّمه (نَسَبُهُ")؛ أي: شَرَف نَسَبه؛ يعني: أنه لا يَجْبر نقصه كونه نسيبًا في قومه؛ إذ لا يحصل التقرب إلى الله تعالى بالنسب، بل بالأعمال الصالحة، والآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى، والعمل الصالح، قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن الآخرة لا ينفع فيها إلا تقوى الله تعالى، والعمل الصالح، لا الفخر الراجح، ولا النسب الواضح
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: من كان عمله ناقصًا لم يُلحقه نسبه بمرتبة أصحاب الأعمال، فينبغي أن لا يتّكل على شرف النسب، وفضيلة الآباء، ويقصّر في العمل. انتهى
(2)
.
[فإن قلت]: هذا ينافي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية [الطور: 21]، فإنه يدلّ على أن النسب ينفع.
[قلت]: هذه الآية فيمن تَبِع في الإيمان، ولكنه مقصّر في بعض الأعمال، فيُلحق بهم تكريمًا لهم، وأما الحديث فهو محمول على من اتبع هواه، فضلّ السبيل، فإنه لا ينفعه نسبه، ولا يُلحقه بآبائه. انتهى.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ومن بطّأ به عمله
…
إلخ " تذييل بمعنى التعظيم لأمر الله تعالى، فالواو فيه، وفي قوله: "والله في عون العبد" استئنافيّة، وبقيّة الواوات عاطفة، وأخرج الأخير مخرج الحصر خصوصًا بـ "ما"، و"إلا"؛ ليقطع الحكم به، ويكمل العناية بشأنه
(3)
، والله تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: ذكر أبو الفضل بن عمّار الحافظ علّة لهذا الحديث، فقال: هو حديث رواه الخلق عن الأعمش، عن أبي صالح، فلم يذكر الخبر في إسناده غير أبي أسامة، فإنه قال فيه: عن الأعمش، قال: حدّثنا أبو صالح، ورواه
(1)
"المفهم" 6/ 688.
(2)
"شرح مسلم" 17/ 22 - 23.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 665.
أسباط بن محمد عن الأعمش، عن بعض أصحابه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والأعمش كان صاحب تدليس، فربّما أخذ عن غير الثقات. انتهى كلام ابن عمار.
قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما أشار إليه ابن عمّار: أن هذا الحديث فيه انقطاع بسبب أن الأعمش مدلّس، فلعله أخذه عن غير ثقةٌ، فدلّسه.
ويجاب عن هذا بأمور:
أحدها: أن أبا أسامة صرّح عند مسلم بقول الأعمش: حدّثنا أبو صالح، وأبو أسامة من الحفّاظ المتقنين، كما هو مصرّح به في ترجمته في "التهذيب" وغيره.
الثاني: أن الاعتراض على رواية أبي أسامة برواية أسباط بن محمد ليس من عمل أهل الإنصاف، فإن أبا أسامة حافظ ثقة ثبت، وأما أسباط فمختلَف فيه، راجع ترجمته في "تهذيب التهذيب"
(1)
، فقد ضعّفه الكوفيّون، ولا سيّما في الثوريّ، قال الدوريّ عن ابن معين:. ليس به بأس، وكان يخطئ عن سفيان، وقال الغلابي عنه: ثقةٌ، والكوفيون يضعّفونه، وقال الْبَرْقيّ عنه: الكوفيون يضعّفونه، وهو عندنا ثَبْت فيما يروي عن مطرّف، والشيبانيّ، وقال العقيليّ: ربما يهم في الشيء، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ صدوقًا، إلا أن فيه بعض الضعف. من "تهذيب التهذيب" انتهى باختصار.
فمن كان مثل هذا كيف يضعف به مثل أبي أسامة الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: أبو أسامة أثبت من مائة مثل أبي عاصم
(2)
؟ كان صحيح الكتاب، ضابطًا للحديث، كَيّسًا صدوقًا، وقال أيضًا: كان ثبتًا، ما كان أثبته، لا يكاد يخطئ، وقال ابن سعد: كان ثقةٌ مأمونًا، كثير الحديث يدلس، ويبيّن تدليسه، وكان صاحب سُنَّة وجماعة، وقال العجليّ كان ثقةٌ، وكان يُعَدّ من
(1)
"تهذيب التهذيب" 1/ 185.
(2)
تأمل هذه العبارة، فإنها من أرفع التوثيق، فإن أبا عاصم النبيل إمام حجة، ومع ذلك فضّل الإمام أحمد أبا أسامة عليه، فتبصّر.
حكماء أصحاب الحديث. انتهى من "التهذيب" أيضًا باختصار
(1)
.
والحاصل: أن مخالفة أسباط لأبي أسامة لا قيمة لها، ولا وزن عند من أنصف، وسلك سبيل النقد الصحيح، فتأمل بالإمعان، والله تعالى وليّ التوفيق.
الثالث: أن مسلمًا أخرجه هنا، وهو من أعلم الناس بالعلل، وهو يعلم تدليس الأعمش، وأزال التهمة عنه بذكر الطريق الثاني المصرّح بالتحديث تأكيدًا لعدم تدليسه؛ لأن أبا أسامة ثقة ثبتٌ حجة، فتصريحه بالتحديث زيادة مقبولة لا شكّ فيها، كما هو رأي مسلم رحمه الله.
الرابع: أن تدليس الأعمش خاصّ بمن أقلّ عنهم الرواية من شيوخه، وأما الذين أكثرَ عنهم الرواية فلا يدلّس عنهم، ومنهم أبو صالح السّمّان، شيخه في هذا السند، وقد صرَّح بهذه القاعدة الحافظ الذهبيّ رحمه الله في "الميزان"، ومن هو الذهبيّ؟، هو الذهب النضير، والناقد البصير، والمحقّق الخبير، ودونك نصّه:"ومتى قال: "عن" تطرّق إليه احتمال التدليس إلا في شيوخ أكثرَ عنهم؛ كإبراهيم، وأبي وائل، وأبي صالح السمّان، فإن روايته عن هذا المصنف محمولة على الاتصال". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق من الحجج أن هذا الحديث صحيح، لا غبار في صحّته، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، والله تعالى وليّ التوفيق.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6829 و 6830](2699)، و (أبو داود) في "الأدب"(3643 و 4946)، و (الترمذيّ) في "الحدود"(1425) و"البرّ والصلة"(1931) و"القراءات"(2946)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(225) و"الحدود"(2572)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 85 - 86)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 252 و 274 و 325 و 406 و 500 و 514 و 522)، و (الدارميّ) في "سننه"(351)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(534 و 5045)، و (أبو نعيم) في "الحلية"
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 3 - 4.
(2)
"ميزان الاعتدال" 2/ 224.
(8/ 119)، و (القُضاعيّ) في "مسند الشهاب"(458)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(127). والله تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن هذا الحديث حديث عظيم، جامع لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب.
2 -
(ومنها): بيان فضل التنفيس عن المسلم، والحثّ عليه.
3 -
(ومنها): بيان فضل الستر على المسلم، وعدم كشف معايبه، وهذا مخصوص بمن كان مستقيمًا، وأما الفاسق المنتهك لحرمات الله عز وجل فلا يُستر عليه، بل يجب ردعه عن جرائمه بحسب ما يقتضيه الحال.
4 -
(ومنها): بيان فضل العلماء، والحثّ على العلم.
4 -
(ومنها): بيان فضل إنظار المعسر، والتخفيف عنه.
5 -
(ومنها): بيان فضل قيام العبد بعون أخيه المسلم، وقضاء حوائجه، ونَفْعه بما تيسّر، من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك.
6 -
(ومنها): فضل المشي في طلب العلم، والمراد به: العلم الشرعيّ، علم الكتاب والسُّنَّة، لا العلم المتعلّق بامور الدنيا، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُبعث له، فقد أخرج مسلم عن أنس رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بقوم يُلَقِّحون، فقال:"لو لم تفعلوا لصلح"، قال: فخرج شِيصًا، فمرّ بهم، فقال:"ما لنخلكم؟ " قالوا: قلت كذا وكذا، قال:"أنتم أعلم بأمر دنياكم".
ومما يتعيّن على طالب العلم أن يقصد به وجه تعالى، وهو وإن كان شرطًا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيّدون هذه المسألة به؛ لكونه قد يَتساهل فيه بعض الناس، ويغفُل عنه بعض المبتدئين ونحوهم، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
7 -
(ومنها): بيان استحباب الرحلة في طلب العلم، وقد ذهب موسى عليه السلام في طلب الخضر عليه السلام لذلك، فقال له: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 21.
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]، ورحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس رضي الله عنهم مسيرة شهر في حديث واحد، كما علّقه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" في "باب الخروج في طلب العلم"، وأخرج قصة موسى والخضر عليه السلام في ذلك الباب.
قال القرطبيّ رحمه الله: الحديث فيه الحضّ والترغيب في الرحلة في طلب العلم، والاجتهاد في تحصيله، وقد ذكر أبو داود هذا الحديث من حديث أبي الدرداء، وزاد زيادات حسنة، فقال: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لَتَضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا، ولا درهمًا، ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وهذا حديث عظيم يدلّ على أن طلب العلم أفضل الأعمال، وأنه لا يبلغ أحد رتبة العلماء، وإن رتبتهم ثانية عن رتبة الأنبياء.
وقوله: "إن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم": قيل: معناه: تخضع له، وتعظّمه، وقيل: تبسطها له بالدعاء؛ لأنَّ جناح الطائر يده.
وقوله: "وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض"؛ يعني بـ "من" هنا: من يعقل، وما لا يعقل، غير أنه غلب عليه من يعقل، بدليل أن هذا الكلام قد جاء في غير كتاب أبي داود، فقال:"حتى النملة في جُحرها، وحتى الحوت في جوف الماء"، وعلى هذا المعنى يدلّ - من حديث أبي داود هذا - عَطْف الحيتان بالواو على "من في السماوات، ومن في الأرض"، فإنَّه يفيد أن من يعقل، وما لا يعقل يستغفر للعالم، فأمَّا استغفار من يعقل فواضح، فإنَّه دعاء بالمغفرة، وأما استغفار ما لا يعقل، فهو - والله أعلم - أن الله يغفر له، ويأجره بعدد كل شيء لَحِقه أثرٌ من علم العالم.
وبيان ذلك: أن العالم يبيّن حكم الله تعالى في السماوات وفي الأرض، وفي كل ما فيهما، وما بينهما، فيغفر له ذنبه، ويعظم له أجره بحسب ذلك.
ويَحْتَمِل أن يكون ذلك على جهة الإغياء، والأوّل أَولى، والله تعالى أعلم.
وقوله: "إن فضل العالم على العابد، كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب": هذه المفاضلة لا تصحّ حتى يكون كل واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل، فإنَّ العابد لو ترك شيئًا من الواجبات، أو عَمِله على جهل لم يستحقّ اسم العابد، ولا تصحّ له عبادة، والعالم لو ترك شيئًا من الواجبات لكان مذمومًا، ولم يستحقّ اسم العالم، فإذًا محل التفضيل إنما هو في النوافل، فالعابد يستعمل أزمانه في النوافل من الصلاة، والصوم، والذكر، وغير ذلك، والعالم يستعمل أزمانه في طلب العلم، وحِفظه، وتقييده، وتعليمه، فهذا هو الذي شئهه بالبدر؛ لأنَّه قد كَمُل في نفسه، واستضاء به كل شيء في العالم، من حيث إن علمه تعدّى لغيره، وليس كذلك العابد، فإنَّ غايته أن ينتفع في نفسه، ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يُظهر نفسه.
وقوله: "وإن العلماء ورثة الأنبياء" إنما خصّ العلماء بالوراثة، وإن كان العبّاد أيضًا قد ورثوا العلم بما صاروا به عبّادًا؛ لأنَّ العلماء هم الذين نابوا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حَمْلهم العلم عنه، وتبليغهم إياه لأمته، وإرشادهم لهم، وهدايتهم.
وبالجملة فالعلماء هم العالمون بمصالح الأمة بعده، الذابّون عن سُنَّته، الحافظون لشريعته، فهؤلاء الأحقّ بالوراثة، والأولى بالنيابة والخلافة، وأما العبّاد فلم يُطلق عليهم اسم الوراثة؛ لقصور نفعهم، وقلّة حظهم.
وقوله: "إن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا"؛ يعني: أنهم - صلوات الله عليهم - كان الغالب عليهم الزهد، فلا يتركون ما يورَث عنهم، ومن ترك منهم شيئًا، يصحّ أن يورَث عنه تصدّق به قبل موته، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم حين قال:"لا نورَث، ما تركنا صدقة"، متّفقٌ عليه.
وقوله: "فمن أخذه أخذ بحظ وافر"؛ أي: بحظ عظيم، لا شيء أعظم منه، ولا أفضل، كما ذكرناه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث نفيش، والله تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 6/ 685 - 687.
8 -
(ومنها): بيان فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، قال النوويّ رحمه الله: وهو مذهبنا، ومذهب الجمهور، وقال مالك: يكره، وتأوله بعض أصحابه، ويُلحق بالمسجد في تحصيل هذه الفضيلة: الاجتماع في مدرسة، ورِباط، ونحوهما - إن شاء الله تعالى -، ويدلّ عليه إطلاقه في رواية لمسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما بلفظ:"لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة. . ." الحديث، فإنه مطلق يتناول جميع المواضع، ويكون التقييد في الحديث الأول خرج مخرج الغالب، لا سيما في ذلك الزمان، فلا يكون له مفهوم يُعمل به، قاله النوويّ رحمه الله
(1)
.
9 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه ما يدلّ على جواز تعليم القرآن في المساجد، أما للكبار الذين يتحفّظون بالمسجد فلا إشكال فيه، ولا يُختلف فيه، وأما الصغار الذين لا يتحفّظون بالمساجد، فلا يجوز؛ لأنه تعريض للمسجد للقذر والعبث، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"جنّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم"
(2)
.
قال الجامع عفا الله عنه: هذا الحديث ضعيف، فلا يصلح حجةً للمسألة، والله تعالى أعلم.
قال: وقد تمسّك بهذا الحديث من يُجيز قراءة القرآن على لسان واحد، كما يُفعل عندنا بالمغرب، وقد كره بعض علمائنا ذلك، ورأوا أنها بدعة؛ إذ لم تكن كذلك قراءة السلف، وإنما الحديث محمول على أن كل واحد يدرس
(1)
"شرح مسلم" 17/ 21 - 22.
(2)
هذا أخرجه المصنّف برقم (750) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، وشراءكم، وبيعكم، وخصوماتكم، ورَفْع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسَلَّ سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجَمِّروها في الجُمَع"، وهو ضعيف؛ لأن في سنده الحارث بن نبهان، متروك، وشيخه ضعيف.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنّفه" 17261)، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 2/ 26 وقال: رواه الطبرانيّ في "الكبير"، ومكحول لم يسمع من معاذ. انتهى.
والحاصل أن الحديث ضعيف.
لنفسه، أو مع من يُصلح عليه، وليستعين به. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا الله عنه: القول بالكراهة هو الصواب؛ لأن ذلك ليس من هدي السلف، بل هو مما أحدثه الناس في الأزمان المتأخّرة، والله تعالى المستعان.
10 -
(ومنها): أن العبرة بالأعمال الصالحات، لا بالنسب الشريف، ولذا ترى أكثر العلماء من السلف والخلف لا أنساب لهم يتفاخرون بها، بل كثير منهم من الموالي، ومع ذلك هم سادات الأمة، وينابيع الحكمة، وذو النسب الشريف الذي لم يتّبع الهدى صار نِسْيًا منسيًّا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين"، رواه مسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]، قال:"يا معشر قريش اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا"، متّفقٌ عليه.
ولبعضهم شعرً [أمن البسيط]:
مَا بَالُ نَفْسِكَ أَنْ تَرْضَى تُدَنِّسُهَا
…
وَثَوْبُ جِسْمِكَ مَغْسُولٌ مِنَ الدَّنِس
تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا
…
إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ
(2)
وقال آخر [من الطويل]:
عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ
…
وَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ
فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
…
وَقَدْ وَضَعَ الْكُفْرُ الشَّرِيفَ أَبَا لَهَبْ
ولآخر [من الكامل]:
إِنَّا وَإِنْ كَرُمَتْ أَوَائِلُنَا
…
لَسْنَا عَلَى الأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا
…
تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلُوا
ولآخر:
(1)
"المفهم" 6/ 687.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 1/ 414 - 416.
كُنِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِبْ أَدَبًا
…
يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ
إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَا أَنَا ذَا
…
لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي
والله تعالى أعلم.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث، وأفاد، فأحببت إيراده هنا، وإن كان مطوّلًا؛ تكميلًا للفوائد، ونشرًا للعوائد؛ لأن كتابي هذا موضوع للتوسّع في جمع الفوائد العلميّة؛ تقريبًا لها إلى محبي السُّنَّة، فأذكرها في مسائل مكمّلة لِمَا سبق من المسائل، فأقول:
(المسألة الرابعة): قال رحمه الله بعد أن ساق المتن: هذا الحديث خرّجه مسلم من رواية الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، واعتَرَض عليه غير واحد من الحفاظ في تخريجه، منهم الفضل الهرويّ، والدارقطنيّ، فإن أسباط بن محمد رواه عن الأعمش، قال: حدّثنا عن أبي صالح، فتبيَّن أن الأعمش لم يسمعه من أبي صالح، ولم يذكر من حدثه عنه، ورجّح الترمذيّ وغيره هذه الرواية.
قال الجامع عفا الله عنه: قد أسلفت لك الردّ على هذا الاعتراض، وأن الصواب مع مسلم، وأن الحديث صحيح، دون شكّ، وذلك في التنبيه الذي بعد المسألة الأولى، فارجع إليه تستفد علمًا، وبالله التوفيق.
قال: وزاد بعض أصحاب الأعمش في متن الحديث: "ومن أقال لله مسلمًا أقال الله عَثْرته يوم القيامة".
وخرّجاه في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"
(1)
.
وخرّج الطبراني من حديث كعب بن عُجرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من نفّس عن مؤمن كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على
(1)
متّفقٌ عليه.
مؤمن عورته ستر الله عورته، ومن فرّج عن مؤمن كربة فرَّج الله عنه كربته"
(1)
.
وخرّج الإمام أحمد من حديث مسلمة بن مُخَلَّد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن نَجَّى مكروبًا فكّ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته"
(2)
. انتهى.
(المسألة الخامسة): قوله صلى الله عليه وسلم: "من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة".
هذا يرجع إلى أن الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النصوص بهذا المعنى، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إنما يرحم الله من عباده الرحماء"
(3)
، وقوله:"إن الله يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا"
(4)
.
و"الكربة": هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكَرْب، وتنفيسها أن يُخفَّف عنه منها، مأخوذ من تنفّس الخِناق، كأنه يرخي له الخناق، حتى يأخذ نَفَسًا، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته، ويزول همّه وغمّه، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، كما في حديث ابن عمر، وقد جُمع بينهما في حديث كعب بن عُجرة.
وخرّج الترمذيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ مرفوعًا: "أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقَى مؤمنًا على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمنًا على عُرْيٍ كساه الله من خُضْر الجنة"، وخرّجه الإمام أحمد بالشكّ في رَفْعه، وقيل: إن الصحيح وَقْفه.
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود قال: "يُحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، وأنصب
(1)
في سنده ليث بن أبي سُليم: ضعيف، وشعيب الأنماطيّ: مجهول، كما قال الهيثميّ في "المجمع " 8/ 193.
(2)
رواه أحمد 4/ 104، وفي سنده: عنعنة ابن جريج.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه مسلم.
ما كانوا قط، فمن كسا لله كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقَى لله سقاه الله، ومن عفى لله أعفاه الله".
وخرّج البيهقيّ من حديث أنس مرفوعًا: "أن رجلًا من أهل الجنة يُشرف يوم القيامة على أهل النار، فيناديه رجل من أهل النار: يا فلان، هل تعرفني؟ فيقول: لا والله، ما أعرفك، من أنت؟ فيقول: أنا الذي مررتَ بي في دار الدنيا، فاستسقيتني شَرْبة من ماء، فسقيتك، قال: قد عرفت، قال: فاشفع لي بها عند ربك، قال: فيسأل الله تعالى، فيقول: شَفِّعني فيه، فيأمر به، فيخرجه من النار"
(1)
.
وقوله: "كربة من كرب يوم القيامة" ولم يقل: من كرب الدنيا والآخرة، كما قيل في التيسير والستر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إن الكُرَب هي الشدائد العظيمة، وليس كل أحد يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة إلى السَّتر، فإن أحدًا لا يكاد يخلو من ذلك، ولو بتعسّر الحاجات المهمة، وقيل: لأن كُرَب الدنيا بالنسبة إلى كُرَب الآخرة كلا شيء، فلذا ادّخر الله جزاء تنفيس الكرب عنده؛ لينفّس به كرب الآخرة، ويدلّ على ذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيُسمعهم الداعي، وَيَنفُدهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الكَرْب والغم ما لا يطيقون، ولا يحتملون، فيقول الناس بعضهم لبعض: ألا ترون ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم عند ربكم. . ." وذكر حديث الشفاعة، خرّجاه بمعناه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وخرّجاه من حديث عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تُحشرون حُفاة عُراة غُرْلًا، قالت: فقلت: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم بعضًا؟ فقال: الأمر أشدّ من أن يُهِمَّهم ذلك".
وخرّجاه من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6]، قال:"يقوم أحدهم في الرَّشْح إلى أنصاف أذنيه".
(1)
رواه أبو يعلى (3490) وفي سنده علي بن أبي سارة: متروك، راجع:"المجمع" 10/ 382.
وخرّجاه من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "يَعْرَق الناس يوم القيامة، حتى يذهب عَرَقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويُلْجمهم حتى يبلغ آذانهم"، ولفظه للبخاريّ، ولفظ مسلم:"إن العرق ليذهب في الأرض سبعين ذراعًا، وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم".
وخرّج مسلم من حديث المقداد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "تدنو الشمس من العباد، حتى تكون قدر ميل، أو ميلين، فتَصْهَرهم الشمس، فيكونون في العرق قَدْر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حِقْويه، ومنهم من يُلجمه إلجامًا".
وقال ابن مسعود: الأرض كلها يوم القيامة نار، والجنة من ورائها، ترى أكوابها، وكواعبها، فيعرق الرجل حتى يرشح عرقه في الأرض قدر قامة، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه، وما مسَّه الحساب، قال: فمم ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: مما يرى الناس ما يُصنع بهم.
وقال أبو موسى: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، فأعمالهم تظلهم، أو تُضحيهم
(1)
.
وفي "المسند" من حديث عقبة بن عامر، مرفوعًا: "كل امرئ في ظل صدقته، حتى يُفصل بين الناس
(2)
.
(المسألة السادسة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يسَّر على مُعْسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة": وهذا أيضًا يدلّ على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وَصَف الله يوم القيامة بأنه عسير، وأنه على الكافرين غير يسير، فدلّ على أنه يسير على غيرهم، وقال:{وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26]، والتيسير على المعسر في الدنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إما بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب، كما قال تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، وتارةً بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم.
(1)
أي: تظهرهم، وتبرزهم.
(2)
رواه أحمد 4/ 147 - 148، وصححه ابن حبّان برقم (3310).
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوز الله عنه".
وفيهما عن حذيفة، وأبي مسعود الأنصاريّ، سمعا النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"مات رجل، فقيل له: بمَ غفر الله لك؟ فقال: كنت أبايع الناس، فأتجاوز عن الموسر، وأخفف عن المعسر".
وفي رواية: قال: "كنت أُنظر المعسر، وأتجوّز في السكة - أو قال: في النقد - فغُفر له".
وخرّجه مسلم من حديث أبي مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:"قال الله: نحن أحقّ بذلك منه، تجاوزوا عنه".
وخرّج أيضًا من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من سرّه أن ينجيه الله من كُرَب يوم القيامة، فلينفّس عن معسر، أو يضع عنه".
وخرّج أيضًا من حديث أبي الْيَسَر رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أنظر معسرًا، أو وضع عنه، أظله الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه".
وفي "المسند" عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أراد أن تستجاب دعوته، أو تُكشف كربته، فليفرج عن معسر"
(1)
.
(المسألة السابعة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة":
هذا مما تكاثرت النصوص بمعناه، وخرّج ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته، حتى يَفضحه بها في بيته"
(2)
.
وخرّج الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"من ستر على المؤمن عورته، ستره الله عز وجل يوم القيامة"
(3)
.
(1)
وفي سنده زيد العمّيّ، على ضَعفه لم يسمع من ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
في سنده مقال، كما قال البوصيريّ، إلا أنه صحيح بشواهد.
(3)
رواه أحمد 4/ 159، وفي سنده انقطاع، كما قال الهيثميّ في "المجمع" 1/ 134، لكنه يصحّ بشواهد.
وقد رُوي عن بعض السلف أنه قال: أدركت قومًا لم يكن لهم عيوب، فذكروا عيوب الناس، فذكر الناس لهم عيوبًا، وأدركت قومًا كانت لهم عيوب، فكَفُّوا عن عيوب الناس، فنُسيت عيوبهم، أو كما قال.
وشاهِدُ هذا الحديث: حديث أبي برزة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم، تتبَّع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في بيته"
(1)
، خرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، وخرّج الترمذيّ معناه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(واعلم): أن الناس على ضربين:
أحدهما: من كان مستورًا لا يُعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز هتكها، ولا كشفها، ولا التحدث بها؛ لأن ذلك غِيبة محرّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النصوص، وفي ذلك قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19]، والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، واتُّهِم به، وهو بريء منه، كما في قضية الإفك.
قال بعض الوزراء الصالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأَولى الأمور سَتر العيوب، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا، وأقرّ بحدّ، ولم يُفَسِّره لم يُستفسَر، بل يؤمر بأن يرجع، ويستر نفسه، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ماعزًا، والغامدية، وكما لم يستفسر الذي قال: أصبت حدًّا، فأقمه عليّ، ومثل هذا لو أُخذ بجريمته، ولم يبلغ الإمام، فإنه يُشفع له، لا يبلغ الإمام، وفي مثله جاء في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، خرّجه أبو داود، والنسائيّ، من حديث عائشة رضي الله عنها
(2)
.
والثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي، مُعلنًا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن، وليس له غِيبة، كما نصّ على
(1)
صحيح بشواهده.
(2)
صححه ابن حبّان.
ذلك الحسن البصريّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره، لتقام عليه الحدود، وصرَّح بذلك بعض أصحابنا - يعني: الحنبليّة - واستَدَلّ بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "واغْدُ يا أُنيسُ على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"
(1)
. ومثل هذا لا يُشفع له إذا أُخذ، ولو لم يبلغ السلطان، بل يُترك حتى يقام عليه الحدّ" لينكَفّ شرّه، وَيَرتدع به أمثاله، قال مالك: من لم يُعرف منه أذى للناس، وإنما كانت منه زلّة، فلا بأس أن يُشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأما من عُرف بشرّ، أو فساد، فلا أُحِبّ أن يَشفع له أحد، ولكن يُترك حتى يقام عليه الحدّ، حكاه ابن المنذر وغيره.
وكَرِه الإمام أحمد رَفْع الفسّاق إلى السلطان بكل حال، وإنما كرهه؛ لأنهم غالبًا لا يقيمون الحدود على وجهها، ولهذا قال: إن علمتَ أنه يقيم عليه الحدّ فارفعه، ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا، فمات؛ يعني: أنه لم يكن قَتْله جائزًا.
ولو تاب أحدٌ من الضرب الأول كان الأفضل له أن يتوب فيما بينه وبين الله تعالى، ويستر على نفسه، وأما الضرب الثاني فقيل: إنه كذلك، وقيل: بل الأَولى له أن يأتي الإمام، ويقرّ على نفسه بما يوجب الحدّ حتى يطهّره.
قال الجامع عفا الله عنه: عندي الأَولى عدم الاعتراف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أشار على ماعز بالتراجع، فدلّ على أن الأَولى عدمه، بل يُحسن التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، والله تعالى أعلم.
(المسألة الثامنة): قوله: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما:"ومن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته"، وخرّج الطبرانيّ من حديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا:"أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن: كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت له حاجته"
(2)
.
(1)
متّفقٌ عليه.
(2)
ضعّفه الهيثميّ في "المجمع" بأن في سنده ضعيفين: محمد بن بشير الكنديّ، وكثير النوّاء، وحسّنه بعضهم. .
وبَعَث الحسن البصريّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل، وقال لهم: مُرّوا بثابت البنانيّ، فخذوه معكم، فأتَوْا ثابتًا، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن، فأخبروه، فقال: قولوا: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة؟، فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم.
وخرّج الإمام أحمد من حديث ابنة لخباب بن الأرتّ، قالت: خرج خباب في سرية، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتعاهدنا، حتى يحلُب عنزة لنا في جفنة لنا، فتمتلئ حتى تفيض، فلما قَدِم خباب حلبها، فعاد حلابها إلى ما كان.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يحلُب للحيّ أغنامهم، فلما استُخلف قالت جارية منهم: الآن لا يحلبها، فقال أبو بكر: بل وإني لأرجو أن لا يغيّرني ما دخلت فيه عن شيء كنت أفعله، أو كما قال.
وإنما كانوا يقومون بالحِلاب؛ لأن العرب كانت لا تحلب النساء منهم، وكانوا يستقبحون ذلك، وكان الرجال إذا غابوا احتاج النساء إلى من يحلب لهنّ.
وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال لقوم: "لا تسقوني حَلْب امرأة"
(1)
.
وكان عمر يتعاهد الأرامل، يستقي لهنّ الماء بالليل، ورآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فماذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا مذ كذا وكذا يتعاهدني، ياتيني بما يصلحني، ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعورات عمر تتبع؟
وكان أبو وائل يطوف على نساء الحيّ وعجائزهنّ كل يوم، فيشتري لهنّ حوائجهنّ، وما يصلحهن.
وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني.
وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم في السفر، وصحب رجل قومًا في الجهاد، فاشترط عليهم أن يخدمهم، وكان إذا أراد أحد
(1)
منكر.
منهم أن يغسل رأسه أو ثوبه، قال: هذا من شَرْطي، فيفعله، فمات، فجرَّدوه للغُسل، فرأوا على يده مكتوبًا: من أهل الجنة، فنظروا، فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم.
وفي "الصحيحين" عن أنس قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم، ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلًا في يوم حارّ، أكثرُنا ظلًّا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده. قال: فسقط الصُّوّام، وقام المفطرون، وضربوا الأبنية، وسَقَوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ذهب المفطرون اليوم بالأجر".
ويروى عن رجل من أسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُتي بطعام في بعض أسفاره، فأكل منه، وأكل أصحابه، وقبض الأسلميّ يده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما لك؟ " فقال: إني صائم، قال:"فما حملك على ذلك؟ "، قال: كان معي ابناي يرحّلان لي، ويخدماني، فقال:"ما زال لهم الفضل عليك بعدُ".
وفي مراسيل أبي داود عن أبي قلابة؛ أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قَدِموا يُثنون على صاحب لهم خيرًا، قالوا: ما رأينا مثل فلان قط، ما كان في مسير إلا وكان في قراءة، ولا نزلنا منزلًا إلا كان في صلاة، قال:"فمن كان يكفيه ضيعته - حتى ذَكَر - من كان يَعلف جمله، أو دابته؟ " قالوا: نحن، قال:"فكلكم خير منه".
(المسألة التاسعة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن سلك طريقًا، يلتمس فيه علمًا، سهل الله له طريقًا إلى الجنة". وقد رَوَى هذا المعنى أيضًا أبو الدرداء رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وسلوكُ الطريق لالتماس العلم يَدخل فيه سلوك الطريق الحقيقيّ، وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويدخل فيه سلوك الطرق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم، مثل حِفظه، ومدارسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتفهم له، ونحو ذلك، من الطرق المعنوية التي يُتوصل بها إلى العلم.
وقوله: "سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة": قد يراد بذلك: أن الله يسهّل له العلم الذي طلبه، وسَلَك طريقه، وييسره عليه، فإن العلم طريق يوصل إلى الجنة، وهذا كقوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]،
وقال بعض السلف: هل من طالب علم، فيعان عليه؟ وقد يراد أيضًا: أن الله ييسر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه الله تعالى الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنة بذلك، وقد يُيسّر الله لطالب العلم علومًا أخرى ينتفع بها، وتكون موصلة إلى الجنة، كما قيل: من عَمِل بما عَلِم أورثه الله علم ما لم يعلم، وكما قيل: إن من ثواب الحسنة الحسنةَ بعدها، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى:{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76،]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} [محمد: 17]، وقد يدخل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنة الحسنى يوم القيامة، وهو الصراط، وما قبله، وما بعده من الأهوال، فييسر ذلك على طالب العلم؛ للانتفاع به، فان العلم يدلّ على الله من أقرب الطرُق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يُعَرِّج عنه، وصل إلى الله تعالى، وإلى الجنة من أقرب الطرق، وأسهلها، فسَهُلَت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة الله، وإلى الوصول إلى رضوانه، والفوز بقربه، ومجاورته في الآخرة، إلا بالعلم النافع، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهتدَى في ظلمات الجهل، والشُّبَه، والشكوك، ولهذا سَمَّى الله كتابه نورًا يُهتَدى به في الظلمات، وقال الله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} [المائدة: 15، 16].
ومَثَّل النبيّ صلى الله عليه وسلم حملة العلم الذي جاء به بالنجوم التي يُهتدَى بها في الظلمات، ففي "المسند" عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدَى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضلّ الهداة"
(1)
.
وما دام العلم باقيًا في الأرض، فالناس في هُدًى، وبقاء العلم ببقاء حَمَلَته، فإذا ذهب حملته، ومن يقوم به، وقع الناس في الضلال، كما في
(1)
في سنده: رشدين بن سعد: ضعيف.
"الصحيحين" عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يَبق عالمٌ اتخذ الناس رؤساء جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا، وأضلوا".
وذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا رَفْع العلم، فقيل له: كيف يذهب العلم، وقد قرأنا القرآن، وأقرأناه نساءنا، وأبناءنا؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هذه التوراة، والإنجيل، عند اليهود والنصارى، فماذا تغني عنهم؟ "، فسئل عبادة بن الصامت عن هذا الحديث، فقال: لو شئت لأخبرتك بأول علم يُرفع من الناس: الخشوع، وإنما قال عبادة هذا؛ لأن العلم قسمان:
أحدهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم باللَّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، المقتضية لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ومحبته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النافع، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أقوامًا يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب، فَرَسَخ فيه نفع.
وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللسان، فذاك حجة اللَّه على ابن آدم، كما في الحديث:"القرآن حجة لك، أو عليك"، وعِلم في القلب، فذاك العلم النافع.
والقسم الثاني: العلم الذي على اللسان، وهو حجة لك، أو عليك، فأول ما يُرفع من العلم: العلم النافع، وهو الباطن الذي يخالط القلوب، ويُصلحها، ويبقَى عِلم اللسان حجة، فيتهاون الناس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حَمَلَته، ولا غيرهم، ثم يذهب هذا العلم بذهاب حملته، فلا يبقَى إلا القرآن في المصاحف، وليس ثَمّ من يعلم معانيه، ولا حدوده، ولا أحكامه، ثم يُسرَى به في آخر الزمان، فلا يبقَى في المصاحف، ولا في القلوب منه شيء بالكلية، وبعد ذلك تقوم الساعة، كما قال صلى الله عليه وسلم:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وقال:"لا تقوم الساعة، وفي الأرض أحد يقول: اللَّه اللَّه".
(المسألة العاشرة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ما جلس قوم في بيت من بيوت اللَّه، يتلون كتاب اللَّه، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم اللَّه فيمن عنده".
هذا يدلّ على استحباب الجلوس في المساجد؛ لتلاوة القرآن، ومدارسته، وهذا إن حُمل على تعلم القرآن، وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه، وفي "صحيح البخاريّ" عن عثمان رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خيركم من تعلم القرآن، وعلّمه"، وقال أبو عبد الرحمن السُّلَميّ: فذلك الذي أقعدني في مقعدي هذا، وكان قد عَلَّم القرآن في زمن عثمان بن عفان، حتى بلغ الحجاج بن يوسف.
وإن حُمل على ما هو أعمّ من ذلك دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلقًا، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أحيانًا يامر من يقرأ القرآن؛ ليسمع قراءته، كما كان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ عليه، وقال:"إني أحب أن أسمعه من غيري"، متّفقٌ عليه.
وكان عمر رضي الله عنه يأمر من يقرأ عليه، وعلى أصحابه، وهم يستمعون، فتارةً يأمر أبا موسى، وتارة يأمر عقبة بن عامر.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: أيُّ العمل أفضل؟ قال: ذِكر اللَّه، وما جلس قوم في بيت من بيوت اللَّه يتعاطون فيه كتاب اللَّه فيما بينهم، ويتدارسونه، إلا أظلّتهم الملائكة باجنحتها، وكانوا أضياف اللَّه ما داموا على ذلك، حتى يخوضوا في حديث غيره. ورُوي مرفوعًا، والموقوف أصحّ.
ورَوَى يزيد الرّقَاشيّ عن أنس قال: كانوا إذا صَلَّوا الغداة قعدوا حِلَقًا حِلَقًا، يقرؤون القرآن، ويتعلمون الفرائض والسنن، ويذكرون اللَّه تعالى.
ورَوَى عطية، عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من قوم صَلَّوا صلاة الغداة، ثم قعدوا في مصلاهم، يتعاطون كتاب اللَّه، ويتدارسونه، إلا وُكِّل بهم ملائكة، يستغفرون لهم، حتى يخوضوا في حديث غيره".
وهذا يدلّ على استحباب الاجتماع بعد صلاة الغداة لمدارسة القرآن، ولكن عطية فيه ضَعف.
وقد رَوَى حرب الكرماني بإسناده عن الأوزاعيّ أنه سئل عن الدراسة بعد صلاة الصبح، فقال: أخبرني حسان بن عطية، أن أول من أحدثها في مسجد دمشق: هشام بن إسماعيل المخزوميّ في خلافة عبد الملك بن مروان، فأخذ الناس بذلك، وبإسناده عن سعيد بن عبد العزيز، وإبراهيم بن سليمان: أنهما
كانا يدرّسان القرآن بعد صلاة الصبح ببيروت، والأوزاعيّ في المسجد، لا يغيّر عليهم، وذكر حرب أنه رأى أهل دمشق، وأهل حمص، وأهل مكة، وأهل البصرة، يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح، ولكن أهل الشام يقرؤون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل البصرة، وأهل مكة يجتمعون، فيقرأ أحدهم عشر آيات، والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشر آيات، حتى يفرغوا، قال حرب: وكل ذلك حسن جميل.
وقد أنكر مالك على أهل الشام، وقال زيد بن عبيد الدمشقيّ: قال لي مالك بن أنس: بلغني أنكم تجلسون حِلَقًا تقرؤون، فأخبرته بما كان يفعل أصحابنا، فقال مالك: عندنا كان المهاجرون والأنصار ما نعرف هذا، قال: فقلت: هذا طريف، قال: وطريف رجل يقرأ، ويجتمع الناس حوله، فقال: هذا من غير رأينا، قال أبو مصعب، وإسحاق بن محمد الَرْويّ: سمعنا مالك بن أنس يقول: الاجتماع بكرة بعد صلاة الصبح لقراءة القرآن بدعة، ما كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا العلماء بعدهم على هذا، كانوا إذا صلوا يخلو كل بنفسه، ويمرأ، ويذكر اللَّه تعالى، ثم ينصرفون من غير أن يكلّم بعضهم بعضًا؛ اشتغالًا بذكر اللَّه، فهذه كلها مُحْدَثة.
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم تكن القراءة في المسجد من أمْر الناس القديم، وأول من أحدث في المسجد: الحَجَّاج بن يوسف، قال مالك: وأنا أكره ذلك الذي يُقرأ في المسجد في المصحف، وقد روى هذا كله أبو بكر النيسابوريّ في كتاب مناقب مالك رحمه الله.
واستَدَلّ الأكثرون على استحباب الاجتماع لمدارسة القرآن في الجملة بالأحاديث الدالة على استحباب الاجتماع للذكر، والقرآنُ أفضل أنواع الذكر، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن للَّه ملائكة يطوفون في الطرُق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون اللَّه تعالى، تنادوا: هَلُمُّوا إلى حاجتكم، فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم، وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قال: يقولون: يسبّحونك، ويكبّرونك، ويحمدونك، ويمجدونك. . . . " الحديث، وقد تقدّم قريبًا.
وفي "صحيح مسلم" عن معاوية رضي الله عنه؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة
من أصحابه، فقال:"ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر اللَّه ونحمده لِمَا هدانا للإسلام، ومنّ علينا به، فقال: آللَّه ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آللَّه ما أجلسنا إلا ذلك. . . " الحديث.
وخرّج الحاكم من حديث معاوية قال: كنت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يومًا، فدخل المسجد، فإذا هو بقوم في المسجد قعود، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما أقعدكم؟ " فقالوا: صلينا الصلاة المكتوبة، ثم قعدنا نتذاكر كتاب اللَّه عز وجل، وسُنَّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه إذا ذَكَر شيئًا تعاظَمَ ذِكره".
وفي المعنى أحاديث أُخَرُ متعددة، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن جزاء الذين يجلسون في بيت اللَّه يتدارسون كتاب اللَّه أربعة أشياء:
أحدها: تنزل السكينة عليهم، وفي "الصحيحين" عن البراء بن عازب قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس، فتغشته سحابة، فجعلت تدور، وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال:"تلك السكينة، تنزل للقرآن"، وفيهما أيضًا عن أبي سعيد، أن أُسيد بن حُضير بينما هو ليلة يقرأ في مِرْبده، إذ جالت فرسه، فقرأ، ثم جالت أخرى، فقرأ، ثم جالت أيضًا، قال أسيد: فخشيت أن تطأ يحيى -يعني: ابنه- قال: فقمت إليها، فإذا مثل الظُّلّة فوق رأسي، فيها أمثال السرُج، عَرَجت في الجوّ حتى ما أراها، فغدا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال:"تلك الملائكة كانت تسمع لك، ولو قرأت لأصبحت يراها الناس، ما تستتر منهم".
واللفظ لمسلم فيهما.
ورَوَى ابن المبارك عن يحيى بن أيوب، عن عبيد اللَّه بن زَحْر، عن سعد بن مسعود؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان في مجلس، فرفع بصره إلى السماء، ثم طأطأ بصره، ثم رفعه، فسئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:"إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون اللَّه تعالى -يعني: أهل مجلسٍ أَمامَهُ- فنزلت عليهم السكينة، تحملها الملائكة كالقبّة، فلما دنت منهم تكلم رجل منهم بباطل، فرُفعت عنهم"، وهذا مرسل.
والثاني: غَشَيان الرحمة، قال اللَّه تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
وخرّج الحاكم من حديث سلمان؛ أنه كان في عصابة، يذكرون اللَّه تعالى، فمَرّ بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما كنتم تقولون؟ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم، فأردت أن أشارككم فيها".
وخرّج البزار من حديث أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "إن للَّه سيّارة من الملائكة، يطلبون حِلَق الذكر، فإذا أتوا إليهم حَفّوا بهم، ثم بَعَثُوا رائدهم إلى السماء، إلى رب العزة تعالى، فيقولون: ربنا أتينا على عباد من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويصلّون على نبيّك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول اللَّه تعالى: غَشُّوهم برحمتي، فيقولون: ربنا إن فيهم فلانًا الخطّاء، إنما اعتنقهم اعتناقًا، فيقول تعالى: غَشُّوهم برحمتي، فهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"
(1)
.
والثالث: أن الملائكة تحُفّ بهم، وهذا مذكور في الأحاديث التي ذكرناها، وفي حديث أبي هريرة المتقدم:"فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا"، وفي رواية الإمام أحمد:"علا بعضهم على بعض، حتى يبلغوا العرش".
وقال خالد بن معدان، يرفع الحديث:"إن ملائكة في الهواء يسيحون بين السماء والأرض، يلتمسون الذكر، فإذا سمعوا قومًا يذكرون اللَّه تعالى، قالوا: رُويدًا -زادكم اللَّه- فينشرون أجنحتهم حولهم، حتى يصعد كل منهم إلى العرش".
خرَّجه الخلال في "كتاب السُّنَّة".
والرابع: أن اللَّه يذكرهم فيمن عنده، وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول اللَّه: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".
(1)
في إسناده ضعف، لكن الهيثميّ حسّنه في "المجمع" 10/ 18 ونصّه: رواه البزار من طريق زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميريّ، وكلاهما وُثّق على ضعفه، فعاد هذا إسناده حسن. انتهى.
وهذه الخصال الأربع لكل مجتمعِين على ذكر اللَّه تعالى، كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة، وأبي سعيد، كلاهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن لأهل ذكر اللَّه تعالى أربعًا: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتَحُفّ بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده"
(1)
.
وقد قال اللَّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وذِكر اللَّه لعبده هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته، ومباهاته به، وتنويهه بذكره.
قال الربيع بن أنس: إن اللَّه ذاكر مَن ذكره، وزائد مَن شكره، ومعذب مَن كَفَره، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 41 - 43]، وصلاة اللَّه على عبد هي ثناؤه عليه بين ملائكته، وتنويهه بذكره، كذا قال أبو العالية، ذكره البخاريّ في "صحيحه".
وقال رجل لأبي أُمامة: رأيت في المنام كأن الملائكة تصلي عليك، كلما دخلت، وكلما خرجت، وكلما قمت، وكلما جلست، فقال أبو أمامة: وأنتم لو شئتم صلّت عليكم الملائكة، ثم قرأ:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} ، خرّجه الحاكم.
(المسألة الحادية عشرة): قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه" معناه: أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة، كما قال تعالى:{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132]، فمن أبطأ به عمله أن يبلغ به المنازل العالية عند اللَّه تعالى، لم يسرع به نسبه، فيبلغه تلك الدرجات، فإن اللَّه تعالى رتَّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ
(1)
هو بهذا اللفظ رواه ابن أبي الدنيا، كما في "الدرّ المنثور" 1/ 363، قاله بعض المحققين، وأما لفظ مسلم، كما الحديث المذكور بعد هذا الحديث في هذا الباب:"لا يقعد قوم يذكرون اللَّه إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم اللَّه فيمن عنده".
فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} [المؤمنون: 101]، وقد أمر اللَّه تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال، كما قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 133 - 134]، وقال:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 57 - 61].
قال ابن مسعود: يأمر اللَّه بالصراط، فيُضرَب على جهنم، فيمرّ الناس على قَدْر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمرّ الريح، ثم كمرّ الطير، ثم كمرّ البهائم، حتى يمرّ الرجل سعيًا، وحتى يمرّ الرجل مشيًا، حتى يمرّ آخرهم يتلبّط على بطنه، فيقول: يا رب لِمَ أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أُبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك
(1)
.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من اللَّه شيئًا، يا صفية عمة النبيّ صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من اللَّه شيئًا، يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سليني ما شئت لا أغني عنك من اللَّه شيئًا".
وفي رواية خارج "الصحيحين": "إن أوليائي منكم المتقون، تأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا، تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، يا محمد، فأقول: قد بلَّغت".
وخرّج ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال "إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نَسَب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتوني بالدنيا، تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، يا محمد، فأقول: هكذا، وهكذا"، فأعرض في كِلا عِطفيه.
(1)
حسنٌ مرفوعًا وموقوفًا.
وخرّج البزار
(1)
من حديث رفاعة بن رافع؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "اجمع لي قومك -يعني: قريشًا- فجمعهم، فقال: إن أوليائي منكم المتقون، فإن كنتم أولئك فذاك، وإلا فانظروا، يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة، وتأتوني بالأثقال، فيُعْرَض عنكم"، وخرّجه الحاكم مختصرًا، وصححه.
وفي "المسند" عن معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن، خرج معه يوصيه، ثم التفت، وأقبل بوجهه إلى المدينة، فقال:"إن أَولى الناس بي المتقون، مَن كانوا، حيث كانوا"، وخرّجه الطبرانيّ، وزاد فيه:"إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أَولى الناس بي، وليس كذلك، إن أوليائي منكم المتقون، من كانوا، وحيث كانوا"
(2)
.
ويشهد لهذا كله ما في "الصحيحين" عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما؛ أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي اللَّه، وصالحو المؤمنين"، يشير إلى أن ولايته لا تُنال بالنسب، وإن قَرُب، وإنما تنال بالإيمان، والعمل الصالح، فمن كان أكمل إيمانًا وعملًا، فهو أعظم ولاية له، سواء كان له نسب قريب، أو لم يكن.
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلا بِدِينِهِ
…
فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ
لَقَدْ رَفَعَ الإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ
…
وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ النَّسِيبَ أَبَا لَهَبْ
انتهى ما كتبه الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث بطوله، وهو بحث ممتع مفيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6830]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَاهُ نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ
(1)
رواه البزار، والطبرانيّ، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبيّ.
(2)
رواه أحمد، والطبرانيّ، وصححه ابن حبّان.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، غَيْرَ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي أُسَامَةَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ التَّيْسِيرِ عَلَى الْمُعْسِرِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَيُّ) هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ طُلب للقضاء فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
وقوله: (قَالَا: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ) ضمير التثنية لعبد اللَّه بن نمير، وأبي أسامة، فكلاهما رويا هذا الحديث عن الأعمش بسنده المذكور.
[تنبيه]: أما رواية عبد اللَّه بن نُمير عن الأعمش، فقد ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الزهد الكبير"، فقال:
(764)
- أخبرنا أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن بن عفان، ثنا عبد اللَّه بن نمير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نفّس عن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر على مسلم، ستر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر على مسلم، يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يبتغي به علمًا، سهَّل اللَّه له به طريقًا إلى الجنة، وما جلس قوم في مسجد من مساجد اللَّه، يتلون فيه كتاب اللَّه، ويتدارسونه بينهم، إلا حفّت بهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم اللَّه فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله، لم يُسرع به نسبه". انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي أسامة عن الأعمش، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(2945)
- حدثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو أسامة، حدّثنا الأعمش،
(1)
"كتاب الزهد الكبير" 2/ 291 - 292.
عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من نفّس عن أخيه كربة من كُرَب الدنيا، نفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره اللَّه في الدنيا والآخرة، ومن يسَّر على معسر يسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل اللَّه له طريقًا إلى الجنة، وما قعد قوم في مسجد يتلون كتاب اللَّه، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، ومن أبطأ به عمله، لم يُسرع به نسبه". انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية الترمذيّ رحمه الله هذه تخالف رواية مسلم في أمرين:
الأول: في عنعنة الأعمش عن أبي صالح، فإن مسلمًا صرّح بالتحديث.
الثاني: أن مسلمًا قال: ليس في حَدِيث أَبِي أُسَامَةَ ذِكْرُ التَّيْسِيرِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وهو موجود في رواية الترمذيّ، ولعل أبا أسامة له روايتان، واللَّه أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:
[6831]
(2700) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ، يُحَدِّثُ عَنِ الأَغَرِّ أَبِي مُسْلِمٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عز وجل إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدُ مدلّس اختلط بآخره [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
2 -
(الأغَرُّ أَبُو مُسْلِمٍ) المدنيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1777.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاريّ
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 195.
الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما واستُصغر بأُحُد، ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، ومات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.
والباقون ذُكروا قريبًا.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث قد استوفيت شرحه في الحديث الماضي، فلا حاجة إلى إعادته، ولنذكر له مسألتين:
(المسألة الأولى): هذا الحديث من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6831 و 6832](2700)، و (الترمذيّ) في "الدعاء"(3378)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20577)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 447 و 3/ 33 و 49 و 94)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(855)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1252 و 1283)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6832]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فِي هَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ بن حسّان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ، عارف بالرجال والحديث، قال ابن المدينيّ: ما رأيت أعلم منه [9](ت 198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
[تنبيه]: رواية عبد الرحمن بن مهديّ عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6833]
(2701) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي نَعَامَةَ السَّعْدِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،
قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، قَالَ: آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم أقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ:"مَا أَجْلَسَكُمْ؟ "، قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ، وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلَامِ، وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا، قَالَ:"آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ "، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ:"أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مَرْحُومُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن مِهْران العطار الأمويّ، أبو محمد، ويقال: أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [8](ت 188) وله خمس وثمانون سنة (ع).
رَوَى عن أبيه، وعمه عبد الحميد، وثابت البنانيّ، وأبي نعامة السعدي، وأبي عمران الْجَوْنيّ، ومالك بن دينار، والقعقاع بن عمرو، وغيرهم.
وروى عنه ابنه عنبس، وابن ابنه بشر بن عنبس بن مرحوم، والثوريّ، وهو من شيوخه، وعفان، وعلي ابن المدينيّ، ومسدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم.
قال أحمد، وابن معين، والنسائيّ: ثقةٌ، وقال البزار: مشهور ثقةٌ، كان أحد العتاد، وقال يعقوب بن سفيان: ثقةٌ، وقال أبو الوليد الباجيّ في رجال البخاريّ: وثّقه أبو نعيم. وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال عبد اللَّه بن داود الْخُريبيّ: ما رأيت بالبصرة أفضل من سليمان بن المغيرة، ومرحوم بن عبد العزيز.
قال أبو داود: مات سنة سبع وثمانين ومائة، وقال البخاريّ: قال بشر بن عنبس بن مرحوم: مات سنة ثمان وثمانين ومائة، وكان يوم مات الحسن ابن سبع سنين، ومات الحسن سنة عشر ومائة.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
3 -
(أَبُو نَعَامَةَ السَّعْدِيُّ) اسمه عبد ربه، وقيل: عمرو، ثقةٌ [6](م د ت س) 43/ 1464.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن مَلّ -بلام ثقيلة، والميم مثلثة- النَّهْديّ -بفتح النون، وسكون الهاء- مشهور بكنيته، مخضرمٌ، من كبار [2] ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ مات سنة خمس وتسعين، وقيل: بعدها، وعاش مائة وثلاثين سنة، وقيل: أكثر (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) المذكور في السند الماضي.
6 -
(مُعَاوِيةُ) بن أبي سفيان صَخْر بن حَرْب بن أمية الأمويّ، أبو عبد الرحمن الخليفة الصحابيّ، أسلم قبل الفتح، وكَتَب الوحي، ومات في رجب سنة ستين، وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ) بن أبي سفيان رضي الله عنهما (عَلَى حَلْقَةٍ) -بسكون اللام، وتُفتح-؛ أي: جماعة متحلقة، قال في "المجمع": الْحَلْقة كالْقَصْعة: هي الجماعة من الناس مستديرون. وقال ابن الأثير الجزريّ: قوله: "حلقة" بسكون اللام: الشيء المستدير كحلقة الخاتم، ونحوه، والمراد به: الجماعة من الناس يكونون كذلك. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَلْقَةُ الباب بالسكون، من حديد وغيره، وحَلْقَةُ القوم: الذين يجتمعون مستديرين، والحَلْقَةُ: السلاح كله، والجمع: حَلَقٌ بفتحتين، على غير قياس، وقال الأصمعي: والجمع: حِلَق بالكسر، مثل قَصْعة وقِصَع، وبَدْرة وبِدَر، وحَكَى يونس عن أبي عمرو بن العلاء: أن الحَلَقَةَ بالفتح لغة في السكون، وعلى هذا فالجمع بحذف الهاء قياس، مثل قَصَبة وقَصَب. انتهى
(2)
.
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 825.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 146.
[تنبيه]: لم يَسَمَّ أحد من أهل تلك الحلقة، إلا أن الظاهر أن أبا سعيد رضي الله عنه كان جالسًا معهم، واللَّه تعالى أعلم.
(فِي الْمَسْجِدِ) الظاهر أنه المسجد النبويّ، ويَحْتَمل أن يكون مسجد دمشق؛ لأن معاوية رضي الله عنه كان هناك. (فَقَالَ) معاوية رضي الله عنه لأهل الحلقة:(مَا أَجْلَسَكُمْ؟)"ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء جعلكم جالسين ها هنا؟؛ أي: ما السبب الداعي إلى جلوسكم على هذه الهيئة ههنا؟ (قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ)؛ أي: الذي أجلسنا هو غرض الاجتماع على ذكر اللَّه تعالى. (قَالَ) معاوية رضي الله عنه: (آللَّهِ) بالمد والجر، قال السيد جمال الدين: قيل: الصواب بالجرّ؛ لقول المحقّق الشريف في "حاشيته": همزة الاستفهام وقعت بدلًا عن حرف القَسَم، ويجب الجرّ معها. انتهى. وكذا صُحّح في أهل سماعنا من "المشكاة" ومن "صحيح مسلم". ووقع في بعض نُسخ "المشكاة" بالنصب. انتهى. وقال الطيبيّ: قيل: آللَّهَ بالنصب؛ أي: أتُقسمون باللَّه؟ فحُذف الجارّ، وأوصل الفعل، ثم حُذف الفعل، كذا في "المرقاة". وقال في "اللمعات": قد يُحذف حرف القسم، فينصب بالإيصال، وقد يجرّ، نحو: اللَّه لأفعلنّ كذا، ثم أُدخل حرف الاستفهام فمُدّ. وقيل: حرف الاستفهام صار بدلًا من حرف القسم، فيجر به، ويردّه جواز النصب، بل هو الغالب والجرّ شاذّ، وإدخال حرف الاستفهام في الجواب بطريق المشاكلة. انتهى
(1)
.
(مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟)؛ أي: ما أجلسكم أمر دنيويّ، (قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ) معاوية:(أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، مثلُ "ألا"، (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":
فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ
…
وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ
وقال ابن حجر في "شرح المشكاة": "أما" استفتاحية، أو بمعنى: حَقًّا على رأي، و"إني" بالكسر على الأول، وبالفتح على الثاني، ذكره القاري
(2)
. (لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) بضم التاء، وفتح الهاء، وتسكّن، وقال ابن
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 825.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 161.
الأثير رحمه الله: التُّهْمة -وقد تُفتح الهاء- فُعْلة من الوهم، والتاء بدلٌ من الواو، واتّهَمته؛ أي: ظننت فيه ما نُسب إليه. انتهى؛ أي: ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب؛ لأنه خلاف حسن الظنّ بالمؤمنين
(1)
. قال الطيبيّ رحمه الله: أي: فأردت أن أتحقّق ما هو السبب في ذلك، فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد، لا للتهمة، كما هو الأصل في وضع التحليف، فإن من لا يُتّهم لا يُحلّف. انتهى
(2)
.
وقال القاري رحمه الله: "تهمة" بسكون الهاء، وتفتح، قال في "النهاية": التهمة، وقد تفتح الهاء فُعْلة من الوهم، والتاء بدل من الواو، واتهمته: ظننت فيه ما نُسب إليه، وفي "القاموس": أَدْخَل عليه التُّهَمةَ كهُمَزة؟ أي: ما يُتَّهَم عليه؛ أي: ما أستحلفكم تهمة لكم بالكذب، لكني أردت المتابعة، والمشابهة فيما وقع له صلى الله عليه وسلم مع الصحابة رضي الله عنهم. انتهى
(3)
.
قال معاوية رضي الله عنه: (وَمَا كَانَ)"ما" نافية؛ أي: لم يكن (أَحَدٌ) من الصحابة رضي الله عنهم (بِمَنْزِلَتي) الظاهر أن الباء بمعنى "مع"؛ أي: منزلتي وقرابتي (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وقال القاري: أي: بمرتبة قربي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه أخته أم حبيبة رضي الله عنها-من أمهات المؤمنين، ولذا عبَّر عنه المولويّ بخال المؤمنين، ولكونه من أجلّاء كتبة الوحي. انتهى.
(أقَلَّ) منصوب على أنه خبر "كان"، (عَنْهُ) رضي الله عنه (حَدِيثًا مِنِّي)؛ المعنى: أنه وإن كان له منزلة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قليل الحديث عنه، ومع هذا فقد حفظ هذا الحديث عنه، وقال القاري: وقدَّم بيان قُرْبه منه صلى الله عليه وسلم وقلة نَقْله من أحاديثه؛ دفعًا لتهمة الكذب عن نفسه فيما ينقله من الكلام.
وقال أيضًا ما حاصله: إنما كان أقلّ حديثًا؛ لاحتياطه في الحديث، وإلا كان مقتضى منزلته أن يكون كثير الرواية، ولعله كان ممن لا يجيز نَقْل الرواية بالمعنى. انتهى.
(وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ) تقدّم أنه بسكون اللام، وتُفتح.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" إلى آخره متّصل بقوله:
(1)
"النهاية في غريب الأثر" 1/ 201.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن"1738.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 41.
"إني لم أستحلفكم" اتصالَ الاستدراك بالمستدرك، يدلّ عليه قوله:"ولكنه أتاني جبريل"، وقوله:"وما كان أحد بمنزلتي. . . إلخ" اعتراض وقع تأكيدًا بين الاستدراك والمستدرك، وآذَن به أنه لم ينسه.
[فإن قلت]: ما معنى الاستدراك، وأنه لم يستحلفهم تهمة، وإنما استحلفهم لما سمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما سمع، وكذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام؟.
[قلت]: الجملة القسميّة إنما وُضعت لدفع التهمة، ورفع الإنكار البليغ، فأوجب أن تُضمّن التأكيد البليغ، وربما تُستعمل فيما لا يكون فيه تهمة، ولا إنكار، بل يجاء بها لمجرّد التأكيد تقريرًا له في النفوس، وتثبيتًا لها، كما تقول لمن بعثته إلى مهمّ، وقد جاءك: واللَّه لقد جئتني؛ أي: نِعْم ما فعلتَ؛ تحسينًا له على فعله، وعلى هذا جلّ إقسام اللَّه تعالى، وأكثر إقسام الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين، وهو من هذا القبيل. انتهى
(1)
.
(مِنْ أَصْحَابِهِ) رضي الله عنهم، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("مَا أَجْلَسَكُمْ؟ ")، قَالُوا:(جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللَّهَ) وفي رواية النسائيّ: "جلسنا ندعو اللَّه"، (وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلَام) كما حكى اللَّه تعالى عن قول أهل السلام:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43](وَمَنَّ) فعل ماض، من المنّ، من باب نصر؛ أي: أنعم (بِهِ)؛ أي: بالإسلام (عَلَيْنَا) من بين الآنام، وفي رواية النسائيّ:"ومنَّ علينا بك"، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: منّ علينا ببعثك؛ إذ هو النعمة المسداة، والرحمة المهداة، كما قال عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("آللَّهِ) بهمزة ممدودة، هي عوض من باء القسم، (مَا أَجْلَسَكُمْ إلا ذَاكَ؟ ")؛ أي: ما ذكرتم من ذكر اللَّه تعالى، وحمده على نعمه، (قَالُوا: وَاللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ، قَالَ:"أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ) لأنه خلاف حسن الظن بالمؤمنين، (وَلَكِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: لكن الحال والشان، (أتانِي جِبْرِيلُ) عليه السلام؛ (فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُبَاهِي)؛ أي: يفاخر (بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ")؛ أي: فاردت أن أتحقق بماذا كانت المباهاة، فللاهتمام بتحقيق ذلك الأمر، والإشعار بتعظيمه استحلفتكم. وقال
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 15/ 738 - 1739.
النوويّ رحمه الله: معناه: يُظهر فضلكم لهم، ويُريهم حسن عملكم، ويُثني عليكم عندهم، وأصل البَهاء: الحُسن والجمال، وفلانٌ يباهي بماله؛ أي: يفخر، ويتجمّل به على غيره، ويُظهر حُسنه لهم. انتهى. وقال المباركفوريّ رحمه الله: قيل: معنى المباهاة بهم: أن اللَّه تعالى يقول لملائكته: انظروا إلى عبيدي هؤلاء، كيف سلّطتُ عليهم أنفسهم، وشهواتهم، وأهْوِيتهم، والشيطان وجنوده، ومع ذلك قَوِيت همّتهم على مخالفة هذه الدواعي القويّة إلى البطالة، وتَرْك العبادة والذكر، فاستحقّوا أن يُمدحوا أكثر منكم؛ لأنكم لا تجدون للعبادة مشقّة بوجه، وإنما هي منكم كالتنفّس منهم، ففيها غاية الراحة، والملائمة للنفس. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: فأردت أن أتحقق ما هو السبب في ذلك، فالتحليف لمزيد التقرير والتأكيد، لا التهمة، كما هو الأصل في وضع التحليف، فإن من لا يُتَّهَم لا يُحَلَّف. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث معاوية رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6833](2701)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(2379)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5468)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 395 و 396)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 92)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 249)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(1/ 305)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(813)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 383)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 311) وفي "الدعاء"(1/ 529)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 381)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الاجتماع في المساجد لأجل ذكر اللَّه تعالى، وتذكّر نعمه.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 9/ 262.
2 -
(ومنها): أنه ينبغي للمؤمن أن يشكر اللَّه تعالى أن هداه للإسلام، وأن جعله من أمة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه فخر لا فخر بعده، وقد أجاد من قال، وأحسن في المقال:
وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيْهَا
(1)
…
وَكِدتُ بِأخْمَصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا
دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي
…
وَأَنْ صيَّرْتَ لِي أَحْمَدَ نَبِيَّا
3 -
(ومنها): أن اللَّه سبحانه وتعالى يباهي الملائكة بعباده الصالحين من بني آدم، وذلك لِعِظَم شانهم، حيث أقبلوا عليه سحانه وتعالى مدافعين عنهم النفس الأفارة بالسوء، والشيطان العدوّ اللدود، وكَسْرهم الشهوات، فاستحقّوا بذلك الثناء عليهم في الملأ الأعلى، وهذا معنى الحديث القدسيّ:"ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه. . . "، متّفقٌ عليه.
4 -
(ومنها): أن النسائيّ رحمه الله ترجم في "سننه" بقوله: "كيف يَستحلف الحاكم؟ "، ثم أورد هذا الحديث مستدلًّا به على ترجمته، ومحلّ الاستدلال منه قوله:"آاللَّه ما أجلسكم"، فيقول الحاكم لمن يستحلفه: قل: آللَّه ما فعلت كذا، واللَّه تعالى أعلم.
(12) - (بَابُ اسْتِحْبَاب الاسْتِغْفَارِ، وَالاسْتِكْثَارِ مِنْهُ، وَالْحَثِّ عَلَى التَّوْبَةِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6834]
(2702) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، جَمِيعًا عَنْ حَمَّادٍ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنِ الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ -وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ-؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنَّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ").
(1)
التيها بالكسر: الكِبْر. اهـ. "ق".
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الأَكَرُّ الْمُزَنِيُّ) هو: الأغرّ بن يسار المزَنيّ، ويقال: الْجُهنيّ، رَوى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الحديث فقط، ورَوى عن أبي بكر، وعنه أبو بردة بن أبي موسى الأشعريّ، ومعاوية بن قُرّة. قال الحافظ: أنكر ابن قانع على من جعله مُزَنِيًّا، وإنكاره هو المنكر، وأما ابن منده، فجعلهما اثنين، فلم يُصِب، وقال أبو عليّ بن السَّكَن: حدّثنا محمد بن الحسن، عن البخاريّ، قال: مسعر يقول في روايته: عن الأغر الْجُهَنيّ، والْمُزَني أصح. انتهى.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث، والحديث التالي، أفرده مسلم، وجعلهما النسائيّ حديثًا واحدًا.
والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو الربيع" هو سليمان بن داود الزهرانيّ، و"ثابت" هو ابن أسلم البنانيّ، و"أبو بُردة" هو: ابن أبي موسى الأشعريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصّل، لِمَا مرّ غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من المقلّين في الرواية، فليس له إلا هذا الحديث، والحديث التالي، كما أسلفته آنفًا
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ (عَنِ الأغَرِّ) -بفتح الهمزة، والغين المعجمة- (الْمُزَنِيِّ) -بضمّ الميم، وفتح الزاي-: نسبة لِوَلَدِ عثمان وأوس ابني عمرو بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر، نُسبوا إلى مزينة بنت كلب بن وبرة، أم عثمان وأوس، وهم قبيلة كبيرة، قاله في "اللباب"
(2)
. (وَكَانَتْ لَهُ)؛ أي: الأغرّ المزنيّ، (صُحْبَةٌ)؛ يعني: أنه كان من أصحاب
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 1/ 78 - 79.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 205.
النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّهُ لَيُغَانُ) بغين معجمة، من الغين، وهو الغطاء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَيْنُ: لغة في الغيم، وغِينَتِ السماءُ بالبناء للمفعول: غُظيت بِالْغَيْن، وفي الحديث: "وَإِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي": كناية عن الاشتغال عن المراقبة بالمصالح الدنيوية، فإنها وإن كانت مهمّة في مقابلة الأمور الأخروية؛ كاللهو عند أهل المراقبة. انتهى
(1)
.
وقال المرتضى رحمه الله: وغِين على قلبه غَينًا: تغشّته الشهوة، أو غُطِّيَ عليه، وأُلبِس، أو غُشي عليه، أو أحاط به الرينُ، وفي الحديث:"إنه ليُغان على قلبي. . . "، أراد: ما يغشاه من السهو الذي لا يخلو عنه البشر؛ لأن قلبه أبدًا كان مشغولًا باللَّه تعالى، فإن عَرَض له وقتًا مَّا عارضٌ بشريٌّ يَشغَله من أمور الأمة والملة، ومصالحها، عَدَّ ذلك ذنبًا وتقصيرًا، فيَفْزَعُ إلى الاستغفار. انتهى
(2)
.
وقوله: (عَلَى قَلْبِي) في محلّ رفع على أنه نائب الفاعل لـ "يغان"؛ أي: ليُغشَى على قلبي.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "إنه ليغان": اسم "إنّ" ضمير الشأن، والجملة بعده خبر له، ومفسرة، والفعل مسنَد إلى الظرف، ومحله الرفع على أنه نائب الفاعل، "وإني لأستغفر اللَّه"؛ أي: أطلب منه المغفرة؛ أي: السّتر، "في اليوم" الواحد من الأيام، ولم يُرِد يومًا معينًا، "مائة مرة". انتهى
(3)
.
(وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ)؛ أي: أطلب منه الستر، وفي حديث أبي هريرة عند البخاريّ:"واللَّه إني لأستغفر اللَّه، وأتوب إليه"، قال في "الفتح": قوله: "واللَّه إني لأستغفر اللَّه": فيه القَسَم على الشيء تأكيدًا له، وإن لم يكن عند السامع فيه شك، قوله:"لأستغفر اللَّه، وأتوب إليه" ظاهره أنه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويَحْتَمِل أن يكون المراد: يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجّح الثاني ما أخرجه النسائيّ بسند جيد، من طريق مجاهد، عن ابن عمر؛ أنه سمع النبىّ صلى الله عليه وسلم
(1)
"المصباح المنير" 2/ 460.
(2)
"تاج العروس" ص 8128، و"النهاية في غريب الأثر" 3/ 759.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" ببعض تصرّف 6/ 1835.
يقول: "أستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه" في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة، وله من رواية محمد بن سُوقة، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ:"إنا كنا لنَعُدّ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المجلس: رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة"
(1)
.
(فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ") وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لأستغفر اللَّه، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة"، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"إني لأستغفر اللَّه في اليوم سبعين مرةً"، قال الحافظ: فيَحْتَمِل أن يريد المبالغة، ويَحْتَمِل أن يريد العدد بعينه، وقوله:"أكثر" مبهم، فيَحتمل أن يفسَّر بأنه يبلغ المائة. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: أراد بالمائة: التكثير، فلا تعارض بينه وبين رواية السبعين.
وقال النوويّ رحمه الله: قال أهل اللغة: الغين بِالْغين المعجمة، والغيم بمعنى، والمراد هنا: ما يتغشى القلب.
قال القاضي: قيل: المراد: الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فَتَر عنه، أو غفل عَدّ ذلك ذنبًا، واستغفر منه.
قال: وقيل: هو همّه بسبب أمته، وما اطَّلَع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم.
وقيل: سببه اشتغاله بالنظر في مصالح أمته، وأمورهم، ومحاربة العدوّ، ومداراته، وتأليف المؤلَّفة، ونحو ذلك، فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنبًا بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال، فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه، من حضوره مع اللَّه تعالى، ومشاهدته، ومراقبته، وفراغه مما سواه، فيستغفر لذلك.
وقيل: يَحْتَمِل أن هذا الغين هو السكينة التي تغشى قلبه؛ لقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18]، ويكون استغفاره إظهارًا للعبودية والافتقار، وملازمةً الخشوع، وشكرًا لِمَا أولاه.
(1)
"الفتح" 14/ 285 - 286.
(2)
"الفتح" 14/ 285 - 286.
وقد قال المحاسبيّ: خوف الأنبياء والملائكة خوف إعظام، وإن كانوا آمنين عذاب اللَّه تعالى.
وقيل: يَحْتَمِل أن هذا الغين حال خشية وإعظام يغشى القلب، ويكون استغفاره شكرًا كما سبق.
وقيل: هو شيء يعتري القلوب الصافية مما تتحدث به النفس، فهَوّشها، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال الشيغ شهاب الدين السُّهْرَوَرديّ: لا يُعتقَد أن الغين في حالة نقص، بل هو كمال، أو تتمة كمال، ثم مثل ذلك بجفن العين حين يُسْبَل ليدفع القذى عن العين مثلًا، فإنه يمنع العين من الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال، هذا مُحَصَّل كلامه بعبارة طويلة، قال: فهكذا بصيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغيرة الثائرة من أنفاس الأغيار، فدعت الحاجة إلى الستر على حدقة بصيرته؛ صيانةً لها، ووقايةً عن ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن هذه الأقوال كلّها تخرّصات، وظنونات لا تنبني على دليل صحيح، فالحقّ أن نقول: إن الغين المذكور من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلا اللَّه عز وجل، وقد أخبرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه يُغان على قلبه، فنصدّق بذلك، وأما حقيقة ذلك الغين الذي يغطي قلبه صلى الله عليه وسلم فلم يبيّنه لنا، فلا ينبغي أن نتخرّص بتعيينه، وما أحسن ما قال الأصمعيّ لَمّا سُئل عنه: لو كان قلب غير النبيّ صلى الله عليه وسلم لتكلّمت عليه، ولكن العرب تزعم أن الغين: الغيم الرقيق
(2)
، قال الطيبيّ رحمه الله
(3)
: وللَّه درّه في انتهاجه منهج الأدب، وإجلال القلب الذي جعله اللَّه موضع وحيه، ومنزل رحماته.
والحاصل: أن الأدب في هذا تفويض علم حقيقة الغين إلى العالم الخبير، ثم إلى من أمدّه اللَّه تعالى بتنزيل وحيه المبين، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 23 - 24.
(2)
راجع شرحي على: "ألفية الأثر" للسيوطيّ رحمه الله 2/ 197.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1836.
مسائل تتعلّق بهدا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الأغرّ المزنيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الإمام الدراقطنيّ رحمه الله في "التتبّع": أخرج مسلم حديث الأغرّ من حديث عمرو بن مرّة، وثابت، عن أبي بُردة، وهما صحيحان، وإن كان أبو إسحاق قال: عن أبي بردة، عن أبيه، وتابعه مغيرة بن أبي الحرّ، عن سعيد، عن أبي بردة، فأبو إسحاق ربّما دلّس، ومغيرة بن أبي الحرّ شيخ، وثابت، وعمرو مرّة حافظان، وقد تابعهما رجلان آخران: زياد بن المنذر، وابن إسحاق، ومغيرة بن أبي الحرّ، وأبو إسحاق سلكا به الطريق السهل. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله في هذا الكلام بيان ما وقع في هذا الحديث من اختلاف الرواة، وبيان ترجيح ما ذهب إليه مسلم في تخريجه من طريق ثابت البنانيّ في هذه الرواية، ومن طريق عمرو بن مرّة في الرواية التالية، فإنهما روياه عن أبي بُردة، عن الأغرّ المزنيّ، وخالفهما أبو إسحاق، ومغيرة بن المنذر، فروياه من رواية أبي بردة عن أبيه، فرجّح الدارقطنيّ رواية الأوَّلَين بأمور:
أحدها: تقدّم ثابت، وعمرو في الحفظ والإتقان على أبي إسحاق، ومغيرة.
والثاني: أن أبا إسحاق مدلّس، فربما أخذه عن ضعيف، فدلّسه، ومغيرة شيخ؛ أي: لا يصل إلى درجة الحافظ الضابط.
والثالث: أن الأوَّلَين قد تابعهما زياد بن المنذر، وابن إسحاق.
والرابع: أن أبا إسحاق، ومغيرة سلكا بالحديث مسلك الجادّة، وذلك أن رواية أبي بردة عن أبيه طريق مشهور يحفظه كل أحد، بخلاف روايته عن الأغرّ المزنيّ، فليست مشهورة، فلا يحفظها إلا الضابط المتقن، مثل ثابت، وعمرو.
والحاصل: أن الحديث صحيح من الوجه الذي أخرجه منه مسلم، فلا التفات إلى المخالفة المذكورة، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [12/ 6834](2702)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1515)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 116) وفي "عمل اليوم والليلة"(442)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 401)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 211 و 260)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 142)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(88 و 889) وفي "الدعاء"(1/ 514 و 515)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(929 و 931)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 349)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(2/ 356)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 52) وفي "شعب الإيمان"(1/ 438 و 5/ 380)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1287)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من ملازمة الاستغفار، مع أن اللَّه سبحانه وتعالى غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر، قال اللَّه عز وجل:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
2 -
(ومنها): ما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم مما يدفعه إلى التوبة والاستغفار، وسيأتي ما قاله العلماء في المراد بِالْغين في المسألة التالية -إن شاء اللَّه تعالى-.
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للعبد ملازمة التوبة والاستغفار في سائر أحواله، ولا يستلزم ذلك وجود الذنب، كما هو حال النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي غفر اللَّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، بل هو في حقّه من باب الشكر، ودوام المراقبة للَّه سبحانه وتعالى، كما قال في حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى تورّمت قدماه، فقيل له: غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، قال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا" متّفقٌ عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها؛ أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل، حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول اللَّه، وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر؟ قال:"أفلا أُحبّ أن أكون عبدًا شكورًا". متّفقٌ عليه.
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وقد استُشكل وقوع الاستغفار من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية.
وأجيب بعدّة أجوبة:
منها: ما تقدم في تفسير الغين، ومنها: قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية، لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عُصموا من الكبائر، فلم يُعْصَموا من الصغائر، كذا قال، وهو مُفَرَّع على خلاف المختار، والراجح عِصْمتهم من الصغائر أيضًا.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال الحافظ: إن الراجح عصمتهم من الصغائر، لكن الذي عليه المحقّقون أنهم تقع منهم الصغائر التي لا تخلّ بصدق نبوّتهم، لكنهم ليسوا كغيرهم، فلا يُقَرّون عليها، بل ينبّهون فورًا، وهذا هو الفرق بينهم وبين غيرهم، وأما ما يخلّ بصدق نبوتهم، وينفّر الناس عنهم فلا يقع منهم ولو كان من الصغائر، ككَذْبة، وسرقة لقمة، لا قصدًا، ولا غلطًا، ولا سهوًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله: إن القول بأن الانبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الاسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمديّ: أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير، والحديث، والفقه، بل هو الذي لم يُنقل عن السلف، والأئمة، والصحابة، والتابعين، وتابعيهم، إلا ما يوافق هذا القول.
وذَكَر في موضع آخر: أن القول بعصمة الأنبياء مطلقًا مذهب الرافضة، وأنهم أول من قال بذلك، ثم تبعهم بعض المعتزلة، ثم وافقهم عليه طائفة من المتأخرين. انتهى
(1)
.
قال الجامع: وقلت في "التحفة المرضيّة":
فَكُلُّ مُرْسَلِ بُعَيْدَ الْبِعْثَةِ
…
لَا يَفْعَلُ الْمُزْرِيَ بِالنُّبُوَّةِ
أَوْ مُوجِبَ الْخِسَّةِ أَوْ مَا يُسْقِطُ
…
مُرُوءَةً صمْدًا وَسَهْوًا يَهْبِطُ
وَأَجْمَعُوا عَلَى انْتِفَا الْكَبَائِرِ
…
وَرَجَّحُوا الْجَوَازَ لِلصَّغَائِرِ
لَكِنَّهُمْ يُنَبَّهُونَ فَوْرَا
…
فَنِعَمَةُ الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ تَتْرَى
(1)
"مجموع الفتاوى" 4/ 319.
وباللَّه تعالى التوفيق.
قال: ومنها قول ابن بطال: الأنبياء عليهم السلام أشدّ الناس اجتهادًا في العبادة لِمَا أعطاهم اللَّه تعالى من المعرفة، فهم دائبون في شكره، معترفون له بالتقصير. انتهى، ومُحَصّل جوابه: أن الاستغفار من التقصير في أداء الحقّ الذي يجب للَّه تعالى، ويَحْتَمِل أن يكون لاشتغاله بالأمور المباحة من أكل، أو شرب، أو جماع، أو نوم، أو راحة، أو لمخاطبة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر اللَّه، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، فيرى ذلك ذنبًا بالنسبة إلى المقام العليّ، وهو الحضور في حظيرة القدس.
ومنها: أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب الأمة، فهو كالشفاعة لهم. إلى آخر ما ذكره في "الفتح".
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أحسن الأجوبة عندي: أن استغفار النبيّ صلى الله عليه وسلم من باب أداء الشكر؛ لأن اللَّه تعالى غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فإن هذا هو الذي أجاب به النبىّ صلى الله عليه وسلم لَمّا سئل عن قيامه حتى تفطّرت قدماه، كما سبق في حديث المغيرة، وعائشة رضي الله عنها، فقال:"أفلا أكون عبدًا شكورًا"، فدلّ على أن استغفاره من باب القيام بالشكر على ما من اللَّه به عليه، وإكرامه له بما لم يُكرِم به غيره، ومنه مغفرة ما تقدّم منه وما تأخّر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6835]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ الأغَرَّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ فِى الْيَوْمِ إِلَيْهِ
(1)
مِائَةَ مَرَّةٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد اللَّه
(1)
وفي نسخة: "في اليوم مائة".
الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، كان لا يدلِّس، ورُمي بالإرجاء [5] (ت 118) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ الأغرَّ) الْمُزنيّ رضي الله عنه، وقوله:(وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) جملة معترضة، وقوله:(يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ) جملة في محلّ نصب على الحال من "الأغرّ"؛ أي: حال كونه محدّثًا عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، وقوله:(قَالَ) جملة حاليّة، أو مستأنفة استئنافيًّا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنه قال له: كيف تحديثه له؟ فقال: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أيّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ) امتثالًا لقوله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} .
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "توبوا إلى اللَّه" أمرٌ على جهة الوجوب، كما قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]، وكما قال تعالى:{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، وقال:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] ولا خلاف أنها واجبة على كل من أذنب، وهي في اللغة: الرجوع، يقال: تاب، وثاب، وأثاب، وأناب وآب: بمعنى: رجع، وهي في الشرع: الرجوع عما هو مذموم في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وسيأتي استيفاء الكلام فيها في "الرقاق" -إن شاء اللَّه تعالى-
(1)
.
(فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ) وفي بعض النسخ بإسقاط "إليه"، (مِائَةَ مَرَّةٍ) قال المناويّ: ذِكر المائة هنا، والسبعين في رواية أخرى عبارة عن الكثرة، لا للتحديد، ولا للغاية، كما يدل عليه:{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80]؛ إذ لو استغفر لهم مدة حياته لم يغفر لهم؛ لأنهم كفار به، فالمراد هنا: أتوب إليه دائمًا، وتوبته ليست عن ذنب كما تقرر، بل لكونه دائمًا في الترقي، فكل مرتبة ارتقى إليها، فما دونها ذنب يستغفر منه. انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 7/ 27.
(2)
"فيض القدير" 3/ 274.
وقال ابن حبّان في "صحيحه": كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يستغفر ربه جلّ وعلا في الأحوال، على حسب ما وصفناه، وقد غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولاستغفاره صلى الله عليه وسلم معنيان:
أحدهما: أن اللَّه جلَّ وعلا بعثه مُعَلِّمًا لِخَلْقه قولًا وفعلًا، فكان يعلّم أمته الاستغفار، والدوام عليه؛ لِمَا علم من مقارفتها المآثم في الأحايين.
والمعنى الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر لنفسه عن تقصير الطاعات، لا الذنوب؛ لأن اللَّه جلَّ وعلا عصمه من بين خلقه، واستجاب له دعاءه على شيطانه، حتى أسلم، وذاك أن من خُلُق المصطفى صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى بطاعة للَّه عز وجل داوم عليها، ولم يقطعها، فربما شُغل بطاعة عن طاعة، حتى فاتته إحداهما، كما شُغل صلى الله عليه وسلم عن الركعتين اللتين بعد الظهر بوفد تميم، حيث كان يَقسم فيهم، ويَحملهم، حتى فاتته الركعتان اللتان بعد الظهر، فصلّاهما بعد العصر، ثم داوم عليهما في ذلك الوقت فيما بعدُ، فكان استغفاره صلى الله عليه وسلم لتقصير طاعة أن أخَّرها عن وقتها من النوافل؛ لاشتغاله بمثلها من الطاعات التي كان في ذلك الوقت أَولى من تلك التي كان يواظب عليها، لا أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغفر من ذنوب يرتكبها. انتهى. وقال ابن حبّان في موضع آخر: قوله صلى الله عليه وسلم: "توبوا إلى ربكم" يريد به: استغفروا ربكم، وكذلك قوله:"فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة"، وكان استغفار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لتقصيره في الطاعات التي وظّفها على نفسه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان من أخلاقه إذا عَمِل خيرًا أن يُثْبِته، فيدوم عليه، فربما اشتغل في بعض الأوقات عن ذلك الخير الذي كان يواظب عليه بخير آخر، مثل اشتغاله بوفد بني تميم، والقسمة فيهم عن الركعتين اللتين كان يصليهما بعد الظهر، فلما صلى العصر أعادهما، فكان استغفاره صلى الله عليه وسلم للتقصير في خير اشتغل عنه بخير ثان، على حسب ما وَصَفنا. انتهى
(1)
. واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث الأغرّ المزنيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(1)
"صحيح ابن حبّان" 3/ 208 - 210.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 6835 و 6836](2702)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(621)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 116) وفي "عمل اليوم والليلة"(445 و 446)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 211 و 260)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(929)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(882 و 883 و 884 و 885 و 886) وفي "الدعاء"(1/ 514)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 298 و 299)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 468)، و (اللالكائىّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1044)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 380)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1288)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الأمر بالتوبة، والحثّ عليها.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذا الأمر بالتوبة موافق لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، وقد سبق في الباب قبله بيان سبب استغفاره وتوبته صلى الله عليه وسلم، ونحن إلى الاستغفار والتوبة أحوج، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: للتوبة ثلاثة شروط: أن يُقلع عن المعصية، وأن يندم على فعلها، وأن يَعْزِم عزمًا جازمًا أن لا يعود إلى مثلها أبدًا، فإن كانت المعصية تتعلق بآدميّ، فلها شرط رابع، وهو ردّ الظُّلامة إلى صاحبها، أو تحصيل البراءة منه، والتوبة أهم قواعد الإسلام، وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على استدامة التوبة، وأن الإنسان مهما ذكر ذنبه جدَّد التوبة؛ لأنَّه من حصول الذنب على يقين، ومن الخروج عن عقوبته على شكّ، فحقّ التائب أن يجعل ذنبه نصب عينيه، وينوح دائمًا عليه، حتى يتحقّق أنه قد غُفر له ذنبه، ولا يتحقّق أمثالنا ذلك إلا بلقاء اللَّه تعالى، فواجب عليه ملازمة الخوف من اللَّه تعالى، والرجوع إلى اللَّه بالندم على ما فعل، وبالعزم على ألّا يعود إليه، والإقلاع عنه.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 24 - 25.
ثم أَبُو قدّرنا أنه تحقق أنه غفر له ذلك الذنب تعيَّنت عليه وظيفة الشكر، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أفلا أكون عبدًا شكورًا".
وإنَّما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنه يكرر توبته كل يوم مع كونه مغفورًا له، ليَلْحَق به غيره بطريق أَولى؛ لأنَّ غيره يقول: إذا كانت حال من تحقق مغفرة ذنوبه هكذا، كانت حال من هو من ذلك في شك أحرى، وأَولى، وكذلك القول في الاستغفار والتوبة؛ يعني: شيئًا يتاب منه، إلا أن ذلك منقسم بحسب حال من صدر منه ذلك الشيء، فتوبة العوامّ من السيئات، وتوبة الخواصّ من الغفلات، وتوبة خواصّ الخواصّ من الالتفات إلى الحسنات، هكذا قاله بعض أرباب القلوب، وهو كلام حسن في نفسه، بالغ في فنّه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6836]
(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ غَلِط في أحاديث [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة: معاذ بن معاذ، وأبو داود الطيالسيّ، وعبد الرحمن بن مهديّ رووا هذا الحديث عن شعبة بإسناده السابق.
وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: بالإسناد المذكور قبل
(1)
"المفهم" 7/ 28.
هذا، وهو عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أبي بُردة، قال: سمعت الأغرّ. . . إلخ.
[تنبيه]: أما رواية أبي داود، وعبد الرحمن بن مهديّ كلاهما عن شعبة، فساقهما اللالكائيّ رحمه الله في "اعتقاد أهل السُّنَّة"، فقال:
(1930)
- أنا جعفر بن عبد اللَّه بن يعقوب، قال: أنا محمد بن هارون الرّويانيّ، قال: نا محمد بن بشار، قال: نا عبد الرحمن بن مهديّ، وأبو داود، قالا: نا شعبة عن عمرو بن مرّة، قال: سمعت الأغرّ يحدّث ابن عمر؛ أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: "توبوا إلى اللَّه، فإني أتوب كل يوم مائة مرّة". انتهى
(1)
.
وأما رواية معاذ بن معاذ عن شعبة فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6837]
(2703) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ -يَعْنِي: سُلَيْمَانَ بْنَ حَيَّانَ- (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ -يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ- كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ").
رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ) الأزدي، أبو خالد الأحمر الكوفي، صدوق يخطئ، من الثامنة، مات سنة تسعين أو قبلها وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
2 -
(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد اللَّه بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
(1)
"اعتقاد أهل السُّنَّة" 6/ 1044.
3 -
(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طلق النخعيّ الكوفيّ القاضي، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عُليّة، تقدّم قبل بابين.
5 -
(هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ) الأزديّ الْقُرْدُوسيّ -بالقاف، وضمّ الدال- أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقالٌ؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.
6 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ) أبو بكر الأنصاريّ مولاهم البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ هِشَامٍ)؛ أي: كل هؤلاء الثلاثة: سليمان بن حيّان، وأبو معاوية، وحفص بن غياث رووا هذا الحديث عن هشام بن حسّان بسنده.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف، وله فيه ثلاثة أسانيد فصل بينها بالتحويل، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَابَ)؛ أي: رجع عن ذنبه بشروطه الثلاثة، وهي الندم، والإقلاع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود، ويزيد إن كان حقًّا لمخلوق أن يقضيه، أو يستحلّه منه. (قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) هذا هو المراد من قوله:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} الآية [الأنعام: 158]، فقد دلّت الآية على أنه لا ينفع الكافر إيمانه بعد ظهور بعض الآيات، والمراد به: طلوع الشمس من مغربها، وكذا لا تنفع التوبة المنافق ولا الفاسق إذا لم يتوبا قبل ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
(تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ)؛ أي: قَبِل توبته، ورضيها، فرجع متعطفًا عليه برحمته، وذلك لأن العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه قابله اللَّه بالعفو والتجاوز، وفيه تطييب لنفوس العباد، وتنشيط للتوبة، وبَعْثٌ عليها،
ورَدْعٌ عن اليأس والقنوط، وأن الذنوب وإن جَلَّت فإن عفوه أجلّ، وكرمه أعظم
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا -أي: طلوع الشمس من مغربها- حدّ لقبول التوبة، وقد جاء في الحديث الصحيح أن للتوبة بابًا مفتوحًا، فلا تزال مقبولة حتى يُغلق، فإذا طلعت الشمس من مغربها أُغلق، وامتنعت التوبة على من لم يكن تاب قبل ذلك، وهو معنى قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] وللتوبة حدّ آخر، وهو أن يتوب قبل الغرغرة، كما جاء في الحديث الصحيح، وأما في حالة الغرغرة، وهي حالة النزع، فلا تُقبل توبته، ولا غيرها؛ لقول اللَّه تعالى:{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} الآية [غافر: 85]؛ لأن المعتبَر هو الإيمان بالغيب، ولا تنفّذ وصيّته، ولا غيرها. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 6837](2703)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 275 و 427 و 495 و 506 و 507)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(629)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(14203 و 14209 و 14210 و 14212 و 14219 و 14220 و 14225)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1299)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على المبادرة بالتوبة قبل فوات الأوان.
2 -
(ومنها): بيان وقت قبول التوبة، وهو ما قبل طلوع الشمس من مغربها.
3 -
(ومنها): بيان الوقت الذي لا تُقبل فيه التوبة، وهو ما بعد طلوعها.
4 -
(ومنها): بيان أن طلوع الشمس من مغربها إحدى علامات الساعة
(1)
"فيض القدير" 6/ 98.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 25.
الكبرى، وهي عشر، كما سيأتي في "كتاب الفتن" حديث حذيفة بن أَسِيد الغفاريّ: قال: اطَّلَع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، ونحن نتذاكر، فقال:"ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة، قال:"إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم". انتهى، واللَّه تعالى أعلم.
(13) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ خَفْضِ الصَّوْتِ بِالذِّكْرِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6838]
(2704) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، وَأَبُو مُعَاوَيةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ
(1)
سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ"، قَالَ: وَأَنَا خَلْفَهُ، وَأَنَا أَقَولُ: لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ "، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلْ: لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ) بن غزوان الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو النهديّ، تقدّم قبل باب.
4 -
(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "تدعونه".
والباقيان ذُكرا في السند الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير عاصم، فبصريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه أبو موسى رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ) وفي رواية للبخاريّ في "القدر": "كنّا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ"، قال في "الفتح": تقدّم في غزوة خيبر من كتاب المغازي بيان أنها غزوة خيبر. انتهى
(1)
. (فَجَعَلَ)؛ أي: أخذ وشرع (النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ) وفي الرواية التالية: "أنهم كانوا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهم يصعدون في ثنيّة. قال: فجعل رجل كلّما علا ثنيّة نادى: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الرجل، وفي رواية للبخاريّ:"كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزاة، فجعلنا لا نَصعد شرفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط في واد إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير". (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا) بهمزة الوصل المكسورة، وفتح الباء الموحّدة؛ أي: ارفُقُوا، وقال الأزهريّ عن يعقوب: رَبَع الرجل يَرْبَع: إذا وقف، وانحبس، وقال الليث: يقال: ارْبَع على نفسك، وارْبَعْ عليك؛ أي: انتظر. وقال الخطابيّ: يريد: أمسكوا عن الجهر، وقفوا عنه، وقال ابن قرقول: اعطفوا عليها بالرفق بها، والكفّ عن الشدّة، ويقال: أصل الكلمة من قولك: رَبَع الرجل بالمكان: إذا وقف عن السير، وأقام به. انتهى
(2)
.
والمعنى: ارفُقوا، ولا تُجهدوا أنفسكم بالمبالغة في رفع الصوت.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "اربعوا" بهمزة وصل، وبفتح الباء الموحدة؛
(1)
"الفتح" 15/ 223، "كتاب القدر" رقم (6610).
(2)
"عمدة القاري" 14/ 245.
معناه: ارْفُقُوا بأنفسكم، وأخفِضُوا أصواتكم، فإن رَفْع الصوت إنما يفعله الإنسان لِبُعد من يخاطبه ليسمعه، وأنتم تدعون اللَّه تعالى، وليس هو بأصمّ، ولا غائبًا، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة، ففيه الندب إلى خففى الصوت بالذكر، إذا لم تَدْعُ حاجة إلى رَفْعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره، وتعظيمه، فإن دعت حاجة إلى الرفع رَفَع كما جاءت به أحاديث.
وقوله: "والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم" هو بمعنى ما سبق، وحاصله أنه مجاز، كقوله تعالى:{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] والمراد: تحقيق سماع الدعاء. انتهى
(1)
.
(عَلَى أَنْفُسِكُمْ) متعلّق بـ[اربعوا]، وقوله:(إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعها في الابتداء، والجملة تعليل للأمر بالرفق.
وقال في "الفتح": قوله: "لا تدعون" كذا أَطلق على التكبير ونحوه دعاءً من جهة أنه بمعنى النداء؛ لكون الذاكر يريد إسماع مَنْ ذَكَره، والشهادة له. انتهى.
(أَصَمَّ) بل هو سميع عليم، (وَلَا غَائِبًا) بل هو قريبُ مجيب، (إِنَّكُمْ تَدْعُونَ) وفي بعض النسخ:"تدعونه"، فقوله:(سَمِيعًا قَرِيبًا) منصوب على المفعوليّة في الأُولى، وعلى الحال في الثانية. (وَهُوَ مَعَكُمْ") أينما كنتم، المراد: معيّة العلم، والقبول، والنصر. (قَالَ) أبو موسى (وَأَنَا خَلْفَهُ) جملة حالية؛ أي: والحال أنا خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله:(وَأَنَا أَقُولُ: لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ) اسم أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، (ألَا) أداة استفتاح وتنبيه، (أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ ") معنى الكنز هنا: أنه ثواب مُدَّخَر في الجنة، وهو ثواب نفيسٌ، كما أن الكنز أنفس أموالكم، قاله النوويّ
(2)
.
وقال في "الفتح": سُمّيت هذه الكلمة كنزًا؛ لأنها كالكنز في نفاسته، وصيانته عن أعين الناس. انتهى
(3)
.
قال: والمراد: أنها من ذخائر الجنة، أو من محصّلات نفائس الجنة،
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 25 - 26.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 26.
(3)
"الفتح" 15/ 223.
قال النوويّ: المعنى: أن قولها يحصّل ثوابًا نفيسًا يُدّخَر لصاحبه في الجنة.
وأخرج أحمد، والترمذيّ، وصححه ابن حبان، عن أبي أيوب؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسري به مَرّ على إبراهيم -على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام- فقال:"يا محمد مُرْ أمتك أن يُكثروا من غِراس الجنة، قال: وما غِراس الجنة؟ قال: لا حول، ولا قوّة الا باللَّه". انتهى
(1)
.
(فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلْ: لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") معنى "لا حول": لا حِيلة، يقال: ما له حيلة، وما له حول، وما له احتيال، وما له مُحتال، وما له مَحالة
(2)
.
وقال النوويّ: قال أهل اللغة: الحول: الحركة، والحيلة؛ أي: لا حركة، ولا استطاعة، ولا حيلة إلا بمشيئة اللَّه تعالى، وقيل: معناه لا حول في دفع شرّ، ولا قوة في تحصيل خير، إلا باللَّه، وقيل: لا حول عن معصية اللَّه إلا بعصمته، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته، وحُكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه، وكله متقارب، قال أهل اللغة: ويعبَّر عن هذه الكلمة بالحوقلة، والحولقة، وبالأول جزم الأزهريُّ، والجمهور، وبالثاني جزم الجوهريّ، ويقال أيضًا: لا حَيْل، ولا قوّة في لغة غريبة، حكاها الجوهريّ وغيره.
قال العلماء: سبب كونها كنزًا من كنوز الجنّة أنها كلمة استسلام، وتفويض إلى اللَّه تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا رادّ لأمره، وأن العبد لا يملك شيئًا من الأمر. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 6838 و 6839 و 6845 و 6841 و 6842 و 6843 و 6844](2704)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4205)
(1)
"الفتح" 15/ 223.
(2)
"كشف المشكل" لابن الجوزيّ 1/ 413.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 26 بتصرّف.
و"الدعوات"(6384) و"القدر"(6610) و"التوحيد"(7386)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1526)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3461)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 598) و"عمل اليوم والليلة"(552)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3824)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 402 و 403 و 417 و 418 و 419)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(804)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 376)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب ذكر اللَّه تعالى في السفر.
2 -
(ومنها): بيان عدم مشروعيّة رفع الصوت بالذكر، والمراد به: المبالغة فيه، لا أصل الرفع، فقد ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة كان على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال السنديّ رحمه الله: مقتضاه أن رفع الصوت لا يُكره لذاته، بل لِمَا فيه من التعب والمشقة على صاحبه، فالمكروه هو الجهر الشديد المشتمِل على النعت، لا مجرد الإظهار، إلا إذا تضمّن مفسدة الرياء، فلا حجة فيه لمن يقول بكراهة الجهر مطلقًا، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله الطحاويّ رحمه الله: في هذا الحديث أمَر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإرباع على أنفسهم في رفع الأصوات بالتكبير، فيما كانوا رفعوها به، وإعلامهم مع ذلك أنهم لا يَدْعُون أصمّ، ولا غائبًا، فكانت التلبية كذلك، إنما يراد بها ذِكر اللَّه، وليس بأصمّ، ولا غائبًا، فيحتاج إلى رفع الأصوات بها، وهذان الحديثان فيهما من التضادّ؛ لِمَا رويتموه من رفع الأصوات بالتلبية في هذا الباب ما لا خفاء به.
قال: فكان جوابنا له في ذلك: أن الأمر في ذلك ليس كما ذُكر مما يوجب التضادّ، ولكن الوجه في ذلك أن التلبية من شعائر الحج تُرفع الأصوات بها، ثم أخرج بسنده عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيّ الحج أفضل؟ قال: "العَجّ والثّجّ".
(1)
"حاشية السنديّ على صحيح البخاريّ" 2/ 71.
فكان العجّ المذكور في هذا الحديث هو العجّ بالتلبية، والثجّ المذكور فيه هو نحر البُدْن.
قال: فكان من شعائر الحج رفع الأصوات بالتلبية، وكان الحج بائنًا بذلك، كما بأن به في سوى التلبية من شعائر الحجّ، من حَلْق الرؤوس عند حِلّ المحرمين به، ومن اجتناب ما يجتنبونه فيه، من حَلْق الشعر، وقص الأظفار، ومما سوى ذلك، ولم يكن في رفع الأصوات بالتكبير المذكور في حديث أبي موسى هذان الوجهان اللذان ذكرناهما في هذين الأمرين، فانتفى أن يكون لأحدهما ما يوجب تضادّ الآخر منهما. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما أشار إليه الطحاويّ: أنه قد يقال: إن بين حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا الذي أمر صلى الله عليه وسلم بعدم رفع الصوت بالذكر، وحديث أبي بكر رضي الله عنه الذي فيه بيان النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أفضل أعمال الحجّ رفع الصوت بالتلبية تعارضًا.
وخلاصة جوابه: أنه لا تعارض بينهما؛ لأنه إنما أمر برفع الصوت بالتلبية؛ لكونها من شعائر الحجّ، كسائر الأفعال التي يفعلها الحاج من حَلْق الرأس عند التحلل، ومن اجتناب محظورات الإحرام، فكلّها من شعائر الحج، فأمر بإظهارها، بخلاف مُطْلَق الذِّكر الذي دلّ عليه حديث أبي موسى رضي الله عنه، فليس من الشعائر، فلا يُشرع فيه رفع الصوت؟ لعدم ما يستدعي ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6839]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، جَمِيعًا عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عَاصِمٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، غير:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) هو ابن راهويه، فقد تقدّم قبل ثمانية أبواب.
(1)
"شرح مشكل الآثار" 14/ 498 - 501.
[تنبيه]: رواية حفص بن غياث عن عاصم الأحول هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6840]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُريعٍ- حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُمْ يَصْعَدُونَ فِي ثَنِيَّةٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رَجُلٌ كُلَّمَا عَلَا ثَنِيَّةً نَادَى: لَا إِلَهَ إِلَا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ: فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ لَا تُنَادُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا"، قَالَ: فَقَالَ: "يَا أَبَا مُوسَى -أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ- أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزِ الْجَنَّةِ؟ "، قُلْتُ: مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) الْجَحْدريّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان، أبو المعتمر البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَهُمْ يَصْعَدُونَ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تعب.
وقوله: (فِي ثَنِيةٍ) بفتح المثلّثة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة: الْعَقَبة، أو طريقها، أو الجبل، أو الطريقة فيه، أو إليه، قاله المجد رحمه الله
(1)
.
وقوله: (أَوْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ) هذا شك من الراوي هل قال: "يا أبا موسى"، أو قال:"يا عبد اللَّه بن قيس"، والأول كنيته، والثاني اسمه.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
(1)
"القاموس المحيط" ص 183.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6841]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ القيسيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان بن طرخان التيميّ، أبو محمد البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية المعتمر عن أبيه هذه ساقها ابن أبي عاصم رحمه الله في "السُّنَّة"، فقال:
(619)
- ثنا عبيد اللَّه بن معاذ العنبريّ، ثنا معتمر بن سليمان، قال: قال أبي، حدّثنا أبو عثمان، عن أبي موسى، قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه يَصعَدون في ثنيّة -أو قال: في عقبة- ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على بغلة، لم يعرضها في الجبل، فكلما علا رجل من القوم الثنية، أو قال: في العقبة، نادى، أو قال: هتف، قال: ولعله قال بأعلى صوته: لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إنكم لا تدعون أصمّ، ولا غائبًا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6842]
(. . .) - (حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو الرَّبِيع، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيدٍ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَاصِمٍ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(خَلَفُ بْنُ هِشَامِ) بن ثعلب -بالمثلثة، والمهملة- البزار -بالراء
(1)
"السُّنَّة" لابن أبي عاصم 1/ 275.
آخره- المقرئ البغداديّ، ثقةٌ له اختيار في القراءات [10](ت 229)(م د) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
2 -
(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود العتكيّ.
[تنبيه]: رواية أيوب عن أبي عثمان ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6021)
- حدّثنا سليمان بن حرب، حدّثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي عثمان، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنا إذا علونا كبّرنا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أيها الناس اربَعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمّ، ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا". ثم أتى عليّ، وأنا أقول في نفسي: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فقال:"يا عبد اللَّه بن قيس قل: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فإنها كنز من كنوز الجنة"، أو قال:"ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة إلا باللَّه". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6834]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: "وَالَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَةِ أَحَدِكُمْ"، وَلَيْسَ فِى حَدِيثِهِ ذِكْرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الثَّقَفِي) عبد الوهّاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، تغيَّر قبل موته بثلاث سنين
(2)
[8](ت 194) عن نحو من ثمانين سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
(1)
"صحيح البخاري" 5/ 2346.
(2)
هذا ذكرته تبعًا لـ "التقريب"، وإلا فلا ينبغي ذكره؛ لأنه حُجب عن الناس بعد اختلاطه، فلا عيب فيه.
2 -
(خَالِدٌ الْحَذَّاءُ) هو: خالد بن مِهْران أبو الْمُنازل، بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي، البصريّ، ثقة يرسل، أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغيّر لمّا قدم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان [5](ت 1 أو 142)(ع) تقدم في "الإيمان" 15/ 144.
والباقون ذُكروا في الباب.
قوله: (وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذِكْرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") هكذا قال المصنّف، لكن لم أجد هذه الرواية، فإن الحديث أخرجه أحمد في "مسنده" عن الثقفي بسنده، والنسائي في "الكبرى" عن محمد بن بشّار، عن الثقفيّ به، وفي روايتيهما ذِكر:"لا حول ولا قوّة إلا باللَّه"، فليُتنبّه.
[تنبيه]: رواية خالد الحذّاء عن أبي عثمان هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19614)
- حدّثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفيّ أبو محمد، ثنا خالد الحذّاء، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غَزَاة، فجعلنا لا نَصْعَد شَرَفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط في وادٍ إلا رفَعْنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس ارْبَعُوا على أنفسكم، فإنكم ما تدعون أصمّ، ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته، يا عبد اللَّه بن قيس، ألا أعلِّمك كلمة من كنوز الجنة، لا حول ولا قوة، إلا باللَّه". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6844]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ غِيَاثٍ- حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ -أَوْ قَالَ- عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ "، فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ").
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 402.
رجال هذا الإسناد:
1 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ) -بغين معجمة مكسورة، ومثلثة -الراسبيّ، أو الزهرانيّ- البصريّ، ثقةٌ، ورُمي بالإرجاء [6](خ م د س) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6845]
(2705) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ:"قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَبِيرًا -وَقَالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا-: وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء الْبَغْلانيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن المهاجر التجيبيّ مولاهم المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 242)(م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
3 -
(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] مات في شعبان سنة (175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.
4 -
(يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ) المصريّ، أبو رجاء، واسم أبيه سُويد، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [5](128) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
5 -
(أَبُو الْخَيْرِ) مرثد بن عبد اللَّه الْيَزَنيّ -بفتح التحتانية، والزاي، بعدها نون- المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [3](90)(ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.
6 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
7 -
(أَبُو بَكْرِ) بن أبي قُحافة الصدّيق الأكبر عبد اللَّه بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سَعْد بن تَيْم بن مُرّة التيميّ، خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مات رضي الله عنه في جُمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فرّق بينهما بالتحويل، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، إلا أبا بكر رضي الله عنه فمدنيّ، وقتيبة، فبغلانيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن أبا بكر هو الصدّيق الأكبر أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام، وأول من آمن من الرجال، وصاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم في الغار، وأول الخلفاء الراشدين، ومناقبه لا تُحصى، وفضائله لا تُستقصى رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، قال في "الفتح": مقتضى هذا أن الحديث من مسند الصدّيق رضي الله عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسيّ، عن الليث، فإن لفظه عن أبي بكر، قال:"قلت: يا رسول اللَّه"، أخرجه البزّار من طريقه، وخالف عمرُو بن الحارث الليثَ، فجعله من مسند عبد اللَّه بن عمرو، ولفظه:"عن أبي الخير أنه سمع عبد اللَّه بن عمرو، يقول: إن أبا بكر قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم"، هكذا رواه ابن وهب، عن عمرو، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة الحديث، وقد أخرج البخاريّ طريق عمرو معلقة في "الدعوات" وموصولة في "التوحيد"، وكذلك أخرج مسلم الطريقين: طريق الليث، وطريق ابن وهب
(1)
، وزاد مع عمرو بن الحارث رجلًا مبهمًا، وبيَّن ابن خزيمة في روايته أنه ابن لهيعة. انتهى
(2)
.
(أَنَّهُ)؛ أي: أبا بكر رضي الله عنه، (قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْني دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي) الظاهر أنه يريد عقب التشهد الأخير، والصلاةِ على النبيّ صلى الله عليه وسلم،
(1)
أما طريق الليث فهي هذه، وأما طريق ابن وهب، فهي التالية.
(2)
"الفتح" 3/ 66، "كتاب الأذان" رقم (834).
والاستعاذةِ من الأربع، وإليه جنح البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" حيث قال:"باب الدعاء قبل السلام"، ثم ذكر حديث أبي بكر رضي الله عنه هذا.
قال ابن دقيق العيد رحمه الله في الكلام على هذا الحديث: هذا يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محلّه، ولعل الأَولى أن يكون في أحد موطنين، إما السجود، وإما بعد التشهد؛ لأنهما أُمِرَ فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد بظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحلّ.
ونازعه الفاكهانيّ رحمه الله فقال: الأَولى الجمع بينهما في المحلّين المذكورين؛ أي: السجود والتشهد.
وقال النوويّ رحمه الله: استدلال البخاريّ صحيح؛ لأن قوله: "في صلاتي" يعمّ جميعها، ومن مظانّه هذا الموطن.
قال الحافظ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون سؤال أبي بكر رضي الله عنه عن ذلك كان عند قوله لمّا علّمهم التشهّد: "ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء"، ومن ثم أعقب المصنف -يعني: البخاريّ- الترجمةَ بذلك -يعني: قوله: "باب ما يتخيّر من الدعاء بعد التشهد، وليس بواجب"-. انتهى.
وقال العينيّ رحمه الله: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة، ولكن المراد: بعد التشهد الأخير قبل السلام؛ لأن لكلّ مقام من الصلاة ذِكرًا مخصوصًا، فتعيّن أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكلّ، وهو آخر الصلاة، وبيانه أن للصلاة قيامًا، وركوعًا، وسجودًا، وقُعُودًا، فالقيام محلّ قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محلّ التشهد، فلم يبق للدعاء محلّ إلا بعد التشهد قبل السلام. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: يؤيّد هذا ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ليتخيّر من الدعاء ما شاء"، لكن الأَولى ما تقدم عن الفاكهانيّ، فينبغي الدعاء به في السجود أيضًا؛ لأنه محلّ الدعاء أيضًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالاجتهاد في الدعاء فيه. واللَّه تعالى أعلم.
[فائدة]: المواضع التي صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو فيها في الصلاة سبعة كما قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"، ونظمها الصنعانيّ رحمه الله بقوله [من الطويل]:
مَوَاضِعُ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ لِأَحْمَدِ
…
إِذَا مَا دَعَا قَدْ خَصَّصُوهَا بِسَبْعَةِ
عَقِيبَ افْتِتَاحٍ ثمَّ بَعْدَ قِرَاءَةٍ
…
وَحَالَ رُكُوعٍ وَاعْتِدَالٍ وَسَجْدَةِ
وَبَيْنَهُمَا بَعْدَ التّشَهُّدِ هَذِهِ
…
مَوَاضِعُ تُرْوَى عَنْ ثِقَاتٍ بِصِحَّةِ
انتهى
(1)
.
وزاد في "الفتح" ثامنًا، وهو أنه كان يدعو في حال القراءة إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قد نظمت الثامن بقولي:
وَزِدْ ثَامِنًا وَهْوَ الدُّعَاءُ إِذَا تَلَا
…
وَمَرَّ بآيَةٍ بَهَا ذِكْرُ رَحْمَةِ
فَيَسْأَلُ رَحْمَة وَإِنْ آيَةٌ بِهَا
…
تَعْذِيبٌ لأُمَّةٍ أَنَابَ بِعَوْذَةِ
(قَالَ: "قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي)؛ أي: بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظّ والأجر، وقوله:(ظُلْمًا كَبِيرًا -وَقَالَ قُتَيْبَةُ: كَثِيرًا) أشار به إلى اختلاف شيخيه في هذا اللفظ، فرواه محمد بن رُمح بالباء الموحّدة، ورواه قتيبة بالثاء المثلَّثة، فينبغي للداعي أن يتخيّر بين اللفظين، ولا يجمع بينهما؛ لأنه لم يُروَ إلا أحدهما، والأَولى أن يأتي بهذا مرّة، وبهذا مرّة، فيكون قد أتى بما نطق به النبيّ صلى الله عليه وسلم بيقين، وقد مضى في "كتاب الصلاة" هذا البحث مستوفًى، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
(وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ) هذا مثل قوله تعالى: {وَمَن يَغفِرُ الذُّنوُبَ إِلَّا اَللَّهُ} ، ففيه الإقرار بوحدانية الباري، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار، كما قال تعالى:"عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به"، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لِمَا أثنى اللَّه تعالى عليه في قوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 135]، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثنائه بالاستغفار لوّح بالأمر به، كما قيل: إن كلّ شيء أَثنى اللَّهُ على فاعله، فهو آمر به، وكلّ شيء ذَمَّ فاعلَه فهو ناهٍ عنه. قاله في "الفتح"
(3)
.
(1)
"العدّة حاشية العمدة" 3/ 40.
(2)
"الفتح" 12/ 417.
(3)
"الفتح" 3/ 66، "كتاب الأذان" رقم (834).
(فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: دلّ التنكير على أن المطلوب غُفران عظيم، لا يُدرَك كُنْهُهُ، ووَصَفَهُ بكونه من عنده مُريدًا لذلك العِظَمِ؛ لأن الذي يكون من عند اللَّه تعالى لا يُحيط به وصف.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: يَحْتَمِل وجهين:
أحدهما: الإشارة إلى التوحيد المذكور، كانه قال: لا يفعل هذا إلا أنت، فافعله لي أنت.
الثاني: -وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة مُتفَضَّل بها، لا يقتضيها سبب من العبد، من عَمَل حَسَن، ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير، ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرّؤٌ عن الأسباب، والإدلالِ بالأعمال، والاعتقادِ في كونها موجبة للثواب وجوبًا عقليًّا. انتهى.
قال في "الفتح": وبهذا الثاني جزم ابن الجوزيّ
(1)
، فقال: المعنى: هَبْ لي المغفرة تفضّلًا، وإن لم أكن لها أهلًا بعملي. انتهى
(2)
.
(وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ") هما صفتان ذُكرتا ختمًا للكلام على جهة المقابلة لِمَا قبله، فـ "الغفور" مقابل لقوله:"اغفر لي"، و"الرحيم" مقابل لقوله:"ارحمني"، وقد وقعت المقابلة ههنا للأول بالأول، والثاني بالثاني، وقد يقع على خلاف ذلك بأن يُراعَى القربُ، فيُجعَل الأول للأخير، وذلك على حسب اختلاف المقاصد، وطلب التفنن في الكلام، ومما يُحتاج إليه في علم التفسير مناسبة مقاطع الآي لِمَا قبلها، قاله ابن دقيق العيد رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه هذا مُتّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال الحميديّ رحمه الله في "الجمع بين الصحيحين"(1/ 81): جعله بعض الرواة من مسند عبد اللَّه عمرو؛ لأنه قال فيه عنه: إن أبا بكر قال
(1)
"كشف المشكل" 1/ 13.
(2)
"الفتح" 3/ 66، "كتاب الأذان" رقم (834).
لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد أخرجاه أيضًا كذلك من طريق عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب -يعني: الرواية التالية- وهو مذكور في "تحفة الأشراف"
(1)
في مسند ابن عمرو. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما كان حاضرًا عندما سأل أبو بكر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذا الدعاء، ثم ثبّته أبو بكر، فكان يُحدّث بهما، فصحّ كونه من مسنديهما، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 6845 و 6846](2705)، و (البخاريّ) في "الأذان"(834) و"الدعوات"(3626) و"التوحيد"(7387 و 7388)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3531)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1302) وفي "الكبرى"(1225) وفي "عمل اليوم والليلة"(179)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3835)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 4 و 7)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 46)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(5)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(845)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1976)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(32)، و (البزّار) في مسنده" (1/ 85 و 195)، و (البيهقيّ) في "الكبرى" (2/ 154)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (694)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب طلب التعليم من العالم، خصوصًا في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم.
2 -
(ومنها): ما قاله الكرمانيّ رحمه الله: هذا الدعاء من الجوامع؛ لأن فيه الاعترافَ بغاية التقصير، وطلبَ غاية الإنعام، فالمغفرة سَتْر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب الجنة، وهذا هو الفوز العظيم.
3 -
(ومنها): أن فيه ردًّا على من زعم أنه لا يستحقّ اسم الإيمان إلا من لا خطيئة له، ولا ذنب؛ لأن الصدّيق رضي الله عنه من أكبر أهل الإيمان، وقد علّمه
(1)
راجع: "تحفة الأشراف" 6/ 380.
النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول: "إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت". قاله الطبريّ رحمه اللَّه تعالى.
4 -
(ومنها): أن فيه مشروعيّةَ الدعاء في الصلاة، وفضلَ هذا الدعاء على غيره، وطلبَ التعليم وإن الأعلى، وإن كان الطالب يعرف ذلك النوع، وخص الدعاء بالصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجد".
5 -
(ومنها): أن المرء ينظر في عبادته إلى الأرفع، فيتسبب في تحصيله، وفي تعليم النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر هذا الدعاء إشارةٌ إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا.
6 -
(ومنها): ما قاله العلامة المحقق ابن دقيق العيد رحمه الله: في الحديث دليل على أن الإنسان لا يَعرَى من ذنب وتقصير، كما قال صلى الله عليه وسلم:"استقيموا، ولن تُحصوا. . . " وفي الحديث: "كل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوّابون"، وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقًا من غير تقييد بحالة، فلو كان ثمّة حال لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لَمَا كان هذا الإخبار مطابقًا للواقع، فلا يؤمر به. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله: فيه أن الإنسان لا يعرى عن تقصير، ولو كان صدّيقًا.
وقال السنديّ رحمه الله بعد نقل كلام الحافظ هذا-: بل فيه: أن الإنسان كثير التقصير، وإن كان صدّيقًا؛ لأن النِّعم عليه غير متناهية، وقوّته لا تطيق أداء أقلّ قليل من شكرها، بل شُكره من جملة النعم أيضًا، فيحتاج إلى شكره هو أيضًا كذلك، فما بقي إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف، وقد جاء في جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم:"ظلمت نفسي". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6846]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَبُو الطَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي رَجُلٌ سَمَّاهُ، وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ؛ أَنَّهُ
(1)
"إحكام الأحكام" 3/ 40 - 41 بحاشية "العدّة".
(2)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 3/ 53.
سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: عَلِّمْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، وَفِي بَيْتِي. ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"ظُلْمًا كَثِيرًا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ) أبو محمد المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (وَرَجُلٌ سَمَّاهُ) هو عبد اللَّه بن لهيعة، كما سيأتي في رواية ابن خزيمة، وإنما أبهمه؛ لكونه ضعيفًا، لكنه يصلح للمتابعة، فذكره متابعًا لعمرو بن الحارث.
وفاعل "سمّاه" ضمير عبد اللَّه بن وهب.
وقوله: (فِي صَلَاتِي)؛ أي: في الصلاة التي أؤديها في أيّ مكان من المسجد، أو غيره.
وقوله: (وَفِي بَيْتِي) يَحْتَمل أن يكون في الصلاة التي يصليها في البيت، كالتهجّد ونحوه، ويَحْتَمل أن يكون أعمّ من الصلاة، بأن يدعو بها في بيته ولو لم يصلّ.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللَّيْثِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير عمرو بن الحارث.
[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث، والرجل كلاهما عن أبي الخير ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(846)
- أنا يونس بن عبد الأعلى الصّدَفيّ، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، وابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير؛ أنه سمع عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يقول: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال
لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: علّمني يا رسول اللَّه دعاء أدعو به في صلاتي، وفي بيتي، قال:"قل: اللَّهُمَّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". انتهى
(1)
.
(14) - (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ الْفِتَنِ وَغَيْرِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6847]
(589)
(2)
- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ
(3)
- قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ:"اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ، وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الْخَطَايَا، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَالْمَأْثَمِ، وَالْمَغْرَمِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(هِشَامُ) بن عروة بن الزبير المدنيّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"صحيح ابن خزيمة" 2/ 29.
(2)
تقدّم، فهو مكرّر.
(3)
وفي نسخة: "واللفظ لأبي كريب".
5 -
(أَبُوهُ) عروة بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت أيضًا قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من هشام، والباقون كوفيّون، وأبو كريب أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وفيه عائشة رضي الله عنها، من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ) هي قوله: (اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ)؛ أي: فتنة تؤدي إلى النار؛ لئلا يتكرر، ويَحْتَمِل أن يراد بفتنة النار: سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8]، وقوله:(وَعَذَابِ النَّارِ)؛ أي: من أن أكون من أهل النار، وهم الكفار فإنهم هم المعذَّبون، وأما الموحدون فإنهم مؤدَّبون، ومهذَّبون بالنار، لا معذبون بها
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "وعذاب النار"؛ أي: إحراقها بعد فتنتها، كذا قرر بعضهم، وقال الطيبيّ: قوله: "فتنة النار"؛ أي: فتنة تؤدي إلى عذاب النار، وإلى عذاب القبر؛ لئلا يتكرر إذا فُسّر بالعذاب.
(وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ) معنى فتنة القبر: التحيّر في جواب منكَر ونكير، وقوله:(وَعَذَابِ الْقَبْرِ) عطف عامّ على خاصّ، فعذابه قد ينشأ عنه فتنة، بأن يتحير، فيعذَّب لذلك، وقد يكون لغيرها، كأن يجيب بالحقّ، ولا يتحير، ثم يعذَّب على تفريطه في بعض المأمورات، أو المنهيات، كإهمال التنزه عن البول.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الفتنة هنا هي ضلال أهل النار المفضي بهم إلى
(1)
"عون المعبود" 4/ 282.
عذاب النار، وفتنة القبر: هي الضلال عن صواب إجابة الملَكين فيه، وهما: منكر ونكير -كما تقدّم-. وعذاب القبر: هو ضربُ من لم يوفَّق للجواب بمطارق الحديد، وتعذيبه إلى يوم القيامة، وشر فتنة الغنى: هي الحرص على الجمع للمال، وحبّه حتى يكتسبه من غير حلّه، وبمنعه من واجبات إنفاقه، وحقوقه. وشر فتنة الفقر؛ يعني به: الفقر المدقع الذي لا يصحبه صبر، ولا ورع، حتى يتورّط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الأديان، ولا بأهل المروءات، حتى لا يبالي بسبب فاقته على أيّ حرام وثب، ولا في أيّ ركاكة تورّط، وقيل: المراد به فقر النفس الذي لا يردّه مُلك الدنيا بحذافيرها.
وليس في شيء من هذه الأحاديث ما يدلّ على أن الغنى أفضل من الفقر، ولا أن الفقر أفضل من الغنى؛ لأنَّ الغنى والفقر المذكورين هنا مذمومان باتفاق العقلاء، وقد تكلّمنا على مسألة التفضيل فيما تقدّم.
والكسل المتعوّذ منه: هو التثاقل عن الطاعات، وعن السعي في تحصيل المصالح الدينية والدنيوية، والعجز المتعوّذ منه: هو عدم القدرة على تلك الأمور، والهَرَم المتعوّذ منه: هو المعبّر عنه في الحديث الآخر بأرذل العمر، وهو: ضَعف القوى، واختلال الحواسّ، والعقل الذي يعود الكبير بسببه إلى أسوأ من حال الصغير، وهو الذي قال اللَّه تعالى فيه:{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} [يس: 68]. انتهى
(1)
.
(وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى) هو البَطَر، والطغيان، وتحصيل المال من الحرام، وصَرْفه في العصيان، والتفاخر بالمال والجاه. (وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ) هو الحسد على الأغنياء، والطمع في أموالهم، والتذلل بما يدنِّس العِرْض، ويَثْلِم الدين، وعدم الرضا بما قَسَم اللَّه له، وغير ذلك مما لا تُحْمَد عاقبته.
وقيل: الفتنة هنا: الابتلاء، والامتحان؛ أي: من بلاء الغنى، وبلاء الفقر؛ أي: من الغنى والفقر الذي يكون بلاءً ومشقةً. ذكره في "المرقاة"
(2)
.
وقال المناويّ: "ومن شر فتنة الغنى"؛ أي: البطر، والطغيان، والتفاخر، وصَرْف المال في المعاصي، "وأعوذ بك من فتنة الفقر"؛ أي: حسد الأغنياء،
(1)
"المفهم" 7/ 33 - 34.
(2)
"عون المعبود" 4/ 282.
والطمع في مالهم، والتذلل لهم بما يدنِّس العرض، ويَثْلَم الدين، ويوجب عدم الرضا بما قُسم، ذكره البيضاويّ، وقال الطيبيّ: الفتنة إن فُسّرت بالمحنة والمصيبة، فشرّها أن لا يصبر الرجل على لأوائها، ويجزع منها، وإن فُسرت بالامتحان والاختبار، فشرّها أن لا يَحمد في السراء، ولا يصبر في الضراء
(1)
.
وقال في "الفتح": قال الغزاليّ: فتنة الغنى: الحرص على جمع المال، وحبه، حتى يكسبه من غير حِلّه، وبمنعه من واجبات إنفاقه، وحقوقه، وفتنة الفقر يراد به: الفقر الْمُدْقِع الذي لا يصحبه خير، ولا ورع، حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة، ولا يبالي بسبب فاقته على أيّ حرام وثب، ولا في أيّ حالة تورّط، وقيل: المراد به: فَقْر النفس الذي لا يردّه مُلك الدنيا بحذافيرها، وليس فيه ما يدل على تفضيل الفقر على الغنى، ولا عكسه. انتهى
(2)
.
(وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)"المسيح" بفتح الميم، وكسر السين، وبكسرهما مع تشديد السين، فمن شدّد فهو من ممسوح العين، ومن خفّف فهو من السياحة؛ لأنه يمسح الأرض، أو لأنه ممسوح العين اليمنى؛ أي: أعور، وقال ابن فارس: المسيح: الذي أحد شِقَّيْ وجهه ممسوح، لا عين له، ولا حاجب.
و"الدجال" من الدجل، وهو التغطية؛ لأنه يغطي الأرض بالجمع الكثير، أو لتغطيته الحقّ بالكذب، أو لأنه يقطع الأرض
(3)
.
وقال المناويّ: "المسيح" بفتح الميم، وخفة السين، وبحاء مهملة، سُمّي به؛ لكون إحدى عينيه ممسوحة، أو لمسح الخير منه، فَعِيل بمعنى مفعول، أو لمسحه الأرض، أو قطعها في أمد قليل، فهو بمعنى فاعل، وقيل: هو بِخاء معجمة، ونُسب قائله إلى التصحيف.
و"الدجال": احتراز عن عيسى عليه السلام، من الدجل: الخلطُ، أو التغطية، أو الكذب، أو غير ذلك، وهو عدو اللَّه المموِّه، واسمه: صافي، وكنيته: أبو
(1)
"فيض القدير" 2/ 127.
(2)
"فتح الباري" 11/ 177.
(3)
"عمدة القاري" 5/ 23.
يوسف، وهو يهوديّ، وإنما استعاذ النبيّ صلى الله عليه وسلم منه مع كونه لا يدركه؛ نشرًا لخبره بين أمته جِيلًا بعد جيل؛ لئلا يلتبس كفره على مدركه. انتهى
(1)
.
وقال وليّ الدين رحمه الله: المشهور في لفظ "المسيح الدجال" أنه بفتح الميم، وكسر السين المهملة، وتخفيفها، وبالحاء المهملة؛ كالمسيح ابن مريم؛ إلا أنه مسيح الهدى، وذاك مسيح الضلالة، سُمِّي به لمسح إحدى عينيه، فيكون بمعنى مفعول، وقيل: لمسحه الأرض، فيكون بمعنى فاعل، وقيل: التمسّح والتمساح: المارد الخبيث، فقد يكون فعيلًا من هذا، وقال ثعلب في "نوادره": التمسح والممسَّح: الكذاب، فقد يكون من هذا أيضًا، وضَبَطه بعضهم بكسر الميم، وتشديد السين، حُكي عن ابن أبي مروان بن سراج، وأنكره الهرويّ، وقال: ليس بشيء، وضُبِط بوجهين آخرين، هما: بفتح الميم مع تخفيف السين، وكسر الميم، مع تشديد السين، مع الخاء المعجمة فيهما، يقال: مسخ خلقه؛ أي: شَوَّه، وقيل: هو الممسوخ العين، والمسيخ الأعور، وقال بعضهم: أصله بالعبرانية: مشيح؛ أي: بالشين المعجمة، والحاء المهملة، فعُرِّب كما عُرِّب موسى.
وأما "الدجال" فقيل: معناه الكذاب، وقيل: الممَوِّه بباطله، وسِحره الملبِّس به، والدجل: طلي البعير بالقطران، وقيل: سمي بذلك لضربه نواحي الأرض، وقَطْعه لها، يقال: دجل الرجل، بالتخفيف والتثقيل، كما ذكره القاضي في "المشارق"، وبالفتح والضم، كما ذكره في "الإكمال شرح مسلم": إذا فعل ذلك، وقيل: هو من التغطية؛ لأنه يغطي الأرض بجموعه، والدجل: التغطية، ومنه سمّيت دجلة؛ لتغطية ما فاضت عليه. انتهى
(2)
.
(اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَايَ) جمع خطيئة، وأصل خطايا: خطائئ، على وزن فعائل، ولمّا اجتَمَعت الهمزتان، قُلبت الثانية ياء؛ لأن قبلها كسرة، ثم استُثقِلت، والجمع ثقيل، وهو معتلّ مع ذلك، فقُلبت الياء ألفًا، ثم قُلبت الهمزة الأُولى ياء؛ لخفائها بين الألِفين
(3)
.
(1)
"فيض القدير" 2/ 127.
(2)
"طرح التثريب شرح التقريب" 3/ 109.
(3)
"عمدة القاري" 6/ 23.
(بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ) خصَّهما بالذِّكر؛ لنقائهما، ولِبُعدهما من مخالطة النجاسة، و"البرد" بفتح الباء الموحدة والراء: حَبّ الغمام، تقول منه: بردت الأرض.
وقال في "الفتح": حكمة العدول عن الماء الحارّ إلى الثلج والبرد، مع أن الحارّ في العادة أبلغ في إزالة الوسخ: الإشارةُ إلى أن الثلج والبرد ماءان طاهران، لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ذكرهما آكد في هذا المقام، أشار إلى هذا الخطابيّ. وقال الكرمانيّ: وله توجيه آخر، وهو أنه جعل الخطايا بمنزلة النار؛ لكونها تؤدي إليها، فعَبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل؛ تأكيدًا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبرّدات؛ ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، ثم إلى أبرد منه، وهو البَرَد، بدليل أنه قد يَجْمُد ويصير جليدًا، بخلاف الثلج، فإنه يذوب. انتهى
(1)
.
(وَنَقِّ) بفتح النون، وشد القاف، (قَلْبِي) الذي هو بمنزلة ملك الأعضاء، واستقامَتُها باستقامته. (مِنَ الْخَطَايَا) تأكيد للسابق، ومجاز عن إزالة الذنوب، ومحو أثرها. (كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ) -بفتح الدال، والنون-؛ أي: الوسخ، وفي رواية:"من الدرن".
وقال في "العمدة": قوله: "ونَقِّ" أمْر مِن نَقَّى يُنَقِّي تنقية، وذَكَره للتأكيد، وقال الداوديّ: هو مجاز؛ يعني: كما يَغسل ماء الثلج، وماء البرد ما يصيبه.
قيل: العادة أنه إذا أُريدَ المبالغة في الغسل يغسل بالماء الحارّ، لا بالبارد، ولا سيما الثلج ونحوه، وأجاب الخطابيّ بأن هذه أمثال، لم يُرِدْ بها أعيان المسمَّيات، وإنما أراد بها التوكيد في التطهير من الخطايا، والمبالغة في محوها عنه، والثلج والبرد ماءان مقصوران على الطهارة، لم تمسهما الأيدي، ولم يمتهنهما استعمال، فكان ضَرْب المثل بهما أوكد في بيان ما أراده من التطهير.
وقال الكرمانيّ: يَحْتَمِل أنه جعل الخطايا بمنزلة نار جهنم؛ لأنها مؤدية إليها، فعبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في الإطفاء، وبالغ فيه باستعمال
(1)
"فتح الباري" 11/ 177.
المبردات؛ ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه، وهو الثلج، إلى أبرد منه، وهو البَرَد، بدليل جموده
(1)
.
وقوله: (وَبَاعِدْ)؛ أي: أَبْعِد، وعَبَّر يالمفاعلة مبالغةً، (بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ) كرَّر "بين" هنا دون ما بعده؛ لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض، وجوبًا، خلافًا لابن مالك، كما قال في:"الخلاصة":
وَعَوْدُ خَافِضٍ لَدَى عَطْفٍ عَلَى
…
ضَمِيرِ خَفْضٍ لَازِمًا قَدْ جُعِلا
وَلَيْسَ عِنْدِي لَازِمًا إِذْ قَدْ أَتَى
…
فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ الصَّحِيحِ مُثْبَتَا
أي: ذنوبي، والْخِطْءُ بالكسر: الذنب.
(كَمَا بَاعَدْتَ)؛ أي: كتبعيدك (بَيْنَ الْمَشْرِقِ) موضع الشروق، وهو مطلع الأنوار، (وَالْمَغْرِبِ)؛ أي: محل الأفول، وهذا مجاز؛ لأن حقيقة المباعدة، إنما هي في الزمان والمكان؛ أي: امحُ ما حَصَل من ذنوبي، وحُلْ بيني وبين ما يُخاف من وقوعها، حتى لا يبقى لها اقتراب مني بالكلية، فـ "ما" مصدرية، والكاف للتشبيه، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مُحال، فشبّه بُعْد الذنب عنه بُبعد ما بينهما، والثلاثة إشارة لِمَا يقع في الأزمنة الثلاثة، فالمباعدة للمستقبل، والتنقية للحال، والغسل للماضي، والنبيّ صلى الله عليه وسلم معصوم، وإنما قصد تعليم الأمة، أو إظهار العبودية، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
(اللَّهُمَّ فَإِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ) هو عدم انبعاث النفس بالخير، وقلة الرغبة فيه مع إمكانه، (وَالْهَرَمِ) -بفتحتين- هو الرد إلى أرذل العمر؛ لِمَا فيه من اختلال العقل، والحواسّ، والضبط، والفهم، وتشويه بعض المنظر، والعجز عن كثير من الطاعات، والتساهل في بعضها
(3)
. (وَالْمَأْثَمِ)؛ أي: مما يأثم به الإنسان، أو ما فيه إثم، أو ما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه وضعًا للمصدر موضع الاسم، (وَالْمَغْرَمِ")؛ أي: الدَّين، يقال: غَرِم الرجل بالكسر: إذا ادّان: وقيل: الْغُرْم والمغرم: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذلك ما يلزمه أداؤه، ومنه الغرامة، والغريم: الذي عليه الدَّين،
(1)
"عمدة القاري" 6/ 23.
(2)
فيض القدير" 2/ 128.
(3)
"الديباج على مسلم" 6/ 62.
والأصل فيه: الْغَرَام، وهو الشرّ الدائم، والعذاب
(1)
.
زاد في رواية أخرى لمسلم تقدّمت في "المساجد": "قالت: فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم يا رسول اللَّه؟ فقال: إن الرجل إذا غَرِم حدّث، فكَذَب، ووَعَد، فأخلف"، وبيّن في رواية النسائيّ أن السائلة هي عائشة نفسها، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب المساجد" برقم [25/ 1326](587) واستوفيت شرحه، وبيان مسائله، هناك، لكنيّ نسيت ذِكر هذه الرواية هناك، وهذا غريب، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
ثم وجدت فوائد لم أذكرها هناك، وهي مما جمعه الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله في كتابه الممتع "طرح التثريب شرح التقريب"، فأحببت إيرادها هنا؛ تتميمًا للفوائد، وتكميلًا للعوائد:
1 -
(منها): فائدة استعاذة النبيّ صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور مع أنه مُعاذ منها قطعًا إظهار الخضوع، والاستكانة، والعبودية، والافتقار، وليقتدي به غيره في ذلك، ويَشْرَع لأمته.
2 -
(ومنها): أنه لم يُبَيِّن في هذه الرواية المحلّ الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يأتي فيه بهذه الاستعاذة، وفي "الصحيحين" من حديث عائشة رضي الله عنها؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بذلك في صلاته
(2)
، وفي "صحيح مسلم" وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأمر بذلك بعد الفراغ من التشهد، وفي رواية له تقييد ذلك بالأخير، ففيه استحباب الإتيان بهذا الدعاء بعد التشهد الأخير، وقد صرح بذلك العلماء من أصحابنا -أي: الشافعيّة- وغيرهم، وزاد ابن حزم الظاهريّ على ذلك، فقال بوجوبه، ولم يخص ذلك بالتشهد الأخير، فقال: ويلزمه فرضًا أن يقول إذا فرغ من التشهد في كلتا الجلستين: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك. . . " فذكرها، قال: وقد رُوي عن طاوس أنه صلى ابنه بحضرته، فقال له: ذكرت هذه الكلمات؟ قال:
(1)
"عمدة القاري" 6/ 117.
(2)
تقدّم في مسلم في "كتاب المساجد" برقم [25/ 1328](589).
لا، فأمَره بإعادة الصلاة. انتهى، وهذا الأثر عن طاوس ذكره مسلم في "صحيحه" بلاغًا بغير إسناد.
قال القاضي عياض: وهذا يدلّ على أنه حَمَل أمْر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك على الوجوب، وقال النوويّ: ظاهر كلام طاوس أنه حَمَل الأمر به على الوجوب، فأمر بإعادة الصلاة؛ لفواته، وجمهور العلماء على أنه مستحب، ليس بواجب، ولعل طاووسًا أراد تأديب ابنه، وتأكيد هذا الدعاء عنده، لا أنه يعتقد وجوبه. انتهى.
وكذا قال أبو العباس القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون إنما أمَره بالإعادة تغليظًا عليه؛ لئلا يتهاون بتلك الدعوات، فيتركها، فيُحْرم فائدتها وثوابها. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى أن الذي يظهر من أمر طاوس لابنه بالإعادة أنه يرى وجوب ذلك، وهذا هو الأرجح؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمَر به، وأمْره للوجوب إلا لصارف، ولا صارف هنا، فما ذهب إليه ابن حزم هو الأرجح؛ لظاهر النصّ، فتأمله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم.
قال وليّ الدين: وما ذكره ابن حزم من وجوب ذلك عقب التشهد الأول لم يوافقه عليه أحد، ثم إنه تردّه الرواية التي تقدّم ذِكرها من عند مسلم التي فيها تقييد التشهد بالأخير، فوجب حَمْل المطلق على المقيد، لا سيما والحديث واحد، مداره على أبي هريرة رضي الله عنه.
وقد أورد ابن حزم هذه الرواية على نفسه، وقال: فهذا خبر واحد، وزيادة الوليد بن مسلم زيادة عدل، فهي مقبولة، فإنما يجب ذلك في التشهد الأخير فقط، ثم أجاب عنه بقوله: لو لم يكن إلا حديث محمد بن أبي عائشة وحده، لكان ما ذكرتُ، لكتهما حديثان، كما أوردنا أحدهما من طريق أبي سلمة، والثاني من طريق محمد بن أبي عائشة، وإنما زاد الوليد على وكيع بن الجراح، وبقي خبر أبي سلمة على عمومه فيما يقع عليه اسم تشهد. انتهى.
قال وليّ الدين: وهو مردود لأن محمد بن أبي عائشة وأبا سلمة كلاهما يرويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فهو حديث واحد لا حديثان، ثم إن سُنَّة الجلوس الأول التخفيف فيه عند الأئمة الأربعة، وغيرهم، وفي سنن أبي داود، والترمذيّ، والنسائيّ عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: كان في الركعتين
الأُوْلَيين كأنه على الرَّضْف، قلنا: حتى يقوم؟ قال: حتى يقوم، وصححه الحاكم على شرط الشيخين
(1)
.
وحكى ابن المنذر عن الشعبيّ: أن من زاد فيه على التشهد عليه سجدتا السهو، وعن ابن عمر: أنه أباح أن يدعو فيه بما بدا له، ولم يستحضر الشيخ تقيّ الدين في "شرح العمدة" هذه الرواية المقيدة بالأخير، فقال: قوله: "إذا تشهّد أحدكم" عامّ في التشهد الأول والأخير، وقد اشتهر بين الفقهاء التخفيف في التشهد الأول، وعدم استحباب الذِّكر بعده حتى سامح بعضهم في الصلاة على الأول فيه، والعموم الذي ذكرناه يقتضي الطلب لهذا الدعاء، فمن خقمه فلا بدّ له من دليل راجح، وإن كان نصًّا فلا بد من صحته. انتهى.
قال وليّ الدين: وقد عرفت المخصص، واللَّه أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن التقييد بالأخير في الرواية السابقة، وهي في "صحيح مسلم" يؤيّد ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يستحبّ التعوّذ المذكور في الجلوس الأول، فما ذهب إليه ابن حزم مردود، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن الشيخ تقيّ الدين رحمه الله قال: قد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور، حيث أُمرنا بها في كل صلاة، وهي حقيقة؛ لِعِظَم الأمر فيها، وشدّة البلاء في وقوعها، ولأن كلها أو أكثرها أمور ثمانية
(2)
غيبية، فتكررها على الأنفس يجعلها ملَكة لها. انتهى.
4 -
(ومنها): أنه استَدَل به ابن بطال، والقاضي عياض، وغيرهما على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن؛ خلافًا لأبي حنيفة، فإنه قال: لا يجوز أن يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن، قال ابن بطال: وهو قول النخعيّ، وطاووس، وهو استدلال واضح، لكن فيما حكوه عن أبي حنيفة
(1)
الحديث فيه انقطاع؛ لأن أبي عبيدة لم يسمع من أبيه ابن مسعود، لكن كثيرًا من العلماء يصححون إرساله؛ لأنه يروي عن أكابر أصحاب أبيه؛ كعلقمة، والأسود، وغيرهما، فتنبّه.
(2)
هكذا نسخة "الطرح"، ولعل الصواب:"إيمانيّة"، فليُحرّر، واللَّه تعالى أعلم.
نظر؛ فإنه لا يقصر ذلك على ما في القرآن، بل يُلحق به في الجواز الأدعية المأثورة، والذي يمتنع الدعاء به في الصلاة عند الحنفية ما يُشْبه كلام الناس، وهو ما لا يستحيل سؤاله من العباد، فلا يَرِد عليه بهذا الحديث، لكن يَرِد عليه بغيره من الأحاديث، واللَّه أعلم. انتهى.
5 -
(ومنها): ما قال القاضي عياض: جاء دعاؤه صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث وغيرها جملة، كقوله:"فتنة المحيا والممات"، فقد أدخل فيه جميع دعاء الدنيا والآخرة، وجاء تفصيلًا، كقوله:"أعوذ بك من المأثم والمغرم"، وهذا داخل في فتنة المحيا، وجاء دعاؤه بالتعوذ من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة القبر، وهو داخل في فتنة الممات، فدل على جواز الدعاء بالوجهين، وقد جاءت الأحاديث بالأمر بالدعاء إلى اللَّه تعالى في كل شيء، وإن كان قد رُوي عن بعض السلف استحباب الدعاء بالجوامع، كما تقدم في الاستعاذة من فتنة المحيا والممات، وسؤأل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ولكل مقام مقال. انتهى.
6 -
(ومنها): أن فيه ذكرَ العامّ بعد الخاصّ؛ لأن عذاب النار، وعذاب القبر من فتنة الممات، وذكر الخاص بعد العامّ؛ لأن شر المسيح الدجال من فتنة المحيا.
7 -
(ومنها): أن فيه إثباتَ عذاب القبر، وهو مذهب أهل الحقّ خلافًا للمعتزلة، وقد اشتهرت به الأحاديث حتى كادت أن تبلغ حدّ التواتر، والإيمان به واجب. انتهى ما كتبه الحافظ وليّ الدين رحمه الله
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6848]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
(1)
"طرح التثريب شرح التقريب" 3/ 107 - 111.
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح أبو سفيان الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
[تنبيه]: أما رواية أبي معاوية عن هشام بن عروة فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6016)
- حدّثنا محمد، أخبرنا أبو معاوية، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال، اللَّهُمَّ اغسل قلبي بماء الثلج والبرد، ونَقّ قلبي من الخطايا، كما نَقّيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الكسل، والمأثم، والمغرم". انتهى
(1)
.
وأما رواية وكيع عن هشام، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3838)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبد اللَّه بن نمير (ح) وحدّثنا عليّ بن محمد، حدّثنا وكيع، جميعًا عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات:"اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن شرّ فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، ومن شرّ فتنة المسيح الدجال، اللَّهُمَّ اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونَقِّ قلبي من الخطايا، كما نَقّيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الكسل، والهرم، والمأثم، والمغرم". انتهى
(2)
.
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2344.
(2)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1262.
(15) - (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَغَيْرِهِمَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6849]
(2706) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْهَرَمِ، وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم، تقدّم قبل باب.
3 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.
4 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله كلاحقه، وهو (423) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، فبغدادي، ومسلسلٌ أيضًا بالتحديث والإخبار، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ) بفتح العين المهملة، وسكون الجيم: سَلْب القوّة، وتخلّف التوفيق؛ إذ صفة العبد العجز، وإنما يقوى بقوة يُحْدثها اللَّه فيه، فكأنه استعاذ به أن يَكِله إلى أوصافه، فإن كل من رُدّ إليها فقد خُذل، (والكسل) هو التثاقل، والتراخي مما ينبغي مع القدرة، أو هو عدمُ انبعاث النفس لفعل الخير، والعاجز معذور، والكسلان لا، ومع ذلك
هو حالة رؤية، ولو مع عُذر، فلذا تعوّذ منه، قاله المناويّ
(1)
.
وقال في "الفتح": الفرق بين العجز والكسل: أن الكسل تَرْك الشيء مع القدرة على الأخذ في عمله، والعجز عدم القدرة. انتهى.
(وَالْجُبْنِ) بضمّ، فسكون: الْخَوَر عن تعاطي الحرب خوفًا على الْمُهْجة، وإمساك النفس، والضنّ بها عن إتيان واجب الحقّ. (وَالْهَرَمِ) -بفتحتين-: كِبَر السن المؤدي إلى تساقط القُوَى، وأما سوء الكِبَر فما يورثه كِبَر السن من ذهاب العقل، والتخبط في الرأي، وقال الموفق البغداديّ: هو اضمحلال طبيعيّ، وطريق للفناء ضررويّ، فلا شفاء له. (وَالْبُخْلِ) -بضمّ، فسكون، أو بفتحتين-: مَنْع السائل المحتاج عما يفضل عن الحاجة.
(وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) تقدّم تفسيره في الحديث الماضي، (وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ") المحيا مفعل، من الحياة، والممات مفعل من الموت، ويقع على المصدر، والزمان، والمكان، قال النوويّ: واختلفوا في المراد بفتنة الموت، فقيل: فتنة القبر، وقيل: يَحْتَمِل أن يراد به: الفتنة عند الاحتضار، قال: وأما الجمع بين فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، وعذاب القبر، فهو من باب ذِكر الخاصّ بعد العامّ، ونظائره كثيرة. انتهى.
وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة": فتنة المحيا ما يتعرض له الإنسان مدة حياته، من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأشدّها وأعظمها -والعياذ باللَّه تعالى- أمر الخاتمة عند الموت، قال: وفتنة الممات يجوز أن يراد بها: الفتنة عند الموت، أضيفت إلى الموت؛ لِقُرْبِها منه، وتكون فتنة المحيا على هذا ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان، وتصرّفه في الدنيا، فإن ما قارب الشيء يُعطَى حكمه، فحالة الموت تُشْبه الموت، ولا تُعَدّ من الدنيا، ويجوز أن يراد بفتنة الممات: فتنة القبر، كما صحّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في فتنة القبر:"مثل، أو قريبًا من فتنة الدجال".
قال: ولا يكون هذا متكررًا مع قوله: "من عذاب القبر"؛ لأن العذاب
(1)
"فيض القدير" 2/ 122.
مرتَّب على الفتنة، والسبب غير المسبَّب، ولا يقال: إن المقصود زوال عذاب القبر؛ لأن الفتنة نفسها أمر عظيم، وهو شديد يستعاذ باللَّه من سوئه. انتهى.
قال وليّ الدين رحمه الله: هذا مبنيّ على أن المراد بالفتنة: الامتحان، والاختبار، وهو الظاهر، فأما إن حُملت الفتنة على العذاب، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]؛ أي: عذَّبوهم، فتتَّحد فتنة القبر مع عذاب القبر، والأَولى حمل الفتنة على الامتحان والاختبار؛ ليحصل التغاير، لا سيما، وقد ذكروا أن هذا هو أصل مدلول الفتنة، واللَّه أعلم. انتهى.
وقال في "الفتح": وأما فتنة المحيا والممات، فقال ابن بطال: هذه كلمة جامعة لِمعانٍ كثيرة، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه في رفع ما نزل، ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه في جميع ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جميع ما ذُكر؛ دفعًا عن أمته، وتشريعًا لهم؛ ليبيِّن لهم صفة المهمّ من الأدعية.
قال الحافظ: أصل الفتنة: الامتحان والاختبار، واستُعملت في الشرع في اختبار كشف ما يُكره، ويقال: فتنتُ الذهب إذا اختبرته بالنار؛ لتنظر جودته، وفي الغفلة عن المطلوب، كقوله:{أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28] وتُستعمل في الإكراه على الرجوع عن الدِّين، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، واستُعملت أيضًا في الضلال، والإثم، والكفر، والعذاب، والفضيحة، ويُعرف المراد حيثما وَرَدَ بالسياق والقرائن. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 6849 و 6850 و 6851 و 6852](2706)،
(1)
"الفتح" 14/ 405، "كتاب الدعوات" رقم (6367).
و (البخاريّ) في "الجهاد"(2823) و"التفسير"(4707) و"الدعوات"(6367 و 6369 و 6371) وفي "الأدب المفرد"(671)، و (أبو داود) في "الصلاة"(514 و 1541) و"الحروف والقراءات"(3972)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3480 و 3481)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5449 و 5452 و 5453) و"الكبرى"(4/ 448)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنَّفه"(10/ 190)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 113 و 117)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(852)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1009 و 1010)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1355 و 1356)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6850]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ يَزِيدَ لَيْسَ فِي حَدِيثِهِ قَوْلُهُ:"وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين الْجَحْدريّ البصريّ، و"التيميّ" هو: سليمان بن طَرْخان، والد معتمر.
[تنبيه]: أما رواية المعتمر عن أبيه، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(7888)
- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، قال: حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن أنس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والهرم، والبخل، والجبن، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات". انتهى
(1)
.
وأما رواية يزيد بن زُريع عن سليمان التيميّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"السنن الكبرى" 4/ 448، وأخرجه أيضًا في "المجتبى" برقم (5454).
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6815]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ تَعَوَّذَ مِنْ أَشْيَاءَ، ذَكَرَهَا، وَالْبُخْلِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(ابْنُ مُبَارَكٍ) هو: عبد اللَّه بن المبارك بن واضح، أبو عبد الرحمن المروزيّ، مولى بني حنظلة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (تَعَوَّذَ مِنْ أَشْيَاءَ، ذَكَرَهَا)؛ أي: ذكر تلك الأشياء النبيّ صلى الله عليه وسلم في دعائه، ويَحْتَمِل أن يكون المعنى: ذكرها أنس رضي الله عنه في حديثه، والظاهر أن تلك الأشياء هي المذكورة في الرواية السابقة، ويَحْتَمِل أن تكون غيرها، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (وَالْبُخْلِ) بالجرّ عطفًا على "أشياء".
والحديث تقدّم البحث فيه مستوفًى قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6852]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ الْعَمِّيُّ، حَدَّثَنَا هَارُونُ الأَعْوَرُ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَالْكَسَلِ، وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ) هو: محمد بن أحمد بن نافع، أبو بكر البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.
2 -
(بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ الْعَمِّيُّ) أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.
3 -
(هَارُونُ الأَعْوَرُ) هو: هارون بن موسى الأزديّ العَتَكيّ مولاهم النحويّ، صاحب القراءات، أبو عبد اللَّه، ويقال: أبو إسحاق البصريّ، ثقةٌ مقرئ، إلا أنه رُمي بالقدر [7].
رَوى عن أبي عمرو بن العلاء، وبُديل بن ميسرة، وثابت البنانيّ، وأبي عمران الْجَوْنيّ، وابن إسحاق، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وشعيب بن الحبحاب، وغيرهم.
وروى عنه شعبة، وروى هو أيضًا عنه، وأبو عبيدة الحداد، وحماد بن زيد، ووكيع، وحَبّان بن هلال، وبهز بن أسد، وجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وغيرهم.
قال المفضل الغلابيّ عن ابن معين: هارون الأعور، وهو النحويّ، وهو هارون بن موسى دَلَّهم عليه شعبة ببغداد، قال الدُّوريّ عن ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم السجستانيّ، عن الأصمعيّ: كان ثقةً مأمونًا، وقال أبو زرعة، وأبو داود: ثقةٌ، وقال شبابة عن شعبة: هارون الأعور من خيار المسلمين، وقال سعيد الجرميّ عن أبي عبيدة الحداد: ثنا هارون الأعور، وكان صدوقًا حافظًا، وقال سليمان بن حرب: ثنا هارون الأعور، وكان شديد القول في القَدَر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البزار: ليس به بأس.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
4 -
(شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ) الأزديّ مولاهم، أبو صالح البصريّ، ثقةٌ [4](ت 131) أو قبلها (خ م د ت س) تقدم في "الجنائز" 18/ 2198.
و"أنس رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ) قال المجد رحمه الله: الرَّذْلُ والرُّذَال، والرَّذِيل، والأَرْذَل: الدُّون الخسيس، أو الرديء من كل شيء، جَمْعه أَرْذَال، ورُذُول، ورُذَلاء، ورُذّال، وأرذلون، وقد رَذُلَ، ككرُم، وعَلِمَ رَذَالة، ورُذُولة بالضم، ورَذَلَهُ غيره، وأرذله، والرَّذال، والرُّذالة، بضمهما: ما انتُقِي جيّده، والرَّذيلة: ضد الفضيلة، واسترذله: ضدُّ استجاده، وأرذل: صار أصحابه رُذلاء، ورُذَالى،
كحُبَارى، وأرذل العمر: أسوأه. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] مِنْ رَذُل الرجل يَرْذُل رَذَالةً، ورُذُولة، قال الجوهريّ: الرَّذْل: الدُّون الخسيس، ورُذَال كل شيء: رديئه، وكذلك الأرذل من كل شيء، وأرذل العمر: أردؤه، وأوضعه، وقال السّدّيّ: أرذله: الْخَرَف، وقال قتادة: تسعون سنة، وعن عليّ: خمس وسبعون سنة، وعن مقاتل: الْهَرَم، وعن ابن عباس: معناه: يردّ إلى أسفل العمر، وعن عكرمة: من قرأ القرآن لم يُرَدّ إلى أرذل العمر، وروى ابن مردويه في "تفسيره" من حديث أنس رضي الله عنه مائة سنة. انتهى
(2)
.
وقال في موضع آخر: وأرذل العمر هو الْخَرَف؛ يعني: يعود كهيئته الأُولى في أوان الطفولية، ضعيف الْبِنية، سَخيف العقل، قليل الفهم، ويقال: أرذل العمر: أردؤه، وهو حالة الْهَرَم، والضعف عن أداء الفرائض، وعن خدمة نفسه فيما يتنظف فيه، فيكون كَلًّا على أهله، ثقيلًا بينهم، يتمنّون موته، فإن لم يكن له أهل، فالمصيبة أعظم. انتهى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه قبل حديثين، وللَّه الحمد والمنّة.
(16) - (بَابٌ فِي التَّعَوُّذِ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَدَرْكِ الشَّقَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ)
< ر
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6853]
(2707) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنِي سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ، وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ، وَمِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، وَمِنْ
(1)
"القاموس المحيط" 1/ 1299.
(2)
"عمدة القاري" 19/ 18.
(3)
"عمدة القاري" 14/ 119.
جَهْدِ الْبَلَاءِ. قَالَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: قَالَ سُفْيَانُ: أَشُكُّ أَنِّي زِدْتُ وَاحِدَةً مِنْهَا).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد الكوفيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(سُمَيٌّ) مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنِّف رحمه الله، وأن له فيه شيخين قَرَن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء، كما أسلفناه غير مرّة، وأنه مسلسل بالمدنيين من سُميّ، وسفيان مكيّ، والباقيان بغداديّان، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَعَوَّذُ) قال في "الفتح": كذا للأكثر، ورواه مسدد، عن سفيان بسنده هذا، بلفظ الأمر:"تعوّذوا". (مِنْ سُوءِ الْقَضَاءِ) قال النوويّ رحمه الله: يَشْمَل سوء القضاء في الدِّين، والدنيا، والبدن، والمال، والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة. انتهى. وقال ابن بطال رحمه الله: المراد بالقضاء هنا: المقضيّ؛ لأن حُكم اللَّه كله حسن، لا سوء فيه، وهو عام في النفس، والمال، والأهل، والولد، والخاتمة، والمعاد. (وَمِنْ دَرَكِ الشَّقَاءِ) بفتح الدال، والراء المهملتين، ويجوز سكون الراء، وهو الإدراك، واللَّحَاق، و"الشقاء" -بمعجمة، ثم قاف-: هو الهلاك، ويُطلق على السبب المؤدي إلى الهلاك. قال ابن بطال رحمه الله: ودرك الشقاء يكون في أمور الدنيا، وفي أمور الآخرة. ذكره في "الفتح"
(1)
.
(1)
"الفتح" 14/ 360، "كتاب الدعوات" رقم (6347).
وقال النوويّ رحمه الله: وأما دَرَك الشقاء، فالمشهور فيه فتح الراء، وحَكَى القاضي، وغيره: أن بعض رواة مسلم رواه ساكنها، وهي لغة، قال: وهو يكون في أمور الآخرة، والدنيا، ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من سوء القضاء، ومن درك الشقاء": يُروَى بفتح الراء، وبإسكانها، فبالفتح: الاسم، وبالإسكان: المصدر، وهما متقاربان، والمتعوّذ منه: أن يلحقه شقاء في الدنيا يُتعبه، ويُثقله، وفي الآخرة: يعذبه، و"جهد البلاء": يروى بفتح الجيم، وضمّها، قال ابن دريد: هما لغتان بمعنى واحد، وهو: التعب، والمشقة، وقال غيره -وهو نفطويه- بالضم: وهو الوسع والطاقة، وبالفتح: المبالغة والغاية. ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: جهد البلاء: قلّة المال، وكثرة العيال، و"شماتة الأعداء": هي ظَفَرهم به، أو فرحهم بما يلحقه من الضرر، والمصائب، وقد جاء هذا الدعاء مسجعًا -كما ترى الآن- لكن ذلك السجع لم يكن متكلّفًا، وإنَّما يُكره من ذلك ما كان متكلّفا -كما تقدم-.
وإنَما دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات، وتعوّذ بهذه التعوذات؛ إظهارًا للعبودية، وبيانًا للمشروعية؛ ليُقتَدَى بدعواته، ويُتعوّذ بتعويذاته، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
(وَمِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ) هو أن يفرح العدوّ ببلية تنزل بعدوّه، يقال منه: شَمِتَ -بكسر الميم- وشَمَت -بفتحها- فهو شامت، وأشمت غيره. وقال ابن بطال رحمه الله: شماته الأعداء: ما يَنكأ القلب، ويبلغ من النفس أشدّ مبلغ.
(وَمِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ) بفتح الجيم، وضمها، والفتح أشهر، وأفصح، رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه فسّره بقلّة المال، وكثرة العيال، وقال غيره: هي الحال الشاقّة.
وقال في "الفتح": قال ابن بطال وغيره: جهد البلاء: كل ما أصاب المرء من شدّة مشقة، وما لا طاقة له بحمله، ولا يقدر على دفعه. وقيل: المراد بجهد البلاء: قلة المال، وكثرة العيال، كذا جاء عن ابن عمر، والحقّ
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 33.
(2)
"المفهم" 7/ 35.
أن ذلك فرد من أفراد جهد البلاء. وقيل: هو ما يختار الموت عليه. انتهى.
وإنما تعوذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ تعليمًا لأمته، فإن اللَّه تعالى كان آمنه من جميع ذلك، وبذلك جزم عياض.
قال الحافظ: ولا يتعين ذلك، بل يَحْتَمِل أن يكون استعاذ بربه من وقوع ذلك بأمته، ويؤيده رواية مسدد المذكورة بصيغة الأمر، كما تقدّم.
وقال السيوطيّ رحمه الله في "شرح النسائيّ": "جهد البلاء": هي الحالة التي يختار الموت عليها؛ أي: لو خُيِّر بين الموت، وبين تلك الحالة لأحبّ أن يموت تحرّزًا عن تلك الحالة. وقيل: هو قلة المال، وكثرة العيال.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: هذه الكلمة جامعة؛ لأن المكروه إما أن يلاحظ من جهة المبدإ، وهو سوء القضاء، أو من جهة المعاد، وهو درك الشقاء، أو من جهة المعاش، وهو إما من جهة غيره، وهو شماتة الأعداء، أو من جهة نفسه، وهو جهد البلاء، نعوذ باللَّه من ذلك.
قال السنديّ رحمه الله: وأنت خبير بأنه لا مقابلة على ما ذكره بين سوء القضاء، وغيره، بل غيره كالتفصيل لجزئياته، فالمقابلة ينبغي أن تُعتبر باعتبار أن مجموع الثلاثة الأخيرة بمنزلة القَدَر، فكأنه قال: من سوء القضاء والقدر، لكن أقيم أهمّ أقسام سوء القدر مقامه.
بقي أن المقضيّ من حيث القضاء أزليّ، فأيّ فائدة في الاستعاذة منه، والظاهر أن المراد: صرف المعلّق منه، فإنه قد يكون معلّقًا، والتحقيق أن الدعاء مطلوب؛ لكونه عبادة، وطاعة، ولا حاجة لنا في ذلك إلى أن نعرف الفائدة المترتبة عليه، سوى ما ذكرنا. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ عَمْرٌو)؛ يعني: الناقد شيخه الأول، (فِي حَدِيثِهِ: قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة: (أَشُكُّ أني زِدْتُ وَاحِدَةً مِنْهَا) وفي رواية البخاريّ: "قال سفيان: الحديث ثلاثٌ، زدت أنا واحدة، لا أدري أيتهن"، وفي رواية النسائيّ:"قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ ثَلَاثَةٌ، فَذَكَرْتُ أَرْبَعَةً؛ لِأَنِّي لَا أَحْفَظُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ".
(1)
"شرح السنديّ على النسائيّ" 8/ 270.
قال في "الفتح": أي: الحديث المرفوع المرويّ، يشتمل على ثلاث جُمَل، من الجمل الأربع، والرابعة زادها سفيان من قِبَل نفسه، ثم خَفِي عليه تعيينها.
ووقع عند الحميديّ في "مسنده" عن سفيان: "الحديث ثلاث من هذه الأربع"، وأخرجه أبو عوانة، والإسماعيليّ، وأبو نعيم من طريق الحميديّ، ولم يفصل ذلك بعض الرواة عن سفيان.
وفي ذلك تعقّب على الكرمانيّ، حيث اعتذر عن سفيان، في جواب من استَشْكَل جواز زيادته الجملة المذكورة في الحديث، مع أنه لا يجوز الإدراج في الحديث.
فقال: يجاب عنه بأنه كان يميزها إذا حدّث، كذا قال، وفيه نظر فعند البخاريّ في "القدر" عن مسدّد، وأخرجه مسلم عن أبي خيثمة، وعمرو الناقد، والنسائيّ عن قتيبة، والإسماعيليّ من رواية العباس بن الوليد، وأبو عوانة من رواية عبد الجبار بن العلاء، وأبو نعيم من طريق سفيان بن وكيع، كلهم عن سفيان، بالخصال الأربعة، بغير تمييز إلا أن مسلمًا قال عن عمرو الناقد: قال سفيان: أشكّ أني زدت واحدة منها.
وأخرجه الجوزقيّ من طريق عبد اللَّه بن هاشم، عن سفيان، فاقتصر على ثلاثة، ثم قال: قال سفيان: "وشماتة الأعداء".
وأخرجه الإسماعيليّ من طريق ابن أبي عمر، عن سفيان، وبَيَّن أن الخصلة المَزيدة هي:"شماتة الأعداء"، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق شُجاع بن مخلد، عن سفيان مقتصرًا على الثلاثة دونها. وعُرِف من ذلك تعيين الخصلة المزيدة.
ويجاب من حيث النظر بأن سفيان كان إذا حدّث ميَّزها، ثم طال الأمر، فطَرَقه السهو عن تعيينها، فحَفِظ بعضُ من سمع تعيينها منه قبل أن يطرقه السهو، ثم كان بعد أن خفي عليه تعيينها، يذكر كونها مزيدة مع إبهامها، ثم بعد ذلك إما أن يُحْمَل الحال حيث لم يقعِ تمييزها، لا تعيينًا ولا إبهامًا أن يكون ذَهِلَ عن ذلك، أو عَيَّن، أو مَيَّز، فذهِل عنه بعض من سمع، ويترجح كون الخصلة المذكورة هي المزيدة، بأنها تدخل في عموم كل واحدة من
الثلاثة، ثم كل واحدة من الثلاثة مستقلّة، فإن كل أمر يُكره يلاحظ فيه جهة المبدإ، وهو سوء القضاء، وجهة المعاد، وهو درك الشقاء؛ لأن شقاء الآخرة هو الشقاء الحقيقيّ، وجهة المعاش، وهو جهد البلاء، وأما شماتة الأعداء، فتقع لكل من وقع له كل من الخصال الثلاثة. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6853](2707)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6347) و"القدر"(6616) وفي "الأدب المفرد"(669 و 730)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5493 و 5494) وفي "الكبرى"(7927 و 7928)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 246)، و (الحميديّ) في "مسنده"(972)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1016)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(12/ 14)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 316)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(383)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1360)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الاستعاذة من سوء القضاء.
2 -
(ومنها): أن النوويّ رحمه الله قال في "شرحه" ما معناه: إن فيه استحباب الدعاء، والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة في هذا الحديث، وما في معناها، وهذا هو الصحيح الذي أجمع عليه العلماء، وأهل الفتوى في جميع الأعصار، والأمصار، وشذّت طائفة من الزهاد، وأهل العبادة إلى أن ترْك الدعاء أفضل؛ استسلامًا للقضاء، وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحَسَن، وإن دعا لنفسه فالأَولى تركه، وقال آخرون منهم: إن وجد في نفسه باعثًا للدعاء استُحبّ، وإلا فلا.
(1)
"الفتح" 14/ 360 - 361، "كتاب الدعوات" رقم (6347).
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذه الأقوال غير الأول كلّها من المُحْدَثات الباطلة، منابذة للكتاب العزيز، وهَدْي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يدعو، ويأمر أمته بالدعاء، ويحثّهم عليه، ويؤكّد عليهم أحيانًا بصيغة تقتضي الوجوب، كقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلى أحدكم، فليتعوّذ باللَّه من أربع. . . " الحديث متفق عليه، وغير ذلك، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها. واللَّه أعلم.
قال: ودليل الجمهور ظواهر القرآن والسُّنَّة في الأمر بالدعاء، وفِعْله صلى الله عليه وسلم، والإخبار عن الأنبياء -صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين- بفعله. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أن الكلام المسجوع لا يُكره، إذا صدر عن غير قَصْد إليه، ولا تكلّف، قاله ابن الجوزيّ رحمه الله.
4 -
(ومنها): مشروعية الاستعاذة، ولا يعارِض ذلك كون ما سبق في القدر لا يُرَدّ؛ لاحتمال أن يكون مفا قُضي، فقد يُقضى على المرء مثلًا بالبلاء، ويُقضَى أنه إن دعا كُشف عنه، فالقضاء مُحْتَمِلٌ للدفع، والمدفوع، وفائدة الاستعاذة والدعاء، إظهار العبد فاقته لربه، وتضرعه إليه
(2)
. واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6854]
(2708) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ؛ أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا، ثُمَّ قَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرُّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(الْحَارِثُ بْنُ يَعْقُوبَ) الأنصاريّ مولاهم المصريّ، والد عمرو، ثقةٌ عابدٌ [5](ت 130)(عخ م ت س) تقدم في "الإمارة" 52/ 4941.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 30.
(2)
"الفتح" 14/ 360 - 361، "كتاب الدعوات" رقم (6347).
2 -
(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن الأشجّ، أبو يوسف المدنيّ، مولى قريش، أخو بكير بن الأشجّ، ثقةٌ [5](ت 122)(عخ م ت س ق) تقدم في "الحيض" 23/ 802.
3 -
(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.
4 -
(سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب الصحابيّ الشهير، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، تقدّم قبل أربعة أبواب.
5 -
(خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ) هي: خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص بن مرّة بن هلال بن فالج بن ثعلبة بن ذكوان بن امرئ القيس بن بُهْثة بن سُليم السُّلَمية، امرأة عثمان بن مظعون، وتكنى أم شَريك. قال هشام بن عروة عن أبيه: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وَهَبْن أنفسهن للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البرّ: ويقال لها: خُويلة، وكانت صالحة فاضلة، روت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعنها سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن المسيِّب، وبُسْر بن سعيد، وعروة بن الزبير، وأرسل عنها عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن يحيى بن حبان، هذا قاله الحافظ المزّيّ رحمه الله.
وتعقّبه الحافظ، فقال: إنما جاءت رواية سعيد، وبُسْر عنها بواسطة سعد بن أبي وقاص، وجاءت رواية عن سعيد بن المسيِّب عن خُويلة بغير واسطة، لكن قال: عن خُويلة الأنصارية، وهي من رواية عطاء الخراسانيّ عنه، أخرجها الطبرانيّ، وفرق بينها وبين خولة بنت حكيم، فاللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
أخرج لها البخاريّ في "خلق أفعال العباد"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس لها في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
والباقون تقدّموا قبل باب.
(1)
"تهذيب التهذيب" 4/ 671 - 672.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من يعقوب بن عبد اللَّه، والباقون مصريّون، إلا قتيبة، فبغلانيّ، وفيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض: يزيد، والحارث، ويعقوب، وبسر، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّة رضي الله عنهما، وهي مقلّة من الرواية، فليس لها في الكتب
(1)
إلا ثلاثة أحاديث، كما في "تحفة الأشراف"
(2)
.
شرح الحديث:
(عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ) الأنصاريّ مولاهم المصريّ، (أَنَّ يَعْقُوبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) بن الأشجّ أبا يوسف المدنيّ مولى قريش، (حَدَّثَهُ)؛ أي: الحارثَ، (أَنَّهُ سَمِعَ بُسْرَ) بضم الموحّدة، وسكون السين المهملة، (ابْنَ سَعِيدٍ) بكسر العين المدنيّ العابد، (يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ) مالك بن وُهيب الزهريّ أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، (يَقُولُ: سَمِعْتُ خَوْلَةَ) بفتح الخاء المعجمة (بِنْتَ حَكِيمٍ) رضي الله عنها (السُّلَمِيَّةَ) بضم السين المهملة، وفتح اللام: نسبة إلى سُليم أحد أجدادها المذكورين آنفًا، ويقال لها أيضًا: خُويلة بالتصغير صحابية مشهورة رضي الله عنها، (تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا) مَظِنّةً للهوامّ، والحشرات، ونحوها، مما يؤذي، ولو في غير سفر.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قيّدوه بمظنّة الهوامّ، والأَولى عدم تقييده، فتنبّه.
(ثُمَّ قَالَ) وفي رواية "الموطّأ": "فليقل" بصيغة الأمر، (أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم (بِكَلِمَاتِ اللَّهِ) المراد بها: كلام اللَّه تعالى، ومنه القرآن الكريم، وقيل: هي العلم؛ لأنه أعم الصفات، ولا يخفى بُعده، وقال البيضاويّ: هي جميع ما أنزله اللَّه تعالى على أنبيائه عليهم السلام؛ لأن الجمع المضاف إلى المعارف يقتضي العموم، ووصفها بقوله:(التَّامَّاتِ)؛ أي: التي لا يعتريها نقص، ولا خلل؛
(1)
المراد بها الكتب الستة، فتنبّه.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 11/ 298 - 299.
تنبيهًا على عِظَم شرفها، وخلوّها عن كل نقص؛ إذ لا شيء إلا وهو تابع لها، يُعْرَف بها، فالوجود كله بها ظهر، وعنها وُجد. انتهى.
وقال عياض: قيل: التامات: الكاملة التي لا يدخلها عيب، ولا نقص، كما يدخل كلام الناس، وقيل: هي النافعة الشافية.
وقال التوربشتيّ: الكلمة لغةً تقع على جزء من الكلام، اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا، وعلى الألفاظ المنطوقة، وعلى المعاني المجموعة، والكلمات هنا محمولة على أسماء اللَّه الحسنى، وكُتبه المنزلة؛ لأن المستفاد من الكلمات إنما يصح، ويستقيم أن يكون منها، ووصفها بالتمام؛ لخلوها عن العوائق، والعوارض، فإن الناس متفاوتون في كلامهم، واللهجة، وأساليب القول، فما منهم من أحد إلا وقابله آخر في معناه، أو في معان كثيرة، ثم إن أحدهم قلّما يَسْلَم من معارضة، أو خطأ، أو سهو، أو عَجْز عن المعنى المراد، وأعظم النقائص المقترنة بها أنها كلمات مخلوقة، تكلم بها مخلوق، مفتقر إلى أدوات، ومخارج، وهذه نقيصة، لا ينفك عنها كلام مخلوق، وكلمات اللَّه متعالية عن هذه القوادح، فهي التي لا يتبعها نقص، ولا يعتريها اختلال. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أعوذ بكلمات اللَّه التامات. . . إلخ": قيل: معناه: الكاملات اللاتي لا يلحقها نقص، ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه: الشافية الكافية. وقيل: الكلمات -هنا- هي: القرآن، فإنَّ اللَّه تعالى قد أخبر عنه بأنه هدى وشفاء، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى، ولمّا كان ذلك استعاذة بصفات اللَّه تعالى، والتجاء إليه، كان ذلك من باب المندوب إليه، المرغَّب فيه. وعلى هذا فحقّ المتعوِّذ باللَّه تعالى، وبأسمائه وصفاته أن يَصْدُق اللَّه في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويُحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك، وصل إلى منتهى طلبه، ومغفرة ذنبه. انتهى
(2)
.
(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) متعلّق بـ "أعوذ"، وعبّر بـ "ما" للتعميم.
(1)
"شرح الزرقانيّ على الموطّأ" 4/ 499.
(2)
"المفهم" 7/ 36.
(لَمْ يَضُرُّهُ شَيْءٌ) من المخلوقات (حَتَّى يَرْتَحِلَ)؛ أي: يذهب (مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ") قال الزرقانيّ رحمه الله: وشَرْط نفع ذلك: الحضورُ والنيةُ، وهي استحضار أنه صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التحصن به، وأنه الصادق المصدوق، فلو قاله أحدٌ، واتفق أنه ضرّه شيء، فلأنه لم يقله بنئة وقوّة يقين، وليس ذلك خاصًّا بمنازل السفر، بل عامّ في كل موضع جَلَس فيه، أو نام، وكذلك لو قالها عند خروجه للسفر، أو عند نزوله للقتال الجائزة، قاله الأبيّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يضرّه شيء" هذا خبر صحيح، وقولٌ صادق، علمنا صِدْقه دليلًا وتجربة، فإني منذ سمعت هذا الخبر عَمِلت عليه، فلم يضرّني شيء إلى أن تركته، فلدغتي عقرب بالمهدية ليلًا، فتفكرت في نفسي، فإذا بي قد نسيت أن أتعوّذ بتلك الكلمات، فقلت لنفسي -ذامًّا لها، ومُوبّخًا- ما قاله صلى الله عليه وسلم للرجل الملدوغ: أما إنكِ لو قلتِ حين أمسيتِ: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شرّ ما خلق لم تضركِ. انتهى
(1)
.
وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد أنه يقرأ مع الحديث المذكور: {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، و {رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية [الإسراء: 80]، وأن ذلك حَسَنٌ عند الإشراف على المنزل، وأن اللَّه تعالى قاله لنوح؛ حين نزل من السفينة، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث خولدة بنت حكيم رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قال الحافظ ابن عبد البرّ رحمه الله في "التمهيد": هذا الحديث رواه عن يعقوب بن الأشج جماعة ثقات، منهم: الحارث بن يعقوب، وابن عجلان، واختلفا عليه في إسناده، ثم أخرج بسنده إلى قتيبة بن سعيد، حدّثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الحارث بن يعقوب، عن يعقوب بن عبد اللَّه، عن بُسر بن سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم السُّلمية أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال. . . الحديث.
(1)
"المفهم" 7/ 36 - 37.
ثم قال: هكذا قال: عن يزيد، عن الحارث، وغيرُه يقول فيه: عن الليث، عن يزيد، والحارث جميعًا عن يعقوب، وكذلك رواه ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد والحارث جميعًا عن يعقوب.
ثم أخرج بسنده عن وُهيب قال: حدّثنا ابن عجلان، عن يعقوب بن عبد اللَّه بن الأشج، عن سعيد بن المسيِّب، عن سعد بن مالك، عن خولة بنت حكيم، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا نزل منزلًا، قال: أعوذ بكلمات اللَّه التامات، من شرّ ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء، حتى يرتحل منه".
قال أبو عمر: أهل الحديث يقولون: إن رواية الليث هي الصواب، دون رواية ابن عجلان، ورواية ابن وهب عن الليث أصحّ، من رواية قتيبة عندي في هذا، واللَّه أعلم.
ثم قال: قال أبو عمر: حديث ابن عجلان رواه ابن عيينة عن ابن عجلان، عن يعقوب، عن سعيد مرسلًا، ورواه بكير، عن سليمان بن يسار، وبسر بن سعيد مرسلًا، والقول قول من وصله، وأسنده. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6854 و 6855](2708)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3433)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 144) وفي "عمل اليوم والليلة"(1/ 475 و 476)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3592)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 377)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(4/ 150)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(5/ 253)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة) في فوائده:
1 -
(منها): استحباب هذا الدعاء عند نزول مكان مَخُوف.
2 -
(ومنها): أن نَفْع هذا الدعاء ونحوه من الأدعية النبوية لا بدّ أن يكون بنيّة صادقة، وعزم قويّ، وقد جرّبه الصادقون، فوجدوا أثره، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا خبر صحيح، وقول صادق، فإني منذ سمعته عملت به، فلم
(1)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 186.
يضرّني شيء، فتركته ليلة فلدغتني عقرب. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): مشروعيّة الاستعاذة بكلام اللَّه سبحانه وتعالى.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: وفي الاستعاذة بكلمات اللَّه أبْين دليل على أن كلام اللَّه منه تبارك اسمه، وصفة من صفاته، ليس بمخلوق؛ لأنه محال أن يستعاذ بمخلوق، وعلى هذا جماعة أهل السُّنَّة، والحمد للَّه.
ثم أخرج بسنده إلى إسحاق بن إبراهيم ابن راهويه الحنظليّ، قال: ذَكَر سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: أدركت الناس منذ سبعين سنة -وكان قد أدرك أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فمن دونهم- يقولون: اللَّه عز وجل هو الخالق، وما سواه مخلوق، إلا القرآن، فإنه كلام اللَّه، منه خرج، وإليه يعود. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6855]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَأَبُو الطَّاهِرِ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ وَهْبٍ -وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنَا عَمْرٌو -وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ- أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ يَعْقُوبَ حَدَّثَاهُ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ خَوْلَةَ بِنْتِ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةِ؛ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا نَزَلَ أَحَدُكُمْ مَنْزِلًا، فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ").
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الخزاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله أربع وسبعون سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.
[تنبيه]: قوله: "هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ": هكذا النسخ التي بين أيدينا، ووقع في "تحفة الأشراف"
(3)
: "هارون بن سعيد الأيليّ" بدله، وكتب في الهامش: هكذا
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 1/ 447.
(2)
"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 186.
(3)
راجع: "تحفة الأشراف" 11/ 298.
في الأصول بأيدينا، ووقع في النسخة المطبوعة:"هارون بن معروف". انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مثل هذا الاختلاف لا يضرّ بصحّة الحديث؛ فإن كلًّا من الهارونين ثقةٌ، يروي عنهما مسلم، ويرويان عن ابن وهب، فلعلّه روى عنهما هذا الحديث، واللَّه تعالى أعلم.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أَبُو الطَّاهِرِ" هو: أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن السّرْح المصريّ.
وقوله: (فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ)؛ أي: من هوامّ، أو سارق، أو غير ذلك؛ لأنه نكرة في سياق النفي، فيعمّ، قاله الأبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: (حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْهُ) قال الأبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يرتحل" ليس ذلك خاصًّا بمنازل السفر، بل عامّ في كل موضع جلس فيه، أو نام، وكذلك لو قالها عند خروجه إلى السفر، أو عند نزوله للقتال الجائز، فإن ذلك كلّه من الباب، قال: وشَرْط نَفْع ذلك النيّة، والحضور، فلو قاله أحد، واتَّفَقَ أنْ ضَرَّه شيء حُمل على أنه لم يَقُلْه بنيّة، ومعنى النيّة: أن يستحضر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أرشده إلى التحصّن به، وأنه الصادق المصدوق. انتهى
(2)
.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6856]
(2709) - (قَالَ يَعْقُوبُ: وَقَالَ الْقَعْقَاعُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ، قَالَ: "أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرُّكَ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(الْقَعْقَاعُ بْنُ حَكِيمٍ) الكِنانيّ المدنيّ، ثقةٌ [4](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 25/ 204.
(1)
"شرح الأبيّ" 7/ 133.
(2)
"شرح الأبيّ" 7/ 133 - 134.
والباقون ذُكروا في الباب، و"يعقوب" هو: ابن عبد اللَّه بن الأشج المذكور قبله.
[تنبيه]: قوله: (قَالَ يَعْقُوبُ. . . إلخ) هذا موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، فهو من رواية المصنّف عن هارون بن معروف، وأبي الطاهر، كلاهما عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن أبي حبيب، والحارث بن يعقوب، كلاهما عن يعقوب بن عبد اللَّه بن الأشجّ. . . الحديث.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف
(1)
، وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه":"أن رجلًا من أسم قال. . . ". (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا) نافية، وقوله:(لَقِيتُ) مفعوله مقدّر؛ أي: الراحة، أو النوم، يوضّحه رواية مالك في "الموطّأ"، ولفظها:"إن رجلًا من أسلم قال: ما نِمْتُ هذه الليلةَ، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من أيّ شيء؟ فقال: لدغتني عقرب".
وقال القاري في "المرقاة": "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء لقيت؟ أي: لقيت وجعًا شديدًا، أو للتعجب؛ أي: أمرًا عظيمًا، أو موصولةٌ، والخبر محذوف؛ أي: الذي لقيته لم أصفه لشدته، والمعنى: لقيت شدةً عظيمةً. انتهى
(2)
.
(مِنْ عَقْرَبٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: العَقْرَبُ تُطلق على الذكر والأنثى، فإذا أريد تأكيد التذكير قيل: عُقْرُبَانُ بضم العين والراء، وقيل: لا يقال إلا عَقْرَبٌ، للذكر والأنثى، وقال الأزهريّ: العَقْرَبُ يقال للذكر والأنثى، والغالب عليها التأنيث، ويقال للذكر: عُقْرُبَانُ، وربما قيل: عَقْرَبَةٌ بالهاء للأنثى، قال الشاعر:
كَأَنَّ مَرْعَى أُمِّكُمْ إِذْ غَدَتْ
…
عَقْرَبَةٌ يَكُومُهَا عُقْرُبَانُ
فجَمَع بين اسم الذكر الخاصّ، وأنّث المؤنثة بالهاء، وأرض مُعَقْرِبَةٌ: اسم فاعل، ذاتُ عَقَارِبَ، كما يقال: مُثَعْلَبَة، ومُضَفْدعة، ونحو ذلك. انتهى
(3)
.
(1)
"تنبيه المعلم" ص 443.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 336.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 421 - 422.
(لَدَغَتْنِي) قال الفيّوميّ رحمه الله: لَدَغَتْهُ العقرب بِالْغين المعجمة، لَدْغًا، من باب نفع: لَسَعته، ولَدَغَتْهُ الحية لَدْغًا: عَضّته، فهو لَدِيغٌ، والمرأة لَدِيغٌ أيضًا، والجمع: لَدْغى، مثلُ جَرِيح وجَرْحَى، ويتعدى بالهمزة إلى مفعول ثان، فيقال: أَلدَغْتُهُ العقربَ: إذا أرسلتها عليه، فَلَدَغَتْهُ، وقال الأزهريّ: اللَّدْغُ بالناب، وفي بعض اللغات: تَلْدَغُ العقرب، ويقال: اللَّدْغُةُ جامعة لكلّ هامّة تَلْدَغُ لَدْغًا. انتهى
(1)
.
(الْبَارِحَةَ)؛ أي: الليلة الماضية، تقول العرب قبل الزوال: فعلنا الليلةَ كذا؛ لِقُربها من وقت الكلام، وتقول بعد الزوال: فعلنا البارحةَ
(2)
، وهو منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "لدغتني". (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَمَا) بتحفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا". (لَوْ) شرطيّة جوابها "لم تضرّك"، (قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)؛ أي: من شرِّ خَلْقه، وهو ما يفعله المكلَّفون، من إثم، ومضارّة بعضِ لبعض، من نحو ظُلم، وبغي، وقتل، وضرب، وشتم، وغيرها من نحو لَدْغ، ونهش، وعض، وزاد ابن السنيّ:"ثلاثًا"؛ أي: لو قلت هذا التعوذ ثلاث مرات.
(لَمْ تَضُرُّكَ")؛ أي: العقرب، بأن يحال بينك وبين كمال تأثيرها بحسب كمال المتعوّذ، وقوّته، وضعفه؛ لأن الأدوية الإلهية تمنع من الداء بعد حصوله، وتمنع من وقوعه، وإن وقع لم يضره
(3)
.
وفي "التمهيد" لابن عبد البرّ عن سعيد بن المسيِّب قال: بلغني أن من قال حين يمسي: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79] لم يلدغه عقرب. انتهى
(4)
.
[فائدة نحويّة مهمّة]: ذكر صاحب "البدر المكنون" أنه وصل رجل إلى إشبيلية يقصد قراءة الحديث على أبي بكر الحافظ، فلما قرأ عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم تصفر الشمس"، وفي الحلقة جماعة من الطلبة، فيهم أبو بكر الشلوبين، فقال الشيخ: كيف تضبطون الراء من قوله: "ما لم تصفر الشمس"؟ فقالوا بأجمعهم: بالفتح، ما عدا أبا بكر، فإنه بقي ساكتًا.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 551.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 42.
(3)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 373.
(4)
"عون المعبود" 10/ 272.
فأنشد الشيخ:
أوْرَدَها سَعْدٌ وَسَعْدٌ مُشْتَمِلْ
…
مَا هكَذَا يَا سَعْدُ تُورَدُ الإبِلْ
ثم التفت إلى أبي بكر، وقال: ما تقول أنت؟ فقال: إن العرب على ثلاث فِرَقٍ، مُتْبِعُون، وكاسرون، وفاتحون.
فالمتبعون، يُتبعون الحرف المضعّف لحركة الحرف الذي قبله؛ فإن كانت ضمة ضَمُّوه، نحو: لم يردُّ، ورُدُّ، وإن كانت فتحة، أو ألفًا فتحوا، نحو: لم يَعَضَّ، وعَضَّ، وقوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233]، وإن كانت كسرة كسروه، نحو: لم يفرّ، وفرّ يا عمرو، إلا في ثلاث مواضع، فإنهم لا يُتْبعون لِما قبله:
أحدهما: إذا اتصل بالفعل ضمير مذكر غائب، فإن المُتْبعين إنما يُتْبعون لحركة الضمير، فيقولون: لم يَفِرُّهُ، وفِرُّهُ، بضم الراء فيهما، ولم يَعَضُّهُ، بضم الضاد، وعليه يخرج قوله تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} [الواقعة: 79] إن قلنا: إن "لا" ناهية، لا نافية.
ثانيها: إذا اتصل بالفعل ضمير مؤنث غائب، نحو: رُدَّهَا، ولم يَرُدَّهَا، وفِرّها، بفتح الحرف المدغم فيه إتباعًا لحركة الهاء، وإنما أتبعوا حركة الهاء في الموضعين لخفّة الهاء، فلم يعتدّوا بها فاصلًا، فكأن الضمةَ باشرت واو الصلة، والفتحةَ باشرت ألف الصلة.
ثالثها: إن لقي آخرَ الفعل ساكنٌ من كلمة أخرى، لامُ تعريف، أو غيرُها، فيرجع المُتْبعون هنا للكسر، نحو: غُضِّ الطرفَ، وعليه يقال:"ما لم تصفرِّ الشمس" بكسر الراء، لا غير.
والفرقة الثانية: الكاسرون؛ يَكسِرُون آخرَ الفعل مطلقًا على أصل التقاء الساكنين، فيقولون: ردِّ زيدًا، ولم يردّ، بكسر الدال فيهما، فعلى هذه اللغة، إنما يقال:"ما لم تصفرّ" بالكسر أيضًا، وهذه اللغة لغة كعب، ونمير.
والفرقة الثالثة: الفاتحون، وهم على قسمين: فُصَحاء، وغير فصحاء، فالفصحاء ينتقلون إلى الكسر إذا عارضهم ساكن من كلمة أخرى، فيقولون: مُدِّ الحبل، وشُدِّ الرَّحْلَ، بكسر المدغم فيه منها، فيقال حينئذ:"ما لم تصفرِّ" بالكسر أيضًا، وغير الفصحاء لا يزالون على أصلهم من الفتح، ولو لقي آخرَ
الفعل ساكنٌ؛ وعليه فيقال: "ما لم تصفرَّ" بفتح الراء، وعليه فجميع العرب يكسرون آخر الفعل إذا لقيه ساكن، إلا غير الفصحاء، ممن لغتهم الفتح، فإنهم يفتحونه.
فلما فرغ الشلوبين، أنشد الشيخ [من الخفيف]:
ذُو المَعَالِي فَلْيَعْلُوَنْ مَنْ تَعَالَى
…
هَكَذَا هَكَذَا وَإلَّا فَلَا لَا
وقد نظم هذا التفصيل العلامة القاضي الولي الصالح أبو العباس أحمد بن الحاج، فقال [من الرجز]:
إنْ جُزِمَ الْفِعْلُ الَّذِي قَدْ شُدِّدَا
…
آخِرُهُ كَلا تَضُرَّ أَحَدَا
فَاكْسِرهُ مُطْلَقًا لِقَوْمٍ وافْتَحَا
…
لآخَرِينَ ثُمَّ إنَّ الفُصَحَا
مِنْ هَؤلاءِ حَيْثُ يَلْقَى ساكِنَا
…
يَأْتُونَ بِالْكَسْرِ كَسُرِّ الْحَزَنَا
ثَالِثَةُ اللُّغَاتِ أنْ يُتْبَعَ مَا
…
يَلِي فَإثْرَ ضَمَّةٍ لَهُ اضْمُمَا
وَافْتَحْهُ بَعْدَ فَتْحَةٍ أوْ أَلِفِ
…
وبَعْدَ كسْرَةٍ لَهُ الْكَسْرُ يَفِي
إلا بِنَحْوِ مُسُّهُ وَفِرُّهُ
…
فَالضَّمُّ عِنْدَهُمْ كَلا تُمِرُّهُ
وَنَحْوُ رُدَّهَا وَحُبَّهَا افْتَحَا
…
لِصِلَةٍ وَخِفَّةٍ قَدْ أُوضِحَا
وَنَحْوُ غُضِّ الطَّرْفَ عَضِّ اللَّحْمَا
…
فَاكْسِرْهُ لِلسَّاكِنِ فَابغِ الْعِلْمَا
(1)
واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 6856 و 6857](2709)، و (أبو داود) في "الطبّ"(3898)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3605)، و (ابن ماجه) في "الطبّ"(3518)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 152) وفي "عمل اليوم والليلة"(585 و 586 و 587)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 952)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 290 و 375)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1020 و 1021)، و (أبو يعلى)
(1)
راجع: "الفتح الودوديّ على المكوديّ" 2/ 206 - 207.
في "مسنده"(12/ 44)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(2/ 209)، و (الحاكم الترمذيّ) في "نوادر الأصول"(1/ 59)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(93)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6857]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبيبٍ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ يَعْقُوبَ، أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى غَطَفَانَ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عِيسَى بْنُ حَمَادٍ الْمِصْرِيُّ) هو: عيسى بن حماد بن مسلم التُّجِيبيّ، أبو موسى، لقبه زُغْبة -بضم الزاي، وسكون الغين المعجمة، بعدها موحّدة- وهو لقب أبيه أيضًا، ثقةٌ [10](248) وقد جاوز التسعين، وهو آخر من حَدَّث عن الليث من الثقات (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.
2 -
(جَعفَرُ) بن ربيعة بن شُرَحبيل بن حَسَنة الْكِنْديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقة [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
والباقون ذُكروا قبله، و"يعقوب" هو: ابن عبد اللَّه بن الأشجّ.
وقوله: (أَنَّهُ ذَكَرَ لَهُ أَن أَبَا صَالِحٍ. . . إلخ) ضمير "أنه" ليعقوب، وضمير "له" لجعفر.
وقوله: (مَوْلَى غَطَفَانَ) هكذا في هذه الرواية أن أبا صالح مولى غطفان، قال الطحاويّ في "مشكل الآثار": نَسَب أبا صالح في هذا الحديث في ولائه إلى غطفان، وقد خولف في ذلك، فذكر محمد بن سعد صاحب الواقديّ في كتابه في الطبقات، قال: وأبو صالح السمّان مولى جويرية، امرأة من قيس. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قال في "التهذيبين": أبو صالح ذكوان السمّان
(1)
"شرح مشكل الآثار" 1/ 25.
الزيّات المدنيّ، مولى جُويرية بنت الأحمس الغطفانيّ. انتهى
(1)
.
فهذا يدلّ على صحّة نِسبته إلى غطفان، ويَحْتَمل أن يكون قيسٌ من غطفان، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية جعفر بن ربيعة، عن يعقوب بن عبد اللَّه هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(10421)
- أخبرنا عيسى بن حمّاد، قال: أخبرنا الليث، عن يزيد، عن جعفر، عن يعقوب، أنه ذكر له أن أبا صالح أخبره؛ أنه سمع أبا هريرة يقول: أتى رجل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له: لدغتني عقرب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو أنك قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق، لم يضرك". انتهى
(2)
.
(17) - (بَابُ مَا يَقُولُ عِنْدَ النَّوْمِ، وَأَخْذِ الْمَضْجَعِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6858]
(2710) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ، فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلَامِكَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ، وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ"، قَالَ: فَرَدَّدْتُهُنَّ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ، فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ").
(1)
راجع: "تهذيب الكمال" 8/ 513، و"تهذيب التهذيب" 1/ 579.
(2)
"السنن الكبرى" 6/ 151.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ، أبو الحسن بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ شهيرٌ [10](ت 239) وله ثلاث وثمانون سنة (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، نزيل الريّ، وقاضيها، تقدّم قريبًا.
4 -
(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد اللَّه السُّلَميّ، أبو عَتّاب -بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة- الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.
5 -
(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السُّلَميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقة [3] مات في ولاية عُمر بن هُبيرة على العراق (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
6 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبِ) بن الحارث بن عَدِيّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابي ابن الصحابيّ، كان ممن نزل الكوفة، استُصغِر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لِدَةً، مات سنة اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قَرَن بينهما؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ عند من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة، وهو ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بالتصغير، قال في "الفتح": كذا قال الأكثر، وخالفهم إبراهيم بن طهمان، فقال:"عن منصور، عن الحكم، عن سعد بن عبيدة" زاد في الإسناد: الحَكَم، أخرجه النسائيّ، وقد سأل ابن أبي حاتم عنه أباه، فقال: هذا خطأ، ليس فيه الحَكَم؛ أي: فهو من المزيد في متصل
الأسانيد
(1)
. (حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) وفي رواية للبخاريّ: "قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم". قال في "الفتح": كذا لأبي ذرّ، وأبي زيد المروزيّ، وسقط لفظ "لي" من رواية الباقين، وفي رواية أبي إسحاق:"أمر رجلًا"، وفي أخرى له:"أوصى رجلًا"، وفي رواية أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء:"قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا فلان إذا أويت إلى فراشك. . . " الحديث، وأخرجه الترمذيّ من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، عن البراء:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أُعَلِّمك كلمات، تقول إذ أويت إلى فراشك"
(2)
.
(إِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ) -بفتح الجيم- من ضَجَع يَضْجَعُ، من باب مَنَعَ يَمْنَعُ، ويُروى:"مُضْطَجعك"، وأصله: مُضتجعك، من باب الافتعال، لكن قُلبت التاء طاء، والمعنى: إذا أردت أن تأتي موضع نومك، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، قاله في "العمدة"
(3)
.
وفي رواية للبخاريّ: "إذا أتيت مضجعك"، قال في "الفتح": أي: إذا أردت أن تضطجع، ووقع صريحًا كذلك في رواية أبي إسحاق المذكورة، ووقع في رواية فِطْر بن خليفة، عن سعد بن عبيدة، عند أبي داود، والنسائيّ:"إذا أويت إلى فراشك، وأنت طاهر، فتوسَّد يمينك. . . " الحديث، نحو حديث الباب، وسنده جيّد، وللنسائيّ من طريق الربيع بن البراء بن عازب، قال: قال البراء، فذكر الحديث، بلفظ:"من تكلم بهؤلاء الكلمات، حين يأخذ جنبه من مضجعه، بعد صلاة العشاء. . . " فذكر نحو حديث الباب
(4)
.
(فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ) بنصب "وضوءك" بنزع الخافض؛ أي: كوضوئك للصلاة، والأمْر فيه للندب، وقد روى الشيخان هذا الحديث من طرُق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، وليس فيها ذِكر الوضوء إلا في هذه الرواية، وكذا قال الترمذيّ
(5)
.
(1)
"الفتح" 14/ 199، "كتاب الدعوات" رقم (6310).
(2)
"الفتح" 14/ 199، "كتاب الدعوات" رقم (6310).
(3)
"عمدة القاري" 3/ 188.
(4)
"الفتح" 14/ 199.
(5)
"عمدة القاري" 3/ 188.
(ثُمَّ اضْطَجِعْ) أمرٌ من الاضطجاع، وأضله: اضتَجِعْ؛ لأنه من باب الافتعال، فقُلبت التاء طاء، كما قال في "الخلاصة":
طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ
…
فِي ادَّانَ وَازْدَدْ وَادَّكِرْ دَالًا بَقِي
(عَلَى شِقِّكَ) -بكسر المعجمة، وتشديد القاف-؛ أي: الجانب (الأَيْمَنِ) وإنما خُصّ الأيمن لفوائد، منها: أنه أسرع إلى الانتباه، ومنها: أن القلب متعلق إلى جهة اليمين، فلا يثقل بالنوم، ومنها: قال ابن الجوزيّ هذه الهيئة نَصّ الأطباء على أنها أصلح للبدن، قالوا: يبدأ بالاضطجاع على الجانب الأيمن ساعة، ثم ينقلب إلى الأيسر؛ لأن الأول سبب لانحدار الطعام، والنوم على اليسار يَهضم؛ لاشتمال الكبد على المعدة.
[تنبيه]: هكذا وقع في رواية سعد بن عبيدة، وأبي إسحاق عن البراء، ووقع في رواية العلاء بن المسيَّب، عن أبيه، عن البراء، من فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولفظه:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه، نام على شقه الأيمن، ثم قال. . . " الحديث، فيستفاد مشروعية هذا الذكر من قوله صلى الله عليه وسلم، ومِن فِعله.
ووقع عند النسائيّ من رواية حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة، عن البراء، وزاد في أوله:"ثم قال: بسم اللَّه، اللَّهُمَّ أسلمت نفسي إليك".
ووقع عند الخرائطيّ في "مكارم الأخلاق" من وجه آخر عن البراء، بلفظ:"كان إذا أوى إلى فراشه قال: اللَّهُمَّ أنت ربي، ومليكي، وإلهي، لا إله إلا أنت، إليك وجهت وجهي. . . " الحديث
(1)
.
(ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ) قال في "الفتح": كذا لأبي ذرّ، وأبي زيد، ولغيرهما:"أسلمت نفسي"، قيل: الوجه والنفس هنا بمعنى الذات، والشخص؛ أي: أسلمت ذاتي، وشخصي لك، وفيه نظرٌ؛ للجمع بينهما في رواية عمرو بن مرّة، عن سعد بن عبيدة، عن البراء الآتية، وزاد خصلة رابعة، ولفظه:"اللَّهُمَّ أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك"، فعلى هذا فالمراد بالنفس هنا: الذات، وبالوجه: القصد، وأبدى القرطبيّ هذا احتمالًا بعد جزمه بالأول، أفاده في "الفتح".
(1)
"الفتح" 14/ 199 - 300.
فقوله: "أسلمت"؛ أي: استسلمت، وانقدت، والمعنى: جعلت نفسي منقادةً لك، تابعةً لحكمك؛ إذ لا قدرة لي على تدبيرها، ولا على جلب ما ينفعها إليها، ولا دفع ما يضرها عنها.
(وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ)؛ أي: توكلت عليك في أمري كله، (وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ)؛ أي: اعتمدت في أموري عليك؛ لتعينني على ما ينفعني؛ لأن مَن استند إلى شيء تَقَوَّى به، واستعان به، وخصّه بالظَّهر؛ لأن العادة جرت أن الإنسان يَعتمد بظهره إلى ما يستند إليه.
(رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ)؛ أي: رغبةً في رِفْدك، وثوابك، ورهبةً؛ أي: خوفًا من غضبك، ومن عقابك، قال ابن الجوزيّ رحمه الله: أسقط "مِنْ" مع ذكر الرهبة، وأعمل "إلى" مع ذكر الرغبة، وهو على طريق الاكتفاء، كقول الشاعر:
وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
والعيون لا تُزَجَّج، لكن لمّا جمعهما في نَظْم، حَمَل أحدهما على الآخر في اللفظ، وكذا قال الطيبيّ رحمه الله ومَثلَ بقوله:
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
قال الحافظ: ولكن ورد في بعض طرقه بإثبات "من"، ولفظه:"رهبةً منك، ورغبةً إليك"، أخرجه النسائيّ، وأحمد، من طريق حُصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة. انتهى.
وقال في "العمدة": قوله: "رغبةً، ورهبةً" منصوبان على المفعول له، على طريقة اللفّ والنشر؛ أي: فوّضت أموري إليك رغبةً، وألجأت ظهري عن المكاره والشدائد إليك رهبةً منك؛ لأنه لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك.
ويجوز أن يكون انتصابهما على الحال، بمعنى: راغبًا، وراهبًا.
[فإن قلت]: كيف يُتصور أن يكون راغبًا وراهبًا في حالة واحدة؛ لأنهما شيئان متنافيان؟.
[قلت]: فيه حذفٌ تقديره: راغبًا إليك، وراهبًا منك.
[فإن قلت]: إذا كان التقدير: راهبًا منك، كيف استَعْمَل بكلمة "إلى" والرهبة لا تُستعمل إلا بكلمة "مِنْ"؟.
[قلت]: "إليك" متعلق برغبةً، وأُعطي للرهبة حُكمها، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، كقول بعضهم:
وَرَأَيْتُ بَعْلَكِ فِي الْوَغَى
…
مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
والرمح لا يُتقلد، وكقول الآخر:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
…
حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
والماء لا يُعلف. انتهى
(1)
.
(لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ) أصل "ملجأ" بالهمز، و"منجا" بغير همز، ولكن لمّا جُمعا جاز أن يهمزا للازدواج، وأن يُترك الهمز فيهما، وأن يُهمز المهموز، ويترك الآخر، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز التنوين مع القصر، فتصير خمسة.
قال الكرمانيّ: هذان اللفظان إن كانا مصدرين يتنازعان في "منك"، وإن كانا ظرفين فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجا منك إلا إليك. انتهى.
وقال في "العمدة": قوله: "لا ملجأ، ولا منجأ" إعرابهما مثل إعراب عَصًى، وفي التركيب خمسة أوجه؛ لأنه مِثل:"لا حول، ولا قوة، إلا باللَّه" والفرق بين نَصْبه، وفَتْحه بالتنوين، وعند التنوين تسقط الألف، ثم إنهما إن كانا مصدرين يتنازعان في "منك"، وإن كانا مكانين فلا؛ إذ اسم المكان لا يعمل، وتقديره: لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك، ولا منجأ إلا إليك. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: في نَظْم هذا الذكر عجائب، لا يعرفها إلا المتقن من أهل البيان، فأشار بقوله:"أسلمت نفسي" إلى أن جوارحه منقادة للَّه تعالى في أوامره، ونواهيه، وبقوله:"وجهت وجهي" إلى أن ذاته مخلصة له، بريئة من النفاق، وبقوله:"فوضت أمري" إلى أن أموره الخارجة والداخلة مفوّضة إليه، لا مدبِّر لها غيره، وبقوله:"ألجأت ظهري" إلى أنه بعد التفويض يلتجئ إليه مما يضره، ويؤذيه من الأسباب كلها، قال: وقوله: "رغبةً، ورهبةً"
(1)
"عمدة القاري" 22/ 283.
(2)
"عمدة القاري" 22/ 289.
منصوبان على المفعول له، على طريق اللفّ والنشر؛ أي: فوضت أموري إليك رغبةً، وألجأت ظهري إليك رهبةً، انتهى.
(آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ) يَحْتَمِل أن يريد به القرآن، ويَحْتَمِل أن يريد اسم الجنس، فيشمل كل كتاب أُنزل، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "آمنت بكتابك"؛ أي: صدّقت أنه كتابك، وقوله:"الذي أنزلت" صفته، وضمير المفعول محذوف، والمراد بالكتاب: القرآن، وإنما خَصّص الكتاب بالصفة؛ لتناوله جميع الكتب المنزلة.
[فإن قيل]: أين العموم ههنا، حتى يجيء التخصيص؟.
[قلت]: المفرد المضاف يفيد العموم؛ لأن المعرَّف بالإضافة كالمعرَّف باللام، يَحْتَمِل الجنس، والاستغراق، والعهد، فلفظ الكتاب المضاف هنا يَحْتَمِل أن يكون لجميع الكتب، ولجنس الكتب، ولبعضها؛ كالقرآن، وقالوا: جميع المعارف كذلك، وقد قال الزمخشريّ في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] في أول البقرة: يجوز أن يكون للعهد، وأن يراد بهم ناس بأعيانهم؛ كأبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وأضرابهم، وأن يكون للجنس، متناولًا منهم كل من صَمَّم على كفره. انتهى.
قال العينيّ: التحقيق أن الجمع المعرَّف تعريفَ الجنس معناه جماعة الآحاد، وهي أعمّ من أن يكون جميع الآحاد، أو بعضها، فهو إذا أطلق احتَمَل العموم، والاستغراق، واحتَمَل الخصوص، والحملُ على واحد منهما يَتوقف على القرينة، كما في المشترك، هذا ما ذهب إليه الزمخشريّ، وصاحب "المفتاح"، ومَن تبعهما، وهو خلاف ما ذهب إليه أئمة الأصول. انتهى
(2)
.
(وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) وقع في رواية أبي زيد المروزيّ: "أرسلته"، و"أنزلته" في الأول بزيادة الضمير فيهما، والرسول نبيّ له كتاب، فهو أخصّ من النبيّ، وقال النوويّ: يلزم من الرسالة النبوة، لا العكس. انتهى
(3)
.
(وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ كَلَامِكَ) وفي رواية للبخاريّ: "واجعلهنّ آخر ما تكلّم
(1)
"الفتح" 14/ 302.
(2)
"عمدة القاري" 22/ 289.
(3)
"عمدة القاري" 22/ 283.
به"، (فَإِنْ متَّ) بضمّ الميم، وكسرها في الموضعين، قرئ بهما في السبعة، قال الفيّوميّ رحمه الله: مَاتَ الإنسان يَمُوتُ مَوْتًا، ومَاتَ يَمَاتُ، من باب خاف لغةٌ، ومِتُّ بالكسر أَمُوتُ لغة ثالثةٌ، وهي من باب تداخل اللغتين، ومثله من المعتلّ دِمْتَ تدوم، وزاد ابن القطاع: كِدت تكود، وَجِدت تجود، وجاء فيهما: تكاد، وتجاد. انتهى
(1)
.
(مِنْ لَيْلَتِكَ)؛ أي: في ليلتك، فـ "مِن" بمعنى "في"، (مُتَّ، وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ")؛ أي: على الدِّين القويم، ملة إبراهيم عليه السلام، فإنه أسلم، واستسلم، قال اللَّه تعالى عنه:{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} [الصافات: 84]، وقال عنه:{أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131]، وقال:{فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103].
وقال في "الفتح": قوله: "فإن مت مت على الفطرة": في رواية أبي الأحوص، عن أبي إسحاق:"من ليلتك"، وفي رواية المسيَّب بن رافع:"من قالهنّ، ثم مات تحت ليلته"، قال الطيبيّ: فيه إشارة إلى وقوع ذلك قبل أن ينسلخ النهار من الليل، وهو تحته، أو المعنى بالتحت؛ أي: مت تحت نازل ينزل عليك في ليلتك، وكذا معنى "مِنْ" في الرواية الأخرى: أي: من أجل ما يحدُث في ليلتك. انتهى
(2)
.
وقال ابن بطال، وجماعة: المراد بالفطرة هنا: دين الإسلام، وهو بمعنى الحديث الآخر:"من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة"، قال القرطبيّ في "المفهم": كذا قال الشيوخ، وفيه نظر؛ لأنه إذا كان قائل هذه الكلمات المقتضية للمعاني التي ذُكرت من التوحيد، والتسليم، والرضا، إلى أن يموت، كمن يقول: لا إله إلا اللَّه، ممن لم يخطر له شيء من هذه الأمور، فأين فائدة هذه الكلمات العظيمة، وتلك المقامات الشريفة؟
ويمكن أن يكون الجواب: أن كلًّا منهما، وإن مات على الفطرة، فبين الفطرتين ما بين الحالتين، ففطرة الأول فطرة المقربين، وفطرة الثاني فطرة أصحاب اليمين.
ووقع في رواية حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عبيدة، في آخره،
(1)
"المصباح المنير" 2/ 583.
(2)
"الفتح" 11/ 112.
عند أحمد، بدل قوله:"مات على الفطرة": "بُني له بيت في الجنة"، قال الحافظ: وهو يؤيد ما ذكره القرطبيّ.
ووقع في آخر الحديث من طريق أبي إسحاق، عن البراء:"وإن أصبحت أصبت خيرًا"، وفي لفظ:"فإن أصبحت أصبحت، وقد أصبت خيرًا"؛ أي: صلاحًا في المال، وزيادة في الأعمال.
(قَالَ: فَرَدَّدْتُهُنَّ لأَسْتَذْكِرَهُنَّ)؛ أي: لأحفظهنّ، وفي رواية للبخاريّ:"فجعلت أستذكرهنّ"، وفي رواية:"فردّدتها"؛ أي: ردّدت تلك الكلمات لأحفظهنّ، (فَقُلْتُ: آمَنْتُ بِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("قُلْ: آمَنْتُ بِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ") قالوا: سبب الردّ إرادة الجمع بين المنصبين، وتعداد النعمتين، وقيل: هو تخليص الكلام من اللَّبس؛ إذ الرسول يدخل فيه جبريل؛ ونحوه، وقيل: هذا ذكر، ودعاء، فيُقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه؛ لاحتمال أن لها خاصيّة ليست لغيرها، قاله في "العمدة"
(1)
.
وقال أيضًا: وذكروا في هذا أوجهًا:
منها: أنه أمَره أن يجمع بين صفتيه، وهما الرسول والنبيّ صريحًا، وإن كان وَصْف الرسالة يستلزم وصف النبوة.
ومنها: أن ألفاظ الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ، وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ زيادة تبيين ليس في الآخر، وإن كان يرادفه في الظاهر.
ومنها: أنه لعله أوحي إليه بهذا اللفظ، فرأى أن يقف عنده.
ومنها: أن ذِكره احترازٌ عمن أُرسل من غير نبوّة؛ كجبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام؛ لأنهم رسل الأنبياء.
ومنها: أنه يَحْتَمِل أن يكون رذَه دفعًا للتكرار؛ لأنه قال في الأول: "ونبيّك الذي أرسلت".
ومنها: أن النبيّ فَعِيل، بمعنى فاعل، من النبأ، وهو الخبر؛ لأنه أنبأ عن اللَّه تعالى؛ أي: أَخبر، وقيل: إنه مشتق من النبوة، وهو الشيء المرتفع، وردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على البراء حين قال:"ونبيّك الذي أرسلت" بما رَدّ عليه ليختلف
(1)
"عمدة القاري" 22/ 283.
اللفظان، ويجمع البناءين، معنى الارتفاع والإرسال، ويكون تعديدًا للنعمة في الحالتين، وتعظيمًا للمنَّة على الوجهين. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6858 و 6859 و 6860 و 6861 و 6862](2710)، و (البخاريّ) في "الوضوء"(247) و (الدعوات)(6311 و 6313 و 6315) و"التوحيد"(7488) وفي "الأدب المفرد"(1211 و 1213)، و (أبو داود) في "الأدب"(5046 و 5047)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3394)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 195) وفي "عمل اليوم والليلة"(773 و 774 و 776 و 777 و 778 و 779)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3876)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 285 و 300)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(708)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19829)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 71 و 75 و 10/ 245 و 246)، و (الحميديّ) في "مسنده"(723)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 108)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5527 و 5536 و 5542)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 288)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1668)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 268 و 269)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(4/ 173)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1315 و 1317)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الوضوء عند النوم، ثم إنه لم يُذكر في روايات هذا الحديث الصلاة إثر الوضوء، لكن لو صلّى بعده كان حسنًا؛ لحديث قصّة بلال رضي الله عنه، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال عند صلاة الفجر:"يا بلال حدّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دَفّ نعليك بين يديّ في الجنة"، قال: ما
(1)
"عمدة القاري" 22/ 288 - 289.
عَمِلت عملًا أرجى عندي، أني لم أتطهر طهورًا في ساعة ليل، أو نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كُتب لي، أن أصلي. قال أبو عبد اللَّه: دَفّ نعليك: يعني: تحريك
(1)
.
وقد ترجم البخاريّ على هذا الحديث، فقال:"باب فضل الطهور بالليل والنهار، وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار".
2 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: فيه أن الوضوء عند النوم مندوب إليه، مرغَّب فيه، وكذلك الدعاء؛ لأنه قد تُقبض روحه في نومه، فيكون قد خُتم عمله بالوضوء والدعاء الذي هو أفضل الأعمال، ثم إن هذا الوضوء مستحب، وإن كان متوضئًا كفاه ذلك الوضوء؛ لأن المقصود النوم على طهارة؛ مخافة أن يموت في ليلته، ويكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلعّب الشيطان به في منامه.
3 -
(ومنها): استحباب النوم على الشقّ الأيمن؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن، ولأنه أسرع إلى الانتباه، وإلى انحدار الطعام كما هو مذكور في الكتب الطبية، كذا قال الكرمانيّ.
وتعقّبه العينيّ، فقال: الذي ذكره الأطباء خلاف هذا، فإنهم قالوا: النوم على الأيسر رَوْح للبدن، وأقرب إلى انهضام الطعام، ولكن اتباع السُّنَّة أحقّ وأَولى.
4 -
(ومنها): استحباب النوم على ذكر اللَّه سبحانه وتعالى؛ ليكون خاتمة عمله ذلك، اللَّهُمَّ اختم لنا بالخير.
5 -
(ومنها): ما قاله الخطابيّ: فيه حجة لمن منع رواية الحديث بالمعنى، وهو قول ابن سيرين، وغيره، وكان يذهب هذا المذهب أبو العباس النحويّ، ويقول: ما من لفظة من الألفاظ المتناظرة في كلامهم، إلا وبينها وبين صاحبتها فرق، وإن دَقّ ولَطُف، كقوله: بلى، ونعم.
قال العينيّ رحمه الله: هذا الباب فيه خلاف بين المحدثين، وقد عُرف في موضعه، ولكن لا حجة في هذا للمانعين؛ لأنه يَحْتَمِل الأوجه التي ذكرناها
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 386.
بخلاف غيره. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قال القرطبيّ
(2)
تبعًا لغيره: هذا حجة لمن لم يُجز نقل الحديث بالمعنى، وهو الصحيح من مذهب مالك، فإن لفظ النبوة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فإن النبوة من النبأ، وهو الخبر، فالنبيّ في العرف: هو المنَبَّأ من جهة اللَّه بأمر يقتضي تكليفًا، وإن أُمر بتبليغه إلى غيره، فهو رسول، وإلا فهو نبيّ غير رسول، وعلى هذا فكل رسول نبيّ بلا عكس، فإن النبيّ والرسول اشتركا في أمر عامّ، وهو النبأ، وافترقا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمَّن أنه نبيّ رسول، وإذا قلت: فلان نبيّ لم يستلزم أنه رسول، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يجمع بينهما في اللفظ؛ لاجتماعهما فيه، حتى يُفهم من كل واحد منهما من حيث النطق ما وُضع له، وليخرج عما يكون شِبْه التكرار في اللفظ، من غير فائدة، فإنه إذا قال: ورسولك، فقد فُهم منه أنه أرسله، فإذا قال: الذي أرسلت صار كالحشو الذي لا فائدة فيه، بخلاف قوله: ونبيّك الذي أرسلت، فلا تكرار فيه، لا متحققًا، ولا متوهمًا. انتهى كلامه.
قال الحافظ: وقوله: صار كالحشو، متعقَّب؛ لثبوته في أفصح الكلام، كقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل: 15]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} [التوبة: 33]، ومن غير هذا اللفظ:{يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} [ق: 41]، إلى غير ذلك، فالأولى حذف هذا الكلام الأخير، والاقتصار على قوله:"ونبيّك الذي أرسلت" في هذا المقام أفْيد من قوله: "ورسولك الذي أرسلت"؛ لِما ذُكِر، والذي ذكره في الفرق بين الرسول والنبيّ مقيّد بالرسول البشريّ، وإلا فإطلاق الرسول كما في اللفظ هنا يتناول الملَك، كجبريل؛ مثلًا، فيظهر لذلك فائدة أخرى، وهي تعيّن البشريّ دون الملَك، فيخلص الكلام من اللَّبس.
وأما الاستدلال به على مَنْع الرواية بالمعنى ففيه نظر؛ لأن شرط الرواية بالمعنى أن يتفق اللفظان في المعنى المذكور، وقد تقرر أن النبيّ والرسول متغايران لفظًا ومعنى، فلا يتم الاحتجاج بذلك.
(1)
"عمدة القاري" 3/ 189.
(2)
"المفهم" 7/ 39.
قيل: وفي الاستدلال بهذا الحديث لمنع الرواية بالمعنى مطلقًا نظر، وخصوصًا إبدال الرسول بالنبيّ وعكسه إذا وقع في الرواية؛ لأن الذات المحدَّث عنها واحدة، فالمراد يُفهم بأيّ صفة وُصِف بها الموصوف، إذا ثبتت الصفة له، وهذا بُناءً على أن السبب في منع الرواية بالمعنى أن الذي يستجيز ذلك قد يَظُنّ يوفي بمعنى اللفظ الآخر، ولا يكون كذلك في نفس الأمر، كما عُهد في كثير من الأحاديث، فالاحتياط الإتيان باللفظ، فعلى هذا إذا تحقق بالقطع أن المعنى فيهما متّحد لم يضرّ، بخلاف ما إذا اقتصر على الظنّ، ولو كان غالبًا.
وأَولى ما قيل في الحكمة في ردّه صلى الله عليه وسلم على من قال "الرسول" بدل "النبيّ": أن ألفاظ الأذكار توقيفية، ولها خصائص، وأسرار، لا يدخلها القياس، فتجب المحافظة على اللفظ الذي وردت به، وهذا اختيار المازريّ
(1)
، قال: فيُقتصر فيه على اللفظ الوارد بحروفه، وقد يتعلق الجزاء بتلك الحروف، ولعله أوحي إليه بهذه الكلمات، فيتعيّن أداؤها بحروفها.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن أحسن ما قيل في حكمة النهي عن إبدال النبيّ بالرسول في هذا الحديث كون ألفاظ الأذكار توقيفيّة، كما قال المازريّ، فتجب المحافظة على اللفظ الوارد فيها، ولو ظُنّ أن ما يرادفها من الألفاظ يؤدي معناها؛ لأن التعبّد وقع على لفظها، كما وقع على معناها، فالواجب الوقوف على التعليم النبويّ، واللَّه تعالى أعلم.
6 -
(ومنها): ما قال النوويّ رحمه الله: في الحديث ثلاث سنن:
إحداها: الوضوء عند النوم، وإن كان متوضًا كفاه؛ لأن المقصود النوم على طهارة.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكن ظاهر إطلاق الحديث يعمّ من كان متوضّئًا، وهو الأَولى، واللَّه تعالى أعلم.
ثانيها: النوم على اليمين.
(1)
"المعلم" 3/ 187.
ثالثها: الختم بذكر اللَّه تعالى
(1)
.
وقال الكرمانيّ رحمه الله: هذا الحديث يشتمل على الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إجمالًا، من الكتب، والرسل، من الإلهيات، والنبويات، وعلى إسناد الكل إلى اللَّه تعالى، من الذوات، والصفات، والأفعال؛ لِذِكر الوجه، والنفس، والأمر، وإسناد الظَّهر مع ما فيه من التوكل على اللَّه تعالى، والرضا بقضائه، وهذا كله بحسب المعاش، وعلى الاعتراف بالثواب، والعقاب، خيرًا، وشرًّا، وهذا بحسب المعاد. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "فتوضأ وضوءك للصلاة" الأمْر فيه للندب، وله فوائد:
منها: أن يبيت على طهارة؛ لئلا يبغته الموت، فيكون على هيئة كاملة، ويؤخذ منه الندب إلى الاستعداد للموت بطهارة القلب؛ لأنه أَولى من طهارة البدن، وقد أخرج عبد الرزاق من طريق مجاهد، قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: لا تبيتنّ إلا على وضوء، فإن الأرواح تُبعث على ما قُبضت عليه، ورجاله ثقات، إلا أبا يحيى القَتّات هو صدوق فيه كلام.
ومن طريق أبي مراية العجليّ قال: من أوى إلى فراشه طاهرًا، ونام ذاكرًا كان فراشه مسجدًا، وكان في صلاة وذكر، حتى يستيقظ.
ومن طريق طاوس نحوه، ويتأكد ذلك في حقّ المحدث، ولا سيما الجنب، وهو أنشط للعَوْد، وقد يكون منشطًا للغسل، فيبيت على طهارة كاملة.
ومنها: أن يكون أصدق لرؤياه، وأبعد من تلعّب الشيطان به، قال الترمذيّ: ليس في الأحاديث ذِكر الوضوء عند النوم إلا في هذا الحديث. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: وقع عند النسائيّ في رواية عمرو بن مرّة، عن سعد بن عبيدة، في أصل الحديث:"آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت"،
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 31 - 32.
(2)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 22/ 128.
(3)
"الفتح" 11/ 109.
وكأنه لم يسمع من سعد بن عبيدة الزيادة التي في آخره، فروى بالمعنى، وقد وقع في رواية أبي إسحاق، عن البراء، نظير ما في رواية منصور، عن سعد بن عبيدة، أخرجه الترمذيّ من طريق سفيان بن عيينة، عن أبي إسحاق، وفي آخره:"قال البراء: فقلت: وبرسولك الذي أرسلت، فطَعَن بيده في صدري، ثم قال: ونبيّك الذي أرسلت"، وكذا أخرج النسائيّ من طريق فِطر بن خليفة، عن أبي إسحاق، ولفظه:"فوضع يده في صدري"، نَعَم أخرج الترمذيّ من حديث رافع بن خَديج؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اضطجع أحدكم على يمينه، ثم قال. . . " فذكر نحو الحديث، وفي آخره:"أومن بكتابك الذي أنزلت، وبرُسُلك الذي أرسلت"، هكذا فيه بصيغة الجمع، وقال: حسن غريب، فإن كان محفوظًا فالسرّ فيه حصول التعميم الذي دلّت عليه صيغة الجمع صريحًا، فدخل فيه جميع الرسل من الملائكة، والبشر، فأُمن اللَّبس، ومنه قوله تعالى:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285]، واللَّه أعلم. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو بحثٌ مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6859]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي: ابْنَ إِدْرِيسَ- قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنًا، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ مَنْصُورًا أَتَمُّ حَدِيثًا، وَزَادَ فِي حَدِيثِ حُصَيْنٍ: "وَإِنْ أَصْبَحَ أَصَابَ خَيْرًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(محَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ -بسكون الواو- أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(حُصَيْنُ) بن عبد الرحمن السُّلَميّ، أبو الْهُذيل الكوفيّ، ثقةٌ تغير حفظه في الآخر [5](ت 136) وله ثلاث وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 285.
(1)
"الفتح" 14/ 304 - 305.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: رواية حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، إلا أنه لم يذكر قوله:"وإن أصبح. . . إلخ"، فقال:
(18640)
- حدثنا عليّ بن عاصم، أنا حصين بن عبد الرحمن، عن سعد بن عُبيدة، عن البراء بن عازب، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا اضطجع الرجل، فتوسّد يمينه، ثم قال: اللَّهُمَّ إليك أسلمت نفسي، وفوَّضت أمري إليك، وألجأت إليك ظهري، ووجهت إليك وجهي، رهبةً منك، ورغبةً إليك، لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، ومات على ذلك بُني له بيت في الجنة، أو بُوّئ له بيت في الجنة". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6860]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو دَاوُدَ، قَالَا: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ أَنْ يَقُولَ: "اللَّهُمَّ أَسلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ، وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مَاتَ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ بَشَّارٍ في حَدِيثهِ:"مِنَ اللَّيْلِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلّهم تقدّموا قبل ثلاثة أبواب، و"ابن بشّار" هو: محمد بُندار، و"أبو داود" هو: سليمان بن داود الطيالسيّ، و"عبد الرحمن" هو: ابن مهديّ.
وقوله: (أَمَرَ رَجُلًا) هو: البراء نفسه، كما تقدّم في الرواية السابقة.
وقوله: (وَبِرَسُولكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ) هكذا في رواية عمرو بن مرّة هذه،
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 296.
وهي مخالفة لروايات الآخرين حيث رووا هذا من قول البراء رضي الله عنه عند الاستذكار، فردّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"قل: وبنبيك الذي أرسلت"، وذكر في "الفتح" هذا وعزى الرواية إلى النسائيّ، ولم يتذكّر أنها عند مسلم هنا، ودونك نصّه:
[تنبيه]: وقع عند النسائيّ في رواية عمرو بن مرّة، عن سعد بن عُبيدة في أصل الحديث:"آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت"، وكأنه لم يسمع من سعد بن عبيدة الزيادة التي في آخره، فروى بالمعنى. انتهى.
حاصل ما أجاب: أن عمرو بن مرّة نقص من الحديث آخره، وهو استذكاره الحديث، ثم ردّه صلى الله عليه وسلم عليه، ولعله لم يسمعه من شيخه سعد بن عُبيدة، فوقع في المخالفة.
والحاصل: أن الحديث بهذا السياق خطأ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
والحديث متّفقٌ عليه باللفظ السابق، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6861]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ: "يَا فُلَانُ إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.
3 -
(أَبُو إِسْحَاقَ) عمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد السّبِيعيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
و"البراء بن عازب رضي الله عنهما" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (425) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (يَا فُلَانُ) كناية عن البراء، كما تقدّم.
وقوله: (إِذَا أَوَيْتَ) بالقصر، يقال: أويت منزلي، وإليه أُوِيًّا، بالضمّ، ويُكسر: نزلته بنفسي، وسكنته، قاله المجد رحمه الله
(1)
.
وقوله: (إِلَى فِرَاشِكَ)؛ أي: إلى مضجعك.
وقوله: (مُتَّ عَلَى الْفِطْرَةِ)؛ أي: فطرة الإسلام، والطريقة الحقّة الصحيحة المستقيمة.
وقوله: (وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا)؛ أي: خيرًا عظيمًا فالتنكير للتعظيم، وفي رواية:"أجرًا" مكان: "خيرًا".
[تنبيه]: رواية أبي إسحاق السَّبِيعيّ، عن البراء رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(7050)
- حدّثنا مسدّد، حدّثنا أبو الأحوص، حدّثنا أبو إسحاق الْهَمْدانيّ، عن البراء بن عازب، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا فلان إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللَّهُمَّ أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوّضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ، ولا منجا منك، إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيّك الذي أرسلت، فإنك إن مُتّ في ليلتك مُتّ على الفطرة، وإن أصبحت أصبت أجرًا". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6862]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِب يَقُولُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا. بِمِثْلِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَإِنْ أَصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيْرًا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغُندر، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الإسنادين الماضيين.
(1)
"القاموس" ص 70.
(2)
"صحيح البخاريّ" 6/ 2722.
[تنبيه]: رواية شعبة عن أبي إسحاق هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5954)
- حدّثنا سعيد بن الربيع، ومحمد بن عرعرة، قالا: حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت البراء بن عازب؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا. . . (ح) وحدّثنا آدم، حدّثنا شعبة، حدّثنا أبو إسحاق الْهَمْدانيّ، عن البراء بن عازب؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أوصى رجلًا، فقال:"إذا أردت مضجعك، فقل: اللَّهُمَّ أسلمت نفسي إليك، وفوّضت أمري إليك، ووجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً، ورهبةً إليك، لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيّك الذي أرسلت، فإن مُتّ مُتّ على الفطرة". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ذكر في "الفتح" أن في رواية شعبة عن أبي إسحاق هذه إدراجًا، ودونك نصّه، قال: وقع في رواية شعبة، عن أبي إسحاق في هذا الحديث عن البراء:"لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك"، وهذا القدر من الحديث مُدْرَج، لم يسمعه أبو إسحاق من البراء، وإن كان ثابتًا في غير رواية أبي إسحاق عن البراء، وقد بَيّن ذلك إسرائيل عن جدّه أبي إسحاق، وهو من أثبت الناس فيه، أخرجه النسائيّ من طريقه، فساق الحديث بتمامه، ثم قال: كان أبو إسحاق يقول: "لا ملجأ، ولا منجا منك إلا إليك" لم أسمع هذا من البراء، سمعتهم يذكرونه عنه، وقد أخرجه النسائيّ أيضًا من وجه آخر عن أبي إسحاق، عن هلال بن يساف، عن البراء. انتهى
(2)
.
وقال أيضًا: لشعبة في هذا الحديث شيخ آخر، أخرجه النسائيّ من طريق غثدر عنه، عن مهاجر أبي الحسن، عن البراء، وغندر من أثبت الناس في شعبة، ولكن لا يقدَح ذلك في رواية الجماعة عن شعبة، فكأن لشعبة فيه شيخين. انتهى
(3)
.
(1)
"الفتح" 14/ 305.
(2)
"الفتح" 14/ 305.
(3)
"الفتح" 14/ 305.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6863]
(2711) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى، عَنِ الْبَرَاءِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَحْيَا، وَبِاسْمِكَ أَمُوتُ"، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي السَّفَرِ) بفتح الفاء، واسمه سعيد بن يُحْمِد، ويقال: أحمد الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
4 -
(أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ الكوفيّ، واسمه عمرو، أو عامر، ثقةٌ [3](ت 106) وكان أسنّ من أخيه أبي بردة (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ)؛ أي: محلّ نومه؛ يعني: أنه إذا أراد أن ينام، وتهيّأ للنوم، (قَالَ:"اللَّهُمَّ) أصله يا اللَّه، فحُذفت منه "يا"، وعُوّض عنه الميم المشدّدة، قال في "الخلاصة":
وَبِاضْطِرَارٍ خُصَّ جَمْعُ "يَا" وَ"أَلْ"
…
إِلَّا مَعَ "اللَّه" وَمَحْكِيِّ الْجُمَلْ
وَالأَكْثَرُ "اللَّهُمَّ" بِالتَّعْوِيضِ
…
وَشَذَّ "يَا اللَّهُمَّ" فِي قَرِيضِ
(بِاسْمِكَ) متعلّق بـ (أَحْيَا)، ومثله قوله:(وَبِاسْمِكَ أَمُوتُ") قال النوويّ رحمه الله: قيل: معناه: بذكر اسمك أحيا ما حَيِيت، وعليه أموت، وقيل:
معناه: بك أحيا؛ أي: أنت تحييني، وأنت تميتني، والاسم هنا هو المسمى. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": قوله: "باسمك أموت وأحيا"؛ أي: بذكر اسمك أحيا ما حييت، وعليه أموت، وقال القرطبيّ: قوله: "باسمك أموت" يدلّ على أن الاسم هو المسمى، وهو كقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} [الأعلى: 1]؛ أي: سبِّح ربك، هكذا قال جُلّ الشارحين، قال: واستفدت من بعض المشايخ معنى آخر، وهو أن اللَّه تعالى سَمّى نفسه بالأسماء الحسنى، ومعانيها ثابتة له، فكل ما صدر في الوجود فهو صادر عن تلك المقتضيات، فكأنه قال: باسمك المحيي أحيا، وباسمك المميت أموت. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: والمعنى الذي صَدّرت به ألْيق، وعليه فلا يدلّ ذلك على أن الاسم غير المسمى، ولا عينه، ويَحْتَمِل أن يكون لفظ الاسم هنا زائدًا، كما في قول الشاعر:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا
انتهى
(2)
.
(وَإِذَا استَيْقَظَ قَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا) قال النوويّ رحمه الله: المراد بأماتنا: النوم، وأما النشور: الإحياء للبعث يوم القيامة، فنبّه صلى الله عليه وسلم بإعادة اليقظة بعد النوم الذي هو كالموت على إثبات البعث بعد الموت، قال العلماء: وحكمة الدعاء عند إرادة النوم: أن تكون خاتمة أعماله كما سبق، وحكمته إذا أصبح: أن يكون أول عمله بذكر التوحيد، والكلم الطيب. انتهى
(3)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قال: الحمد للَّه الذي أحيانا بعدما أماتنا": قال أبو إسحاق الزجاج: النفس التي تفارق الإنسان عند النوم هي التي للتمييز، والتي تفارقه عند الموت هي التي للحياة، وهي التي يزول معها التنفس، وسُمّي النوم موتًا؛ لأنه يزول معه العقل والحركة تمثيلًا وتشبيهًا، قاله في "النهاية".
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 35.
(2)
"الفتح" 14/ 306، "كتاب الدعوات" رقم (6312).
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 35.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالموت هنا: السكون، كما قالوا: ماتت الريح؛ أي: سكنت، فيَحْتَمِل أن يكون أطلق الموت على النائم، بمعنى إرادة سكون حركته؛ لقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67]، قاله الطيبيّ، قال: وقد يستعار الموت للأحوال الشاقّة؛ كالفقر، والذّلّ، والسؤال، والهرم، والمعصية، والجهل.
وقال القرطبيّ في "المفهم": النوم والموت يجمعهما انقطاع تعلق الروح بالبدن، وذلك قد يكون ظاهرًا، وهو النوم، ولذا قيل: النوم أخو الموت، وباطنًا، وهو الموت، فإطلاق الموت على النوم يكون مجازًا؛ لاشتراكهما في انقطاع تعلق الروح بالبدن.
وقال الطيبيّ: الحكمة في إطلاق الموت على النوم أن انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو لتحري رضا اللَّه عنه، وقَصْد طاعته، واجتناب سخطه، وعقابه، فمن نام زال عنه هذا الانتفاع، فكان كالميت، فحَمِد اللَّه تعالى على هذه النعمة، وزوال ذلك المانع، قال: وهذا التأويل موافق للحديث الآخر الذي فيه: "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"، وينتظم معه قوله:"وإليه النشور"؛ أي: وإليه المرجع في نيل الثواب بما يُكتسب في الحياة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: والحديث الذي أشار إليه سيأتي مع شرحه قريبًا في هذا الباب.
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "أحيانا بعدما أماتنا"؛ أي: أيقظنا بعدما أنامنا، أَطلق الموت على النوم؛ لأنه يزول معه العقل والحركة، ومن ثم قالوا: النوم موت خفيف، والموت نوم ثقيل، وقالوا: النوم أخو الموت.
وقيل: معنى قوله: "أحيانا بعدما أماتنا"؛ أي: رَدّ أنفسنا بعد قَبْضها عن التصرف بالنوم؛ يعني: الحمد للَّه شكرًا لنيل نعمة التصرف في الطاعات بالانتباه من النوم الذي هو أخو الموت، وزوال المانع عن التقرب بالعبادات.
(1)
"الفتح" 14/ 306.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ")؛ أي: البعث يوم القيامة، والإحياء بعد الإماتة، يقال: نشر اللَّه الموتى، فنشَرُوا؛ أي: أحياهم، فَحَيُوا، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإليه النشور"؛ أي: المرجع بعد الإحياء، يقالُ: نشر اللَّه الموتى، فنُشروا؛ أي: أحياهم، فَحَيُوا، وخرجوا من قبورهم منتشرين؛ أي: جماعات في تفرقة، كما قال تعالى:{كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7]
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "وإليه النشور"؛ أي: الإحياء للبعث، أو المرجع في نيل الثواب مما نكسب في حياتنا هذه، وفيه إشارة بإعادة اليقظة بعد النوم إلى البعث بعد الموت، وحكمة الدعاء عند النوم: أن يكون خاتمة عمله العبادة، فالدعاء هو العبادة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وحكمة الدعاء عند الانتباه: أن يكون أول ما يستيقظ يعبد اللَّه بدعائه، وذكره، وتوحيده.
[تنبيه]: تقدّم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من نومه بالليل نظر إلى السماء، فقرأ:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} العشر آيات [آل عمران: 190] ثم قام، فتوضأ، فقال بعضهم: قد دلّ بهذا على أن المتهجد إذا استيقظ ينبغي أن يَشْغَل كل عضو منه بما هو المطلوب منه، والموظف له من الطاعات، فيطالع بعينه عجائب الملك والملكوت، ثم يتفكر بقلبه فيما انتهى إليه حاسة بصره، يعرج بمراقي فكره إلى عالم الجبروت، حتى ينتهي إلى سرادقات الكبرياء، فيفتح لسانه بالذكر، ثم يُتْبع بدنه نفسه بالتأهب للصلاة، وللوقوف في مقامات التناجي، والدعاء. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفتح" 14/ 307.
(2)
"المفهم" 7/ 41.
(3)
راجع: "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ رحمه الله 5/ 91، نقلته بالتصرّف.
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6863](2711)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 188) وفي "عمل اليوم والليلة"(75 أو 772)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 294 و 302)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 322) وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6864]
(2712) - (حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ قَالَ: "اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي، وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ"، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟، فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ، مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ نَافِعٍ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: سَمِعْتُ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُقبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) -بفتح المهملة، وتشديد الميم- أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود (250)(م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.
2 -
(خَالِدُ) بن مِهْران الحذّاء البصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ) الأنصاريّ، أبو الوليد البصريّ، نَسِيب ابن سيرين، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1338.
4 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنهما العدويّ، أبو عبد الرحمن، المدنيّ، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها، أو أول التي تليها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو بكر بن نافع" هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لِمَا أسلفناه
غير مرّة، وأنه مسلسل بالبصريين غير الصحابيّ فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وُلد بعد المبعث بيسير، واستُصغِر يوم أُحد، وهو ابن أربع عشرة، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة، والعبادلة الأربعة، وكان من أشدّ الناس اتباعًا للأثر رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما؛ (أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلًا) لم يُسَمَّ
(1)
. (إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ)؛ أي: موضع نومه، (قَالَ:"اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي، وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا) بحذف إحدى التاءين للتخفيف، كما في {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":
وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ
…
فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"
(لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْيَاهَا)، أي: موتها، وحياتها؛ أي: أنت المالك لإحيائها، ولإماتتها وحدك لا شريك لك، أي: وقد ثبت أنه لا مالك لهما غيرك، وفيه إشارة إلى قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42]. (إِنْ أَحْيَيْتَهَا) وفي رواية: "فإن أحييتها" بالفاء، (فَاحْفَظْهَا)؛ أي: صُنْها عن التورط فيما لا يرضيك، (وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا) ذنوبها، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ)؛ أي: أطلب منك (الْعَافِيَةَ")؛ أي: السلامة في الدين من الافتتان، وكيد الشيطان، والدنيا من الآلام، والأسقام.
(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لابن عمر رضي الله عنهما، (رَجُلٌ) لم يُسمّ
(2)
، والظاهر أنه رجل آخر غير الأول؛ لأن القاعدة أنه إذا أعيدت النكرة بنكرة فهي غير الأول، كما قال في "عقود الْجُمَان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
(1)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 444.
(2)
راجع: "تنبيه المعلم" ص 444.
وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى مع الجواب عن الاستشكال الوارد على البيتين غير مرّة، وباللَّه تعالى التوفيق.
(أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟)؛ يعني: أباه رضي الله عنهما، (فَقَالَ) ابن عمر: سمعته (مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ) رضي الله عنه، وقوله:(مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بدل من الجار والمجرور قبله.
[تنبيه]: وقع في بعض النسخ بلفظ: "سمعتَ من ابن عمر؟ فقال: من خير من ابن عمر". قال القرطبيّ: هكذا رواه السمرقنديّ بزيادة "ابن" في الموضعين، وهو وَهَمٌ؛ لأن القائل:"سمعت من خير من عمر" هو ابن عمر، وكذلك رواه الجماعة، وهو الصحيح. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ ابْنُ نَافِع)؛ يعني: شيخه الثانيّ، وهو أبو بكر محمد بن أحمد بن نافع، (فِي رِوَايَتِهِ) متعلّق بـ "قال"، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ)؛ أي: بالعنعنة، (وَلَمْ يَذْكُرْ: سَمِعْتُ) غرضه من هذا الكلام بيان اختلاف شيخيه على خالد الحذّاء، فرواه عقبة بن مكرم بقوله:"عَنْ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ"، ورواه أبو بكر بن نافع بقوله:"عن خالد، عن عبد اللَّه بن الحارث"، وفائدته أن خالدًا من المدلسين، فتبيّن برواية عقبة انتفاء تدليسه، حيث صرّح بالسماع، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6864](2712)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 199) وفي "عمل اليوم والليلة"(696 و 797)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(726)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5541)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 79)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 45)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"المفهم" 7/ 42.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6865]
(2713) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ، أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ، وَرَبَّ الأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيء، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ، فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ، فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ، فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ"، وَكَانَ يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم".
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُهَيْلُ) بن أبي صالح ذكوان السمّان، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
شرح الحديث:
(عَنْ سُهَيْلِ) بن أبي صالح؛ أنه (قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ)؛ يعني: أباه ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، (يَأْمُرُنَا)؛ أي: أولاده ومن معهم، (إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ، أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ) بكسر الشين المعجمة، وتشديد القاف؛ أي: جنبه (الأَيْمَنِ، ثُمَّ يَقُولَ) بالنصب عطفًا على "يَضطجعَ"، ("اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ) بحذف حرف النداء؛ أي: يا رب السماوات (وَرَبَّ الأَرْضِ)؛ أي: خالقهما، ومربّي أهلهما، وقال القرطبيّ: وأصل ربّ: اسم فاعل من رَبَّ الشيءَ يرُبّه: إذا أصلحه، وقام عليه، ثم إنه يقال على السيّد والمالك. انتهى.
(وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) بجرّ "العظيم" صفةً للعرش، والنصب نعتًا للرب، (رَبَّنَا)؛ أي: يا ربّنا (وَرَبَّ كُلِّ شَيء) تعميم بعد تخصيص، (فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى) الفلق: بمعنى الشقّ، والنوى جصع النواة، وهي عَجْم النخل، وفي معناه عَجْم غيرها، والتخصيص؛ لفضلها، أو لكثرة وجودها في ديار العرب؛ أي: يا من يشق حب الطعام، ونوى التمر، ونحوهما بإخراج الزرع، والنخيل منهما.
وقال القرطبيّ: "فالق الحبّ والنوى" أي: شاقّ الحبة، فيُخرج منها سنبلة، والنواة: فيخرج منها نخلة. ومنه القَسَم المشهور عن عليّ رضي الله عنه: "والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة"؛ أي: شقّها.
(وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) من الإنزال، وقيل: من التنزيل. (والإنجيل، وَالْفُرْقَانِ)؛ أي: الفارق بين الحقّ والباطل، ولعل تَرْك الزبور لأنه مندرج في التوراة، أو لكونه مواعظ، ليس فيه أحكام.
قال الطيبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: ما وجه النظم بين هذه القرائن؟.
[قلت]: وجهه أنه صلى الله عليه وسلم لمّا ذكر أنه تعالى "رب السماوات والأرض"؛ أي: مالكهما، ومدبِّر أهلهما، عقّبه بقوله:"فالق الحب والنوى"؛ لينتظم معنى الخالقية، والمالكية؛ لأن قوله تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95] تفسير لفالق الحب والنوى، ومعناه: يخرج الحيوان النامي من النطفة، والحب من النوى، ويخرج الميت من الحي؛ أي: يخرج هذه الأشياء من الحيوان النامي، ثم عقّب ذلك بقوله:"منزل التوراة"؛ لِيُؤْذِن بأنه لم يكن إخراج الأشياء من كتم العدم إلى فضاء الوجود، إلا ليُعلَم، ويُعبَد، ولا يحصل ذلك إلا بكتاب ينزله، ورسول يبعثه، كأنه قيل: يا مالك، يا مدبر، يا هادي. (أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم، وألوذ (بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ)؛ أي: من شر كل شيء من المخلوقات؛ لأنها كلها في سلطانه، وهو آخذ بنواصيها، وفي رواية:"أعوذ من شر كل ذي شر"، وفي رواية:"من شر كل دابة أنت آخذ بنواصيها".
(اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ)؛ أي: القديم بلا ابتداء، (فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْء) قيل: هذا تقرير للمعنى السابق، وذلك أن قوله:"أنت الأول" مفيد للحصر، بقرينة "أل" في الخبر، فكأنه قيل: أنت مختص بالأولية، فليس قبلك شيء، (وَأَنْتَ الآخِرُ)؛ أي: أنت الباقي بعد فناء خلقك لا انتهاء لك، ولا انقضاء لوجودك، (فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ)؛ أي: لا يوجد مخدوق بعدك، (وَأَنْتَ الظَّاهِرُ، فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ)؛ أي: ليس فوق ظهورك شيء؛ يعني: أنه ليس شيء أظهر منك؛ لدلالة الآيات الباهرة عليك، (وَأَنْتَ الْبَاطِنُ)؛ أي: الذي حجب أبصار الخلائق عن إدراكك، (فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ)؛ أي: لا يحجبك شيء عن إدراك مخلوقاتك.
وقال النوويّ رحمه الله: أما معنى الظاهر من أسماء اللَّه، فقيل: هو من الظهور، بمعنى القهر والغلبة، وكمال القدرة، ومنه: ظهر فلان على فلان، وقيل: الظاهر بالدلائل القطعية، والباطن يحتجب عن خلقه، وقيل: العالم بالخفيات.
وأما تسميته سبحانه وتعالى بالآخر، فقال الإمام أبو بكر بن الباقلّانيّ: معناه: الباقى بصفاته من العلم، والقدرة، وغيرهما التي كان عليها في الأزل، ويكون كذلك بعد موت الخلائق، وذهاب علومهم، وقدرهم، وحواسهم، وتفرق أجسامهم، قال: وتعلقت المنزلة بهذا الاسم فاحتجوا به لمذهبهم في فثاء الأجسام، وذهابها بالكلية، قالوا: ومعناه: الباقي بعد فناء خلقه، ومذهب أهل الحقّ خلاف ذلك، وأن المراد الآخر بصفاته بعد ذهاب صفاتهم، ولهذا يقال: آخر من بقي من بني فلان فلان، يراد حياته، ولا يراد فناء أجسام موتاهم، وعدمها، هذا كلام ابن الباقلّانيّ. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أنت الأول فليس قبلك شيء. . . " الحديث إلى آخره، تضمّن هذا الدعاء من أسماء اللَّه تعالى ما تضمّنه قوله تعالى:{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3]، وقد اختَلَفت عبارات العلماء في ذلك، وأرشق عباراتهم في ذلك قول من قال: الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، والظاهر بلا اقتراب، والباطن بلا احتجاب، وقيل: الأول بالإبداء، والآخر بالإفناء، والظاهر بالآيات، والباطن عن الإدراكات، وقيل: الأول: القديم، والآخر: الباقي، والظاهر: الغالب، والباطن: الخفي اللطيف، الرفيق بالخلق، وهذا القول يناسب الحديث، وهو بمعناه.
وقوله: "فليس فوقك شيء"؛ أي: لا يقهرك شيء. وقوله: "فليس دونك شيء"؛ أي: لا شيء ألطف منك، ولا أرفق. انتهى
(2)
.
(اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ) قال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن المراد بالدِّين هنا: حقوق اللَّه تعالى، وحقوق العباد كلها، من جميع الأنواع.
(وَأَغْنِنَا) بقطع الهمزة، من الإغناء، (مِنَ الْفَقْرِ") الظاهر أن "من" هنا
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 36 - 37.
(2)
"المفهم" 7/ 42.
بمعنى البدل، كما قوله تعالى:{أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} الآية [التوبة: 38]؛ أي: أبْدِل فقرنا بالغنى.
قال سُهيلٌ: (وَكَانَ) أبوه أبو صالح (يَرْوِي ذَلِكَ)؛ أي: الذِّكر المذكور، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فهو متّصلٌ مرفوع، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [17/ 6865 و 6866 و 6867](2713)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1212)، و (أبو داود) في "الأدب"(5051)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3397)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 197) وفي "عمل اليوم والليلة"(970)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(720)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3919)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 381 و 404 و 536)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 251)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5537)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6866]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ -يَعْنِي: الطَّحَّانَ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا أَخَذْنَا مَضْجَعَنَا
(1)
أَنْ نَقُولَ. بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ، وَقَالَ:"مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيُّ) هو: عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ بن زكريا الواسطيّ، أبو الحسن السكّريّ، صدوقٌ [10](ت 244)(م د ق) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
2 -
(خَالِدٌ الطَّحَّانُ) هو: خالد بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يزيد
(1)
وفي نسخة: "مضاجعنا".
الطحان الواسطيّ الْمُزَنيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182) وكان مولده سنة عشر ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 407.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (إِذَا أَخَذْنَا مَضْجَعَنَا) وفي بعض النسخ: "مضاجعنا".
[تنبيه]: رواية خالد الطحّان عن سُهيل بن أبي صالح هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(3400)
- حدّثنا عبد اللَّه بن عبد الرحمن، أخبرنا عمرو بن عون، أخبرنا خالد بن عبد اللَّه، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه، أن يقول: اللَّهُمَّ رب السماوات، ورب الأرضين، وربنا ورب كل شيء، وفالق الحبّ والنوى، ومنزل التوراة، والإنجيل، والقرآن، أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر"، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6867]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَتَتْ فَاطِمَةُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقَالَ لَهَا:"قُولِي: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُبَيْدَةَ) هو: محمد بن أبي عبيدة عبد الملك بن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 205)(م د س ق) تقدم في "فضائل الصحابة" 22/ 6311.
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 472.
2 -
(أَبُوهُ) عبد الملك بن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود الْهُذليّ، أبو عبيدة المسعوديّ الكوفيّ، ثقةٌ [7](م د س ق) تقدم في "فضائل الصحابة" 22/ 6311.
والباقون تقدّموا قريبًا.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن أبا أسامة، وأبا عبيدة رويا هذا الحديث عن الأعمش بسنده.
[تنبيه]: أما رواية أبي أسامة عن الأعمش، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:
(3481)
- حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: جاءت فاطمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، فقال لها:"قولي: اللَّهُمَّ رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، رَبّنا، ورَبّ كل شيء، منزل التوراة، والإنجيل، والقرآن، فالق الحبّ، والنوى، أعوذ بك من شرّ كل شيء، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدَّين، وأغنني من الفقر"، قال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ. انتهى
(1)
.
وأما رواية أبي عُبيدة عن الأعمش، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3831)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن أبي عُبيدة، ثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: أتت فاطمة النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، فقال لها:"ما عندي ما أُعطيك"، فرجعت، فأتاها بعد ذلك، فقال:"الذي سألتِ أحبّ إليك، أو ما هو خير منه؟ "، فقال لها عليّ: قولي: لا، بل ما هو خير منه، فقالت، فقال: قولي: "اللَّهُمَّ رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كل شيء، منزل التوراة، والإنجيل، والقرآن العظيم، أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر، فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء، اقض عنا
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 518.
الدَّين، وأغننا من الفقر". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6868]
(2714) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ، وَلْيُسَمِّ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ، وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّي، بِكَ
(2)
وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيُّ) هو: إسحاق بن موسى بن عبد اللَّه بن موسى بن عبد اللَّه بن يزيد الْخَطْميّ، أبو موسى المدنيّ قاضي نيسابور، ثقةٌ متقنٌ [10](ت 244)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 282.
2 -
(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضَمْرة، وقيل: عبد الرحمن الليثيّ أبو ضمرة المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله ست وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ، أبو عثمان المدنيّ ثقةٌ ثبتٌ، قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5] مات سنة بضع (14)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ) أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
5 -
(أَبُوهُ) كيسان، أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، مولى أم شريك، ويقال: هو الذي يقال له: صاحب العباء، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 74/ 392.
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1259.
(2)
وفي نسخة: "ربي لك وضعت".
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه ثلاثة من التابعين المدنيين روى بعضهم عن بعض: عبيد اللَّه عن سعيد، عن أبيه، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه حفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَوَى) بقصر الهمزة، معناه: إذا أتى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا أوى"؛ أي: انضمّ، قال الأزهريّ: آوى، وأوى بمعنى واحدٍ، لازم ومتعدّ، وفي "الصحاح"
(1)
عن أبي زيد: آويته أنا إيواءً، وأويته: إذا أنزلته بك، فعلت وأفعلت بمعنى، فأما أويت له، بمعنى رَثَيت له، فبالقصر لا غير، قال ذو الرَمّة [من الطويل]:
وَلَوْ أَنَّنِي اسْتَأْوَيْتُهُ مَا أَوَى لِيَا
(2)
وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَوَى إلى منزله يأوي، من باب ضرب أُوْيًا
(3)
: أقام، وربما عُدّي بنفسه، فقيل: أوى منزله، والمَأْوَى بفتح الواو لكلّ حيوان: سكنه، وسُمع: مَأْوِي الإبل بالكسر شاذًّا، ولا نظير له في المعتلّ، وبالفتح على القياس، ومأوى الغنم: مُراحها الذي تأوي إليه ليلًا، وآوَيْتُ زيدًا بالمدّ في التعدي، ومنهم من يجعله مما يُستعمل لازمًا، ومتعديًا، فيقول: أَوَيْتُهُ، وزانُ ضربته، ومنهم من يَستعمل الرباعيّ لازمًا أيضًا، وردّه جماعة. انتهى
(4)
.
(أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ)؛ أي: لينام عليه، وفي رواية البخاري في "التوحيد":"إذا جاء أحدكم إلى فراشه"، ولابن ماجه:"إذا أراد أحدكم أن يضطجع على فراشه"، وللترمذيّ:"إذا قام أحدكم عن فراشه، ثم رجع إليه"، ولأحمد:"إذا قام أحدكم من الليل، ثم رجع إلى فراشه".
(1)
راجع: "الصحاح " للجوهريّ ص 65.
(2)
"المفهم" 7/ 43.
(3)
بضمّ الهمزة، على وزن فُعُول.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 32.
(فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ) وفي رواية البخاريّ: "فلينفض فراشه بداخلة إزاره"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وفي رواية أبي زيد المروزيّ:"بداخل" بلا هاء، ووقع في رواية مالك عند البخاريّ في "التوحيد":"بصَنِفة ثوبه"، وكذا للطبرانيّ من وجه آخر، وهي بفتح الصاد المهملة، وكسر النون، بعدها فاء: هي الحاشية التي تلي الجلد، والمراد بالداخلة: طرف الإزار الذي يلي الجسد، قال مالك: داخلة الإزار: ما يلي داخل الجسد منه. ووقع في رواية عبدة بن سليمان، عن عبيد اللَّه بن عمر:"فليحلّ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه"، وفي رواية يحيى القطان:"فلينزع".
وقال عياض: داخلة الإزار في هذا الحديث: طرفه، وداخلة الإزار في حديث الذي أصيب بالعين: ما يليها من الجسد، وقيل: كنى بها عن الذّكَر، وقيل: عن الوَرِك، وحَكَى بعضهم أنه على ظاهره، وأنه أمر بغسل طرف ثوبه، والأول هو الصواب.
وقال القرطبيّ: حكمة هذا النفض قد ذُكرت في الحديث، وأما اختصاص النفض بداخلة الإزار، فلم يظهر لنا، ويقع لي أن في ذلك خاصيّة طبيّة، تمنع من قُرب بعض الحيوانات، كما أمر بذلك العائن، ويؤيده ما وقع في بعض طرقه:"فلينفض بها ثلاثًا"، فحذا بها حذو الرُّقَى في التكرير. انتهى.
وقد أبدى غيره حكمة ذلك، وأشار الداوديّ فيما نقله ابن التين إلى أن الحكمة في ذلك أن الإزار يُستر بالثياب، فيتوارى بما يناله من الوسخ، فلو نال ذلك بكمّه صار غير لدن الثوب
(1)
، واللَّه يحب إذا عمل العبد عملًا أن يُحْسنه.
وقال صاحب "النهاية": إنما أمر بداخلته دون خارجته؛ لأن المؤتزر يأخذ طرفي إزاره بيمينه وشماله، ويُلصق ما بشماله، وهو الطرف الداخلي على جسده، ويضع ما بيمينه فوق الأخرى، فمتى عاجله أمر، أو خشي سقوط إزاره أمسكه بشماله، ودفع عن نفسه بيمينه، فإذا صار إلى فراشه، فحَل إزاره، فإنه يَحُلّ بيمينه خارج الإزار، وتبقى الداخلة معلّقة، وبها يقع النفض.
(1)
هذه العبارة غير واضحة، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وقال البيضاويّ: إنما أمر بالنفض بها؛ لأن الذي يريد النوم يحل بيمينه خارج الإزار، وتبقى الداخلة معلقة، فينفض بها.
وأشار الكرمانيّ إلى أن الحكمة فيه أن تكون يده حين النفض مستورة؛ لئلا يكون هناك شيء، فيحصل في يده ما يكره. انتهى، قال الحافظ: وهي حكمة النفض بطرف الثوب دون اليد، لا خصوص الداخلة. انتهى
(1)
.
وقال القاري: قيل: النفض بإزاره؛ لأن الغالب في العرب أنه لم يكن لهم ثوب غير ما هو عليهم، من إزار، ورداء، وقيّد بداخل الأزار؛ ليبقى الخارج نظيفًا، ولأن هذا أيسر، ولكشف العورة أقلّ وأستر، وإنما قال هذا؛ لأن رسم العرب ترك الفراش في موضعه ليلًا ونهارًا، ولذا علّله، وقال:"فإنه لا يدري ما خَلَفه".
وقال النوويّ: معناه: أنه يستحب أن ينفضى فراشه قبل أن يدخل فيه؛ لئلا يكون قد دخل فيه حية، أو عقرب، أو غيرهما من المؤذيات، وهو لا يشعر، ولينفض، ويده مستورة بطرف إزاره؛ لئلا يحصل في يده مكروه، إن كان شيء هناك. انتهى
(2)
.
(فَلْيَنْفُضْ) بضمّ الفاء، من باب نصر، من النفض بالنون، والفاء، والضاد المعجمة، وهو تحريك الشيء ليسقط، ويزول ما عليه من غبار، ونحوه
(3)
.
(بِهَا فِرَاشَهُ) قبل أن يدخل إليه، وفي رواية ابن ماجه:"فلينزع داخلة إزاره، ثم لينفض بها فراشه"، وللبخاريّ في "الأدب المفرد":"فليحل".
(وَلْيُسَمِّ اللَّهَ)؛ أي: ليذكر اسم اللَّه تعالى عند نفض الفراش، (فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل؛ أي: وإنما أُمر بهذا لأنه (لَا يَعْلَمُ) وفي رواية البخاريّ: "فإنه لا يدري ما خَلَفه عليه"، (مَا خَلَفَهُ) بتخفيف اللام؛ أي: حدث (بَعْدَهُ)؛ أي: بعد مفارقته له، (عَلَى فِرَاشِهِ)؛ أي: ما صار بعده خَلَفًا، وبدلًا عنه إذا غاب، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما خلفه" نقلًا عن "الفائق" للزمخشريّ: "ما" مبتدأ، و"يدري" معلّق عنه؛ لتضمّنه معنى الاستفهام، وقال المظهر:"خلفه"؛ أي: قام مقامه بعده على الفراش؛ يعني: لا يدري ما وقع في فراشه بعدما خرج هو
(1)
"الفتح" 14/ 325 - 326، "كتاب الدعوات" رقم (6320).
(2)
"تحفة الأحوذيّ" 9/ 244.
(3)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 245.
منه، من تراب، أو قَذاة، أو هَوَامّ. انتهى
(1)
.
وقال في "المرعاة": قوله: "فإنه"؛ أي: الشأن
(2)
، أو المريد للنوم، "لا يدري ما خلفه" بالفتحات، والتخفيف، "عليه"؛ أي: جاء عقبه على الفراش، قال البغويّ: يريد: لعل هامّة دَبّت، فصارت فيه بعده، وقوله:"ما خلفه بعده على فراشه"؛ أي: ما صار بعده خَلَفًا وبدلًا عنه إذا غاب، خَلَف فلان فلانًا إذا قام مقامه، والمراد: ما يكون قد دَبّ على فراشه بعدُ. انتهى
(3)
.
وقال في "العمدة": معناه: أنه يستحب أن ينفض فراشه قبل أن يدخل فيه؛ لئلا يكون قد دخل فيه حية، أو عقرب، أو غيرهما، من المؤذيات، وهو لا يشعر، ولينفض ويده مستورة بطرف إزاره؛ لئلا يحصل في يده مكروه، إن كان شيء هناك. انتهى
(4)
.
(فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ) تقدّم بيان الحكمة في النوم على الشقّ الأيمن قريبًا. (وَلْيَقُلْ) وفي رواية للبخاريّ: "ثم يقول": (سُبْحَانَكَ) تقدّم منصوب على المصدريّة، وهو عَلَم على التسبيح، ومعناه: تنزيه اللَّه عن كل سوء، والتسبيح: معناه: التقديس والتنزيه، يقال: سبّحت اللَّه؛ أي: نزّهته عما لا يليق بجلاله. ("اللَّهُمَّ)؛ أي: يا اللَّه (رَبِّي) بدل مما قبله، (بِكَ) متعلّق بـ "وضعت"؛ أي: قائلًا، أو مستعينًا باسمك يا رب، (وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ)؛ أي: باسمك، أو بحولك، وقوتك (أَرْفَعُهُ) حين أرفعه، فلا أستغني عنك بحال.
ووقع في بعض النسخ: "لك وضعت جنبي، وبك أرفعه"، وعليها شَرَح القرطبيّ، فقال: قوله: "لك وضعت جنبي، وبك أرفعه" كذا صحّ: "لك وضعت" باللام، لا بالباء، "وبك أرفعه" رُوي بالباء، وباللام، فالباء للاستعانة؛ أي: بك أستعين على وضع جنبي، ورَفْعه، فاللام يَحْتَمِل أن يكون معناه: لك تقرّبت بذلك، فإنَّ نومه إنما كان ليستجمّ به لِمَا عليه من الوظائف، ولأنه كان يوحى إليه في نومه، ولأنه كان يُقتدَى به، فصار نومه عبادة، وأما
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1873.
(2)
تفسيره بالشأن هنا غير واضح، فتنبّه.
(3)
"مرعاة المفاتيح " 8/ 245.
(4)
"عمدة القاري" 22/ 289.
يقظته فلا تخفى أنها كانت كلها عبادة، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: لك وضعت جنبي؛ لتحفظه، ولك رفعته؛ لترحمه. انتهى
(1)
.
(إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي) الإمساك كناية عن الموت، فلذلك قال:(فَاغْفِرْ لَهَا) وفي رواية البخاريّ: "فارحمها".
وقال في "الفتح": قوله: "إن أمسكت"، وفي رواية يحيى القطان:"اللَّهُمَّ إن أمسكت"، وفي رواية ابن عجلان:"اللَّهُمَّ فإن أمسكت"، وفي رواية عبدة:"فإن احتبست"، وقوله:"فارحمها"، في رواية مالك:"فاغفر لها"، وكذا في رواية ابن عجلان عند الترمذيّ، قال الكرمانيّ: الإمساك كناية عن الموت، فالرحمة، أو المغفرة تناسبه، والإرسال كناية عن استمرار البقاء، والحفظُ يناسبه، قال الطيبيّ: هذا الحديث موافق لقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الآية [الزمر: 42]، قال: جَمَع النفسين في حُكم التوفّي، ثم فرّق بين جهتي التوفّي بالحكم بالإمساك، وهو قبض الروح، والإرسال، وهو ردّ الحياة؛ أي: اللَّه يتوفّى الأنفس، النفس التي تقبض، والنفس التي لا تقبض، فيُمسك الأولى، ويُرسل الأخرى. انتهى
(2)
.
وقد وقع التصريح بالموت والحياة في رواية عبد اللَّه بن الحارث، عن ابن عمر بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر رجلًا إذا أخذ مضجعه أن يقول:"اللَّهُمَّ أنت خلقت نفسي، وأنت تتوفاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها، فاحفظها، وإن أمتّها فاغفر لها"، أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان.
(وَأِنْ أَرْسَلْتَهَا) من الإرسال، وهو كناية عن البقاء في الدنيا، ولذلك قال:(فَاحْفَظْهَا)، وقوله:(بِمَا تَحْفَظُ بِهِ) قال الطيبيّ رحمه الله: الباء فيه مثل الباء في قولك: كتبت بالقلم، وكلمة "ما" مبهمة، وبيانها ما دلّت عليه صلتها. (عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ") حيث يحفظهم من المعاصي، ومن أن لا يهنوا في طاعته وعبادته، بتوفيقه ولطفه.
(1)
"المفهم" 7/ 44.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1873.
وزاد ابن عجلان عند الترمذيّ في آخره قوله: "وإذا استيقظ، فليقل: الحمد للَّه الذي عافاني في جسدي، ورَدّ إليّ روحي"، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: ذكر الدارقطنيّ رحمه الله الاختلاف في إسناد هذا الحديث، ودونك نصّ "العلل":
وسئل عن حديث المقبريّ عن أبي هريرة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه. . . " الحديث.
فقال: يرويه عبيد اللَّه بن عمر، وإسماعيل بن أمية، ومحمد بن عجلان، والضحاك بن عثمان، عن سعيد، فأما عبد اللَّه بن عمر فاختُلف عنه، فرواه حماد بن زيد، ومعمر، وابن المبارك، وبشر بن المفضل، وهشام بن حسان، وعباد بن عباد، وعبد اللَّه بن نمير، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وخالفهم زهير بن معاوية، وأبو بدر شجاع بن الوليد، ويحيى بن سعيد الأمويّ، وجعفر الأحمر، وهُريم بن سفيان، وعبد اللَّه بن رجاء المكيّ، فرووه عن عبيد اللَّه عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وأما إسماعيل بن أمية، فاختُلف عنه أيضًا، فرواه إسماعيل بن عياش، وعبد اللَّه بن رجاء المكيّ، عن إسماعيل، عن سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وخالفهم يحيى بن سُليم الطائفيّ، رواه عن إسماعيل، عن سعيد، عن أبي هريرة.
وكذلك رواه ابن عجلان، والضحاك بن عثمان، عن سعيد، عن أبي هريرة، لم يذكر فيه أبا سعيد.
وكذلك رواه مالك بن أنس، وعبد اللَّه بن عمر العُمريّ، عن سعيد، عن أبي هريرة. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإلى هذه الاختلافات أشار البخاريّ أيضًا في "صحيحه" بعد إخراج الحديث من طريق زهير بن معاوية عن عبيد اللَّه بن عمر، عن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . الحديث.
فقال ما نصّه: تابعه
(1)
أبو ضمرة، وإسماعيل بن زكريا، عن عبيد اللَّه، وقال يحيى، وبشر، عن عبيد اللَّه، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ورواه مالك، وابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
، وكذا ذكر نحو هذا الاختلاف في "كتاب التوحيد" بعد ذكر الحديث من طريق مالك عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: غرض البخاريّ، والدارقطني بهذا بيان الاختلاف الواقع في إسناد هذا الحديث، هل هو عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، أو عن سعيد عن أبيه، عن أبي هريرة بزيادة عن أبي؟ وكلا الطريقين صحيحتان، ولذا أخرجه البخاريّ في "صحيحه" بهما، فأخرجه في "الدعوات" من طريق زهير بن معاوية بزيادة عن أبيه، وفي "الدعوات" من طريق مالك بدونها.
وأما مسلم فالظاهر أنه ترجّح لديه الزيادة، فأخرجه هنا من طريق أنس بن عياض، عن عبيد اللَّه، عن سعيد، عن أبيه، بزيادة عن أبيه، ثم أورد بعده متابعة عبدة بن سليمان لأنس بن عياض، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6868 و 6869](2714)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6320) و"التوحيد"(7393) وفي "الأدب المفرد"(1/ 414 و 418)، و (أبو داود) في "الدعوات"(5050)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3401)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3920)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(198 و 222) وفي "عمل اليوم والليلة"(792 و 793 و 794)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 283 و 295 و 432)، و (عبد الرزّاق) في "مصنفه"(19830)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(9/ 73 و 10/ 248)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 277)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5534 و 5535)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 74)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 102 و 103)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
أي: زُهير بن معاوية.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2329.
(3)
راجع: "الفتح" في الكلام على هذه الطرق 14/ 328 - 329.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة عناية النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته عليهم حيث يعلّمهم التجنب من المخاطر التي تلحق الإنسان، وهو غافل، فنبّه هنا بأن من الحذر أن يأخذ الإنسان إذا أتى إلى فراشه داخلة إزاره فينفض بها فراشه؛ خوفًا من أن يخلفه بعد مفارقته له شيء من المؤذيات؛ كالحيّة، والعقارب، ونحوهما من ذوات السموم، فيتفادى ذلك بذلك.
قال النوويّ رحمه الله: يستحبّ أن ينفُض فراشه قبل أن يدخل فيه؛ لئلا يكون فيه حية، أو عقرب، أو غيرهما من المؤذيات، ولينفض، ويده مستورة بطرف إزاره؛ لئلا يحصل في يده مكروه إن كان هناك. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان بركة اسم اللَّه تعالى، فإذا فعل الإنسان ما ذُكر مع ذِكر اسم اللَّه تعالى وقاه اللَّه من جميع السوء.
3 -
(ومنها): استحباب النوم على الشقّ الأيمن، ثم القول:"سبحانك اللَّهُمَّ ربي بك وضعت جنبي. . . " إلخ.
4 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث أدبٌ عظيمٌ، وقد ذَكَر حكمته في الخبر، وهو خشية أن يأوي إلى فراشه بعض الهوامّ الضارّة، فتؤذيه.
وقال ابن العربيّ رحمه الله: هذا من الحذر، ومن النظر في أسباب دفع سوء القدر، أو هو من الحديث الآخر:"اعقِلْها، وتوكل".
5 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يتضمّن الإرشاد إلى مصلحتين:
إحداهما: معلومة ظاهرة، وهي: أن الإنسان إذا قام عن فراشه لا يدري ما دبّ عليه بعده من الحيوانات، ذوات السموم، فينبغي له إذا أراد أن ينام عليه أن يتفقّده، ويمسحه؛ لإمكان أن يكون فيه شيء يخفى من رطوبة، أو غيرها، فهذه مصلحة ظاهرة، وأما اختصاص هذا النفض بداخلة الإزار فمصلحة لم تظهر لنا، بل إنما ظهرت تلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم بنور النبوة، وإنَّما الذي علينا نحن الامتثال.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 37 - 38.
قال: ويقع لي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَلِم فيه خاصيّة طبيّة تنفع من ضرر بعض الحيوانات، كما قد أمر بذلك في حقّ العائن، كما تقدّم، واللَّه تعالى أعلم.
ويدلّ على ذلك ما زاده الترمذيّ في هذا الحديث: "فليأخذ صَنِفة إزاره، فلينفض بها فراشه ثلاثًا". فحذا بها حذوَ تكرار الرُّقُى. انتهى
(1)
.
6 -
(ومنها): أنه ورد فيما يقال عند النوم حديث أنس رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد للَّه الذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، فكم ممن لا كافي له، ولا مؤوي". أخرجه مسلم، والثلاثة.
ولأبي داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نحوه، وزاد:"والذي مَنّ عليّ، فأفضل، والذي أعطاني، فأجزل".
ولأبي داود، والنسائيّ من حديث عليّ رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند مضجعه:"اللَّهُمَّ إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامة من شرّ ما أنت آخذ بناصيته، اللَّهُمَّ أنت تكشف المأثم، والمغرم، اللَّهُمَّ لا يُهْزَم جندك، ولا يُخْلَف وعدُك، ولا يَنفع ذا الجَد منك الجدّ، سبحانك وبحمدك".
ولأبي داود من حديث أبي الأزهر الأنماريّ رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أخذ مضجعه من الليل: "بسم اللَّه وضعت جنبي، اللَّهمَّ اغفر لي ذنبي، وأخسئ شيطاني، وفُكّ رِهاني، واجعلني في النّديّ الأعلى"
(2)
، وصححه الحاكم.
وللترمذيّ، وحسَّنه من حديث أبي سعيد، رفعه:"من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غُفرت له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا".
ولأبي داود والنسائيّ من حديث حفصة رضي الله عنها؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد
(1)
"المفهم" 7/ 43 - 44.
(2)
قال في "النهاية" 5/ 90: النديّ بالتشديد: النادي؛ أي: اجعلني مع الملأ الأعلى من الملائكة، وفي رواية:"واجعلني في النداء الأعلى"، أراد: نداء أهل الجنة أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} . انتهى.
أن يرقُد وضع يده اليمنى تحت خدّه، ثم يقول:"اللَّهُمَّ قني عذابك يوم تبعث عبادك" ثلاثًا، وأخرجه الترمذيّ من حديث البراء، وحسنّه، ومن حديث حذيفة، وصححه
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6869]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "ثُمَّ لْيَقُلْ: بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، فَمنْ أَحْيَيْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدَةُ) بن سليمان الكِلابيّ أبو محمد الكوفيّ، يقال: اسمه عبد الرحمن، ثقة ثبت، من صغار [8] (ت 187) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 339.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبدة بن سليمان عن عبيد اللَّه بن عمر العمريّ هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6870]
(2715) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ قَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكَفَانَا، وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤوِيَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر في الباب.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) أبو خالد الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(ثَابتُ) بن أسلم الْبُنَانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(أنسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
(1)
راجع: "الفتح" 14/ 327 - 328.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى)؛ أي: انضمّ، ودخل (إِلَى فِرَاشِهِ) قال النووي رحمه الله:"إذا أوى إلى فراشه"، و"أويتَ" مقصور، وأما "آوانا" فممدود، هذا هو الفصيح المشهور، وحُكي القصرُ فيهما، وحُكي المد فيهما. انتهى؛ أي: رَزَقنا مساكن، وهيأ لنا المأوى
(1)
.
(قَالَ: "الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا، وَسَقَانَا، وَكفَانَا)؛ أي: دفع عنا شرّ المؤذيات، أو كفى مهماتنا، وقضى حاجاتنا، فهو تعميم بعد تخصيص. (وَآوَانَا، فَكَمْ مِمَّنْ لَا كَافِيَ لَهُ، وَلَا مُؤْوِيَ") بصيغة اسم الفاعل، و"له" مقدّر؛ أي: فكم شخص لا يكفيهم اللَّه شرّ الأشرار، بل تَرَكهم وشرَّهم، حتى غلب عليهم أعداؤهم، ولا يهيئ لهم مأوى، بل تركهم يهيمون في البوادي، ويتأذون بالحر والبرد.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فكم ممن لا كافي له، ولا مؤوي"؛ أي: كثير من الناس ممن أراد اللَّه إهلاكه، فلم يُطعمه، ولم يُسْقه، ولم يَكْسه، إما لأنه أعدم هذه الأمور في حقه، وإما لأنه لم يُقدره على الانتفاع بها حتى هلك، هذا ظاهره.
ويَحْتَمِل أن يكون معناه: فكم من أهل الجهل والكفر باللَّه تعالى لا يعرف أن له إلَهًا يُطعمه، ويسقيه، ويؤويه، ولا يقرّ بذلك، فصار الإله في حقه، وفي اعتقاده كأنه معدوم. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: "فكم ممن لا كافي": قال المظهر: الكافي والمؤوي هو اللَّه تعالى، يكفي شرّ بعض الخلق عن بعض، ويُهيّئ لهم المأوى والمسكن، فالحمد للَّه الذي جعلنا منهم، فكم من خلقٍ لا يكفيهم اللَّه شرّ الأشرار، بل تَرَكهم وشَرّهم، وكم مِنْ خَلْق لم يجعل اللَّه لهم مأوى، بل تركهم يَهيمون في البوادي.
وتعقّبه الطيبيّ، فقال:"كم" تقتضي الكثرة، ولا يُرى ممن حاله هذا إلا قليلٌ نادرٌ، على أنه افتتح بقوله:"أطعمنا، وسقانا".
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 297 - 298.
(2)
"المفهم" 7/ 45.
ويمكن أن يُنَزَّل هذا على معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} [محمد: 11]، فالمعنى أنا نحمد اللَّه على أن عَرّفنا نعمه، ووفّقنا لأداء شكرها، فكم من مُنعَم عليه لا يعرفون ذلك، ولا يَشكرون، وكذلك اللَّه مولى الخلق كلهم بمعنى: أنه ربهم، ومالكهم، لكنه ناصر للمؤمنين، ومحب لهم، فالفاء في "فكم" لتعليل الحمد. انتهى
(1)
.
وقال عصام الدين رحمه الله: قوله: "فكم ممن لا كافي له" من قبيل قوله تعالى: {لَا مَوْلَى لَهُمْ} مع أن اللَّه تعالى مولى كل أحد؛ أي: لا يعرفون مولى لهم، فـ "كم" لم يتفرع على "كفانا"، بل على معرفة الكافي التي يستفاد من الاعتراف، وإنما حمد اللَّه تعالى على الطعام، والسقي، وكفاية المهمات في وقت الاضطجاع؛ لأن النوم فرع الشِّبَع والريّ، وفراغ الخاطر عن المهمات، والأمن من الشرور.
وقال النوويّ رحمه الله: معنى "آوانا" هنا: رحمنا، فقوله:"فكم ممن لا مؤوي له"؛ أي: لا راحم، وعاطف عليه. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "كان إذا أوى إلى فراشه"؛ أي: دخل فيه، قال القاضي: أوى جاء لازمًا، ومتعديًا، لكن الأكثر في المتعدي المدّ، قال:"الحمد للَّه الذي أطعمنا، وسقانا، وكفانا"؛ أي: دفع عنا شرّ خلقه، وآوانا في مسكن نسكن فيه، يقينا الحرّ والبرد، ونَحرز فيه متاعنا، ونحجب به عيالنا، "فكم ممن لا كافي له، ولا مؤوي" له؛ أي: كثير من خلق اللَّه لا يكفيهم اللَّه شر الأشرار، ولا يجعل لهم مسكنًا، بل تركهم يتأذون في الصحاري بالبرد والحر، وقيل: معناه: كم من مُنعَم عليه لم يَعرف قدر نعمة اللَّه، فكفَر بها. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنف.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 6870](2715)، و (البخاريّ) في "الأدب
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1875.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 298.
(3)
"فيض القدير" 5/ 111.
المفرد" (1206)، و (أبو داود) في "الأدب" (5053)، و (الترمذيّ) في "الدعوات" (3396) وفي "الشمائل" (259)، و (النسائيّ) في "عمل اليوم والليلة" (799)، و (أحمد) في "مسنده" (3/ 153 و 167 و 253)، و (الضياء) في "المختارة" (4/ 402)، و (عبد بن حميد) في "مسنده" (1/ 396)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
(18) - (بَابُ التَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلَ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ يَعْمَلْ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6871]
(2716) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَا: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ اللَّهَ، قَالَتْ: كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ
(1)
").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هِلَالُ) بن يِساف -بكسر التحتانية، ثم مهملة، ثم فاء- ويقال: ابن إساف الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقة [3](خت م 4) تقدم في "الطهارة" 9/ 576.
2 -
(فَرْوَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الأَشْجَعِيُّ) الكوفيّ، مختلف في صحبته، والصواب أن الصحبة لأبيه، وهو من [3].
رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وعن أبيه، وعليّ بن أبي طالب، وجَبَلة بن حارثة، وعائشة.
وروى عنه: هلال بن يساف، وأبو إسحاق السبيعيّ، وعن رجل عنه، وشريك بن طارق، ونصر بن عاصم.
ذكره ابن حبان في ثقات التابعين، وقال: قد قيل: إن له صحبةً.
(1)
وفي نسخة: "وشرّ ما لم أعمل".
وقال ابن عبد البرّ في الصحابة: فروة بن نوفل الأشجعيّ من الخوارج، خرج على المغيرة بن شعبة في صدر خلافة معاوية، فبعث إليهم المغيرة، فقُتلوا سنة خمس وأربعين، وليس لفروة بن نوفل صحبة، ولا رؤية، وإنما يروي عن أبيه، وعن عائشة، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن فروة بن نوفل: له صحبة؛ فقال: ليست له صحبة، ولا أبيه صحبة.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وكرّره ثلاث مرّات.
3 -
(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"يحيى" هو: التميميّ النيسابوريّ، و"إسحاق" هو: ابن راهويه، و"منصور" هو: ابن المعتمر.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، سوى شيخيه، فالأول نيسابوريّ، والثاني مروزيّ، وعائشة رضي الله عنها، فمدنيّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وعلى قول من يقول: إن منصورًا من صغار التابعين، ففيه ثلاثة منهم روى بعضهم عن بعض، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ فَرْوَةَ) بفتح الفاء، وسكون الراء، (ابْنِ نَوْفَلٍ الأَشجَعِيِّ) بفتح الهمزة: نسبة إلى أشجع بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، قبيلة مشهورة
(1)
؛ أنه (قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (عَمَّا)؛ أي: عن الدعاء الذي (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ اللَّهَ) وفي رواية النسائيّ: "قال: قلت لعائشة: حدثيني بشيء كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو به في صلاته"، وفي رواية هلال بن يساف:"أنه سأل عائشة رضي الله عنها: ما كان أكثر ما يدعو به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل موته. . . " الحديث.
(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (كَانَ) صلى الله عليه وسلم (يَقُولُ: "اللَّهُمَّ)؛ أي: يا اللَّه (إِنِّي
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 64.
أَعُوذُ)؛ أي: أعتصم، وأتحصّن (بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ) بتقديم الميم على اللام فيه وفيما يأتي؛ أي: فعلته مما يقتضي العقوبة في الدنيا والآخرة.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: من شر عَمَل يُحتاج فيه إلى العفو، والغفران؛ يعني: أن المراد مِن استعاذته مِن شرّ ما عمل: طلب العفو، والغفران منه عما عَمِلَ. (وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ") وفي بعض النسخ:"وشرّ ما لم أعمل" بإسقاط "من"؛ أي: أعوذ بك من أن أعمل في المستقبل ما يتسبّب في إيصال العقوبة إليّ.
وقال الأشرف: استعاذ من شرّ أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه اللَّه تعالى، بأن يحفظه منه، فإنه لا يأمن لأحد من مكر اللَّه، {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وقيل: من شرّ أن يصير مُعْجَبًا بنفسه في ترك القبائح، فإنه يجب أن يَرَى ذلك من فضل ربه، أو المراد: شرّ عمل غيره، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
ويَحْتَمِل أنه استعاذ من أن يكون ممن يُحِبّ أن يُحمَد بما لم يفعل. انتهى
(1)
.
وقيل: المراد ما يُنسب إليه افتراء، ولم يعمله، وقال السنديّ: قوله: من شر ما عملت، إلخ؛ أي: من شر ما فعلت من السيئات، وما تركت من الحسنات، أو من شر كل شيء مما تعلق به كسبي أولًا، واللَّه تعالى أعلم انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: استعاذ مما عُصم منه ليلتزم خوف اللَّه تعالى، وإعظامه، والافتقارَ إليه، وليُقتدَى به، وليبيّن صفة الدعاء.
وقال الشوكانيّ رحمه الله: هذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم لأمته؛ ليقتدوا به، وإلا فجميع أعماله سابقها، ولاحقها كلها خيرٌ، لا شرّ فيها.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شرّ ما عملت. . .
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1914، و"مرقاة المفاتيح" 5/ 371.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 480.
إلخ" هذا كقوله الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من كل شر"، غير أنه نبّه في هذا على معنى زائد، وهو أنه قد يعمل الإنسان العمل لا يقصد به إلا الخير، ويكون في باطن أمره شرّ لا يعلمه، فاستعاذ منه، ويؤيد هذا أنه قد روي في غير كتاب مسلم: "من شر ما علمت، وما لم أعلم"، ويَحْتَمِل أن يريد به: ما عَمِل غيره، فيما يظن أنه يقتدي به فيه
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنف) هنا [18/ 6871 و 6872 و 6873 و 6874](2716)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3/ 56 و 8/ 280 و 281) و"الكبرى"(1/ 388 و 4/ 465 و 466)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3839)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 31 و 100 و 278)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 911 و 967)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 186)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1031 و 1032)، وفوائده تقدّمت، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6872]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ هِلَالٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ دُعَاءٍ، كَانَ يَدْعُو بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَشَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"حُصين" هو: ابن عبد الرحمن، و"هلال" هو: ابن يساف.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان تخريجه في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
(1)
"المفهم" 7/ 45 - 46.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6873]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ:"وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عبّاد بن جَبَلة بن أبي رَوّاد الْعَتَكيّ -بفتح المهملة، والمثناة- أبو جعفر البصريّ، صدوق [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"محمد بن جعفر" هو: غُندر، و"حُصين" هو: ابن عبد الرحمن الكوفيّ.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) ضمير التثنية لابن أبي عديّ، ومحمد بن جعفر.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة، عن حُصين بن عبد الرحمن هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(24728)
- حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن حصين، عن هلال بن يساف، عن فروة بن نوفل، قال: قلت لعائشة: أخبريني بدعاء كان يدعو به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: كان يُكْثر أن يقول: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شر ما عملتُ، ومن شر ما لم أعمل". انتهى
(1)
.
وأما رواية ابن أبي عديّ عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 100.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6874]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدَةَ بْنِ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَشَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ هَاشِمٍ) بن حيّان -بتحتانية- العبديّ، أبو عبد الرحمن الطوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ، صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع (250)(م) تقدم في "الإيمان" 3/ 112، من أفراد المصنّف.
2 -
(وَكِيعُ) بن الجرّاح الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو، أبو عمرو الفقيه، ثقةٌ جليلٌ [7](ت 157)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
4 -
(عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ) الأسديّ مولاهم، ويقال: مولى قريش، أبو القاسم البزاز الكوفيّ، نزيل دمشق، ثقةٌ [4](خ م ل ت س ق) تقدم في "الصلاة" 13/ 897.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الإسناد، فقال في "التتبّع":
(216)
- وأخرج أيضًا، عن عبد اللَّه بن هاشم، عَن وكيع، عن الأوزاعيّ، عَن عبدة، عَن هلال، عَن فروة، عَن عائشة، عَن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل".
قال أبو الحسن: هذا حديث مسلم لم يُسْنِده غير وكيع.
وخَالَفَهُ ابن أبي العشرين، والوليد بن مسلم، والوليد بن مزيد، وأبو المغيرة، وغيرهم لم يذكروا فيه فروة، وقال، عَن هلال: سئلت عائشة، رواه جماعة من مسلم، عَن وكيع.
وحدثناه ابن مالك، عَن عبد اللَّه بن أحمد، عَن أبيه، عَن وكيع مثله.
انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: غرض الدارقطنيّ رحمه الله بهذا إعلال هذا الإسناد بالانقطاع بين هلال وعائشة رضي الله عنها، لكن الذي يظهر أن مسلمًا يرى أن وكيعًا إمام ثبت لا يضرّ تفرّده بالوصل، فرجّح روايته؛ لأنها زيادة ثقة، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6875]
(2717) - (حَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنِي ابْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّني، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ المعروف بابن الشاعر، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَبُو مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن عمرو بن أبي الحجاج التميميّ الْمُقْعَد الْمِنْقريّ -بكسر الميم، وسكون النون، وفتح القاف- واسم أبي الحجاج ميسرة، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر [10](ت 224)(ع) تقدم في "الجهاد والسِّيَر" 45/ 4675.
3 -
(عَبْدُ الْوَارِثِ) بن سعيد بن ذكوان الْعَنبَريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتشديد النون- البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
4 -
(الْحُسَيْنُ) بن ذَكْوان الْمُعَلِّم المُكْتِب الْعَوْذيّ -بفتح المهملة، وسكون الواو، بعدها معجمة- البصريّ، ثقةٌ رُبّما وَهِمَ [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.
(1)
"الإلزامات والتتبع" ص 376.
5 -
(ابْنُ بُرَيْدَةَ) عبد اللَّه بن بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل: بل (115)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102
(1)
.
[تنبيه]: "ابن بُريدة" هنا هو عبد اللَّه، لا أخوه سليمان، وقد ذكرت قاعدة الفرق بينهما إذا ذُكرا في السند مهملين، فقلت:
ابْنُ بُرَيْد سُلَيْمَانُ كَذَا
…
أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالْفَرْقَ خُذَا
عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ إِنْ أَهْمَلَا
…
وَأَعْمَشٌ مُحَارِبٌ كَذَا تَلَا
مُحَمَّدٌ نَجْلُ جُحَادَةَ يَلِي
…
فَهْوَ سُلَيْمَانُ فَحَبِّذْ عَمَلِي
وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ إِنْ أَهْمَلَ قُلْ
…
إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ تَوْأَمُ الرَّجُلْ
أَفَادَهُ الْحَافِظُ فِي "التَّهْذِيبِ"
…
حَمْدًا لِمَنْ أَعَانَ فِي التَّقْرِيبِ
6 -
(يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ) -بفتح التحتانية، والميم، بينهما مهملة، ويجوز أيضًا ضمّ ميمه
(2)
- البصريّ، نزيل مرو، وقاضيها، ثقةٌ فصيحٌ، وكان يرسل [3] مات قبل المائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.
7 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمان وستين بالطائف (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وابن بُريدة، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما ذو المناقب الجمّة، فهو ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر والحبر؛ لسعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منّا أحد، وهو أحد المكثرين السبعة من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.
(1)
[تنبيه]: في برنامج الحديث للكتب التسعة وقع غلط في هذه الترجمة، فقد ترجموا لحسين بن واقد المروزيّ، والصواب: أنه حسين بن ذكوان المعلّم البصريّ، كما هو مصرّح به في "صحيح البخاريّ" في "كتاب التوحيد" برقم (7383) فتنبّه.
(2)
راجع: "الفتح" 17/ 326 رقم الحديث (7383).
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ)؛ أي: لك انقدت وبك صدّقت، قال النوويّ رحمه الله: فيه إشارة إلى الفرق بين الإسلام والإيمان. (وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ)؛ أي: عليك، لا على غيرك اعتمدت في تفويض أموري، (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ)؛ أي: رجعت، وأقبلت بهمتي، (وَبِكَ خَاصَمْتُ)؛ أي: بك أحتج وأدفع وأخاصم، وقال القرطبي: أي: بإعانتك، وتعليمك، وبكلامك جادلت المخالفين فيك حتى خصمتهم
(1)
.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ)؛ أي: بقوة سلطانك، (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ) وفي رواية البخاريّ:"أعوذ بعزّتك الذي لا إله إلا أنت"، قال في "العمدة"
(2)
: قوله: "الذي لا إله إلا أنت": قيل: ما العائد للموصول؟، وأجيب بأنه إذا كان المخاطَب نفس المرجوع إليه، يحصل الارتباط، وكذلك المتكلم، نحو:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ
…
كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهُ الْمَنْظَرَهْ
(أَنْ تُضِلَّنِي)؛ أي: تُهلكني بعدم التوفيق للرشاد، والتوفيق على طرق الهداية والسداد، وفي "القاموس": ضَلّ يَضلّ -بكسر الضاد- وتُفتح ضلالًا: ضاع، ومات، وصار ترابًا، وعظامًا، وخَفِي، وغاب، وضلّ فلانًا: أُنسيه، ومنه قوله تعالى:{وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: 20]، وضلّني: ذهب عني. انتهى
(3)
.
(أَنْتَ الْحَيُّ) وفي رواية: "أنت الحيّ القيّوم"؛ أي: الدائم القائم على الخلق، (الَّذِي لَا يَمُوتُ) بلفظ الغائب للأكثر، وفي بعض الروايات بلفظ الخطاب؛ أي: الحي الحياة الحقيقية التي لا يجامعها الموت بحال. (وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ") عندما تنقضي آجالهم، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما خصّ هذين النوعين بالموت، وإن كان جميع الخلائق يموتون؛ لأن هذين النوعين هما المكلفان المقصودان بالتبليغ، واللَّه تعالى أعلم
(4)
.
قال في "الفتح": قوله: "والجن والإنس يموتون": استُدِلّ به على أن
(1)
"المفهم" 7/ 46.
(2)
"عمدة القاري" 25/ 90.
(3)
"القاموس المحيط" ص 782.
(4)
"المفهم" 7/ 46.
الملائكة لا تموت، ولا حجة فيه؛ لأنه مفهوم لَقَب، ولا اعتبار له، وعلى تقديره، فيعارضه ما هو أقوى منه، وهو عموم قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمى الجنّ؛ لجامع ما بينهم من الاستتار عن عيون الإنس
(1)
. انتهى.
وقال القاري رحمه الله: "اللَّهُمَّ لك"؛ أي: لا لغيرك، "أسلمت"؛ أي: انقدت انقيادًا ظاهرًا، "وبك آمنت"؛ أي: صدّقت تصديقًا باطنًا، "وعليك توكلت"؛ أي: اعتمدت في أموري أولًا وآخرًا، أو معناه: أسلمت جميع أموري لتُدبِّرها، فإني لا أملك نفعها، ولا ضرّها، "وبك آمنت"؛ أي: بتوفيقك آمنت بجميع ما يجب الإيمان به، "وعليك توكلت" في سائر أموري، "وإليك أنبت"؛ أي: رجعت من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة إلى الذكر، أو من الغيبة إلى الحضور، "وبك"؛ أي: بإعانتك "خاصمت"؛ أي: حاربت أعداءك. "اللَّهُمَّ إني أعوذ بعزتك"؛ أي: بغلبتك، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139]، "لا إله إلا إنت"؛ أي: فلا معبود بحقّ إلا أنت، ولا سؤال إلا منك، ولا استعاذة إلا بك، "أن تُضلني" متعلق بـ "أعوذ"، وكلمة التوحيد معترضة لتأكيد العزة؛ أي: أعوذ من أن تضلني بعد إذ هديتني، ووفقتني للانقياد الظاهر والباطن في حكمك، وقضائك، وللإنابة إلى جنابك، والمخاصمة مع أعدائك، والالتجاء في كل حال إلى عزتك، ونُصرتك، وفيه إيماء إلى قوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، "أنت الحيّ الذي لا يموت" بالغيبة، وفي الحصن:"أنت الحيّ لا تموت" بالخطاب، وبدون الموصول، وفيه تأكيد العزّة أيضًا. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6875](2717)، و (البخاريّ) في "صحيحه"
(1)
قد اعترض العينيّ على الحافظ في قوله: "لا مانع من دخولهم في مسمى الجن. . . إلخ"، بما فيه نظر، فراجع قوله في "العمدة" 25/ 90.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 362.
(7383)
، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 302)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 399)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(898)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 82)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 240)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6876]
(2718) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا كَانَ فِي سَفَر، وَأَسْحَرَ يَقُولُ: "سَمَّعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا، وَأَفَضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(أَبُو الطَّاهرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السّرْح المصريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب) المصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، سوى شيخه، وابن وهب، فمصريّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ)؛ أي: من هديه، ودأبه، أو من آدابه، (إِذَا كَانَ فِي سَفَرٍ، وَأَسْحَرَ)؛ أي: دخل في وقت السَّحَر -بفتحتين- وهو قبيل الصبح، وقال الزمخشريّ: هو السدس الأخير من الليل
(1)
.
(1)
"عون المعبود" 13/ 292.
وقال التوربشتيّ: "أسحر"؛ أي: دخل في وقت السحر، وقيل: إذا سافر إلى وقت السحر، وعلى الأول معنى الحديث؛ لأنه أعمّ، ثم إنه كان يقصد بذلك الشكر على انقضاء ليلته بالسلامة، ويراقب فضيلة الوقت، فإنه من ساعات الذِّكر.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "فأسحر"؛ أي: استيقظ في السحر، أو خرج في السحر، والسحر: آخر الليل
(1)
.
(يَقُولُ: "سَمَّعَ سَامِعٌ بِحَمْدِ اللَّهِ) رُوي سَمّع بفتح الميم، وتشديدها، من التسميع، بمعنى الإسماع للغير، كذا ضبطه القاضي عياض، وصاحب "المطالع"، وأشار إلى أنه رواية أكثر رواة مسلم، قالا: ومعناه: بَلَّغَ سامعٌ قولي هذا لغيره، وقال مثله تنبيهًا على الذكر في السحر، والدعاء في ذلك، ورُوي بكسر الميم، وتخفيفها، من السمع، وكذا ضبطه الخطابيّ وآخرون، قال الخطابيّ: معناه: شَهِد شاهدٌ، وهو أمْر بلفظ الخبر، يريد به الإشهاد على ما يقوله، وحقيقته ليسمع السامع على حمدنا للَّه سبحانه وتعالى على نِعَمه، وحسن بلائه. انتهى
(2)
، فعند الخطابيّ هو خبر بمعنى الأمر، وقال التوربشتيّ: الذهاب فيه إلى الخبر أقوى؛ لظاهر اللفظ، والمعنى: أن من كان له سمعٌ فقد سَمِع بأنّا نحمد اللَّه تعالى، وإفضاله علينا، وإن كلا الأمرين قد اشتهر، واستفاض، حتى لا يكاد يخفى على ذي سمع، وأنه لا انقطاع لأحد الأمرين. انتهى
(3)
.
وقال القاري: "سامعٌ" نكرة قُصد به العموم، كما في تمرةٌ خير من جرادة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "سمّع سامع بحمد اللَّه، وحسن بلائه" وجدته في كتاب شيخنا أبي الصبر أيوب: "سَمَّعَ" بفتح السين، والميم، وتشديدها، قال القاضي: أي: بَلَّغ من سمع قولي.
وقيّده الخطابيّ: "سَمِعَ سامعٌ": بفتح السين، وكسر الميم، وتخفيفها، وهكذا أذكر أني قرأته؛ أي: استمع سامع، وشَهِد شاهد بحمدنا ربنا على نِعمه.
(1)
"المفهم" 7/ 47.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 374.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1895.
قال القرطبيّ: وعلى هذين التقييدين، والتفسيرين، فهو خبرٌ بمعنى الأمر؛ أي: ليسمع سامع، وليبَلّغ، وهذا نحو قوله:"تصدَّق رجل بديناره، ودرهمه"
(1)
؛ أي: ليتصدّق، و"جَمَع عليه ثيابه"؛ أي: ليجمع، وقد تقدَّم القول في نحو هذا.
(وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا) قال القرطبيّ رحمه الله: بمعنى ابتلائه، وقد تقدّم أن أصل الابتلاء: الاختبار، وقد يكون نعمة، وقد يكون نقمة. انتهى
(2)
.
وقال القاريّ: البلاء هاهنا بمعنى النعمة، واللَّه سبحانه وتعالى يبلو عباده مرةً بالمحن؛ ليصبروا، وطورًا بالنِّعَم؛ ليشكروا، فالمحنة، والمنحة جميعًا بلاء لمواقع الاختبار، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]
(3)
.
(رَبَّنَا) بحذف حرف النداء؛ أي: يا ربّنا (صَاحِبْنَا) بصيغة الأمر، من صاحب يُصاحب، أي: بحفظك، وكفايتك، وهدايتك، قاله القرطبيّ، وقال النوويّ: أي: احفظنا، وحُطنا، واكلأنا. (وَأَفْضِلْ) بصيغة الأمر أيضًا، من الإفضال؛ أي: مُنّ (عَلَيْنَا) بإدامة جزيل تلك النعمة، ومزيدها، والتوفيق للقيام بحقوقها، واصرف عنا كل مكروه، وقوله:(عَائِذًا)؛ أي: أقول هذا في حال استعاذتي، واستجارتي (بِاللَّهِ) سبحانه وتعالى (مِنَ النَّارِ")؛ أي: من عذابها.
وقال البيضاويّ رحمه الله: قوله: "عائذًا" منصوب على المصدرية؛ أي: أعوذ عياذًا، أقيمَ اسم الفاعل مقام المصدر، كما في قولهم: قم قائمًا، وقول الشاعر:
وَلَا خَارِجًا مِنْ فِيَّ زُورُ كَلَامِ
أو على الحال من الضمير المرفوع في "يقول"، أو "أسحر"، ويكون من كلام الراوي.
قال الطيبيّ: يريد أن "عائذًا" إذا كان مصدرًا كان من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا كان حالًا كان من كلام الراوي، وجوّز النوويّ أن يكون حالًا، ويكون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: إني أقول هذا في حال استعاذتي، واستجارتي من النار.
(1)
رواه مسلم برقم (1017).
(2)
"المفهم" 7/ 47.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 8/ 311.
قال الطيبيّ رحمه الله: وهذا هو الأرجح؛ لئلا ينخرم النظم، وأنه صلى الله عليه وسلم لَمّا حمِد اللَّه تعالى على تلك النعمة الخطيرة، وأمَر بإسماعها إلى كلّ من يتأتى منه السماع؛ لفخامته، وطلب الثبات، والمزيد عليه، قاله هضمًا لنفسه، وتواضعًا للَّه تعالى، وليضمّ الخوف مع الرجاء؛ تعليمًا للأمة. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: قد انتقد الحافظ أبو الفضل بن عمّار رحمه الله إسناد هذا الحديث، ودونك نصّه:
(31)
- ووجدت فيه -أي: صحيح مسلم- عن ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر، فأسحر، يقول:"سَمِعَ سامع بحمد اللَّه، وحسن بلائه علينا. . . "، وذكر الحديث.
قال: وهذا الحديث إنما يُعرف بعبد اللَّه بن عامر الأسلميّ، عن سهيل، وعبد اللَّه بن عامر ضعيف الحديث، فيُشْبه أن يكون سليمان سمعه من عبد اللَّه بن عامر، ولا أعرفه إلا من حديث ابن وهب هكذا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن مسلمًا إمام ناقد، فتصحيحه الحديث مرجّحًا هذا الإسناد مقدّم على تضعيف أبي الفضل؛ لأنه أوّلًا: لم يذكر المخالِفين لسليمان بن بلال هنا حتى يُنظر فيهم، وثانيًا: أن سليمان ثقة ثبتٌ، فروايته راجحة، كما هو رأي مسلم رحمه الله، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6876](2718)، و (أبو داود) في "الأدب"(5086)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 257 و 6/ 137)، و (ابن السنّيّ) في
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1895 - 1896.
(2)
"علل الحديث في كتاب الصحيح" 1/ 128 - 129.
"عمل اليوم والليلة"(515)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9236)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 360)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 446)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2701)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 615)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6877]
(2719) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي اِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلِي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْت، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أبُو بُرْدَةَ بْن أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ) قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث الكوفيّ، تقدّم قبل خمسة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد اللَّه السَّبِيعيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير أفاضل الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ) قال
الحافظ رحمه الله: لم أر في شيء من طرقه محلّ الدعاء بذلك، وقد وقع معظم آخره في حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله في صلاة الليل، ووقع أيضًا في حديث عليّ رضي الله عنه عند مسلم؛ أنه كان يقوله في آخر الصلاة، واختَلفت الرواية هل كان يقوله قبل السلام، أو بعده؟ ففي رواية لمسلم:"ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والسلام: اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت"، وفي رواية له، ولأحمد، وأبي داود، والترمذيّ:"وإذا سلَّم قال: اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدّمت. . . " إلى آخره. ويُجمع بينهما بحمل الرواية الثانية على إرادة السلام؛ لأن مخرج الطريقين واحد، وأورده ابن حبان في "صحيحه" بلفظ:"كان إذا فرغ من الصلاة، وسلَّم"، وهذا ظاهر في أنه بعد السلام، ويَحْتَمِل أنه كان يقول ذلك قبل السلام وبعده، وقد وقع في حديث ابن عباس رضي الله عنهما نحو ذلك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي حَمْله على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوله قبل السلام، وبعد السلام، أو يكون على اختلاف الأوقات أقرب، وأحوط، واللَّه تعالى أعلم.
("اللَّهمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي)؛ أي: سيئتي، أو ذنبي، قال في "الفتح": الخطئية: الذنب، يقال: خَطِئَ يَخْطَأُ، ويجوز تسهيل الهمزة، فيقال: خطيّة بتشديد الياء. انتهى
(2)
. (وَجَهْلِي)؛ أي: ما صدر مني من أجل جهلي، والجهلُ ضدّ العلم، وقال القاري:"وجهلي"؛ أي: فيما يجب عليّ عِلمه، وعمله، وقيل: أي: ما لم أعلمه، (وَإِسْرَافِي) الإسراف: الإفراط في كل شيء، ومجاوزة الحدّ فيه؛ أي: تجاوزي عن حدّي، وقوله:(فِي أَمْرِي)؛ أي: في أموري كلها، قال الكرمانيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يتعلق بالإسراف فقط، ويَحْتَمِل أن يتعلق بجميع ما ذُكر على سبيل التنازع بين العوامل
(3)
. (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ
(1)
"الفتح" 14/ 440، "كتاب الدعوات" رقم (6398).
(2)
"الفتح" 14/ 440.
(3)
"شرح البخاريّ" للكرمانيّ 22/ 179.
مِنِّي)؛ أي: تعلمه، ولا أعلمه، من المعاصي، والسيئات، والتقصيرات في الطاعة، وقيل: أي: مما علمته، وما لم أعلمه، وهو تعميم بعد تخصيص، وتتميم لِمَا يُستغفر منه
(1)
.
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي) بكسر الجيم، وهو الاجتهاد في الأمر، والتحقيق، وضدّ الهزل، (وَهَزْلِي) بفتح الهاء، وسكون الزاي، وهو المزاح؛ أي: ما وقع مني في الحالين، أو هو التكلم بالسخرية، والبطلان، والهذيان
(2)
. (وَخَطَئِي، وَعَمْدِي) قال في "الصحاح": الْخَطَأُ: نقيض الصواب، وقد يُمَدّ، والْخِطْأ -أي: بكسر، فسكون-: الذنب
(3)
، وقال في "القاموس": الْخَطْءُ، والْخَطَأ، والْخَطَاءُ: ضدّ الصواب، والخطيئة: الذنب، أو ما تُعُمِّد منه، كالْخِطْء بالكسر، والخطأ ما لم يتعمد. انتهى
(4)
.
وقوله: "خطئي" كذا عند مسلم، ووقع عند أكثر رواة البخاريّ بلفظ:"خطاياي". قال الحافظ رحمه الله: وقع في رواية الكشميهنيّ: "خطئي"، وكذا أخرجه البخاريّ في "الأدب المفرد" بالسند الذي في "الصحيح"، وهو مناسب لذكر العَمْد، ولكن جمهور الرواة على الأول، و"الخطايا" جمع خطيئة، وعَطْف العمد عليها من عَطْف الخاصّ على العامّ، فإن الخطيئة أعمّ من أن تكون عن خطأ، أو عمد، أو هو من عَطْف أحد العامّين على الآخر؛ يعني: أنه اعتبر المغايرة بينهما باختلاف الوصفين
(5)
.
وقال في "العمدة": قوله: "وعمدي": العمد ضدّ السهو، والجهل ضدّ العلم، والهزل ضدّ الجدّ، وعَطْف العمد على الخطأ، إما من عَطْف الخاص على العام، باعتبار أن الخطيئة أعمّ من التعمد، أو من عطف أحد المتقابِلَين على الآخر، بأن يحمل الخطيئة على ما وقع على سبيل الخطأ.
(وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي)؛ أي: موجود، أو ممكن؛ أي: أنا متصف بهذه الأمور، فاغفرها لي، قاله تواضعًا، أو أراد: ما وقع سهوًا، أو ما قبل النبوة،
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 533.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 533.
(3)
"صحاح الجوهريّ" ص 302.
(4)
"القاموس المحيط" ص 378.
(5)
"الفتح" 14/ 440، و"مرعاة المفاتيح" 8/ 533.
أو محضُ مجرَّد تعليم لأمته
(1)
. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) قبل هذا الوقت، من التقدمة، وهي وضع الشيء قدامًا، وهي جهة القدام الذي هو الأمام في الاتجاه؛ أي: قبالة الوجه، قاله الحرانيّ. (وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ)؛ أي: أخفيت، (وَمَا أَعْلَنْتُ)؛ أي: أظهرت، أو ما حدّثت به نفسي، وما تحرك به لساني، قاله تواضعًا، وإجلالًا للَّه تعالى، أو تعليمًا لأمته، وتَعقب في "الفتح" الأخير بأنه لو كان للتعليم فقط كفى فيه أمْرهم، بأن يقولوا، فالأَولى أنه للمجموع، (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي)؛ أي: ما علِمته ولم أعلمه، (أَنْتَ الْمُقَدِّمُ)؛ أي: بعض العباد إليك بتوفيق الطاعة، أو أنت المقدم لنا بالبعث في الآخرة، وهو إشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"نحق الآخرون السابقون يوم القيامة. . . " الحديث، متّفقٌ عليه. (وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ)؛ أي: بخذلان بعضهم عن التوفيق، فتؤخره عنك، أو أنت المؤخر لنا بالبعث في الدنيا، أو أنت الرافع، والخافض، أو المعزّ، والمذلّ.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أنت المقدم وأنت المؤخر"؛ أي: المقدّم لمن شئت بالتوبة، والولاية، والطاعة، والمؤخر لمن شئت بضدّ ذلك، والأَوْلى أنه تعالى مقدِّم كل مُقَدَّم في الدنيا والآخرة، ومؤخِّر كل مُؤَخَّر في الدنيا والآخرة، وهذان الاسمان من أسماء اللَّه تعالى المزدوجة، كالأول والآخر، والمبدئ والمعيد، والقابض والباسط، والخافض والرافع، والضارّ والنافع، فهذه الأسماء لا تقال إلا مزدوجة، كما جاءت في الكتاب والسُّنَّة، هكذا قال بعض العلماء، ولم يُجز أن يقال: يا خافض حتى يضم إليه: يا رافع. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لا تقال إلا مزدوجة" في إطلاقه نظر لا يخفى، فتأمله بالإمعان، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقوله: (وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ") جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها، و"على كل شيء" متعلق بـ "قدير"؛ أي: أنت الفعّال لكل ما تشاء، ولذا لم يوصَف به
(1)
"فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويّ 2/ 154.
(2)
"المفهم" 7/ 48.
غير الباري، ومعنى قدرته على الممكن الموجود حال وجوده: أنه إن شاء أبقاه، وإن شاء أعدمه، ومعنى قدرته على المعدوم حين عدمه: أنه إن شاء إيجاده أوجده، وإلا فلا، وفيه أن مقدور العبد مقدور للَّه تعالى حقيقةً؛ لأنه شيء، واللَّه على كل شيء قدير، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6877 و 6878](2719)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6398 و 6399) وفي "الأدب المفرد"(688 و 689)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 417)، و (ابن أبي شيبة في "مصنّفه" (6/ 50)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(954 و 957)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(6/ 332)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 336)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1371)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الدعاء بهذا الدعاء الجامع المستوعب لحوائج الدنيا والآخرة.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من المداومة على الاستغفار، والدعاء، مع أن اللَّه عز وجل قد غفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؛ إظهارًا للعبوديّة، وتواضعًا، ومن باب:"أفلا أكون عبدًا شكورًا".
3 -
(ومنها): أنه ينبغي للأمة أن تقتدي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في كثرة الاستغفار والتوبة؛ لأنه إذا كان هو محتاجًا إليه مع شَرَف منزلته عند اللَّه تعالى، فغيره أحقّ به وأَولى.
4 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": قال الطبريّ بعد أن استشكل صدور هذا الدعاء من النبيّ صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ما حاصله: أنه صلى الله عليه وسلم امتثل ما أمره اللَّه به من تسبيحه، وسؤاله المغفرة:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} الآية، قال: وزعم قوم أن
استغفاره عما يقع بطريق السهو، والغفلة، أو بطريق الاجتهاد، مما لا يصادف ما في نفس الأمر.
وتُعُقِّب بأنه لو كان كذلك للزم منه أن الأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بمثل ذلك، فيكونون أشدّ حالًا من أممهم.
وأجيب بالتزامه، قال المحاسبيّ: الملائكة والأنبياء أشدّ للَّه خوفًا ممن دونهم، وخوفهم خوف إجلال وإعظام، واستغفارهم من التقصير، لا من الذنب المحقّق.
وقال عياض: يَحْتَمِل أن يكون قوله: "اغفر لي خطيئتي"، وقوله:"اغفر لي ما قدّمت، وما أخرت" على سبيل التواضع، والاستكانة، والخضوع، والشكر لربه؛ لِمَا عَلِم أنه قد غُفر له، وقيل: هو محمول على ما صدر من غفلة، أو سهو، وقيل: على ما مضى قبل النبوة.
وقال قوم: وقوع الصغيرة جائز منهم، فيكون الاستغفار من ذلك، وقيل: هو مثل ما قال بعضهم في آية الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: 2]؛ أي: من ذنب أبيك آدم، وما تأخر؛ أي: من ذنوب أمتك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدَّم القول في عصمة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب، وفي معنى ذنوبهم غير مرة، ونزيد هنا نكتتين:
إحداهما: أنّا وإن قلنا: إن الذنوب تقع منهم، غير أنهم يتوقعون وقوعها، وأن ذلك ممكن، وكانوا يتخوفون من وقوع الممكن المتوقع، ويُقَدِّرونه واقعًا، فيتعوذون منه، وعلى هذا فيكون قوله:"وكل ذلك عندي"؛ أي: ممكن الوقوع عندي، ودليل صحة ذلك أنهم مكلّفون باجتناب المعاصي كلّها، كما كُلِّفه غيرهم، فلولا صحّة إمكان الوقوع لَمَا صحّ التكليف.
والثانية: أن هذه التعويذات، وهذه الدعوات، والتضرّعات قيام بحقّ وظيفة العبودية، واعتراف بحقّ الربوبية؛ ليقتدي بهم مذنبو أممهم، ويسلكوا مناهج سُبُلهم، فتُستجاب دعوتهم، وتُقبل توبتهم، واللَّه تعالى أعلم، وقد أطنب الناس في ذلك، وما ذكرناه خلاصته. انتهى كلام القرطبي رحمه الله
(2)
.
(1)
"الفتح" 14/ 440.
(2)
"المفهم" 7/ 47 - 48.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مسألة وقوع الخطأ من الأنبياء عليهم السلام قد حقّقه شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى"، حيث قال ما نصّه:
والقول الذي عليه جمهور الناس، وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقًا، والردّ على من يقول: إنه يجوز إقرارهم عليها، وحُجج القائلين بالعصمة إذا حُرِّرت إنما تدلّ على هذا القول، وحُجج النفاة لا تدلّ على وقوع ذنب أُقرّ عليه الأنبياء عليهم السلام، فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع، وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبًا، ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أُقرّوا عليه، دون ما نُهوا عنه، ورجعوا عنه، كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم يُنسخ منه، فأما ما نُسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورًا به، ولا منهيًّا عنه، فضلًا عن وجوب اتباعه، والطاعة فيه.
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال، أو أنها ممن عَظُمت عليه النعمة أقبح، أو أنها توجب التنفير، أو نحو ذلك من الحجج العقلية، فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك، وعدم الرجوع، وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها اللَّه يُرفَع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه، كما قال بعض السلف: كان داود؛ بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، وقال آخر: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لَمَا ابتَلَى بالذنب أكرم الخلق عليه. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله باختصار
(1)
، وهو تحقيق نفيس.
وخلاصة القول في هذا: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الكبائر مطلقًا، وأما الصغائر فما يوجب الخسّة، وينفّر الناس عنهم؛ كسرقة لقمة، وتطفيف الكيل بحبة، أو نحو ذلك، فلا يقع منهم أصلًا، وأما ما ليس كذلك فقد يقع منهم، إلا أنهم لا يُقَرّون عليه، بل يأتيهم الوحي بالتنبيه، والتقويم، فهذا هو المذهب الصحيح؛ لوضوح حجته، واستنار محجّته، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
[تكميل]: نقل الكرمانيّ تبعًا لمغلطاي عن القرافيّ أن قول القائل في
(1)
"مجموع الفتاوى" 10/ 293 - 294.
دعائه: اللَّهُمَّ اغفر لجميع المسلمين دعاء بالمحال؛ لأن صاحب الكبيرة قد يدخل النار، ودخول النار ينافي الغفران.
وتُعُقّب بالمنع، وأن المنافي للغفران الخلود في النار، وأما الإخراج بالشفاعة، أو العفو فهو غفران في الجملة.
وتُعقب أيضًا بالمعارضة بقول نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وقول إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)} [إبراهيم: 41]، وبأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أُمر بذلك في قوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].
والتحقيق أن السؤال بلفظ التعميم لا يستلزم طلب ذلك لكل فرد فرد بطريق التعيين، قال الحافظ: فلعل مراد القرافيّ مَنْع ما يُشعر بذلك، لا منع أصل الدعاء بذلك، ذكره في "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6878]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ فِي هَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ الْمِسْمَعِيُّ) أبو محمد الصنعانيّ، ثم البصريّ، صدوقٌ [9] (ت 200) ويقال: قبلها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.
[تنبيه]: قوله: "الْمِسْمَعيّ" بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الميم، بعدها عين مهملة: نسبة إلى محلّة بالبصرة، نزلها الْمِسمَعون، فنُسبت إليهم، قاله في "تهذيب الأنساب"
(2)
.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية عبد الملك بن الصبّاح عن شعبة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:
(1)
"الفتح" 14/ 440.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 212.
(6035)
- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا عبد الملك بن صبّاح، حدّثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن ابن أبي موسى، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء:"رب اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري كلّه، وما أنت أعلم به مني، اللَّهُمَّ اغفر لي خطاياي، وعمدي، وجهلي، وهزلي، وكلُّ ذلك عندي، اللَّهُمَّ اغفر لي ما قدّمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، وأنت على كل شيء قدير". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6879]
(2720) - (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ الْقُطَعِيُّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ قُدَامَةَ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلَّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ) البغداديّ، أبو إسحاق التمار، ثقةٌ [10](232)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 41/ 272.
2 -
(أَبُو قَطَنٍ عَمْرُو بْنُ الْهَيْثَمِ الْقُطَعِيُّ) هو: عَمرو بن الهيثم بن قَطَن -بفتح القاف، والطاء المهملة- البصريّ، ثقةٌ، من صغار [9] مات على رأس المائتين (بخ م 4) تقدم في "الصلاة" 29/ 989.
[تنبيه]: قوله: (الْقُطَعيّ) -بضم القاف، وفتح الطاء المهملة، بعدها عين مهملة-: نسبة إلى بطن، وهو: قُطيعة بن عَبْس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان، قاله في "اللباب"
(2)
.
3 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ) -بكسر الجيم،
(1)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2350.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 46.
بعدها شين معجمة مضمومة- المدنيّ، نزيل بغداد، مولى آل الْهُدَير، ثقةٌ فقيهٌ مُصَنِّف [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.
[تنبيه]: قوله: (الْمَاجِشُونُ) بكسر الجيم، وبعدها شين معجمة مضمومة: لقب أبي سلمة يوسف بن يعقوب بن عبد اللَّه بن أبي سلمة؛ لحمرة خدّيه، وهذه لغة أهل المدينة، والماجشون: الورد، قاله في "اللباب"
(1)
.
4 -
(قُدَامَةُ بْنُ مُوسَى) بن عُمر بن قُدامة بن مظعون الْجُمَحيّ المدنيّ، إمام المسجد النبويّ، ثقةٌ [5].
رَوَى عن ابن عمر، وأنس، وأبيه موسى، وأبي صالح السمان، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وعمرو بن ميمون بن مهران، وغيرهم.
وروى عنه أخوه عمر، وابنه إبراهيم، وابن جريج، وسليمان بن بلال، ووهيب، ويحيى بن أيوب المصريّ، والدارورديّ، وعبد العزيز بن عبد اللَّه الماجشون، وغيرهم.
قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كان إمام مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وفيها أرّخه ابن أبي عاصم.
قال الحافظ: في صحة سماعه من ابن عمر نظر؛ فقد أخرج له الترمذيّ حديثًا، فأدخل بينه وبين ابن عمر ثلاثة أنفس، وقال الزبير بن بكار: عُمِّر قُدامة بن موسى، وكان ثبتًا.
أخرج له البخاريّ في التعاليق، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبل حديث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، من عبد العزيز، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم القول فيه غير مرّة.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 141.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِيَ الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) بكسر العين؛ أي: الذي يعصمني من النار، وغضب الجبار، وقيل: أي: ما أعتصم به، فإن العصمة في النفس والمال والعِرض إنما تحصل بالدين، والعصمة على ما في "الصحاح": المنع، والحفظ، فقيل: هو هنا مصدر بمعنى الفاعل؛ أي: الذي هو حافظ لأمري؛ أي: لجميع أموري؛ لأنه مفرد مضاف، فيعمّ، قال المناويّ: فإن من فسد دينه، فسدت جميع أموره، وخاب، وخسر في الدنيا والآخرة
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عصمة أمري"؛ أي: رباطه، وعماده، والأمر بمعنى الشأن، ومعنى هذا: أن الدين إن فسد لم يصلح للإنسان دنيا، ولا آخرة، وهذا دعاء عظيم جمع خير الدنيا والآخرة، والدين والدنيا، فحقٌّ على كل سامع أن يحفظه، ويدعو به آناء الليل وآناء النهار، لعلّه يوافق ساعة إجابة، فيحصل له خير الدنيا والآخرة. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "عصمة أمري" هو من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} الآية [آل عمران: 103]؛ أي: بعهد اللَّه، وهو الدِّين، وإصلاح الدنيا عبارة عن الكفاف فيما يَحتاج إليه، وأن يكون حلالًا مُعِينًا على الطاعة، وإصلاح المعاد: اللطف، والتوفيق لطاعة اللَّه، وعبادته، وطلب الراحة بالموت إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفّني غير مفتون"، قال: وهذا الدعاء من الجوامع
(3)
؛ أي: حيث جمع فيه هذه الثلاثة: صلاح الدنيا، والدين، والمعاد، وهي الجامع لمقاصد العبد كلّها، واللَّه تعالى أعلم.
(وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي)؛ أي: بإعطاء الكفاف فيما أحتاج إليه، وكونه حلالًا مُعِينًا على الطاعة. وقيل: معناه: احْفَظْ من الفساد ما أحتاج إليه في الدنيا، (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي)؛ أي: بالتوفيق للعبادة، والإخلاص في الطاعة، وحسن الخاتمة. (الَّتِي فِيهَا مَعَادِي) بفتح الميم: مصدر عاد: إذا
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 535.
(2)
"المفهم" 7/ 48 - 49.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1924.
رجع؛ أي: وفّقني للطاعة التي هي إصلاح معادي، قاله القاري. وقال الجزريّ: أي: ما أعود إليه يوم القيامة، وهو إما مصدر، أو ظرف. انتهى؛ أي: مكان عودي، أو زمان إعادتي
(1)
.
(وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ): أي: اجعل حياتي سبب زيادة الخيرات من العبادة، والطاعة، والإخلاص، وقيل: أي: اجعل عمري مصروفًا فيما تُحبّ وترضى، وجنّبني ما تَكره. (وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ")؛ أي: من الفتن، والمحن، والابتلاء بالمعصية، والغفلة. وقال زين العرب: أي: بأن يكون على شهادة، واعتقادٍ حَسَن، وتوبة، حتى يكون موتي سبب خلاصي عن مشقة الدنيا، والتخلُّص من غمومها، وهمومها، وحصول الراحة في العقبى. وقيل: فيه إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أردت بقوم فتنة، فتوفّني غير مفتون"، وهذا هو النقصان الذي يقابل الزيادة في القرينة السابقة.
قال الشوكانيّ رحمه الله: هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لشموله لصلاح الدين والدنيا، وَوَصَف إصلاح الدين بأنه عصمة أمره؛ لأن صلاح الدين هو رأس مال العبد، وغاية ما يطلبه، ووَصَف إصلاح الدنيا بأنها مكان معاشه الذي لا بُدّ منه في حياته، وسأله إصلاح آخرته التي هي المرجع، وحولها يدندن العباد، وقد استلزم ذلك سؤال إصلاح الدين؛ لأنه إذا أصلح دين الرجل فقد أصلح له آخرته التي هي دار معاده، وسأله أن يجعل الحياة زيادة له في كل خير؛ لأن من زاده اللَّه خيرًا في حياته كانت حياته صلاحًا وفلاحًا، وسأله أن يجعل له الموت راحة له من كل شرّ؛ لأنه إذا كان الموت دافعًا للشرور، قاطعًا لها، ففيه الخير الكثير للعبد، ولكنه ينبغي له أن يقول:"اللَّهُمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" كما علّمنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإنه يَشمل كل أمره، ومعلوم أن من لم يكن في حياته إلا الوقوع في الشرور، فالموت خير له من الحياة، وراحة له من مِحَنها. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 535.
(2)
"تحفة الذاكرين" للشوكانيّ رحمه الله ص 284.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6879](2720)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(668)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1/ 366)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(7/ 198) و"الصغير"(2/ 127) و"الدعاء"(1/ 429)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6880]
(2721) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ، وَالْغِنَى").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) عوف بن مالك بن نَضْلة -بفتح النون، وسكون المعجمة- الْجُشَميّ -بضم الجيم، وفتح المعجمة- الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3]، قُتل في ولاية الحجاج على العراق (بخ م 4) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود بن غافل بن حبيب الْهُذليّ، أبو عبد الرحمن، مات سنة اثنتين وثلاثين، أو في التي بعدها بالمدينة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"محمد بن جعفر" هو: غُندر، و"أبو إسحاق" هو: عمرو بن عبد اللَّه السبيعيّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وأن شيخيه من مشايخ الجماعة الذين رووا عنهم بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه أحد السابقين الأولين في الإسلام، ومن كبار العلماء من الصحابة رضي الله عنه، ومناقبه جمّة، وأمّره عمر رضي الله عنهما على الكوفة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى)؛ أي: الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، (وَالتُّقَى) بضمّ التاء، والقصر؛ أي: الخوف من اللَّه تعالى، والحذر من مخالفته، (والْعَفَافَ) بالفتح؛ أي: الكفّ عن المعاصي، والصيانة عن مطامع الدنيا، وعن كل ما لا ينبغي، (والْغِنَى) بالكسر، والقصر: اليسار، والمراد: غنى القلب، لا غنى اليد، قال النوويّ: العفاف، والعفّة: هو التنزه عما لا يباح، والكفّ عنه، والغنى ها هنا: غنى النفس، والاستغناء عن الناس، وعما في أيديهم. وقال في "المعتصر": ليس المراد بالغنى غنى المال، بل غنى النفس القاطع عن المال الذي يقطع المرء عن الطاعات، ويَشْغَل القلب عن اللَّه تعالى، فالغنى المحمود هو الغنى الذي يتفرغ به القلب عن الدنيا، وعن الاهتمام بها، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"ما أحبّ أن لي أُحدًا ذهبًا تأتي عليّ ليلة، أو ثلاثٌ، وعندي منه دينار، إلا دينارًا أرصده لِدَيْن، أو أقول به في عباد اللَّه هكذا وهكذا، وهكذا، عن يمينه، وعن شماله، ومن خلفه. . . " الحديث، متّفقٌ عليه.
قال الطيبي: أطلق الهدى، والتقى؛ ليتناول كل ما ينبغي أن يُهتدَى إليه، من أمر المعاش، والمعاد، ومكارم الأخلاق، وكل ما يجب أن يُتَّقَى منه، من الشرك، والمعاصي، ورذائل الأخلاق، وطَلَبُ العفافِ، والغنى تخصيص بعد تعميم. انتهى
(1)
.
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أغنني من الفقر"، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ أحيني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين، ولا تجعلني جبارًا شقيًّا"، فإن هذا الفقر هو الذي لا يدرك معه القوّة، والكفاف، ولا يستقر معه في النفس غنى؛ لأن الغنى عنده صلى الله عليه وسلم غنى النفس، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال:"ليس الغنى عن كثرة العَرَض، إنما الغنى غنى النفس"، وقد جعله اللَّه عز وجل غنيًّا، وعدّده عليه فيما
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 537.
عدّد من نعمه، فقال:{وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8]، ولم يكن غِناه صلى الله عليه وسلم أكثر من إيجاد قوت سنة لنفسه وعياله، وكان الغنى كله في قلبه؛ ثقةً بربه، وسكونًا إلى أن الرزق مقسوم يأتيه منه ما قُدِّر له، وكذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن مسعود:"يا عبد اللَّه لا يكثر همّك، ما يقدَّر يكن، وما يقدَّر يأتيك"، وقال:"إن روح القدس نَفَث في رُوعي، فقال: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا اللَّه، وأجملوا في الطلب، خُذُوا ما حَلّ، ودعوا ما حَرُم".
فغنى النفس يُعِين على هذا كله، وغنى المؤمن الكفاية، وكذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"اللَّهُمَّ اجعل رزق آل محمد قوتًا"، ولم يُرِدْ بهم إلا الذي هو أفضل لهم، وقال:"ما قلّ، وكفى، خير مما كثُر، وألهى".
وقال أبو حازم: إذا كان ما يكفيك لا يغنيك، فليس في الدنيا شيء يغنيك.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستعيذ باللَّه من فقر مسرف، وغنى مُطْغ.
وفي هذا دليل بَيِّن أن الغنى والفقر طرفان، وغايتان مذمومتان.
قال: وليس في قول اللَّه تعالى ذكرُهُ حاكيًا عن موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] تفضيل الغنى على الفقر؛ لأن جميع خلقه يفتقرون إلى رحمته، ولا غنى لهم عن رزقه، فمن أعطاه اللَّه الكفاية، فقد تمَّت له منه العناية، ومن آتاه اللَّه من رزقه سعة، فواجب شكره عليه، وحَمْده. كما يجب الصبر على من امتُحِن بالقلّة والفقر؛ لأن الفرائض، وحقوق المال، ونوافل الخير تتوجه إلى ذي الغنى، ومؤنة ذلك ساقطة عن الفقير، والقيام بها فضل عظيم، والصبر على الفقر، والرضا به ثواب جسيم، قال اللَّه عز وجل:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وقد قال الحكماء: خير الأمور أوساطها، فالزيادة الكثيرة على القوت، والكفاية ذميمة، ولا تؤمَن فِتنتها، والتقصير عن الكفاف محنة وبليّة، لا يأمَن صاحبها فِتنتها أيضًا، ولا سيما صاحب العيال، ورُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من جَهْد البلاء"، فقال: جهد
البلاء: كثرة العيال، وقلة المال. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6880 و 6881](2721)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(674)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3489)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3832)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 39)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 411 و 416 و 437)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(900)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 436)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1/ 4)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 416)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6881]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنَّ ابْنَ الْمُثَنَّى قَالَ فِي رِوَايَتِهِ: "وَالْعِفَّةَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ) بن مهديّ الحافظ المشهور، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثوريّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، وكان ربما دلّس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن أبي إسحاق السبيعيّ هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3832)
- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرقيّ، ومحمد بن بشار، قالا:
(1)
"الاستذكار" لابن عبد البرّ رحمه الله 2/ 522 - 523.
ثنا عبد الرحمن بن مهديّ، ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللَّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقول:"اللَّهُمَّ إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6882]
(2722) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الَآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
(2)
، كَانَ يَقُولُ:"اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(عَاصِمُ) بن سليمان الأحول البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
5 -
(زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، أول مشاهده الخندق، وأنزل اللَّه تصديقه في سورة "المنافقون"، نزل الكوفة، ومات بها سنة ست، أو ثمان وستين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"عبد اللَّه بن الحارث" هو: الأنصاريّ، أبو الوليد البصريّ، نسيب محمد بن سيرين.
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1260.
(2)
وفي نسخة: "يقول، قال: كان".
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيين، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى في تصديقه "سورة المنافقين"، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: لَا أَقُولُ لَكُمْ إِلَّا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) وفي رواية النسائيّ: "لا أعلّمكم إلا ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا". (كَانَ) صلى الله عليه وسلم، وفي نسخة:"قال: كان"(يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ) -بفتح العين المهملة، وسكون الجيم آخره زاي-: هو مصدر عَجَز، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَجَزَ عن الشيء عَجْزًا، من باب ضرب، ومَعْجَزَة بالهاء، وحَذْفها، ومع كل وجه فَتْحِ الجيم، وكَسْرها: ضعُف، وعَجِزَ عَجَزًا من باب تعب لغةٌ لبعض قيس عيلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم. وقد روى ابن فارس بسنده إلى ابن الأعرابيّ أنه قال: لا يُقال: عجِز الإنسان بالكسر إلا إذا عظمت عَجِيزته. انتهى
(1)
.
وقيل: العجز: عدم القدرة على الطاعة، وعدم القوّة على جلب المنفعة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: المراد بالعجز المتعوّذ منه: هو عدم القدرة على الطاعات، وعن السعي في تحصيل المصالح الدينيّة، والدنيويّة. انتهى
(2)
.
(وَالْكَسَلِ) -بفتحتين-: مصدر كَسِل، من باب تَعِب. قال في "القاموس": الْكَسَل: محرّكةً: التثاقل عن الشيء، والفتور فيه، كَسِلَ، كفرح، فهو كَسِلٌ، وكَسْلانُ، جمعه كُسالَى مثلّثة الكاف، وكَسَالِي بكسر اللام، وكسلَى كقتلى. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ: والكسل المتعوّذ منه: هو التثاقل عن الطاعات، وعن السعي في تحصيل المصالح الدينيّة، والدنيوية. انتهى
(4)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 393.
(2)
"المفهم" 7/ 34.
(3)
"القاموس المحيط" ص 1132.
(4)
"المفهم" 7/ 34.
(وَالْجُبْنِ) بضم، فسكون، أو بضمّتين؛ أي: البخل في النفس، وعدم الجراءة على الطاعة، وإنما تعوَّذ منه؛ لأنه يؤدّي إلى عذاب الآخرة؛ لأنه يفرّ من الزحف، وهو من الكبائر التي جاء بها الوعيد الشديد في قوله عز وجل:{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)} [الأنفال: 16]، وربما يُفتن عن دينه، فيرتدّ؛ لِجُبن أدركه، وخوف على مُهْجته من الأسر والعبودية، فقد خسر خسرانًا مبينًا.
قال الطيبيّ رحمه الله: الجود إما بالنفس، وهو الشجاعة، ويقابله الجبن، وإما بالمال، وهو السخاء، ويقابله البخل، ولا تجتمع الشجاعة والسخاوة إلا في نفس كاملة، ولا ينعدمان إلا من مُتناه في النقص. انتهى
(1)
.
وقال في "المرقاة": الْبُخْل يشمل عدم النفع بالمال، أو العلم، أو غيرهما، ولو بالنصيحة.
(وَالْهَرَمِ) بفتحتين؛ أي: الخَرَف، وبلوغ أرذل العمر، (وَعَذَابِ الْقَبْرِ)؛ أي: من الضيق، والظُّلمة، والوحشة، والضرب بالمِقمعة، ولَدْغ الحيّة، وأمثال ذلك، مما وَرَدَ تعذيب العصاة به، أو المراد: ما يوجب عذابه، من الغِيبة، والنميمة، والبول، كما وردت النصوص أن أكثر عذاب القبر بذلك.
(اللَّهُمَّ آتِ) بالمدّ؛ أي: أعط (نَفْسِي تَقْوَاهَا)؛ أي: صيانتها عن المحظورات. قال الطيبيّ رحمه الله: ينبغي أن تفسّر التقوى هنا بما يُقابل الفجور في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8]، وهي الاحتراز عن متابعة الهوى، وارتكاب الفجور، والفواحش؛ لأن الحديث كالتفسير والبيانِ للآية، فدلّ قوله:"آت" على أن الإلهام في الآية هو خَلْق الداعية الباعثة على الاجتناب عن المذكورات.
(وَزَكِّهَا)؛ أي: طهّرها، (أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا) دلّ على أن إسناد التزكية إلى النفس في الآية هو نسبة الكسب إلى العِبد، لا خَلْق الفعل له، كما زعمت المعتزلة؛ لأن الخيريّة تقتضي المشاركة بين كَسْب العبد، وخَلْق القدرة فيه.
(1)
راجع: "تحفة الأحوذيّ" 10/ 12.
قال القاري: وأما قول ابن حجر
(1)
: ولا يلزم من مقابلة التقوى للفجور قَصْرها على ضدّ الفجور، خلافًا لمن توهّمه. فمكابرة؛ لأن المقابلة صحيحة. انتهى
(2)
.
(أَنْتَ وَلِيُّهَا)، أي: ناصِرها، هذا راجع إلى قوله:"آت نفسي تقواها"، كأنه يقول: انصرها على فعل ما يكون سببًا لرضاك عنها؛ لأنك ناصرها، (وَمَوْلَاهَا) هذا راجع إلى قوله:"زكّها": يعني: طهّرها بتأديبك إياها، كما يؤدّب المولى عبده.
وقال الطيبيّ: "أنت وليها، ومولاها" استئناف على بيان الموجب، وأن إيتاء التقوى، وتحصيل التزكية فيها إنما كان لأنه هو متولي أمورها، ومالكها، فالتزكية إن حُملت على تطهير النفس عن الأفعال، والأقوال، والأخلاق الذميمة، كانت بالنسبة إلى التقوى مظاهر ما كان مكمنًا في الباطن، وإن حُملت على الإنماء، والإعلاء بالتقوى، كانت تحلية بعد التخلية؛ لأن المتّقي شرعًا: مَن اجتنب النواهي، وأتى بالأوامر، ذكره القاري
(3)
.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْم لَا يَنْفَعُ) قال الطيبيّ رحمه الله: أي: عِلم لا أعمل به، ولا أعلِّمه الناس، ولا يهذب الأخلاق، والأقوال، والأفعال، أو علم لا يُحتاج إليه في الدين، أو لا يَرِد في تعلمه إذن شرعيّ.
وقال الطيبيّ أيضًا: "من علم لا ينفع"؛ أي: لا يهذّب الأخلاق الباطنة، فيسري منها إلى الأفعال الظاهرة، ويحصل بها الثواب الآجل، وأُنشدتّ [من الكامل]:
يَا مَنْ تَقَاعَدَ عَنْ مَكَارِمِ خُلْقِهِ
…
لَيْسَ افْتِخَارٌ بِالْعُلُومِ الزَّاخِرَهْ
مَنْ لَمْ يُهَذِّبْ عِلْمُهُ أَخْلَاقَهُ
…
لَمْ يَنْتَفِعْ بِعُلُومِهِ فِي الآخِرَهْ
(1)
ابن حجر هذا هو أحمد بن محمد الْهَيتميّ الشافعيّ المتوفّى سنة (974 هـ)، وليس هو الحافظ العسقلانيّ أحمد بن علي المتوفّى سنة (852 هـ) صاحب "فتح الباري" الذي يتردّد النقل عنه في هذا الشرح، فتفطّن.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 5/ 316.
(3)
"المرقاة" 5/ 316 - 317.
وقال الغزاليّ رحمه الله: العلم لا يُذم لذاته؛ لأنه من صفات اللَّه تعالى، بل لأحد أسباب ثلاثة:
الأول: أن يكون وسيلة إلى إيصال الضرر إليه، أو إلى غيره؛ كعلم السحر، والطلسمات، فإنهما لا يصلحان إلا للإضرار بالخلق، والوسيلة للشرّ شرّ.
والثاني: أن يكون مضرًّا بصاحبه في ظاهر الأمر؛ كعلم النجوم، فإنه كلّه مضرّة، وأقل مضارّه أنه خوض فيما لا يعني، وتضييع العمر الذي هو أنفس بضاعة الإنسان بغير فائدة غاية الخسران.
والثالث: أن يكون دقيقًا لا يستقلّ به الخائض فيه، فإنه مذموم في حقّه؛ كتعلّم دقيق العلوم قبل جليّها، وكالبحث عن الأسرار الإلهية؛ إذ تطلّع الفلاسفة والمتكلمون إليها، ولم يستقلوا بها، ولا يستقل بها ولا الوقوف على طرف بعضها إلا من شاء اللَّه؛ كالأنبياء، فيجب كفّ الناس عن البحث عنها، وردّهم إلى ما نطق به الشرع. انتهى
(1)
.
وقال أبو طالب المكيّ: قد استعاذ صلى الله عليه وسلم من نوع من العلوم، كما استعاذ من الشرك، والنفاق، وسوء الأخلاق، والعلم الذي لم يقترن به التقوى فهو باب من أبواب الدنيا، ونوع من أنواع الهوى، وعدم استجابة الدعاء، دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه وعمله، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه، ذكره علي القاري
(2)
.
(وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ)؛ أي: لا يسكن، ولا يطمئنّ بذكر اللَّه تعالى، (وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ) بما آتاها اللَّه تعالى، ولا تقنع بما رزقها اللَّه، ولا تفتر عن جمع المال؛ لِمَا فيها من شدة الحرص، أو من نفس تأكل كثيرًا، قال ابن الملك: أي: حريصة على جمع المال، وتحصيل المناصب، وقيل: على حقيقته؛ إما لشدة حرصه على الدنيا، فلا يقدر أن يأكل قَدْر ما يُشبع جوعته،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1915، و"مرقاة المفاتيح" 5/ 370.
(2)
راجع: "عون المعبود" 4/ 285.
وإما لاستيلاء الجوع البقريّ عليه، وهو جوع الأعضاء، مع شبّع المعدة، عكس الشهوة الكلبية
(1)
.
(وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا") قال في "النهاية": أي: لا يستجاب، ولا يُعْتَدّ بها، فكأنها غير مسموعة، يقال: اسمع دعائي؛ أي: أجبه؛ لأن غرض السائل الإجابة والقبول. انتهى
(2)
.
وقال الطيبيّ: الضمير في "لها" عائد إلى الدعوة، واللام زائدة، وفي رواية:"ومن دعاء لا يسمع"، وفي أخرى:"ومن هؤلاء الأربع"، ودلّ الحديث على أن السجع إذا كان على وِفق الطبع من غير تكلّف فلا مَنْع. انتهى
(3)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من قلب لا يخشع" لذكر اللَّه عز وجل، ولا لاستماع كلامه، وهو القلب القاسي الذي هو أبعد القلوب من حضرة علام الغيوب، "ومن دعاء لا يسمع"؛ أي: لا يستجاب، ولا يُعتدّ به، فكأنه غير مسموع، "ومن نفس لا تشبع" مِن جَمْع المال أشَرًا، وبطَرًا، أو من كثرة الأكل الجالبة لكثرة الأبخرة الموجبة للنوم، وكثرة الوساوس، والخطرات النفسانية المؤدية إلى مضارّ الدنيا والآخرة، "ومن علم لا ينفع"؛ أي: لا يُعمَل به، أو لا يهذِّب الأخلاق الباطنة، فيسري إلى الأفعال الظاهرة، "أعوذ بك من هؤلاء الأربع"، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6882](2722)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3572)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5460 و 5540) و"الكبرى"(7895)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 371)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 17)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 585)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 370.
(2)
راجع: "عون المعبود" 4/ 285.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 370.
(1/ 114)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1/ 4)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب التعوذ مما ذُكر في هذا الحديث.
2 -
(ومنها): ما قاله العلائيّ رحمه الله: تضمَّن هذا الحديث الاستعاذة من دنيء أفعال القلوب، وفي قَرْنه بين الاستعاذة من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع إشارة إلى أن العلم النافع ما أورث الخشوع. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن السجع في الدعاء لا يُذمّ، إذا حصل بلا تكلف، بل لكمال فصاحة الداعي، والنهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا كان بتكلف.
4 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: اعلم: أن في كل من القرائن
(2)
إشعار بأن وجوده مبنيّ على غايته، والغرض الغاية، فإنّ تعلّم العلم إنما هو للنفع به، فإذا لم ينفعه لم يخلص كفافًا، بل يكون وبالًا، ولذلك استعاذ منه، وإن القلب إنما خُلق ليخشع لبارئه، وينشرح لذلك الصدر، ويُقذف النور فيه، فإذا لم يكن كذلك كان قاسيًا، فيجب أن يستعاذ منه قال اللَّه تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} الآية [الزمر: 22]، وإن النفس إنما يُعتدّ بها إذا تجافت عن دار الغرور، وأنابت إلى دار الخلود، والنفس إذا كانت منهومةً لا تشبع، حريصةً على الدنيا، كانت أعدى عدوّ المرء، فأول شيء يستعاذ منه هي، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه، ولم يخشع قلبه، ولم تشبع نفسه. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6883]
(2723) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ النَّخَعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْسَى قَالَ: "أَمْسَيْنَا،
(1)
"فيض القدير" 2/ 108 و 154.
(2)
أي: الأشياء المقترنة في هذا الحديث.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 11915 - 11916.
وَأَمْسَى الْمُلْكُ للَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، قَالَ الْحَسَنُ: فَحَدَّثَنِي الزُّبَيْدُ أَنَّهُ حَفِظَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذَا: "لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
(1)
مِنَ الْكَسَلِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ في النَّارِ، وَعَذَابٍ في الْقَبْرِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) العبديّ، أبو بشر البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بن عروة النخعيّ، أبو عروة الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [6] (ت 139) وقيل: بعدها بثلاث (م 4) تقدم في "الإيمان" 38/ 263.
3 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُويدٍ النَّخَعِيُّ) الأعور الكوفيّ، ثقةٌ، لم يثبت أن النسائي ضعّفه [6](م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 19/ 1286.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من الحسن، وقتيبة بغلانيّ، وشيخه بصري، وفيه عبد اللَّه بن مسعود تقدّم الكلام فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْسَى)؛ أي: دخل في وقت المساء، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَمْسَيْنَا، وَأَمْسَى الْمُلْكُ للَّهِ)؛ أي: دخلنا في المساء، ودخل المُلك فيه كائنًا للَّه، ومختصًا به، أو الجملة حالية بتقدير "قد"، أو بدونه؛ أي: أمسينا وقد صار بمعنى كان، ودام الملك للَّه تعالى، وقوله:(وَالْحَمْدُ للَّهِ) قال المظهر: عطفٌ على "أمسينا، وأمسى
(1)
وفي نسخة: "اللَّهُمَّ أعوذ بك".
الملك"، وأمسى إذا دخل في المساء، وأمسى إذا صار؛ يعني: دخلنا في المساء، وصرنا نحن، وجميع الملك، والحمد للَّه تعالى. انتهى.
قال الطيبيّ: أقول: الظاهر أنه عطف على قوله: "الملك للَّه"، ويدلّ عليه قوله بعدُ:"له الملك، وله الحمد"، وقوله:"وأمسى الملك للَّه" حال من "أمسينا" إذا قلنا: إنه فعل تامّ، ومعطوف على "أمسينا" إذا قلنا: إنه ناقصٌ، والخبر محذوف؛ لدلالة الثاني عليه، والواو فيه كما في قول الحماسيّ:
فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
قال أبو البقاء: "أمسى" هنا ناقصة، والجملة بعدها خبرها.
[فإن قلت]: خبر كان مثل خبر المبتدأ لا يجوز دخول الواو عليه.
[قيل]: الواو إنما دخلت في خبر كان؛ لأن اسمها يشبه الفاعل، وخبرها يشبه الحال.
وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) عطف على "الحمد للَّه" على تأويل: وأمسى الفردانيّة، والوحدانيّة مختصّتين باللَّه تعالى.
[فان قلت]: ما معنى "أمسى الملك للَّه"، والمُلك له أبدًا، وكذا الحمد؟.
[قلت]: هو بيان حال القائل؛ أي: عرفنا أن الملك، والحمد للَّه، لا لغيره، فالتجأنا إليه، واستعذنا به، وخصّصناه بالعبادة، والثناء عليه، والشكر له، ثم استمرّ ذلك بدخوله في الليل، واستعاذ مما يمنعه مما كان فيه في اليوم قائلًا:"أسألك من خير هذه الليلة" إلى آخره
(1)
.
(وَحْدَهُ) حال مؤكدة؛ أي: منفردًا بالألوهية، (لَا شَرِيكَ لَهُ")؛ أي: في ربوبيّته، وألوهيّته، وأسمائه وصفاته، وقال القاري: أي: في صفات الربوبية، ولذا أكّده بقوله:"له الملك"؛ أي: جنسه مختص له، "وله الحمد"؛ أي: بجميع أفراده، "وهو على كل شيء"؛ أي شيء، أو على كل شيء شاءه، "قدير": كامل القدرة، تامّ الإرادة. انتهى
(2)
.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1871 - 1872.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 290.
(قَالَ الْحَسَنُ) بن عبيد اللَّه النخعيّ: (فَحَدَّثَنِي الزُّبَيْدُ) هكذا النسخ بـ "أل"، وهو زُبيد -مصغّرًا- ابن الحارث بن عبد الكريم بن عمرو بن كعب الياميّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [6](ت 122) أو بعدها، تقدّم في "الإيمان" 30/ 228. (أَنَّهُ)؛ أي: زبيدًا، (حَفِظَ) بكسر الفاء، من باب عَلِم، (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) بن سُويد النخعيّ المذكور في السند. (فِي) جملة (هَذَا) الحديث قوله:("لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) المراد أن الحسين بن عبيد اللَّه لم يسمع من إبراهيم بن سُويد، وإنما سمعه من زبيد عنه.
(اللَّهُمَّ)؛ أي: يا اللَّه (أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ) وفي الرواية التالية: "خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها"، وفي الرواية الثالثة:"من خير هذه الليلة، وخير ما فيها"، قال الطيبيّ: أي: من خير ما ينشأ فيها، وخير ما يسكن فيها، قال تعالى:{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13]
(1)
.
وقال ابن حجر: أي: مما أردتَ وقوعه في هذه الليلة لخواص خلقك، من الكمالات الظاهرة والباطنة، وخير ما يقع فيها من العبادات التي أُمرنا بها فيها، أو المراد: خير الموجودات التي قارن وجودها هذه الليلة، وخير كل موجود الآن. انتهى.
(وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرِّ مَا بَعْدَهَا) وفي الرواية الآتية: "وأعوذ بك من شرّها، وشرّ ما فيها"، قال ابن الملك: مسألته خير هذه الأزمنة مَجاز عن قبول طاعات قدّمها فيها، واستعاذته من شرها مجاز عن طلب العفو عن ذنب قارفه فيها. انتهى.
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ
(2)
مِنَ الْكَسَلِ) بفتحتين؛ أي: التثاقل في الطاعة، مع الاستطاعة، وقال الطيبيّ: الكسل: التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير مع ظهور الاستطاعة.
زاد في الرواية الآتية: "والهَرَم" بفتحتين؛ أي: كِبَر السن المؤدي إلى تساقط بعض القوى، وضَعفها، وهو الردّ إلى أرذل العمر؛ لأنه يفوت فيه
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1872.
(2)
وفي نسخة: "اللَّهُمَّ أعوذ بك".
المقصود بالحياة، من العلم، والعمل، ولذا قال تعالى:{لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} [النحل: 70]، وقيل: سبب الاستعاذة منه كونه داءً لا دواء له، كما في الحديث.
(وَسُوءِ الْكِبَرِ) بكسر الكاف، وفتح الباء، وهو الأصحّ روايةً ودرايةً؛ أي: مما يورثه الكبر من ذهاب العقل، واختلال الرأي، وغير ذلك، مما يسوء به الحال، ورُوي بسكون الموحّدة، والمراد به: البَطَر، قال الطيبيّ: والدراية تساعد الرواية الأُولى؛ لأن الجمع بين البطر والهرم بالعطف؛ كالجمع بين الضبّ والنون.
ونازعه ابن حجر، وقال: الأول أصحّ؛ أي: أشهر روايةً، وأما درايةً فالثاني يفيد ما لا يفيده ما قبله، وهو الهرم، فهو تأسيس محض، بخلاف الأول، فإنه إنما يفيد ضربًا من التأكيد، والتأسيسُ خيرٌ من التأكيد. انتهى.
وتعقّبه القاريّ، فقال: وهو عجيب منه، فإن المغايرة بينهما ظاهرة غاية الظهور على الطيبيّ وغيره، كما بين الضبّ والنون، وإنما الكلام في المناسبة، والملاءمة بين المتعاطفين، كما اعتبره علماء المعاني، مع أن الطيبيّ لم يقل بالتأكيد، بل فَسَّر سوء الكبر بما ينشأ من الهرم، فالتغاير ظاهر، ويدل عليه لفظ "سوء" المناسب للكِبَر بفتح الباء، فإن الكِبْر بسكون الباء يُذَمّ مطلقًا. انتهى
(1)
.
(اللَّهُمَّ إِني أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ")؛ أي: من نفس عذابهما، أو مما يوجبه، وقال الطيبيّ رحمه الله: والتنكير في "عذاب" للتهويل، والتفخيم، وقال القاري: التنوين للتقليل
(2)
، وفي هذا الدعاء إظهار العبودية، والافتقار إلى تصرفات الربوبية، وأن الأمر كله خيره وشره بيد اللَّه، وأن العبد ليس له من الأمر شيء، وفيه تعليم للأمة؛ ليتعلموا آداب الدعوة، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 291.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1872، و"مرقاة المفاتيح" 5/ 291.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6883 و 6884 و 6885](2723)، و (أبو داود) في "الأدب"(5071)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3390 و 3572)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 147) و"عمل اليوم والليلة"(1/ 383)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 35)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 440)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 128)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 39)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): اختُلف في الصباح والمساء، قال الفيّوميّ رحمه الله: الصبح: الفجر، والصباح مثله، وهو أول النهار، والصباح أيضًا خلاف المساء، قال ابن الْجَوَالقيّ: الصباح عند العرب من نصف الليل الآخر إلى الزوال، ثم المساء إلى آخر نصف الليل الأول، هكذا رُوي عن ثعلب، وأصبحنا: دخلنا في الصباح. انتهى
(1)
.
وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: الصبح والصباح أول النهار، وهو وقت ما احمرّ الأفق بحاجب الشمس، قال تعالى:{أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]، وقال:{فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177]
(2)
.
وقال في "القاموس": الصبح الفجر، أو أول النهار، وهو الصبيحة، والصباح، والإصباح، والْمُصْبَح، كمكرم، والمساء، والإمساء: ضدّ الصباح، والإصباح.
قلت
(3)
: الظاهر المتبادَر من بعض الأحاديث الواردة في الباب أن المساء أول الليل، ويمكن حمل كلام صاحب "القاموس" عليه، كما لا يخفى، وقال في هامش "تحفة الذاكرين": الصباح من طلوع الفجر؛ أي: إلى طلوع الشمس، والمساء من غروب الشمس كما يدل له ما أخرجه عبد الرزاق،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 331.
(2)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 473.
(3)
القائل هو: صاحب "المرعاة".
والفريابيّ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبرانيّ، والحاكم، وصححه عن أبي رزين، قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، فقرأ:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17]، قال: صلاة المغرب والعشاء، {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، قال: صلاة الصبح، {وَعَشِيًّا} صلاة العصر، {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] صلاة الظهر.
فهذا تفسير الصحابي اللغوي للصباح والمساء، ومثله عن مجاهد، فالمساء لا يكون إلا من بعد غروب الشمس، فأذكاره من ذلك الوقت نحو: أمسينا وأمسى الملك للَّه. . . إلخ. انتهى.
قلت
(1)
: فمن قال: إن المساء يدخل وقته بالزوال، والصباح يدخل وقته بانتصاف الليل، وإنه تدخل أوراد الصباح من نصف الليل الأخير، والمساء من الزوال، فقد أبعدَ جدًّا
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي الأَولى، أن تقال أذكار الصباح بعد طلوع الفجر، وأذكار المساء بعد غروب الشمس، لكن إن قُدّمت، أو أُخرت لا بأس فيها؛ لأن أهل اللغة وسَّعوا وقتهما، كما تقدّم في عبارة الفيّوميّ، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): قد تكلّم الحافظ أبو بكر الخطيب البغداديّ رحمه الله في الاختلاف الواقع في هذا الحديث، الذي أشار إليه مسلم هنا، فأخرج بسنده إلى قتيبة، نا عبد الواحد بن زياد، عن الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا، وأمسى الملك للَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللَّهُمَّ إني أسالك خير هذه الليلة، وخير ما فيها، وأعوذ بك من شر هذه الليلة، وشر ما قبلها، وأعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، وأعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر".
(1)
القائل هو: صاحب "المرعاة".
(2)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 238.
قال: إبراهيم المذكور في هذا الحديث هو ابن سويد النخعي بيَّن نَسَبه جرير بن عبد الحميد عن الحسن بن عبيد اللَّه في روايته هذا الحديث، ثم أخرج بسنده إلى جرير، عن الحسن -يعني: ابن عبيد اللَّه النخعيّ- عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال: كان نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا، وأمسى الملك للَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، نسألك خير هذه الليلة، وخير ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل، وأعوذ بك من عذاب في النار"، وإذا أصبح قال ذلك أيضًا:"أصبحنا، وأصبح الملك للَّه. . . ".
قال: في هذا الحديث ألفاظ لم يسمعها الحسن بن عبيد اللَّه بن إبراهيم بن سويد، وهي قوله:"له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، كان الحسن يرويها عن زُبيد الياميّ، عن إبراهيم بن سُويد، وأُدرجت في هاتين الروايتين.
وقد رَوَى محمد بن إسحاق السرّاج النيسابوريّ، وعليّ بن طيفور النسويّ، كلاهما عن قتيبة الحديث، ففصّلا هذه الكلمات، وميَّزاها، وبيَّنا أنها عن الحسن، عن زبيد، عن إبراهيم، وكذلك روى خالد بن عبد اللَّه المزنيّ، وزائدة بن قُدامة الثقفيّ، كلاهما عن الحسن بن عبيد اللَّه، ورواه عبد اللَّه بن إدريس الأوديّ، عن الحسن بن عبيد اللَّه، فلم يذكر الكلمات في حديثه.
فأما حديث محمد بن إسحاق السرّاج وعليّ بن طيفور عن قتيبة، فأخبرناه أبو بكر أحمد بن علي بن محمد اليزديّ الحافظ، أنا إبراهيم بن عبد اللَّه الأصبهانيّ المعدّل، أنا محمد بن إسحاق السرّاج، وأخبرنيه أبو الفرج الحسين بن عليّ بن عبد اللَّه الطناجيريّ، أنا عليّ بن عبد الرحمن البكائيّ بالكوفة، نا عليّ بن طيفور بن غالب النسويّ، قالا: نا قتيبة، نا عبد الواحد، عن الحسن بن عبيد اللَّه، نا إبراهيم بن سُويد، نا عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قال: "أمسينا، وأمسى الملك للَّه، والحمد للَّه، لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له". قال الحسن: فحدثني زُبيد أنه حَفِظ عن إبراهيم في هذا: "له الملك، وله الحمد، وهو على
كل شيء قدير، اللَّهُمَّ إني أسألك خير هذه الليلة، وأعوذ بك من شرّ هذه الليلة، وشرّ ما بعدها، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر"، لفظهم سواء، إلا في الحرف ونحوه.
وأما حديث خالد بن عبد اللَّه عن الحسن مثل حديث عبد الواحد هذا في بيان سماعه الكلمات من زُبيد، عن إبراهيم، فأخبرناه القاضي أبو عمر الهاشميّ، نا محمد بن أحمد اللؤلؤيّ، حدثنا أبو داود، نا وهب بن بقية، عن خالد.
قال أبو داود: ونا محمد بن قُدامة بن أعين، نا جرير، عن الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم بن سُويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أمسى: "أمسينا، وأمسى الملك للَّه، والحمد للَّه، لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له".
وأما زبيد كان يقول: كان إبراهيم بن سُويد يقول: "لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، زاد في حديث جرير:"رب أسألك خير ما في هذه الليلة، وخير ما بعدها، رب أعوذ بك من الكسل، ومن سوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب في النار، وعذاب في القبر"، وإذا أصبح قال ذلك أيضًا:"أصبحنا، وأصبح الملك للَّه. . . ".
قال أبو داود: رواه شعبة عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم بن سويد، قال:"من سوء الكبر"، ولم يذكر: مِن سوء الكفر.
قلت
(1)
: وكذلك رواه عثمان بن أبي شيبة عن جرير، قال:"من سوء الكبر" بالباء، وهو المحفوظ.
وأما حديث زائدة عن الحسن الموافق لرواية خالد هذه: فأخبرناه أبو بكر البرقانيّ، قال: قرأت على أبي الحسين محمد بن محمد الحجاجيّ، أخبركم محمد بن إسحاق بن خزيمة، نا موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ، نا
(1)
القائل هو الخطيب، فتنبّه.
الحسين بن عليّ، عن زائدة، عن الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم بن سُويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول إذا أمسى: "أمسينا، وأمسى الملك للَّه، والحمد له، ولا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، إني أسألك من خير هذه الليلة، وخير ما قبلها، وخير ما بعدها، اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من شر هذه الليلة، وشر ما قبلها، وشر ما بعدها، من الكسل، والجبن، والبخل، وفتنة الدنيا، وعذاب في النار، وعذاب في القبر"، قال الحسن: وزاد فيه زُبيد عن إبراهيم بن سُويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه؛ أنه قال في حديثه:"وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، وإذا أصبح قال مثلها.
وأما حديث عبد اللَّه بن إدريس عن الحسن بن عبيد اللَّه الذي لم يذكر فيه الكلمات التي عن زبيد، واقتصر على ما سمعه من إبراهيم بن سويد:
فأخبرناه عبد العزيز بن عليّ الأزجيّ، أنا محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب، نا الحسن بن عليّ بن شبيب المعمريّ، نا مصرف بن عمرو بن السريّ الأياميّ، نا عبد اللَّه بن إدريس، عن الحسن بن عبيد اللَّه، عن إبراهيم بن سويد، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، أو أمسى، قال:"أصبحنا، وأصبح الملك للَّه، لا إله إلا اللَّه، وحده، لا شريك له، رب أسألك من خير ما في هذا اليوم، وخير ما بعده، وأعوذ بك من شرّ هذا اليوم، وشرّ ما بعده، رب أعوذ بك من الكسل، وسوء الكبر، رب أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر". انتهى ما كتبه الخطيب رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6884]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْسَى قَالَ: "أَمْسَيْنَا، وَأَمْسَى الْمُلْكُ للَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، لَا إِلَهَ
(1)
"الفصل للوصل المدرَج" 1/ 551 - 556.
إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ"، قَالَ: أُرَاهُ قَالَ فِيهِنَّ: "لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، رَبِّ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَخَيْرَ مَا بَعْدَهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَشَرَّ مَا بَعْدَهَا، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ، وَعَذَابٍ فِي الْقَبْرِ"، وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: "أَصْبَحْنَا، وَأَصْبَحَ المُلْكُ للَّهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد الضبيّ.
وقوله: (قَالَ: أُرَاهُ قَالَ فِيهِنَّ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير الحسن بن عبيد اللَّه.
وقوله: (وَإِذَا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ أَيْضًا: "أَصْبَحْنَا، وَأَصْبَحَ الْمُلْكُ للَّهِ")؛ يعني: أنه صلى الله عليه وسلم إذا دخل في وقت الصباح قال هذا الذِّكر، لكنه يُبدل "أمسينا، وأمسى" بأصبحنا، وأصبح، ويُبدل أيضًا لفظ الليلة باليوم، فيقول: أسألك خير هذا اليوم، ويُذَكِّر به الضمائر.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله، وللَّه تعالى الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6885]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُويدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمْسَى قَالَ: "أَمْسَيْنَا، وَأَمْسَى الْمُلْكُ للَّهِ، وَالْحَمْدُ للَّهِ، لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَخَيْرِ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ، وَالْهَرَمِ، وَسُوءِ الْكِبَرِ، وَفِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَعَذَابِ الْقَبْرِ"، قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: وَزَادَنِي فِيهِ زُبَيْدٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَفَعَهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ) بن الوليد الجعفيّ الكوفيّ المقرئ، ثقةٌ عابدٌ [9](ت 3 أو 204) وله أربع، أو خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 11/ 154.
2 -
(زَائِدَةُ) بن قُدامة الثقفي، أبو الصَّلْت الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، صاحب سُنَّة [7] (ت 160) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.
والباقون ذُكروا في الباب.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6886]
(2724) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"ليث" هو: ابن سعد الإمام المصريّ المشهور، و"والد سعيد" هو: كيسان المقبريّ، مولى بني ليث.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير قتيبة، فبغلانيّ، والليث، فمصريّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) منصوب على الحال بتأويله بالنكرة، كما قال في "الخلاصة":
وَالْحَالُ إِنْ عُرِّفَ لَفْظًا فَاعْتَقِدْ
…
تَنْكِيرَهُ مَعْنًى كَـ "وَحْدَكَ اجْتَهِدْ"
والتقدير: حال كونه منفردًا، وقال في "العمدة": منصوب على تقدير: أُوَحِّد وحده. قوله: "أعز"؛ أي: أعز اللَّه جنده ونَصَر عبده النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: (أَعَزَّ)؛ أي: أعزّ اللَّه (جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ) النبيّ محمدًا صلى الله عليه وسلم، (وَغَلَبَ الأَحْزَابَ)
الذين جاؤوا من أهل مكة وغيرهم يوم الخندق، حال كونه (وَحْدَهُ) وقال النوويّ: أي: غلب قبائل الكفار المتحزبين عليهم وحده؛ أي: من غير قتال الآدميين، بل أرسل عليهم ريحًا وجنودًا لم تروها. انتهى
(1)
.
(فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ")؛ أي: جميع الأشياء بالنسبة إلى وجوده كالعدم، أو بمعنى كل شيء يفنى، وهو الباقي بعد كل شيء، فلا شيء بعده، قال اللَّه تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فلا شيء بعده"؛ أي: لا شيء ينصر، ولا يدفع غيره. انتهى
(2)
.
[فإن قلت]: هذا سجع، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ذَمّ السجع، حيث قال مُنْكِرًا:"أسجعٌ كسجع الكهان؟ ".
[أجيب]: بأن المنكر والمذموم السجع الذي يأتي بالتكلف، وبالتزام ما لا يلزم، وسجعه صلى الله عليه وسلم من السجع المحمود؛ لأنه جاء بانسجام، واتفاق، على مقتضى السجيّة، وكذلك وقع منه في أدعية كثيرة، من غير قَصْد لذلك، ولا اعتماد إلى وقوعه موزونًا، مُقَفًّى بقصده إلى القافية، قاله في "العمدة"
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6886](2724)، و (البخاريّ) في "المغازي"(4114)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 430)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 307 و 340 و 494)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6887]
(2725) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَاصِمَ بْنَ كُلَيْبٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 43.
(2)
"المفهم" 7/ 50.
(3)
"عمدة القاري" 17/ 188 - 189.
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُل: اللَّهُمَّ اهْدِنِي، وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبِ) بن شهاب بن المجنون الْجَرميّ الكوفيّ، صدوقٌ، رُمي بالإرجاء [5] مات سنة بضع (130)(خت م 4) تقدم في "اللباس والزينة" 16/ 5479.
2 -
(عَلِيُّ) بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الهاشميّ الخليفة الراشد، مات رضي الله عنه في رمضان سنة أربعين، وله ثلاث وستون سنةً على الأرجح (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.
والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن إدريس" هو: عبد اللَّه بن إدريس الأوديّ الكوفيّ، و"أبو بردة" هو: ابن أبي موسى الأشعريّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، فقد سكن عليّ رضي الله عنه الكوفة، ومات بها، وهو ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته فاطمة رضي الله عنهما، ومن السابقين الأولين، ورجّح جماعة أنه أول مَن أسلم، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وأحد الخلفاء الأربعة، ومات يوم مات، وهو أفضل الأحياء من بني آدم بالأرض بإجماع أهل السُّنَّة والجماعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، وقيل: اسمه كنيته. (عَنْ عَلِيِّ) بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُل" وفي رواية النسائيّ: "يا عليّ قل": (اللَّهُمَّ اهْدِنِي)؛ أي: ارزقني الهدى إلى الطريق الحقّ، (وَسَدِّدْنِي)؛ أي: ارزقني السَّدَاد، وهو الاستقامة، (وَاذْكُرْ)؛ أي: اقصد بقلبك (بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ) المستقيم، (وَالسَّدَادِ) بالجرّ عطفًا على "الهدى"، وقوله:(سَدَادَ السَّهْمِ") بالنصب عطفًا على "الطريق"، ففيه عَطْف المعمولين على معمولي عاملين مختلفين، وفيه الخلاف المشهور بين النحاة.
قال النوويّ رحمه الله: أما السَّداد هنا بفتح السين، وسَداد السهم: تقويمه،
ومعنى "سددني": وفّقني، واجعلني منتصبًا في جميع أموري، مستقيمًا، وأصل السَّداد: الاستقامة، والقصد في الأمور، وأما الهدى هنا فهو الرشاد، ويذكّر، ويؤنث، ومعنى "اذكر بالهدى هدايتك الطريق، وبالسداد سداد السهم"؛ أي: تذكّر ذلك في حال دعائك بهذين اللفظين؛ لأن هادي الطريق لا يزيغ عنه، ومسَدِّد السهم يَحرص على تقويمه، ولا يستقيم رميه حتى يقوِّمه، وكذا الداعي ينبغي أن يحرص على تسديد علمه، وتقويمه، ولزومه السُّنَّة، وقيل: ليتذكر بهذا لفظ السداد والهدى لئلا ينساه. انتهى
(1)
.
وقال المناويّ: قال القاضي: أمَره بأن يسأل اللَّه الهداية، والسداد، وأن يكون في ذلك مُخْطِرًا بباله أن المطلوب هداية كهداية من ركَبِ متن الطريق، وأخذ في المنهج المستقيم، وسدادًا كسداد السهم نحو الغرض، والمعنى: أن يكون في سؤاله طالبًا غاية الهدى، ونهاية السداد. انتهى.
وقال الراغب: التسديد أن يقوِّم إرادته، وحركته نحو الغرض المطلوب؛ ليهجم إليه في أسرع مدة يمكن الوصول فيها إليه، وهو المسؤول بقوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 6].
وقال بعضهم: معناه: إذا سألت الهدى فأخطر بقلبك هداية الطريق؛ لأن سالك الفلاة يلزم الجادّة، ولا يفارقها خوفًا من الضلال، وكذا الرامي إذا رمى شيئًا سدّدَ السهم نحوه؛ ليصيبه، فأَخْطِرْ ذلك بقلبك؛ ليكون ما تنويه من الدعاء على شاكلة ما تستعمله في الرمي.
وقال القونويّ: اشتَرَط في هذا الحديث صحة الاستحضار للأمر المطلوب من الحق حال الطلب، وذلك لأن الأجابة تابعة للتصور، فالأصح تصوّرًا للحقّ تكون أدعيته مجابة، وصحة التصور تابعة للعلم المحقّق، والشهود الصحيح، ولهذا قال في الحديث الآتي:"لو عرفتم اللَّه حقّ معرفته لزالت بدعائكم الجبال"
(2)
، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا كان تام الشهود كانت أكثر
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 43 - 44.
(2)
هذا حديث منكَر، لا يصلح للاحتجاج به، كما بيّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله في "السلسلة الضعيفة".
أدعيته مستجابة، وهكذا من داناه في المعرفة من الأنبياء، والأولياء، وهؤلاء هم الموعودون بالإجابة متى دعوا بالدعاء المشار إليه بقوله تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، فمن لم يَعرف، ولم يَستحضر حال الدعاء بضرب ما من ضروب الاستحضارات الصحيحة لم يدع الحقّ، فلم يستجب له. انتهى
(1)
.
وقال الخطّابيّ رحمه الله: قوله: "واذكر بالهدى هداية الطريق"؛ معناه: أن سالك الطريق والفلاة إنما يؤمّ سَمْتَ الطريق، ولا يكاد يفارق الجادّة، ولا يَعدِل عنها يَمْنَةً ويَسْرَةً، خوفًا من الضلال، وبذلك يُصيب الهداية، وينال السلامة.
يقول: إذا سألت اللَّه الهدى، فأَخْطِرْ بقلبك هداية الطريق، وَسَلِ اللَّه الهدى، والاستقامة، كما تتحرّاه في هداية الطريق إذا سلكتها.
وقوله: "واذكر بالسداد تسديد السهم"؛ معناه: أن الرامي إذا رمى غَرَضًا سدّد بالسهم نحو الغرض، ولم يَعدل عنه يمينًا ولا شمالًا؛ ليُصيب الرميّةَ، فلا يطيش سهمه، ولا يُخفق سعيه.
يقول: فأَخْطر المعنى بقلبك، حين تسأل اللَّه السداد؛ ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله في الرمي. انتهى كلام الخطابيّ رحمه الله
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم يدلّ على أن الذي ينبغي له أن يُهتمّ بدعائه، فيستحضر معاني دعواته في قلبه، ويُبالغ في ذكرها بلفظه بضرب من الأمثال، وتأكيد الأقوال، فإذا قال: اهدني الصراط المستقيم، وسدّدني سَداد السهم الصائب، كان أبلغ، وأهمّ من قوله: اهدني، وسدّدني فقط، وهذا واضحٌ. انتهى
(3)
واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 6887 و 6888](2725)، و (أبو داود) في
(1)
"فيض القدير" 4/ 524.
(2)
"معالم السنن" 6/ 116.
(3)
"المفهم" 7/ 53 - 54.
"الخاتم"(4225)، و (الترمذيّ) في "اللباس"(1786)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(8/ 177) وفي "الكبرى"(5/ 455)، و (ابن ماجه) في "اللباس"(3648)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(161)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 134 و 154 و 138)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(998)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 298)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 332 و 452)، و (البزّار) في "مسنده"(2/ 119 و 184)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 201)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3149)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6888]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي: ابْنَ إِدْرِيسَ- أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالسَّدَادَ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن نُمير؛ أي: ذكر ابن نمير عن عبد اللَّه بن إدريس بسنده مثل حديث أبي كريب.
[تنبيه]: رواية ابن نمير، عن عبد اللَّه بن إدريس هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(19) - (بَابُ التَّسْبِيحِ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَعِنْدَ النَّوْمِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6889]
(2726) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ؛ أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ
مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً، حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ:"مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ "، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن عُبيد القرشيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6](بخ م 4) تقدم في "الطلاق" 1/ 3659.
3 -
(كُرَيْبُ) بن أبي مسلم الهاشميّ مولاهم، المدنيّ، أبو رِشْدين، مولى ابن عباس، ثقةٌ [3](ت 98)(ع) تقدم في "الحيض" 2/ 688.
4 -
(جُوَيْرِيَةُ) بنت الحارث بن أبي ضِرَار الْخُزاعيّة من بني المصطَلِق، أم المؤمنين، كان اسمها بَرّة، فغيّره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسَبَاها في غزوة المريسيع، ثم تزوجها، وماتت سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدمت في "الزكاة" 50/ 2483.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل بابين، و"سفيان" هو: ابن عيينة.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّة.
شرح الحديث:
(عَنْ جُويرِيَةَ) تصغير جارية، وهي جويرية بنت الحارث بن أبي ضِرار الْخُزَاعية، من بني المصطلِق، أم المؤمنين رضي الله عنهما، كان اسمها برّة، فغيَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى جُويرية، فصارت عَلَمًا لها، فلهذا لا ينصرف، سَبَاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الْمُرَيسِيع، وهي غزوة بني المصطلِق، في سنة خمس، أو ست، وكانت تحت مُسافع بن صفوان المصطلقيّ، وقد قُتل في هذه الغزوة،
وكانت قد وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شَمّاس، أو ابن عمّ له، فكاتَبَته على نفسها، فأتت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تستعينه على كتابتها، فقالت: يا رسول اللَّه! أنا جويرية بنت الحارث سيّد قومه، وقد أصابني من الأمر ما لم يَخْفَ عليك، فوقعتُ في السهم لثابت بن قيس، أو لابن عمّ له، فكاتَبْته على نفسي، وجئتك أستعينك، فقال لها:"هل لك في خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول اللَّه؟ قال: "أقضي كتابتك، وأتزوجك"، قالت: نعم، قال:"قد فعلتُ"، فبلغ الناس أنه قد تزوجها، فقالوا: أصهار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلِق، فلقد أعتق اللَّه بها مائة أهل بيت من بني المصطلق، قالت عائشة رضي الله عنها: فما أعلم امرأة أعظم بركة منها على قومها.
وأخرج ابن سعد في "الطبقات" عن أبي قلابة؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سبى جويرية، فجاء أبوها، فقال: إن ابنتي لا يُسبى مثلها، فخلّ سبيلها، فقال: أرأيت إن خيَّرتها، أليس قد أحسنت؟ قال: بلى، فأتاها أبوها، فذكر لها ذلك، فقالت: قد اخترت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: هذا مرسل صحيح الإسناد، وماتت سنة خمسين على الصحيح، قال الخزرجيّ: لها أحاديث انفرد البخاريّ بحديثين، ومسلم بمثلهما. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: كون جُويرية بنت الحارث الخزاعيّة هي أم المؤمنين رضي الله عنها هو الصواب، وقد أخطأ ابن حيَّان حيث قال في "صحيحه" بعد إخراج الحديث ما نصّه: جويرية هي بنت الحارث بن عبد المطّلب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد ردّ ذلك عليه العلماء، فقالوا: هذا خطأ من ابن حيَّان، والصواب أنها جويرية بنت الحارث الخزاعيّة المصطلِقيّة، أم المؤمنين رضي الله عنها، فراجع "الإصابة"
(2)
وغيرها، واللَّه تعالى أعلم.
(أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً) بضمّ الموحّدة، وسكون الكاف: أول النهار، قال الفيّوميّ رحمه الله: البُكْرة من الغداة: جمعها بُكَر، مثلُ غُرْفة
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 915.
(2)
"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 570 - 571.
وغُرَف، وأبكار جمع الجمع، مثلُ رُطَب وأرطاب، وإذا أريد بُكرة يوم بعينه مُنعت الصرف؛ للتأنيث والعلميّة. انتهى
(1)
.
(حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ) متعلّق بـ "خَرَجَ"، وقال في "المرعاة": قوله: "حين صلى الصبح"؛ أي: أراد صلاة الصبح؛ يعني: أراد أن يصلي فرض الصبح. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا) بفتح الجيم، وتُكسر؛ أي: موضع صلاتها، والجملة حالية. (ثُمَّ رَجَعَ) صلى الله عليه وسلم إليها (بَعْدَ أَنْ أَضْحَى)؛ أي: دخل في الضحوة، وهي ارتفاع النهار، قال الفيّوميّ: الضَّحَاءُ بالفتح، والمدّ: امتداد النهار، وهو مذكّر، كأنه اسم للوقت، والضَّحْوَةُ مثله، والجمع ضُحًى، مثلُ قَرْية وقُرًى، وارتفعت الضُّحَى؛ أي: ارتفعت الشمس، ثم استُعملت الضُّحَى استعمال المفرد، وسُمّي بها، حتى صُغِّرت على ضُحَيٍّ، بغير هاء، وقال الفراء: كَرِهوا إدخال الهاء؛ لئلا يلتبس بتصغير ضَحْوَةٍ. انتهى
(3)
.
(وَهِيَ جَالِسَةٌ) جملة حاليّة أيضًا؛ أي: والحال أنها جالسة في موضعها، وفي رواية أبي داود:"فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهي في مصلاها، ورجع، وهي في مصلاها"، وفي رواية أحمد، والترمذيّ، والنسائيّ:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ عليها بُكرةً، وهي في المسجد تَذْكُر، ثم مَرّ بها قريبًا من نصف النهار"، ولابن ماجه:"مَرّ بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين صلى الغداة، أو بعدما صلى الغداة، وهي تذكر اللَّه، فرجع حين ارتفع النهار، أو قال: انتصف، وهي كذلك"، وفي "الأدب المفرد":"ثم رجع إليها بعدما تعالى النهار، وهي في مجلسها".
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَا) نافية، (زِلْتِ) بكسر التاء، خطاب لجويرية على تقدير الاستفهام؛ أي: أثَبَتِّ في مكانك، وما زلت؟.
[تنبيه]: "زِلْتِ" بكسر الزاي ماضي يَزال، كخاف يخاف، يقال: مَا زَالَ يفعل كذا، ولا أَزَالُ أفعله، لا يُتَكلَّم به إلا بحرف النفي، والمراد به: ملازمة الشيء، والحال الدائمة، مثل ما بَرِحَ وزنًا ومعنى، وقد تكلم به بعض العرب
(1)
"المصباح المنير" 1/ 58.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 915.
(3)
"المصباح المنير" 2/ 358.
على أصله، فقال: مَا زَيلَ زيد يفعل كذا، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
و"زال يزال" من الأفعال الأربعة التي تنسخ المبتدأ والخبر بشرط تقدّم نفي، أو شِبهه، كما قال في "الخلاصة":
كَكَانَ ظَلَّ بَاتَ أَضْحَى أَصْبَحَا
…
أَمْسَى وَصَارَ لَيْسَ زَالَ بَرِحَا
فَتِئ وَانْفَكَّ وَهَذِي الأَرْبَعَهْ
…
لِشِبْهِ نَفْيٍ أَوْ لِنَفْيٍ مُتْبَعَهْ
وضمير المؤنَّثة هنا اسمها، وخبرها قوله:(عَلَى الْحَالِ) هو مما يجوز تذكيره، وتأنيثه، ولذا قال:(الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ ")؛ أي: من الجلوس على ذِكر اللَّه تعالى، وفي رواية أبي داود:"لم تزالي في مصلاك هذا؟ "، وفي "الأدب المفرد":"ما زِلت في مجلسك؟ ". (قَالَتْ) جُويرية: (نَعَمْ)؛ أي: ما زلت، قال الفيّوميّ رحمه الله: قولهم في الجواب: نَعَمْ معناها: التَّصْدِيقُ، إن وقعت بعد الماضي، نحو: هلِ قام زيد؟ والوَعْدُ، إن وقعت بعد المستقبل، نحو: هل تقوم؟ قال سيبويه: نعَمْ عِدَةٌ، وتصديقٌ، قال ابن بابشاذ: يريد أنها عِدَةٌ في الاستفهام، وتصديق للإخبار، ولا يريد اجتماع الأمرين فيها في كل حال، قال النِّيليُّ: وهي تُبقي الكلام على ما هو عليه، من إيجاب، أو نفي؛ لأنها وُضعت لتصديق ما تقدّم، من غير أن ترفع النَّفي، وتُبطله، فإذا قال القائل: ما جاء زيد، ولم يكن قد جاء، وقلت في جوابه: نَعَمْ، كان التقدير: نعم ما جاء، فصدقت الكلام على نفيه، ولم تبطل النفيَ، كما تبطله بَلَى، وإن كان قد جاء، قلت في الجواب: بَلَى، والمعنى: قد جاء، فَنَعَمْ تُبقي النفي على حاله، ولا تُبطله، وفي التنزيل:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، ولو قالوا: نَعَمْ كان كفرًا؛ إذ معناه: نعم، لست بربنا؛ لأنها لا تزيل النفي، بخلاف بَلَى، فإنها للإيجاب بعد النفي. انتهى
(2)
.
(قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ)؛ أي: بعد أن خرجت من عندك، أو بعدما فارقتك (أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ) بنصب "أربع" على المصدر؛ أي: تكلمت بعد مفارقتك أربع كلمات، وقال الطيبيّ: قوله: "أربع كلمات" يقتضي تقدير الناصب في كل من المنصوبات؛ إذ الكلمات خمس، كأنه قيل: سبحان اللَّه
(1)
"المصباح المنير" 1/ 261.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 614.
وبحمده عدد خلقه، وسبحان اللَّه وبحمده رضا نفسه، وهلمّ جرّا.
[فإن قلت]: كيف صرّح في القرينة الأولى بالعدد، وفي الثالثة بالزِّنَة، وعزل الثانية والرابعة عنهما؟.
[قلت]: ليؤذِن بأنهما لا يدخلان في جنس المعدود، والموزون، ولا يحصرهما المقدار، لا حقيقةً، ولا مجازًا، فيحصل الترقّي حينئذ من عدد الخلق إلى رضا اللَّه، ومن زنة العرش إلى مداد الكلمات. انتهى
(1)
.
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ) بالبناء للمفعول، (بِمَا قُلْتِ)؛ أي: بجميع ما قلت من الذكر من أول النهار إلى هذا الوقت.
وقوله: (مُنْذُ الْيَوْمِ)؛ أي: في هذا اليوم.
[فائدة]: قال المجد رحمه الله في "القاموس": "مُنْذُ": بَسيطٌ، مَبْنيٌّ على الضم، و"مُذْ" محذوفٌ منه، مَبْنِيٌّ على السكونِ، وتُكسرُ مِيمُهُما، ويَليهما اسمٌ مجرورٌ، وحينئذ: حَرْفا جَرّ بمعنى "مِنْ" في الماضي، و"في" في الحاضِرِ، و"منْ وإلى" جميعًا في المَعْدودِ، كما رأيتُهُ مُنْذُ يومِ الخميسِ، واسمٌ مرفوعٌ: كمُنْذُ يومانِ، وحينئذ: مُبْتدآنِ، ما بعدَهما خَبرٌ، ومعناهُما: الأَمَدُ في الحاضِرِ، والمَعدودِ، وأوَّلُ المُدَّةِ في الماضِي، أو ظَرْفانِ مُخْبَرٌ بِهِما عَمَّا بعدَهما، ومعناهُما: بينَ وبينَ، كَلَقِيتُه مُنْذُ يومانِ؛ أي: بينِي وبينَ لقائِهِ يومانِ، وتَليهما الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ، نحوُ:
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ
أو الاسْمِيَّةُ:
وَمَا زِلْتُ أبْغِي المالَ مُذْ أنا يافِعُ
وحينئذٍ: ظَرْفانِ مُضافانِ إلى الجُمْلَةِ، أو إلى زمانٍ مُضافٍ إليها، وقيلَ: مُبْتَدَآنِ، وأصلُ مُذْ: مُنْذُ؛ لِرُجوعِهِم إلى ضم ذالِ مُذْ عندَ مُلاقاةِ الساكنينِ، كمُذُ اليومِ، ولولا أن الأَصلَ الضمُّ لكَسَرُوا، ولتَصْغِيرِهِم إيَّاهُ على مُنَيْذٍ، أو إذا كانتْ مُذْ اسمًا فأَصْلُها مُنْذُ، أو حَرْفًا فهي أصلٌ، ويقالُ: ما لقِيتُه مُنْذَ اليوم، ومُذَ اليومِ، بفتح ذالِهِما، أو أصْلُها "مِن" الجارَّةُ، و"ذُو" بمعنى الذي، أو "منْ
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1823.
إذْ" حُذِفَت الهمزةُ، فالْتَقَى ساكنانِ، فضُمَّ الذالُ، أو أصْلُها مِنْ ذَا اسمَ إشارةٍ، فالتقديرُ في ما رَأيْتُهُ مُذ يومانِ: من ذَا الوَقْتِ يومانِ، وفي كُلِّ تَعَسُّفٌ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أشار ابن مالك إلى قاعدة "مذْ"، و"منذ" في "الخلاصة" حيث قال:
وَ"مُذْ" وَ"مُنْذُ" اسْمَانِ حَيْثُ رَفَعَا
…
أَوْ أُولِيَا الْفِعْلُ كَـ "جئْتُ مُذْ دَعَا"
وَإِنْ يَجُرَّا فِي مُضِيٍّ فَكَـ "مِنْ"
…
هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ
وقال في "المرعاة": "منذ" بضم الميم، وقد تُكسر "اليوم" بالجرّ، على ما هو المختار، و"منذ" على هذا حرف جر بمعنى "من"، أو "في"؛ أي: من ابتداء النهار، أو في الوقت المذكور، ويجوز رفع "اليوم". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وجه رفع "اليوم" على أنه خبر لـ "منذ"، أو هو مبتدأ، و"منذ" خبر مقدّم، كما هو مقرّر في محلّه
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
(لَوَزَنَتْهُنَّ)؛ أي: عَدَلتهنّ في الميزان، يقال: وزَنَ الشيءُ وزنًا: ثَقُل، وزِنته: عادَلته بغيره، ومنه قوله:"لا يزن عند اللَّه جناح بعوضة"؛ أي: لا يَعْدل؛ أي: لا قَدْر له، قاله في "المشارق"
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "لوزنتهنّ"؛ أي: لَرَجَحت عليهنّ في الثواب، وهو دليلٌ على أن الدعوات، والأذكار الجوامع يحصل عليهنّ من الثواب، أضعاف ما يحصل على ما ليست كذلك، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب الدعوات الجوامع. انتهى
(5)
.
وقال في "المرعاة": "لوزنتهن" بفتح الزاي والنون؛ أي: ساوتهنّ في الوزن، يقال: هذا يزن درهمًا؛ أي: يساويه، أو غلبتهنّ في الوزن، يقال: وازنه، فوزن: إذا غلب عليه، وزاد في الوزن.
(1)
"القاموس المحيط" ص 431.
(2)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 918.
(3)
راجع: "شرح ابن عقيل على الخلاصة" مع "حاشية الخضريّ" عليه 1/ 476.
(4)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 2/ 569.
(5)
"المفهم" 7/ 52.
وقال القاضي: أي: لرجحت تلك الكلمات على جميع أذكاركِ، وزادت عليهنّ في الأجر والثواب، والضمير راجع إلى "ما" باعتبار المعنى. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ نقلًا عن التوربشتيّ
(2)
: "لوزنتهنّ"؛ أي: ساوتهنّ، أو لو قُوبلت بما قلت لساوتهنّ، ويَحْتَمِل أن يراد الرجحان؛ أي: رجحت عليهنّ في الوزن، كما تقول: حاججته، فحَجَجته؛ أي: غلبته في الحجة، وأعاد الضمير إلى ما يقتضيه المعنى، لا إلى لفظة "ما" في قوله:"ما قلتِ"، وفيه تنبيهٌ على أنها كلمات كثيرة. انتهى
(3)
.
(سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الكلام على اختصاره جملتان:
إحداهما: جملة "سبحان اللَّه"، فإنَّها واقعة موقع المصدر، والمصدر يدلّ على صدره، فكأنه قال: سبّحت اللَّه التسبيح الكثير، أو التسبيح كلَّه، على قول من قال: إن "سبحان اللَّه": اسم عَلَمٌ للتسبيح، "وبحمده" متعلِّق بمحذوف تقديره: وأُثني عليه بحمده؛ أي: بذكر صفات كماله، وجلاله، فهذه جملة ثانية، غير الجملة الأولى. انتهى
(4)
.
(عَدَدَ خَلْقِهِ) قال في "المرعاة": هو وما عُطف عليه منصوبات بنزع الخافض، ويقدَّر المقدار في الثلاثة الأخيرة؛ أي: بعدد جميع مخلوقاته.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "عدد خلقه" وكذلك ما بعده نُصب على المصدر؛ أي: سبّحته تسبيحًا يساوي خلقه عند التعداد، وزنة عرشه، ومداد كلماته في المقدار، ويوجب رضا نفسه، أو يكون ما يرتضيه لنفسه.
وقال المظهر
(5)
: "عدد خلقه" منصوب على المصدر؛ أي: أعدّ تسبيحه، وتحميده بعدد خلقه، وبمقدار ما يرضاه خالصًا، وبثِقَل عرشه، ومقداره، وبمقدار كلماته.
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 918.
(2)
سيأتي تعقب السيوطيّ عليه قريبًا.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1822.
(4)
"المفهم" 7/ 52.
(5)
سيأتي تعقّب السيوطيّ على كلامه قريبًا.
وقال التوربشتيّ
(1)
: "زنة عرشه" ما يوازنه في القدر والرزانة، يقال: هو زنة الجبل؛ أي: حذاؤه في الثقل والرزانة، والمداد مصدر، تقول: مددت الشيء أمُدّه مدًّا، ومِدادًا، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون جمع مُدّ بالضمّ؛ أي: مكيال، فإنه يُجمع على مِداد. انتهى
(2)
.
(وَرِضَا نَفْسِهِ)؛ أي: بمقدار رضا ذاته الشريفة؛ أي: بمقدارٍ يكون سببًا لرضاه تعالى، أو بمقدار يرضي به لذاته، ويختاره، فهو مثل ما جاء:"ومِلْأَ ما شئت من شيء بعد"، وفيه إطلاق النفس عليه تعالى من غير مشاكلة، وبمقدار ثِقَل عرشه، وبمقدار زيادة كلماته؛ أي: بمقدارٍ يساويهما يساوي العرش وزنًا، والكلمات عددًا، وقيل: نَصْب الكل على الظرفية، بتقدير: قَدْر؛ أي: قَدْر عدد مخلوقاته، وقَدْر رضاه. . . إلخ، وقيل: نصب هذه الألفاظ على المصدرية؛ أي: أَعُدّ تسبيحه المقرون بحمده عدد خلقه، وأُقَدِّر مقدار ما يرضى لنفسه، وزنة عرشه، ومقدار كلماته. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "ورضا نفسه": يعني: أن رضاه عمن رضي عنه من النبيين والصالحين لا ينقطع، ولا ينقضي، وإنما ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الأمور على جهة الإغياء، والكثرة التي لا تنحصر، منبّهًا على أن الذاكر بهذه الكلمات ينبغي له أن يكون بحيث لو تمكّن من تسبيح اللَّه، وتحميده، وتعظيمه عددًا لا يتناهى، ولا ينحصر لفعل ذلك، فحصل له من الثواب ما لا يدخل في حساب. انتهى
(4)
.
(وَزِنَةَ عَرْشِهِ)؛ أي: قَدْر وَزْن عرشه، ولا يعلم وزنه إلا اللَّه تعالى.
(وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ") بكسر الميم، قيل: معناه: مثلها في العدد، وقيل: مثلها في عدم النفاد، وقيل: مثلها في الكثرة، وقيل: في الثواب، والمداد مصدر مثل المدد، وهو ما كثّرت به الشيء، قاله النوويّ
(5)
.
(1)
سيأتي تعقّب السيوطي عليه قريبًا.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1822.
(3)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 919.
(4)
"المفهم" 7/ 53.
(5)
"شرح النوويّ" 17/ 44، و"مرعاة المفاتيح" 7/ 918.
وقال القرطبيّ: قوله: "مداد كلماته" هو بكسر الميم، وبأَلِف بين الدالَيْن، ويعني به: كلامه القديم المنَزَّه عن الحروف، والأصوات، وعن الانقطاع، والتغييرات، كما قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)} [الكهف: 109]. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ من نفي الحروف والأصوات، في كلام اللَّه تعالى مخالف لمذهب المحقّقين من السلف، ومَنْ بعدهم من أن اللَّه تعالى يتكلم بحرف وصوت، ويُسمعه من يشاء، ويكلّم من شاء إذا شاء متى شاء، وإنما دعا القرطبي إلى هذا اعتقادُه كما هو مذهب الأشاعرة أن كلام اللَّه عبارة عن الكلام النفسيّ الذاتيّ، وأن ما أنزل من القرآن، وغيره من كلامه تعالى عبارة عن ذلك الكلام النفسيّ، وهذا غير صحيح، بل هو مذهب باطل مخالف لمذهب السلف، كما استوفيت البحث في ذلك في "المنحة الرضية شرح التحفة المرضيّة" في الأصول، فراجعه
(1)
تستفد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال في "النهاية": أي: مثل عددها، وقيل: قدر ما يوازيها في الكثرة عِيَارَ كيل، أو وزن، أو عدد، أو ما أشبهه من وجوه الحصر والتقدير، وهذا تمثيل يراد به التقريب؛ لأن الكلام لا يدخل في الكيل والوزن، وإنما يدخل في العدد، والمداد مصدر كالمدد، يقال: مددت الشيءَ مدًا، ومدادًا، وهو ما يكثر به، ويزاد. انتهى
(2)
.
وقال النوويّ: قال العلماء: واستعماله هنا مجاز؛ لأن كلمات اللَّه تعالى لا تُحْصَر بعدّ، ولا غيره، والمراد: المبالغة به في الكثرة؛ لأنه ذَكَر أوّلًا ما يحصره العدد الكثير، من عدد الخلق، ثم ارتقى إلى ما هو أعظم من ذلك، وعبَّر عنه بهذا؛ أي: ما لا يحصيه عدد كما لا تحصى كلمات اللَّه تعالى. انتهى
(3)
.
وقال في "اللمعات": وهذا ادّعاء، ومبالغة في تكثيرها، كأنه تكلم بهذا
(1)
راجع: "المنحة" 1/ 295 - 311.
(2)
"النهاية في غريب الأثر" ص 861.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 44.
المقدار، فلا يتجه أن يقال: إنه ما معنى أسبّحه بهذا المقدار، سواء كان خبرًا، أو إنشاء، وهو لم يسبّح إلا واحدًا. انتهى.
وقال السنديّ: [فإن قلت]: كيف يصحّ تقييد التسبيح بالعدد المذكور، مع أن التسبيح هو التنزيه عن جميع ما لا يليق بجنابه الأقدس، وهو أمر واحد في ذاته، لا يقبل التعدد، وباعتبار صدوره عن المتكلم لا يمكن اعتبارُ هذا العدد فيه؛ لأن المتكلم لا يقدر عليه، ولو فُرض قدرته عليه أيضًا لَمَا صحّ تعلق هذا العدد بالتسبيح، إلا بعد أن صدر منه بهذا العدد، أو عزم على ذلك، وأما بمجروإنه قال مرةً: سبحان اللَّه لا يحصل منه هذا العدد؟.
[قلت]: لعل التقييد بملاحظة استحقاق ذاته الأقدس. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث جُويرية رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6889 و 6890](2726)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 225)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1503)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3555)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3/ 77) وفي "الكبرى"(6/ 48) وفي "عمل اليوم والليلة"(161 و 163 و 164)، و (ابن ماجه) في "الآداب"(3808)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 258 و 6/ 324 - 325 و 429 و 430)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 282 - 283)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 232)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(828 و 832)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 162، 163)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(5/ 438)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7068)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1297)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 919.
1 -
(منها): بيان استحباب الذكر بهذه الأذكار؛ لكثرة ثوابها.
2 -
(ومنها): بيان أن بعض الأذكار مع وجازة ألفاظه يكون أكثر من كثير من الألفاظ، وذلك فضل اللَّه سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].
3 -
(ومنها): ما قاله بعضهم: هذه الفضائل التي جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده مائة مرة غفر له. . . "، وما شاكلها إنما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، والطهارة من الجرائم العظام، ولا يُظَنّ أن مَنْ فَعَل هذا، وأصرّ على ما شاء من شهواته، وانتهك دِين اللَّه، وحرماته، أنه يُلحق بالسابقين المطهرين، وينال منزلتهم في ذلك بحكاية أحرف ليس معها تُقًى، ولا إخلاص، ولا عمل، ما أظلمه لنفسه، من يتأول دين اللَّه على هواه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لقد أجاد هذا القائل، وأفاد، فإنه لا ينبغي الاغترار بفضائل هذه الأذكار ونحوها من الأعمال الصالحات، بل لا بدّ أن يكون صاحبها متخلّيًا عن الأخلاق الرذيلة، ومتحلّيًا بالأخلاق الجميلة، كي ينال بهذه الأذكار والدعوات أجرًا عظيمًا، وفضلًا جسيمًا، فليتقّ اللَّه في نفسه، ويلزم السُّنَّة، ويجتنب البدع والمخالفات، وإلا فلا يطمع في نيل ما أعدّ من الفضائل فيها؛ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شرّ ما قضيت، آمين.
(المسألة الرابعة): بعد أن كتبت ما تقدّم في شرح هذا الحديث وجدت رسالة للحافظ العلامة السيوطيّ رحمه الله كتبها في إعراب الكلمات الماضية: "عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" قد أجاد البحث فيها، وأفاد، وتعقّب بعض ما تقدّم من إعراب بعض الناس، فأحببت كتابتها بنصّها هنا تكميلًا للفائدة، ونشرًا للعائدة، فأقول: قال رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للَّه الذي لا تأخذه سِنَة، ولا يُقَدَّر لعرشه زِنَة. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي نَزَّل عليه أفصحَ الحديث، وأحسنه.
[وبعد]: فقد سئلت عن وجه النصب في قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان اللَّه وبحمده، زنة عرشه، ورضا نفسه، وعدد خلقه، ومداد كلماته".
والجواب عندي: أن هذه الكلمات الأربع منصوبات على تقدير الظرف، والتقدير: قدرَ زنة عرشه، وكذا البواقي، فلما حُذف الظرف قام المضاف إليه مقامه في إعرابه، فهذا الإعراب هو المتجه المطَّرد السالم من الانتقاض، وقد ذَكَر السائل: أنه هل يصحّ أن يكون منصوبًا على المصدر، أو على الحال، أو على حذف الخافض؟
وأقول: أما النصب على المصدر فقد ذكره المظهر في "شرح المصابيح"، قال: عدد خلقه منصوب على المصدر؛ أي: أَعُدّ تسبيحه وتحميده بعدد خلقه، وبمقدار ما يرضاه خالصًا، وبثقل عرشه، ومقداره، وبمقدار كلماته، وسَبَقه إلى ذلك الأشرف في "شرحه" قال: عدَد خَلْقه، وكذلك ما بعده منصوب على المصدر؛ أي: سبّحته تسبيحًا يساوي خلقه عند التعداد، وزنة عرشه، ومداد كلماته في المقدار، يوجب رضا نفسه. انتهى.
فإن أراد بذلك أن نفسه مصدر، وأنه منصوب على أنه مفعول مطلق، فلا يخفى ما فيه، فإنه لا يكون مصدرًا للتسبيح، كما هو واضح، بل يكون مصدرًا لفعل من الزِّنَة، ويكون التقدير: سبحان اللَّه أزنه زنة عرشه، ولا يخفى فساد هذا التقدير؛ لأنه ليس المراد إنشاء وزن التسبيح، بل المراد إنشاء قول التسبيح، والمعنى: أقول: سبحان اللَّه قولًا كثيرًا مقدار زنة عرشه في الكثرة والعظم، وعلى تقدير فعل الزنة يكون المعنى: أَزِن التسبيح زنة عرشه، وهو ظاهر الفساد، ثم إذا قُدِّر في الأخرى أَعُدّه عدد خلقه، كما أفصح به المظهريّ أدى إلى أن المعنى إنشاء عدّ التسبيح، وليس مرادًا، بل المراد: أقوله قولًا عدد خلقه، ثم لا يمكنه ذلك في رضا نفسه، فإن قيل: يقدَّر: أُرضيه رضا نفسه، قلنا: حينئذ يعود الضمير على غير التسبيح، وهي في أزنه، وأعدّه عائد على التسبيح، فيختل التناسق في الكلمات، ثم لا يمكن ذلك في مداد كلماته بلا مرية.
ويبقى على المظهر تعقّبان:
أحدهما: أن عددًا لو كان مصدرًا لم يجئ بالفتح؛ لأن مصدر عَدّ على فَعْل بسكون العين، فيجب أن يُدْغَم، فيقال: عَدًّا بالتشديد، كرَدّ، ومَدّ، وشدّ، قال تعالى:{إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم: 84].
والثاني: أنه قال: منصوب على المصدر، ثم قال: أي: أَعُدّ تسبيحه بعدد خلقه، فأدخل عليه الباء، وليس هذا شأن المصدر الذي هو مفعول مطلق، لا يقال: ضربت زيدًا يضرب في موضع ضربته ضربًا، ثم قال: وبمقدار ما يرضاه، وبثقل عرشه، ومقداره، وبمقدار كلماته، وهذا كله يبطل القول بأنه منصوب على المصدر، ويؤول إلى نزع الخافض، أو الظرفية، فإن النصب على الظرفية، ونَزْع الخافض متقاربان، فإن الظرف منصوب على إسقاط الخافض الذي هو "في"، غير أنه باب مطّرد، والنصب بنزع الخافض في غير الظرف غير مطّرد، فاتجه بذلك أنه منصوب على الظرف بتقدير قَدْر، وقد صرّح بذلك الخطابيّ في "معالم السنن"، قوله:"ومداد كلماته"؛ أي: قدر ما يوازنها في العدد والكثرة.
وقال ابن الأثير في "النهاية": "ومداد كلماته"؛ أي: مثل عددها، وقيل: قَدْر ما يوازنها في الكثرة عِيارَ كيل، أو وزن، أو ما أشبهه، وهذا تمثيل يراد به التقريب. انتهى.
فأشار بقوله: "مِثْل" إلى المصدر، أو الوصف، وبقوله:"وقيل: قَدْر" إلى الظرف.
وقال الشيخ أكمل الدين في "شرح المشارق": قوله: "عدد خلقه"؛ أي: عددًا كعدد خلقه، وزنة عرشه؛ أي: بمقدار وزنه، ورضا نفسه؛ أي: غير منقطع، فأشار إلى أن لكل واحدة إعرابًا على حِدَة، الأولى مصدر، والثانية ظرف، والثالثة حال، ولا شكّ أن تساوي الكل في الإعراب حيث أمكن أَولى، وتقدير "قَدْر" في كل منهما صحيح، فاتجه نصب الكل على الظرف، بتقدير "قَدْر".
[فإن قيل]: لم يصرح أحد بأن قَدْر انتصب على الظرف.
[قلت]: ذلك لعدم اطلاعك في أمهات الكتب، وقد صرح الخطيب
التبريزيّ والمرزوقيّ كلاهما في "شرح الحماسة" وقول الشاعر [من الطويل]:
فَسَايَرْتُهُ مِقْدَارَ مِيلٍ وَلَيْتَنِي
وفي قوله [من الطويل]:
هَلِ الْوَجْدُ إِلَّا أَنَّ قَلْبِيَ لَوْ دَنَا
…
مِنَ الْجَمْرِ قِيدَ الرُّمْحِ لَاحْتَرَقَ الْجَمْرُ
بأن نصب مقدار وقِيد كلاهما على الظرف، وقِيد بمعنى قَدْر. قال ابن شمعون في "شرح الإيضاح" في قول الفرزدق [من الكامل]:
مَا زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَدَاهُ إِزَارَهُ
…
فَسَمَا فَأَدْرَكَ خَمْسَةَ الأَشْبَارِ
يجوز نصب خمسة الأشبار نصب الظرف بِسَمَا بتقدير مضاف؛ أي: سما مقدار خمسة الأشبار.
وقال جماعة في حديث أن موسى عليه السلام سأل ربه أن يُدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر: إن رمية نُصِب على الظرف، بتقدير: قد رأى قَدْر رمية بحجر.
وقال الطيبيّ في "شرح المشكاة" في حديث فضل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضُعفًا: قوله: سبعين مفعول مطلق، أو ظرف؛ أي: تَفْضُل مقدار سبعين.
وقال أبو البقاء في حديث "من فارق الجماعة شبرًا": هو منصوب على الظرف، والتقدير: قَدْر شبر.
وقال الطيبيّ في حديث "من تقرب إليّ شبرًا تقربت منه ذراعًا، ومن تقرب إليّ ذراعًا تقربت منه باعًا": شبرًا، وذراعًا، وباعًا، في الشرط والجزاء منصوبان على الظرفية؛ أي: من تقرَّب إليّ مقدار شبر.
وقال أيضًا في حديث "من ظلم شبرًا من أرض": المفعول به محذوف، وشبرًا يجوز أن يكون مفعولًا؛ أي: ظلم شبرًا، ومفعولًا فيه، مقدار شبر.
وقال أيضًا في حديث أنه صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حُضْر فرسه: نصب حُضر على حذف المضاف؛ أي: قَدْر ما يعدو عدوة واحدة.
ثم إن المسألة منصوصة في كتب النحو. قال ابن مالك في "التسهيل": الصالح للظرفية القياسية ما دلّ على مقدار، وقال في الألفية:
وَقَدْ يَنُوبُ عَنْ مَكَانٍ مَصْدَرُ
…
وَذَاكَ فِي ظَرْفِ الزَّمَانِ يَكْثُرُ
وقال ابن هشام في "التوضيح": ينوب المصدر عن الظرف إذا كان مُعَيّنًا لمقدار، نحو: انتظرتك حلبَ ناقة.
وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": قال الصفّار في "شرح الكتاب": أعلم أن المصدر إذا استُعمِل في معنى الظرف جاز أن يضاف إلى الفعل، تقول: أتيتك ريث قام زيد؛ أي: قَدْر بطء قيامه، فلما خرجت إلى الظرف جاز فيها ما جاز في الظرف.
ثم إن نَصْب زِنَة بخصوصها على الظرفية منصوص عليه من سيبويه، وأئمة النحو.
قال ابن مالك في "شرح التسهيل": من البخاري مجرى ظرف الزمان باطّراد مصادر، قامت مقام مضاف إليها تقديرًا، نحو قولهم: هو قرب الدار، ووزن الجبل، وزِنَته.
والمراد بالاطّراد: أن لا تختص ظرفيته بعاملٍ مّا، كاختصاص ظرفية المشتقّ من اسم الواقع فيه. انتهى.
وقال أبو حيان في "شرح التسهيل": وذكر سيبويه من المنتصب ظرفًا: صددك، وصفيك، ووزن الجبل، وزنة الجبل، وأقطار البلاد، وهذه كلها ينصبها الفعل اللازم لإبهامها. انتهى.
وقال في "الارتشاف": فرّق سيبويه بين وزن الجبل، وزنة الجبل، فمعنى وزن الجبل: ناحية توازنه؛ أي: تقابله قريبةً كانت منه، أو بعيدةً، وزنة الجبل: حذاءه؛ أي: متصلة به، وكلاهما مبهم، يصل إليهما الفعل، وينتصب ظرفًا. انتهى.
وقد قال التوربشتي شارح "المصابيح" في هذا الحديث: زنة عرشه: ما يوازنه في القَدْر، يقال: هو زنة الجبل؛ أي: حذاؤه في الثقل والرّزانة. انتهى.
وهذا منه إيماء إلى تخريج الحديث على الظرفية، وقد خرّجوا على الظرفية ما هو أبلغ من ذلك، رُوي أن معاوية استَعْمَل ابن أخيه عمرو بن عُتبة بن أبي سفيان على صدقات كلب، فاعتدى عليهم، فقال ابن العَدّاء الكلبيّ [من البسيط]:
سَعَى عِقَالًا فَلَمْ يَتْرُكْ لَنَا سَبَدًا
(1)
…
فَكَيْفَ لَوْ قَدْ سَعَى عَمْرٌو عِقَالَيْنِ
قال ابن الأثير في "النهاية": نصب عقالً على الظرف، أراد: مُدَة عقال، والعقال: صدقة عامٍ. وقال ابن يعيش في "شرح المفصّل": من المنصوب على الظرف قولهم: سِيْرَ عليه ترويحتين، وانتُظِر به نحو جزورين، والمراد مدة ذلك، والترويحتين تثنية الترويحة: واحدة التراويح في الصلاة.
وقال أبو البقاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "ليصلّ أحدكم نشاطه": إنه منصوب على تقدير الظرف؛ أي: مدة نشاطه، فحَذَفه، وأقام المصدر مقامه.
وقال الأشرف في "شرح المصابيح": يجوز أن يكون نشاطه بمعنى الوقت، وأن يراد به الصلاة التي نشط لها.
[فإن قلت]: فما تقول في نصبه على الصفة للمصدر؟.
[قلت]: هذا ذكره طائفة، وأقول: لا يخلو إما أن يجعل صفة للمصدر المذكور، وهو سبحان، أو لمقدّر:
فأمَّا الأول: فيعكر عليه الفصل بينه وبين موصوفه بقوله: "وبحمده"، وذلك ضعيف، أو ممنوع، مع أن عندي في جواز وصف سبحان وقفةٌ، فإنه غير متصرف، ولم يستعمل إلا عَلَمًا للتسبيح، منصوبًا ولم يتصرف فيه بشيء.
وأما الثاني: وهو أن يجعل التقدير سبحان اللَّه تسبيحًا زنة عرشه، ففيه وقفة من وجوه:
الأول: أنه تقدير ما لا حاجة إليه؛ لأن المصدر يصرِّح به في اللفظ، فأي حاجة إلى تقدير مصدر آخر؟
الثاني: أن المصدر المذكور منصوب بفعل مقدَّر، فإذا قُدّر مصدر آخر لزم منه تقدير ثلاثة: فعل المصدر الظاهر، والمصدر المقدر، وفعل آخر له؛ لأن الفعل الواحد لا ينصب مصدرين، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك.
الثالث: أن الكلام لا يصح إلا بتقدير آخر؛ لأن التسبيح ليس نفس الزنة، فيكون التقدير: مثل زنة عرشه، وإذا آل الأمر إلى تقدير، فالمراد المثلية في المقدار، فرجع إلى ما قلناه من الظرفية، خصوصًا أن قوله:"رضا نفسه" لا
(1)
السبد بالباء محرّكةً: القليل.
يصح فيه تقدير المثالية، ولهذا قال الأشرف: يساوي خلقه عند التعداد، وزنة عرشه في المقدار، ويوجب رضا نفسه، فأخرجه عن حَيِّز المساواة، وتقدير قَدْر صحيح فيه؛ أي: قَدْرًا يبلغ رضا نفسه.
[فإن قلت]: بقي وجه إبطال الحال.
[قلت]: إذا قُدّر أسبح، أو أقول: سبحان اللَّه موازنًا لعرشه، فإن جُعل حالًا من الفاعل نافره أن المفعول هنا مطلق، والمعهود مجيء الحال من المفعول به، ولا يمكن كونه من المضاف إليه، كما لا يخفى، ولا يطّرد التقدير بالمشتقّ في مداد كلماته، كما هو ظاهر، فبطل الحال.
وبقي من الوجوه الممكنة في إعرابه أربعة:
أحدها: أن يجعل مفعولًا به لفعل، أو وصف مقدر؛ أي: يبلغ زنة عرشه، أو بالغًا زنة عرشه.
الثاني: أن يكون القول مقدارًا، وسبحان اللَّه مفعول أول، وزنة عرشه مفعول ثان على لغة من يُجري القول مُجرى الظنّ بلا شرط.
الثالث: أن يكون خبرًا لكان، مقدرةً هي واسمها ضميرًا راجعًا إلى التسبيح، ويُقدّر إما بصيغة المضارع، أو اسم الفاعل.
الرابع: وهو خاصّ برضا نفسه أن يُجعل مفعولًا له على جعل الرضا بمعنى الإرضاء، كقولك: سبّحت ابتغاء وجه اللَّه.
وكلها لا يعوَّل عليها، والعمدة على الأول، واللَّه أعلم آخره، والحمد للَّه. انتهى ما كتبه العلامة المحقّق السيوطيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6890]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي رِشْدِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ جُويرِيَةَ، قَالَتْ: مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى صَلَاةَ
(1)
"رفع السُّنَّة في نصب الزنة" للسيوطيّ رحمه الله، من مجموع كتابه "الحاوي للفتاوي" 2/ 284 - 288.
الْغَدَاةِ
(1)
، أَوْ بَعْدَمَا صَلَّى الْغَدَاةَ، فَدَكَرَ نَحْوَهُ، فَغَيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنَ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.
2 -
(مِسْعَرُ) بن كِدَام -بكسر أوله، وتخفيف ثانيه- ابن ظُهير الهلاليّ، أبو سلمة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ [7](ت 3 أو 155)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"إسحاق" هو: ابن راهويه، و"أبو رِشدين" بكسر الراء، والدال هو: كريب، مولى ابن عبَّاس المذكور قبله.
[فائدة]: قال الإمام النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بعد إخراجه الحديث من طريق مسعر بسند المصنّف ما نصّه:
قال أبو عبد الرحمن: أبو رِشدين هو: كريب، مولى ابن عباس، وابنه رِشدين بن كريب ضعيف، وأخوه محمد بن كريب ليس بالقويّ، إلا أنه أصلح قليلًا، وكريب ثقة، وليس في موالي ابن عباس ضعيف، إلا شعبة مولى ابن عباس، فإن مالكًا قال: لم يكن يُشْبه القراء. انتهى
(2)
.
وقوله: (مَرَّ بِهَا. . . إلخ) فيه التفات؛ إذ الأصل: مرّ بي.
وقوله: (أَوْ بَعْدَمَا صَلَّى)"أو" فيه للشكّ من الراوي.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) فاعل "ذَكَر"، وكذا الضمائر بعده لمسعر.
[تنبيه]: رواية مسعر عن محمد بن عبد الرحمن هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" بسند المصنّف، فقال:
(3808)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن بشر، ثنا مِسعر، حدّثني محمد بن عبد الرحمن، عن أبي رِشدين، عن ابن عباس، عن جويرية، قالت: مَرّ بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين صلى الغداة، أو بعدما صلى الغداة، وهي
(1)
وفي نسخة: "حين صلى الغداة".
(2)
"السنن الكبرى" 6/ 49.
تذكر اللَّه، فرجع حين ارتفع النهار، أو قال: انتصف، وهي كذلك، فقال:"لقد قلتُ منذ قمتُ عنكِ أربع كلمات، ثلاث مرات، وهي أكثر، وأرجح، أو أوزن مما قلتِ: سبحان اللَّه، عدد خلقه، سبحان اللَّه رضا نفسه، سبحان اللَّه زنة عرشه، سبحان اللَّه مداد كلماته". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6891]
(2727) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا عَلِيُّ؛ أَنَّ فَاطِمَةَ اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنَ الرَّحَى فِي يَدِهَا، وَأَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ، فَلَمْ تَجِدْهُ، وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ إِلَيْهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا، وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَلَى مَكَانِكُمَا"، فَقَعَدَ بَيْنَنَا، حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ
(2)
: "أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا، أَنْ تُكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ").
رجال هذا الإسناد: صبعة:
1 -
(الْحَكَمُ) بن عُتيبة، أبو محمد الْكِنديّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، إلا أنه رُبّما دَلَّس [5](ت 113) أو بعدها، وله نيف وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
2 -
(ابْن أَبِي لَيْلَى) هو: عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [3] اختُلف في سماعه من عمر رضي الله عنه مات بوقعة الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل: إنه غَرِق (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه شيخيه من التسعة الذين روى عنهم
(1)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1251.
(2)
وفي نسخة: "وقال: ألا".
الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه تقدّم القول فيه قبل حديثين.
شرح الحديث:
(عَنِ الْحَكَمِ) هو ابن عُتيبة بمثناة، وموحّدة، مصغّرًا، فقيه أهل الكوفة؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي لَيْلَى) هو عبد الرحمن، قال:(حَدَّثَنَا عَلِيُّ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ فَاطِمَةَ) بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها (اشْتَكَتْ) وفي رواية البخاري: "شَكَت"، (مَا تَلْقَى) بفتح أوله وثالثه، من باب تَعِب؛ أي: الذي تجده (مِنَ الرَّحَى) قال الفيّوميّ: الرَّحَى مقصورًا: الطاحون، والضِّرْس أيضًا، والجمع: أَرْحٍ، وأَرْحَاءٌ، مثلُ سبب وأسباب، وربما جُمعت على أَرْحِيَةٍ، ومَنَعه أبو حاتم، وقال: هو خطأ، وربما جُمعت على رُحيٍّ على فُعُولٍ، وقال ابن الأنباريّ: والاختيار أن تُجمَع الرَّحَى على أَرْحَاءٍ، والقفا على أَقفاء، والندى على أَنداء؛ لأن جمع فَعَلٍ على أَفْعِلة شاذّ، وقال الزجاج أيضًا: الرَّحَى أنثى، وتصغيرها: رُحَيَّةٌ، والجمع: أَرْحَاءٌ، ولا يجوز أَرْحِيَةٌ؛ لأن أَفْعِلة جَمْع الممدود، لا المقصور، وليس في المقصور شيء يُجمع على أَفعِلة، قال ابن السِّكِّيت: والتثنية: رَحَيَانٍ، ورَحَوَانٍ. انتهى
(1)
.
(فِي يَدِهَا) زاد بَدَلُ بن الْمُحَبَّر في روايته: "مما تَطْحَن"، وفي رواية القاسم مولى معاوية عن عليّ عند الطبرانيّ:"وأرَتْه أثرًا في يدها من الرحى".
وفي زوائد عبد اللَّه بن أحمد في مسند أبيه، وصححه ابن حبان، من طريق محمد بن سيرين، عن عَبِيدة بن عمرو، عن عليّ:"اشتكت فاطمة مَجْل يدها"، وهو بفتح الميم، وسكون الجيم، بعدها لام، معناه: التقطيع.
وقال الطبريّ: المراد به: غِلَظ اليد، وكلّ مَن عَمِل عملًا بكفه، فغَلُظ جلدها قيل: مَجِلت
(2)
كفه.
وعند أحمد من رواية هُبيرة بن يَرِيم عن عليّ: "قلت لفاطمة: لو أتيت
(1)
"المصباح المنير" 1/ 223.
(2)
مجل من بابي نصر، وفَرِح. اهـ. "ق".
النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسألتيه خادمًا، فقد أجهدك الطحن، والعمل"، وعنده وعند ابن سعد، من رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عليّ: "أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما زوَّجه فاطمة. . . " فذكر الحديث، وفيه: "فقال عليّ لفاطمة ذات يوم: واللَّه لقد سَنَوْت حتى اشتكيت صدري، فقالت: وأنا واللَّه لقد طحنت حتى مَجِلت يداي".
وقوله: "سنوت " بفتح السين المهملة، والنون؛ أي: استقيت من البئر، فكنت مكان السانية، وهي الناقة.
وعند أبي داود من طريق أبي الورد بن ثُمامة، عن عليّ بن عبد، عن عليّ:"قال: كانت عندي فاطمة بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فجَرَّت بالرحى حتى أثَّرت بيدها، واستقت بالقِربة حتى أثّرت في عنقها، وقَمَّت البيتَ حتى اغبرت ثيابها"، وفي رواية له:"وخبزت حتى تغيَّر وجهها".
وقوله: (وَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) جملة حاليّة بتقدير "قد"، أو دون تقديرها على خلاف بين النحاة. (سَبْيٌ) مرفوع على الفاعليّة لـ "أتى"، و"السبي" بفتح السين المهملة، وسكون الموحّدة، آخره مثنّاة تحتانيّة؛ أي: عبيد مسبيّون، يقال: سَبَيْتُ العدوّ سَبْيًا، من باب رمى: إذا أَسَرْته، والاسم: السِّبَاءُ، وزانُ كتاب، والقصر لغة، وأَسْبَيْتُهُ مثلُه، فالغلام سَبِيٌّ، ومَسْبِيّ -بالتشديد- والجارية سَبِيَّة، ومَسْبِيَّةٌ -بالتشديد أيضًا- وجمعها سَبَايَا، مثلُ عطيّة وعطايا، وقوم سَبْيٌ -بالتخفيف- وصفٌ بالمصدر، قال الأصمعيّ: لا يقال للقوم إلا كذلك، قاله الفيّوميّ
(1)
.
ووقع في بعض النسخ بلفظ: "فأُتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسبيٍ"، فالفعل على هذا مبنيٌّ للمفعول، فتنبّه.
وفي رواية البخاريّ: "قوله: فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا"؛ أي: جارية تخدمها، ويُطلق أيضًا على الذكر، وفي رواية السائب:"وقد جاء اللَّه أباك بسبي، فاذهبي إليه، فاستخدميه"؛ أي: اسأليه خادمًا، وزاد في رواية يحيى القطان، عن شعبة:"وبلَغها أنه جاءه رقيق"
(2)
.
(1)
"المصباح المنير" 1/ 265، بزيادة من "القاموس" ص 592.
(2)
"الفتح" 14/ 315، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
(فَانْطَلَقَتْ)؛ أي: ذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (فَلَمْ تَجِدْهُ) صلى الله عليه وسلم، وفي رواية:"فلم تصادفه" وفي رواية: "فلم توافقه"، وهي بمعنى تصادفه، وفي رواية:"فأتته، فوجدت عنده حُدّاثًا -بضم الحاء المهملة، وتشديد الدال، وبعد الألف مثلثة؛ أي: جماعة يتحدثون- فاستحْيَتْ، فرجَعَت"، فيُحْمَل على أن المراد: أنها لم تجده في المنزل، بل في مكان آخر كالمسجد، وعنده من يتحدث معه
(1)
.
(وَلَقِيَتْ) بكسر القاف، (عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها (فَأخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ)؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم (عَائِشَةُ) رضي الله عنها (بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ) رضي الله عنها (إِلَيْهَا) وفي رواية مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عند جعفر الفِرْيابيّ في "الذكر"، والدارقطني في "العلل":"حتى أتت منزل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم توافقه، فذكرت ذلك له أم سلمة، بعد أن رجعت فاطمة".
ويُجمع بأن فاطمة التمسته في بيتَيْ أمَّي المؤمنين.
وقد وردت القصة من حديث أم سلمة نفسها، أخرجها الطبريّ في "تهذيبه" من طريق شهر بن حوشب عنها، قالت:"جاءت فاطمة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة. . . " فذكرت الحديث مختصرًا.
وفي رواية السائب: "فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك يابنية؟ قالت: جئت لأسلّم عليك، واستحْيَت أن تسأله، ورجعت، فقلت: ما فعلتِ؟ قالت: استحييت".
قال الحافظ: وهذا مخالف لِمَا في "الصحيح"، ويمكن الجمع بأن تكون لم تَذْكر حاجتها أوّلًا على ما في هذه الرواية، ثم ذكرتها ثانيًا لعائشة لمّا لم تجده، ثم جاءت هي وعليّ على ما في رواية السائب، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر بعض.
وقد اختصره بعضهم، ففي رواية مجاهد عند البخاريّ:"أن فاطمة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، فقال: ألا أخبرك ما هو خير لك منه؟ ".
وفي رواية هُبيرة: "فقالت: انطَلِقْ معي، فانطلقتُ معها، فسألناه، فقال: ألا أدلكما. . . " الحديث.
(1)
"الفتح" 14/ 315، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
ووقع عند مسلم من حديث أبي هريرة الآتي بعد هذا: "أن فاطمة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، وشَكَت العمل، فقال: ما ألْفَيته عندنا"، وهو بالفاء؛ أي: ما وجدته، ويُحْمَل على أن المراد: ما وجدته عندنا فاضلًا عن حاجتنا إليه؛ لِمَا ذَكَر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصُّفّة، ففي رواية السائب:"فأتيناه جميعًا، فقلت: بأبي يا رسول اللَّه، واللَّه لقد سَنَوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: لقد طحنت حتى مَجَلت يداي، وقد جاءك اللَّه بسَبْي وسَعة، فأخْدِمنا، فقال: واللَّه لا أعطيكما، وأدَعُ أهل الصفة تُطْوَى بطونهم، لا أجد ما أُنفق عليهم، ولكني أبيعهم، وأنفق عليهم أثمانهم"
(1)
.
قال عليّ رضي الله عنه: (فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْنَا)؛ أي: إلى عليّ وفاطمة رضي الله عنهما، (وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا) جملة حاليّة؛ أي: والحال أننا قد أخذنا في أسباب النوم، وتهيّأنا له، ووقع في رواية عَبيدة بن عمرو، عن عليّ رضي الله عنه عند ابن حبان من الزيادة:"فأتانا، وعلينا قطيفة، إذا لَبِسناها طولًا خرجت منها جنوبنا، وإذا لبسناها عرضًا خرجت منها رؤوسنا وأقدامنا"، وفي رواية السائب:"فرجعا، فأتاهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد دخلا في قطيفة لهما، إذا غَطَّيا رءوسهما، تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما، تكشفت رؤوسهما".
(فَذَهَبْنَا)؛ أي: شَرَعنا (نَقُومُ) تعظيمًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"فذهبت أقوم"، وفي رواية:"فذهبنا لنقوم"، وفي رواية:"فقاما".
(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَى مَكَانِكُمَا")؛ أي: استَمِرّا على ما أنتما عليه، وفي رواية:"مكانَكما"، وهو منصوب على الإغراء؛ أي: الزما مكانكما. (فَقَعَدَ بَيْنَنَا) ولفظ البخاريّ: "فجلس بيننا"، وفي رواية:"فقعد بيني وبينها"، وفي رواية عند النسائيّ:"أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى وضع قدمه بيني وبين فاطمة".
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "على مكانكما"؛ أي: اثبتا على مكانكما، والزماه، وقعوده صلى الله عليه وسلم بينهما دليل على جواز مثل ذلك، وأنه لا يعاب على من فعله إذا لم يؤدّ ذلك إلى اطلاع على عورة، أو إلى شيء ممنوع شرعًا. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 14/ 316، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
(2)
"المفهم" 7/ 55.
(حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي) قال النووي رحمه الله: كذا هو في نُسخ مسلم: "قدمه" مفردةً، وفي رواية البخاريّ:"قدميه" بالتثنية، وهي زيادة ثقة لا تخالف الأُولى. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "لا تخالف"؛ أي: لأن المفرد المضاف يعمّ، فيتناول القدمين، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية عطاء، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عند جعفر الفريابيّ في "الذكر" من الزيادة:"فخرج، حتى أتى منزل فاطمة، وقد دخلت هي وعليّ في اللحاف، فلما استأذن هَمّا أن يلبسا، فقال: كما أنتما، إني أُخبرتُ أنكِ جئت تطلبين، فما حاجتك؟ قالت: بلغني أنه قَدِم عليك خَدَم، فأحببت أن تعطيني خادمًا يكفيني الخبز والعجن، فإنه قد شقّ عليّ، قال: فما جئت تطلبين أحب إليك، أو ما هو خير منه؟ قال عليّ: فغمزتها، فقلت قولي: ما هو خير منه أحب إليّ، قال: فإذا كنتما على مثل حالكما الذي أنتما عليه. . . "، فذكر التسبيح.
وفي رواية: "فجلس عند رأسها، فأدخلت رأسها في اللفاع حياءً من أبيها".
قال الحافظ رحمه الله: ويُحمل على أنه فعل ذلك أوّلًا، فلما تآنست به دخل معهما في الفراش مبالغةً منه في التأنيس.
وزاد في رواية: "فقال: ما كان حاجتك أمس، فسكتت مرتين، فقلت: أنا واللَّه أحدثك يا رسول اللَّه، فذكرته له".
ويُجمع بين الروايتين بأنها أوّلًا استحيت، فتكلم عليّ عنها، فأنشطت للكلام، فأكملت القصة.
واتَّفَق غالب الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم جاء إليهما، ووقع في رواية شَبَث -وهو بفتح المعجمة، والموحدة، بعدها مثلثة- ابن ربعيّ، عن عليّ، عند أبي داود، وجعفر في "الذكر"، والسياق له:"قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم سبي، فانطلق عليّ وفاطمة، حتى أتيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أتى بكما؟ قال عليّ: شقّ علينا العمل، فقال: ألا أدلكما". وفي لفظ جعفر: "فقال عليّ لفاطمة: ائت أباك، فاسأليه أن يُخدمك، فأتت أباها حين أمست، فقال: ما جاء بك يا بنيّة؟
قالت: جئت أسلم عليك، واستحيت، حتى إذا كانت القابلة، قال: أئت أباك -فذكر مثله- حتى إذا كانت الليلة الثالثة، قال لها عليّ: امشي، فخرجا معًا. . . " الحديث، وفيه: ألا أدلكما على خير لكما من حُمْر النَّعَم؟ ".
وفي مرسل عليّ بن الحسين عند جعفر أيضًا: "إن فاطمة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم تسأله خادمًا، وبيدها أثر الطحن من قطب الرحى، فقال: إذا أويت إلى فراشك. . . " الحديث.
فيَحْتَمِل أن تكون قصة أخرى، فقد أخرج أبو داود من طريق أم الحكم، أو ضُباعة بنت الزبير؛ أي: ابن عبد المطلب: "قالت: أصاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبيًا، فذهبت أنا وأختي فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نشكو إليه ما نحن فيه، وسألناه أن يأمر لنا بشيء من السبي، فقال: سبقكنّ يتامى بدر. . . "، فذكر قصة التسبيح إثر كل صلاة، ولم يذكر قصة التسبيح عند النوم، فلعله عَلَّم فاطمة في كل مرة أحد الذِّكرين.
وقد وقع في "تهذيب الطبريّ" من طريق أبي أمامة، عن عليّ في قصة فاطمة من الزيادة:"فقال: اصبري يا فاطمة، إن خير النساء التي نفعت أهلها"، ذكر هذا كلّه في "الفتح"
(1)
.
(ثُمَّ قَالَ) وفي نسخة: "وقال"؛ أي: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعليّ وفاطمة رضي الله عنهما: ("أَلا) بالتخفيف أداة تحضيض، (أُعَلمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا) وفي رواية البخاريّ:"فقال: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم"، وفي رواية:"مما سألتماني"، وفي رواية:"ألا أخبركما بخير مما سألتماني، فقالا: بلى، فقال: كلمات علمنيهنّ جبريل". (إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا) وفي الرواية التالية: "إذا أخذتما مضاجعكما من الليل"، وفي رواية البخاريّ:"إذا أويتما إلى فراشكما، أو أخذتما مضاجعكما" بالشك.
[تنبيه]: قال في "الفتح": زاد في رواية السائب: "تسبّحان دُبُر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبّران عشرًا". قال الحافظ: هذه الزيادة ثابتة في رواية عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عند
(1)
"الفتح" 14/ 317 - 318، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
أصحاب السنن الأربعة في حديثٍ، أوله:"خصلتان لا يُحصيهما عبد إلا دخل الجنة"، وصححه الترمذيّ، وابن حبان، وفيه ذِكر ما يقال عند النوم أيضًا.
قال: ويَحْتَمِل إن كان حديث السائب عن عليّ محفوظًا أن يكون عليّ ذكر القصتين اللتين أشرت إليهما قريبًا معًا، قال: ثم وجدت الحديث في "تهذيب الآثار" للطبريّ، فساقه من رواية حماد بن سلمة، عن عطاء، كما ذكرتُ، ثم ساقه من طريق شعبة، عن عطاء، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عليًّا وفاطمة إذا أخذا مضاجعهما بالتسبيح، والتحميد، والتكبير. . . فساق الحديث، فظهر أن الحديث في قصة عليّ وفاطمة، وأن من لم يذكرهما من الرواة اختصر الحديث، وأن رواية السائب إنما هي عن عبد اللَّه بن عمرو، وأن قول من قال فيه عن عليّ لم يُرِد الرواية عن عليّ، وإنما معناه عن قصة عليّ، وفاطمة، كما في نظائره. انتهى
(1)
.
(أَنْ تُكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ولفظ البخاريّ: "فكبّرا أربعًا وثلاثين، وسبّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين"، قال في "الفتح": كذا هنا بصيغة الأمر، والجزم بأربع في التَّكبير، وفي رواية بدل مثله، ولفظه:"فكبرا اللَّه"، ومثله للقطان، لكن قَدّم التسبيح، وأخَّر التَّكبير، ولم يذكر الجلالة، وفي رواية عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، وفي رواية السائب، كلاهما مثله، وكذا في رواية هُبيرة عن عليّ، وزاد في آخره:"فتلك مائة باللسان، وألف في الميزان"، وهذه الزيادة ثبتت أيضًا في رواية هُبيرة، وعمارة بن عبد معًا عن عليّ، عند الطبرانيّ، وفي رواية السائب كما مضى، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم كالأول، لكن قال:"تسبِّحين" بصيغة المضارع، وفي رواية عَبيدة بن عمرو:"فأمرنا عند منامنا بثلاث وثلاثين، وثلاث وثلاثين، وأربع وثلاثين، من تسبيح، وتحميد، وتكبير".
وفي رواية غندر للكشميهنيّ مثل الأول، وعن غير الكشميهنيّ:"تكبّران" بصيغة المضارع، وثبوت النون، وحُذفت في نسخة، وهي إما على أن "إذا" تعمل عمل الشرط، وإما حذفت تخفيفًا.
(1)
"الفتح" 14/ 317 - 318، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
وفي رواية مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عند البخاريّ في "النفقات" بلفظ:"تسبّحين اللَّه عند منامك"، وقال في الجميع:"ثلاثًا وثلاثين"، ثم قال في آخره: قال سفيان روايةً: "إحداهن أربع".
وفي رواية النسائيّ عن قتيبة، عن سفيان:"لا أدري أيها أربع وثلاثون".
وفي رواية الطبريّ من طريق أبي أمامة الباهليّ، عن عليّ في الجميع:"ثلاثًا وثلاثين، واختماها بلا إله إلا اللَّه".
وله من طريق محمد ابن الحنفية عن عليّ: "وكبّراه، وهلّلاه أربعًا وثلاثين"، وله من طريق أبي مريم عن عليّ:"احمدا أربعًا وثلاثين"، وكذا له في حديث أم سلمة، وله من طريق هُبيرة: أن التهليل أربع وثلاثون، ولم يذكر التحميد، وقد أخرجه أحمد من طريق هبيرة كالجماعة، وما عدا ذلك شاذّ.
وفي رواية عطاء، عن مجاهد، عند جعفر:"أشكُّ أيها أربع وثلاثون، غير أني أظنه التَّكبير"، وزاد في آخره:"قال عليّ: فما تركتها بعدُ، فقالوا له: ولا ليلة صِفِّين؟ فقال: ولا ليلة صِفّين"، وفي رواية القاسم مولى معاوية، عن عليّ:"فقيل لي"، وفي رواية عمرو بن مرة:"فقال له رجل"، وكذا في رواية هبيرة
(1)
.
(فَهُوَ)؛ أي: الذِّكر المذكور، (خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ") الخادم يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميّ رحمه الله: خَدَمَهُ يَخْدِمُهُ، -من بابي ضرب، ونصر- خِدْمَة، فهو خادم غلامًا كان، أو جاريةً، والخَادِمَةُ بالهاء في المؤنث قليل، والجمع خَدَمٌ، وخُدَّامٌ، وقولهم: فُلانَة خَادِمَة غَدًا ليس بوصف حقيقيّ، والمعنى: ستصير كذلك، كما يقال: حائضة غدًا، وأَخْدَمْتُهَا بالألف: أعطيتها خادمًا، وخَدَّمْتُهَا بالتثقيل للمبالغة والتكثير، واسْتَخْدَمْتُهُ: سألته أن يُخدمني، أو جعلته كذلك. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عليّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"الفتح" 14/ 319.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 165.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6891 و 6892 و 6893](2727)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3113) و"فضائل الصحابة"(3705) و"النفقات"(5361) و"الدعوات"(6318)، و (أبو داود) في "الخراج"(2988 و 2989) و"الأدب"(5062)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3408 و 3409)، و (النسائيّ) في "عشرة النساء"(290)، و (ابن السنّيّ) في "عمل اليوم والليلة"(744)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(19828)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 96 و 106 و 107 و 146 - 147)، و (الحميديّ) في "مسنده"(44)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5524 و 5529 و 6882 و 6883)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(551)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1322)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الذكر عند النوم بهذه الأذكار، ويُستفاد من تقييده بالليل في الرواية التالية حيث قال:"إذا أخذتما مضاجعكما من الليل" أن هذا الذكر خاصّ بنوم الليل، لا في القيلولة، واللَّه تعالى أعلم.
2 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: هذا نوع من الذكر عند النوم، ويمكن أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يقول جميع ذلك عند النوم، وأشار لأمته بالاكتفاء ببعضها إعلامًا منه أن معناه الحضّ والندب، لا الوجوب.
وقال عياض رحمه الله: جاءت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أذكار عند النوم مختلفة، بحسب الأحوال، والأشخاص، والأوقات، وفي كلٍّ فضل.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: وفي هذا الحديث حجة لمن فضَّل الفقر على الغني؛ لقوله: "ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم" فعلَّمهما الذكر، فلو كان الغني أفضل من الفقر لأعطاهما الخادم، وعلَّمهما الذكر، فلما منعهما الخادم، وقَصَرَهما على الذكر عُلم أنه إنما اختار لهما الأفضل عند اللَّه.
قال الحافظ: وهذا إنما يتم أن لو كان عنده صلى الله عليه وسلم من الخدّام فضلة، وقد صَرَّح في الخبر أنه كان محتاجًا إلى بيع ذلك الرقيق؛ لنفقته على أهل الصفّة، ومن ثَمّ قال عياض: لا وجه لمن استدَلّ به على أن الفقير أفضل من الغني. انتهى، وهو تعقّب جيّد، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه قد اختُلف في معنى الخيرية في الخبر، فقال عياض: ظاهره أنه أراد أن يُعَلِّمهما أن عمل الآخرة أفضل من أمور الدنيا على كل حال، وإنما اقتصر على ذلك لَمّا لم يمكنه إعطاء الخادم، ثم علّمهما إذ فاتهما ما طلباه ذكرًا يُحَصِّل لهما أجرًا أفضل مما سألاه.
وقال القرطبيّ: إنما أحالهما على الذكر؛ ليكون عوضًا عن الدعاء عند الحاجة، أو لكونه أحب لابنته ما أحب لنفسه من إيثار الفقر، وتَحَمّل شدته بالصبر عليه؛ تعظيمًا لأجرها.
وقال المهَلب: عَلّم صلى الله عليه وسلم ابنته من الذكر ما هو أكثر نفعًا لها في الآخرة، وآثر أهل الصفّة؛ لأنهم كانوا وقفوا أنفسهم لسماع العلم، وضبط السُّنَّة على شِبَع بطونهم، لا يرغبون في كسب مال، ولا في عيال، ولكنهم اشتروا أنفسهم من اللَّه بالقوت. انتهى.
5 -
(ومنها): أنه يؤخذ منه تقديم طلبة العلم على غيرهم في الخُمس.
6 -
(ومنها): بيان ما كان عليه السلف الصالح من شَظَف العيش، وقلة الشيء، وشدّة الحال، وأن اللَّه تعالى حماهم من الدنيا مع إمكان ذلك صيانةَ لهم من تبعاتها، وتلك سُنَّة أكثر الأنبياء، والأولياء.
7 -
(ومنها): بيان مشروعية خدمة المرأة بيت زوجها، والقيام بالطبخ، والخبز، والغسل ونحو ذلك، وهو على الوجوب على القول الراجح، وقد قدمنا البحث في هذا مستوفًى في غير هذا المحلّ، وللَّه الحمد والمنّة.
8 -
(ومنها): ما قاله إسماعيل القاضي رحمه الله: في هذا الحديث أن للإمام أن يقسم الخمس حيث رأى؛ لأن السبي لا يكون إلا من الخمس، وأما الأربعة الأخماس فهو حقّ الغانمين. انتهى. وهو قول مالك، وجماعة، وذهب الشافعيّ، وجماعة إلى أن لآل البيت سهمًا من الخمس.
قال الحافظ: ثم وجدت في "تهذيب الطبريّ" من وجه آخر ما لعله يعكر على ذلك، فساق من طريق أبي أمامه الباهليّ، عن عليّ رضي الله عنه قال: أُهدي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رقيق، أهداهم له بعض ملوك الأعاجم، فقلت لفاطمة: ائت أباك، فاستخدميه، فلو صحّ هذا لأزال الإشكال من أصله؛ لأنه حينئذ لا يكون للغانمين فيه شيء، وإنما هو من مال المصالح، يصرفه الإمام حيث يراه.
9 -
(ومنها): أن فيه حملَ الإنسان أهله على ما يَحمل عليه نفسه، من إيثار الآخرة على الدنيا، إذا كانت لهم قدرة على ذلك.
10 -
(ومنها): جواز دخول الرجل على ابنته، وزوجها بغير استئذان، وجلوسه بينهما في فراشهما، ومباشرة قدميه بعض جسدهما، قاله المهلّب.
وتعقّبه الحافظ في قوله: "بغير استئذان"، فقال: فيه نظر؛ لأنه ثبت في بعض طرقه أنه استأذن فقد ورد من رواية عطاء، عن مجاهد في "الذكر" لجعفر، وأصله عند مسلم، وهو في "العلل" للدارقطنيّ أيضًا بطوله.
وأخرج الطبريّ في "تهذيبه" من طريق أبي مريم: سمعت عليًّا يقول: "إن فاطمة كانت تدقّ الدَّرْمَك
(1)
بين حجرين، حتى مَجَلت يداها. . . " فذكر الحديث، وفيه: "فأتانا وقد دخلنا فراشنا، فلما استأذن علينا تخششنا لنلبس علينا ثيابنا، فلما سمع ذلك قال: كما أنتما في لحافكما".
ودفع بعضهم الاستدلال المذكور؛ لعصمته صلى الله عليه وسلم، فلا يلحق به غيره، ممن ليس بمعصوم
(2)
.
11 -
(ومنها): أن في الحديث منقبةً ظاهرةً لعليّ وفاطمة رضي الله عنهما.
12 -
(ومنها): أن فيه بيانَ إظهار غاية التعطف والشفقة على البنت والصهر، ونهاية الاتحاد رفع الْحِشْمة
(3)
والحجاب حيث لم يزعجهما عن مكانهما، فتركهما على حالة اضطجاعهما، وبالغ حتى أدخل رجله بينهما، ومكث بينهما حتى علّمهما ما هو الأَولى بحالهما من الذِّكر عوضًا عما طلباه من الخادم، فهو من باب تلقي المخاطب بغير ما يطلب؛ إيذانًا بأن الأهمّ من المطلوب هو التزود للمعاد، والصبر على مشاقّ الدنيا، والتجافي عن دار الغرور.
13 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: فيه دلالة على مكانة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث خصَّتها فاطمة بالسِّفَارة بينها وبين أبيها، دون سائر الأزواج.
(1)
"الدَّرْمَكُ" كجعفر: دقيق الْحُوَّارَى. اهـ "ق".
(2)
"الفتح" 14/ 321، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
(3)
"الْحَشْمة" بكسر، فسكون: الحياء، والانقباض. اهـ. "ق".
قال الحافظ: ويَحْتَمِل أنها لم تُرِد التخصيص، بل الظاهر أنها قصدت أباها في يوم عائشة في بيتها، فلمَّا لم تجده ذكرت حاجتها لعائشة، ولو اتَّفق أنه كان يوم غيرها من الأزواج لذكرت لها ذلك، وقد تقدم أن في بعض طرقه أن أم سلمة ذكرت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك أيضًا، فيَحْتَمِل أن فاطمة لمّا لم تجده في بيت عائشة مرّت على بيت أم سلمة، فذكرت لها ذلك، ويَحْتَمِل أن يكون تخصيص هاتين من الأزواج؛ لكون باقيهن كنّ حزبين، كل حزب يتبع واحدة من هاتين، كما تقدّم ذلك صريحًا. انتهى.
14 -
(ومنها): أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يصبه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل، فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك، كذا أفاده ابن تيمية.
قال الحافظ: وفيه نظر، ولا يتعيَّن رَفْع التعب، بل يَحْتَمِل أن يكون من واظب عليه لا يتضرر بكثرة العمل، ولا يشقّ عليه، ولو حصل له التعب. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما قاله ابن تيميّة أَولى، وأقرب، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6892]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفي حَدِيثِ مُعَاذٍ:"أَخَذْتُمَا مَضْجَعَكُمَا مِنَ اللَّيْلِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"وكيع" هو: ابن الْجَرّاح، ووالد "عبيد اللَّه" هو: معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، و"ابن المثنّى" هو: محمد، و"ابن أبي عديّ" هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ.
(1)
"الفتح" 14/ 321 - 323، "كتاب الدعوات" رقم (6318).
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ يعني: أن كلًّا من وكيع، ومعاذ بن معاذ، وابن أبي عديّ رووا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد المذكور؛ أي: عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن عليّ رضي الله عنه.
وقوله: (مِنَ اللَّيْلِ)"من" بمعنى "في"، أو هي للتبعيض، ويستفاد منه كما أسلفته أن هذا الذكر في نوم الليل، لا في القيلولة ونحوها، ويَحتمل أن يكون تقييده بالليل لتأكّده فيه، فلا يخصّ الليل، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية وكيع عن شعبة، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(740)
- حدثنا وكيع، ثنا شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا عليّ؛ أن فاطمة شكت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم أثر العجين في يديها، فأَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم سبي، فأتته تسأله خادمًا، فلم تجده، فرجعت، قال: فأتانا، وقد أخذنا مضاجعنا، قال: فذهبت لأقوم، فقال:"مكانكما"، فجاء حتى جلس، حتى وجدت برد قدميه، فقال:"ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أخذتما مضجعكما، سبَّحتما اللَّه ثلاثًا وثلاثين، وحَمِدتماه ثلاثًا وثلاثين، وكبّرتماه أربعًا وثلاثين". انتهى
(1)
.
وأما رواية معاذ بن معاذ، وابن أبي عديّ كلاهما عن شعبة، فلم أجد من ساقهما، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أولَ الكتاب قال:
[6893]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ عَلِيٌّ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 95.
صِفِّينَ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينِ، وَفِي حَدِيثِ عَطَاءٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟).
رجال هذا الإسناد: أحد عشر:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ) المكيّ مولى آل قارظ بن شيبة، ثقةٌ كثير الحديث [4](ت 126) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الصيام" 21/ 2662.
2 -
(مُجَاهِدُ) بن جبر-بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- أبو الحجاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ إمامٌ في التفسير، وغيره [3] مات سنة إحدى، أو اثنتين، أو ثلاث، أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.
3 -
(عُبَيْدُ بْنُ يَعِيش) -بفتح التحتانيّة، وكسر المهملة- الْمَحَامليّ، أبو محمد الكوفيّ العطار، ثقة، من صغار [10](ت 128) أو بعدها بسنة (ي م س) تقدم في "فضائل الصحابة" 21/ 6304.
4 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ -بفتح العين المهملة، وسكون الراء، وبالزاي المفتوحة- صدوقٌ، له أوهام [5](145)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
5 -
(عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ) -بفتح الراء، والموحّدة- واسم أبي رباح أسلم القرشيُّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، لكنه كثير الإرسال [3](ت 114) على المشهور، وقيل: إنه تغير بأخرة، ولم يكثر ذلك منه (ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 442.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِ الْحَكَمِ. . . إلخ)؛ يعني: أن مجاهدًا روى هذا الحديث عن ابن أبي ليلى بنحو رواية الحكم في السند الماضي عنه.
وقوله: (وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ) فاعل "زاد" ضمير مجاهد.
وقوله: (مَا تَرَكْتُهُ)؛ أي: الذكر المذكور.
وقوله: (قِيلَ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟)؛ أي: قال له قائل -ويأتي الاختلاف في تعيينه-: ولا تركته ليلة وقعة صفّين بسبب اشتغالك بشأن الحرب؟، فأجاب علي رضي الله عنه، فـ (قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينِ)؛ أي: لم أترك هذا الذكر ولا في تلك
الليلة، وهذا يدلّ على شدّة تمسّك عليّ رضي الله عنه بما أمره النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن كان من المستحبّات، ففيه بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم، وقوّة إيمانهم، ومحبتهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
[تنبيه]: المراد بليلة صفين: الحرب التي كانت بين عليّ ومعاوية رضي الله عنهما بصِفّين، وهي بلد معروف بين العراق والشام، وأقام الفريقان بها عدّة أشهر، وكانت بينهم وقعات كثيرة، لكن لم يقاتلوا في الليل إلا مرّة واحدة، وهي ليلة الْهَرِير بوزن عَظيم، سُمّيت بذلك؛ لكثرة ما كان الفرسان يهرّون فيها، وقُتل بين الفريقين تلك الليلة عدّة آلاف، وأصبحوا وقد أشرف عليّ وأصحابه على النصر، فرفع معاوية وأصحابه المصاحف، فكان ما كان من الاتفاق على التحكيم، وانصراف كل منهم إلى بلاده، واستفدنا من هذه الزيادة أن تحديث عليّ بذلك كان بعد وقعة صفين بمدة، وكانت صفين سنة سبع وثلاثين، وخرج الخوارج على عليّ عقب التحكيم في أول سنة ثمان وثلاثين، وقَتَلهم بالنهروان، وكل ذلك مشهور مبسوط في تاريخ الطبريّ وغيره، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (وَفي حَدِيثِ عَطَاءٍ، عنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟) بيَّن به المبهم السابق بأنّ السائل هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال في "الفتح" بعد رواية عطاء هذه ما نصّه: وفي رواية جعفر الفريابيّ في "الذكر" من هذا الوجه: "قال عبد الرحمن: قلت: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين"، وكذا أخرجه مُطَيَّن في مسند عليّ من هذا الوجه، وأخرجه أيضًا من رواية زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، حدّثني هُبيرة، وهانئ بن هانئ، وعمارة بن عبد "أنهم سمعوا عليًّا يقول. . . " فذكر الحديث، وفي آخره:"فقال له رجل -قال زهير: أراه الأشعث بن قيس-: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين".
وفي رواية السائب: "فقال له ابن الْكَوّاء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم اللَّه يا أهل العراق، نعم، ولا ليلة صفين".
وللبزار من طريق محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب: فقال له عبد اللَّه بن الكواء -والْكَوّاء بفتح الكاف، وتشديد الواو، مع المدّ-، وكان من أصحاب عليّ رضي الله عنه، لكنه كان كثير التعنت في السؤال.
(1)
"الفتح" 14/ 320.
وقد وقع في رواية زيد بن أبي أنيسة عن الحكم بسند حديث الباب: "فقال ابن الكوّاء: ولا ليلة صفين؟ فقال: ويحك ما أكثر ما تعنّتني، لقد أدركتها من السَّحر".
وفي رواية عليّ بن أعبد: "ما تركتهنّ منذ سمعتهنّ إلا ليله صفين، فإني ذكرتها من آخر الليل، فقلتها".
وفي رواية له، وهي عند جعفر أيضًا في "الذكر":"إلا ليلة صفين، فإني أُنسيتها، حتى ذكرتها من آخر الليل".
وفي رواية شَبَث بن رِبْعيّ مثله، وزاد:"فقلتها".
ولا اختلاف، فإنه نفى أن يكون قالها أول الليل، وأثبت أنه قالها في آخره.
وأما الاختلاف في تسمية السائل، فلا يؤثّر؛ لأنه محمول على التعدد بدليل قوله في الرواية الأخرى:"فقالوا". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6894]
(2728) - (حَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ -يَعْنِي: ابْنَ زُريع- حَدَّثَنَا رَوْحٌ، وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ فَاطِمَة أَتَتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا، وَشَكَتِ الْعَمَلَ، فَقَالَ: "مَا أَلْفَيْتِيهِ عِنْدَنَا"، قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ، تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِي) الْعَيْشيّ -بالياء، والشين المعجمة- أبو بكر البصريّ، صدوق [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
2 -
(يَزِيدُ بْنَ زُريعٍ) -بتقديم الزاي، مصغرًا- أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
3 -
(رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ) التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غِياث البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.
(1)
"الفتح" 14/ 320.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه وقد مضى القول فيه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ فَاطِمَةَ) بنت النبيِّ صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، وقوله:(أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَسْأَلُهُ خَادِمًا) جملة حاليّة من الفاعل؛ أي: رقيقًا يقوم بخدمتها، وقوله:(وَشَكَتِ الْعَمَلَ) حال أيضًا بتقدير "قد" عند البصريين، وبدونها عند الكوفيين، والمعنى: أن مجيئها إليه صلى الله عليه وسلم ورضي اللَّه عنها لأجل الشكوى مما تلقاه من شدّة العمل. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَا) نافية، (أَلْفَيْتِيهِ) هكذا بالفاء، والتحتانيّة بعد التاء، أصله: ألفيته بلا ياء، ثم أشبعت كسرة التاء، فتولّدت منها الياء؛ أي: ما وجدت ما تطلبينه (عِنْدَنَا")؛ أي: من الخادم، قال في "المرعاة": هذا يُحْمَل على أن المراد: ما وجدته عندنا فاضلًا عن حاجتنا إليه؛ لِمَا ذُكر من إنفاق أثمان السبي على أهل الصفّة. انتهى
(1)
.
وقال القرطبي رحمه الله: قوله: "ما ألفيتيه عندنا"؛ أي: ما وجدت الخادم عندنا، ثم إنه أحالهما على التسبيح، والتهليل، والتكبير؛ ليكون ذلك عوضًا من الدعاء عند الكرب والحاجة، كما كانت عادته عند الكرب على ما يأتي في الحديث المذكور بعد هذا، ويمكن أن يكون من جهة أنه أحبّ لابنته ما يحبّ لنفسه، إذ كانت بضعة منه، من إيثار الفقر، وتحمّل شدّته، والصبر عليه؛ ترفيعًا لمنازلهم، وتعظيمًا لأجورهم، وبهذين المعنيين، أو أحدهما تكون تلك الأذكار خيرًا لهما من خادم؛ أي: من التصريح بسؤال خادم، واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("ألَا) بالتخفيف أداة تحضيض، كما مرّ قريبًا. (أَدُلُّكِ عَلَى مَا
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 269.
(2)
"المفهم" 7/ 55 - 56.
هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ) تقدّم أنه يُطلق على الذكر والأنثى بلا هاء، وخادمة قليل. (تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح الميم، من الحمد، ويَحْتَمِل أن يكون بضم أوله، وتشديد الميم من التحميد، (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ")"حين" منصوب على الظرفيّة، تنازعه "تسبّحين"، و"تحمدين"، و"تكبّرين".
ولعل تخصيصها بالخطاب في هذا الحديث؛ لأنها الباعث الأصليّ في طلب الخادم، أو هذا الحديث مما نُقل بالمعنى، أو بالاختصار، وهذا هو الراجح، وفي الحديث أن من واظب على هذا الذكر عند النوم لم يُصِبْه إعياء؛ لأن فاطمة شكت التعب من العمل، فأحالها صلى الله عليه وسلم على ذلك، كذا أفاده ابن تيمية رحمه الله
(1)
، وللحافظ تعقّب عليه، تركت ذِكره؛ لأنه لم يُعجبني، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 6894 و 6895](2728)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 160)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قال في "الفتح": زاد أبو هريرة رضي الله عنه في هذه القصة مع الذكر المأثور دعاء آخر، ولفظه عند الطبريّ في "تهذيبه" من طريق الأعمش، عن أبي صالح عنه:"جاءت فاطمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، تسأله خادمًا، فقال: ألا أدلك على ما هو خير من خادم؟، تسبّحين. . . " فذكره، وزاد:"وتقولين: اللَّهُمَّ رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا، ورب كل شيء، منزل التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، أعوذ بك من شرّ كل ذي شرّ، ومن شرّ كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدَّين، وأغنني من الفقر"، وقد أخرجه مسلم من طريق
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 269.
سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، لكن فرّقه حديثين، وأخرجه الترمذيّ من طريق الأعمش، لكن اقتصر على الذكر الثاني، ولم يذكر التسبيح وما معه. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6895]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ) هو: أحمد بن سعيد بن صخر، أبو جعفر السَّرَخْسيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة- ابن هلال، أبو حبيب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقة ثبت، لكنه تغير قليلًا بأخرة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.
و"سُهيل" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية وُهيب عن سُهيل بن أبي صالح لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(20) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ الدُّعَاءِ عِنْدَ صِيَاحِ الدِّيكِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6896]
(2729) - (حَدَّثَنِي قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا، وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ، فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا").
(1)
"الفتح" 14/ 320 - 321.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحْبيل بن حَسَنة الْكِنديّ، أبو شُرَحْبيل المصريّ، ثقة [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقة ثبت فقيه [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"ليث" هو: ابن سعد الإمام المصريّ الشهير.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، قال في "الفتح": هذا الحديث مما اتّفق الأئمة الخمسة أصحاب الأصول على إخراجه عن شيخ واحد، وهو قتيبة بهذا الإسناد.
(أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ) -بكسر الدال المهملة، وفتح التحتانية-: جمع دِيكٍ، وهو ذَكَر الدَّجاج، وقال في "العمدة": قوله: "الديكة" -بكسر الدال المهملة، وفتح الياء آخر الحروف-: جمع دِيك، ويُجمع في القلّة على أدياك، وفي الكثرة على دُيوك، ودِيَكة، وأرض مداكة، ومديكة: كثيرة الديوك، وقال ابن سيده: الديك ذَكَر الدجاج، وعن الداوديّ: وقد يسمى الديك دجاجة، والدجاجة تقع على الذكر والأنثى. انتهى
(1)
.
وقال في "الفتح": وللديك خصيصة ليست لغيره، من معرفة الوقت الليليّ، فإنه يُقَسِّط أصواته فيها تقسيطًا لا يكاد يتفاوت، ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، لا يكاد يخطئ، سواء أطال الليل أم قصر، ومن ثَمّ أفتى بعض
(1)
"عمدة القاري" 15/ 192.
الشافعية باعتماد الديك المجرَّب في الوقت، ويؤيّده الحديث الذي سيأتي عن زيد بن خالد رضي الله عنه
(1)
.
(فَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ مَلَكًا) -بفتح اللام، قال عياض: كأن السبب فيه رجاء تأمين الملائكة على دعائه، واستغفارهم له، وشهادتهم له بالإخلاص، ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركًا بهم، وأخرج أبو داود، وأحمد، وصححه ابن حبان، من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه رفعه:"لا تسبّوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة"، وعند البزار من هذا الوجه سبب قوله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأن ديكًا صرخ، فلعنه رجل، فقال ذلك.
قال الحليميّ رحمه الله: ليس معنى قوله: "فإنه يدعو إلى الصلاة" أن يقول بصوته حقيقة: صلّوا، أو حانت الصلاة؛ بل معناه: أن العادة جرت بأنه يصرُخ عند طلوع الفجر، وعند الزوال فَطَرةً فطره اللَّه عليها. انتهى
(2)
.
(وَإِذَا سَمِعْتُمْ نَهِيقَ الْحِمَارِ)؛ أي: صوته المنكَر، (فَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّهَا رَأَتْ شَيْطَانًا")؛ يعني: أنه إنما أمر بالتعوذ عنده؛ لحضور الشيطان، فيُخاف من شره فيتعوذ منه، وزاد النسائيّ، والحاكم، من حديث جابر رضي الله عنه:"ونُباح الكلاب".
وروى الطبرانيّ من حديث أبي رافع رضي الله عنه رفعه: "لا ينهق الحمار حتى يرى شيطانًا، أو يتمثل له شيطان، فإذا كان ذلك، فاذكروا اللَّه، وصلّوا عليّ"، قال عياض: وفائدة الأمر بالتعوذ لِمَا يُخشى من شرّ الشيطان، وشرّ وسوسته، فيلجأ إلى اللَّه تعالى في دفع ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 6896](2729)، و (البخاريّ) في "بدء
(1)
"الفتح" 7/ 588، "كتاب بدء الخلق" رقم (3303).
(2)
"الفتح" 7/ 588.
الخلق" (3303) وفي "الأدب المفرد" (1236)، و (أبو داود) في "الأدب" (5102)، و (الترمذيّ) في "الدعوات" (3459)، و (النسائيّ) في "الكبرى" (6/ 233 و 234 و 427) وفي "عمل اليوم والليلة" (943 و 944)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 306 و 364)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه" (10/ 420)، و (ابن السّنيّ) في "عمل اليوم والليلة" (ص 124)، و (أبو يعلى) في "مسنده" (11/ 128)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (1005)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء" (1/ 557)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (1334)، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه الأئمة الخمسة عن شيخ واحد، وهو قتيبة بن سعيد، فالبخاري أخرجه في "بدء الخلق" ومسلم هنا في "الدعوات"، وأبو داود في "الأدب"، والترمذيّ في "الدعوات"، والنسائيّ في "التفسير"، وفي "عمل اليوم والليلة"، فكلّهم عن قتيبة، عن الليث ابن سعد، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): استحباب السؤال من فضل اللَّه عز وجل والرغبة إليه عند سماع صياح الديكة.
2 -
(ومنها): استحباب التعوذ من شرّ الشيطان عند سماع نهيق الحمار.
3 -
(ومنها): ما قال الداوديّ رحمه الله: يُتعلم من الديك خمس خصال: حُسن الصوت، والقيام في السَّحر، والغَيرة، والسخاء، وكثرة الجماع. انتهى.
4 -
(ومنها): ما قاله الْحَلِيميّ رحمه الله: يؤخذ من الحديث أن كل من استفيد منه الخير لا ينبغي أن يُسَبّ، ولا أن يستهان به، بل يُكرم، ويُحسن إليه.
5 -
(ومنها): ما قيل: إن للديك خاصية ليست لغيره، من معرفة الوقت الليليّ، فإنه يُقَسّط أصواته فيها تقسيطًا لا يكاد يخطئ، ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، سواء طال الليل أو قصر.
6 -
(ومنها): أن فيه أن اللَّه عز وجل خلق للديكة إدراكًا تُدرك به النفوس القدسية، كما خلق للكلاب والحمير إدراكًا تدرك به النفوس الشريرة الخبيثة، ونزول الرحمة عند حضور الصالحين، والغضب عند حضور أهل المعاصي.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على أن اللَّه تعالى خلق للديكة إدراكًا تُدرك به الملائكة، كما خلق للحمير إدراكًا تُدرك به الشياطين، ويفيد أن كل نوع من الملائكة، والشياطين موجودان، وهذا معلوم من الشرع قطعًا، والمنكر لشيء منهما كافر، وكأنه إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالدعاء عند صراخ الديكة لتؤمّن الملائكة على ذلك الدعاء، فتتوافق الدعوتان، فيستجاب للداعي، واللَّه أعلم، وإنما أمر بالتعوّذ من الشيطان عند نهيق الحمير؛ لأن الشيطان لمّا حضر يُخاف من شرّه، فينبغي أن يُتعوّذ منه انتهى
(1)
.
7 -
(ومنها): إثبات وجود الملائكة، والشياطين، وأنهم يحضرون مجالس بني آدم كلٌّ بما تخصّص به من الرحمة، والغضب.
8 -
(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: لعل السرّ في الأمر بسؤال الفضل من اللَّه تعالى عند صياح الديكة، والاستعاذة من شرّ الشيطان عند سماع نهيق الحمار أن الديك أقرب الحيوان صوتًا إلى الذاكرين اللَّه؛ لأنها تحفظ غالبًا أوقات الصلوات، وأنكر الأصوات صوت الحمير، فهو أقربها صوتًا إلى من هو أبعد من رحمة اللَّه سبحانه وتعالى؛
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
(21) - (بَابُ دُعَاءِ الْكَرْبِ)
" الْكَرْب" بفتح الكاف، وسكون الراء، بعدها موحّدة: هو ما يَدهَم المرء، مما يأخذ بنفسه، فيغمّه، ويحزُنه
(3)
، ويقال: كربه الأمر كربًا، من باب نصر: شقّ عليه، فهو مكروب؛ أي: مهموم، والكُربة بالضمّ اسم منه، والجمع: كُرُب، مثلُ غُرْفة وغُرَفٍ
(4)
.
وقال الراغب: الكرب: الغمّ الشديد، والْكُرْبة: الْغُمّة، وأصل ذلك من كَرْب الأرض، وهو قَلْبها بالحفر، والغمّ يُثير النفس إثارة ذلك، قال: أو من
(1)
"المفهم" 7/ 57 - 58.
(2)
"فيض القدير" 1/ 380.
(3)
"الفتح" 14/ 356.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 529.
الْكَرْب، وهو عَقْدٌ غَليظ في رَشَا الدلو، وقد يوصف الغمّ بأنه عُقدة على القلب. انتهى
(1)
.
وقال المرتضى رحمه الله: الْكَرْب على وزن الضَّرْب: الحُزْن، والغمّ الذي يأخذ بالنفْس بفتح فسكون
(2)
؛ كالكُربة بالضم، وجَمْع الكَرْب كُرُوب، كفلس وفلوس، وجمع الكربة كُرَب، كصُرَد، وكَرَبه الأمرُ، والغمّ يكرُبه كربًا: اشتدّ عليه، فاكترب لذلك؛ أي: اغتم، فهو مكروب، وكَرِيب. انتهى
(3)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6897]
(2730) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ سَعِيدٍ- قَالُوا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سُنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد اللَّه الدّستوائيّ -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة، ثم مَدّ- البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، ربَّما وَهِم [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
3 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر -بمهملة، ثم نون، ثم موحّدة، وزن جعفر- أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
4 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السّدوسيّ، تقدّم قريبًا.
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن" ص 706.
(2)
وضُبط في بعض نُسخ "القاموس" محرّك الراء، ومثله في "الصحاح".
(3)
"تاج العروس" ص 904.
5 -
(أَبُو الْعَالِيَةِ) رُفيع -بالتصغير- ابن مِهْران الرياحيّ -بكسر الراء، والتحتانية- ثقة كثير الإرسال [2] مات سنة تسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 80/ 425.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنَّه مسلسلٌ بالبصريين، غير عبيد اللَّه، فنيسابوريّ، وأن شيخيه: ابن المثني، وابن بشّار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عبَّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ) وفي الرواية التالية: "أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيَّ حَدَّثَهُمْ"، فصرّح قتادة بالتحديث، فزالت عنه تهمة التدليس؛ لأنه مدلّس.
[تنبيه]: قال في "الفتح": أبو العالية هو الرياحي -بتحتانية، ثم مهملة- واسمه رُفيع، وقد رواه قتادة عنه بالعنعنة، وهو مدلّس، وقد ذكر أبو داود في "السنن" في "كتاب الطهارة" عقب حديث أبي خالد الدالاني عن قتادة، عن أبي العالية: قال شعبة: إنما سمع قتادة عن أبي العالية أربعة أحاديث: حديث يونس بن متّى، وحديث ابن عمر في الصلاة، وحديث:"القضاةُ ثلاثة"، وحديث ابن عباس:"شَهِد عندي رجال مَرْضيّون".
وروى ابن أبي حاتم في "المراسيل" بسنده عن يحيى القطان، عن شعبة، قال: لم يسمع قتادة من أبي العالية إلا ثلاثة أحاديث، فذكرها بنحوه، ولم يذكر حديث ابن عمر، وكأن البخاريّ لم يعتبر بهذا الحصر؛ لأن شعبة ما كان يحدّث من أحد من المدلِّسين إلا بما يكون ذلك المدلس قد سمعه من شيخه، وقد حدّث شعبة بهذا الحديث عن قتادة، وهذا هو السر في إيراده -أي: البخاريّ- له معلقًا في آخر الترجمة، من رواية شعبة، وأخرج مسلم الحديث من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أن أبا العالية حدّثهم، وهذا صريح في سماعه له منه، وأخرج البخاريّ أيضًا من رواية قتادة، عن أبي العالية، غير
هذا، وهو حديث رؤية موسى وغيره ليلة أسري به، وأخرجه مسلم أيضًا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد زالت تهمة التدليس برواية مسلم الثانية حيث صرّح فيها قتادة بتحديث أبي العالية لهم، كما أسلفته آنفًا، فتنبّه.
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ) بفتح، فسكون؛ أي: عند حلَول الكرب، وتقدّم معنى الكرب أول الباب، وفي الرواية الآتية، من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:"كان يدعو بهنّ، ويقولهنّ عند الكرب"، وفي رواية يوسف بن عبد اللَّه بن الحارث، عن أبي الحارث، عن أبي العالية:"كان إذا حَزَبه أمر" وهو بفتح الحاء المهملة، والزاي، وبالموحّدة؛ أي: هَجَم عليه، أو غلبه، وفي حديث عليّ عند النسائيّ، وصححه الحاكم:"لقَّنني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات، وأمرني إن نزل بي كرب، أو شدّة أن أقولها: سبحان اللَّه رب العرش العظيم".
("لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ) الذي لا يَعْظُم عليه شيء، (الْحَلِيمُ) الذي يؤخّر العقوبة مع القدرة، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ") وهكذا في رواية للبخاريّ، وفي رواية له:"لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم"، وفي رواية مسلم الآتية قال في أوله:"لا إله إلا اللَّه رب العرش الكريم" بدل: "العظيم الحليم"، ووقع جميع ما تضمَّنته هاتان الروايتان في رواية وهيب بن خالد، لكن قال:"العليم الحليم" باللام بدل الظاء المعجمة.
ووقع في حديث عليّ رضي الله عنه بلفظ: "لا إله إلا اللَّه الكريم العظيم، سبحان اللَّه، تبارك اللَّه رب العرش العظيم، والحمد للَّه رب العالمين"، وفي لفظ:"الحليم الكريم" في الأول، وفي لفظ:"لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، العليّ العظيم، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له الحليم الكريم"، وفي لفظ: "لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحانه تبارك وتعالى، رب العرش
(1)
"الفتح" 14/ 356 - 357.
العظيم، الحمد للَّه رب العالمين"، أخرجها كلّها النسائيّ رحمه الله.
[تنبيه]: قوله: "رب العرش العظيم" نقل ابن التين عن الداوديّ أنه رواه برفع "العظيم"، وكذا برفع "الكريم" في قوله:"رب العرش الكريم" على أنهما نعتان للرب، والذي ثبت في رواية الجمهور بالجرِّ على أنه نعت للعرش، وكذا قرأ الجمهور في قوله تعالى:{رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]، و {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116] بالرفع، وقرأ ابن محيصن بالجرِّ فيهما، وجاء ذلك أيضًا عن ابن كثير، وعن أبي جعفر المدنيّ، وأُعرب بوجهين: أحدهما: ما تقدم، والثاني: أن يكون مع الرفع نعتًا للعرش، على أنه خبر ابتدأ محذوف، قُطع عما قبله للمدح، ورُجِّح؛ لحصول توافق القراءتين، ورجح أبو بكر الأصم الأول؛ لأن وصف الرب بالعظيم أَولى من وَصْف العرش، وفيه نظر؛ لأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى في تعظيم العظيم، فقد نَعَت الهدهد عرش بلقيس بأنه عرش عظيم، ولم يُنْكِر عليه سليمان.
[تنبيه آخر]: قال العلماء: الحليم: الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، والعظيم: الذي لا شيء يعظم عليه، والكريم: المعطي فضلًا، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 6897 و 6898 و 6899 و 6900](2730)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6345 و 6346) و"التوحيد"(7426 و 7431) وفي "الأدب المفرد"(702)، و (الترمذيّ) في"الدعوات"(3431)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 367) وفي "عمل اليوم والليلة"(653)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3929)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 228 و 254 و 258 و 259 و 280 و 284 و 339 و 356)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 20)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 302) وفي "الكبير"(10/ 317)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 416)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 220 و 221)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب هذا الذكر عند الكرب.
2 -
(ومنها): ما قاله في "العمدة": اشتَمَل هذا الذكر على التوحيد الذي هو أصل التنزيهات المسمَّاة بالأوصاف الجلالية، وعلى العظمة التي تدلّ على القدرة العظيمة؛ إذ العاجز لا يكون عظيمًا، وعلى الحِلم الذي يدلّ على العلم؛ إذ الجاهل بالشيء لا يُتصور منه الحلم، وهما أصل الصفات الوجودية الحقيقية المسماة بالأوصاف الإكرامية، ووجه تخصيص الذكر بالحليم؛ لأن كرب المؤمن غالبًا إنما هو على نوع تقصير في الطاعات، أو غفلة في الحالات، وهذا يُشعر برجاء العفو المقلِّل للحزن. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله الطبريّ رحمه الله: معنى قول ابن عباس -يعني: في الرواية التالية-: "يدعو بهنّ"، وإنما هو تهليل وتعظيم، يَحْتَمِل أمرين:
أحدهما: أن المراد: تقديم ذلك قبيل الدعاء، كما ورد من طريق يوسف بن عبد اللَّه بن الحارث المذكورة، وفي آخره:"ثم يدعو"، وكذا هو عند أبي عوانة في "مستخرجه" من هذا الوجه، وعند عبد بن حميد من هذا الوجه:"كان إذا حزبه أمر قال"، فذكر الذكر المأثور، وزاد:"ثم دعا"، وفي "الأدب المفرد" من طريق عبد اللَّه بن الحارث:"سمعت ابن عباس" فذكره، وزاد في آخره:"اللَّهُمَّ اصرف عني شرّه".
قال الطبريّ: ويؤيد هذا ما رَوى الأعمش، عن إبراهيم: قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثّناء، كان على الرجاء.
ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة فيما حدّثنا حسين بن حسن المروزيّ، قال: سألت ابن عيينة عن الحديث الذي فيه: "أكثر ما كان يدعو به النبيّ صلى الله عليه وسلم بعرفة: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. . . " الحديث، فقال سفيان: هو ذِكر، وليس فيه دعاء، ولكن قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل:"من شَغَله ذِكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين"
(2)
.
(1)
"عمدة القاري" 22/ 302 - 303.
(2)
حديث ضعيف.
قال: وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد اللَّه بن جُدعان [من الطويل]:
أأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي
…
حَيَاؤُكَ
(1)
إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ
قال سفيان: فهذا مخلوق حين نُسب إلى الكرم اكتَفَى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق.
قال الحافظ: ويؤيد الاحتمال الثاني حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رفعه: "دعوة ذي النون إذ دعا، وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، فإنه لم يَدْع بها رجل مسلم في شيء قطّ، إلا استجاب اللَّه تعالى له"، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، والحاكم، وفي لفظ للحاكم:"فقال رجل: أكانت ليونس خاصّةً أم للمؤمنين عامّةً؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ألا تسمع إلى قول اللَّه تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] ". انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قال الطبريّ: كان السلف يَدْعون بهذا الدعاء، ويسمُّونه دعاء الكرب.
[فإن قيل]: كيف يسمّى هذا دعاء، وليس فيه من معنى الدعاء شيْ، وإنَّما هو تعظيم للَّه تعالى، وثناء عليه؟.
[فالجواب]: إن هذا يسمّى دعاء لوجهين:
أحدهما: أنه يُستفتح به الدعاء، ومن بعده يدعو، وقد ورد في بعض طرقه:"ثم يدعو".
وثانيهما: أن ابن عيينة قال -وقد سئل عن هذا-: أما علمت أن اللَّه تعالى يقول: "إذا شَغَل عبدي ثناؤه عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"
(2)
، وقد قال أمية بن أبي الصلت:
إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا
…
كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ
قال القرطبيّ: وهذا الكلام حسنٌ، وتتمته أن ذلك إنما كان لنكتتين:
(1)
ويُروى "حِبَاؤك" بالموحدة، وكذا قوله:"الحِبَاء" آخر البيت، والْحِباء: العطاء.
(2)
رواه الترمذي، وقد مضى أنه ضعيف.
إحداهما: كَرَم الْمُثْنَى عليه، فإنه إذا اكتفى بالثناء عن السؤال دلّ ذلك على سهولة البذل عليه، والمبالغة في كَرَم الحقّ.
وثانيهما: أن الْمُثنِيَ لَمّا آثر الثّناء الذي هو حقّ المثنَّى عليه على حقّ نفسه الذي هو حاجته بُودر إلى قضاء حاجته من غير إحراج إلى إظهار مذلّة السؤال مجازاةً له على ذلك الإيثار، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ومما قد جاء منصوصًا عليه، وسُمّي دعاءً، وإن لم يكن فيه دعاء، ولا طلب ما أخرجه النسائيّ من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استُجيب له". انتهى
(1)
.
[فائدة]: قال ابن بطال رحمه الله: حدّثني أبو بكر الرازيّ، قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم، أكتب الحديث، وهناك شيخ يقال له: أبو بكر بن عليّ، عليه مدار الفتيا، فسُعي به عند السلطان، فسُجن، فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وجبريل عن يمينه، يحرك شفتيه بالتسبيح، لا يفتر، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن عليّ يدعو بدعاء الكرب الذي في "صحيح البخاريّ" حتى يفرّج اللَّه عنه، قال: فأصبحت، فأخبرته، فدعا به، فلم يكن إلا قليلًا حتى أخرج. انتهى.
وأخرج ابن أبي الدنيا في "كتاب الفرج بعد الشدة" له من طريق عبد الملك بن عمير، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان. انظر الحسن بن الحسن، فاجلده مائة جلدة، وأوقفه للناس، قال: فبعث إليه، فجيء به، فقام إليه عليّ بن الحسين، فقال: يا ابن عمّ تكلم بكلمات الفرج، يفرّج اللَّه عنك، فذكر حديث عليّ باللفظ الثاني، فقالها، فرَفع إليه عثمان رأسه، فقال: أرى وجه رجل كُذب عليه، خَلُّوا سبيله، فسأكتب إلى أمير المؤمنين بعذره، فأُطلق.
وأخرج النسائيّ، والطبريّ من طريق الحسن بن الحسن بن عليّ، قال: لَمَّا زوج عبد اللَّه بن جعفر ابنته، قال لها: إن نزل بك أمر، فاستقبليه، بأن
(1)
"المفهم" 7/ 56 - 57.
تقولي: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، الحمد للَّه رب العالمين، قال الحسن: فأرسل إليّ الحجاجُ، فقلتهنّ، فقال: واللَّه لقد أرسلت إليكَ، وأنا أريد أن أقتلك، فلأنتَ اليوم أحبّ إليّ من كذا وكذا، وزاد في لفظ: فَسَلْ حاجتك.
[تنبيه]: ومما ورد من دعوات الكرب ما أخرجه أصحاب السنن، إلا الترمذيّ، عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ألا أعلّمك كلمات تقوليهن عند الكرب: اللَّه اللَّه ربي، لا أشرك به شيئًا".
وأخرج الطبريّ من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله.
ولأبي داود، وصححه ابن حبان، عن أبي بكرة، رفعه:"دعوات المكروب: اللَّهُمَّ رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت"
(1)
، ذكر هذا كلّه في "الفتح"، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6898]
(. . .) - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَحَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ أَتَمُّ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبل باب، و"هشام" هو: الدستوائيّ.
[تنبيه]: رواية وكيع عن هشام الدستوائيّ هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:
(3883)
- حدّثنا عليّ بن محمد، ثنا وكيع، عن هشام، صاحب الدّسْتوائي عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب:"لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، سبحان اللَّه رب السماوات السبع، ورب العرش الكريم". قال وكيع مرّةً: "لا إله إلا اللَّه" فيها كلّها. انتهى
(2)
.
(1)
"الفتح" 14/ 358 - 360، "كتاب الدعوات" رقم (6345).
(2)
"سنن ابن ماجه" 2/ 1278.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6899]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّ أَبَا الْعَالِيَةِ الريَاحِي حَدَّثَهُمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهِنَّ، وَيَقُولُهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ، فَذكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ، غيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الْكِسّيّ -بسين مهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهران اليشكريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ) فاعل "ذَكَرَ" الظاهر أنه ضمير محمد بن بشر، ويَحْتمل أن يكون ضمير سعيد بن أبي عروبة، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة هذه ساقها عبد بن حُميد رحمه الله في "مسنده"، مع اختلاف يسير، فقال:
(658)
- حدّثنا محمد بن بشر العبديّ، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة؛ أن أبا العالية الرِّياحيّ حدّثهم، عن ابن عباس:"أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهنّ، أو يقولهنّ عند الكرب: لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات السبع، ورب العرش الكريم". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6900]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ
(1)
"مسند عبد بن حميد" 1/ 220.
عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ، فَذكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَزَادَ مَعَهُنَّ:"لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميون السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(بَهْزُ) بن أسد العَمّي البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ) الأنصاريّ مولاهم، أبو الوليد البصريّ، ثقة [5](م ت س ق) تقدم في "البيوع" 52/ 4132.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ) بحاء مهملة، وزاي، فموحّدة مفتوحة؛ أي: هَجَم عليه، أو غلبه، أو نزل به همَّ، أو غمّ، وفي رواية أخرى:"حَزَنه" بنون؛ أي: أوقعه في الحزن، يقال: حزنني الأمرُ، وأحزنني الأمر، فأنا محزون، ولا يقال: مُحْزَن، ذكره ابن الأثير
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: حَزَبَهُمْ أمر يَحْزِبُهُمْ، من باب قتل: أصابهم. انتهى.
وقال أيضًا: حَزِنَ حَزَنًا، من باب تَعِبَ، والاسم: الحُزْنُ بالضم، فهو حزين، ويتعدى في لغة قريش بالحركة، يقال: حَزَنَنِي الأمر يَحْزُنُنِي، من باب قتل، قاله ثعلب، والأزهريّ، وفي لغة تميم بالألف، ومَثَّل الأزهريّ باسم الفاعل، والمفعول، في اللغتين على بابهما، ومنع أبو زيد استعمال الماضي من الثلاثيّ، فقال: لا يقال: حَزَنَهُ، وإنما يستعمل المضارع من الثلاثيّ، فيقال: يَحْزُنُهُ. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَزَادَ مَعَهُنَّ) فاعل "ذَكَرَ"، و"زَادَ" ضمير حماد بن سلمة، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية حماد بن سلمة عن يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(1)
"فيض القدير" 5/ 120.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 133 - 134.
(10488)
- أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، قال: أخبرنا الحسن بن موسى، قال: حدّثنا حماد بن سلمة، عن يوسف بن عبد اللَّه بن الحارث، عن أبي العالية، عن عبد اللَّه بن عباس؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا حَزَبه أمر، قال:"لا إله إلا اللَّه الحليم العظيم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب العرش الكريم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات، ورب الأرض، رب العرش العظيم"، ثم يدعو. انتهى
(1)
.
[تنبيه آخر]: أعلّ الدارقطنيّ رحمه الله رواية حمّاد بن سلمة هذه بأن مهديّ بن ميمون خالفه بالإرسال، ودونك نصّه:
وأخرج مسلم حديث حمّاد بن سلمة عن يوسف بن عبد اللَّه بن الحارث، عن أبي العالية، عن ابن عبَّاس:"كان يدعو عند الكرب"، وقد خالفه مهديّ بن ميمون عن يوسف، فأرسله. انتهى.
وهذا الذي ذكره الدارقطنيّ أشار إليه النسائيّ قبله في "السنن الكبرى"، فقال بعد أن أخرج رواية حماد بن سلمة التي ذكرتها في التنبيه الماضي ما نصّه: خالفه مهديّ بن ميمون، ثم ساق روايته، فقال:
(10490)
- أخبرنا محمد بن حاتم، قال: أخبرنا حِبّان، قال: أخبرنا عبد اللَّه، عن مهديّ بن ميمون، قال: حدّثنا يوسف بن عبد اللَّه بن الحارث، قال: قال لي أبو العالية: ألا أعلِّمك دعاءً، أُنبئت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت به شدّة دعا به:"لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السماوات، ورب الأرض، رب العرش الكريم". انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما أشار إليه الإمامان: النسائيّ، والدارقطنيّ إعلال رواية حمّاد بن سلمة الحديث موصولًا بمخالفة مهديّ بن ميمون بالإرسال، وهو أحفظ من حمّاد، فيترّجح إرساله على وصله.
ويُعتذر عن مسلم بأنه ما أراد بإخراج رواية حماد إلا المتابعة في أصل
(1)
"السنن الكبرى" للنسائي رحمه الله 6/ 167.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائي رحمه الله 6/ 168.
الحديث، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، والحديث صحيح ثابت من طرق صحيحة لا مطعن فيها، فقد أخرجه مسلم قبل هذا من طريق هشام الدستوائي، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة، وأخرجه أحمد في "مسنده" من طريق أبان بن يزيد العطّار عن قتادة
(1)
، وقد صرّح قتادة بالتحديث في رواية ابن أبي عروبة عند مسلم، فزالت عنه تهمة التدليس
(2)
.
والحاصل: أن الحديث صحيح بلا ريب، ولا لَوْم ولا عَتْب على مسلم في إخراجه في "صحيحه"، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.
(22) - (بَابُ فَضْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6901]
(2731) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَبانُ بْنُ هِلَالٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الجَسْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ، أَوْ لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل بابين.
2 -
(حَبَّانُ
(3)
بْنُ هِلَالٍ) أبو حبيب الباهليّ البصري، تقدّم أيضًا قبل بابين.
3 -
(وُهَيْبُ) بن خالد بن عَجْلان الباهليّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل بابين.
4 -
(سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم مصغّرًا- هو: سعيد بن إياس، أبو
(1)
راجع: "مسند الإمام أحمد" 1/ 254.
(2)
راجع ما كتبه الشيخ ربيع بن هادي حفظه اللَّه في كتابه: "بين "الإمامين" ص 403 - 406 فقد أجاد في البحث.
(3)
"حَبّان" بفتح الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة.
مسعود البصريّ، ثقةٌ [5] اختلط قبل موته بثلاث سنين (ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
5 -
(أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجَسْرِيُّ) -بالجيم المفتوحة بعدها سين مهملة- هو: حِمْيَرِيّ -اسم بلفظ النسبة- ابن بَشِير معروف بكنيته، وهو ثقةٌ، يرسل [3].
رَوَى عن أبي ذرّ، ولم يسمع، وعن معقل بن يسار، وأبي الدرداء، وجندب البجليّ، وعبد اللَّه بن مغفل، وعبد اللَّه بن الصامت، وأبي عنبة الخولانيّ.
وروى عنه سعيد الْجُريريّ، وسليمان التيميّ، وقتادة، وغيرهم.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الحافظ أبو سعيد العلائيّ: لم يسمع من أبي الدرداء.
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ في "عمل اليوم والليلة"، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
[تنبيه]: قوله: "الْجَسْريّ" بفتح الجيم، وسكون السين المهملة، آخره راء: نسبة إلى جَسْر، وهو بطن من عَنَزة، وهو جَسْر بن تيم بن يقدم بن عَنَزة بن أسد بن ربيعة، قاله في "اللباب"
(1)
.
6 -
(ابْنُ الصَّامِتِ) هو: عبد اللَّه بن الصامت ابن أخي أبي ذرّ الغِفاريّ البصريّ، ثقة [3] مات بعد السبعين (خت م 4) تقدم في "الصلاة" 52/ 1142.
7 -
(أَبُو ذَرٍّ) الْغَفَاريّ الصحابيّ المشهور، اسمه جُنْدَب بن جُنادة على الأصح، وقيل: بُرير بموحّدة، مصغرًا، أو مكبرًا، واختلف في اسم أبيه على أقوال، تقدم إسلامه، وتأخرت هجرته، فلم يشهد بدرًا، ومناقبه كثيرة جدًّا، مات سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنهما (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 224.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنَّه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ، ثمّ رَبَذيّ، وفيه ثلاثة من التابعين
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 279.
روى بعضهم عن بعض، الجريريّ، عن الجسريّ، عن ابن الصامت، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ) عبد اللَّه (ابْنِ الصَّامِتِ) الغِفاريّ، ابن أخي أبي ذرّ رضي الله عنه، (عَنْ أَبِي ذَرٍّ) جندب بن جُنادة الغفاريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَيُّ الْكَلَامِ)؛ أي: من جملة الأذكار، (أَفْضَلُ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم جوابًا لهذا السؤال:("مَا) موصولة خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الذي (اصْطَفَى اللَّهُ)؛ أي: اختاره من الذِّكر (لِمَلَائِكَتِهِ) عليهم السلام، وأمَرهم بالدوام عليه، ومواظبته لغاية فضله، فليس في هذا الحديث ما يدلّ على حصره، فاندفع ما قيل: إنه يُعْلَم منه أن الملائكة يتكلمون بهذه الكلمة، لا غير، وقد ثبت منهم كلمات أُخَر من الأذكار، والتسبيحات، والدعوات، وليس هذا محل بَسْطها، قاله في "المرعاة"
(1)
.
وقال في "المشارق": "اصطفاه"؛ أي: اختاره، واستخلصه، والطاء فيها مبدلة من تاء افتعل؛ لمجاورتها الطاء. انتهى
(2)
.
(أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قال: لملائكته، أو قال:(لِعِبَادِهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ) معناه: تنزيه اللَّه عما لا يليق به، من كل نقص، فيلزم نفي الشريك، والصاحبة، والولد، وجميع الرذائل، ويُطلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر، ويُطلق ويراد به صلاة النافلة، و"سبحان" اسم منصوب على أنه واقع موقع المصدر لفعل محذوف، تقديره: سبّحت اللَّه سبحانًا، كسبّحت اللَّه تسبيحًا، ولا يُستعمل غالبًا إلا مضافًا، وهو مضاف إلى المفعول؛ أي: سبّحت اللَّه، ويجوز أن يكون مضافًا إلى الفاعل؛ أي: نزَّه اللَّهُ نفسه، والمشهور الأول
(3)
، وقد مضى البحث فيه بأطول من هذا، وباللَّه التوفيق.
(وَبِحَمْدِهِ) قيل: الواو للحال، والتقدير: أسبّح اللَّه متلبسًا بحمدي له، من أجل توفيقه، وقيل: عاطفة، والتقدير: أسبّح اللَّه، وأتلبّس بحمده، ويَحْتَمِل أن
(1)
"مرعاة المفاتيح" 7/ 914.
(2)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 2/ 80.
(3)
"الفتح" 14/ 454.
يكون الحمد مضافًا للفاعل، والمراد من الحمد لازِمه، أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه، ويَحْتَمِل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف، متقدم، والتقدير: وأثني عليه بحمده، فيكون "سبحان اللَّه" جملة مستقلة، و"بحمده" جملة أخرى.
وقال الخطابيّ في حديث: "سبحانك اللَّهُمَّ ربنا وبحمدك"؛ أي: بقوّتك التي هي نعمة توجب عليّ حمدك سبّحتك، لا بحولي وبقوتي، كأنه يريد أن ذلك مما أقيم فيه السبب مقام المسبَّب، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: فيه تلميح إلى قوله تعالى، حكاية عن الملائكة:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} الآية [البقرة: 30]، ويمكن أن يكون "سبحان اللَّه وبحمده" مختصرًا من الكلمات الأربع:"سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"؛ لِمَا سبق أن "سبحان اللَّه" تنزيه لذاته عما لا يليق بجلاله، وتقديس لصفاته من النقائص، فيندرج فيه معنى "لا إله إلا اللَّه"، وقوله:"وبحمده" صريح في معنى "الحمد للَّه"؛ لأن الإضافة فيه بمعنى اللام في الحمد، ويستلزم ذلك معنى "اللَّه أكبر"؛ لأنه إذا كان كل الفضل، والإِفضال للَّه، ومن اللَّه، وليس من غيره شيء من ذلك، فلا يكون أحد أكبر منه.
[فإن قلت]: يلزم من هذا أن يكون التسبيح أفضل من التهليل.
[قلت]: لا يلزم ذلك؛ إذ التهليل صريح في التوحيد، والتسبيح متضمن له، ولأن نفي الإلهية في قول "لا إله" نفي لمضمونها من الخالقية، والرازقية، والإثابة، والمعاقبة، وقوله:"إلا اللَّه" إثبات لذلك، ويلزم منه نفي ما يضادّ الإلهية، ويخالفها من النقائص، فمنطوق "سبحان اللَّه" تنزيه، ومفهومه توحيد، ومنطوق "لا إله إلا اللَّه" توحيد، ومفهومه تقديس؛ يعني: فيكون "لا إله إلا اللَّه" أفضل؛ لأن التوحيد أصل، والتنزيه ينشأ عنه، قال: فإذا اجتمعا دخلا في أسلوب الطرد والعكس، واللَّه يقول الحقّ، وهو يهدي السبيل. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(2)
.
(1)
"الفتح" 17/ 632، "كتاب التوحيد" رقم (7563).
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1821 - 1822 بزيادة من "المرعاة" 7/ 914.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أحب الكلام إلى اللَّه. . . إلخ" هذا محمول على كلام الآدميّ، وإلا فالقرآن أفضل، وكذا قراءة القرآن أفضل من التسبيح، والتهليل المطلق، فأمَّا المأثور في وقت، أو حال، ونحو ذلك فالاشتغال به أفضل، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يعارضه قوله في حديث أبي هريرة المتقدِّم في فضل التهليل: "ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا أحد عمل أكثر من ذلك"، وقوله:"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه"، وقد تقدّم في حديث سمرة بن جندب قوله صلى الله عليه وسلم:"أحب الكلام إلى اللَّه أربع: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، لا يضرّك بأيهنّ بدأت" فقد مضى هذا الحديث بأن الأربعة متساوية في الأفضلية، والأحبية، من غير مراعاة تقديم بعضها على بعض، ولا تأخيره، وأن التسبيح وحده لا ينفرد بالأفضلية، ولا التهليل وحده أيضًا ينفرد بها، وإذا ثبت ذلك، فحيث أُطلق أن أحد هذه الأذكار الأربعة أفضل الكلام، أو أحبّه، إنما يراد إذا انضمت إلى أخواتها الثلاث المذكورة في هذا الحديث، إما مجموعة في اللفظ، أو في القلب بالذكر؛ لأنَّ اللفظ إذا دلّ على واحد منها بالمطابقة دلّ على سائرها باللزوم.
وبيان ذلك: أن معنى "سبحان اللَّه" البراءة له من كل النقائص، والتنزيه عما لا يليق بجلاله، ومن جملتها تنزيهه عن الشركاء، والأنداد، وهذا معنى "لا إله إلا اللَّه"، هذا مدلول اللفظ من جهة مطابقته، ولمَّا وجب تنزيهه عن صفات النقص، لزم اتصافه بصفات الكمال؛ إذ لا واسطة بينهما، وهي المعبَّر عنها بالحمد للَّه، ثم لمّا تنزه عن صفات النقص، واتّصف بصفات الكمال، وجبت له العظمة والجلال، وهو معنى "اللَّه أكبر"، فقد ظهر لك أن هذه الأربعة الأذكار متلازمة في المعنى، وأنها قد شَمِلها لفظ الأحبّية، كما جاء في الحديث، فمن نطق بجميعها، فقد ذكر اللَّه تعالى بأحب الكلام إلى اللَّه لفظًا ومعنًى، ومن نطق بأحدها، فقد ذكر اللَّه ببعض أحب الكلام نطقًا، وبجميعها
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 48.
معنًى، من جهة اللزوم الذي ذكرناه، فتدبر هذه الطريقة، فإنَّها حسنة، وبها يرتفع التعارض المتوهّم بين تلك الأحاديث -واللَّه تعالى أعلم-. ولم أجد في كلام المشايخ ما يُقنع، وقد استخرت اللَّه تعالى فيما ذكرته. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي ذرّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 6901 و 6902](2731)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(1/ 222)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3593)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 148 و 161 و 176)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 207) وفي "عمل اليوم والليلة"(824 و 852)، و (الحاكم) في "المستدرك"(1/ 680)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 54 و 109 و 169)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 384)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 479)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6902]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْجُرَبْرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَسْرِيِّ، مِنْ عَنَزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: "إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ) واسمه نسر -بفتح النون، وسكون السين المهملة- الكرمانيّ، كوفي الأصل، نزل بغداد، ثقةٌ [9](ت 8 أو 209)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 471.
والباقون ذُكروا في الباب وقبل بابين.
(1)
"المفهم" 7/ 59 - 60.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
(23) - (بَابُ فَضْلِ الدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6903]
(2732) - (حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْوَكِيعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ وَلَكَ بِمِثْلٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ الْوَكيعِيُّ) الْكِنديّ، أبو جعفر الكوفيّ المقرئ الجلّاب بالجيم، ثقةٌ [10](235)
(1)
(م) تقدم في "الصيام" 29/ 2694، من أفراد المصنّف.
[تنبيه]: قوله: (الْوَكِيعِيُّ) بفتح الواو، وكسر الكاف: نسبة إلى وكيع، وإنما قيل له: الوكيعي؛ لأنه رحل إلى وكيع بن الجرّاح، وأكثر عنه، قاله في "اللباب"
(2)
.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بن غزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.
3 -
(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزْوان -بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي- ابن جَرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضيل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.
(1)
هكذا أرَّخ وفاته في "التهذيبين"، و"التقريب"، وأرّخه في "اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 372 سنة (215) وهو غلط ظاهر؛ لأنه من شيوخ مسلم، ومسلم وُلد سنة (206) فبعيد كل البعد أن يسمع منه، وهو كوفي، ومسلم نيسابوريّ، فليُتنبّه.
(2)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 371 - 372.
4 -
(طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ) -بفتح أوله، وكسر ثانيه- ابن جابر بن ربيعة بن هلال الْخُزاعيّ الكعبيّ، أبو المطرّف الكوفيّ، ويقال: المصريّ، ثقةٌ [3].
رَوَى عن ابن عمر، وأبي الدرداء، وأم الدرداء، وعائشة، والحسين بن عليّ، والزهريّ، وهو من أقرانه.
وروى عنه حميد الطويل، وعاصم الأحول، وفضيل بن غَزْوان، وحماد بن سلمة، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان قليل الحديث، وقال أحمد، والنسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: كلُّ ما يجيء في الأخبار كُريز -يعني: بضم الكاف- إلا هذا.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
5 -
(أُمُّ الدَّرْدَاءِ) زوج أبي الدرداء، اسمها هُجيمة، وقيل: جُهيمة الأوصابية الدمشقية، وهي الصغرى، وأما الكبرى فاسمها خيرة، ولا رواية لها في هذه الكتب، والصغرى ثقةٌ فقيهةٌ [3](ت 81)(ع) تقدمت في "الصيام" 19/ 2630.
6 -
(أَبُو الدَّرْدَاءِ) عُويمر بن زيد بن قيس الصحابيّ الجليل، مختلف في اسم أبيه، وأما هو فمشهور بكنيته، وقيل: اسمه عامر، وعويمر لقب، أول مشاهده أُحُد، وكان عابدًا، مات في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنهما، وقيل: عاش بعد ذلك (ع) تقدم في "الصلاة" 44/ 1098.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنَّه مسلسل بالكوفيين إلى صلحة، والباقيان دمشقيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّة، والمرأة عن زوجها، وأن صحابيّه من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ) عويمر بن زيد رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ)؛ أي: المؤمن، (بِظَهْرِ الْغَيْبِ) الظهر مُقْحَم للتأكيد؛
أي: في غَيبة المدعوّ له عنه، وإن كان حاضرًا معه، بأن دعا له بقلبه حينئذ، أو بلسانه، ولم يُسمعه. (إِلا قَالَ الْمَلَكُ) وفي الرواية التالية:"قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل"، وفي الرواية الثالثة:"دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملَك مُوَكَّل، كما دعا لأخيه بخير، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل"، وفي رواية أبي داود:"إذا دعا الرجل لأخيه بظهر الغيب، قالت الملائكة: آمين، ولك بمثل". (وَلَكَ) فيه التفات، (بِمِثْلٍ") بكسر الميم، وسكون المثلثة، وتنوين اللام؛ أي: أعطى اللَّه لك بمثل ما سألت لأخيك، قال الطيبيّ رحمه الله: الباء زائدة في المبتدأ، كما في: بحسبك درهم، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ ليدعو له الملك بمثلها، فيكون أعون للاستجابة، ذكره في "العون"
(1)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "ولك بمثل" بكسر الميم، وسكون المثلثة، على الأشهر، قال القاضي عياض: ورويناه بفتحها أيضًا، يقال: هو مثله، ومَثِيله بزيادة الياء؛ أي: عديله سواءً. انتهى.
وقال في "المشارق": قوله: "ولك بمثل" كذا رويناه بكسر الميم، وسكون الثاء، وبمَثَل أيضًا بفتحهما، يقال: مِثْلٌ، ومَثَلٌ، ومَثِيل، مثلُ شِبْهٍ، وشَبَهٍ، وشَبِيه؛ أَي: لك من الأجر لدعائك مثل ما دعوت له فيه، ورغبته. انتهى
(2)
.
قال المناويّ: وتنوينه عوضٌ من المضاف إليه؛ يعني: بمثل ما دعوته، وهذا بالحقيقة دعاء من الملَك بمثل ما دعاه لأخيه، وما قيل: إن معناه: ولك بمثل ما دعوته؛ أي: بثوابه فركيك. انتهى.
وقال في موضع آخر: "ولك أيها الداعي بمثل ذلك"؛ أي: مثل ما دعوت به لأخيك، وهذا يَحْتَمِل كونه إخبارًا من الملَك بأن اللَّه سبحانه وتعالى يجعل له مثل ثواب ما دعا به؛ لكونه عَلِم ذلك بالاطلاع على اللوح المحفوظ، أو غير ذلك من طُرُق العلم، ويَحْتَمِل أنه دعا له به، والأول أقرب. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"عون المعبود" 4/ 276.
(2)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 1/ 732.
(3)
"فيض القدير" 3/ 525 و 5/ 48.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي الدرداء رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 6903 و 6904 و 6905 و 6906](2732 و 2733)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1534)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(625)، و (ابن ماجه) في "الحجّ"(2895)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 197 و 198)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 195 و 2/ 456)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 98)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(989)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 254) وفي "الدعاء"(1/ 395)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 353) و"شُعب الإيمان"(6/ 502)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1397)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب.
2 -
(ومنها): بيان أن دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب سبب لاستجابة دعائه، فلذا كان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه دعا لأخيه بالغيب.
3 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: وفي هذا فضل الدعاء لأخيه المسلم بظهر الغيب، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة، ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضًا، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ لأنها تستجاب، ويحصل له مثلها. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما من عبد مسلم يدعو": المسلم هنا هو الذي سَلِم المسلمون من لسانه ويده، الذي يحبّ للناس ما يحبّ لنفسه؛ لأنَّ هذا هو الذي يحمله حاله وشفقته على أخيه المسلم أن يدعو له بظهر الغيب؛ أي: في حال غيبته عنه، وإنما خصّ حالة الغيبة بالذكر؛ لِبُعدها عن الرياء، والأغراض المُفسدة، أو المُنقصة، فإنه في حال الغيبة
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 49.
يتمحّض الاخلاص، ويصحّ قصد وجه اللَّه تعالى بذلك، فيوافقه الملك في الدعاء، ويبشّره على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن له مثل ما دعا به لأخيه، والأخوة هنا هي الأخوة الدينية، وقد تكون معها صداقة، ومعرفة، وقد لا يكون، وقد يتعيَّن، وقد لا يتعين، فإنَّ الإنسان إذا دعا لإخوانه المسلمين حيث كانوا، وصَدَق اللَّه في دعائه، وأخلص فيه في حال الغَيبة عنهم، أو عن بعضهم، قال الملَك له ذلك القول، بل قد يكون ثوابه أعظم؛ لأنَّه دعا بالخير، وقَصَده للإسلام، ولكل المسلمين، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6904]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَرْوَانَ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، قَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ الدَّرْدَاءِ، قَالَتْ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: "آمِينَ" وَلَكَ بِمِثْلٍ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.
3 -
(مُوسَى بْنُ سَرْوَانَ الْمُعَلِّمُ)"سروان" بالسين المهملة، ويقال: ثروان بالثاء المثلَّثة، ويقال: بالفاء بدل المثلثة
(2)
، العجليّ البصريّ، ثقة [7].
رَوى عن طلحة بن عبيد اللَّه بن كَرِيز، وأبي المتوكل الناجيّ، وبُديل بن ميسرة، ومورّق العجليّ، وغيرهم.
(1)
"المفهم" 7/ 61 - 62.
(2)
وقال النوويّ: قوله: "سروان" هكذا رواه عامة الرواة، وجميع نُسخ بلادنا:"سروان" بسين مهملة مفتوحة، وكذا نقله القاضي عن عامة شيوخهم، وقال: وعن ابن ماهان أنه بالثاء المثلثة، قال البخاريّ، والحاكم: يقالان جميعًا فيه، وهما صحيحان، وقال بعضهم: فردان بالفاء، وهو أنصاريّ عجليّ. انتهى.
وروى عنه شعبة، وابن المبارك، وأبو عبيدة الحداد، ومحمد بن سوار، والنضر بن شميل، وهلال بن فياض، ووكيع، وغيرهم.
قال ابن معين: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وسئل عنه الدارقطنيّ، فقال: إسناد مجهول، حمله الناس.
أخرج له المصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقون ذُكروا قبله.
وقولها: (سَيِّدِي) تريد زوجها أبا الدرداء، كما في قوله تعالى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] وفيه توقير المرأة زوجها.
وقوله: (قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ. . . إلخ) فيه إثبات ملَك مُوَكَّل لمن يدعو لأخيه لظهر الغيب يدعو له بالمثل.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6905]
(2733) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ صَفْوَانَ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ- وَكانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ، قَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ، فَلَمْ أَجِدْهُ، وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ، فَقَالَتْ: أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ بِمِثْلٍ"، قَالَ: فَخَرَجْتُ إِلَى السُّوقِ، فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ، فَقَالَ لِى مِثْلَ ذَلِكَ، يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل، الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل:(191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.
2 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ) ميسرة العَرْزميّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، إلا أنه يدلّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.
4 -
(صَفْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) بن أمية بن خلف الْجُمَحيّ المكيّ القرشيّ، كان زوج الدرداء بنت أبي الدرداء، ثقةٌ [3].
روى عن أبي الدرداء، وعن أم الدرداء، وعليّ، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وحفصة بنت عمر.
وروى عنه الزهريّ، وأبو الزبير، وعمرو بن دينار، وغيرهم،
قال سعد: كان قليل الحديث، وقال النسائيّ: ثقة، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، له عندهم في الدعاء بظهر الغيب، وعند النسائيّ:"وليس من البر الصيام في السفر".
والباقون ذُكروا قبله.
شرح الحديث:
(عَنْ صَفْوَانَ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ- وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ)؛ أي: كانت زوجته الدرداء بنت أبي الدرداء. (قَالَ) صفوان: (قَدِمْتُ) بكسر الدال، (الشَّامَ) بالهمزة ودونها: البلد المعروف، (فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (فِي مَنْزِلِهِ)؛ أي: لأزوره في بيته (فَلَمْ أَجِدْهُ) في البيت، (وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ) تقدّم أنها هجيمة، أو جهيمة. (فَقَالَتْ) أم الدرداء:(أترِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ؟)؛ أي: في هذه السنة، قال صفوان:(فَقُلْتُ: نَعَمْ) أريده، (قَالَتْ: فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ) لأن الحج مظنَّة إجابة الدعاء، (فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ:"دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ) المسلم (بِظَهْرِ الْغَيْبِ)؛ أي: بالغيب، فـ "ظهر" مقحم، (مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ)؛ أي: عند رأس الداعي لأخيه بالغيب، (مَلَكٌ مُوَكَّلٌ) بالتأمين على دعائه، والدعاء له بالمثل، (كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَلُ بِهِ:
آمِينَ)؛ أي: استجب يا اللَّه دعاء هذا الداعي، ثم بعد التأمين قال له:(وَلَكَ بِمِثْلٍ")؛ أي: لك مثل ما دعوت به لأخيك. (قَالَ) صفوان: (فَخَرَجْتُ) من منزل أبي الدرداء بعدما سمعت الحديث من أم الدرداء مرسَلًا، (إِلَى السُّوقِ، فَلَقِيتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ) رضي الله عنه (فَقَالَ لِي) أبو الدرداء (مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: مثل ما قالت أمّ الدرداء من سؤاله عن حجه العام، وطلب الدعاء منه، وإخباره بالحديث، حال كون أبي الدرداء رضي الله عنه (يَرْوِيهِ)؛ أي: ينقله مباشرة (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) لا كما روته أم الدرداء بالإرسال.
والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق تخريجه، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6906]
(. . .) - (وَحَدَّثناهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) السلميّ، أبو خالد الواسطيّ، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.
وقوله: (وَقَالَ: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) فاعل "قال" ضمير يزيد بن هارون؛ يعني: أن يزيد قال في روايته: "عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ" ذَكَره بنَسَبه، بخلاف عيسى بن يونس، فإنه قال:"عن صفوان" ولم يذكر نَسَبه، وأما قوله:"وهو ابن عبد اللَّه بن صفوان" فإنه ملحَق ممن بعده، فتنبّه.
[تنبيه]: رواية يزيد بن هارون عن عبد الملك بن أبي سليمان هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(27599)
- حدّثنا يزيد بن هارون، أنا عبد الملك، عن أبي الزبير، عن صفوان بن عبد اللَّه، وكانت تحبه أم الدرداء، فأتاهم، فوجد أم الدرداء، فقالت له: أتريد الحج العام؟ فقال: نعم، قالت: فادع لنا بخير، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه
ملك موكّل به، كلما دعا لأخيه بخير، قال: آمين، ولك بمثل"، قال: فخرجت إلى السوق، فلقيت أبا الدرداء، فحدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك. انتهى
(1)
.
(24) - (بَابُ اسْتِحْبَابِ حَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6907]
(2734) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ زَكَرِيَّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكلَ الأَكْلَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(ابْنُ نُمَيْرٍ) محمد الهمدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(زَكَرِيَّاءَ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فيروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يدلّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وروايته عن ابن عمر مرسلة [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.
5 -
(أنسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، وقبله بباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، ثم بصريّ، وفيه أنس رضي الله عنه الخادم الشهير، ومن المكثرين السبعة.
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 452.
شرح الحديث:
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ) فيه إثبات صفة الرضا للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ولا يؤوّل، وفي رواية الضياء في "المختارة":"إن اللَّه لَيُدخل العبد الجنة بالأكلة، أو الشربة، يحمد اللَّه عز وجل عليها").
(أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ)؛ أي: بسبب أن يأكل، أو لأجل أن يأكل، أو مفعول به لـ "يرضى"؛ يعني: أنه يحب منه أن يأكل الأكلة، قال النوويّ: الأكلة هنا بفتح الهمزة، وهي المرة الواحدة من الأكل، كالغداء، أو العَشاء. انتهى.
وقال القاري: بفتح الهمزة؛ أي: المرة من الأكل، حتى يشبع، ويُروَى بضم الهمزة؛ أي: اللقمة، وهي أبلغ في بيان اهتمام أداء الحمد، لكن الأول أوفق مع قوله:"أو يشرب الشَّربة"، فإنها بالفتح لا غير، وكل منهما مفعول مطلق لفعله. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قد تقدّم أن الأكلة بفتح الهمزة: المرة الواحدة من الأكل، وبالضم: اللقمة، ويصلح هذا اللفظ هنا للتقييدين، وبالفتح وجدته مقيَّدًا في كتاب شيخنا، والحمد هنا بمعنى الشكر، وقد قدمنا أن الحمد يوضع موضع الشكر، ولا يوضع الشكر موضع الحمد. انتهى
(2)
.
(فَيَحْمَدَهُ) بالنصب، وهو ظاهر، ويجوز الرفع؛ أي: فهو؛ أي: العبد يحمده (عَلَيْهَا)؛ أي: على الأكلة، وقوله:(أَوْ) للتنويع، وليست للشك من الراوي، خلافًا لمن زعم ذلك. (يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ، فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا")؛ أي: على الشربة، قال المناويّ رحمه الله: وفيه أن أصل سُنَّة الحمد تحصل بأيّ لفظ اشتقّ مادة (ح م د) بل بما يدل على الثناء على اللَّه تعالى، والأَولى ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يحمد به، وسيأتي في المسألة الثالثة.
قال: وهذا تنويه عظيم بمقام الشكر، حيث رتَّب هذا الجزاء العظيم الذي هو أكبر أنواع الجزاء، كما قال سبحانه وتعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] في مقابلة شُكره بالحمد، وعبَّر بالمرّة إشعارًا بأن الأكل والشرب يَستحقّ الحمد
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 5/ 437.
(2)
"المفهم" 7/ 60 - 61.
عليه، وإن قلّ جدًّا، وأنه يتعين علينا أن لا نحتقر من اللَّه شيئًا، وإن قلّ. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 6907 و 6908](2734)، و (الترمذيّ) في "الأطعمة"(1816) وفي "الشمائل"(194)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 202)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 100 و 117)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 138 و 6/ 73)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 298)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 281)، و (هنّاد) في "الزهد"(2/ 399)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 160)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 124)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان استحباب الحمد بعد الأكل والشرب.
2 -
(ومنها): بيان أن اللَّه سبحانه وتعالى يرضى لعباده بسبب حمده على الأكل والشرب.
3 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال: اتفقوا على استحباب الحمد بعد الطعام، ووردت في ذلك أنواع لا يتعيَّن شيء منها، وقال النوويّ: في الحديث استحباب حمد اللَّه تعالى عَقِب الأكل والشرب، وقد جاء في البخاريّ صفة التحميد:"الحمد للَّه حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفيّ، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه رَبَّنَا"، وجاء غير ذلك، ولو اقتصر على "الحمد للَّه" حصل أصل السُّنَّة. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ومما ورَدَ: ما أخرجه البخاريّ عن أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: "الحمد للَّه كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفيّ، ولا مودَّع، ولا مستغنى عنه، رَبَّنا".
(1)
"فيض القدير" 2/ 262.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 51.
وفي رواية: "كان إذا فرغ من طعامه -وقال مرة: إذا رفع مائدته- قال: الحمد للَّه الذي كفانا، وأروانا، غير مكفيّ، ولا مكفور، وقال مرة: الحمد للَّه ربنا، غير مكفيّ، ولا مودَّع، ولا يستغنى عنه ربنا".
وأخرج أبو داود من حديث أبي سعيد: "الحمد للَّه الذي أطعمنا، وسقانا، وجعلنا مسلمين".
ولأبي داود، والترمذيّ من حديث أبي أيوب:"الحمد للَّه الذي أطعم، وسقى، وسوّغه، وجعل له مخرجًا".
وأخرج النسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ما في حديث أبي سعيد، وأبي أُمامة، وزيادة في حديث مطوّل.
وللنسائيّ من طريق عبد الرحمن بن جبير المصريّ، أنه حدثه رجل خَدَم النبيّ صلى الله عليه وسلم ثمان سنين؛ أنه كان يسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قُرِّب إليه طعامه يقول: بسم اللَّه، فإذا فرغ قال:"اللَّهُمَّ أطعمت، وسقيت، وأغنيت، وأقنيت، وهديت، وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت"، وسنده صحيح، قاله في "الفتح"
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: فيه دلالة على أن شكر النعمة، وإن قلّت سببُ نَيْل رضا اللَّه تعالى الذي هو أشرف أحوال أهل الجنة، وسيأتي قول اللَّه عز وجل لأهل الجنة حين يقولون:"أعطيتنا ما لم تُعط أحدًا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتدخلنا الجنة، وتزحزحنا عن النار؟، فيقول: أُحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"، متّفقٌ عليه.
قال: وإنما كان الشكر سببًا لذلك الإكرام العظيم؛ لأنَّه يتضمّن معرفة المُنعِم، وانفراده بخلق تلك النعمة، وبإيصالها إلى المنعَم عليه، تفضلًا من المنعِم، وكرمًا، ومنة، وإن المنعَم عليه فقير، محتاج إلى تلك النِّعم، ولا غنى
(1)
"الفتح" 12/ 388.
له عنها، فقد تضمّن ذلك معرفة حقّ اللَّه تعالى وفضله، وحقّ العبد، وفاقته، وفقره، فجعل اللَّه تعالى جزاء تلك المعرفة تلك الكرامة الشريفة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
وهو بحث نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6908]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ) هو: إسحاق بن يوسف بن مِرْداس المخزوميّ الواسطيّ، المعروف بالأزرق، ثقةٌ [9](ت 195) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 191.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ) ووقع في النسخة الهنديّة ما نصّه: "حدّثنا زكريّا بن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بنحوه".
[تنبيه]: رواية إسحاق بن يوسف عن زكريّا هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(4334)
- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا إسحاق بن يوسف، حدّثنا زكريا، عن سعيد بن أبي بُردة، عن أنس بن مالك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه ليرضى عن العبد، أن يأخذ الأكلة، فيحمد اللَّه عليها، أو يشرب الشربة". انتهى
(2)
.
(1)
"المفهم" 7/ 61.
(2)
"مسند أبي يعلى" 7/ 300.
(25) - (بَابُ بَيَانِ أَنَّهُ يُسْتَجَابُ لِلدَّاعِي مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: دَعَوْتُ، فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6909]
(2735) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، فَلَا -أَوْ- فَلَمْ يُسْتَجَبْ
(1)
لِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ، أبو زكرياء النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.
2 -
(مَالِكُ) بن أنس، إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ) سعد بن عُبيد الزهريّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر، يكنى أبا عبيد المدنيّ، ثقةٌ [3] وقيل: له إدراك، مات سنة (98)(ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فنيسابوريّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن مالك وغيره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، قد سبق القول فيه غير مرّة.
(1)
وفي نسخة: "أو فلم يستجاب لي".
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ) تقدّم أن اسمه سعد بن عُبيد، وكنيته أبو عبيد. (مَوْلَى) عبد الرحمن (ابْنِ أَزْهَرَ) ويقال له أيضًا: مولى عبد الرحمن بن عوف، كما في الرواية التالية؛ لأنهما ابنا عمّ، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ بالمدينة. (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ) من الاستجابة، بمعنى الإجابة، تقول العرب: استجبتك؛ أي: أجبتك، قال كعب بن الغنويّ [من الطوبل]:
وَدَاع دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى
…
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
والمعنى: أنه يُستجاب دعاء الداعي بعد استيفاء شروط الإجابة، كما بُيّن في الحديث الثالث:"لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل".
(لأَحَدِكُمْ)؛ أي: كل واحد منكم؛ إذ اسم الجنس المضاف يفيد العموم على الأصحّ.
(مَا) مصدريّة ظرفيّة، (لَمْ يَعْجَلْ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِب؛ أي: مدة عدم عَجَله، وقوله:"دعوت فلم يُستجب لي" بيان، وتفسير للعجلة، (فَيَقُولُ) بالنصب لا غير.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال في "العمدة"، والذي يظهر لي أنه يجوز فيه أوجه الإعراب الثلاثة: الجزم إن صحّت الرواية عطفًا على "يعجل"، والرفع على الاستئناف، والنصب بأن مضمرة بعد الفاء السببيّة، كما قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ فَا جَوَاب نَفْي أَوْ طَلَبْ
…
مَحْضَيْنِ "أَنْ" وَسَتْرُهُ حَتْمٌ نَصَبْ
ونظيره قولهَ تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} الآية [البقرة: 284].
وإلى جواز هذه الأوجه أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَالْفِعْلُ مِنْ بَعْدِ الْجَزَا إِنْ يَقْتَرِنْ
…
بِالْفَا أَوِ الْوَاوِ بِتَثْلِيثٍ قَمِنْ
فقد قرئ قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} بالأوجه الثلاثة، واللَّه تعالى أعلم. (قَدْ دَعَوْتُ، فَلَا) يستجاب لي، (أَوْ) للشك من الراوي؛ أي: قال: (فَلَمْ
يُسْتَجَبْ لِي") قال ابن بطال رحمه الله: المعنى أنه يسأم، فيترك الدعاء، فيكون كالمانّ بدعائه، أو أنه أتى من الدعاء ما يستحقّ به الإجابة، فيصير كالمبخِّل للربّ الكريم، الذي لا تُعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء.
وقد وقع في رواية أبي إدريس الخولانيّ، عن أبي هريرة الآتي بعد حديث:"لا يزال يستجاب للعبد، ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم، وما لم يستعجل، قيل: وما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك، ويدع الدعاء"، ومعنى قوله:"يستحسر"، وهو بمهملات: ينقطع، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 6909 و 6910 و 6911](2735)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6340) وفي "الأدب المفرد"(654)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 213)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1484)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3387 و 3608)، و (ابن ماجه) في "الدعاء"(3853)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 441)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 396)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(975)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(1/ 374 و 375)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 44 و 45)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): الحثّ على الدعاء، والإلحاح على اللَّه تعالى في المسألة، وأن لا ييأس الداعي من الإجابة، ولا يسأم الرغبة، فإنه يستجاب له، أو يكفّر عنه من سيئاته، أو يدَّخر له، فإن الدعاء عبادة، كما قال اللَّه تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتَح له، ولا يملّ اللَّه عز وجل من العطاء، حتى يملّ العبد من الدعاء، ومن عَجِل، وتبَرّم، فنفسه قد ظلم.
قال ابن عبد البرّ رحمه الله: روينا عن مروان العجليّ أنه قال: سألت ربي عشرين سنة في حاجة، فما قضاها حتى الآن، وأنا أدعوه فيها، ولا أيأس من قضائها. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي هذا الحديث أدبٌ من آداب الدعاء، وهو أنه يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لِمَا في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: لأنَا أشدّ خشية أن أُحرم الدعاء، من أن أُحرم الإجابة، وكأنه أشار إلى حديث ابن عمر، رفعه:"من فُتح له منكم باب الدعاء، فتحت له أبواب الرحمة. . . " الحديث، أخرجه الترمذيّ بسند ليّن، وصححه الحاكم، فوَهِمَ.
وقال الداوديّ: يُخشى على من خالف، وقال: قد دعوت فلم يُستجب لي أن يُحرم الإجابة، وما قام مقامها من الادّخار، والتكفير. انتهى.
وقد وردت أحاديث دالّة على أن دعوة المؤمن لا تردّ، وأنها إما أن تعجِّل له الإجابة، وإما أن تَدفع عنه من السوء مثلها، وإما أن يدّخر له في الآخرة خير مما سأل.
فأشار الداودي إلى ذلك، وإلى ذلك أشار ابن الجوزيّ بقوله: اعلم أن دعاء المؤمن لا يردّ، غير أنه قد يكون الأَولى له تأخير الإجابة، أو يُعَوَّض بما هو أَولى له عاجلًا، أو آجلًا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه، فإنه متعبَّد بالدعاء، كما هو متعبَّد بالتسليم، والتفويض. انتهى
(2)
.
3 -
(ومنها): ما قاله أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على تخصيص قول اللَّه عز وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وأن الآية ليست على عمومها، ألا ترى أن هذه السُّنَّة الثابتة خَصّت منها الداعي إذا عَجِل، فقال: قد دعوت، فلم يستجب لي، والدليل على صحة هذا التأويل قول اللَّه عز وجل:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]، ولكن قد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإجابة، ومعناها ما فيه غِنًى عن قول كل قائلّ، وهو حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة،
(1)
"الاستذكار" 2/ 526.
(2)
"الفتح" 14/ 349 - 350.
ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: فإما أن يعجّل له دعوته، وإما أن يؤخّرها له في الآخرة، وإما أن يكفّر عنه، أو يكفّ عنه من السوء مثلها"
(1)
.
قال: وفيه دليل على أنه لا بدّ من الإجابة على إحدى هذه الأوجه الثلاثة، فعلى هذا يكون تأويل قول اللَّه عز وجل -واللَّه أعلم- {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} ، أنه يشاء، وأنه لا مُكرِه له، ويكون قوله عز وجل:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، على ظاهره، وعمومه، بتأويل حديث أبي سعيد المذكور، واللَّه أعلم بما أراد بقوله، وبما أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والدعاء خير كله، وعبادة، وعملٌ حسنٌ، واللَّه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه كان يقول: ما أخاف أن أُحرم الإجابة، ولكني أخاف أن أُحرم الدعاء.
قال: وهذا عندي على أنه حَمَل آية الإجابة على العموم، والوعد، واللَّه لا يخلف الميعاد.
وروي عن بعض التابعين أنه كان يقول: الداعي بلا عمل كالرامي بلا وَتَر.
ورُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل اللَّه دعاء من قلب لاهٍ، فادعوه، وأنتم موقنون بالإجابة"
(2)
، وقد علمنا أن ليس كل الناس تجاب دعوته، ولا في كل وقت تجاب دعوة الفاضل، وأن دعوة المظلوم لا تكاد تُرَدّ. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(3)
، وهو تحقيق نفيسٌ، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
رواه أحمد، والبزّار، والحاكم، وأبو يعلى بأسانيد جيّدة، وقال: صحيح الإسناد، قاله الشيخ الألبانيّ رحمه الله.
(2)
رواه الترمذيّ، والحاكم، وقال: مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المريّ، وهو أحد زهاد البصرة. انتهى.
قال الحافظ: صالح المريّ لا شك في زهده، لكن تركه أبو داود، والنسائيّ، وقال في "التقريب": صالح بن بشير المرّيّ، أبو بِشر البصريّ القاصّ الزاهد ضعيف من السابعة، مات سنة (172) وقيل: بعدها.
(3)
"التمهيد لابن عبد البرّ" 10/ 296 - 299.
4 -
(ومنها): ما قال في "الفتح": ومن جملة آداب الدعاء تحري الأوقات الفاضلة؛ كالسجود، وعند الأذان، ومنها تقديم الوضوء، والصلاة، واستقبال القبلة، ورفع اليدين، وتقديم التوبة، والاعتراف بالذنب، والإخلاص، وافتتاحه بالحمد، والثناء، والصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والسؤال بالأسماء الحسنى وأدلة ذلك كلّه واضحة من الكتاب والسنن الصحيحة.
وقال الكرمانيّ رحمه الله ما ملخصه: الذي يُتصوّر في الإجابة وعدمها أربع صور:
الأُولى: عدم العجلة، وعدم القول المذكور، الثانية: وجودهما، الثالثة، والرابعة: عدم أحدهما، ووجود الآخر، فدلّ الخبر على أن الإجابة تختصّ بالصورة الأولى، دون الثلاث، قال: ودلّ الحديث على أن مطلق قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} مقيّد بما دلّ عليه الحديث.
قال الحافظ: وقد أُوِّل الحديث المشار إليه قبلُ على أن المراد بالإجابة ما هو أعمّ من تحصيل المطلوب بعينه، أو ما يقوم مقامه، ويزيد عليه، واللَّه أعلم.
(المسألة الرابعة): قد ذكر في "الفتح" في أول "كتاب الدعوات" بحثًا جيّدًا متعلّقًا بالدعاء، وذلك أنه تكلّم على الآية التي أوردها البخاريّ رحمه الله في الترجمة، وهي قول اللَّه تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية.
قال: وهذه الآية ظاهرة في ترجيح الدعاء على التفويض، وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء، والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن الآية بأن آخرها دلّ على أن المراد بالدعاء: العبادة؛ لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60]، واستدلّوا بحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} الآية، أخرجه الأربعة، وصححه الترمذيّ، والحاكم.
وشذّت طائفة، فقالوا: المراد بالدعاء في الآية: ترك الذنوب، وأجاب الجمهور أن الدعاء من أعظم العبادة، فهو كالحديث الآخر:"الحج عرفة"؛ أي: معظم الحج، ورُكْنه الأكبر، ويؤيده ما أخرجه الترمذيّ من حديث
أنس رضي الله عنه، رفعه:"الدعاء مُخّ العبادة"
(1)
.
وقد تواردت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء، والحثّ عليه؛ كحديث أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"ليس شيء أكرم على اللَّه من الدعاء"، أخرجه الترمذيّ، وابن ماجه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وحديثه رفعه:"من لم يسأل اللَّه يغضب عليه"، أخرجه أحمد، والبخاريّ في "الأدب المفرد"، والترمذيّ، وابن ماجه، والبزار، والحاكم، كلهم من رواية أبي صالح الْخُوزيّ -بضم الخاء المعجمة، وسكون الواو، ثم زاي- عنه، وهذا الخوزي مختلَف فيه، ضعّفه ابن معين، وقوّاه أبو زرعة.
قال الحافظ: وظنّ الحافظ ابن كثير أنه أبو صالح السمّان، فجزم بأن أحمد تفرّد بتخريجه، وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزيّ في "الأطراف" بما قلته.
ووقع في رواية البزار، والحاكم، عن أبي صالح الْخُوزيّ، سمعت أبا هريرة.
قال الطيبيّ رحمه الله: معنى الحديث: أن من لم يسأل اللَّه يُبغضه، والمبغوض مغضوب عليه، واللَّه يحب أن يُسأل. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإلى معنى هذا الحديث أشار من قال، وأجاد في المقال [من البسيط]:
لَا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً
…
وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ
اللَّهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ
…
وَبُنَيّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ
قال: ويؤيده حديث ابن مسعود رضي الله عنه رفعه: "سلوا اللَّه من فضله، فإن اللَّه يحب أن يُسأل"، أخرجه الترمذيّ
(2)
.
وله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما رفعه: "إن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم عباد اللَّه بالدعاء"، وفي سنده لِيْن، وقد صححه مع ذلك الحاكم.
(1)
حديث ضعيف، في سنده ابن لهيعة، وهو متكلّم فيه.
(2)
حديث ضعيف، في سنده حمّاد بن واقد: ضعيف.
وأخرج الطبرانيّ في "الدعاء" بسند رجاله ثقات، إلا أن فيه عنعنة بقية، عن عائشة رضي الله عنها، مرفوعًا:"إن اللَّه يحب الملحين في الدعاء".
وقال الشيخ تقيّ الدين السبكيّ رحمه الله: الأَولى حمل الدعاء في الآية على ظاهره، وأما قوله بعد ذلك {عَنْ عِبَادَتِي} فوجْه الربط: أن الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة، استكبر عن الدعاء، وعلى هذا فالوعيد إنما هو في حقّ من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كَفَر، وأما من تَرَكه لمقصد من المقاصد، فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنا نرى أن ملازمة الدعاء، والاستكثار منه أرجح من الترك؛ لكثرة الأدلة الواردة في الحثّ عليه.
قال الحافظ: وقد دل قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65]، أن الإجابة مشترطة بالإخلاص، وقال الطيبيّ رحمه الله: معنى حديث النعمان رضي الله عنه أن تُحْمَل العبادة على المعنى اللغويّ؛ إذ الدعاء هو إظهار غاية التذلل، والافتقار إلى اللَّه تعالى، والاستكانة له، وما شُرعت العبادات إلا للخضوع للباري، وإظهار الافتقار إليه، ولهذا خَتم الآية بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} حيث عبَّر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووَضَع عبادتي موضع دعائي، وجَعَل جزاء ذلك الاستكبار الصغار، والهوان.
وحَكَى القشيريّ في "الرسالة" الخلاف في المسألة، فقال: اختُلف أي الأمرين أَولى: الدعاء، أو السكوت والرضا؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه؛ لكثرةِ الأدلة؛ ولِمَا فيه من إظهار الخضوع، والافتقار، وقيل: السكوت والرضا أَولى؛ لِمَا في التسليم من الفضل.
قال الحافظ: وشُبهتهم أن الداعي لا يعرف ما قُدّر له، فدعاؤه إن كان على وفق المقدور، فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاندة.
والجواب عن الأول: أن الدعاء من جملة العبادة؛ لِمَا فيه من الخضوع والافتقار، وعن الثاني أنه إذا اعتقد أنه لا يقع إلا ما قدَّر اللَّه تعالى، كان إذعانًا، لا معاندةً، وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعوّ به موقوفًا على الدعاء؛ لأن اللَّه خالق الأسباب ومسبَّباتها.
قال: وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيًا بلسانه، راضيًا بقلبه، قال: والأَولى أن يقال: إذا وجد في قلبه إشارة الدعاء، فالدعاء أفضل، وبالعكس.
قال الحافظ: القول الأول أعلى المقامات أن يدعو بلسانه، ويرضى بقلبه، والثاني لا يتأتى من كل أحد، بل ينبغي أن يختص به الكُمَّل، قال القشيريّ: ويصح أن يقال: ما كان للَّه، أو للمسلمين فيه نصيب، فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظّ، فالسكوت أفضل.
وعَبّر ابن بطال عن هذا القول لمّا حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره، ويترك لنفسه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى مخالفة هذا القول لهدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه كان كثير الدعاء لنفسه، ولأمته، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
قال: وعمدة من أوّل الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41] وإن كثيرًا من الناس يدعو، فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف.
والجواب عن ذلك: أن كل داع يستجاب له، لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به، وتارة بِعِوَضه، وقد ورد في ذلك حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ، والحاكم، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، رفعه:"ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة، إلا آتاه اللَّه إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها".
ولأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إما ان يعجّلها له، وإما أن يدّخرها له"، وله في حديث أبي سعيد، رفعه:"ما من مسلم يدعو بدعوة، ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه اللَّه بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدّخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها"، وصححه الحاكم.
ومن شروط إجابة الدعاء أيضًا: أن يكون طيّب المَطعم والملبس؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس إن اللَّه طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن اللَّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)} [المؤمنون: 51]، وقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمدّ يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه
حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، فانى يستجاب لذلك؟ "، رواه مسلم. انتهى منقولًا من "الفتح"
(1)
بتصرّف، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6910]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْب بْنِ لَيْثٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَكَانَ مِنَ الْقُرَّاءِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ لَيْثٍ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد اللَّه المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
2 -
(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيل فقيهٌ، من كبار [10](ت 199) وله أربع وستون سنة (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.
3 -
(جَدُّهُ) الليث بن سعد الإمام المشهور المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ) -بضمّ العين- ابن عَقِيل -بفتح العين- الأيليّ -بفتح الهمزة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم لام- أبو خالد الأُمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) تقدّم أنه مولى عبد الرحمن بن أزهر، ولا تخالُف بينهما؛ لأنهما ابنا عمّ، فيجوز أن يُنسب على كلّ منهما.
(1)
راجع: "الفتح" 14/ 275 - 278.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6911]
(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ -وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ- عَنْ رَبيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ"، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: "يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وَقَدْ دَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو الطَّاهِرِ) أحمد بن عمرو بن عبد اللَّه بن عمرو بن السرح المصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه الحافظ المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحِ) بن حدير -بالمهملة، مصغرًا- الحضرميّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الحمصيّ، قاضي الأندلس، ثقةٌ له أفراد [7] (ت 158) وقيل: بعد السبعين ومائة (ر م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
4 -
(رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ) الدمشقيّ، أبو شعيب الإياديّ القصير، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 1 أو 123)(ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
5 -
(أَبُو إِدْرِيس الْخَوْلَانِيُّ) عائذ اللَّه بن عبد اللَّه، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حُنين، وسَمِع من كبار الصحابة، ومات سنة ثمانين، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.
والصحابيّ ذُكر قبله.
وقوله: (مَا لَمْ يَدْعُ بِإثْمٍ) وفي رواية "بمأثم"، والمأثم: الأمر الذي يأثم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه.
وقوله: (أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ) تخصيص بعد تعميم، والقطيعة؛ أي: الهجران والصدّ؛ أي: تَرْك البرّ إلى الأهل، والأقارب.
وقوله: (مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ) وفي الرواية الماضية: "ما لم يعجل" بفتح التحتية، والجيم، بينهما عين ساكنة.
وقوله: (فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدَعُ الدُّعَاءَ). قوله: "يستحسر" بمهملات: استفعال من حَسَر: إذا أعيا، وتَعِب، وتكرارُ "دعوت" للاستمرار؛ أي: دعوت مرارًا كثيرة.
وقال النوويّ: قال أهل اللغة: يقال: حَسَر، واستحسر: إذا أعيا، وانقطع عن الشيء، والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء، ومنه قوله تعالى:{لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ؛ أي: لا ينقطعون عنها، ففيه أنه ينبغي إدامة الدعاء، ولا يستبطئ الإجابة. انتهى
(1)
.
وقال المظهريّ: من له ملالة من الدعاء، لا يُقبل دعاؤه؛ لأن الدعاء عبادةٌ، حصلت الإجابة أو لم تحصل، فلا ينبغي للمؤمن أن يَمَلّ من العبادة، وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأت وقتها، وإما لأنه لم يقدّر في الأزل قبول دعائه في الدنيا؛ ليعطى عوضه في الآخرة، وإما أن يؤخّر القبول؛ ليُلِحّ ويبالغ في ذلك، فإن اللَّه يحبّ الملحّين في الدعاء، مع ما في ذلك من الانقياد، والاستسلام، وإظهار الافتقار، ومن يُكثر قرع الباب يوشك أن يُفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يزال يُستجاب للعبد. . . إلخ": يعني بالعبد: الصالح لقبول دعائه، فإنَّ إجابة الدعاء لا بدّ لها من شروط في الداعي، وفي الدعاء، وفي الشيء المدعوّ به، فمن شَرْط الداعي أن يكون عالِمًا بأنه لا قادر على حاجته إلا اللَّه تعالى، وأن الوسائط في قبضته، ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنيّة صادقة، وحضور قلب، وأن يكون مجتنبًا أكل الحرام، كما قدّمناه، وألا يَمَلّ من الدعاء، فيتركه، ويقول: قد دعوت، فلم يستجب لي، كما قال في الحديث.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 52.
(2)
"شرح الزرقانيّ" 2/ 48.
ومن شروط المدعوّ فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب، والفعلِ شرعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم"، فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في قطيعة الرحم جميع حقوق المسلمين، ومظالمهم.
وقد بيّنّا أن الرَّحِم ضربان: رحم الإسلام، ورحم القرابة.
قال: و"يستحسر"؛ يعني: وَيمَلّ، يقال: حَسَر البعيرُ يَحْسِرُ، ويَحْسَر
(1)
حُسورًا: أعيا. واستحسر، وتحسّر مثله، وفائدة هذا: استدامة الدعاء، وترك اليأس من الإجابة، ودوام رجائهما، واستدامة الإلحاح في الدعاء، فإنَّ اللَّه يحبّ الملحّين عليه في الدعاء، وكيف لا؟ والدعاء مخّ العبادة، وخلاصة العبودية، والقائل: قد دعوت، فلم أر يستجاب لي، ويَترك قانطٌ من رحمة اللَّه، وفي صورة الممتنّ بدعائه على ربه، ثم إنه جاهل بالإجابة، فإنه يظنها إسعافه في عين ما طلب، فقد يعلم اللَّه تعالى أن في عين ما طلب مفسدة، فيصرفه عنها، فتكون إجابته في الصرف، وقد يعلم اللَّه أن تأخيره إلى وقت آخر أصلح للداعي، وقد يؤخره لأنه سبحانه يحبّ استماع دعائه، ودوام تضرّعه، فتكثر أجوره حتى يكون ذلك أعظم، وأفضل من عين المدعوّ به لو قُضي له، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى ثلاث: إما أن يستجاب له، وإما أن يدّخر له، وإما أن يكفّر عنه".
ثم بعد هذا كله فإجابة الدعاء، وإن وردت في مواضع من الشرع مطلقة فهي مقيّدة بمشيئته، كما قال تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41]. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(2)
، وهو تحقيق مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
من بابي ضرب، وفَرِح. اهـ. "ق".
(2)
"المفهم" 7/ 62 - 63.
(51) - (كِتَابُ الرِّقَاقِ)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه الترجمة توجد في النسخة التركيّة، وفي نسخة شرح النوويّ، ولا توجد في بعض النسخ، كالهنديّة، ولذا جعلوا الأحاديث الآتية تابعة للكتاب الماضي:"كتاب الذكر، والدعاء"، وأعطوها الأرقام المسلسلة فيه، والصواب عندي النسخة الأُولى؛ لأن الأحاديث الآتية لا تشبه أحاديث الكتاب الماضي، بل هي مستقلّة بنفسها، فينبغي لها كتاب مستقلّ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
و"الرِّقَاقُ"، و"الرَّقائق": جمع رقيقة، وسمّيت الأحاديث بذلك؛ لأن في كل منها ما يُحدث في القلب رِقَةً، قال أهل اللغة: الرقة: الرحمة، وضدّ الغِلَظ، ويقال للكثير الحياء: رَقَّ وجهه استحياءً، وقال الراغب: متى كانت الرقة في جسم، فضدّها الصفاقة، كثوب رقيق، وثوب صَفِيق، ومتى كانت في نفس، فضدّها القسوة، كرقيق القلب، وقاسي القلب، وقال الجوهريّ: وترقيق الكلام تحسينه، ذكره في "الفتح"
(1)
.
(1) - (بَاب أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْفُقَرَاءُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ النِّسَاءُ، وَبَيَانُ الْفِتْنَةِ بِالنِّسَاءِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6912]
(2736) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعتَمِرُ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ
(1)
"الفتح" 14/ 491، "كتاب الرقاق" رقم (6412).
عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ، حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ، إِلَّا أَصْحَابَ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ").
رجال هذا الإسناد: ثلاثة عشر:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود، ويقال له: هُدبة -بضم أوله، وسكون الدال، بعدها موحّدة- القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ، تفرد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
3 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
6 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
7 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
8 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
9 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان البصريّ، تقدّم قريبًا.
10 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) الجحدريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
11 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) أبو معاوية العيشيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
12 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو النهديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
13 -
(أُسَامَةُ بْنَ زَيْدِ) بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، وأبو زيد الصحابيّ المشهور، مات رضي الله عنه سنة أربع وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين سنةً بالمدينة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه خمسة أسانيد فرّق بينها بالتحويل، وكلهم بصريون إلا زهيرًا، فبغداديّ، وجريرًا، وأبا عثمان فكوفيّان، وأسامة فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو صحابيّ ابن صحابيّ، حِبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حِبّه رضي الله عنه.
وقوله: (كلُّهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ)؛ أي: كل هؤلاء الأربعة: حماد بن سلمة، ومعاذ بن معاذ، والمعتمر بن سليمان، وجرير بن عبد الحميد رووا هذا الحديث عن سليمان التيميّ، وإنما لم يضمّ إليهم يزيد بن زريع؛ لمخالفة روايته روايتهم حيث قال: حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، فصرّح بالتحديث بخلافهم، فإنهم عنعنوا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ -بتشديد اللام- ابن عمرو (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ) ظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء، أو منامًا، وهو غير رؤيته النار وهو في صلاة الكسوف، ووهم من وحّدهما، وقال الداوديّ: رأى ذلك ليلة الإسراء، أو حين خسفت الشمس، كذا قال (فَإذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا) هكذا هو في "صحيح مسلم" بلفظ الماضي، وقال السنديّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن المضي في المواضع كلها بمعنى الاستقبال، والتعبير عن المستقبل بالماضي؛ لإفادة أنه كالذي تحقق، ومضى، ويَحْتَمِل أن المضي في "قمت" على ظاهره، وكان القيام ليلة المعراج مثلًا
(1)
، وقوله:(الْمَسَاكِينُ) مرفوع على الفاعليّة.
وقال السنديّ رحمه الله: وقوله: "فإذا عامة من دخلها" بمعنى أنه ظهر له ببعض علامات، أو عُلِّم به أراد اللَّه تعالى لإعلامه به، ومعنى من دخلها: من سيدخلها، واللَّه تعالى أعلم
(2)
.
(1)
"حاشية السندي على صحيح البخاريّ" 3/ 98.
(2)
"حاشية السندي على صحيح البخاريّ" 3/ 98.
وأما حديث: "ورأيت أكثر أهلها"، فلعل المراد به أنه ظهر لي بعلامات ونحو ذلك، فلا ينافي أن الدخول يكون في يوم القيامة لا في البرزخ، واللَّه تعالى أعلم.
(وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ) بفتح الجيم؛ أي: الأغنياء، (مَحْبُوسُونَ) في العرَصات، فلم يؤذن لهم في دخول الجنة؛ لطول حسابهم.
وقال في "الفتح": قوله: "محبوسون"؛ أي: ممنوعون من دخول الجنة مع الفقراء، من أجل المحاسبة على المال، وكأن ذلك عند القنطرة التي يتقاصّون فيها بعد الجواز على الصراط. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "أصحاب الجدّ" بفتح الجيم، وتشديد الدال، وهو الغنى، والحظّ، ويجيء بمعنى القطع، وأبِ الأب، وبالكسر: الاجتهاد.
وقوله: "محبوسون"؛ أي: على باب الجنة، أو على الأعراف، كذا وقع لفظ "محبوسون" بالحاء المهملة، في الأصول من الحبس، وكذا عند أبي ذرّ، وقال ابن التين: وكذا عند الشيخ أبي الحسن، ولعله بفتح التاء، والواو: محتوشون، اسم مفعول من قولهم: احتوش فلانٌ بالمكان: إذا قام به؛ يعني: موقوفون لا يستطيعون الفرار.
وقال الداوديّ: أرجو أن يكون المحبوسون أهل التفاخر؛ لأن أفاضل هذه الأمة كان لهم أموال، ووصفهم اللَّه تعالى بأنهم سابقون.
وقال ابن بطال: إنما صار أصحاب الجدّ محبوسين؛ لِمَنْعهم حقوق اللَّه تعالى الواجبة للفقراء في أموالهم، فحُبسوا للحساب، كما مَنعوه، فأما من أدَّى حقوق اللَّه تعالى في ماله، فإنه لا يُحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل، وإذا كثر المال تضيع حقوق اللَّه فيه؛ لأنه محنة، وفتنة. انتهى
(2)
.
وقوله: (إِلَّا) وفي رواية بدلها: "غير"، قال الطيبيّ: هي بمعنى "لكن"، والمغايرة بحسب التفريق، فإن القسم الأول بعضهم محبوس، وبعضهم غير
(1)
"الفتح" 14/ 88.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 29/ 457.
محبوس، والثاني غير محبوس. انتهى
(1)
. (أَصْحَابَ النَّارِ)؛ أي: الكفار الذين استحقوا دخول النار، (فَقَدْ أمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ)؛ أي: فلا يوقفون في العرَصات، بل يساقون إليها، ويوقف المسيئون في العرصات للحساب، والمساكين هم السابقون إلى الجنة؛ لفقرهم، وخفة ظهورهم. (وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ")؛ أي: لأنهن يَكْفُرن العشير، ويُنكرنَ الإحسان، كما جاء في الحديث. قيل: هذا يدلّ على أن الفقر أفضل من الغنى، وهو مذهب الجمهور، والخلاف فيه مشهور.
قال القرطبيّ: إنما كان النساء أقلّ ساكني الجنة؛ لِمَا يغلب عليهنّ من الهوى، والميل إلى عاجل زينة الدنيا، والإعراض عن الآخرة؛ لِنَقْص عقلهنّ، وسرعة انخداعهنّ.
[تنبيه]: قال في "العمدة": "إذا" هنا كلمة للمفاجأة، أضيفت إلى الجملة؛ لأن قوله:"عامة من دخلها"، مبتدأ، وقوله:"النساء" خبره. انتهى
(2)
.
وقال العكبريّ: "إذا"، هنا للمفاجأة، وهي ظرف مكان، والجيد هنا أن يُرفع "المساكين" على أنه خبر "عامّة من دخلها"، وكذا رفع "محبوسون" على أنه الخبر، و"إذا" ظرف للخبر، ويجوز أن يُنصب "محبوسين" على الحال، وتُجعل "إذا" خبره، والتقدير: فبالحضرة أصحاب الجدّ، فيكون "محبوسين" حالًا، والرفع أجود، والعامل في الحال "إذا"، وما يتعلق به من الاستقرار، وأصحاب صاحب الحال. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6912](2736)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5196) وفي "الرقاق"(6547)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20611)،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3310.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 29/ 457.
(3)
"فيض القدير" 4/ 527.
و (أحمد) في "مسنده"(5/ 205 و 209)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(421)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(675)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(5/ 149)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(7/ 337)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4064)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أن فيه بيان عَلَمٍ من أعلام النبوّة، حيث أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بما أطلعه اللَّه على بعض مغيباته، فأخبر به أمته تحذيرًا لها.
2 -
(ومنها): ما قاله الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد إخراجه الحديث: اطلاعه صلى الله عليه وسلم إلى الجنة والنار معًا كان بجسمه، ونظره العيان، تفضلًا من اللَّه جلّ وعلا عليه، وفَرْقًا فرّق به بينه وبين سائر الأنبياء عليه السلام، فأما الأوصاف التي وَصَف أنه رأى أهل الجنة بها، وأهل النار بها، فهي أوصاف صُوِّرت له صلى الله عليه وسلم، ليعلم بها مقاصد نهاية أسباب أمته في الدارين جميعًا؛ ليرغِّب أمته بأخبار تلك الأوصاف لأهل الجنة؛ ليرغبوا، ويرهّبهم بأوصاف أهل النار؛ ليرتدعوا عن سلوك الخصال التي تؤديهم إليها. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): بيان أن الفقراء هم أسبق أهل الجنّة دخولًا الجنَّة، وذلك لعدم ما يعوقهم من دخولها؛ حيث لا مال لهم يُحاسبون عليه، وعليه يدلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مرفوعًا:"يدخل فقراء المسلمين الجنة، قبل الأغنياء بنصف يوم، خمس مائة عام"، ورواه الترمذيّ، والنسائيّ، وقال الترمذيّ: حسنٌ صحيح.
4 -
(ومنها): بيان أن الغنى محلّ خطر لأصحابه؛ حيث يحبسهم من دخول الجنّة بسبب المحاسبة به، وعليه يدل ما أخرجه الترمذيّ من حديث أبي برزة الأسلميّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟، وعن علمه فيم فعل؟، وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ "، قال الترمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
(1)
"صحيح ابن حبان" 16/ 495.
5 -
(ومنها): أن فيه دليلًا على أن الجنة والنار مخلوقتان.
6 -
(ومنها): بيان كثرة دخول النساء النار، وقد بيّن النبيّ صلى الله عليه وسلم سببه فيما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أُريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن، قيل: أيكفرن باللَّه؟ قال: يكْفُرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهنّ الدهرَ، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط".
وأخرجا أيضًا من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أضحى، أو فِطر إلى المصلى، فمرّ على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدّقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول اللَّه؟ قال: تُكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبّ الرجل الحازم من إحداكنّ، قلن: وما نقصان ديننا، وعقلنا يا رسول اللَّه؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلّ، ولم تصم؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان دينها".
7 -
(ومنها): ما قاله المهلب رحمه الله: فيه من الفقه أن أقرب ما يُدخل به الجنة التواضع للَّه تعالى، وأن أبعد الأشياء من الجنة التكبر بالمال وغيره، وإنما صار أصحاب الجد محبوسين؛ لِمَنعهم حقوق اللَّه الواجبة للفقراء في أموالهم، فحُبسوا للحساب عما منعوه، فأما من أدّى حقوق اللَّه في أمواله، فإنه لا يُحبس عن الجنة، إلا أنهم قليل؛ إذ أكثر شأن المال تضيع حقوق اللَّه فيه؛ لأنه محنة وفتنة، ألا ترى قوله:"فكان عامة من دخلها المساكين"، وهذا يدلّ على أن الذين يؤدون حقوق المال، ويَسْلمون من فتنبّه هم الأقلّ، وقد احتُج بهذا الحديث في فضل الفقر على الغنى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6913]
(2737) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاء الْعُطَارِدِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَالَ
(1)
"شرح ابن بطال على صحيح البخاريّ" 13/ 314.
مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) المعروف بابن عُليّة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ) عمران بن مِلْحان -بكسر الميم، وسكون اللام، بعدها مهملة- ويقال: ابن تيم، ويقال: ابن عبد اللَّه، البصريّ، مشهور بكنيته، وقيل غير ذلك في اسم أبيه، مخضرمٌ ثقةٌ مُعَمَّرٌ [2] مات سنة خمس ومائة، وله مائة وعشرون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 62/ 345.
4 -
(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد اللَّه الحبر البحر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
و"زُهير بن حرب" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخه، فنسائيّ، ثم بغداديّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وفيه ابن عبّاس رضي الله عنهما حبر الأمة، وبحرها، وأحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيِّ) عمران بن ملحان، أو ابن تيم؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: "اطَّلعْتُ) بتشديد الطاء؛ أي: أشرفت، ونظرت (فِي الْجَنَّةِ) قال الطيبيّ رحمه الله: ضمّن "اطلعت" معنى تأملت؛ أي: فعدّاه بـ "في"، وقوله:(فَرَأَيْتُ) بمعنى: علمت، ولذا عدّاه إلى مفعولين، ولو كان "رأيت" بمعناه الحقيقيّ لكفاه مفعول واحد. انتهى.
قال الحافظ: ظاهره أنه رأى ذلك ليلة الإسراء، أو منامًا، وهو غير رؤيته النار، وهو في صلاة الكسوف، ووَهِم مَن وَحّدهما. انتهى
(1)
.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 7/ 276.
وقال المناويّ رحمه الله: "اطلعت" بهمزة وصل، فطاء مفتوحة مشدّدة، فلام مفتوحة؛ أي: تأملت ليلة الإسراء، أو في النوم، أو في الوحي، أو بالكشف لعين الرأس، أو لعين القلب، لا في صلاة الكسوف، كما قيل. انتهى
(1)
.
(أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ) قال المهلّب رحمه الله: ليس هذا يوجب فضل الفقير على الغنيّ، وإنما معناه: أن الفقراء في الدنيا أكثر من الأغنياء، فأخبر عن ذلك، كما تقول: أكثر أهل الدنيا الفقراء إخبارًا عن الحال، وليس الفقر أدخلهم الجنة، وإنما دخلوا بصلاحهم مع الفقر، فإن الفقير إذا لم يكن صالِحًا لا يفضل.
وتعقّبه الحافظ، فقال: ظاهر الحديث التحريض على ترك التوسع من الدنيا، كما أن فيه تحريض النساء على المحافظة على أمر الدين؛ لئلا يدخلن النار، كما تقدم تقرير ذلك في كتاب الإيمان في حديث:"تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قيل: بم؟ قال: بكفرهنّ، قيل: يكفرن باللَّه؟ قال: يكفرن الإحسان". انتهى
(2)
.
قال المناويّ رحمه الله: وهذا من أقوى حجج مَن فَضّل الفقر على الغنى، والذاهبون لمقابله أجابوا بأن الفقر ليس هو الذي أدخلهم الجنة، بل الصلاح. انتهى
(3)
.
(وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ)؛ أي: عليها، والمراد: نار جهنم، (فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ") لأن كفران العطاء، وترك الصبر عند البلاء، وغلبة الهوى، والميل إلى زخرف الدنيا، والإعراض عن مفاخر الآخرة فيهنّ أغلب؛ لِضَعف عقلهنّ، وسرعة انخداعهنّ.
وعورض هذا بأن هذا في وقت كون النساء في النار، أما بعد خروجهنّ بالشفاعة، والرحمة حتى لا يبقى فيها أحد، ممن قال: لا إله إلا اللَّه، فالنساء في الجنة أكثر، وحينئذ يكون لكل واحد زوجتان من نساء الدنيا، وسبعون من الحور العين، ذكره القرطبيّ وغيره.
(1)
"فيض القدير" 1/ 545.
(2)
"الفتح" 11/ 279.
(3)
"فيض القدير" 1/ 545.
وفيه الحثّ على التقلل من الدنيا، وتحريض النساء على التقوى، والمحافظة من الدين على السبب الأقوى، وأن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافًا لبعض المعتزلة
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: هذا الحديث أخرجه البخاريّ من طريق أبي رجاء، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، ثم أشار إلى أنه وقع الاختلاف في كونه عن عمران، أو عن ابن عبّاس رضي الله عنهم، ودونك نصّه بعد إخراجه عن عمران: تابعه أيوب، وعوفٌ، وصخر، وحماد بن نجيح: عن أبي رجاء، عن ابن عبّاس. انتهى.
وقد بيّن الحافظ رحمه الله هذا الاختلاف في "الفتح"، فقال: قوله: "تابعه أيوب، وعوف، وقال حماد بن نَجيح، وصخر، عن أبي رجاء، عن ابن عباس".
أما متابعة أيوب، فوصلها النسائيّ.
وأما متابعة عوف، فوصلها البخاريّ في "كتاب النكاح".
وأما متابعة حماد بن نَجيح، وهو الإسكاف البصريّ، فوصلها النسائيّ من طريق عثمان بن عمر بن فارس عنه، وليس له في الكتابين سوى هذا الحديث الواحد، وقد وثقه وكيع، وابن معين، وغيرهما.
وأما متابعة صخر، وهو ابن جويرية، فوصلها النسائيّ أيضًا، من طريق المعافى بن عمران عنه، وابن منده في "كتاب التوحيد" من طريق مسلم بن إبراهيم: حدّثنا صخر بن جويرية، وحماد بن نَجيح، قالا: حدثنا أبو رجاء.
قال: وقد وقعت لنا بعلوّ في "الجعديات" من رواية عليّ بن الجعد، عن صخر، قال: سمعت أبا رجاء، حدّثنا ابن عباس به.
قال الترمذيّ بعد أن أخرجه من طريق عوف: وقال أيوب، عن أبي
(1)
"فيض القدير" 1/ 545 - 546.
رجاء، عن ابن عباس، وكلا الإسنادين ليس فيه مقال، ويَحْتَمِل أن يكون عن أبي رجاء عند كل منهما.
وقال الخطيب في "المدرج": رَوى هذا الحديث أبو داود الطيالسيّ، عن أبي الأشهب، وجريز بن حازم، وسَلْم بن زَرِير، وحماد بن نَجيح، وصخر بن جويرية، عن أبي رجاء، عن عمران، وابن عباس به، ولا نعلم أحدًا جمع بين هؤلاء، فإن الجماعة رووه عن أبي رجاء، عن ابن عباس، وسَلْم إنما رواه عن أبي رجاء، عن عمران، ولعل جريرًا كذلك، وقد جاءت الرواية عن أيوب، عن أبي رجاء بالوجهين، ورواه سعيد بن أبي عروبة، عن فِطْر، عن أبي رجاء، عن عمران، فالحديث عن أبي رجاء عنهما، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن الحديث ثابت عن كل من ابن عبّاس، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، فأما حديث ابن عبّاس فأخرجه مسلم، وأشار إليه البخاريّ بما علّقه، وأما حديث عمران رضي الله عنه فأخرجه البخاريّ بلفظ حديث ابن عبّاس، وسيأتي لمسلم بعد هذا مختصرًا من رواية مطرّف بن عبد اللَّه عن عمران، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6913 و 6914 و 6915 و 6916](2737)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2602)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 399)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 234 و 359 و 4/ 429)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 162 و 163)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 447)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1185)، وفوائده تقدّمت قبله، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6914]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
(1)
"الفتح" 14/ 570 - 571.
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(الثَّقَفِيُّ) عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصَّلْت، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ تغير قبل موته بثلاث سنين
(1)
[8](ت 194) عن نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.
والباقيان ذُكرا في الباب.
[تنبيه]: رواية الثقفيّ، عن أيوب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:
(9261)
- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي رجاء العطارديّ، عن ابن عباس، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"اطَّلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6915]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ فِي النَّارِ، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَيُّوبَ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ، أبو محمد الأُبُلّيّ، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطرّ الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.
2 -
(أَبُو الأَشْهَبِ) جعفر بن حيّان السعديّ العُطارديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [6](ت 165) وله خمس وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 66/ 370.
والباقيان ذُكرا قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (426) من رباعيّات الكتاب.
(1)
لكنه حُجب عن الناس بعد اختلاطه، فلم يُحدّث، فما ضرّه الاختلاط.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 5/ 399.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَيُّوبَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير أبي الأشهب.
[تنبيه]: رواية أبي الأشهب عن أبي رجاء هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:
(12766)
- حدّثنا الحسين بن إسحاق التستريّ، وإبراهيم بن نائلة الأصبهانيّ قالا: ثنا شيبان بن فروخ، ثنا أبو الأشهب، ثنا أبو رجاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6916]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، سَمِعَ أَبَا رَجَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَكَرَ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء الْهَمْدانيّ الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن سلمة، تقدّم قبل باب.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهران اليشكريّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ مِثْلَهُ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سعيد بن أبي عروبة.
[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن أبي رجاء هذه ساقها هنّاد بن السّريّ في "الزهد"، فقال:
(246)
- حدّثنا عبدة، عن ابن أبي عَرُوبة، عن أبي رجاء العطارديّ، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها المساكين، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء". انتهى
(2)
.
(1)
"المعجم الكبير" 12/ 162.
(2)
"الزهد لابن السريّ" 1/ 171.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6917]
(2738) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: كَانَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ امْرَأَتَانِ، فَجَاءَ مِنْ عِنْدِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتِ الأُخْرَى: جِئْتَ مِنْ عِنْدِ فُلَانَةَ؟ فَقَالَ: جِئْتُ مِنْ عِنْدِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، فَحَدَّثنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن أَقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(شُعْبَةُ) بن الحجَّاج الإمام الشهير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(أَبُو التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
5 -
(مُطَرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن الشِّخِّير العامريّ الْحَرَشيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.
6 -
(عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنِ) بن عُبيد بن خَلَف الْخُزاعيّ، أبو نُجيد الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، أسلم عام خيبر، وصَحِب، وكان فاضلًا، وقَضَى بالكوفة، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 479.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ) يزيد بن حُميد الضُّبَعيّ البصريّ؛ أنه (قَالَ: كَانَ لِمُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ امْرَأَتَانِ)؛ أي: زوجتان، (فَجَاءَ مِنْ عِنْدِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتِ الأُخْرَى: جِئْتَ مِنْ عِنْدِ فُلَانَةَ؟) تريد الزوجة الثانية، وإنما قالت ذلك غيرةً عليه.
وفي رواية أحمد الآتية: "كانت له امرأتان، قال: فجاء إلى إحداهما،
قال: فجعلت تنزع به عمامته، وقالت: جئت من عند امرأتك؟ ".
(فَقَالَ) مطرّف: (جِئْتُ مِنْ عِنْدِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما، والظاهر أنه جاء من عند عمران، فمرّ بامرأته الأخرى، أو بالعكس، ثم جاء إلى الثانية، فواجهته بهذا السؤال.
وقال صاحب "التكملة" ما حاصله: وكأن مطرّفًا لقي عمران قبل أن يأتي إلى امرأته الأولى، أو بعد أن يخرج من عندها، وإنما ذكر ذلك تنبيهًا لامرأته الثانية أن لا تُسيء الظنّ به، وبامرأته الأولى، ولا تقع فيهما؛ لأن ذلك قد يُسبّب عذاب النار. انتهى
(1)
.
(فَحَدَّثَنَا) عمران رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أقَلَّ سَاكِنِي الْجَنَّةِ النِّسَاءُ")؛ أي: في أول الأمر قبل خروج عُصاتهن من النار، فلا دلالة فيه على أن نساء الدنيا أقل من الرجال في الجنة.
وقال بعضهم: القلة يجوز كونها باعتبار ذواتهن إذا أُريدَ ساكني الجنة المتقدمين في دخولها، وكونها باعتبار سُكناهن بأن يُحبسن في النار كثيرًا، فيكون سُكناهن في الجنة قليلًا بالنسبة لمن دخل قبلهن، وإنما قلنا ذلك لأن السكنى في الجنة غير متناهية، فلا توصف بقلة، ولا كثرة، قاله المناويّ رحمه الله
(2)
.
وقال في "العمدة": قال المهلّب: إنما تستحق النساء النار؛ لكفرهن العشير، وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان النساء أقل ساكني الجنة؛ لِمَا يغلب عليهنّ الهوى، والميل إلى عاجل زينة الحياة الدنيا، ولنقصان عقولهنّ، فيضعفن عن عمل الآخرة، والتأهب لها لميلهنّ إلى الدنيا، والتزين بها، وأكثرهنّ معرضات عن الآخرة، سريعات الانخداع لراغبيهنّ من المعرضين عن الدين، عسيرات الاستجابة لمن يدعوهنّ إلى الآخرة، وأعمالها، وأما الفقراء فلما كانوا فاقدي المال الذي يُتوسل به إلى المعاصي، فازوا بالسبق.
[فإن قلت]: ليس في الجنة أعزب، ولكل رجل زوجتان، فكيف يكون وصفهن بالقلة في الجنة، وبالكثرة في النار؟.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 5/ 611.
(2)
"فيض القدير" 2/ 428.
[قلت]: ذكر الحكيم الترمذيّ وغيره أن الوصف بكون النساء أكثر أهل النار كان قبل الشفاعة فيهنّ، فإذا دخلن الجنَّة بالشفاعة أو غيره يكون لكل رجل زوجتان، فيكنّ أكثر أهل الجنة. انتهى بتصرّف
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما بهذا السياق من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: أخرج البخاريّ رحمه الله حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما هذا في "صحيحه" من عدّة طُرُق عن أبي رجاء الْعُطارديّ، عن عمران رضي الله عنه، ولفظه: عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء". انتهى.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6917 و 6918](2738)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 427 و 443)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7457)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 644)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 239 و 263 و 264)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1448)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 111)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 85)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): ذكر الحافظ وليّ الدين العراقيّ رحمه الله في "شرح التقريب" بحثًّا يتعلّق بحديث الباب، فقال: استَدَلّ به أبو هريرة رضي الله عنه على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، ففي "صحيح مسلم" عن محمد بن سيرين قال: أما تفاخروا، أما تذاكروا، الرجال أكثر في الجنة أم النساء؟ فقال أبو هريرة: لو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دُرّيّ في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مُخّ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب"، وفي رواية له: "اختصم الرجال والنساء أيهم في الجنة أكثر؟ فسألوا أبا هريرة،
(1)
راجع: "عمدة القاري" 15/ 152.
فذكره فإذا خلت الجنة عن العُزَّاب، وكان لكل واحد زوجتان كان النساء مثلي الرجال".
ويعارضه الحديث الآخر: "إني رأيتكن أكثر أهل النار". وفي الحديث الآخر: "اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء"، وكلاهما في "الصحيح".
والجمع بينهما أنهن أكثر أهل الجنة، وأكثر أهل النار؟ لكثرتهنّ، قال القاضي عياض: يخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم، قال: وهذا كله في الآدميات، وإلا فقد جاء أن للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير، ففي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"إن أدنى أهل الجنة الذي له اثنتان وسبعون زوجة".
[فإن قلت]: كيف اقتصر في هذا الحديث على ذكر زوجتين؟.
[قلت]: الزوجتان من نساء الدنيا، والزيادة على ذلك من الحور العين.
وقال أبو العباس القرطبيّ: بهذا يُعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة أكثر من نوع الرجال من بني آدم، ورجال بني آدم أكثر من نسائهم، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم:"أقل ساكني الجنة النساء، وأكثر ساكني جهنم النساء"؛ يعني: نساء بني آدم هن أقل في الجنة، وأكثر في النار.
قلت: وإذا قلنا بالأول إن لكل واحد منهم زوجتين من نساء الدنيا فُيشكل على ذلك قوله: "أقل ساكني الجنة النساء"، ولعل راويه رواه بالمعنى في فهمه، فأخطأ فهمه من كونهن أكثر ساكني جهنم أنهن أقل ساكني الجنة.
وقد تقدم أن ذلك لا يلزم، وأنهن أكثر ساكني الجهتين معًا لكثرتهنّ، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: دعواه خطأ الراوي في فهمه غير مقبول، بل المعنى عليه صحيح؛ إذ هو محمول على أول الأمر، فإنهن أكثر دخولًا النار، ثم يخرجن بالشفاعة، فيدخلن الجنة، فيكنّ أكثر من الرجال، حتى يكون لكل رجل زوجتان من نساء الدنيا، غير الحور العين، فإنهن أكثر، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 258.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6918]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَليدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا يُحَدِّثُ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ، بِمَعْنَى حَدِيثِ مُعَاذٍ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ) القرشيّ الْبُسْريّ -بضم الموحّدة، وسكون المهملة- البصريّ، يُلَقَّب حمدان، ثقةٌ [10](250) أو بعدها (خ م س ق) تقدم في "الإيمان" 40/ 268.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر البصريّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ مُعَاذٍ)؛ يعني: أن حديث محمد بن جعفر بمعنى حديث معاذ بن معاذ عن شعبة المتقدّم.
[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19850)
- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن أبي التيّاح، قال: سمعت مُطَرِّفًا يحدث أنه كانت له امرأتان، قال: فجاء إلى إحداهما، قال: فجعلت تنزع به عمامته، وقالت: جئت من عند امرأتك؟ قال: جئت من عند عمران بن حصين، فحَدَّث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حَسِب أنه قال:"إن أقل ساكني الجنة النساء". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6919]
(2739) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبُو زُرْعَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي
(1)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 427.
أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ
(1)
نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَبُو زُرْعَةَ) هو: عبيد اللَّه بن عبد الكريم بن يزيد بن فَرُّوخ المخزوميّ مولى عياش بن مطرّف الرازيُّ، أحد الأئمة النقّاد الأعلام، إمامٌ حافظٌ ثقةٌ ثبت مشهورٌ [11].
روى عن أبي عاصم، وأبي نعيم، وقبيصة بن عقبة، ومسلم بن إبراهيم، وأبي الوليد الطيالسيّ، وأحمد بن يونس، وثابت بن محمد الزاهد، وخلاد بن يحيى، وعبد اللَّه بن صالح العجليّ، والقعنبيّ، ومحمد بن سعيد بن سابق، وأبي سلمة التبوذكي وغيرهم.
وروى عنه مسلم، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وإسحاق بن موسى الأنصاريّ، وحرملة بن يحيى، والربيع بن سليمان، ومحمد بن حميد الرازيّ، وعمرو بن عليّ، ويونس بن عبد الأعلى، وهم من شيوخه، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقيّ، وإبراهيم الحربيّ، ومحمد بن عوف الطائيّ، وهم من أقرانه، وسعيد بن عمرو الأذرعي، وصالح بن محمد جزرة، وعبد اللَّه بن أحمد، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وابن أخيه أبو القاسم بن محمد بن عبد الكريم، وأبو عوانة الإسفرائيني، وغيرهم.
قال النسائيّ: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: إمام، وقال الخطيب: كان إمامًا ربانيًّا حافظًا مكثرًا صادقًا، وقال عبد اللَّه بن أحمد: لَمّا قَدِم أبو زرعة نزل عند أبي، وكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يقول يومًا: ما صليت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة، وقال عبد اللَّه بن أحمد في موضع آخر: قلت لأبي: يا أبت مَن الحفّاظ؟ قال: يا بنيّ شباب كانوا عندنا من أهل خراسان، وقد تفرّقوا، قلت: من هم؟ قال: محمد بن إسماعيل، وعبيد اللَّه بن عبد الكريم، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن، والحسن بن شجاع، وقال عبد اللَّه بن
(1)
وفي نسخة: "وفَجْأَة".
أحمد: سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أفقه من إسحاق، ولا أحفظ من أبي زرعة، وقال الحسن بن أحمد بن الليث: سمعت أحمد يدعو اللَّه لأبي زرعة، وقال فضلك الرازيّ عن أبي مصعب: ما رأيت مثله بعيني، وقال فضلك أيضًا عن الربيع: أن أبا زرعة آيةٌ، وقال عبد الواحد بن غياث: ما رأى أبو زرعة مثل نفسه، قال ابن وارة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل، وقال أبو حاتم: رأيت في كتاب إسحاق بخطه إلى أبي زرعة: إني أزداد بك كل يوم سرورًا، وقال البرذعيّ: سمعت محمد بن يحيى يقول: لا يزال المسلمون بخير ما أبقى اللَّه لهم مثل أبي زرعة، وقال صالح بن محمد عن أبي زرعة: أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات، وقال أيضًا: سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازيّ مائة ألف حديث، وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث، قال: فقلت له: بلغني أنك تحفظ مائة ألف حديث، تَقدِر أن تملي عليّ ألف حديث من حفظك؟ قال: لا، ولكن إذا أُلقي عليّ عرفت، وقال أبو يعلى الموصليّ: ما سمعنا يُذكر أحدٌ في الحفظ إلا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلا أبو زرعة، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وقال أبو جعفر التستريّ: سمعت أبا زرعة يقول: ما سَمِع أذني شيئًا من العلم إلا وعاه قلبي، وإن كنت لأمشي في سوق بغداد، فأسمع من الغُرف صوت المغنيات، فأضع إصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي، وقال أبو حاتم: حدّثني أبو زرعة، وما خَلَّف بعده مثله علمًا وفقهًا وفهمًا وصيانةً وصدقًا ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله، قال: وإذا رأيت الرازي يتنقص أبا زرعة، فاعلم أنه مبتدع، وروى البيهقيّ عن ابن وارة قال: كنا عند إسحاق بنيسابور، فقال رجل: سمعت أحمد يقول: صحّ من الحديث سبعمائة ألف حديث وكَسْر، وهذا الفتى -يعني: أبا زرعة- قد حفظ ستمائة ألف حديث، وقال البيهقيّ: وإنما أراد: ما صحّ من حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقاويل الصحابة، وفتاوى من أُخذ عنهم من التابعين، وقال محمد بن جعفر بن حمكويه: قال أبو زرعة: أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} ، وقال أبو جعفر التستريّ: سمعت أبا زرعة يقول: إن في بيتي ما كتبته منذ خمسين سنة، ولم أُطالعه منذ
كَتْبه، وإني أعلم في أي كتاب هو، في أي ورقة هو، في أي صفح هو، في أيّ سطر هو. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: حضر عند أبي زرعة محمد بن مسلم -يعني: ابن وارة- والفضل بن العباس المعروف بفضلك، فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثًا، فأنكر فضلك الصائغ، فقال: يا أبا عبد اللَّه ليس هكذا هو، فقال: كيف هو؟ فذكر رواية أخرى، فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: أَيْشٍ تقول؟ فسكت، فألح عليه، فقال: هاتوا أبا القاسم ابن أخي، فدُعي له، فقال: اذهب، فادخل بيت الكتب، فَدَعِ القِمَطْر الأول، والثاني، والثالث، وعُدّ ستة عشر جزءًا، وائتني بالجزء السابع عشر، فذهب فجاء بالدفتر، فتصفح أبو زرعة، وأخرج الحديث فدفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه، وقال: نعم غَلِطنا.
قال أبو سعيد بن يونس: مات بالريّ آخر يوم من ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين، وقال ابن المنادي: كان مولده سنة مائتين، وقال ابن حبان في "الثقات": كان أحد أئمة الدنيا في الحديث، مع الدين، والورع، والمواظبة على الحفظ، والمذاكرة، وتَرْك الدنيا، وما فيه الناس، تُوُفّي سنة (268). كذا قال، وفي "الزهرة": روى عنه مسلم حديثين
(1)
. انتهى.
روى عنه المصنِّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
2 -
(ابْنُ بُكَيْرٍ) هو: يحيى بن عبد اللَّه بن بكير المخزوميّ مولاهم المصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، ثقة في الليث، وتكلموا في سماعه من مالك، من كبار [10](ت 231) وله سبع وسبعون سنةً (خ م ق) تقدم في "الإمارة" 13/ 4785.
3 -
(يَعْقوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد اللَّه بن عبدٍ القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.
4 -
(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش -بتحتانية، ومعجمة- الأسديّ، مولى آل الزبير، ثقةٌ فقيهٌ، إمام في المغازي [5] لم يصحّ أن ابن معين لَيّنه مات سنة (141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
(1)
بل هو حديث واحد، وهو حديث الباب فقط.
5 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ) العَدَويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 127)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.
6 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه فرازيّ، وابن بُكير فمصريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأشدّ الناس اتباعًا للأثر.
[تنبيه آخر]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث أدخله مسلم بين أحاديث النساء، وكان ينبغي أن يُقَدِّمه عليها كلّها، قال: وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي زرعة الرازيّ، أحد حفاظ الإسلام، وأكثرهم حفظًا، ولم يرو مسلم في "صحيحه" عنه غير هذا الحديث، وهو من أقران مسلم، تُوُفّي بعد مسلم بثلاث سنين، سنة أربع وستين ومائتين. انتهى
(1)
.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ)؛ أي: ذهاب نعمة الإسلام، والإيمان، ومنحة الإحسان والعرفان
(2)
، وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "نعمتك" مفرد في معنى الجمع يعمّ النعم الظاهرة والباطنة، والنعمةُ: كل ملائم تُحمد عاقبته، ومن ثَمّ قالوا: لا نعمة للَّه على كافر، بل ملاذّه استدراج، قال: والاستعاذة من زوال النعم تتضمن الحفظ عن الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيلها، ألا ترى إلى قوله [من المتقارب]:
إَذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا
…
فَإِنَّ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمْ
(3)
وقال الشوكانيّ رحمه الله: استعاذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من زوال نعمته؛ لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها، وعدم مراعاة ما تستحقه النِّعم، وتقتضيه من
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 54.
(2)
"عون المعبود" 4/ 283.
(3)
"فيض القدير" 2/ 110.
تادية ما يجب على صاحبها من الشكر، والمواساة، وإخراج ما يجب إخراجه. انتهى
(1)
.
(وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ) بضم الواو المشدّدة؛ أي: تبدّلها بالبلاء. وقال القاري: أي: انتقالها من السمع، والبصر، وسائر الأعضاء.
[فإن قلت]: ما الفرق بين الزوال والتحول؟.
[قلت]: الزوال يقال في شيء كان ثابتًا لشيء ثم فارقه، والتحول تغير الشيء وانفصاله عن غيره؛ أي: إبدال الشيء بالشيء، فمعنى زوال النعمة: ذهابها من غير بَدَل، وتحوّل العافية: إبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر، فكأنه سأل دوام العافية، وهي السلامة من الآلام، والأسقام.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: تبدّل ما رزقتني من العافية إلى البلاء، وقال في الفرق بين الزوال والتحوّل: الزوال يقال في شيء كان ثابتًا لشيء ثم فارقه، والتحول: تغيُّر الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغيّر قيل: حال الشيء يحول حولًا، وباعتبار الانفصال قيل: حال بيني وبين كذا، وحوّلتُ الشيءَ، فتحوّلَ: غيّرته إما بالذات، وإما بالحكم، فمعنى زوال النعمة: ذهابها من غير بِدل، وتحول العافية: إبدال الصحّة بالمرض، والسلام بالبلاء. انتهى
(2)
.
ووقع في بعض نسخ أبي داود بلفظ: "وتحويل عافيتك" من باب التفعيل، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله.
واستعاذ صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ لأن من اختصه اللَّه سبحانه وتعالى بعافيته فاز بخير الدارين، فإن تحولت عنه، فقد أصيب بشرّ الدارين، فإن العافية يكون بها صلاح أمور الدنيا والآخرة
(3)
.
(وَفُجَاءَةِ) بضمّ الفاء، والمدّ، وفي نسخة:"وفَجْأَة" بفتح الفاء، وسكون الجيم، (نِقْمَتِكَ) قال النوويّ رحمه الله: الْفَجْأة بفتح الفاء، وإسكان الجيم،
(1)
راجع: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 361.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1914.
(3)
راجع: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 361.
مقصورة، على وزن ضربة، والْفُجَاءة بضم الفاء، وفتح الجيم، والمدّ لغتان، وهي البغتة. انتهى.
وقال في "العون": "الفجاءة" بضم الفاء، والمدّ، وفي نسخة بفتح الفاء، وسكون الجيم، بمعنى البغتة، والنقمة بكسر النون، وفتحها مع سكون القاف، وكَكَلِمة: المكافأة بالعقوبة، والانتقام بالغضب، والعذاب، وخصها بالذكر؛ لأنها أشدّ. انتهى
(1)
.
وقال في "المرعاة": "وفجاءة نقمتك" بضم الفاء، وفتح الجيم، ممدودة: بمعنى البغتة، مشتقة مِن فاجأه مفاجأة: إذا جاءه بغتة، من غير أن يعلم بذلك، ويروى:"فَجْأة" بفتح الفاء، وإسكان الجيم، من غير مدّ، والنقمة بكسر النون وسكون القاف، وفي رواية بفتح، فكسر ككلمة
(2)
: العقوبة، وقال القاري: هي المكافأة بالعقوبة، والانتقام بالغضب والعذاب، وخَصّ فجاءة النقمة بالذكر؛ لأنها أشدّ من أن تصيب تدريجًا، كما ذكره المظهر، واستعاذ صلى الله عليه وسلم من ذلك لئلا تصيبه النقمة من حيث لا يكون له علم بها، ولا تكون له فرصة، ومهلة للتوبة؛ لأنه إذا انتقم اللَّه من العبد، فقد أحل به من البلاء ما لا يقدر على دفعه، ولا يستدفع بسائر المخلوقين، وإن اجتمعوا جميعًا، كما ورد في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا:"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك. . . "
(3)
الحديث. انتهى بتصرّف
(4)
.
(وَجَمِيعِ سَخَطِكَ") بفتحتين، أو بضمّ، فسكون؛ أي: ما يؤدي إليه؛ يعني: سائر الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها، وهو إجمال بعد تفصيل، وتعميم بعد تخصيص، أو المراد: جميع آثار غضبك،
(1)
"عون المعبود" 4/ 283.
(2)
تقدّم أنها ككلمة، وتخفَّف مثلها، فتكون بفتح، فسكون، وبكسر، فسكون، فيكون فيها ثلاث لغات، فتنبّه.
(3)
حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ برقم (2516).
(4)
راجع: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 361.
واستعاذ صلى الله عليه وسلم من جميع سخطه؛ لأنه عز وجل إذا سَخِط على العبد فقد هلك، وخاب وخسر، ولو كان السخط في أدنى شيء، وبأيسر سبب، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصتف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6919](2739)، و (البخاريّ) في "الأدب المفرد"(685)، و (أبو داود) في "الصلاة"(1545)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 463)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 53) وفي "الدعاء"(1/ 398)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(38/ 13)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6920]
(2740) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورِ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُرَاسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنِّف، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.
2 -
(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو عثمان النهديّ" هو: عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أسامة بن زيد الصحابيّ ابن الصحابيّ، حِبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زيدٍ) رضي الله عنه، زاد في الرواية التالية من طريق معتمر بن
سليمان عن أبيه مع أسامة: سعيد بن زيد أحد العشرة المبشّرين بالجنّة رضي الله عنهم، وقد قال الترمذيّ: لا نعلم أحدًا قال فيه: عن سعيد بن زيد غير معتمر بن سليمان. انتهى (قَالَ) أسامة: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "مَا) نافية، (تَرَكْتُ) وفي رواية:"ما أدع"؛ أي: أترك، وعبّر بالماضي لتحقّق وقوعه، (بَعْدِي)؛ أي: بعد موتي، وإنما قال: بعدي؛ لأن كونهن فتنة صار بعده أظهر، وأشهر، وأضرّ، فهو عَلَم من أعلام النبوّة حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن غيب وقد وقع، واللَّه تعالى أعلم.
(فِتْنَةً)؛ أي: امتحانًا وابتلاء، (هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ") لأن الطباع كثيرًا تميل إليهنّ، وتقع في الحرام لأجلهنّ، وتسعى للقتال والعداوة بسببهنّ، وأقل ذلك أن ترغّبه في الدنيا ليتهالك فيها، وأيّ فساد أضرّ من هذا، وحبّ الدنيا رأس كل خطيئة، مع ما هنالك من مظنة الميل بالعشق، وغير ذلك من فتن، وبلايا، ومِحَن.
قيل: أرسل بعض الخلفاء إلى الفقهاء بجوائز، فقبلوها، وردّها الفضيل، فقالت له امرأته: تردّ عشرة آلاف، وما عندنا قوت يومنا؟ فقال: مَثَلي ومَثَلكم كقوم لهم بقرة يحرثون عليها، فلما هَرَمت ذبحوها، وكذا أنتم أردتم ذبحي على كِبَر سني، موتوا جوعًا قبل أن تذبحوا فضيلًا.
وكان سعيد بن المسيِّب يقول -وقد أتت عليه ثمانون سنة-: ما شيء أخوف عندي عليّ من النساء.
وقيل: إن إبليس لمّا خُلقت المرأة قال: أنتِ نصف جندي، وأنت موضع سري، وأنت سهمي الذي أرمي بك، فلا أخطئ أبدًا
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فتنة أضرّ"، وذلك لأن المرأة إذا لم يكن يمنعها الصلاح الذي من جبلّتها كانت عين المفسدة، فلا تأمر زوجها إلا بشرّ، ولا تحثّه إلا على فساد، وقد قدّمها اللَّه تعالى في آية ذكر الشهوات:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} على سائر الأنواع، وجعلها نفس الشهوات، حيث بيّن الشهوات بقوله:{مِنَ النِّسَاءِ} ، ثم عقّبها بغيرها:{وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} الآية [آل عمران: 14]
(1)
"فيض القدير" 5/ 436.
دلالة على أنها أصلها ورأسها
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6920](2740)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5096)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2780)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 364 و 400)، و (ابن ماجه) في "الفتنة"(3998)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20608)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(4/ 46 و 7/ 467)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200 و 210)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 249)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5967 و 5969)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(415 و 417 و 418 و 419 و 420)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(784 و 7686 و 787)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 91)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2242)، وفوائده تأتي بعده، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6921]
(2741) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَسُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، جَمِيعًا عَنِ الْمُعْتَمِرِ، قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ أَبِي: حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ؛ أَنَّهُمَا حَدَّثَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِي في النَّاسِ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرَويّ الأصلِ، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ بِنون، ثم موحدة، أبو محمد، صدوق في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق)، تقدم في "المقدمة" 6/ 87.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 2260.
2 -
(سَعِيدُ بْنُ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نفَيْلٍ) العدويّ أبو الأعور، الصحابيّ الشهير، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، مات سنة خمسين، أو بعدها بسنة، أو سنتين (ع) تقدم في "البيوع" 51/ 4125.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (وَسَعِيدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ) قال الترمذيّ رحمه الله بعد أن أخرج الحديث: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وقد رَوَى هذا الحديث غيرُ واحد. من الثقات عن سليمان التيميّ، عن أبي عثمان، عن أسامة بن زيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولم يذكروا فيه عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، ولا نعلم أحدًا قال: عن أسامة بن زيد، وسعيد بن زيد، غير المعتمر. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وتقدّم شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6922]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوق يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.
2 -
(هُشَيْمُ) -بالتصغير- ابن بَشِير -بوزن عظيم- ابن القاسم بن دينار السلميّ، أبو معاوية بن أبي خازم -بمعجمتين- الواسطيّ، ثقةٌ ثبتٌ كثير التدليس والإرسال الخفيّ [7](ت 183) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"ابْنُ نُمَيْرٍ" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
(1)
"جامع الترمذيّ" 5/ 103.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ)؛ يعني: كل الثلاثة، وهم: أبو خالد الأحمر، وهشيم بن بشير، وجرير بن عبد الحميد رووا هذا الحديث عن سليمان التيميّ بسنده الماضي.
[تنبيه]: أما رواية أبي خالد الأحمر عن سليمان التيميّ، فقد ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(17642)
- حدّثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان التيمييّ، عن أبي عثمان، عن أسامة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي على أمتي فتنة أضرّ على الرجال من النساء". انتهى
(1)
.
وأما رواية هشيم عن سليمان التيميّ، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(21794)
- حدّثنا هشيم، أنا سليمان التيميّ، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضرّ على أمتي من النساء على الرجال". انتهى
(2)
.
وأما رواية جرير بن عبد الحميد عن سليمان التيميّ، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6923]
(2742) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِن الدُّنْيَا حُلْوَة خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"، وَفِى حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ: "لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو مَسْلَمَةَ) سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزديّ، ثم الطاحيّ، أبو مسلمة البصريّ القصير، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.
(1)
"مصنف ابن أبي شيبة" 4/ 46.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 200.
2 -
(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة -بضم القاف، وفتح المهملة- الْعَبْديّ الْعَوَقيّ -بفتح العين المهملة، والواو، ثم قاف- البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.
3 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب، و"محمد بن جعفر" هو: المعروف بغندر.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ) بضم أوله؛ أي: لذيذةٌ حسنةٌ، وإنما وصفها بالخضرة؛ لأنَّ العرب تسمي الشيء الناعم خَضِرًا، أو لِشَبَهها بالخضروات في ظهور كمالها، وسرعة زوالها. (خَضِرَةٌ) بفتح فكسر؛ أي: ناعمة طرية محبوبة، وفيه بيان أنها تَفْتِن الناس بلونها، وطعمها
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إن الدنيا خضرة حلوة. . . إلخ" هكذا هو في جميع النسخ: "فاتقوا الدنيا"، ومعناه: تجنبوا الافتتان بها، وبالنساء، وتدخل في النساء: الزوجات وغيرهنّ، وأكثرهن فتنة: الزوجات، لدوام فتنتهن، وابتلاء أكثر الناس بهنّ، ومعنى "الدنيا خضرة حلوة" يَحْتَمِل أن المراد به شيئان:
أحدهما: حُسنها للنفوس، ونضارتها، ولذّتها؛ كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإن النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا، فكذا الدنيا.
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 356.
والثاني: سرعة فنائها، كالشيء الأخضر في هذين الوصفين، ومعنى "مستخلفكم فيها" جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته، وشهواتكم؟. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "حلوة خضرة" كناية عن كونها غرّارة، تفتن الناس بلونها وطعمها، وليس تحتها طائل. انتهى
(2)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "فإن الدنيا" في الرغبة والميل إليها، وحرص النفوس عليها؛ كالفاكهة التي هي "خضرة" في المنظر "حلوة" في المذاق، وكل منهما يُرْغَب فيه منفردًا، فكيف إذا اجتمعا، وقال الأكمل: الحلو ما يميل إليه الطبع السليم، والأخضر الطَّرِيّ الناعم، وأراد أن صورة الدنيا ومتاعها حَسَن المنظر، يعجب الناظر. انتهى
(3)
.
وقال أيضًا: "الدنيا حلوة خضرة"؛ أي: مشتهاة، مُونِقة، تُعجب الناظرين، فمن استكثر منها أهلكته، كالبهيمة إذا أكثرت من رعي الزرع الأخضر أهلكها، ففي تشبيه الدنيا بالخضرة التي ترعاها الأنعام، إشارة إلى أن المستكثر منها كالبهائم، فعلى العاقل أن يقنع بما تدعو الحاجة منها، ويجتنب الإفراط والتفريط في تناولها، فإنه مهلك
(4)
.
(وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا)؛ أي: جاعلكم خلفاء من قَرْن خَلَوا قبلكم، (فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟) هل تطيعونه أو لا؟
(5)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: الاستخلاف إقامة الغير مقام نفسه؛ أي: جعل اللَّه الدنيا مزينة لكم؛ ابتلاءً، هل تتصرفون فيها كما يحب ويرضي، أو تُسخطونه، وتتصرفون فيها بغير ما يحب ويرضى؟ انتهى
(6)
.
وقال المناويّ رحمه الله: "وإن اللَّه مستخلفكم فيها"؛ أي: جاعلكم خَلَفًا في الدنيا، "فناظر كيف تعملون"؛ يعني: أن الأموال التي في أيديكم إنما هي
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 55.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3265.
(3)
"فيض القدير" 2/ 179.
(4)
"فيض القدير" 3/ 544.
(5)
"تحفة الأحوذيّ" 6/ 356.
(6)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 243.
أموال اللَّه خلقها، وخَوّلكم إياها، وخوّلكم الاستمتاع فيها، وجعلكم خَلَفًا بالتصرف فيها، فليست هي بأموالكم حقيقةً، بل أنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فناظر هل تتصرفون فيها على الوجه الذي يَرضَى به المستخلِف أو لا؟ والمراد: مستخلفكم فيما كان بأيدي مَن قبلكم بتوريثكم إياهم، فناظر هل تعتبرون بحالهم أو لا؟ وكيفية النظر من المتشابه نؤمن بأنه يصير، ولا نشتغل بكيفيته، والحديث مسوق للتحذير من زخرف الدنيا، وزهرتها. انتهى
(1)
.
(فَاتَّقُوا الدُّنْيَا)؛ أي: احذروا زيادتها على قدر الحاجة المُعِينة للدين النافعة في الأخرى، وقال القاري:"فاتقوا الدنيا"؛ أي: احذروا من الاغترار بما فيها من الجاه، والمال، فإنها في وشك الزوال، واقنعوا فيها بما يُعينكم على حسن المآل، فإن حلالها حساب، وحرامها عذاب. انتهى
(2)
.
(وَاتَّقُوا النِّسَاءَ)؛ أي: كيدهنّ، والاغترار بهنّ.
وقال القاري: "واتقوا النساء"؛ أي: احذروا أن تميلوا إلى المنهيات بسببهنّ وتقعوا في فتنة الدين لأجل الافتتان بهنّ.
وقال الطيبيّ رحمه الله: احذروا أن تميلوا إلى النساء بالحرام، وتَقبلوا أقوالهنّ، فإنهن ناقصات، عقل لا خير في كلامهن غالبًا. انتهى، وهو تخصيص بعد تعميم، إشارة إلى أنها أضر ما في الدنيا من البلايا
(3)
.
وقال المناويّ: "فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء": خَصّص بعدما عمم؛ إيذانًا بأن الفتنة بهنّ أعظم الفتن الدنيوية، فإنه سبحانه وتعالى أخبر بأن الذي زُيِّن به الدنيا من ملاذها وشهواتها سبعة أشياء، أعظمها النساء اللاتي هنّ أعظم زينتها، وشهوتها، وأعظمها فتنة، وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عمر: أن إبليس لقي موسى عليه السلام، فقال: يا موسى إن لك عليّ حقًّا، إياك أن تجالس امرأة ليست بمَحْرَم، فإني رسولها إليك، ورسولك إليها. انتهى
(4)
.
(فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ) يريد: قَتْل النفس التي أُمر بنو إسرائيل فيها بذبح البقرة، واسم المقتول: عاميل، قتله ابن أخيه، أو عمه
(1)
"فيض القدير" 2/ 179.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 243.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 6/ 243.
(4)
"فيض"القدير" 2/ 179.
ليتزوج ابنته، أو زوجته، وقال في "المطامح": يَحْتَمل كونه أشار إلى قصة هاروت وماروت؛ لأنهما فُتنا بسبب امرأة من بني إسرائيل، ويَحْتَمِل أنه أشار إلى قضية بلعام بن باعوراء؛ لأنه إنما هلك بمطاوعة زوجته، وبسببهن هلك كثير من العلماء
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه القصص ليس لها مستند يصحّ، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بَشَّارٍ)؛ يعني: محمد بن بشَّار شيخه الثاني، (لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ ") أشار به على اختلاف شيخيه في هذه اللفظة، فمحمد بن المثنَّى رواه بلفظ:"فينظر"، ورواه محمد بن بشَّار بلفظ:"لينظر"، ولا خلاف في المعنى، بل الغرض بيان الاختلاف؛ أداء للأمانة العلميّة، فيؤدّي كل لفظة كما سمعها من شيخه، وهذا من ورع المحدّثين، واحتياطاتهم، فللَّه درّهم، ما أشدّ ورعهم، وتقواهم، واللَّه تعالى اعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6923](2742)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2191)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 400)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4048)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 346)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 22)، و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 331)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 274)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 140) وفي "مسند الشاميين"(3/ 357)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 352)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 236)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 181)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 551)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 369 و 7/ 91) وفي "شعب الإيمان"(6/ 171 و 310 و 7/ 278)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"فيض القدير" 2/ 180.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشفقة بأمته، حيث كان يُحذّرهم مما يكون سبب هلاكهم في الدنيا والآخرة، فقد حذّرهم في هذا الحديث عن الافتتان بالدنيا، والنساء.
2 -
(ومنها): مشروعيّة ضرب الأمثال؛ لإيضاح المسائل.
3 -
(ومنها): بيان كون الدنيا حسنة المنظر، حلو المذاق؛ لكنها سريعة الزوال، فلا ينبغي لعاقل الاغترار بزخارفها.
4 -
(ومنها): التحذير من الافتتان بالنساء، فإنهنّ أخطر ما يغترّ بهنّ الرجال، ولذا قدّمنهنّ اللَّه عز وجل في تعداد شهوات النفس، فقال:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [آل عمران: 14] كما إشارة إلى عِظَم فتنتهنّ، فالواجب على العاقل أن يأخذ الحذر منهنّ، ومن الدنيا، فيجتنب الميل إليهنّ، فيسلك مسلك التوسّط في ذلك، لا تفريط، ولا إفراط، واللَّه تعالى أعلم.
5 -
(ومنها): ما قاله في "الفتح": وفي الحديث أن الفتنة بالنساء أشدّ من الفتنة بغيرهنّ، ويشهد له قوله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} فجعلهنّ من حب الشهوات، وبدأ بهنّ قبل بقية الأنواع؛ إشارةً إلى انهنّ الأصل في ذلك، ويقع في المشاهدة حبّ الرجل ولده من امرأته التي هي عنده أكثر من حبه ولده من غيرها، ومن أمثلة ذلك قصة النعمان بن بشير رضي الله عنهما في الهبة، وقد قال بعض الحكماء: النساء شرّ كلهنّ، وأشرّ ما فيهنّ عدم الاستغناء عنهنّ، ومع أنها ناقصة العقل والدين تحمل الرجل على تعاطي ما فيه نقص العقل والدين، كشغله عن طلب أمور الدين، وحمله على التهالك على طلب الدنيا، وذلك أشدّ الفساد. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"الفتح" 11/ 369 - 370 رقم (5096).
(2) - (بَابُ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْغَارِ الثَّلَاثَةِ، وَالتَّوَسُّلِ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6924]
(2743) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ -يَعْنِي: ابْنَ عِيَاضٍ أَبَا ضَمْرَةَ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ، أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمٍ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً للَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا، لَعَلَّ اللَّهَ
(1)
يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِيَ صِبْيَةٌ صِغَارٌ، أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ، وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ، حَتَّى طَلَعٍ الْفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَة، نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا المَاءَ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ، أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاء، وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَهَبتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجئْتُهَا بِهَا، فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ عَنْهَا، فَإِنْ كنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً، فَفَرَجَ لَهُمْ، وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: أَعْطِني حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ، فَرَكِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ، حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ
(1)
وفي نسخة: "لعله يفرّجها".
بَقَرًا وَرِعَاءَهَا، فَجَاءَني، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي، قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا، فَخُذْهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا، فَأَخَذَهُ، فَذَهَبَ بِهِ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ إِنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ، فَفَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِيَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) هو: محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المسيَّبيّ، مِن وَلَد المسيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
2 -
(أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ أَبُو ضَمْرَةَ) هو: أنس بن عياض بن ضمرة، أبو عبد الرحمن الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 200) وله ست وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.
3 -
(نَافِعٌ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ ثبتٌ، فقيهٌ، مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) الإضافة فيه بيانيّة
(1)
، و"النفر": بفتحتين: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفر فيما زاد على العشرة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: لَمْ أقف على اسم واحد منهم، وفي حديث عقبة بن
(1)
"المرقاة" 14/ 216.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 617.
عامر عند الطبرانيّ في "الدعاء": "أن ثلاثة نفر من بني إسرائيل"(يَتَمَشَّوْنَ) وفي رواية: "يمشون"، وفي أخرى:"يتماشون"؛ أي: يسيرون في طريق، وفي حديث عقبة، وكذا في حديث أبي هريرة، عند ابن حبان، والبزار:"أنهم خرجوا يرتادون لأهليهم". (أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ)؛ أي: نزل عليهم بكثرة، مما ألجأهم إلى البحث عما يُكنّهم، (فَأَوَوْا) يجوز قصر ألف "أووا"، ومدّها؛ أي: انضمّوا إلى الغار، وجعلوه لهم مأوى. (إِلَى غَارٍ) الغار: النَّقْب في الجبل، وفي حديث أنس عند أحمد، وأبي يعلى، والبزار، والطبرانيّ:"فدخلوا غارًا، فسقط عليهم حجر، متجاف، حتى ما يرون منه خصاصة"، وفي رواية سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن أبيه:"حتى أووا المبيت إلى غار" كذا للبخاريّ، ولمسلم من هذا الوجه:"حتى آواهم المبيت" وهو أشهر في الاستعمال، والمبيت في هذه الرواية منصوب على المفعولية، وتوجيهه أن دخول الغار مِن فِعلهم، فحَسُن أن يُنسب الإيواء إليهم. (فِي جَبَلٍ)؛ أي: في غار كائن في جبل، (فَانْحَطَّتْ)؛ أي: نزلت، ووقعت (عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ)؛ أي: حجر كبير، (مِنَ الْجَبَلِ، فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ)؛ أي: أغلقت عليهم باب الغار، وغطّتهم، وفي رواية للبخاريّ:"فانطبقت عليهم"، وفيه حذف المفعول، والتقدير: نفسها، أو المَنْفَذ، ويؤيده أن في رواية سالم:"فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدَّت عليهم الغار"، زاد الطبرانيّ في حديث النعمان بن بشير من وجه آخر:"إذ وقع حجر من الجبل، مما يهبط من خشية اللَّه، حتى سَدَّ فم الغار". (فَقَالَ بَعْضُهُمْ)؛ أي: بعض النفر، (لِبَعْضٍ: انْظُرُوا)؛ أي: تفكَّروا، وتذكّروا (أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً) وفي رواية:"خالصة"، (للَّهِ، فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا)؛ أي: بتلك الأعمال الصالحة، وبجعلها شفيعة، ووسيلة إلى إجابة الدعوة، وفي رواية للبخاريّ:"فلْيَدْع كل رجل منكم بما يَعلم أنه قد صدق فيه"، وفي رواية له: لا ادعوا اللَّه بأفضل عمل عملتموه"، وفي رواية: "إنه لا ينجيكم إلا أن تدعوا اللَّه بصالح أعمالكم"، وفي حديث أبي هريرة وأنس جميعًا: "فقال بعضهم لبعض: عفا الأثر، ووقع الحجر، ولا يَعلم بمكانكم إلا اللَّه، ادعوا اللَّه بأوثق أعمالكم".
وفي حديث عليّ عند البزار: "تفكروا في أحسن أعمالكم، فادعوا اللَّه بها، لعل اللَّه يفرّج عنكم".
وفي حديث النعمان بن بشير: "إنكم لن تجدوا شيئًا خيرًا من أن يدعو كل امرئ منكم بخير عمل عمله قط".
(لَعَلَّ اللَّهَ) وفي نسخة: "لعله"؛ أي: على رجاء أنه تعالى، أو لكي (يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ) بضمّ حرف المضارعة، وتشديد الراء المكسورة، من التفريج، ويَحْتَمل أن يكون بفتح أوله، وكسر ثالثه، ففي "القاموس"
(1)
: فَرَجَ اللَّهُ الغمَّ يَفْرِجه: كشفه، كفَرَّجه، وفي "المصباح"
(2)
: فرّج اللَّه الغمّ بالتشديد: كشفه، والاسم: الْفَرَج بفتحتين، وفَرَجه فَرْجًا، من باب ضرب لغةٌ، وقد جمع الشاعر اللغتين، فقال [من البسيط]:
يَا فَارجَ الْكَرْبِ مَسْدُولًا عَسَاكِرُهُ
…
كَمَا يُفَرِّجُ غَمَّ الظُّلْمَةِ الْفَلَقُ
والمعنى: يزيل هذه الصخرة، أو يكشف هذه الكربة.
(فَقَالَ أَحَدُهُمُ)، أي: أحد الثلاثة، (اللَّهُمَّ) قال في "العمدة": اعلم أن لفظ "اللَّهُمَّ" يُستعمل في كلام العرب على ثلاثة أنحاء:
أحدها: للنداء المحض، وهو ظاهر.
والثاني: للإيذان بنُدرة المستثني، كقولك بعد كلام: اللَّهُمَّ إلا إذا كان كذا.
والثالث: ليدل على تيقن المجيب في الجواب المقترن هو به، كقولك لمن قال: أَزيدٌ قائم: اللَّهُمَّ نعم، أو: اللَّهُمَّ لا، كأنه يناديه تعالى مستشهدًا على ما قال من الجواب، و"اللَّهُمَّ" هذا هنا من هذا القبيل. انتهى
(3)
.
(إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الضمير الذي تفسّره الجملة بعده، كما قال ابن مالك في "الكافية":
وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا
…
بِجُمْلَةٍ كَإِنَّهُ زَيْدٌ قَرَا
(كَانَ لِي وَالِدَانِ) وفي رواية: "أبوان"، وهو من باب التغليب؛ لأنَّ المقصود الأب والأمّ. (شَيْخَانِ كَبِيرَانِ) وفي حديث عليّ: "أبوان ضعيفان، فقيران، ليس لهما خادم، ولا راع، ولا وليّ غيري، فكنت أرعى لهما بالنهار،
(1)
"القاموس" ص 982.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 466.
(3)
"عمدة القاري" 12/ 24.
وأَوي إليهما بالليل"، (وَامْرَأَتِي)؛ أي: زوجتي، (وَليَ صِبْيَةٌ) بكسر الصاد، وسكون الموحّدة: جمع صبيّ؛ أي: ولي أيضًا أطفال (صِغَارٌ، أَرْعَى عَلَيْهِمْ) قال ابن الملك: أي: أرعى ماشيتهم، قال الجوهريّ: يقال: فلان يرعى على أبيه؛ أي: يرعى غنمه. اهـ. قال القاري: والتحقيق ما ذكره الطيبيّ من أن الرعي ضُمِّن معنى الإنفاق، فعُدّي بـ "على"؛ أي: أُنفق عليهم، راعيًا الغنيمات، وكذا قوله: "فإذا رُحت عليهم" ضُمّن معنى رَدَدْت؛ أي: إذا رددت الماشية من المرعى إلى موضع مبيتهم
(1)
.
(فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ) من الإراحة، وفي رواية:"فإذا رُحت"، يُقال: أراح فلان الإبلَ: ردَّها إلى الْمُراح بالضمّ، وهو المأوى
(2)
، وقال النوويّ رحمه الله: معناه: إذا رددت الماشية من المرعى إليهم، وإلى موضع مبيتها، وهو مُراحها بضم الميم، يقال: أرحت الماشيةَ، ورَوّحتها بمعنى. انتهى
(3)
.
وقوله: (حَلَبْتُ) جواب "إذا"؛ أي: حلبت الإبل التي تلي لها حلب، وفي رواية:"فحلبت، بدأت بوالديّ"، وعليه "فحلبت" عطف على "رحت"، وجواب"إذا " قوله:"بدأت". (فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُمَا) من السقي، كما في قوله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، ويقال: أسقيتهما، بالألف، كما في قوله تعالى:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16]. (قَبْلَ بَنِيَّ) بفتح الموحّدة، وكسر النون، وتشديد التحتانيّة، أصله: بنين لي، جمع ابن، على غير قياس؛ لأنه لم يستوف شروط جمع المذكّر السالم، كما هو معروف في محلّه، ثم حُذفت اللام تخفيفًا، ثم النون للإضافة، ثم أضيف، فأُدغمت الياء في الياء، فصار: بَنِيّ، وفي رواية:"قبل ولدي" بفتحتين، وبضم الواو، وسكون اللام؛ أي: أولادي. (وَإِنَّهُ) بكسر الهمزة، والضمير للشأن أيضًا، (نَأَى بِي)؛ أي: بَعُدَ عليّ، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "نأى بي" وفي بعض النسخ: "ناء بي"، فالأول يَجعل الهمزة قبل الألف، وبه قرأ أكثر القراء السبعة، والثاني عكسه، وهما لغتان، وقراءتان، ومعناه: بَعُدَ.
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3169، و"المرقاة" 14/ 216.
(2)
"القاموس" ص 540.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 56.
(ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام، (الشَّجَرُ)؛ أي: طلب الشجر الذي ترعاه الإبل، والمراد أنه استطرد مع غنمه في الرعي إلى أن بَعُد عن مكانه زيادةً على العادة، فلذلك أبطأ.
وقال في "العمدة": قوله: "نأى بي الشجر" بالشين المعجمة، والجيم، عند أكثر الرواة، ومعناه: تباعد عن مكان الشجر التي ترعاها مواشينا. انتهى
(1)
.
وفي حديث عليّ: "فإن الكلأ تناءى عليّ"؛ أي: تباعد، والكلأ: المرعي، (فَلَمْ آتِ) لِبُعد المرعى عنهم، (حَتَّى أَمْسَيْتُ)؛ أي: دخلت في وقت المساء، وتأخّرت (فَوَجَدْتُهُمَا)؛ أي: الوالدين، (قَدْ نَامَا)؛ أي: من الضعف، أو من غلبة الانتظار، وكثرة الإبطاء، (فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ) بضم اللام، وكسرها، من بابي نصر، وضرب، على ما في "القاموس". (فَجِئْتُ) إليهما (بِالْحِلَابِ) بكسر أوله، وهو الإناء الذي يُحلب فيه، قيل: وقد يراد بالحلاب هنا: اللبن المحلوب، ذكره الطيبيّ، فيكون مجازًا من ذِكر المحلّ وإرادة الحالّ، قال القاري: والأظهر أنه أتى بالحلاب الذي فيه المحلوب استعجالًا
(2)
.
وقال النوويّ: الحلاب بكسر الحاء: هو الإناء الذي يُحلب فيه، يسع حَلْبة ناقة، ويقال له: المحلب بكسر الميم، قال القاضي: وقد يريد بالحلاب هنا: اللبن المحلوب. انتهى
(3)
.
(فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا) وقوله: (كرَهُ) بفتح الراء، من باب تَعِبَ، والجملة مستأنفة، أو حاليّة. (أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا)؛ أي: لمشقّة ذلك عليهما، (وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيّ) تقدّم أنه بفتح حرف المضارعة، وضمه، مضارع سقي، وأسقي، ثلاثيًّا، ورباعيًّا. (الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا)؛ أي: قبل الوالدين، وقوله:(وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"يتضاغون" بفتح الغين
(1)
"عمدة القاري" 22/ 86.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 218.
(3)
"شرح النوويّ" 17/ 56.
المعجمة؛ أي: يَضِجّون، ويصيحون
(1)
، زاد في رواية البخاريّ:"من الجوع"؛ أي: بسبب الجوع، قال في "الفتح": وفيه ردّ على من قال: لعل الصياح كان بسبب غير الجوع. انتهى
(2)
.
وقال في "العمدة": قوله: "يتضاغون" بالضاد وبالغين المعجمتين؛ أي: يصيحون، من ضَغَا: إذا صاح، وكل صوت ذليل مقهور يسمى ضَغْوًا، تقول: ضغا يضغو ضغوًا، وضغاءً، وقال الداوديّ:"يتضاغون"؛ أي: يبكون، ويتوجعون، قيل: نفقة الأولاد مقدّمة على نفقة الأصول، وأجيب: بأن دِينهم لعله كان بخلاف ذلك، أو كانوا يطلبون الزائد على سدّ الرمَق، أو كان صياحهم لغير ذلك. انتهى
(3)
.
(عِنْدَ قَدَمَيَّ) بفتح الميم، وتشديد الياء، ويُروى بالكسر، والتخفيف، (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ)؛ أي: ما ذُكر من الوقوف وغيره، (دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ) بالنصب، قال القاري: وفي نسخة بالرفع؛ أي: عادتي، وعادتهم، والضمير للوالدين، والصبية
(4)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الدأب: الحال اللازمة، والعادة المتكررة. انتهى
(5)
.
(حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) انشق الصبح، وظهر نوره.
وفي رواية للبخاريّ: "وكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فيستَكِنا لِشَرْبتهما": أما كراهته لإيقاظهما فظاهر؛ لأنَّ الإنسان يَكره أن يُوقَظ من نومه، ووقع في حديث عليّ:"ثم جلست عند رؤوسهما بإنائي كراهية أن أزرقهما، أو أوذيهما"، وفي حديث أنس:"كراهية أن أردّ وَسَنَهما"، وفي حديث ابن أبي أوفى: "وكرهت أن
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 218.
(2)
"الفتح" 8/ 116، "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3465).
(3)
"عمدة القاري" 22/ 86.
(4)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 218.
(5)
"المفهم" 7/ 64.
أوقظهما من نومهما، فيشقّ ذلك عليهما"، وأما كراهته أن يدَعَهما فقد فسره بقوله: "فيستكنا لشربتهما"؛ أي: يضعفا؛ لأنه عشاؤهما، وتَرْك العشاء يُهْرِم. وقوله: "يستكنا" من الاستكانة، وقوله: "لِشُربتهما"؛ أي: لعدم شربتهما، فيصيران ضعيفين، مسكينين، والمسكين الذي لا شيء له. انتهى
(1)
.
(فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ) قال في "الفتح": فيه إشكال؛ لأنَّ المؤمن يَعلم قطعًا أن اللَّه يعلم ذلك.
وأجيب بأنه تردد في عمله ذلك، هل له اعتبار عند اللَّه أم لا؟ وكأنه قال: إن كان عملي ذلك مقبولًا، فأجب دعائي، وبهذا التقرير يظهر أن قوله:"اللَّهُمَّ" على بابها في النداء، وقد تَرِد بمعنى تحقق الجواب، كمن يسأل آخر عن شيء، كأن يقول: رأيت زيدًا، فيقول: اللَّهُمَّ نعم، وقد تَرِد أيضًا لندرة المستثني، كأن يقول شيئًا، ثم يستثني منه، فيقول: اللَّهُمَّ إلا إن كان كذا. انتهى
(2)
.
(أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ)؛ أي: طلبًا لمرضاتك، وانتصاب "ابتغاءَ" على أنه مفعول له؛ أي: لأجل ابتغاء وجهك. وفي رواية للبخاريّ: "أني فعلت ذلك من خشيتك"، ووقع في حديث عليّ عند الطبرانيّ:"من مخافتك، وابتغاء مرضاتك"، وفي حديث النعمان:"رجاء رحمتك، ومخافة عذابك"، (فَافْرُجْ) بوصل الهمزة، وضم الراء، من فرج يفرُج الثلاثيّ، وضبطه بعضهم بهمزة قطع، وكسر الراء، من أفرج الرباعي. (لَنَا مِنْهَا فرْجَةً) بضمّ الفاء، وفَتْحها، وقال في "العمدة": قوله: "فرجة" بضم الفاء، من فرجة الحائط، وهو المراد هنا، وأما الفَرْجة بالفتح، فهي عن الكرب والهم. انتهى
(3)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: الفرجة بضم الفاء؛ لأنَّه من السعة، فإذا كان بمعنى الراحة قلت فيه: فَرْجة، وفَرَجٌ، وفِعل كل واحد منهما فَرَج بالفتح، والتخفيف، يَفْرُج بالضم لا غير. انتهى
(4)
.
وقال في "العمدة": قوله: "فافرج لنا" أمْر من فَرَج يَفرُج، من باب نصر
(1)
"الفتح" 8/ 116.
(2)
"الفتح" 8/ 113.
(3)
"عمدة القاري" 22/ 86.
(4)
"المفهم" 7/ 64.
ينصر، وقال ابن التين: هو بضم الراء في أكثر الأمهات، وقال الجوهريّ: إنه بكسرها، وهو دعاء في صورة الأمر، قال: وقوله: "فرجة" بضم الفاء، وفتحها، والفرجة في الحائط كالشقّ، والفرجة: انفراج الكروب، وقال النحاس: الفرجة بالفتح في الأمر، والفرجة بالضم فيما يُرى من الحائط ونحوه، قال العينيّ: الفرجة هنا بالضم قطعًا على ما لا يخفى. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: من باب نصر ينصر هذا مخالف لِمَا في "الصحاح"، و"القاموس"، و"شرحه"، و"المصباح"، فقد ضُبط في كلها من باب ضرب، لا من باب نصر، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ) جملة في محلّ نصب صفة لـ "فرجةً"، وفيه تقييد لأطلاق قوله في رواية أخرى:"ففَرِّج عنا ما نحن فيه". (فَفَرَجَ) بتخفيف الراء، وتشديدها، (اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً، فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ) ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "فانساخت عنهم الصخرة"؛ أي: انشقت، وأنكره الخطابيّ؛ لأنَّ معنى انساخ بالمعجمة: غاب في الأرض، ويقال: انصاخ بالصاد المهملة، بدل السين؛ أي: انشق من قِبَل نفسه، قال: والصواب: انساحت، بالحاء المهملة؛ أي: اتسعت، ومنه ساحة الدار، قال: وانصاح بالصاد المهملة بدل السين؛ أي: تصدع، يقال ذلك للبرق.
وتعقّبه الحافظ، فقال: الرواية بالخاء المعجمة صحيحة، وهي بمعنى انشقّت، وإن كان أصله بالصاد، فالصاد قد تُقلب سينًا، ولا سيما مع الخاء المعجمة، كالصخر والسخر، ووقع في حديث سالم:"فانفرجت شيئًا، لا يستطيعون الخروج"، وفي حديث النعمان بن بشير:"فانصدع الجبل، حتى رأوا الضوء" وفي حديث عليّ: "فانصدع الجبل، حتى طمعوا في الخروج، ولم يستطيعوا"، وفي حديث أبي هريرة وأنس:"فزال ثلث الحجر"
(2)
.
(وَقَالَ الآخَرُ) وفي رواية: "وقال الثاني"، (اللَّهُمَّ إِنَّهُ)؛ أي: الشأن، قال الطيبيّ رحمه الله: ذكّر ضمير الشأن، والمذكور في التفسير مؤنث، وهذا يدلّ على جواز ذلك. انتهى.
(1)
"عمدة القاري" 12/ 25.
(2)
"الفتح" 8/ 115 - 116.
وقال الحافظ: وقع في كلام الأول: "اللَّهُمَّ إنه"، والثاني:"اللَّهُمَّ إنها"، والثالث:"اللَّهُمَّ إني"، وهو من التفنن، و"إنه" في الأول ضمير الشأن، وفي الثاني للقصة، ناسب ذلك أن القصة في امرأة. انتهى.
قال القاريّ: فهذا الكلام يدلّ على أن رواية البخاريّ وقعت "إنها" في كلام الثاني، خلاف "المشكاة" ذكره ميرك، والظاهر أن عبارة "المشكاة" مأخوذة من مسلم لفظًا، ويكون قوله: متَّفقٌ عليه معنًى. انتهى
(1)
.
(كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ، أَحْبَبْتُهَا) وفي رواية البخاريّ: "من أحبّ الناس إليّ". قال في "الفتح": هو مقيد لإطلاق رواية سالم حيث قال فيها: "كانت أحب الناس إليّ". انتهى. (كَأَشَدِّ) الكاف زائدة، أو أراد تشبيه محبته بأشدّ المحبات، (مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ) قال القاري: أي: حبًّا شديدًا، نحو قوله تعالى:{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165]، وقال الطيبيّ رحمه الله: يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، و"ما" مصدرية؛ أي: أُحبّها حبًّا مثل أشدّ حب الرجال النساء، أو حالا؛ أي: أحبها مشابهًا حبي أشدّ حب الرجال النساء، ونظيره قوله تعالى:{يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء: 77]، فإن قوله تعالى:{أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} حال على تقدير: مشبّهين أشد خشية من أهل خشية اللَّه. انتهى
(2)
.
(وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا) فيه تضمين معنى الإرسال؛ أي: أرسلت إليها طالبًا نفسها، قاله القاري. (فَأَبَتْ) وفي رواية موسى بن عقبة:"فقالت: لا ينال ذلك منها حتى". (حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ،) بنصب "آتي"؛ لكونه مستقبلًا، قال القاري: وفي نسخة بالسكون على حكاية الحال الماضية؛ أي: أجيئها.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار القاري رحمه الله إلى قاعدة أن ما بعد "حتى" إذا كان مستقبلًا يُنصب، وإن كان حالًا، أو مؤوّلًا به يُرفع، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَتلْوَ "حَتَّى" حَالًا أَوْ مُؤَوَّلَا
…
بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 219.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3170.
هذا كلّه إن صحّت الرواية بالنصب، والرفع، وإلا فما صحت به هو المتعيّن، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وفي رواية للبخاريّ: "إلا أن آتيها بمائة دينار"، وفي رواية سالم الآتية:"فأعطيتها عشرين ومائة دينار"، ويُحْمَل على أنها طلبت منه المائة، فزادها هو من قِبَل نفسه عشرين، أو الغى غير سالم الكسر، ووقع في حديث النعمان، وعقبة بن عامر:"مائة دينار"، وأبهم ذلك في حديث عليّ، وأنس، وأبي هريرة، وقال في حديث ابن أبي أوفى:"مالًا ضَخْمًا".
(فَتَعِبْتُ) وفي رواية: "فسعيت"، (حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ، فَجِئْتُهَا بِهَا) وفي رواية: "فلقيتها بها"، (فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا)؛ أي: جلست مجلس الرجل الذي يريد الجماع، وفي رواية سالم الآتية:"حتى إذا قدرت عليها"، زاد في حديث ابن أبي أوفى:"وجلست منها مجلس الرجل من المرأة"، وفي حديث النعمان بن بشير:"فلما كشفتها"، وبيَّن في رواية سالم سبب إجابتها بعد امتناعها، فقال:"فامتنعت مني حتى ألمّت بها سَنَة -أي: سنة قحط- فجاءتني، فأعطيتها"، ويُجمع بينه وبين رواية نافع بأنها امتنعت أَوّلًا عِفّةً، ودافعت بطلب المال، فلما احتاجت أجابت
(1)
.
(قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ) يحتمل الاسمية، والوصفية، (اتَّقِ اللَّهَ)؛ أي: عذابه، أو مخالفته، (وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ) بفتح التاء، وهو كناية عن البكارة، (إِلَّا بِحَقِّهِ)؛ أي: بالنكاح الحلال، لا بالزنا، وفي رواية البخاريّ:"ولا تفضّ الخاتم إلا بحقّه". قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا تففق الخاتم إلا بحقِّه"، الفضّ: الكسر، والفتح، والخاتم: كناية عن الفرج، وعُذرة البكارة، وحقّه: التزويج المشروع. انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": قوله: "ولا تفضّ" بالفاء، والمعجمة؛ أي: لا تكسر، والخاتم كناية عن عُذرتها، وكانها كانت بكرًا، وكنَّت عن الأفضاء بالكسر، وعن الفرج بالخاتم؛ إلا أن في حديث النعمان ما يدلّ على أنها لم تكن بكرًا.
ووقع في رواية أبي ضمرة: "ولا تفتح الخاتم" والألف واللام بدل من
(1)
"الفتح" 8/ 115 - 117.
(2)
"المفهم" 7/ 65.
الضمير؛ أي: خاتمي، ووقع كذلك في حديث أبي العالية، عن أبي هريرة، عند الطبرانيّ في "الدعاء" بلفظ:"إنه لا يحلّ لك أن تفضّ خاتمي إلا بحقه".
وقولها: "بحقه" أرادت به الحلال؛ أي: لا أُحل لك أن تقربني إلا بتزويج صحيح.
ووقع في حديث عليّ: "فقالت: أُذَكِّرك اللَّه أن تركب مني ما حَرَّم اللَّه عليك، قال: فقلت: أنا أحقّ أن أخاف ربي".
وفي حديث النعمان بن بشير: "فلما أمكنتني من نفسها بكت، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: فعلتُ هذا من الحاجة، فقلت: انطلقي".
وفي رواية أخرى عن النعمان: "أنها ترددت إليه ثلاث مرات، تطلب منه شيئًا من معروفه، ويأبى عليها إلا أن تُمَكِّنه من نفسها، فأجابت في الثالثة، بعد أن استأذنت زوجها، فأَذِن لها، وقال لها: أغني عيالك، قال: فرجعت فناشدتني باللَّه، فأبيت عليها، فأسلمت إليّ نفسها، فلما كشفتها ارتعدت من تحتي، فقلت: ما لك؟ قالت: أخاف اللَّه رب العالمين، فقلت: خِفْتيه في الشدّة، ولم أَخَفْه في الرخاء، فتركتها".
وفي حديث ابن أبي أوفى: "فلما جلست منها مجلس الرجل من المرأة أُذكرت النار، فقمت عنها".
والجمع بين هذه الروايات ممكن والحديث يُفَسِّر بعضُه بعضًا. انتهى
(1)
.
(فَقُمْتُ عَنْهَا)؛ أي: مُعرِضًا عن التعرض لها، (فَإِنْ كُنْتَ) ووقع في رواية للبخاريّ في "الأدب" زيادة:"اللَّهُمَّ"، ولفظه:"اللَّهُمَّ، فإن كنت تعلم"، وفيه زيادة التضرع، قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في "فإن كنت" عاطفة على مقدَّر؛ أي: اللَّهُمَّ فعلت ذلك، فإن كنت تعلم أني فعلت، ويجوز أن يكون "اللَّهُمَّ" مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لتأكيد الابتهال والتضرع إلى اللَّه تعالى، فلا يقدَّر معطوف عليه، وهو الوجه، يدلّ عليه القرينة السابقة واللاحقة، وإنما كرر "اللَّهُمَّ" في هذه القرينة دون أختيها؛ لأنَّ هذا المقام أصعب المقامات، وأشقّها، فإنه ردع لهوى النفس خوفًا من اللَّه تعالى، ومقامه، قال اللَّه تعالى:
(1)
"الفتح" 8/ 115 - 118.
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]، قال الشيخ أبو حامد: شهوة الفرج أغلب الشهوات على الإنسان، وأصعبها عند الهيجان على العقل، فمن ترك الزنا خوفًا من اللَّه تعالى مع القدرة، وارتفاع الموانع، وتيسُّر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة، نال درجة الصدّيقين. انتهى
(1)
.
(تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ)؛ أي: ما ذكر مما جرى بينه وبين هذه المرأة، (ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا)؛ أي: من هذه الكربة، أو الصخرة، ويمكن أن تكون "مِنْ" للتبعيض؛ أي: بعض الفرجة، وقوله:(فُرْجَةً)؛ أي: زيادة فرجة، (فَفَرَجَ لَهُمْ) بتخفيف الراء، ويجوز تشديدها.
(وَقَالَ الآخَرُ) قال القاري: بفتح الخاء، وفي نسخة بكسرها، ومالهما واحد، والثاني أدلّ على المقصود؛ أي: قال الرجل الثالث: (اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ) قال الطيبيّ رحمه الله: الفرق بفتح الراء: مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وهي اثنا عشر مُدًّا، وثلاثة آصع عند أهل الحجاز
(2)
.
وفي "القاموس": الفَرْق -بفتح، فسكون-: مكيال بالمدينة يسع ثلاثة آصع، ويُحَرَّك، أو هو أفصح، أو يسع ستة عشر رطلًا، أو أربعة أرباع. انتهى
(3)
.
وفي "النهاية": الفَرَق بالتحريك: مكيال يسع ستة عشر رطلًا، وبالسكون مائة وعشرون رطلًا، وفي رواية:"بفرق ذُرَة"، فيُجمع بأن الفرق كان من صنفين
(4)
.
وقال في "العمدة": الفرَق بفتح الراء، وسكونها: مكيال يسع ثلاثة آصع، وقال ابن قرقول: رويناه بالإسكان، والفتح، عن أكثر شيوخنا، والفتح أكثر، قال الباجيّ: وهو الصواب، وكذا قيدناه عن أهل اللغة، ولا يقال: فرق
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3170.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3170.
(3)
"القاموس المحيط" ص 991.
(4)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 221.
بالإسكان، ولكن فرق بالفتح، وكذا حكى النحاس، وذكر ابن دريد أنه قد قيل بالإسكان. انتهى
(1)
.
و"الأرز" فيه ست لغات: فَتْح الألف، وضمّها، مع ضمّ الراء، وبضم الألف، مع سكون الراء، وتشديد الزاي، وتخفيفها، قاله في "الفتح".
وفي "القاموس": الأَرُزّ كأَشُدّ، وعُتُلّ، وقُفْلٍ، وطُنُب، ورُزّ، ورُنْز، وآرز ككابل، وأَرُز، كعَضُد. انتهى.
قال في "الفتح" ما حاصله: ووقع في رواية: أنه فرق ذُرَة، ويَحْتَمِل أنه استأجر أكثر من واحد، وكان بعضهم بفرق ذرة، وبعضهم بفرق أرز، ويؤيد ذلك أنه وقع في رواية سالم:"استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم، غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب"، وفي حديث النعمان بن بشير نحوه، ووقع في حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى عند الطبرانيّ في "الدعاء":"استأجرت قومًا كل واحد منهم بنصف درهم، فلما فرغوا أعطيتهم أجورهم، فقال أحدهم: واللَّه لقد عملت عمل اثنين، واللَّه لا آخذ إلا درهمًا، فذهب، وتركه، فبذرت من ذلك النصف درهم. . . الخ"، ويُجمع بينهما بأن الفرق المذكور كانت قيمته نصف درهم إذ ذاك. انتهى
(2)
.
(فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ)؛ أي: عَمِل عَمَله، وانتهى أجله، (قَالَ: أَعْطِني حَقِّي، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ، فَرَغِبَ عَنْهُ)؛ أي: أعرض عن أخذه، وكرهه؛ لمانع، أو باعث، وفي رواية للبخاريّ:"فذهب، وتركه"، قال في "الفتح": في رواية موسى بن عقبة: "فأعطيته، فأبى ذاك أن يأخذ"، وفي حديث أبي هريرة:"فعمِل لي نصف النهار، فأعطيته أجرًا فسخطه، ولم يأخذه"، ووقع في حديث النعمان بن بشير بيان السبب في تَرْك الرجل أجرته، ولفظه: "كان لي أجراء يعملون فجاءني عُمّال، فاستأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاء رجل ذات يوم نصف النهار، فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في نصف نهاره، كما عمل رجل منهم في نهاره كله، فرأيت عليّ في الذمام أن لا أنقصه مما استأجرت به أصحابه لِمَا جهد في عمله، فقال رجل منهم: تعطي هذا مثل ما
(1)
"عمدة القاري" 12/ 25.
(2)
"الفتح" 8/ 113 - 114.
أعطيتني؟ فقلت: يا عبد اللَّه لم أبخسك شيئًا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت، قال: فغضب، وذهب، وترك أجره".
وأما ما وقع في حديث أنس: "فأتاني يطلب أجره، وأنا غضبان، فزبرته، فانطلق، وترك أجره"، فلا ينافي ذلك، وطريق الجمع أن الأجير لمّا حَسَد الذي عمل نصف النهار، وعاتب المستأجِر غضب منه، وقال له: لم أبخسك شيئًا. . . إلخ، وزبره، فغضب الأجير، وذهب.
ووقع في حديث عليّ: "وترك واحد منهم أجره، وزعم أن أجره أكثر
(1)
من أجور أصحابه". انتهى.
(فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ)؛ أي: أزرع ذلك الأرز، (حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الأرز، أو من زَرْعه، (بَقَرًا وَرِعَاءَهَا)؛ أي: جمعت قيمتهما، فاشتريتهما.
و"الرعاء" بكسر الراء، والمدّ: جَمْع راع، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَعَتِ الماشيةُ تَرْعَى رَعْيًا، فهي رَاعِيَةٌ: إذا سَرَحت بنفسها، ورَعَيْتُهَا أَرْعَاهَا، يُستعمل لازمًا ومتعديًا، والفاعل رَاع، والجمع رُعَاةٌ بالضم، مثل قَاضٍ وقُضَاة، وقيل أيضًا: رِعَاءٌ بالكسر والمدّ، ورُعْيَانٌ، مثل رُغْفَان. انتهى
(2)
.
وفي رواية للبخاريّ: "وإني عمدت إلى ذلك الفرق، فزرعته، فصار من أمره أن اشتريت منه بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمِد إلى تلك البقر، فسُقْها"، قال في "الفتح": وفي رواية سالم: "فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال -وفيه- فقلت له: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق من أجرك"، قال الحافظ: ودلت هذه الرواية على أنَّ قوله في رواية نافع: "اشتريت بقرأ" أنه لم يُرِد أنه لَمْ يَشْتر غيرها، وإنما كان الأكثر الأغلب البقر، فلذلك اقتصر عليها.
وفي حديث أنس، وأبي هريرة جميعًا:"فجمعته، وثَمّرته، حتى كان منه كل المال -وقال فيه-: فأعطيته ذلك كله، ولو شئت لم أعطه إلا الأجر الأول".
ووقع في حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى: "أنه دفع إليه عشرة آلاف درهم"، وهو محمول على أنها كانت قيمة الأشياء المذكورة.
(1)
هكذا النسخة، ولعله أقلّ، فليُحرّر.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 231.
وفي حديث النعمان بن بشير: "فبذرته على حِدَة، فأضعفَ، ثم بذرته فأضعف، حتى كثر الطعام -وفيه- فقال: أتظلمني، وتسخر بي"، وفي رواية له:"ثم مرَّت بي بقر، فاشتريت منها فصيلة، فبلغت ما شاء اللَّه"، والجمع بينهما ممكن بأن يكون زرع أَوّلًا، ثم اشترى من بعضه بقرة، ثم نُتِجَت. انتهى من الفتح باختصار
(1)
.
والحديث يدلّ على جواز تصرف الفضولي في مال الغير على وجه النصيحة، وطريق الأمانة، وإرادة الشفقة، حيث استحسن صلى الله عليه وسلم ذلك منه، فهو في حكم التقرير، لا يقال: لعلَّ هذا شَرْع من قبلنا، فإنه قد ورد نظيره في زمانه صلى الله عليه وسلم حيث دفع قيمة كبش لبعض أصحابه، فاشتراه بها، فباعه بضعف ثمنه، واشترى كبشًا آخر، وأتى به مع قيمته، فدعا له بالبركة، قاله القاري رحمه الله
(2)
.
(فَجَاءَنِي، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي) ظاهر كلامه عنف، لكن باطنه حقّ ولطف. (قُلْتُ: اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا) وفي رواية البخاريّ: "فقلت: اذهب إلى ذلك البقر، وراعيها"، قال الطيبيّ:"ذلك" إشارة إلى البقر باعتبار السواد المرئيّ، كما يقال: عند ذلك الإنسان، أو الشخص فعل كذا، قال الذبيانيّ [من البسيط]:
نُبِّئْتُ نُعْمًا عَلَى الْهِجْرَانِ عَاتِبَةً
…
سَقْيًا وَرَعْيَا لِذَاكَ الْعَاتِبِ الرَّازِي
وأنَّث الضمير الراجع إلى البقر باعتبار جمعيّة الجنس. انتهى
(3)
.
(فَخُذْهَا، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي) من استهزأ بفلان: إذا سخر منه، ولعله توهم أنه حصل له من كلامه "لا تظلمني" جَزَع مع إيهام قوله:"اذهب إلى ذلك"، (فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا، فَأَخَذَهُ)؛ أي: مجموع ما ذكر، وفي رواية:"فأخذها"؛ أي: كلها، (فَذَهَبَ بِهِ) قال ميرك عند قوله:"حتى جمعت بقرًا وراعيها": وقع في رواية "الصحيح":
(1)
"الفتح" 8/ 113 - 115.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 221.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3170.
"فثمّرت أجره حتى كثرت منه الأموال -وفيها- فقلت له: كل ما ترى من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق من أجرك -وفيها- فاستاقه، فلم يترك شيئًا" فدلت هذه الرواية على أنَّ قوله في الرواية المذكورة: "جمعت بقرًا" أنه لم يُرَدْ جَمْع البقر فقط، وإنما كان الأكثرَ الأغلبَ، فذلك اقتصر عليه، ووقع في بعض الروايات أنه دفع إليه عشرة آلاف درهم، وهو محمول على أنها كانت قيمة الأشياء المذكورة، قال القاري: ولا بِدْعَ أن الدراهم من زوائد الفوائد، منضمة إليها، فإن البَركة توافي. انتهى
(1)
.
(فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ)؛ أي: من إطباق الباب، (ففَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِيَ") قال القاري: فإن قلت: رؤية الأعمال نقصان عند أهل الكمال، فما بال هذه الأحوال؟.
قلت: فكأنهم توسلوا بما وقع له تعالى معهم من توفيق العمل الصالح المقرون بالإخلاص على أنه ينجيهم من مضيق الهلاك إلى فضاء الخلاص، فكأنهم قالوا: كما أنعمت علينا بمعروفك أَوَّلًا، فأتمّ علينا فضلك ثانيًا، فإنا لا نستغني عن كرمك أبدًا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "رؤية الأعمال نقصان" إن أراد رؤيتها من حيث إنه يمتنّ بها على اللَّه تعالى، فهذا مسلّم؛ لأنَّ المنّة له عز وجل لا للعبد، كما قال اللَّه تعالى:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} الآية [الحجرات: 17]، وإن أراد أن الاعتداد بها، مع العلم بأنها من فضل اللَّه ومشيئته، ثم تقديمها وسيلة إلى اللَّه عز وجل نقصان، فهذا غير صحيح؛ فإن اللَّه تعالى أضاف الأعمال إلى العباد، وأخبر بأنهم يجازيهم عليها، فقال:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)} [الواقعة: 24]، وأخبر أنها من خَلْقه، فقال:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)} [الصافات: 96]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 221.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 221.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه عمر رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": لم يُخرج الشيخان هذا الحديث إلا من رواية ابن عمر، وجاء بإسناد صحيح عن أنس، أخرجه الطبرانيّ في "الدعاء"، من وجه آخر حسن، وبإسناد حسن عن أبي هريرة، وهو في "صحيح ابن حبان"، وأخرجه الطبرانيّ من وجه آخر، عن أبي هريرة، وعن النعمان بن بشير، من ثلاثة أوجه حسان، أحدها عند أحمد، والبزار، وكلها عند الطبرانيّ، وعن عليّ، وعقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وابن أبي أوفي، بأسانيد ضعيفة، وقد استوعب طرقه أبو عوانة في "صحيحه"، والطبرانيّ في "الدعاء".
واتفقت الروايات كلها على أنَّ القصص الثلاثة في الأجير، والمرأة، والأبوين، إلا حديث عقبة بن عامر، ففيه بدل الأجير أن الثالث:"قال: كنت في غنم أرعاها، فحضرت الصلاة، فقمت أصلي، فجاء الذئب، فدخل الغنم، فكرهت أن أقطع صلاتي، فصبرت حتى فرغت"، فلو كان إسناده قويًّا لَحُمل على تعدد القصة.
ووقع في رواية الباب من طريق عبيد اللَّه العمريّ، عن نافع تقديم الأجير، ثم الأبوين، ثم المرأة، وخالفه موسى بن عقبة من الوجهين، فقدَّم الأبوين، ثم المرأة، ثم الأجير، ووافقته رواية سالم، وفي حديث أبي هريرة المرأة، ثم الأبوين، ثم الأجير، وفي حديث أنس الأبوين، ثم الأجير، ثم المرأة، وفي حديث النعمان الأجير، ثم المرأة، ثم الأبوين، وفي حديث عليّ، وابن أبي أوفى معًا المرأة، ثم الأجير، ثم الأبوين، وفي اختلافهم دلالة على أنَّ الرواية بالمعنى عندهم سائغةٌ شائعة، وأن لا أثر للتقديم والتأخير في مثل ذلك، قال الحافظ: وأرجحها في نظري رواية موسى بن عقبة؛ لموافقة سالم لها، فهي أصحّ طرق هذا الحديث، وهذا من حيث الإسناد، وأما من حيث المعنى فيُنظر أيّ الثلاثة كان أنفع لأصحابه، والذي يظهر أنه الثالث؛ لأنَّه هو الذي أمكنهم أن يخرجوا بدعائه، وإلا فالأول أفاد إخراجهم من الظُّلمة، والثاني أفاد الزيادة في ذلك، وإمكان التوسل إلى الخروج بأن يمر مثلًا هناك من يعالج لهم، والثالث هو الذي تهيأ لهم الخروج بسببه، فهو
الأنفع لهم، فينبغي أن يكون عمل الثالث أكثر فضلًا من عمل الأخيرين، ويظهر ذلك من الأعمال الثلاثة، فصاحب الأبوين فضيلته مقصورة على نفسه؛ لأنه أفاد أنه كان بارًّا بأبويه، وصاحب الأجير نفعه متعدّ، وأفاد بأنه كان عظيم الأمانة، وصاحب المرأة أفضلهم؛ لأنه أفاد أنه كان في قلبه خشية ربه، وقد شهد اللَّه لمن كان كذلك بأن له الجنة، حيث قال:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40، 41]، وقد أضاف هذا الرجل إلى ذلك ترك الذهب الذي أعطاه للمرأة، فأضاف إلى النفع القاصر النفع المتعدي، ولا سيما، وقد قال: إنها كانت بنت عمه، فتكون فيه صلة رحم أيضًا، وقد تقدم أن ذلك كان في سنة قحط، فتكون الحاجة إلى ذلك أحري، فيترجح على هذا رواية عبيد اللَّه، عن نافع، وقد جاءت قصة المرأة أيضًا أخيرة في حديث أنس، واللَّه تعالى أعلم. انتهى ما في "الفتح"، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6924 و 6925 و 6926](2743)، و (البخاريّ) في "الحرث و"الإجارة" (2272) و"المزارعة" (2333) و"أحاديث الأنبياء" (3465) و"الأدب" (5974)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 116)، و (البزّار) في "مسنده" (3178 و 3179 و 3180)، و (ابن حبّان) في "صحيحه" (897)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء" (197 و 198)، و (أبو عوانة) في "مسنده" (3/ 421)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان" (5/ 412)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (3420)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان فضل الإخلاص في العمل، وفضل برّ الوالدين، وفضل خدمتهما، وإيثارهما عمن سواهما من الأولاد والزوجة، وغيرهم، وتحمّل المشقة لأجلهما.
وقد استُشكل تَرْكه أولاده الصغار يبكون من الجوع طول ليلتهما، مع قدرته على تسكين جوعهم، فقيل: كان في شرعهم تقديم نفقة الأصل على غيرهم، وقيل: يَحْتَمِل أن بكاءهم ليس عن الجوع، وقد تقدم ما يردّه، وقيل:
لعلهم كانوا يطلبون زيادة على سدّ الرمق، وهذا أَولي، قاله في "الفتح"
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان إجابة دعاء من برّ والديه، وقد عقد البخاريّ رحمه الله في "كتاب الأدب" من "صحيحه"، فقال:"باب إجابة دعاء من برّ والديه"، ثم أورد الحديث.
3 -
(ومنها): استحباب التوسّل بالأعمال الصالحة، قال النوويّ رحمه الله: استدلّ أصحابنا بهذا على أنه يستحب للانسان أن يدعو في حال كربه، وفي دعاء الاستسقاء وغيره بصالح عمله، ويتوسل إلى اللَّه تعالى به؛ لأنَّ هؤلاء فعلوه، فاستجيب لهم، وذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم في معرض الثناء عليهم، وجميل فضائلهم. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": في هذا الحديث استحباب الدعاء في الكرب، والتقرب إلى اللَّه تعالى بذكر صالح العمل، واستنجاز وعده بسؤاله، واستَنبط منه بعض الفقهاء استحباب ذِكر ذلك في الاستسقاء.
واستشكله المحبّ الطبريّ؛ لِمَا فيه من رؤية العمل، والاحتقار عند السؤال في الاستسقاء أَولى؛ لأنه مقام التضرع.
وأجاب عن قصة أصحاب الغار بأنهم لم يستشفعوا بأعمالهم، وإنما سألوا اللَّه إن كانت أعمالهم خالصة، وقُبلت أن يجعل جزاءها الفرج عنهم.
قال الحافظ: فتضمن جوابه تسليم السؤال، لكن بهذا القيد، وهو حسن، وقد تعرّض النوويّ لهذا، فقال في "كتاب الأذكار":"باب دعاء الإنسان، وتوسله بصالح عمله إلى اللَّه"، وذَكَر هذا الحديث، ونقل عن القاضي حسين وغيره استحباب ذلك في الاستسقاء، ثم قال: وقد يقال: إن فيه نوعًا من ترك الافتقار المطلق، ولكن النبيّ صلى الله عليه وسلم أثنى عليهم بفعلهم، فدلّ على تصويب فِعلهم.
وقال السبكي الكبير: ظهر لي أن الضرورة قد تُلجئ إلى تعجيل جزاء بعض الأعمال في الدنيا، وأن هذا منه، ثم ظهر لي أنه ليس في الحديث رؤية
(1)
"الفتح" 8/ 118 - 119 رقم (3465).
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 56.
عمل بالكلية؛ لقول كل منهم: إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فلم يعتقد أحد منهم في عمله الإخلاص، بل أحال أمره إلى اللَّه، فإذا لم يجزموا بالإخلاص فيه، مع كونه أحسن أعمالهم، فغيره أَولى، فيستفاد منه أن الذي يصلح في مثل هذا أن يعتقد الشخص تقصيره في نفسه، ويسيء الظن بها، ويبحث عن كل واحد من عمله يظن أنه أخلص فيه، فيفوّض أمره إلى اللَّه، ويعلّق الدعاء على علم اللَّه به، فحينئذ يكون إذا دعا راجيًا للإجابة، خائفًا من الردّ، فإن لم يغلب على ظنه إخلاصه، ولو في عمل واحد، فليقف عند حدّه، ويستحي أن يسأل بعمل ليس بخالص، قال: وإنما قالوا: ادعوا اللَّه بصالح أعمالكم في أول الأمر، ثم عند الدعاء لم يطلقوا ذلك، ولا قال واحد منهم: أدعوك بعملي، وإنما قال: إن كنت تعلم، ثم ذكر عمله. انتهى ملخصًا.
قال الحافظ: وكأنه لم يقف على كلام المحبّ الطبريّ الذي ذكرته فهو السابق إلى التنبيه على ما ذكر، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): بيان فضل العفاف، والانكفاف عن المحرمات، لا سيما بعد القدرة عليها، والهمّ بفعلها، وترْكها للَّه تعالى خالصًا، وأن ترك المعصية يمحو مقدمات طلبها، وأن التوبة تَجُبّ ما قبلها.
5 -
(ومنها): بيان جواز الإجارة، وفضل حسن العهد، وأداء الأمانة، والسماحة في المعاملة.
6 -
(ومنها): بيان جواز الإجارة بالطعام المعلوم بين المتآجرين.
7 -
(ومنها): بيان فضل أداء الأمانة، وإثبات الكرامة للصالحين بإجابة دعائهم، وغيره، قال القاري رحمه الله: لا خلاف في جواز استجابة الدعاء للوليّ وغيره ما عدا الكافر، فإن فيه خلافًا، لكنه ضعيف؛ لاستجابة دعاء إبليس، والاستدلالُ بقوله تعالى:{وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [الرعد: 14] غير صحيح؛ لأنه ورد في دعاء الكفار في النار، بخلاف الدنيا، فإنه ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اتق دعوة المظلوم، وإن كان كافرًا، فإنه ليس دونها حجاب"
(2)
، على ما
(1)
"الفتح" 8/ 118 - 119 رقم (3465).
(2)
حديث حسن، راجع:"السلسلة الصحيحة" للشيخ الألبانيّ رحمه الله 2/ 395.
رواه أحمد وغيره عن أنس، فمثل هذا لا يُعَدّ من كرامات الأولياء؛ لأنَّ الكرامة من أنواع خوارق العادة. انتهى كلام القاري رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
8 -
(ومنها): استدل به على جواز بيع الفضوليّ، وهو مذهب الحنفيّة، وبعض أهل العلم، قال الطيبيّ رحمه الله: وتمسَّك به أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره، والتصرف فيه بغير إذنه، إذا أجازه المالك بعد ذلك.
وأجاب أصحابنا بأن هذا إخبار عن شرع من قبلنا، وفي كونه شرعًا لنا خلاف، فإن قلنا: إنا متعبدون به، فهو محمول على أنه استأجره في الذمّة، ولم يسلم إليه، بل عَرَضه عليه، فلم يقبضه، فلم يتعين، ولم يَصِرْ ملكه، فالمستأجر قد تصرف في ملك نفسه، ثم تبرع بما اجتمع منه من البقر والغنم وغيرهما.
وتعقَّبه القاري، فقال: وفيه أن قوله: استأجره في الذِّمة غير صحيح؛ لِمَا في الحديث التصريح بخلافه، حيث قال: استأجرت أجيرًا بفرق أرز، ولا بد من تعيينه، وإلا فالإجارة المجهولة غير صحيحة عندهم، وكذا يَرُدّ عليه قوله:"فعرضت عليه حقه"؛ لأنه لو فُرض أنه في الذِّمة من غير تعيين لا يسمى حقّه، فالحق أحقّ أن يتبع. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد القاري رحمه الله في تعقّبه هذا، فما دلّ عليه ظاهر الحديث من جواز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، إذا كان فيه نصيحة له هو الحقّ، واللَّه تعالى أعلم.
9 -
(ومنها): ما قاله في "العمدة": وفيه الاستدلال لأبي ثور في قوله: إن من غصب قَمْحًا، فزرعه، أن كل ما أخرجت الأرض من القمح فهو لصاحب الحنطة.
وقال الخطابيّ: استَدَلّ به أحمد على أنَّ المستودَع إذا اتّجر في مال
(1)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 224.
(2)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 224.
الوديعة، ورَبِح أن الربح إنما يكون لرب المال، قال: وهذا لا يدل على ما قال، وذلك أن صاحب الفرق إنما تبرع بفعله، وتقرب به إلى اللَّه عز وجل، وقد قال: إنه اشترى بقرًا، وهو تصرف منه في أمر لم يوكله به، فلا يستحقّ عليه ربحًا، والأشبه بمعناه: أنه قد تصدق بهذا المال على الأجير بعد أن اتّجر فيه، وأنماه، والذي ذهب إليه أكثر الفقهاء في المستودَع إذا اتجر بمال الوديعة، والمضارب إذا خالف رب المال، فربحا أنه ليس لصاحب المال من الربح شيء، وعند أبي حنيفة: المضارب ضامن لرأس المال، والربح له، ويتصدق به، والوضيعة عليه.
وقال الشافعيّ: إن كان اشترى السلعة بعين المال، فالبيع باطل، وإن كان بغير عينه فالسلعة ملك المشتري، وهو ضامن للمال.
وقال ابن بطال: وأما من اتجر في مال غيره، فقالت طائفة: يطيب له الربح إذا ردّ رأس المال إلى صاحبه، سواء كان غاصبًا للمال، أو كان وديعة عنده متعديًا فيه، هذا قول عطاء، ومالك، والليث، والثوريّ، والأوزاعي، وأبي يوسف، واستَحَبّ مالك، والثوريّ، والأوزاعيّ تنزهه عنه، ويتصدق به.
وقالت طائفة: يردّ المال، ويتصدق بالربح كله، ولا يطيب له منه شيء، هذا قول أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وزفر.
وقالت طائفة: الربح لرب المال، وهو ضامن لِمَا تعدى فيه، هذا قول ابن عمر، وأبي قلابة، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وقال ابن بطال: وأصح هذه الأقوال قول من قال: إن الربح للغاصب، والمتعدي، واللَّه أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن ما ذهب إليه ابن عمر ومن معه هو الحقّ؛ لأنَّ الربح ثمرة أصل المال، وهو مُلك لصاحبه، فيكون تابعًا له، ولا ينتقل عنه إلى المودَع إلا بنصّ، أو إجماع، ولا يوجدان، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.
10 -
(ومنها): أن فيه الإخبارّ عن الأمم الماضية، وذِكر أعمالهم؛ ليعتبر السامعون بأعمالهم، فيعملوا بحَسَنها، ويتركوا قبيحها، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بشيء إلا لفائدة، وإذا كان مزاحه كذلك، فما ظنك بأخباره، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6925]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَرَقَبَةُ بْنُ مَسْقَلَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنُونَ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ مُوسَى ابْنِ عُقْبَةَ، وَزَادُوا فِي حَدِيثِهِمْ:"وَخَرَجُوا يَمْشُونَ"، وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ:"يَتَمَاشَوْنَ"، إِلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ فِي حَدِيثِهِ:"وَخَرَجُوا"، وَلَمْ يَذْكُرْ بَعْدَهَا شَيْئًا).
رجال هذا الإسناد: أحد وعشرون:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن بَهْرام الْكَوْسَج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
2 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكِسّيّ، تقدّم قبل خمسة أبواب.
3 -
(أَبُو عَاصِمٍ) الضحاك بن مَخْلد بن الضحاك بن مسلم الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
4 -
(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج الأُمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، وكان يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين، وقيل: جاز المائة، ولم يثبت (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.
5 -
(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ) -بضم الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الموصل، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
6 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ) بن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.
7 -
(مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفٍ الْبَجَلِيُّ) أبو جعفر الكوفيّ، صدوقٌ من صغار [10] (242) وقيل: قبل ذلك (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 90/ 489.
8 -
(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فضيل الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
9 -
(أَبُوهُ) فُضيل بن غزوان الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
10 -
(رَقَبَةُ بْنُ مَسْقَلَةَ) هو: رقبة -بقاف، وموحّدة مفتوحتين- ابن مصقلة -بالسين والصاد- العبديّ الكوفيّ، أبو عبد اللَّه، ثقةٌ مأمونٌ، وكان يمزح [6](ت 129)(خ م ت س فق) تقدم في "المقدمة" 6/ 72.
11 -
(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) -بضمّ الحاء المهملة- ابن عليّ بن محمد الْهُذَليّ، أبو علي الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
12 -
(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
13 -
(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
14 -
(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) الْغِفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدِّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد سنة (130) أو بعد (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ نَافِعٍ) ضمير الجماعة للخمسة المذكورين، وهم: موسى بن عقبة، وعبيد اللَّه العمريّ، وفضيل بن غزوان، ورقبة، وصالح بن كيسان، فقد روى كلهم هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي ضَمْرَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ)؛ يعني: أن هؤلاء الخمسة رووا هذا الحديث عن نافع عن ابن عمر بمعنى الحديث الذي رواه أنس بن عياض في السند الماضي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما، وإنما ذكر أبا ضمرة؛ لأنَّ المتابعة له، فتكون متابعة ابن جريج تامّة، ومتابعة البقيّة ناقصة؛ لأنَّها في شيخ شيخه، ولم يجعل المتابعة لموسى؛ لأنه لا يتابع نفسه، فجعل المتابعة للراوي عنه، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2102)
- حَدَّثَنَا يعقوب بن إبراهيم، حَدَّثَنَا أبو عاصم، أخبرنا ابن
جريج، قال: أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"خرج ثلاثة يمشون، فأصابهم المطر، فدخلوا في غار، في جبل، فانحطت عليهم صخرة، قال: فقال بعضهم لبعض: ادعوا اللَّه بأفضل عمل عملتموه، فقال أحدهم: اللَّهُمَّ إني كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت أخرج، فأرعي، ثم أجيء، فأحلُب، فأجيء بالحلاب، فآتي به أبويّ، فيشربان، ثم أسقي الصبية، وأهلي، وامرأتي، فاحتبست ليلةً، فجئت، فإذا هما نائمان، قال: فكرهت أن أوقظهما، والصبية يتضاغون عند رجليّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهما، حتى طلع الفجر، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فُرجة نرى منها السماء، قال: ففرج عنهم، وقال الآخر: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم، أني كنت أحب امرأة من بنات عمي، كأشدّ ما يحب الرجل النساء، فقالت: لا تنال ذلك منها، حتى تعطيها مائة دينار، فسعيت فيها، حتى جمعتها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق اللَّه، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت، وتركتها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج عنهم الثلثين، وقال الآخر: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني استأجرت أجيرًا بفرق من ذُرَة، فأعطيته، وأبى ذاك أن يأخذ، فعَمَدت إلى ذلك الفرق، فزرعته، حتى اشتريت منه بقرًا وراعيها، ثم جاء، فقال: يا عبد اللَّه أعطني حقي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها، فإنها لك، فقال: أتستهزئ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئ بك، ولكنها لك، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا، فكُشف عنهم". انتهى
(1)
.
وأما رواية عبيد اللَّه العمريّ، عن نافع، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا، فقال:
(3278)
- حَدَّثَنَا إسماعيل بن خليل، أخبرنا عليّ بن مُسهر، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بينما ثلاثة نفر، ممن كان قبلكم يمشون، إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار، فانطبق
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 771.
عليهم، فقال بعضهم لبعض: إنه واللَّه يا هؤلاء، لا ينجيكم إلا الصدق، فلْيَدْع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه، فقال واحد منهم: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أنه كان لي أجير، عمل لي على فرق من أرز، فذهب، وتركه، وإني عَمَدت إلى ذلك الفرق، فزرعته، فصار من أمره أني اشتريت منه بقرًا، وأنه أتاني يطلب أجره، فقلت: اعْمِد إلى تلك البقر فَسُقْها، فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز، فقلت له: اعمِد إلى تلك البقر، فإنها من ذلك الفرق، فساقها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنا، فانساحت عنهم الصخرة، فقال الآخر: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم، كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي، فأبطات عليهما ليلةً، فجئت، وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم، حتى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما، فيستكنا لِشَرْبتهما، فلم أزل أنتظر، حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرِّج عنا، فانساحت عنهم الصخرة، حتى نظروا إلى السماء، فقال الآخر: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، من أحب الناس إليّ، وأني راودتها عن نفسها، فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتى قدرت، فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: اتق اللَّه، ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه، فقمت، وتركت المائة دينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك، ففرّج عنا، ففرّج اللَّه عنهم، فخرجوا". انتهى
(1)
.
وأما رواية فضيل بن غَزْوان، ورَقَبة بن مَسْقلة، كلاهما عن نافع، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "معجمه"، فقال:
(147)
- أخبرنا أبو يعلى، ثنا الحسين بن الأسود، ثنا محمد بن فضيل، ثنا أبي ورقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "انطلق ثلاثة يمشون، فدخلوا في غار، فأرسل اللَّه عليهم صخرة، فأطبقت الغار عليهم، فقال بعضهم لبعض: تعالوا، فلينظر كل رجل منا أفضل عمل عمله فيما بينه وبين اللَّه عز وجل، فيذكره، ثم ليدعوا اللَّه أن يفرج عنا مما نحن فيه، ويُلقي هذه
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1278.
الصخرة، فقال رجل: اللَّهُمَّ أنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم، فطلبت منها نفسها، فقالت: واللَّه لا أفعل، أو تعطيني مائة دينار، فطلبتها، فجمعتها، حتى أتيتها بها، فلما قعدت منها مقعد الرجل من المرأة أرعدت، وبكت، وقالت: يا عبد اللَّه اتق اللَّه، ولا تفتح هذا الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت عنها، وتركتها لها، فإن كنت تعلم أني تركتها؛ يعني: في مخافتك، فافرج عنا فرجة، نرى منها السماء، ففرج عنهم منها فرجة، فنظروا إلى السماء، وقال الثاني: اللَّهُمَّ إنك تعلم أنه كان لي أبوان، وكان لي ولد صغار، فكنت أرعى على أبويّ، فكنت أجيء بالحلاب، فوجدت أبويّ نائمين، ووجدت الصبية يتضاغون من الجوع، فلم أزل بهم حتى ناموا، ثم قمت بالحلاب عليهما، حتى قاما، وشربا، ثم انطلقت إلى الصبية بفضله، فسقيتهم، فإن كنت تعلم أن ما فعلت ذلك تلك
(1)
من مخافتك، فافرج عنا فرجة، قال: ففرج اللَّه عنهم فرجة، وقال الثالث: اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أنه كان لي أجير، فأعطيته أجره، فغضب، وذهب، وتركه، فعَمَلت له بأجره حتى صار له بقرأ وغنمًا، فأتاني يطلب أجره، فقلت: انطلق إلى تلك البقر ورعائها، فخذها، قال: يا عبد اللَّه اتق اللَّه، ولا تهزأ بي، قال: فقلت: انطلق، فخذها، قال: فانطلق، فأخذها، فإن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك من مخافتك، فألقها عنا، قال: فألقيها
(2)
عنهم، فخرجوا يمشون". انتهى
(3)
.
وأما رواية صالح بن كيسان عن نافع، فقد ساقها أبو عوانة رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(5553)
- حَدَّثَنَا أبو داود الحرّانيّ، وعباس الدُّوريّ قالا: ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قثنا
(4)
أبي، عن صالح، قال: أنبا نافع أن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بينما ثلاثة رهط يمشون، أخذهم المطر، فأووا إلى غار في جبل، فبينما هم حطّت صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم
(1)
هكذا النسخة، "ذلك تلك" مكرّرًا، وليُحرّر.
(2)
هكذا النسخة، والظاهر أنه "فالقاها"، وليحرّر.
(3)
"معجم أبي يعلى" 1/ 136 - 137.
(4)
مختصرة من "قال: حدّثنا".
لبعض: انظروا إلى أفضل أعمال عملتموها للَّه، فسلوه بها، لعله يفرج بها عنكم، فقال أحدهم: اللَّهُمَّ إنه كان لي والدان كبيران، وكانت لي امرأة، وولد صغار، فكنت أرعى عليهم، فإذا رُحت عليهم غنمي بدأت بأبويّ، فسقيتهما، فنأى يومًا الشجر، فلم آت حتى نام أبواي، فطيبت الإناء، ثم حلبت، ثم قمت بحلابي عند رأس أبويّ، والصبية يتضاغون عند رجليّ، أكره أن أبدأ بهم قبل أبويّ، وأكره أن أوقظهما من نومهما، فلم أزل كذلك قائمًا حتى أضاء الفجر، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا فرجة نرى منها السماء، ففرج لهم فرجة، فرأوا منها السماء، وقال الآخر: اللَّهُمَّ إنها كانت لي ابنة عم، فأحببتها حتى كانت أحب الناس إليّ، فسألتها نفسها، فقالت: لا حتى تأتيني بمائة دينار، فسعيت، حتى جمعت مائة دينار، فأتيتها بها، فلما كنت عند رجليها، فقالت: اتّق اللَّه، ولا تفتح الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم منها فرجة، وقال الثالث: اللَّهُمَّ إني كنت استأجرت أجيرًا بفرق ذُرَة، فلما قضى عمله عرضته عليه، فأبى أن يأخذه، ورغب عنه، فلم أزل أعتمل به حتى جمعت منه بقرًا ورعاءها، فجاءني، فقال: اتق اللَّه، وأعطني حقي، ولا تظلمني، فقلت له: اذهب إلى تلك البقر ورعاتها، فخذها، فذهب، فاستاقها، اللَّهُمَّ إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما بقي منها، ففرج اللَّه عنهم، فخرجوا يتماشون". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلِّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6926]
(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ، مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ"، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى
(1)
"مسند أبي عوانة" 32/ 422 - 423.
حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: "اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيَرَانِ، فَكُنْتُ لَا أَغْبُقُ قَبْلَهُمَا أَهْلَا وَلَا مَالًا"، وَقَالَ:"فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ"، وَقَالَ:"فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ، حَتَّى كثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَارْتَعَجَتْ"، وَقَالَ:"فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) هو: محمد بن سهل بن عسكر التميميّ مولاهم، أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [11](ت 251)(م ت س) تقدم في "الصيام" 8/ 2535.
2 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَهْرَامَ) هو: عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن الفضل بن بَهْرَام السمرقنديّ، أبو محمد الدارميّ الحافظ، صاحب "المسند"، ثقةٌ فاضلٌ متقنٌ [11](ت 255) وله أربع وسبعون سنةً (م د ت) تقدم في "المقدمة" 5/ 29.
3 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) هو: محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغانيّ بفتح المهملة، ثم المعجمة، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](270)(م 4) تقدم في "الإيمان" 4/ 116.
4 -
(أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع الْبَهْرانيّ -بفتح الموحّدة- الحمصيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، يقال: إن أكثر حديثه عن شعيب مناولة [10](ت 222)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
5 -
(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة الأمويّ مولاهم، واسم أبيه دينار، أبو بشر الحمصيّ، ثقةٌ عابدٌ، قال ابن معين: من أثبت الناس في الزهريّ [7](ت 162) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 196.
6 -
(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، وكان يُشَبَّه بأبيه في الهدي، والسمت، من كبار [3] مات في آخر سنة ست ومائة، على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ) فاعل "اقتصّ" ضمير سالم بن عبد اللَّه.
وقوله: (فَكُنْتُ لَا أَغْبُقُ. . . إلخ) قال النوويّ رحمه الله: بفتح الهمزة، وضم الباء؛ أي: ما كنت أُقَدِّم عليهما أحدًا في شُرب نصيبهما عِشاء من اللبن، والْغَبُوق شُرب العِشاء، والصَّبُوح شرب أول النهار، يقال منه: غَبَقت الرجلَ بفتح الباء، أَغبُقُه بضمها، مع فتح الهمزة غَبْقًا، فاغتَبَق؛ أي: سقيته عِشاء، فشَرِب، قال: وهذا الذي ذكرته من ضبطه متَّفقٌ عليه في كتب اللغة، وكُتُب غريب الحديث، والشروح، وقد يُصحّفه بعض من لا أُنْسَ له، فيقول: أُغبِق، بضم الهمزة، وكسر الباء، وهذا غلط. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": قوله: "لا أغبق" من الغبوق بالغين المعجمة، والباء الموحّدة، وفي آخره قاف، وهو شرب العشيّ، وضبطوا لا أَغبُق بفتح الهمزة، من الثلاثيّ، إلا الأصيليّ، فإنه يضمها من الرباعيّ، وخَطَّؤوه فيه، وقال صاحب "الأفعال": يقال: غَبَقْتُ الرجلَ، ولا يقال: أغبقته، والْغَبُوق شرب آخر النهار، مقابل الصبوح، واسم الشراب: الغبق. انتهى.
وقوله: (أَهْلًا وَلَا مَالًا) قال في "العمدة": الأهل: الزوجات، والمال: الرقيق، وقال الداوديّ: والدواب أيضًا، وقال ابن التين: وليس للدواب هنا معنى يُذكر به. انتهى
(2)
.
وقال في "الفتح": المراد بالأهل: ما له من زوج، وولد، وبالمال: ما له من رقيق، وخدم، وزعم الداوديّ أن المراد بالمال: الدوابّ، وتعقّبوه، وله وجه. انتهى
(3)
.
وقوله: (حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ)؛ أي: وقعت في سنة قحط.
وقوله: (فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ)؛ أي: ثَمَنه.
وقوله: (فَارْتَعَجَتْ) بالعين المهملة، ثم الجيم؛ أي: كثرت حتى ظهرت حركتها، واضطرابها، وموج بعضها في بعض؛ لكثرتها، والارتعاج:
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 58.
(2)
"عمدة القاري" 12/ 91.
(3)
"الفتح" 6/ 41 رقم (2272).
الاضطراب والحركة، واحتجّ بهذا الحديث أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ممن يجيز بيع الإنسان مال غيره، والتصرف فيه بغير إذن، قاله النوويّ
(1)
.
[تنبيه]: رواية سالم بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(2152)
- حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، حدّثني سالم بن عبد اللَّه؛ أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "انطلق ثلاثة رهط، ممن كان قبلكم، حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل، فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة، إلا أن تدعوا اللَّه بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللَّهُمَّ كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أَغبُق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أُرحْ عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبوقهما، فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أَغْبُق قبلهما أهلًا، أو مالًا، فلبثت، والقَدَح على يديّ، أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللَّهُمَّ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنّا ما نحن فيه، من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وقال الآخر: اللَّهُمَّ كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني، حتى ألمَّت بها سَنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أُحِلّ لك أن تفضّ الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللَّهُمَّ إن كنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللَّهُمَّ إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الذي له، وذهب، فثمّرت أجره، حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد اللَّه أَدِّ إليّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد اللَّه لا
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 58.
تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون". انتهى
(1)
.
* * *
(1)
"صحيح البخاريّ" 2/ 793.
(52) - (كِتَابُ التَّوْبَةِ)
مسائل تتعلّق بهذه الترجمة:
(المسألة الأولى): في معنى التوبة لغةً وشرعًا:
(اعلم): أن التوبة في اللغة مصدر تاب، قال الفيّوميّ رحمه الله: تَابَ من ذنبه يَتُوبُ تَوْبًا، وَتَوْبَةً، وَمَتَابًا: أقلع، وقيل: التَّوْبَةُ هي التَّوْبُ، ولكن الهاء لتأنيث المصدر، وقيل: التَّوْبَةُ واحدة، كالضربة، فهو تَائِبٌ، وتَابَ اللَّهُ عليه: غَفَر له، وأنقذهُ من المعاصي، فهو تَوَّابٌ، مبالغةٌ، واسْتَتَابَهُ: سأله أن يتوب. انتهى
(1)
.
وقال الجوهريّ رحمه الله: التوبة: الرجوع من الذَّنْب. وفي الحديث: "النَدمُ توبَةٌ"، وكذلك التَوْبُ مثله. وقال الأخفش: التَوْبُ جمع توبَةٍ. وتاب إلى اللَّه توبةً ومتابًا. وقد تاب اللَّه عليه: وَفَّقَهُ لها. واستتابَهُ: سأله أن يتوب. انتهى
(2)
.
وقال الراغب الأصبهانيّ رحمه الله: التوب: ترك الذنب على أجمل الوجوه، وهو أبلغ وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه: إما أن يقول المعتذِر: لَمْ أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا، أو فعلت وأسات، وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة.
والتوبة في الشرع: تَرْك الذَّنْب؛ لِقُبحه، والندم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كملت شرائط التوبة. وتاب إلى اللَّه، فذكر "إلى اللَّه" يقتضي الإنابة. نحو:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54]، {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ} [المائدة: 74]، وتاب اللَّه عليه؛ أي: قبل توبته، ومنه:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ} [التوبة: 117]،
(1)
"المصباح المنير" 1/ 78.
(2)
"الصحاح في اللغة" 1/ 66.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]، {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187].
والتائب يقال لباذل التوبة، ولقابل التوبة، فالعبد تائب إلى اللَّه، واللَّه تائب على عبده.
والتواب: العبد الكثير التوبة، وذلك بتركه كل وقت بعض الذنوب على الترتيب حتى يصير تاركًا لجميعه، وقد يقال ذلك للَّه تعالى لكثرة قبوله توبة العباد حالًا بعد حال. وقوله:{وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)} [الفرقان: 71]؛ أي: التوبة التامة، وهو الجمع بين ترك القبيح، وتحري الجميل. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]، {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في اختلاف أهل العلم في معنى التوبة:
قال النوويّ رحمه الله: أصل التوبة في اللغة: الرجوع، يقال: تاب، وثاب -بالمثلثة- وآب، جمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا: الرجوع عن الذنب، وقد سبق في "كتاب الإيمان" أن لها ثلاثة أركان: الإقلاع، والندم على فعل تلك المعصية، والعزم على أنَّ لا يعود إليها أبدًا، فإن كانت المعصية لحقّ آدميّ، فلها ركن رابع، وهو التحلّل من صاحب ذلك الحقّ، وأصلها الندم، وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أنَّ التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، سواء كانت المعصية صغيرة، أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام، وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السُّنَّة بالشرع، وعند المعتزلة بالعقل، ولا يجب على اللَّه قبولها إذا وُجدت بشروطها عقلًا عند أهل السُّنَّة، لكنه يقبلها كرمًا وفضلًا، وعرفنا قبولها بالشرع، والإجماع، خلافًا لهم، وإذا تاب من ذنب، ثم ذكره، هل يجب تجديد الندم؟ فيه خلاف لأصحابنا، وغيرهم، من أهل السُّنَّة، قال ابن الأنباريّ: يجب، وقال إمام الحرمين: لا يجب، وتصح التوبة من ذنب، وإن كان مصرًّا على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها، ثم عاود ذلك الذنب كُتب عليه ذلك الذنب الثاني، ولم تبطل توبته، هذا مذهب أهل السُّنَّة في المسألتين، وخالفت
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصبهاني 1/ 149.
المعتزلة فيهما، قال أصحابنا: ولو تكررت التوبة، ومعاودة الذنب صحت، ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها، وما سواها من أنواع التوبة، هل قبولها مقطوع به، أم مظنون فيه؟ خلاف لأهل السُّنَّة، واختار إمام الحرمين أنه مظنون، وهو الأصح، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله في "المفهم"
(2)
: اختلفت عبارات المشايخ فيها، فقائل يقول: إنها الندم، وآخر يقول: إنها العزم على أن لا يعود، وآخر يقول: الإقلاع عن الذنب، ومنهم من يَجمع بين الأمور الثلاثة، وهو أكملها، غير أنه مع ما فيه غير مانع، ولا جامع.
أما أَوَّلًا: فلأنه قد يجمع الثلاثة، ولا يكون تائبًا شرعًا، إذ قد يفعل ذلك شُحًّا على ماله، أو لئلا يُعَيِّره الناس به، ولا تصح التوبة الشرعية إلا بالإخلاص، ومن تَرَك الذنب لغير اللَّه لا يكون تائبًا اتفاقًا.
وأما ثانيًا: فلأنه يخرج منه مَن زنى مثلًا، ثم جُبّ ذكره، فإنه لا يتأتى منه غير الندم على ما مضي، وأما العزم على عدم العود، فلا يتصور منه، قال: وبهذا اغترّ من قال: إن الندم يكفي في حدّ التوبة، وليس كما قال؛ لأنه لو نَدِم، ولم يُقلع، وعزم على العود لم يكن تائبًا اتفاقًا، قال: وقال بعض المحققين: هي اختيار تَرْك ذنب سبق حقيقةً، أو تقديرًا؛ لأجل اللَّه تعالى.
قال: وهذا أسدّ العبارات، وأجمعها؛ لأنَّ التائب لا يكون تاركًا للذنب الذي فرغ؛ لأنه غير متمكن من عينه، لا تركًا، ولا فعلًا، وإنما هو متمكن من مثله حقيقةً، وكذا من لم يقع منه ذنب إنما يصح منه اتقاء ما يمكن أن يقع، لا تَرْك مثل ما وقع، فيكون متقيًا، لا تائبًا.
قال: والباعث على هذا تنبيه إلهيّ لمن أراد سعادته لِقُبح الذنب وضرره؛ لأنه سمّ مهلك، يُفَوِّت على الإنسان سعادة الدنيا والآخرة، ويحجبه عن معرفة اللَّه تعالى في الدنيا، وعن تقريبه في الآخرة.
قال: ومن تفقّد نفسه وجدها مشحونة بهذا السمّ، فإذا وُفِّق انبعث منه خوف هجوم الهلاك عليه، فيبادر بطلب ما يدفع به عن نفسه ضرر ذلك،
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 59 - 60.
(2)
"المفهم" 7/ 69 - 71.
فحينئذ ينبعث منه الندم على ما سبق، والعزم على ترك العود عليه.
قال: ثم اعلم أن التوبة إما من الكفر، وإما من الذنب، فتوبة الكافر مقبولة قطعًا، وتوبة العاصي مقبولة بالوعد الصادق، ومعنى القبول: الخلاص من ضرر الذنوب، حتى يرجع كمن لم يعمل، ثم توبة العاصي إما من حقّ اللَّه تعالى، وإما من حق غيره، فحقّ اللَّه تعالى يكفي في التوبة منه الترك على ما تقدم، غير أن منه ما لم يكتف الشرع فيه بالترك فقط، بل أضاف إليه القضاء، أو الكفّارة، وحقّ غير اللَّه تعالى يحتاج إلى إيصالها لمستحقها، وإلا لم يحصل الخلاص من ضرر ذلك الذنب، لكن من لم يقدر على الإيصال بعد بذله الوسع في ذلك، فعفو اللَّه تعالى مأمول، فإنه يضمن التبعات، ويبدل السيئات حسنات، واللَّه أعلم.
وحكى غير القرطبيّ عن عبد اللَّه بن المبارك في شروط التوبة زيادة، فقال: الندم، والعزم على عدم العود، وردّ المظلمة، وأداء ما ضيَّع من الفرائض، وأن يَعْمِد إلى البدن الذي رباه بالسحت، فيذيبه بالهمّ والحزن، حتى ينشأ له لحم طيب، وأن يذيق نفسه ألم الطاعة، كما أذاقها لذة المعصية.
قال الحافظ: وبعض هذه الأشياء مكملات، وقد تمسك من فَسَّر التوبة بالندم بما أخرجه أحمد، وابن ماجه، وغيرهما، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه:"الندم توبة"
(1)
.
ولا حجة فيه؛ لأنَّ المعنى الحضّ عليه، وأنه الركن الأعظم في التوبة، لا أنه التوبة نفسها.
ومما يؤيد اشتراط كونها للَّه تعالى وجود الندم على الفعل، ولا يستلزم الإقلاع عن أصل تلك المعصية، كمن قتل ولده مثلًا، وندم لكونه ولده، وكمن بذل مالًا في معصية، ثم ندم على نقص ذلك المال مما عنده.
واحتجّ مَن شَرَط في صحة التوبة من حقوق العباد أن يردّ تلك المظلمة بأن من غصب أَمَة، فزنى بها، لا تصح توبته إلا بردّها لمالكها، وأن من قتل نفسًا عمدًا لا تصح توبته إلا بتمكين نفسه من وليّ الدم؛ ليقتصّ، أو يعفو.
(1)
حديث صحيح، صححه ابن حبّان، والحاكم، وقال: على شرط الشيخين.
قال الحافظ: وهذا من جهة التوبة من الغصب، ومن حق المقتول واضح، ولكن يمكن أن تصح التوبة من العود إلى الزنا، وإن استمرت الأَمَة في يده، ومن العود إلى القتل، وإن لم يمكّن من نفسه.
قال: وزاد بعض من أدركناه في شروط التوبة أمورًا أخرى، منها: أن يفارق موضع المعصية، وأن لا يصل في آخر عمره إلى الغرغرة، وأن لا تطلع الشمس من مغربها، وأن لا يعود إلى ذلك الذنب، فإن عاد إليه بأن أن توبته باطلة.
قال: والأول مستحب، والثاني، والثالث داخلان في حدّ التكليف، والرابع الأخير عُزي للقاضي أبي بكر الباقلاني، ويردّه حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"قال إبليس: يا رب وعزتك لا أزال أغويهم، ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال اللَّه عز وجل: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم، ما استغفروني"، حديث صحيح، رواه أحمد، وغيره، وحديث أبي بكر رضي الله عنه مرفوعًا:"ما أصرّ من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرّة"، رواه أبو داود، وفيه ضَعف.
وقد قال الحليميّ في تفسير التواب في الأسماء الحسنى: إنه العائد على عبده بفضل رحمته، كلما رجع لطاعته، وندم على معصيته، فلا يَحبِط عنه ما قدمه من خير، ولا يحرمه ما وعد به الطائع من الإحسان.
وقال الخطابيّ: التواب: الذي يعود إلى القبول كلما عاد العبد إلى الذنب وتاب. انتهى من "الفتح" بتصرّف
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الأشياء التي يُتاب منها، وكيف التوبة منها:
قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ رحمه الله: قال العلماء: الذنب الذي تكون منه التوبة لا يخلو، إما أن يكون حقًّا للَّه تعالى، أو للآدميين، فإن كان حقًّا للَّه تعالى، كترك صلاة، فإن التوبة لا تصحّ منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها، وهكذا إن كان ترك صوم، أو تفريطًا في الزكاة.
(1)
"الفتح" 14/ 288 - 290.
وإن كان ذلك قَتْل نفس بغير حقّ فأن يُمَكِّن من القصاص إن كان عليه، وكان مطلوبًا به، وإن كان قذفًا يوجب الحدّ، فيبذل ظهره للجَلْد، إن كان مطلوبًا به، فإن عُفي عنه كفاه الندم، والعزم على ترك العود بالإخلاص، وكذلك إن عُفي عنه في القتل بمال، فعليه أن يؤديه إن كان واجدًا له، قال اللَّه تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وإن كان ذلك حدًّا من حدود اللَّه كائنًا ما كان، فإنه إذا تاب إلى اللَّه تعالى بالندم الصحيح سقط عنه، وقد نصّ اللَّه تعالى على سقوط الحدّ عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم، وفي ذلك دليل على أنها لا تسقط عنهم إذا تابوا بعد القدرة عليهم، وكذلك الشُّرّاب، والسُّرّاق، والزُّنَاة، إذا أصلحوا، وتابوا، وعُرف ذلك منهم، ثم رُفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدّهم، وإن رُفعوا إليه، فقالوا: تبنا، لم يُتركوا، وهم في هذه الحالة كالمحاربين إذا غُلبوا، هذا مذهب الشافعيّ.
فإن كان الذنب من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا بردّه إلى صاحبه، والخروج عنه -عينًا كان، أو غيره- إن كان قادرًا عليه، فإن لم يكن قادرًا فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.
وإن كان أضرّ بواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، أو لا يدري من أين أُتي؟، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفا عنه، فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفا ذلك المظلوم عن ظالمه -عرفه بعينه، أو لم يعرفه- فذلك صحيح، وإن أساء رجل إلى رجل بأن فزّعه بغير حقّ، أو غمّه، أو لطمه، أو صَفَعه بغير حقّ، أو ضربه بسوط، فآلمه، ثم جاءه مستعفيًا نادمًا على ما كان منه، عازمًا على ألا يعود، فلم يزل يتذلل له حتى طابت نفسه، فعفا عنه، سقط عنه ذلك الذنب، وهكذا إن كان شانَهُ بشتم لا حدّ فيه. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
، وهو بحث مفيد، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى التوبة النصوح:
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 199 - 200.
قال الراغب رحمه الله: النصح: تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، قال تعالى:{لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)} [الأعراف: 79]، وقال:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)} [الأعراف: 21]، {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} [هود: 34] وهو من قولهم: نصحت له الودّ؛ أي: أخلصته، وناصحُ العسلِ: خالصه، أو من قولهم: نصحت الجلد: خِطته، والناصح: الخياط، والنِّصَاح: الخيط، وقوله:{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، فمن أحد هذين؛ إما الإخلاص؛ وإما الإحكام، ويقال: نَصوح، ونَصاح نحو ذَهُوب وذهاب، قال:
أَحْبَبْتُ حُبّا خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ
انتهى كلام الراغب رحمه الله
(1)
.
وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ المفسّر رحمه الله: اختَلَفت عبارة العلماء، وأرباب القلوب في التوبة النصوح على ثلاثة وعشرين قولًا:
فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، وروي عن عمر، وابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، ورَفَعه معاذ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: النصوح: الصادقة الناصحة. وقيل: الخالصة، يقال: نصح؛ أي: أخلص له القول. وقال الحسن: النصوح: أن يُبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره. وقيل: هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلَّ منها. وقيل: هي التي لا يحتاج معها إلى توبة. وقال الكلبيّ: التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والاطمئنان على أنه لا يعود. وقال سعيد بن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل ما لم يكن فيها ثلاثة شروط: خوف أن لا تُقبَل، ورجاء أن تقبل، وإدمان الطاعات. وقال سعيد بن المسيِّب: توبة تنصحون بها أنفسكم. وقال القرظيّ: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، وإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيّئ الخلان. وقال سفيان الثوريّ: علامة التوبة النصوح أربعة: القلّة، والعلّة، والذلّة، والغربة. وقال الفضيل بن عياض: هو أن يكون الذنب
(1)
"مفردات ألفاظ القرآن" 2/ 432.
بين عينيه، فلا يزال كأنه ينظر إليه. ونحوه عن ابن السماك: أن تنصب الذنب الذي أقللت فيه الحياء من اللَّه أمام عينك، وتستعدّ لمنتظرك. وقال أبو بكر الوراق: هو أن تَضِيْق عليك الأرض بما رحبت، وتضيق عليك نفسك؛ كالثلاثة الذين خُلِّفوا. وقال أبو بكر الواسطيّ: هي توبة لا لِفَقد عِوَض؛ لأنَّ من أذنب في الدنيا لرفاهية نفسه، ثم تاب طلبًا لرفاهيتها في الآخرة، فتوبته على حفظ نفسه، لا للَّه. وقال أبو بكر الدقاق المصريّ: التوبة النصوح هي رد المظالم، واستحلال الخصوم، وإدمان الطاعات. وقال رُويم: هو أن تكون للَّه وجهًا بلا قفًا، كما كنت له عند المعصية قَفًا بلا وجه. وقال ذو النون: علامة التوبة النصوح ثلاث: قلّة الكلام، وقلّة الطعام، وقلّة المنام. قال شقيق: هو أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة، ولا ينفك من الندامة، لينجو من آفاتها بالسلامة. وقال سريّ السقطيّ: لا تصلح التوبة النصوح إلا بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأنَّ من صحب
(1)
توبته أحب أن يكون الناس مثله. وقال الجنيد: التوبة النصوح هو أن ينسى الذنب، فلا يذكره أبدًا؛ لأنَّ من صحت توبته صار محبًّا للَّه، ومن أحب اللَّه نسي ما دون اللَّه. وقال ذو الأذنين
(2)
: هو أن يكون لصاحبها دمع مسفوح، وقلب عن المعاصي جموح. وقال فتح الموصليّ: علامتها ثلاث: مخالفة الهوي، وكثرة البكاء، ومكابدة الجوع والظمأ. وقال سهل بن عبد اللَّه التستريّ: هي التوبة لأهل السُّنَّة والجماعة؛ لأنَّ المبتدع لا توبة له، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"حجب اللَّه على كل صاحب بدعة أن يتوب". وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشرّ أن يتوب من الذنب، ثم يعود فيه.
وأصل التوبة النصوح من الخلوص، يقال: هذا عسل ناصح: إذا خلص من الشمع. وقيل: هي مأخوذة من النصاحة، وهي الخياطة، وفي أخذها منها وجهان:
أحدهما: لأنَّها توبة قد أحكمت طاعته، وأوثقتها، كما يُحكم الخياط الثوب بخياطته، ويوثقه.
(1)
كذا النسخة، ولعله صحّت، فليُحرّر.
(2)
هذا لقب لأنس بن مالك رضي الله عنه، لقبه به النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل: هو من جملة مزاحه صلى الله عليه وسلم، ولكن نسبة هذا التفسير له بعيد، فليحرّر.
والثاني: لأنها قد جمعت بينه وبين أولياء اللَّه، وألصقته بهم، كما يجمع الخياط الثوب، ويُلصق بعضه ببعض.
وقراءة العامة "نصوحًا" بفتح النون، على نعت التوبة، مثل امرأة صبور؛ أي: توبة بالغة في النصح.
وقرأ الحسن وخارجة وأبو بكر عن عاصم بالضم، وتأويله على هذه القراءة: توبة نُصْح لأنفسكم.
وقيل: يجوز أن يكون "نصوحًا"، جمع نصح، وأن يكون مصدرًا، يقال: نصح نصاحة ونصوحًا، وقد يتفق فَعالة وفُعول في المصادر، نحو الذهاب والذهوب. وقال المبرد: أراد توبة ذات نصح، يقال: نصحت نصحًا ونصاحةً ونصوحًا. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله
(1)
.
قال الحافظ رحمه الله بعد ذكر بعض كلام القرطبيّ المذكور ما نصّه: وجميع ذلك من المكملات، لا من شرائط الصحة. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الخامسة): ثم بعد أن كتبت ما سبق رأيت الإمام العلّامة ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله كتب في كتابه "مدارج السالكين" بحثًا نفيسًا في التوبة شاملًا لِمَا تقدّم، وزائدًا عليه، فأحببت إيراده هنا؛ تتميمًا للفائدة، وتكميلًا للعائدة، فأقول:
قال رحمه الله: وكثير من الناس إنما يفسر التوبة بالعزم على أنَّ لا يعاود الذنب، وبالإقلاع عنه في الحال، وبالندم عليه في الماضي. وإن كان في حق آدمي فلا بد من أمر رابع وهو التحلل منه، وهذا الذي ذكروه بعض مسمى التوبة بل شرطها. وإلا فالتوبة في كلام اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما تتضمن ذلك تتضمن العزم على فعل المأمور والتزامه، فلا يكون بمجرد الإقلاع والعزم والندم تائبًا حتى يوجد منه العزم الجازم على فعل المأمور والإتيان به، هذا حقيقة التوبة، وهي اسم لمجموع الأمرين لكنها إذا قُرنت بفعل المأمور كانت عبارة عما ذكروه، فإذا أفردت تضمنت الأمرين، وهي كلفظة التقوى التي عند
(1)
"الجامع لأحكام القرآن" 18/ 197 - 199.
(2)
"الفتح" 14/ 291.
إفرادها تقتضي فعل ما أمر اللَّه به، وترك ما نهى اللَّه عنه، وعند اقترانها بفعل المأمور تقتضي الانتهاء عن المحظور، فإن حقيقة التوبة الرجوع إلى اللَّه بالتزام فعل ما يحب، وترك ما يكره، فهي رجوع من مكروه إلى محبوب، فالرجوع إلى المحبوب جزء مسماها، والرجوع عن المكروه الجزء الآخر، ولهذا علق سبحانه الفلاح المطلق على فعل المأمور وترك المحظور بها فقال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] فكل تائب مفلح ولا يكون مفلحًا إلا مَنْ فَعَل ما أمر به وترك ما نهي عنه. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] وتارك المأمور ظالم كما إن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه بالتوبة الجامعة الأمرين، قال: وإنما سمي التائب تائبًا لرجوعه إلى أمر اللَّه من نهيه وإلى طاعته من معصيته كما تقدم، فإذًا التوبة هي حقيقة دين الإسلام والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب اللَّه، فإن اللَّه يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب اللَّه مَنْ فَعَل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإذًا التوبة هي الرجوع مما يكرهه اللَّه ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان وتتناول جميع المقدمات. قال ابن القيم -مشيرًا إلى الفرق بين الاستغفار والتوبة-:
وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد ومقرون بالتوبة؛ فالمفرد كقول نوح عليه السلام لقومه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)} [نوح: 10، 11]، وكقول صالح عليه السلام لقومه:{لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46]، وكقوله تعالى:{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]، وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]، والمقرون كقوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3]، وقول صالح لقومه:{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]، وقول شعيب:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)} [هود: 90] فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها مع تضمّنه طلب المغفرة من اللَّه، وهو محو الذنب، وإزالة أثره، ووقاية شره، لا كما ظنه بعض
الناس إنها الستر فإن اللَّه يستر على من يغفر له، ومن لا يغفر له، ولكن الستر لازم مسماها أو جزءه، فدلالتها عليه إما بالتضمن وإما باللزوم، وحقيقتها وقاية شر الذنب، ومنه المِغْفَر لِمَا يقي الرأس من الأذي، والستر لازم لهذا المعني، وإلا فالعمامة لا تسمى مغفرًا، ولا القبع ونحوه مع ستره، فلا بد في لفظ المغفر من الوقاية، وهذا الاستغفار الذي يمنع العذاب في قوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] فإن اللَّه لا يعذب مستغفرًا. وأما من أصر على الذنب وطلب من اللَّه مغفرته فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب، فالاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمن الاستغفار، وكل منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار طلب وقاية شر ما مضي، والتوبة والرجوع طلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله فها هنا ذنبان، ذنب قد مضى فالاستغفار طلب وقاية شره، وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة العزم على أنَّ لا يفعله، والرجوع إلى اللَّه يتناول النوعين، رجوع إليه ليقيه شر ما مضي، ورجوع إليه ليقيه شر ما يستقبل من شر نفسه وسيئات أعماله، وأيضًا فإن المذنب بمنزلة من ارتكب طريقًا تؤديه إلى هلاكه، ولا توصله إلى المقصود فهو مأمور أن يوليها ظهره، ويرجع إلى الطريق التي فيها نجاته، وتوصله إلى مقصوده، وفيها فلاحه، فها هنا أمران لا بد منهما، مفارقة شيء، والرجوع إلى غيره، فخصت التوبة بالرجوع والاستغفار بالمفارقة، وعند إفرادهما يتناولان الأمرين، ولهذا واللَّه أعلم جاء الأمر بهما مرتبًا بقوله:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 90] فإنه الرجوع إلى طريق الحق بعد مفارقة الباطل، وأيضًا فالاستغفار من باب إزالة الضرر، والتوبة طلب جلب المنفعة، فالمغفرة أن يقيه شر الذنب، والتوبة أن يحصل له بعد الوقاية ما يحبه، وكل منهما يستلزم الآخر عند إفراده واللَّه أعلم.
وقيل في الفرق بينهما: إن التوبة لا تكون إلا لنفسه، أي: لِمَا اجترحته نفسه خاصة من الآثام بخلاف الاستغفار، فإنه يكون لنفسه ولغيره أو لغيره فقط، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة:
{وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر: 7] وإن التوبة هي الندم على ما فرّط في الماضي، والعزم على الامتناع منه في المستقبل، والاستغفار طلب الغفران لِمَا صدر منه، ولا يجب فيه العزم في المستقبل هذا. وقد ذكر صاحب "المنازل" أسرارًا للتوبة بسط ابن القيم الكلام في شرح السر الأول وتوضيحه أحببنا إيراده لغاية حسنه ولطافته.
قال صاحب "المنازل": ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء:
أولها: أن ينظر الجناية والقضية، فيعرف مراد اللَّه فيها إذ خلّاك وإتيانها، فإن اللَّه عز وجل، إنما خلى العبد والذنب لمعنيين: أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبره في ستره وحلمه في إمهال راكبه وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته.
الثاني: أن يقيم على عبده حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته.
قال ابن القيم في شرح هذا الكلام 1/ 111: اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسه أمور:
أحدها: أن ينظر إلى أمر اللَّه ونهيه، فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة والإقرار على نفسه بالذنب.
الثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد، فيحدث له ذلك خوفًا وخشية تحْمله على التوبة.
الثالث: أن ينظر إلى تمكين اللَّه له منها وتخليته بينه وبينها أو تقديرها عليه وإنه لو شاء لعصمه منها وحال بينه وبينها، فيحدث له ذلك أنواعًا من المعرفة باللَّه وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته ومعرفته وعفوه وحلمه وكرمه، وتوجب هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد بأسمائه وصفاته، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود، وأن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه متعلق به لا بد منه، وهذا المشهد يُطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم.
فمن بعضها: ما ذكره الشيخ -يعني: صاحب "المنازل"- أن يعرف العبد عزته في قضائه، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء، وإنه لكمال عزه
حَكَم على العبد وقضى عليه بأن قلّب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه، وجعله مريدًا شائيًا لِمَا شاء منه العزيز الحكيم. وهذا من كمال العزة إذ لا يقدر على ذلك إلا اللَّه، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك، وأما جعلك مريدًا شائيًا لِمَا شاءه منك، ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة، فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه وتمكّن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أَولى به وأنفع له؛ لأنه يصير مع اللَّه لا مع نفسه، ومن معرفة عزته في قضائه: أن يعرف أنه مدبَّر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له، إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد، ومن شهود عزته أيضًا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد والغنى التام والعزة كلها للَّه، وأن العبد نفسه أَولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة اللَّه وكماله وعبده وغناه وكذلك بالعكس، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة.
ومنها: أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية، فإذا شهد جريان الحكم عليه وجعله فاعلًا لِمَا هو غير مختار له ولا مريد بإرادته ومشيئته واختياره، فكأنه مختار غير مختار، مريد غير مريد، شاءٍ غير شاء، فهذا يشهد عزة اللَّه وعظمته وكمال قدرته.
ومنها: أن يعرف بِرّه سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحَذَروه، وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر، وهذا البر من سيده به نَفْع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع اللَّه سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال باللَّه والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى، ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا بل في هذه الحال. فإذا فَقَدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة وذكر الجناية، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به.
ومنها: شهود حِلم اللَّه سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة، ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفته سبحانه باسمه
الحليم ومشاهدة صفة الحلم، والتعبد بهذا الاسم والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى اللَّه، وأصلح للعبد وأنفع من فَوْتها ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار لا بالقدر، فإنه مخاصمة ومحاجة كما تقدم، فيقبل عذره بكرمه وَجُوده فيوجب له ذلك اشتغالًا بذكره وشكره ومحبةٍ أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك، فإن محبتك لمن شَكَرك على إحسانك وجازاك به ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شُكر الإحسان وحده والواقع شاهد بذلك، فعبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا لون آخر؛ يعني: أن عبودية التوبة بعد الذنب لون، وهذا الذي ذكره أخيرًا من معرفة العبد كرم ربه إلخ لون آخر.
ومنها: أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من اللَّه، وإلا فلو أخذ بالذنب لأخذ يمحض حقه، وكان عادلًا محمودًا، وإنما عفوه بفضله، لا باستحقاقك، فيوجب لك ذلك أيضًا شكرًا له ومحبة وإنابة إليه وفرحًا وابتهاجًا به ومعرفة له باسمه الغفار، ومشاهدة لهذه الصفة، وتعبدًا بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة.
ومنها: أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه، فإن النفس فيها مضاهاة الربوبية لو قدرت لقالت كقول فرعون ولكنه قَدَر فاظهر، وغيره عجز فأضمر، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية، وهو أربع مراتب:
المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق وهي ذل الحاجة والفقر إلى للَّه، فأهل السماوات والأرض محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السماوات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدًا.
المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية، وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته، وهو سر العبودية.
المرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات لمحبوبه وعلى قدر محبته له يكون ذله، فالمحبة أُسست على الذلة للمحبوب كما قيل [من الكامل]:
اخْضَعْ وَذِلَّ لِمَنْ تُحِبُّ فَلَيْسَ فِي
…
حُكْمِ الْهَوَى أَنْفٌ يُشَالُ وَيُعْقَدُ
وقال آخر [من الطويل]:
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ
…
عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
المرتبة الرابعة: ذلّ المعصية والجناية، فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل للَّه والخضوع له أكمل وأتم، إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة وإطاعة وفقرًا وفاقة، وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم، وهذا المعنى أجلّ من أن يسمى بالفقر بل هو في العبودية وسرّها وحصوله أنفع شيء للعبد، وأحب شيء إلى اللَّه فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة، وأسباب العبودية والطاعة، وأسباب المحبة والإنابة، وأسباب المعصية والمخالفة؛ إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وُجُوده، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وقد فتح لك الباب، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل وإلا فردّ الباب وارجع بسلام.
ومنها: إن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبَّباتها فاسم السميع البصير يقتضي مسموعًا ومبصرًا، واسم الرزاق يقتضي مرزوقًا، واسم الرحيم يقتضي مرحومًا، وكذلك اسم الغفور والعفو والتواب والحليم يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه ويحلم، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات؛ إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة، وإحسان وَجُود فلا بد من ظهور آثارها في العالم، وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق باللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه حيث يقول:"لو لم تُذنبوا لذهب اللَّه بكم، ولجاء بقوم يذنبون، ثم يستغفرون، فيغفر لهم"، وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدومًا فلمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم فلمن يغفر وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سُدَّت، والعبيد أغنياء معافون فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة، وشهود الفضل والمنة والتخصيص بالإنعام والإكرام؟ فسبحان من تعرَّف إلى خَلْقه بجميع أنواع التعرفات ودلّهم عليه بأنواع الدلالات
وفتح لهم إليه جميع الطرقات، ثم نصب إليه الصراط المستقيم وعرّفهم به ودلّهم عليه:{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
ومنها: السر الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، لولا ينادى عليه منادي الإيمان على رؤوس الأشهاد، فشهد به قلوب خواص العباد، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له وطمأنينة وشوقًا إليه ولهجًا بذكره وشهودًا لِبِرّه ولطفه وكرمه وإحسانه ومطالعة لسر العبودية وإشرافًا على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في "الصحيحين" من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَلَّه أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، هذا لفظ مسلم.
وفي الحديث من قواعد العلم: إن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد أو غيظ شديد، ونحوه لا يؤاخذ به ولهذا لم يكن هذا كافرًا بقوله: أنت عبدي وأنا ربك، قال: والقصد أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله، والإعراض عنه، ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة باللَّه وأسمائه وصفاته وما يليق بعز جلاله، وقد كان الأَولى بنا طَيّ الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم، ونهاية أقدامهم من المعرفة، وضَعف عقولهم عن احتماله غير أنا نعلم أن اللَّه عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفًا بها "فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
فاعلم أن اللَّه سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرَّمه وفضّله وشرّفه وخلقه لنفسه، وخلق كل شيءٍ له وخصه من معرفته ومحبته وقُرْبه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخَّر له في سماواته وأرضه وما بينهما حتى ملائكته الذين هم أهل قربه استخدمهم وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظَعْنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كُتُبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه
إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره ومحل حكمته وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب، فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده ونفخ من روحه وأسجد له ملائكته وعلَّمه أسماء كل شيء وأظهر فضله على الملائكة، فمن دونهم من جميع المخلوقات وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوًا له فالمؤمنون من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق وخيرة اللَّه على العالمين، فإنه خَلَقه ليتمّ نعمته عليه وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ولم يخطر على باله، ولم يشعر به ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تُنال إلا بمحبته، ولا تُنال محبته إلا بطاعته وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبًا له وأعدّ له أفضل ما يُعِدّه محب غنى قادر جواد لمحبوبه، إذ أقدم عليه وعهد إليه عهدًا يقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه، وللمحبوب عدو هو أبغض خلق خلقه إليه قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده واتخذ منهم حزبًا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدالة لهم، ومحو كل ما يحبه اللَّه ويرضاه وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه، فعرّفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم، وحذّره موالاتهم والدخول في زمرتهم، والكون معهم، وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
وأنه: سبقت رحمته غضبه وحِلمه عقوبته وعفوه مؤاخذته، وإنه قد أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة، وإنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وأن الفضل كله بيده والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلًا ويغمرهم إحسانًا وَجُودًا، أو يتم عليهم
نعمه، ويضاعف لديهم مننه ويتعرف، إليهم بأوصافه وأسماءه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلاءه فهو الجواد لذاته، وجُوْد كل جواد خلقه اللَّه ويخلقه أبدًا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وَجُود كل جواد فمن جوده ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدورد في أوهامهم وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه، أو يأخذ أحوج ما هو إليه وأعظم ما كان قدرًا، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها فما الظن بفرح المعطي؟ ففَرَحُ المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فَرَح هذا بما يأخذه، وللَّه المثل الأعلى؛ إذ هذا شأن الجواد من الخلق، فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه، وَجُوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وابتهاجه وسروره.
هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح، فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه وأول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنّهم ورطبهم ويابسهم قاموا في سعيد واحدٍ فسألوه فأعطى كلًا ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة، وهو الجواد لذاته كما أنه الحي لذاته العليم لذاته السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه وأعد له أنواع كرامته وفضّله على غيره وجعله محل معرفته وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله واعتنى بأمره، ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه، ووالى عدوه وظاهره عليه، وتحيز إليه وقطع طريق نِعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبِرّه وعطائه،
فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان، فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة إذ انقلب آبقًا شاردًا رادًّا لكرامته، مائلًا عنه إلى عدوه مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ناسيًا لسيده، منهمكًا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله؛ إذ عرضت له فكرة فتذكر بِرّ سيده وعطفه وَجُوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعَرْضه عليه، وأنه لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه، على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه وَجَدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه، متذللًا متضرعًا خاشعًا باكيًا آسفًا، يتملق سيده، ويسترحمه، ويستعطفه، ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له وأعطاه قياده، وألقى إليه زمامه، فعلم سيده ما في قلبه، فعاد مكان الغضب عليه رضًا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفوًا، وبالمنع عطاءً وبالمؤاخذة حلمًا، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فكيف يكون فرح سيده به، وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعًا واختيارًا، وراجع ما يحبه سيده منه ويرضاه، وفَتَح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة؟
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق عن سيده، فرأى في بعض السكك بابًا قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكرًا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا فوجد الباب مُرتجًا فتوسده، ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحالة لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة لك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت، فتأمل قول الأم: لا تحملني بمعصيتك لي على
خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة، وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم:"لَلَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها"، وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة اللَّه التي وسعت كل شيء؟ فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأَولى به.
فهذه نبذة يسيرة تُطلعك على سر فرح اللَّه بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها، ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة، وتَدِقّ
(1)
عن إدراكه الأذهان، وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل، فإن كلًّا منهما منزل ذميم، ومرتع على عِلّاته وخيم، ولا يحلّ لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه؛ لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم كما هو مفسد لحاسة الذوق، فلا يذوق طعم الإيمان ولا يجد ريحه، والمحروم كل المحروم من عُرض عليه الغنى والخير فلم يقبله، فلا مانع لِمَا أعطى اللَّه ولا معطي لِمَا منع، والفضل بيد اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم. هذا ملخّص ما أردت نقله من كلام الإمام ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله وإن أردت الزيادة في تحقيقاته في هذا الباب، فراجع كتابه الممتع:"مدارج السالكين في شرح منازل السائرين"، تُشْفَ، وتُكْفَ
(2)
، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(1) - (بَابٌ في الْحَضِّ عَلَى التَّوْبَةِ، وَالْفَرَحِ بِهَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6927]
(2675)
(3)
- (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنِي زيدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَاللَّهِ لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلَاةِ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ
(1)
من باب ضرب، كما في "المصباح".
(2)
"مدارج السالكين في شرح منازل السائرين" 1/ 119 - 126.
(3)
هذا الرقم مكرر.
ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي، أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ").
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدّم في أول "كتاب الذكر والدعاء" برقم [1/ 6781](2675) من طريق الأعمش عن أبي صالح، وتقدّم شرحه هناك مستوفًى، فلا حاجة إلى الإطالة بإعادته.
ورجاله: خمسة:
1 -
(سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ) الْحَدثاني، ويقال: الأنباريّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ -بالضم- أبو عمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ، ربّما وَهِم [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.
3 -
(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدَويّ مولى عمر، أبو عبد اللَّه، وأبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
4 -
(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم قريبًا.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين، وشرح الحديث قد تقدّم بالرقم الذكور، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6928]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ، إِذَا وَجَدَهَا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ الْقَعْنَبِيُّ) الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن المديني لا يقدّمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.
2 -
(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن
عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام -بحاء مهملة، وزاي- المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عسقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.
3 -
(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
4 -
(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، تقدّم قريبًا.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا) قال النوويّ: قال العلماء: فَرَحُ اللَّه تعالى هو رضاه، وقال المازريّ: الفرح ينقسم على وجوه، منها: السرور، والسرور يقارنه الرضا بالمسرور به، قال: فالمراد هنا: أن اللَّه تعالى يرضى بتوبة عبده أشدّ مما يرضى واجد ضالته بالفلاة، فعبَّر عن الرضا بالفرح؛ تأكيدًا لمعنى الرضا في نفس السامع، ومبالغة في تقريره. انتهى
(1)
.
وتعقّب المباركفوريّ رحمه الله ما ذكره النوويّ من التأويل، وقد أجاد في ذلك، فقال: لا حاجة إلى التأويل، ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تأويل. انتهى
(2)
.
وقد أجاد الشيخ البرّاك في رذه على الحافظ لمّا أكثر النقول في "الفتح" من أقوال المؤوّلين، حيث قال عند قوله: وإطلاق الفرح على اللَّه مجاز عن رضاه. . . إلخ ما نصّه: كل ما ذكره الحافظ، ونقله في هذا الموضع جارٍ على مذهب النفاة، وأهل التأويل منهم، وفي هذا كلّه صرف لفظ "الفرح" عن ظاهره، فمن المعلوم أن الفرح غير الرضا، والرضا غير المحبَّة، وكلّها غير
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 60 - 61.
(2)
"تحفة الأحوذي" 9/ 366.
الإرادة، فإن الفرح ضدّه الحزن، والرضا ضدّه السخط، والمحبّة ضدّها البغض، وكلّ هذه الصفات التي وردت في النصوص إضافتها إلى اللَّه تعالى تنفيها الأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسّرونها بالإرادة، وأهل السُّنَّة والجماعة لا يفرّقون بين الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، بل يُثبتونها للَّه عز وجل على ما يليق به سبحانه وتعالى من غير تكييف، ولا تمثيل، ويردّون على الأشاعرة بأن حكم الصفات واحد، والتفريق بينها تفريق بين المتماثلات، ولهذا يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فرّوا منه فيما نفوه. انتهى كلام البرّاك حفظه اللَّه
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، فتمسّك به، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ)؛ أي: من فرح أحدكم (بِضَالَّتِهِ)؛ أي: بوجدان ضالته بعد فَقْدها، قال في "النهاية": الضالة هي الضائعة من كل ما يُقتنى، من الحيوان وغيره، يقال: ضلّ الشيءُ: إذا ضاع، وهي في الأصل فاعلة، ثم اتُّسِع فيها، فصارت من الصفات الغالبة، وتقع على الذكر والأنثى، والاثنين والجمع. انتهى.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: ضَلَّ الرجلُ الطريقَ، وضَل عنه يَضِلُّ، من باب ضرب ضَلَالًا، وضَلَالةً: زَلّ عنه، فلم يهتد إليه، فهو ضَالٌّ، هذه لغة نجد، وهي الفُصْحَى، وبها جاء القرآن في قوله تعالى:{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} [سبأ: 50]، وفي لغة لأهل العالية من باب تَعِبَ، والأصل في الضَّلالِ: الغَيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضَالَّةٌ بالهاء للذكر والأنثى، والجمعُ الضَّوَالُّ، مثل دابّة ودوابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائعٌ، ولُقَطَةٌ، وضَلَّ البعيرُ: غاب، وخَفِي موضعه، وأَضْلَلْتُهُ بالألف: فقدته، قال الأزهريّ: وأَضْلَلْتَ الشيءَ بالألف: إذا ضاع منك، فلم تعرف موضعه، كالدّابّة، والناقة، وما أشبههما، فإن أخطأت موضع الشيء الثابت، كالدار، قلت: ضَلَلْتُهُ، وضَلِلْتُهُ، ولا تقل: أَضْلَلْتُهُ بالألف، وقال ابن الأعرابيّ: أَضَلَّنِي كذا بالألف: إذا عجزت عنه، فلم تقدر عليه، وقال في "البارع": ضَلَّنِي فلان، وكذا في غير الإنسان يَضِلُّنِي: إذا ذهب عنك، وعجزت عنه، وإذا طلبت حيوانًا، فأخطأت
(1)
تعليق الشيخ البرّاك على هامش "الفتح" 14/ 292، "كتاب الدعوات" رقم (6309).
مكانه، ولم تهتد إليه، فهو بمنزلة الثوابت، فتقول: ضَلَلْتُهُ، وقال الفارابيّ: أَضلَلْتُهُ بالألف: أضعته. انتهى
(1)
.
(إِذَا وَجَدَهَا")؛ أي: الضالّة، و"إذا" ظرف لفرح المقدّر؛ أي: من فرح أحدكم وقت وجدان ضالّته، واللَّه تعالى أعلم.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، وبيان مسائله في أول "كتاب الذكر والدعاء والتوبة" برقم [1/ 6781](2675) فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6929]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنبهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ الزاهد، ثقةٌ عابدٌ حافظٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
2 -
(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظٌ مصنّف شهير، عَمِي في آخر عمره، فتغير، وكان يتشيع [9](211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
3 -
(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.
4 -
(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُتْبة أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكِر قبله.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 364 - 365.
[تنبيه]: رواية همّام بن منَبِّه عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها همّام بن منبّه رحمه الله في "صحيفته"، فقال:
هذا ما حدّثنا أبو هريرة رضي الله عنه عن محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أيَفْرَح أحدكم براحلته، إذا ضلّت منه، ثم وجدها؟ " قالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال:"والذي نفس محمد بيده لَلَّه أشدّ فرحًا بتوبة عبده إذا تاب، من أحدكم براحلته إذا وجدها". انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم للمصنّف رحمه الله أن أخرج رواية همّام هذه بهذا السند، لكن بسياق مخالف لِما هنا، ونصّه:
[1/ 6783](2675) - حدّثنا محمد بن رافع، حدّثنا عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن هَمّام بن مُنَبِّه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث، منها: وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه قال: إذا تلقاني عبدي بشبر تلقيته بذراع، وإذا تلقاني بذراع تلقيته بباع، وإذا تلقاني بباع جئته أتيته بأسرع". انتهى.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6930]
(2744) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ، فَحَدَّثنَا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ، وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ، مَهْلَكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ، وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ، وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ").
(1)
"صحيفة همّام بن منبّه" رقم (79).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل باب.
3 -
(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم قريبًا.
4 -
(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.
5 -
(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، وقيل: قبلها بسنتين (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.
6 -
(الْحَارِثُ بْنُ سُويدٍ) التيميّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2] مات بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الأشربة" 6/ 5161.
7 -
(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير إسحاق، فمروزيّ، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن عمارة، عن الحارث، وفيه عبد اللَّه مهملًا، وقد تقدّم أنه إذا وقع عبد اللَّه من الصحابة في السند مهملًا يُنظر إلى السند، فإن كان كوفيًّا، كما هنا فهو ابن مسعود إلى آخر القاعدة، وقد ذكرها السيوطيّ رحمه الله في "ألفية الأثر" حيث قال:
وَحَيْثُمَا أُطْلِقَ "عَبْدُ اللَّه" فِي
…
طَيْبَةَ فَابْنُ عُمَرٍ وَإِنْ يَفِ
بِمَكَّةٍ فَابْنُ الزُّبَيْرِ أَوْ جَرَى
…
بَكُوفَةٍ فَهْوَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُرَى
وَالْبَصْرَةِ الْبَحْرُ وَعِنْدَ مِصْرِ
…
وَالشَّامِ مَهْمَا أُطْلِقَ ابْنُ عَمْرِ
شرح الحديث:
(عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ) وفي الرواية التالية عن إسحاق بن منصور، حدّثنا أبو أسامة:"حدّثنا الأعمش، حدّثنا عُمارة بن عُمير، قال: سمعت الحارث بن سُويد، حدّثني عبد اللَّه حديثين. . ."، فوقع التصريح بالتحديث والسماع في جميعهم.
قال في "الفتح": قوله: "عن عمارة بن عمير" فذكر البخاريّ تصريح الأعمش بالتحديث، وتصريح شيخه عمارة في رواية أبي أسامة المعلّقة بعد
هذا، وعمارة تيميّ من بني تيم اللات بن ثعلبة، كوفيّ من طبقة الأعمش، وشيخه الحارث بن سويد تيميّ أيضًا، وفي السند ثلاثة من التابعين في نَسَقٍ أولهم الأعمش، وهو من صغار التابعين، وعمارة من أوساطهم، والحارث من كبارهم. انتهى
(1)
.
(عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُويدٍ) التيميّ، أبي عائشة الكوفيّ؛ أنه (قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه (أَعُودُهُ)؛ أي: أزوره، يقال: عُدت المريض عيادةً: إذا زرته، فا لرجل عائد، وجمعه عُوّادٌ، والمرأة عائدة، وجمعها عُوّد بغير ألف، قال الأزهريّ: هكذا كلام العرب، ذكره الفيّوميّ
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإلى الجمعين المذكورين أشار ابن مالك في "الخلاصة" حيث قال:
وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ
…
وَصْفَيْنِ نَحْوُ "عَاذِلٍ" وَ"عَاذِلَهْ"
وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا
…
وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا
وقوله: (وَهُوَ مَرِيضٌ) جملة حاليّة من المفعول؛ أي: والحال أن عبد اللَّه مريض، (فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ)؛ أي: من قِبَل نفسه مما فتح اللَّه عليه بمجالسة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشاهدته، وتدبّر معاني الكتاب والسُّنَّة.
[تنبيه]: لم يذكر المصنّف حديث عبد اللَّه عن نفسه، وقد ذكره البخاريّ في "صحيحه"، من طريق أبي شهاب، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن الحارث بن سُويد: حدّثنا عبد اللَّه بن مسعود حديثين: أحدهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، قال:"إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مَرّ على أنفه، فقال به هكذا"، قال أبو شهاب بيده فوق أنفه. انتهى.
قال في "الفتح": قوله: (حديثين. . . إلخ) هكذا وقع في هذه الرواية غير مصرّح برفع أحد الحديثين إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ: قالوا: المرفوع: "لَلَّه أفرح. . . إلخ"، والأول قول ابن مسعود، وكذا جزم ابن بطال بأن الأول هو
(1)
"الفتح" 14/ 291، "كتاب الدعوات" رقم (6308).
(2)
"المصباح المنير" 2/ 436 - 437.
الموقوف، والثاني هو المرفوع، وهو كذلك، ولم يقف ابن التين على تحقيق ذلك، فقال أحد الحديثين عن ابن مسعود، والآخر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يزد في الشرح على الأصل شيئًا، وأغرب الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة في "مختصره"، فأفرد أحد الحديثين من الآخر، وعبَّر في كل منهما بقوله: عن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك في شيء من نُسخ البخاريّ، ولا التصريح برفع الحديث الأول إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في شيء من نُسخ كتب الحديث إلا ما قرأت في "شرح مغلطاي" أنه رُوي مرفوعًا من طريق وهّاها أبو أحمد الجرجانيّ؛ يعني: ابن عديّ. انتهى.
وقوله: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه" قال ابن أبي جمرة
(1)
: السبب في ذلك أن قلب المؤمن منوَّر، فإذا رأى من نفسه ما يخالف ما ينوّر به قلبه عَظُم الأمر عليه، والحكمة في التمثيل بالجبل أن غيره من المهلكات قد يحصل التسبب إلى النجاة منه، بخلاف الجبل إذا سقط على الشخص لا ينجو منه عادة، وحاصله: أن المؤمن يغلب عليه الخوف؛ لقوة ما عنده من الإيمان، فلا يأمن العقوبة بسببها، وهذا شأن المسلم أنه دائم الخوف، والمراقبة يستصغر عمله الصالح، ويخشى من صغير عمله السيئ.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يرى ذنوبه" المفعول الثاني محذوفٌ؛ أي: كالجبال، بدليل قوله:"كذباب"، ويجوز أن يكون "كأنه" مفعولًا ثانيًا، والتشبيه تمثيل، شبّه حالة ذنوبه، وأنها مهلكة له بحالته إذا كان تحت جبل على منوال قوله [من الطويل]:
وَمَا النَّاسُ إِلَّا كَالدِّيَارِ وَأَهْلِهَا
…
بِهَا يَوْمَ حَلُّوهَا وَغَدْوًا بَلَاقِعُ
لم يُشبّه الناس بالديار، وإنما شبّه وجودهم في الدنيا، وسُرعة زوالهم بحلول أهل الديار، وأوشك نهوضهم عنها، وتَرْكها خلاء خاويةً، دلّ التمثيل الأول على غاية الخوف والاحتراز من الذنوب، والثاني على نهاية قلة المبالاة، والاحتفال بها.
(1)
"بهجة النفوس" 4/ 200.
[فإن قلت]: ما التوفيق بين هذا القول، وقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لَلَّه أفرح"؟.
[قلت]: لَمّا بالغ في احتراز المؤمن، وخوفه من الذنوب، وصوّره بتلك الصورة الفظيعة الهائلة تصوّر أنه طلب ملجأ وكهفًا يلوذ إليه من ذلك الهول، فقيل له: ليس ذلك الملجأ والمفزع إلا إلى اللَّه تعالى؛ لأنه أفرح إلى آخره، وذِكر الفاجر وارد على سبيل الاستطراد، كما في قوله تعالى:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] بعد قوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} [فاطر: 12]؛ لأن البحرين تمثيل للمؤمن والكافر. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله
(1)
.
وقوله: "وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب" في رواية أبي الربيع الزهرانيّ عن أبي شهاب، عند الإسماعيليّ:"يرى ذنوبه كأنها ذباب مَرّ على أنفه"؛ أي: ذنبه سهل عنده، لا يعتقد أنه يحصل له بسببه كبير ضرر، كما أن ضرر الذباب عنده سهل، وكذا دَفْعه عنه، والذباب -بضم المعجمة، وموحدتين: الأولى خفيفة، بينهما ألف- جمع ذبابة، وهي الطير المعروف.
وقوله: "فقال به هكذا"؛ أي: نَحّاه بيده، أو دَفَعه، وهو من إطلاق القول على الفعل، قالوا: وهو أبلغ.
وقوله: "قال أبو شهاب" هو موصول بالسند المذكور.
وقوله: "بيده على أنفه" هو تفسير منه لقوله: "فقال به". قال المحبّ الطبريّ: إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من اللَّه، ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة، والفاجر قليل المعرفة باللَّه، فلذلك قَلّ خوفه، واستهان بالمعصية.
وقال ابن أبي جمرة: السبب في ذلك أن قلب الفاجر مظلم، فوقوع الذنب خفيف عنده، ولهذا تجد من يقع في المعصية إذا وُعظ يقول: هذا سهل، قال: ويستفاد من الحديث أن قلة خوف المؤمن ذنوبه، وخِفَّته عليه يدلّ على فجوره، قال: والحكمة في تشبيه ذنوب الفاجر بالذباب، كون الذباب
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1857.
أخف الطير، وأحقره، وهو مما يُعايَن، ويُدفَع بأقل الأشياء، قال: وفي ذِكر الأنف مبالغة في اعتقاده خفة الذنب عنده؛ لأن الذباب قلّما بينزل على الأنف، وإنما يقصد غالبًا العين، قال: وفي إشارته بيده تأكيد للخفة أيضًا؛ لأنه بهذا القَدْر اليسير يُدفع ضرره، قال: وفي الحديث ضَرْب المثل بما يمكن، والإرشاد إلى الحضّ على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، وفيه أن الفجور أمر قلبيّ كالإيمان، وفيه دليل لأهل السُّنَّة؛ لأنهم لا يُكَفِّرون بالذنوب، وردّ على الخوارج وغيرهم، ممن يكفِّر بالذنوب.
وقال ابن بطال: يؤخذ منه أنه ينبغي أن يكون المؤمن عظيم الخوف من اللَّه تعالى من كل ذنب صغيرًا كان، أو كبيرًا؛ لأن اللَّه تعالى قد يعذّب على القليل، فإنه لا يُسأل عما يفعل سبحانه وتعالى. انتهى من "الفتح"
(1)
.
وقوله: (وَحَدِيثًا)؛ أي: حدّثنا عبد اللَّه حديثًا (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) عبد اللَّه: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَلَّه) بلام التأكيد المفتوحة، وهي لام الابتداء، (أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ) وفي رواية البخاريّ:"للَّه أفرح بتوبة العبد"، قال الطيبيّ نقلًا عن المظهر: معناه: أرضى بالتوبة، وأقبل لها، والفرح المتعارف في نعوت بني آدم غير جائز على اللَّه تعالى، إنما معناه الرضى، قال: والمتقدّمون من أهل الحديث فَهِموا منها ما وقع الترغيب فيه من الأعمال، والإخبار عن فضل اللَّه عز وجل، وأثبتوا هذه الصفات للَّه تعالى، ولم يشتغلوا بتفسيرها
(2)
مع اعتقادهم أن اللَّه سبحانه وتعالى منزَّه عن صفات المخلوقين، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
ثم قال الطيبيّ: أقول: هذا هو المذهب المحتاط، وقلّما يزيغ عنه قَدَم الراسخ، ثم ذكر مذهب المشتغلين بالتأويل، فلم يُحْسن، حيث لم يتعقّبه
(1)
"الفتح" 14/ 292 - 293.
(2)
إن أراد تفسير الكيفيَّة، فنعم، وإن أراد تفسير المعنى، فباطل، فإن أهل الحديث يشتغلون بتفسير معاني الصفات، وإثباتها بحقيقة معانيها للَّه سبحانه وتعالى، وإن يجهلون، ويفوّضون علم كيفيّتها، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فتنبّه، ولا يهولنّك إرجاف المرجفين، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
تأويلاتهم مخالفين لأهل الحديث، وعموم السلف، وقد تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي الردّ عليهم بما فيه كفاية، فراجعه تستفد.
وقال صاحب "المرعاة" بعد نقل كلام المؤوّلين ما نصّه: قلت: كل صفة وصف اللَّه بها نفسه، أو وصفه بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهي صفة حقيقةً لا مجازًا، فهو تعالى يسمع، ويبصر، ويتكلم بما شاء، متى شاء، ويرضى، ويسخط، ويَعْجَب، ويفرح بتوبة عبده، ومعنى كل ذلك معلوم، والكيف مجهول، فنُثبت له ذلك كله، ولا نكيّفه، ولا نشبّهه بصفات المخلوقين، ولا نؤوّله، ولا نعطّله. قال شيخنا: لا حاجه إلى التأويل، ومذهب السلف في أمثال هذا الحديث إمرارها على ظواهرها، من غير تكييف، ولا تشبيه، ولا تأويل هذا. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا هو واجب كل مسلم تجاه آيات الصفات، وأحاديثها، كالاستواء، والنزول، والمجيء، والمحبّة، والفرح، والغضب، والرضا، وغير ذلك، أن يُثبتها للَّه سبحانه وتعالى كما أثبتتها نصوص الكتاب والسُّنَّة، وأجراها السلف الصالح على ظواهرها، وحقيقتها على ما يليق بجلاله تعالى، ولا يُشبّه، ولا يمثّل، ولا يؤوّل، ولا يعطّل، فهذا هو المذهب الأعلم الأحكم الأسلم، فاقبله تَسْلَم، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(مِنْ رَجُلٍ) متعلّق بـ "أفرح"، (فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ) -بفتح الدال، وتشديد الواو المكسورة، وتشديد الياء المفتوحة، بعدها هاء التأنيث-: نسبة إلى الدّوّ -بفتح الدال، وتشديد الواو- وهي الأرض الفَقْر، والفلاة الخالية؛ أي: البريّة، والصحراء التي لا نبات بها، قال ابن الأثير: الدّوّ: الصحراء، والدويّة منسوبة إليها.
ووقع في الرواية التالية: "داويّة"، وهي أيضًا بتشديد الياء، وقيل: ذلك لإبدال الواو الأولى ألفًا، وقد يُبدل في النسبة على غير قياس، نحو طائيّ في النسبة إلى طيء.
(مَهْلَكَةٍ) -بفتح الميم، واللام، بينهما هاء ساكنة-؛ أي: موضع
(1)
"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 8/ 145.
الهلاك، أو الهلاك نفسه. وقال النوويّ: وهي موضع خوف الهلاك، ويقال لها: مفازة. انتهى. وتُفتح لامها، وتكسر، وهما بمعنى، والمراد: يهلك سالكها، أو من حصل فيها، ويروى: مُهلِكة بضم الميم، وكسر اللام: اسم فاعل من الثلاثيّ المزيد فيه؛ أي: تُهْلِك هي من يحصل بها. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: أما "دوية" فاتفق العلماء على أنها بفتح الدال، وتشديد الواو والياء جميعًا، وذَكَر مسلم في الرواية التي بعد هذه، رواية أبي بكر بن أبي شيبة:"أرض داويّة" بزيادة ألف، وهي بتشديد الياء أيضًا، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: الدوية: الأرض القفر، والفلاة الخالية، قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويقال: دَوّيّة، ودَاويّة، فأما الدوية فمنسوب إلى الدوّ، بتشديد الواو، وهي البريّة التي لا نبات بها، وأما الداويّة فهي على إبدال إحدى الواوين ألفًا، كما قيل: في النسب إلى طيء طائيّ.
وأما المهلكة فهي بفتح الميم، وبفتح اللام، وكسرها، وهي موضع خوف الهلاك، ويقال لها: مفازة، قيل: إنه من قولهم: فَوَّز الرجلُ: إذا هلك، وقيل: على سبيل التفاؤل بفوزه، ونجاته منها، كما يقال للّديغ: سَلِيمٌ. انتهى
(2)
.
(مَعَهُ رَاحِلَتُهُ) الراحلة: المركب من الإبل، ذكرًا كان أو أنثى، وبعضهم يقول: الراحلة: الناقة التي تصلح أن تُرحل، وجمعها رواحل، قاله الفيّوميّ
(3)
. (عَلَيْهَا)؛ أي: على الراحلة، (طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ) زاد في رواية الترمذيّ:"وما يُصلحه"، (فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ، وَقَدْ ذَهَبَتْ) وفي رواية البخاريّ: "فوضع رأسه، فنام نومةً، فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته"؛ أي: فخرج في طلبها، واستمرّ على ذلك، وفي رواية أحمد، والترمذيّ:"فأضلّها، فخرج في طلبها". (فَطَلَبَهَا)؛ أي: واستمرّ على ذلك (حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ) وفي رواية البخاريّ: "حتى إذا اشتدّ عليه الحرّ والعطش، أو ما شاء اللَّه"، قال الحافظ: الشكّ من أبي شهاب، واقتصر جرير على ذِكر العطش، ووقع في رواية أبي معاوية:"حتى إذا أدركه الموت"، وقال الطيبيّ: إما شكّ من الراوي،
(1)
"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 8/ 145.
(2)
"شرح مسلم" 17/ 61.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 222 - 223.
والتقدير: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك، أو قال: ما شاء اللَّه، أو تنويع؛ أي: اشتدّ الحر والعطش، أو ما شاء اللَّه من العذاب، والبلاء غير الحرّ، والعطش، قال القاري: والأظهر أن "أو" بمعنى الواو، وهو تعميم بعد تخصيص؛ أي: وما شاء اللَّه بعد ذلك. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأَولى ما تقدّم عن الحافظ أنه شكّ من أبي شهاب الراوي عن الأعمش، فتنبّه.
(ثُمَّ قَالَ) الرجل في نفسه: (أَرْجِعُ) بقطع الهمزة، وهي ضمير المتكلّم، (إِلَى مَكَانِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ) لاحتمال أن تعود الراحلة إليه؛ لإلفها له أوّلًا، (فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ)؛ أي: أو حتى ترجع إليّ راحلتي، وإنما اقتصر على ما ذكر من الموت؛ استبعادًا لجانب الحياة، ويأسًا عن رجوع الراحلة، (فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ)؛ أي: فانتبه من نومه (وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ)؛ أي: حاضرة، أو واقفة، والجملة في محلّ نصب على الحال من الفاعل، وكذا قوله:(وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ) زاد في رواية أبي معاوية: "وما يُصلحه".
(فَاللَّهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء هي التي تُعقّب الْمُجْمَل بالمفصّل؛ تأكيدًا، وتقريرًا له؛ لئلا يُزاد فيه، ولا يُنقص. انتهى.
(1)
(أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا)؛ أي: من فرح هذا الرجل (برَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ") قال القاري: فهذا فَذْلَكة القصّة، أعيدت لتأكيد القضيّة. انتهى
(2)
.
[تنبيه]: سيأتي في حديث البراء رضي الله عنه الآتي ذِكر لسبب لهذا الحديث المرفوع، وأوله:"كيف تقولون بفرح رجل، انفلتت منه راحلته، تَجُرّ زمامها بأرض قفر، ليس بها طعام، ولا شراب، وعليها له طعام، وشراب، فطلبها حتى شقّ عليه، ثم مرت بجذل شجرة، فتعلق زمامها، فوجدها متعلقة به؟ " قلنا: شديدًا يا رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما واللَّهِ لَلَّهُ أشدّ فرحًا بتوبة عبده من الرجل براحلته"، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي هريرة مختصرًا: "ذكروا الفرح عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والرجل يجد ضالته،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1858.
(2)
"المرقاة" 5/ 192.
فقال: لَلَّه أشدّ فرحًا. . ." الحديث
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: أشار البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" إلى أنه وقع اختلاف في إسناد هذا الحديث، حيث قال بعد إخراج الحديث من طريق أبي شهاب عن الأعمش ما نصّه: تابعه أبو عوانة، وجرير عن الأعمش، وقال أبو أسامة: حدّثنا الأعمش، حدّثنا عمارة، سمعت الحارث، وقال شعبة، وأبو مسلم عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، وقال أبو معاوية: حدّثنا الأعمش، عن عمارة، عن الأسود، عن عبد اللَّه، وعن إبراهيم التيميّ عن الحارث بن سُويد، عن عبد اللَّه. انتهى كلام البخاريّ رحمه الله
(2)
.
قال في "الفتح": قوله: "تابعه أبو عوانة" هو الوضاح، وجرير هو ابن عبد الحميد، عن الأعمش، فأما متابعة أبي عوانة فوصلها الإسماعيليّ من طريق يحيى بن حماد، عنه، وأما متابعة جرير فوصلها مسلم، وقد ذكرت اختلاف لفظها.
قوله: "وقال أبو أسامة" -هو حماد بن أسامة- حدّثنا الأعمش، حدّثنا عمارة، حدّثنا الحارث -يعني: عن ابن مسعود- بالحديثين، ومراده أن هؤلاء الثلاثة وافقوا أبا شهاب في إسناد هذا الحديث، إلا أن الأوَّلين عنعناه، وصرّح فيه أبو أسامة، ورواية أبي أسامة وصلها مسلم أيضًا، وقال مثل حديث جرير.
قوله: "وقال شعبة، وأبو مسلم" زاد المستملي في روايته عن الفِرَبْريّ: اسمه عبيد اللَّه؛ أي: بالتصغير، كوفيّ، قائد الأعمش، قلت
(3)
: واسم أبيه سعيد بن مسلم، كوفيّ ضعفه جماعة، لكن لمّا وافقه شعبة ترخص البخاري في ذِكره، وقد ذكره في "تاريخه"، وقال: في حديثه نظر، وقال العقيليّ: يُكتب حديثه، ويُنظر فيه، ومراده أن شعبة وأبا مسلم خالفا أبا شهاب، ومن تبعه في
(1)
"الفتح" 14/ 296.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2324.
(3)
القائل هو الحافظ، فتنبّه.
تسمية شيخ الأعمش، فقال الأولون: عمارة، وقال هذان: إبراهيم التيميّ، وقد ذكر الإسماعيليّ أن محمد بن فضيل، وشجاع بن الوليد، وقطبه بن عبد العزيز، وافقوا أبا شهاب على قوله:"عمارة، عن الحارث"، ثم ساق رواياتهم، وطريق قطبة عند مسلم أيضًا.
قوله: "وقال أبو معاوية: حدّثنا الأعمش، عن عمارة، عن الأسود، عن عبد اللَّه، وعن إبراهيم التيميّ، عن الحارث بن سُويد، عن عبد اللَّه" يعني: أن أبا معاوية خالف الجميع، فجعل الحديث عند الأعمش، عن عمارة بن عمير، وإبراهيم التيميّ جميعًا، لكنه عند عمارة عن الأسود، وهو ابن يزيد النخعيّ، وعند إبراهيم التيميّ عن الحارث بن سُويد، وأبو شهاب ومن تبعه جعلوه عند عمارة عن الحارث بن سويد، قال الحافظ: ورواية أبي معاوية لم أقف عليها في شيء من السنن والمسانيد
(1)
على هذين الوجهين، فقد أخرجه الترمذيّ عن هناد بن السريّ، والنسائيّ عن محمد بن عبيد، والإسماعيليّ من طريق أبي همام، ومن طريق أبي غريب، ومن طريق محمد بن طَرِيف، كلهم عن أبي معاوية، كما قال أبو شهاب، ومن تبعه، وأخرجه النسائيّ عن أحمد بن حرب الموصليّ، عن أبي معاوية، فجمع بين الأسود والحارث بن سُويد، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من طريق أبي غريب، ولم أره من رواية أبي معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم التيميّ، وإنما وجدته عند النسائيّ من رواية عليّ بن مُسهر، عن الأعمش كذلك.
وفي الجملة فقد اختُلف فيه على عمارة في شيخه، هل هو الحارث بن سويد، أو الأسود؟، وتبيَّن مما ذكرته أنه عنده عنهما جميعًا، واختُلف على الأعمش في شيخه، هل هو عمارة، أو إبراهيم التيميّ؟ وتبيَّن أيضًا أنه عنده عنهما جميعًا، والراجح من الاختلاف كلّه ما قال أبو شهاب، ومن تبعه، ولذلك اقتصر عليه مسلم، وصدّر به البخاريّ كلامه، فأخرجه موصولًا، وذَكَر الاختلاف معلّقًا، كعادته في الإشارة إلى أن مثل هذا الخلاف ليس بقادح،
(1)
أشار في "التغليق" 5/ 137 - 138 إلى أنه أخرجه أحمد في "المسند"، وهو في 1/ 383. انتهى من هامش "الفتح" 14/ 296.
واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا البحث الذي أوضحه الحافظ بحث نفيسٌ جدًّا.
وحاصله: أن الحديث صحيح بطرقه المختلفة، وأن غرض البخاريّ بذكر الاختلاف معلّقًا الإشارة إلى أن هذا الاختلاف لا يقدح في صحّة الحديث، وهو غرض مهمّ جدًّا، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6930 و 6931 و 6932](2744)، و (البخاريّ) في "الدعوات"(6308)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2498)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 383)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(618)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 108)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 129)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 188) و"شعب الإيمان"(5/ 411)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1301 و 1302)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده
(2)
:
1 -
(منها): بيان خوف المؤمن من اللَّه تعالى، حيث إنه إذا أذنب ذنبًا، رآه كأنه تحت جبل يخاف سقوطه عليه، وهذه ثمرة قوّة الإيمان.
2 -
(ومنها): بيان تهاون الفاجر، وعدم خوفه من اللَّه تعالى، وأنه إذا أذنب لم يستشعر بقلبه عظمة الذنب، وخطر عاقبته، وأن اللَّه تعالى يُمهله، ولا يُهمله، فقد أخرج الشيخان من حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته"، قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)} [هود: 102] ".
3 -
(ومنها): إثبات صفة الفرح للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، بلا تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل.
(1)
"الفتح" 14/ 295 - 296.
(2)
المراد فوائد الحديث برواياته المتنوّعة التي أوردتها في الشرح، لا خصوص السياق الذي أورده مسلم، فتنبّه.
4 -
(ومنها): بيان جواز سفر المرء وحده؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يضرب المثل إلا بما يجوز، ويُحْمَل حديث النهي على الكراهة؛ جمعًا، ويظهر من هذا الحديث حكمة النهي، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله.
وتعقّبه الحافظ، فقال: والحصر الأول مردود، وهذه القصة تؤكد النهي.
5 -
(ومنها): أن فيه تسميةَ المفازة التي ليس فيها ما يؤكل، ولا يشرب مهلكةً.
6 -
(ومنها): أن من رَكَن إلى ما سوى اللَّه يُقطع به أحوج ما يكون إليه؛ لأن الرجل ما نام في الفلاة وحده إلا ركونًا إلى ما معه من الزاد، فلما اعتمد على ذلك خانه، لولا أن اللَّه لَطَف به، وأعاد عليه ضالته، قال بعضهم: من سرّه أن لا يرى ما يسوؤه، فلا يتخذ شيئًا يخاف له فقدًا.
7 -
(ومنها): أن فرح البشر وغمّهم إنما هو على ما جرى به أثر الحكمة من العوائد، يؤخذ من ذلك أن حُزن المذكور إنما كان على ذهاب راحلته؛ لخوف الموت من أجل فَقْد زادِه، وفرحه بها إنما كان من أجل وجدانه ما فَقَد، مما تُنسب الحياة إليه في العادة.
8 -
(ومنها): بركة الاستسلام لأمر اللَّه تعالى؛ لأن المذكور لمّا أيس من وجدان راحلته، استسلم للموت، فمنّ اللَّه عليه بردّ ضالته.
9 -
(ومنها): ضَرْب المثل بما يصل إلى الأفهام، من الأمور المحسوسة، والإرشاد إلى الحضّ على محاسبة النفس، واعتبار العلامات الدالة على بقاء نعمة الإيمان، ذَكَر هذه الفوائد ابن جمرة رحمه الله
(1)
، ونَقَلها الحافظ في "الفتح"
(2)
.
10 -
(ومنها): ما قاله القاضي عياض رحمه الله: في قوله: "قال من شدة الفرح. . . إلخ" فيه أن ما قاله الإنسان من قبيل هذا من دَهْش، وذهول، غير مؤاخَذ به، وكذلك حكايته عنه على طريق علميّ، وفائدة شرعية، لا على الهزء والمحاكاة والعيب؛ لحكاية النبيّ صلى الله عليه وسلم إياه، ولو كان منكَرًا ما حكاه. انتهى
(3)
، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"بجهة النفوس" 4/ 204.
(2)
"الفتح" 14/ 297 - 298.
(3)
"الفتح" 14/ 297.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6931]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: "مِنْ رَجُلٍ بِدَاوِيَّةٍ مِنَ الأَرْضِ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.
3 -
(قُطْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) بن سَيَاه -بكسر السين المهملة، بعدها تحتانية خفيفة- الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ
(1)
[8](م 4) تقدم في "فضائل الصحابة" 22/ 6310.
و"الأعمش" سليمان بن مهران ذُكر قبله.
وقوله: (من رجل بِدَاوَّيةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ: "من رجل" بالنون، وهو الصواب، قال القاضي: ووقع في بعضها: "مَرّ رجل" بالراء، وهو تصحيف؛ لأن مقصود مسلم أن يبيّن الخلاف في "دويّة"، و"داوية"، وأما لفظة "مِنْ" فمتفق عليها في الروايتين، ولا معنى للراء هنا. انتهى
(2)
.
وعبارة القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله في التوبة في "كتاب مسلم" في رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "وقال: من رجل بداويّة" كذا للجميع، وهو الصواب، وكما في سائر الأحاديث، وكان عند بعضهم:"مَرّ رجل"، وكذا كان في كتاب القاضي التميميّ، والصواب الأول؛ لأنه إنما بَيَّن الخلاف بين قوله:"بداويّة من الأرض"، وقول أخيه عثمان في الحديث قبله:"في أرض دويّة" لا غير، وهما بمعنًى؛ أي: بمفازة قَفْر من الأرض، وابتداء الحديث يدلّ عليه:"لَلَّه أفرح بتوبة عبده من رجل" حالته كما ذُكِر. انتهى
(3)
.
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": صدوق، راجع ترجمته في:"تت".
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 62.
(3)
"مشارق الأنوار" 1/ 378.
وقال في "الفتح": الدويّة: القَفْر، والمفازة، وهي الداويّة بإشباع الدال، ووقع كذلك في رواية لمسلم، وجَمْعها داويّ، قال الشاعر:
أَرْوَعُ خَرَّاجٌ مِنَ الدَّاوِيِّ
وقال في "اللسان": ومنه خطبة الحجاج [من الرجز]:
قَدْ لَفَّهَا
(1)
اللَّيْلُ بِعَصْلَبِيِّ
(2)
…
أَرْوَعَ خَرَّاجٍ مِنَ الدَّاوِيِّ
يعني: الفلوات، جمع داويّة، أراد أنه صاحب أسفار، ورِحَلٍ، فهو لا يزال يخرج من الفلوات، ويَحْتَمِل أن يكون أراد به أنه بصير بالفلوات، فلا يشتبه عليه شيء منها. انتهى
(3)
.
[تنبيه]: رواية قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها بتمامها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6932]
(. . .) - وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ سُويدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، حَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ).
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
وكلّهم ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين، و"إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ" الكوسج التميميّ المروزيّ، و"أَبُو أُسَامَةَ" هو: حمّاد بن أسامة.
[تنبيه]: رواية أبي أسامة عن الأعمش هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(20556)
- أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن
(1)
الضمير للإبل؛ أي: جَمَعها الليل بسائق شديد، فضَرَبه مَثَلًا لنفسه ورعيته. "لسان العرب".
(2)
العَصْلَبيّ: الشديد الباقي على المشي والعمل.
(3)
"لسان العرب" 14/ 277.
يعقوب، ثنا الحسن بن عليّ بن عفان العامريّ، ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، قال: سمعت الحارث بن سُويد يقول: أتينا عبد اللَّه -يعني: ابن مسعود- فحدّثنا بحديثين، أحدهما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والآخر عن نفسه، فقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَلَّه أشدّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل -قال- بأرض فلاة دَوّيّة، ومُهلكة، ومعه راحلته، عليها طعامه، وشرابه، فنزل عنها، فنام، وراحلته عند رأسه، فاستيقظ، وقد ذهبت، فذهب في طلبها، فلم يقدر عليها، حتى أدركه العطش، فقال: والة لأرجعن، فلأموتنّ حيث كان رحلي، فرجع، فنام، واستيقظ، وإذا راحلته عند رأسه، عليها طعامه، وشرابه"، قال: ثم قال عبد اللَّه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه جالس في أصل جبل، يخاف أن ينقلب عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، وقال له هكذا، فذهب، وأمرّ بيده على أنفه"، قال: رواه مسلم في "الصحيح" عن إسحاق بن منصور، عن أبي أسامة. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6933]
(2745) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ، عَنْ سِمَاكٍ، قَالَ: خَطَبَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، فَقَالَ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ حَمَلَ زَادَهُ وَمَزَادَهُ عَلَى بَعِيرٍ، ثُمَّ سَارَ حَتَّى كَانَ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَأَدْرَكتْهُ الْقَائِلَةُ، فَنَزَلَ، فَقَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ، وَانْسَلَّ بَعِيرُهُ، فَاسْتَيْقَظَ، فَسَعَى شَرَفًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَانِيًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَالِثًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَأَقْبَلَ حَتَّى أَتَى مَكَانَهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ، فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعِدٌ، إِذْ جَاءَهُ بَعِيرُهُ يَمْشِي حَتَّى وَضَعَ خِطَامَهُ فِي يَدِهِ، فَلَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا حِينَ وَجَدَ بَعِيرَهُ عَلَى حَالِهِ"، قَالَ سِمَاكٌ: فَزَعَمَ الشَّعْبِيُّ أَنَّ النُّعْمَانَ رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل باب.
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 10/ 188.
2 -
(أَبُوه) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل باب.
3 -
(أَبُو يُونُسَ) حاتم بن أبي صَغِيرة -بكسر الغين المعجمة- البصريّ، وأبو صغيرة اسمه مسلم، وهو جدّه لأمه، وقيل: زوج أمه، ثقة [6](ع) تقدم في "الحج" 67/ 3249.
4 -
(سِمَاكُ) -بكسر أوله، وتخفيف الميم- ابن حرب بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ الكوفيّ، أبو المغيرة، صدوقٌ، وقد تغير بأخرة، فكان ربما تَلَقّن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.
5 -
(النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرِ) بن سَعْد بن ثعلبة الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ صَحِب، ثم سكن الشام، ثم وَلي إِمْرة الكوفة، ثم قُتل بحمص سنة خمس وستين، وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 97/ 522.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى سماك، والصحابيّ، فكوفيّان، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنْ سِمَاك) بن حرب؛ أنه (قَالَ: خَطَبَ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ) رضي الله عنهما، ظاهر هذه الرواية أنه موقوف على النعمان، لكن في آخر الحديث عن الشعبيّ أنه مرفوع، ووقع في رواية أحمد من طريق شريك، عن سماك، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "واللَّه لَلَّه أشد فرحًا بتوبة عبده. . ." الحديث.
(فَقَالَ) النعمان في خطبته ("لَلَّهُ) بفتح لام الابتداء، و"اللَّه" مبتدأ خبره قوله:(أَشَدُّ فَرَحًا) فيه إثبات صفة الفرح للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، وقد تقدّم الرد على المؤولين قريبًا، فلا تغفل. (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ) متعلّق بـ "فرح"، وقوله:(مِنْ رَجُلٍ) متعلِّق بـ "أشدّ"، وقوله:(حَمَلَ زَادَهُ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "رجل"، والزاد هو: الطعام الذي يتّخذه المسافر لسفره، والجمع: أزواد، وقوله:(وَمَزَادَهُ) بفتح الميم، قال القاضي: كأنه اسم جنس للمزادة، وهي القِربة
العظيمة، سُمّيت بذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: شطر الراوية، بفتح الميم، والقياس كسرها؛ لأنها آلة يُستقى فيها الماء، وجمعها مزايد، وربّما قيل: مَزاد بغير هاء، والمزادة مَفْعَلَةٌ من الزاد؛ لأنه يُتزوّد فيها الماء. انتهى
(2)
.
(عَلَى بَعِيرٍ) كأَمِيرٍ، وقد تُكْسَرُ الباءُ، وهي لغةُ بني تِمِيم، والفتحُ أفصحُ اللُّغَتَيْن: الجَمَلُ البازِلُ، أو الجَذَعُ، وقد يكونُ للأُنْثَى، حُكِيَ عن بعض العَرَب: شَرِبْتُ مِن لَبَنِ بَعِيرِي، وصَرَعَتْنِي بَعِيرِي؛ أي: نَاقَتِي. انتهى
(3)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: البَعِيرُ مثل الإنسان، يقع على الذكر والأنثى، يقال: حلبتُ بَعِيرِي، والجَمَلُ بمنزلة الرجل، يختص بالذكر، والنَّاقَةُ بمنزلة المرأة، تختص بالأنثى، والبَكْرُ، والبَكْرَةُ، مثل الفتى والفتاة، والقَلُوصُ كالجارية، هكذا حكاه جماعة، منهم ابن السِّكِّيت، والأزهريّ، وابن جني، ثم قال الأزهريّ: هذا كلام العرب، ولكن لا يعرفه إلا خواصّ أهل العلم باللغة، ووقع في كلام الشافعيّ رحمه الله في الوصية: لو قال: أعطوه بعيرًا، لم يكن لهم أن يعطوه ناقةً، فحَمَل البعير على الجَمَل، ووجهه أن الوصية مبنية على عُرف الناس، لا على محتملات اللغة التي لا يعرفها إلا الخواصّ، وحكى في "كفاية المتحفظ" معنى ما تقدم، ثم قال: وإنما يقال: جمل، أو ناقة إذا أربعا، فأما قبل ذلك، فيقال: قَعُود، وبَكْرٌ، وبَكْرَةٌ، وقُلُوص، وجمع البَعِيرِ أَبْعِرَةٌ، وأَبَاعِرُ، وبُعْرَانُ بالضمّ. انتهى
(4)
.
(ثُمَّ سَارَ) الرجل (حَتَّى كَانَ بِفَلَاةٍ) بفتح الفاء: الأرض لا ماء فيها،، والجمع: فَلًا، مثل حصاة وحَصًا، وجمع الجمع: أفلاء، مثل سبب وأسباب
(5)
، وقوله:(مِنَ الأَرْضِ) بيان مؤكّد؛ معنى الفلاة: هي الأرض لا ماء فيها، كما أسلفته آنفًا. (فَأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ) هي وقت القيلولة، والمراد هنا نفس القيلولة، يقال: قال يقيل قَيْلًا، وقيلولةً: نام نصف النهار، قاله الفيّوميّ.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 62.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 260.
(3)
"تاج العروس" ص 2528.
(4)
"المصباح المنير" 1/ 53.
(5)
"المصباح المنير" 2/ 481.
وقال المرتضى رحمه الله: القائلة: نصف النهار، كما في "المحكم"، وفي "الصحاح": الظهيرة، ومثله في "العين"، يقال: أتانا عند قائلة النهار، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضًا، وهي النوم في نصف النهار، وقال الليث: القيلولة: نوم نصف النهار، وهي القائلة، قال يقيل قَيْلًا، وقائلةً، وقيلولةً، ومقالًا، ومقيلًا، وتَقَيَّل: نام فيه؛ أي: نصف النهار، وقال الأزهريّ: القيلولة، والمقيل: الاستراحة نصف النهار عند العرب، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أن الجنة لا نوم فيها، وقد قال اللَّه تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)} [الفرقان: 24]. انتهى
(1)
.
(فَنَزَلَ، فَقَالَ)؛ أي: استراح (تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ)؛ أي: فنام، (وَانْسَلَّ بَعِيرُهُ)؛ أي: ذهب في خُفية، (فَاسْتَيْقَظَ، فَسَعَى)؛ أي: هرول في مشيه (شَرَفًا) قال القاضي عياض: يَحْتَمِل أنه أراد بالشرف هنا الطّلَقَ
(2)
، والْغَلْوَة
(3)
، كما في الحديث الآخر:"فاستنّت شَرَفًا، أو شَرَفين"، قال: ويَحْتَمِل أن المراد هنا: الشّرَف من الأرض؛ لينظر منه هل يراها؟ قال: وهذا أظهر. انتهى
(4)
.
(فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَانِيًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، ثُمَّ سَعَى شَرَفًا ثَالِثًا، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَأَقْبَلَ) من الإقبال؛ أي: جاء (حَتَّى أَتَى مَكَانَهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ)؛ أي: استراح في ذلك المكان، (فَبَيْنَمَا) أَصلُها "بَيْنَ"، فأُشبِعتْ الفتحة، فصارت أَلفًا، ويقال: بَيْنا، وبَيْنما، وهما ظرفا زمانٍ، بمعنى المفاجأَة، ويُضافان إلى جملة من فعلٍ وفاعلٍ، ومبتدإٍ وخبر، كما هنا، ويحتاجان إلى جواب، يَتِمُّ به المعنى، والأفصَح في جوابهما أَن لا يكون فيه "إذْ" و"إذا"، وقد جاءا في
(1)
"تاج العروس" ص 7467.
(2)
"الطلق" بفتحتين: جريُ الفرس لا تحتبس إلى الغاية، فيقال: عدا الفرس طلَقًا، أو طَلَقين، كما يقال: شوْطًا أو شَوْطين. انتهى. "المصباح" 2/ 376 - 377.
(3)
"الْغَلْوة": الغاية، وهي رمية بسهم أبعد ما يَقْدر عليه، ويقال: هي ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة، والجمع: غلوات، من شَهْوة وشهوات. "المصباح".
(4)
"شرح النوويّ" 17/ 62.
الجواب كثيرًا، تقول: بَينا زيدٌ جالسٌ دخَل عليه عمرٌو، وإذ دخَل عليه، وإذا دخل عليه، ومنه قول الحُرَقة بنت النُّعمان:
بَيْنا نَسُوسُ النَّاسَ والأَمرُ أَمْرُنا
…
إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقةٌ نَتَصَّفُ
(1)
(هُوَ قَاعِدٌ، إِذْ جَاءَهُ بَعِيرُهُ) حال كونه (يَمْشِي حَتَّى وَضَعَ خِطَامَهُ) بكسر الخاء المعجمة، ككِتَاب: كل ما وُضع في أنف البعير؛ ليُقتاد به، جَمْعه: خُطُمٌ، قاله المجد رحمه الله
(2)
، وقال الفيّوميّ رحمه الله: سُمّي خطمًا؛ لأنه يقع على الخَطْم، وهو بفتح، فسكون: مقدّم الأنف والفم. انتهى
(3)
.
(فِي يَدِهِ) متعلّق بـ "وَضَعَ"، (فَلَلَّهُ) بلام مفتوحة، وهي لام الابتداء تفيد التوكيد. (أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ) متعلّق بـ "فرحًا"، (مِنْ هَذَا)؛ أي: من هذا الرجل، وهو متعلّق بـ "أشدّ"، وقوله:(حِينَ وَجَدَ بَعِيرَهُ)"حين" ظرف متعلّق بـ "فرحًا"، وقوله:(عَلَى حَالِهِ،) متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه على الحال التي هو عليها من شدّة الحزن والانزعاج، والاستعداد للموت بسبب فَقْد بعيره الذي عليه طعامه، وشرابه، وما يُصلحه.
وقوله: (قَالَ سِمَاكٌ)؛ أي: ابن حرب الراوي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، (فَزَعَمَ الشَّعْبِيُّ) الظاهر أن "زعم" هنا مستعملة للقول الحقّ، (أَنَّ النُّعْمَانَ) رضي الله عنه (رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ)؛ أي: أسنده (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال سماك: (وَأمَّا أَنَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ)؛ أي: لم أسمع النعمان يرفعه، ورَفْعه هو الحقّ؛ لأن هذا لا يقال من قبل الرأي، وأيضًا يشهد له حديث ابن مسعود، وأنس بن مالك، وغيرهما، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
راجع: "لسان العرب" 13/ 64.
(2)
"القاموس المحيط" ص 381.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 174.
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6933](2745)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 273 و 275)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 303 - 304)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6934]
(2746) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَجَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ إِيَادٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ، تَجُرُّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ، لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ، وَلَا شَرَابٌ، وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ، فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَرَّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ، فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا، فَوَجَدَهَا مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟ "، قُلْنَا: شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا وَاللَّهِ لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ"، قَالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام تقدّم قبل باب.
2 -
(جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ) القُرَشيّ، وقيل: الْعَبْسيّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10].
روى عن عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط، والوليد بن أبي ثور، ويونس بن أبي يعفور، وحُديج بن معاوية، وحفص بن سليمان القارئ، وعِدّة.
وروى عنه مسلم حديثًا واحدًا في التوبة -يعني: هذا الحديث- وبقيّ بن مخلد، وأبو يعلى، وموسى بن إسحاق، وجماعة.
ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن منجويه: مات بعد الثلاثين ومائتين، وبلغ تسعين سنةً، وقال مُطَيَّن: مات يوم الجمعة لإحدى عشر بقيت من جمادى الآخرة سنة (240)، ثقةٌ، لا يَخْضِب، وذكره أبو عليّ الجيانيّ في مشائخ أبي داود، وقال: يُعْرَف بِزَنْبَقَة، حَدَّث أبو داود عنه في "ابتداء الوحي"، قال: ثنا الوليد بن أبي ثور. انتهى، قال الحافظ: و"ابتداء الوحي" كتاب مفرد لأبي داود، ما هو من أبواب السنن، واللَّه أعلم
(1)
.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 75.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله: هكذا خرّج مسلم هذا الحديث عن يحيى بن يحيى، وجعفر بن حُميد في رواية ابن ماهان، والكسائيّ، وجعفر هذا هو شيخ لمسلم لم يرو عنه إلا هذا الحديث، وهو كوفيّ يُعرَف بـ "زَنْبَقَة" حدّث عنه بَقِيّ بن مَخْلَد من أهل بلدنا، وخرّجه أبو مسعود عن جعفر بن حُميد، وهو الصواب، ورُوي عن أبي أحمد الْجُلُوديّ: حدّثنا يحيى بن يحيى، وعبد بن حُميد، مكان جعفر بن حُميد، وهو وَهَمٌ. انتهى
(1)
.
3 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيادِ بْنِ لَقِيطٍ) السَّدُوسيّ، أبو السَّلِيل -بفتح المهملة، وكسر اللام، وآخره لام أيضًا- الكوفيّ، كان عَرِيف قومه، صدوقٌ، ليّنه البزار وحده [7](ت 169)(بخ م ت س ق) تقدم في "الصلاة" 46/ 1109.
4 -
(إِيَادُ) -بكسر أوله، ثم تحتانية- ابن لَقِيط السَّدُوسيّ، ثقةٌ [4](بخ م دت س) تقدم في "الصلاة" 46/ 1109.
5 -
(الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ) بن الحارث بن عديّ الأنصاريّ الأوسيّ الصحابيّ ابن الصحابيّ، نزل الكوفة، واستُصغر يوم بدر، وكان هو وابن عمر لِدَةً، مات سنة اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (427) من رباعيّات الكتاب، وهو مسلسل بالكوفيين، غير يحيى، فنيسابوريّ، وصحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما.
شرح الحديث:
(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ تَقُولُونَ)؛ أي: تظنّون، وهذا مما استُعمل فيه القول بمعنى الظنّ، كما قال ابن مالك في "الخلاصة":
وَكَـ "تَظُنُّ" اجْعَلْ "تَقُولُ" إِنْ وَلِي
…
مُسْتَفْهَمًا بِهِ وَلَمْ يَنْفَصِلِ
(1)
"تقييد المهمل" 3/ 924.
بَغَيْرِ ظَرْفٍ أَوْ كَظَرْفٍ أَوْ عَمَلْ
…
وَإِنْ بِبَعْضِ ذِي فَصَلْتَ يُحْتَمَلْ
وَأُجْرِيَ الْقَوْلُ كَظَنٍّ مُطْلَقَا
…
عِنْدَ سُلَيْمٍ نَحْوُ قُلْ ذَا مُشْفِقَا
(بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ)؛ أي: خرجت بسرعة (مِنْهُ رَاحِلَتُهُ)، وقوله:(تَجُرُّ زِمَامَهَا) جملة حَاليّة من الفاعل، (بِأَرْضٍ) متعلّق بـ "تجرّ"، (قَفْرٍ) بفتح القاف، وسكون الفاء: المفازة لا ماء بها، ولا نبات، وأرض قفر، ومفازة قَفْرَةٌ، ويجمعونها على قِفَار، فيقولون: أرض قِفَارٌ على توهّم جمع المواضع؛ لِسَعتها، ودار قَفْرٌ، وقِفَارٌ كذلك؛ والمعنى: خالية من أهلها، فإن جعلتها اسمًا ألحقت الهاء، فقلت: قَفْرَةٌ، وقال الجوهريّ: مفازة قَفْرٌ، وقَفْرَةٌ. انتهى
(1)
.
فقوله: (لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ، وَلَا شَرَابٌ) تأكيد؛ لأن هذا هو معنى القفر، وقوله:(وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرَابٌ) جملة حاليّة، (فَطَلَبَهَا حَتَّى شَقَّ عَلَيْهِ)؛ أي: أعجزه المطلب، (ثُمَّ مَرَّتْ) تلك الراحلة (بِجِذْلِ شَجَرَةٍ) بكسر الجيم، وفتحها، وبالذال المعجمة، وهو أصل الشجرة القائم، (فَتَعَلَّقَ زِمَامُهَا) بكسر الزاي؛ أي: خطام تلك الراحلة، (فَوَجَدَهَا)؛ أي: وجد الرجل الراحلة، (مُتَعَلِّقَةً بِهِ؟)؛ أي: بذلك الجذل، قال الصحابة المسؤولون:(قُلْنَا: شَدِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ)؛ أي: نظنّ فرح ذلك الرجل قويًّا، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَا) بفتح الهمزة، وتخفيف الميم: أداة استفتاح وتنبيه، كـ "ألا"، (وَاللَّهِ) فيه مشروعيّة الحلف من غير تحليف إشارة إلى تعظيم أمر المخبَر به، (لَلَّهُ) بلام الابتداء المفتوحة، (أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرَّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ") الرجل المذكور أوّلًا؛ لأن القاعدة: إذا أعيدت النكرة معرفة، فهي عين الأُولى، كما قال في "عقود الجمان":
ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ
…
إِذَا أَتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ
تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ
…
تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ
شَاهِدُهَا الَّذِي رَوينَا مُسْنَدَا
…
"لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ" أَبَدَا
وقد أجبت في "الفوائد السَّميّة" استشكال من استشكل هذه القاعدة بأنها أغلبيّة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ جَعْفَرٌ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ) أشار به إلى بيان
(1)
"المصباح المنير" 2/ 511.
اختلاف شيخيه، فيحيى بن يحيى قال في روايته:"أخبرنا عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط، عن إياد"، وخالفه جعفر بن حميد، فقال:"حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادٍ، عَنْ أَبِيهِ" فاختلفا في شيئين، أحدهما: في لفظ "أخبرنا"، و"حدَّثنا"، والثاني: في لفظ: "عن إياد"، و"عن أبيه"، وهذا مجرّد بيان ألفاظ الأداء لكلّ من الشيخين، وإلا فلا اختلاف في المعنى؛ لأن "أخبرنا" و"حدّثنا" معناهما واحد لغةً، وإن اختلافا من حيث الاصطلاح؛ إذ الأول لسماع القراءة على الشيخ، والثاني لسماع اللفظ منه.
وكذا لا اختلاف بين "عن إياد"، وبين "عن أبيه"؛ لأن إيادًا هو الأب، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6934](2746)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 283)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 257)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 271)، و (الحافظ المزيّ) في "تهذيب الكمال"(5/ 21)، و (الحافظ الذهبيّ) في "معجم المحدّثين"(1/ 255)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6935]
(2747) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنَا أنسُ بْنُ مَالِكٍ -وَهُوَ عَمُّهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا، قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ) البزاز الدُّولابيّ، أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 227)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 27.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العِجْليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ، يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل (160)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
5 -
(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4] (ت 132) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
6 -
(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالتحديث من أوله إلى آخره، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كفيّة التحمّل والأداء منه ومنهما، كما أسلفناه غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أنس رضي الله عنه الصحابيّ الجليل، من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، مات سنة (2 أو 93) وقد جاوز المائة، وهو الخادم الشهير، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركة ذلك، فكَثُر ماله، وأولاده، وطال عمره رضي الله عنه.
شرح الحديث:
عن (إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ المدنيّ؛ أنه (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه وقوله: (وَهُوَ عَمُّهُ) جملة معترضة بيّن فيها أن أنسًا رضي الله عنه عمّ إسحاق الراوي عنه؛ لأن أباه عبد اللَّه بن أبي طلحة أخ أنس من أمه أم سُليم رضي الله عنهم. (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَلَّهُ) بلام الابتداء المفتوحة، وهي مؤكّدة، (أَشَدُّ فَرَحًا) تقدّم أن الفرح صفة ثابتة للَّه سبحانه وتعالى على ظاهرها كما يليق
بجلاله من غير تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل. (بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ) متعلّق بـ "فرحًا"، (حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ)"حين" ظرف لـ "توبة"، (مِنْ أَحَدِكُمْ) متعلّق بـ "أشدّ"، (كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ) بالإضافة، وبالتنوين أيضًا، و"الفلاة": هي المفازة التي ليس فيها ما يؤكل، ولا يُشرب، وجمعها: فلًا، كحصاة وحصًى، وجمع الجمع: أفلاء، مثل سبب وأسباب
(1)
. (فَانْفَلَتَتْ)؛ أي: نفرت، وفرّت الراحلة (مِنْهُ) وقوله:(وَعَلَيْهَا)؛ أي: على ظهر راحلته (طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال من فاعل "انفلتت"، والمراد: أنه يكون حُزنه على غاية الشدّة بذهاب راحلته، وخوف هلاك نفسه من عدم الزاد والماء. (فَأَيِسَ) بفتح الهمزة، وكسر التحتانيّة، قال الفيّوميّ رحمه الله: أَيسَ أَيَسًا، من باب تَعِبَ، وكسر المضارع لغةٌ، واسم الفاعل أَيِسٌ، على فَعِلٍ، وفاعل، وبعضهم يقول: هو مقلوبٌ من يَئسَ. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ضبط الفيّومي أيس من باب تَعِب، وأما المجد فجعله من باب سمع، وعبارته: أَيِس منه، كسمع إياسًا: قَنِطَ. انتهى
(3)
.
(مِنْهَا)؛ أي: من حصول تلك الراحلة بعد طلبها، (فَأَتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ)؛ أي: نام، يقال: اضطجع، واضّجع، والأصل افتعل، لكن من العرب من يقلب التاء طاء، ويُظهرها عند الضاد، ومنهم من يقلب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يقال: اطَّجَعَ بطاء مشدّدة؛ لأنّ الضاد لا تُدغم في الطاء، فإن الضاد أقوى منها، والحرف لا يدغم في أضعف منه، وما ورد شاذّ، لا يقاس عليه، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(4)
.
(فِي ظِلِّهَا)؛ أي: في ظلّ تلك الشجرة، وقوله:(قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ)؛ أي: من حصولها، ووصولها إليه، والجملة حاليهّ من الفاعل. (فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ)؛ أي: في هذا الحال، منكسر البال، وقد تقدّم البحث في "بينا" قبل حديث، فلا تغفل، وقوله:(إِذَا) هي الفجائيّة، وهي مضافة إلى جملة: (هُوَ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 481.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 33.
(3)
"القاموس المحيط" ص 71.
(4)
"المصباح المنير" 2/ 358.
بِهَا)، وقوله:(قَائِمَةً عِنْدَهُ) حال من الضمير المجرور؛ أي: إذا الرجل حاضر بتلك الراحلة حال كونها قائمةً عنده من غير تردد في طلبها، وعليها زادُه: طعامه وشرابه، (فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا) بكسر الخاء المعجمة؛ أي: زمامها فرحًا بها فرحًا لا نهاية له، (ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ") كرره لبيان عذره، وسبب صدوره، فإن شدّة الفرح والحزن ربما يقتل صاحبه، ويُدهش عقله، حتى يمنع صاحبه من إدراك البديهيّات
(1)
.
والمعنى: أنه أراد أن يحمد اللَّه تعالى بما أنعم عليه من ردّ راحلته إليه، وقصد أن يقول: اللَّهُمَّ أنت ربي، وأنا عبدك، فسبق لسانه عن نهج الصواب، وأخطأ، وقال: اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربك، من غاية الفرح، فكان أن فرح هذا الرجل على غاية الشدّة، فكذلك رضاء اللَّه تعالى توبة عبده.
قال القاضي عياض رحمه الله: فيه أن ما قاله الإنسان من مثل هذا في حال دهشته، وذهوله لا يؤاخَذ به، وكذا حكايته عنه على طريق علميّ، وفائدة شرعيّة، لا على الهزل والمحاكاة والعبث، ويدلّ على ذلك حكاية النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان منكَرًا ما حكاه. انتهى.
وقال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: في الكلام على فوائد حديث النيّة: فيه حجة على بعض المالكية من أنهم لا يُدينون من سَبَق لسانه إلى كلمة الكفر إذا ادّعى ذلك، وخالفهم الجمهور، ويدلّ لذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أنس بن مالك في قصة الرجل الذي ضلت راحلته، ثم وجدها، فقال من شدّة الفرح: اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربك، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أخطأ من شدة الفرح".
قال: والذي جرت به عادة الحكام الْحُذّاق منهم اعتبار حال الواقع منه ذلك، فان تكرر منه ذلك، وعُرف منه وقوعه في المخالفات، وقلّة المبالاة بأمر الدِّين، لم يلتفتوا إلى دعواه، ومن وقع منه ذلك فلتة، وعُرف بالصيانة والتحفظ قَبِلوا قوله في ذلك، وهو توسط حسنٌ. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا التوسّط الذي حسّنه وليّ الدين رحمه الله هو الذي أراه؛ واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 164.
مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6935 و 1936 و 6937](2747)، و (البخاريّ) في "المدعوات"(6309)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 213)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6936]
(. . .) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَلَّهُ
(1)
أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَى بَعِيرِهِ، قَدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ -بفتح العين المهملة، وسكون الواو، وكسر الذال المعجمة- أبو عبد اللَّه، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِم [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دِعَامة السّدوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
و"أنس بن مالك رضي الله عنه" ذكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (428) من رباعيّات الكتاب.
وقوله: (إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَى بَعِيرِهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ "إذا استيقظ على بعيره"، وكذا قال القاضي عياض: إنه اتفقت عليه رواة "صحيح مسلم"، قال: وقال بعضهم: هو وَهَمٌ وصوابه: "إذا سقط على بعيره"؛ أي: وقع عليه، وصادفه من غير قصد، قال القاضي: وقد جاء في الحديث الآخر عن ابن مسعود قال: "فأرجع إلى المكان الذي كنت فيه، فأنام
(1)
وفي نسخة: "اللَّه".
حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، وعنده راحلته"، وفي كتاب البخاريّ: "فنام نومة، فرفع رأسه، فإذا راحلته عنده"، قال القاضي: وهذا يصحح رواية: "استيقظ". قال: ولكن وجه الكلام، وسياقه يدلّ على "سقط"، كما رواه البخاريّ. انتهى
(1)
.
ولفظ البخاريّ: "اللَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضلّه في أرض فلاة".
وقوله: "سقط على بعيره"؛ أي: صادفه، وعَثَر عليه من غير قصد، فظفِر به، ومنه قولهم:"على الخبير سقطت"، وحكى الكرمانيّ أن في رواية:"سقط إلى بعيره"؛ أي: انتهى إليه، والأول أَولى. انتهى.
وقوله: "وقد أضلّه"؛ أي: ذهب منه بغير قصده، قال ابن السّكّيت: أضللتُ بعيري؛ أي: ذهب مني، وضللت بعيري؛ أي: لم أعرف موضعه. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ)؛ أي: فَقَده في مفازة.
[تنبيه]: رواية قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(5950)
- حدّثنا إسحاق
(3)
، أخبرنا حَبَّان، حدّثنا هَمّام، حدّثنا قتادة، حدّثنا أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (ح) وحدّثنا هُدْبة، حدّثنا همّام، حدّثنا قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة". انتهى
(4)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6937]
(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ أَحْمَدُ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا حَبَّانُ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَحْمَدُ الدَّارِمِيُّ) هو: أحمد بن سعيد بن صَخْر، أبو جعفر
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 64.
(2)
"الفتح" 14/ 297.
(3)
هو ابن منصور الكوسج.
(4)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2325.
السَّرَخْسِيّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 253)(خ م دت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.
2 -
(حَبَّانُ) بن هلال أبو حَبِيب البصريّ، ثقة ثبتٌ [9](ت 216)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 322،
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ يعني: أن حبّان بن هلال روى هذا الحديث عن همّام بن يحيى بمثل ما حدّث به هَدّاب بن خالد عنه.
[تنبيه]: قد نزل مسلم في هذا السند بدرجة، فإن بينه وبين همّام واسطتان، بخلافه في السند الماضي، فبينه وبينه واسطة واحدة، وكذلك فَعَل البخاريّ، فساقه أولًا عن إسحاق بن منصور، عن حبّان، عن همّام إلخ، ثم ساقها عن هُدبة بن خالد، عن همّام إلخ.
والسبب في ذلك أنه وقع في السند النازل تصريح قتادة بتحديث أنس له، ووقع في السند العالي بالعنعنة، قاله في "الفتح"
(1)
.
[تنبيه]: رواية حَبّان عن همّام هذه لم أجد من ساقها إلا ما سبق من رواية البخاريّ لها بالتحويل، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.
(2) - (بَابُ التَّرْغِيبِ فِي الاسْتِغْفَارِ، وَالرَّجَاءِ: فِي سَعَةِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ عز وجل
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6938]
(2748) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ -قَاصِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلَا أَنَّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ يَغْفرُ لَهُمْ").
(1)
"الفتح" 14/ 296 - 297.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(لَيْثُ) بن سعد الفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ الإمام الشهير، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ قَاصُّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ) المدنيّ القاصّ، ثقة [6] وحديثه عن الصحابة مرسل (م ت س ق) تقدم في "الإمارة" 32/ 4874.
4 -
(أَبُو صِرْمَةَ) -بكسر أوله، وسكون الراء- المازنيّ الأنصاريّ الصحابيّ، اسمه مالك بن قيس، وقيل: قيس بن صِرْمة، وكان شاعرًا (بخ م 4) تقدم في "النكاح" 23/ 3544.
5 -
(أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ الصحابيّ الشهير، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن أبا أيوب من أكابر الصحابة، ذو مناقب جمّة، فقد شَهِد بدرًا، ونَزَل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات رضي الله عنه غازيًا بالروم رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ، قَاصِّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأمويّ) الخليفة الزاهد المعروف المتوفّى سنة في رجب سنة (101) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 4/ 46.
[تنبيه]: قوله: "قاصّ عمر بن عبد العزيز": قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "قاصّ" بالصاد المهملة المشدّدة، من القَصص، قال القاضي عياض: ورواه بعضهم: "قاضي" بالضاد المعجمة، والياء، والوجهان مذكوران فيه، وممن ذكرهما البخاريّ في "التاريخ"، ورُوي عنه قال: كنت قاصًّا لعمر بن عبد العزيز، وهو أمير بالمدينة. انتهى
(1)
.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 64.
(عَنْ أَبِي صِرْمَةَ) بكسر الصاد المهملة، وسكون الراء تقدّم الخلاف في اسمه. (عَنْ أَبِي أَيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه، (أَنَّهُ قَالَ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ)؛ أي: الموت، (كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئًا) قال النوويّ رحمه الله: إنما كتمه أوّلًا مخافة اتّكالهم على سعة رحمة اللَّه تعالى، وانهماكهم في المعاصي، وإنما حدّث به عند وفاته؛ لئلا يكون كاتمًا للعلم، وربما لم يكن أحد يحفظه غيره، فتعيَّن عليه أداؤه، وهو نحو قوله في الحديث الآخر:"فأخبر بها معاذ عند موته تأثمًا"؛ أي: خشية الإثم بكتمان العلم، وقد سبق شرحه في "كتاب الإيمان"، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
وقوله: (سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة في محلّ نصب صفة لـ "شيئًا"، وقوله:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) جملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، فكأنهم قالوا له: ما هو الشيء الذي سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجابهم بقوله:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، حال كونه (يَقُولُ:"لَوْلَا) حرف امتناع لوجود، فيها معنى الشرط، وقوله: (أَنَّكُمْ)؛ أي: أيها المكلفون، أو أيها المؤمنون، (تُذْنِبُونَ) بفتح همزة "أَنّ"؛ لوقوعها مصدريّة، والمصدر المؤوّل مبتدأ، وخبره محذوف وجوبًا؛ لسدّ جواب "لولا" مسدّه، تقديره: موجود، قال في "الخلاصة":
وَبَعْدَ "لَولَا" غَالِبًا حَذْفُ الْخَبَرْ
…
حَتْمٌ وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اسْتَقَرّ
وجواب "لولا" قوله: (لَخَلَقَ اللَّهُ خَلْقًا يُذْنِبُونَ)؛ أي: فيستغفرونه، لِمَا يأتي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (وَلَجَاءَ بقَوْمٍ) الباء للتعدية؛ أي: لأذهبكم وأفناكم، وأظهر قومًا آخرين من جنسكم، أَو من غيركم (يُذْنِبُونَ)؛ أي: يمكن وقوع الذنب منهم، ويقع بالفعل عن بعضهم، (فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ)؛ أي: فيتوبون، أو يطلبون المغفرة مطلقًا.
والمعنى: لولا إذنابكم، فوجود استغفاركم، لخلق اللَّه تعالى خلقًا يُذنبون، فيستغفرون لذنوبهم، فيغفر لهم.
فـ (يَغْفِرُ لَهُمْ") ذنوبهم؛ لاقتضاء صيغة الغفّار، والغفور ذلك، ولذا
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 64.
قال اللَّه تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10]، ولاستلزام هذه الصفة الإلهية وجود المعصية في الأفراد البشرية، والمعنى: لو كنتم معصومين كالملائكة لذهب بكم، وجاء بمن يأتي منهم الذنوب؛ لئلا تتعطل صفات الغفران والعفو، فلا تجرئة فيه على الانهماك في الذنوب.
وقال بعضهم: فيه جَعْلُ العُجْب أكبر من الذنوب؛ إذ لو لم يُذنب العبد لاستكثر فِعله، واستحسن عَمَله، فلحظ أفعاله المدخولة، وطاعاته التي هي بالمعاصي أشبه، وإلى النقص أقرب، فيرجع من كنف اللَّه وحِفظه إلى استحسان فعله، فيعجب بنفسه، فيهلك
(1)
.
[تنبيه]: ذُكر سبب لهذا الحديث، فقد أخرج ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه؛ أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم شَكَوا إليه أنّا نُصيب من الذنوب، فقال لهم:"لولا أنكم تُذنبون لجاء اللَّه بقوم يذنبون، فيستغفرون اللَّه، فيغفر لهم".
وأخرج البيهقيّ في "شعب الإيمان" عن عبد اللَّه بن عمرو قال: أنزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)} [الزلزلة: 1]، وأبو بكر قاعد، فبكى أبو بكر، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما يبكيك يا أبا بكر؟ " قال: أبكاني هذه السورة، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم لا تخطئون، ولا تذنبون، فيغفر لكم، لَخَلَق اللَّه أمة من بعدكم يخطئون، ويذنبون، فيغفر لهم"
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6938 و 6939](2748)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3533)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 414)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(230)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4/ 156)، و (البيهقيّ) في "شعب
(1)
"فيض القدير" 5/ 342 بتصرّف وزيادة.
(2)
"اللمع في أسباب ورود الحديث" ص 78.
الإيمان" (5/ 409)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق" (55/ 109)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة رحمة اللَّه ومغفرته.
2 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث خبرٌ من اللَّه تعالى عن ممكن مقدور الوقوع، مع عِلم اللَّه تعالى بأنه لا يقع، فحصل منه أن اللَّه تعالى يعلم حال المقدّر الوقوع، كما يعلم حال المحقّق الوقوع، ونحو من هذا قول اللَّه تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقد عبَّر بعض العلماء عن هذا بأن قال: إن اللَّه تعالى يعلم ما كان، وما يكون، وما لو كان كيف كان يكون، وحاصل هذا الحديث أن اللَّه تعالى سبق في علمه أنه يخلق من يعصيه، فيتوب، فيغفر له، فلو قُدِّر أن لا عاصي يظهر في الوجود لذهب اللَّه تعالى بالطائعين إلى جنّته، ولخلق من يعصيه، فيغفر له، حتى يوجد ما سبق في علمه، ويظهر من مغفرته ما تضمّنه اسمه الغفّار، ففيه من الفوائد رجاء مغفرته، والطماعية في سعة رحمته. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): ما قاله التوربشتيّ رحمه الله: لم يَرِد هذا الحديث مورد تسلية المنهمكين في الذنوب، وتوهين أمرها على النفوس، وقلة الاحتفال منهم بمواقعتها على ما يتوهمه أهل الغِزة باللَّه، فإن الأنبياء -صلوات اللَّه عليهم- إنما بُعثوا ليردعوا الناس عن غشيان الذنوب، واسترسال نفوسهم فيها، بل ورد مورد البيان لعفو اللَّه تعالى عن المذنبين، وحُسن التجاوز عنهم؛ ليعظموا الرغبة في التوبة والاستغفار.
فالمعنى المراد من الحديث: هو أن اللَّه تعالى كما أحب أن يُحسن إلى المحسن أحب أن يتجاوز عن المسيء، وقد دلّ على ذلك غير واحد من أسمائه؛ كالغفار، والحليم، والتواب، والعفوّ، فلم يكن ليجعل العِبَاد شأنًا واحدًا؛ كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالًا إلى الهوى، مفتتنًا ومتلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه،
(1)
"المفهم" 7/ 81.
ويحذره عن مداناته، ويعرّفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفّى فأجره على اللَّه، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنكم لو كنتم مجبولين على ما جُبلت عليه الملائكة لجاء اللَّه بقوم يتأتى منهم الذنب، فيتجلى عليهم بتلك الصفات على مقتضى الحكمة، فإن الغفار يستدعي مغفورًا، كما أن الرزاق يستدعي مرزوقًا. انتهى
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قال الطيبيّ رحمه الله: تصدير الكلام بالقَسَم -يعني: قوله في حديث أبي هريرة الآتي: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا. . . إلخ"- ردّ لمن يُنكر صدور الذنب عن العباد، ويعدّه نقصًا فيهم مطلقًا، وأن اللَّه تعالى لم يُرِد من العباد صدوره؛ كالمعتزلة، ومن سلك مسلكهم، فنظروا إلى ظاهره، وأنه مفسدة صِرْفة، ولم يقِفوا على سرّه أنه مستجلب للتوبة والاستغفار الذي هو موقع محبّة اللَّه تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، و"إن اللَّه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار. . ."، و"اللَّه أشد فرحًا بتوبة عبده. . ." الحديث.
ولعلّ السرّ في هذا إظهار صفة الكرم، والحلم، والغفران، ولو لم يوجد لانثلم طرف من صفات الإلهيّة، والإنسان إنما خليفة اللَّه في أرضه، يتجلّى له بصفات الجلال والإكرام، والقهر واللطف، والملائكة لمّا نظروا إلى الجلال والقهر قالوا:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30]، واللَّه تعالى حين نظر إلى صفة الإكرام واللطف قال:{إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وإلى هذا المعنى يلمح قوله صلى الله عليه وسلم:"لذهب اللَّه بكم"، ولم يكتف بقوله:"لو لم تذنبوا لجاء اللَّه بقوم يُذنبون"
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6939]
(. . .) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عِيَاضٌ -وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيُّ- حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ
(1)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 53.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1840 - 1841.
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَكُمْ، لَجَاءَ اللَّهُ بِقَوْمٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ، يَغْفِرُهَا لَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) -بفتح الهمزة، وسكون التحتانية- السعديّ مولاهم، أبو جعفر نزيل مصر، ثقةٌ فاضلٌ [10](ت 253) وله ثلاث وثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب بن مسلم الحافظ المصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيُّ) هو: عياض بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن المدنيّ، نزيل مصر، فيه لين [7](م د س ق) تقدم في "الحيض" 21/ 792.
[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لعياض هذا مع أن فيه لِيْنًا؟.
[قلت]: ما أخرج له في الأصول، وإنما أخرج له في المتابعة، والمتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ) بن رافع بن مالك بن العجلان الزُّرَقيّ الأنصاريّ المدنيّ، صدوق [4].
رَوَى عن أنس، وجابر، وعائشة، ومحمد بن كعب القُرَظيّ، وغيرهم.
وروى عنه عياض بن عبد اللَّه الفِهْريّ، وابن أبي ذئب، وابن جريج، وجماعة.
قال أحمد: ليس بمشهور بالعلم، وقال أبو حاتم: هو كما قال، وقال أبو زرعة: مدنيّ أنصاريّ، ثقة، وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المدينة، وذكره ابن حبان في "الثقات".
وقال الحافظ أبو أحمد الدمياطيّ: لا نعرف له سماعًا من ابن عمر.
تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
5 -
(مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ) هو: محمد بن كعب بن سُليم بن أسد، أبو حمزة، وقيل: أبو عبد اللَّه القُرَظيّ، من حلفاء الأوس، وكان أبوه من سبي قريظة، سكن الكوفة، ثم المدينة، ثقةٌ فقيهٌ [3].
روى عن العباس بن عبد المطلب، وعليّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وعمرو بن العاص، وأبي ذرّ، وأبي الدرداء، يقال: إن الجميع مرسَل، وعن فَضَالة بن عُبيد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وكعب بن عُجرة، وأبي هريرة، وغيره.
وروى عنه أخوه عثمان، والحكم بن عتيبة، ويزيد بن أبي زياد، وابن عجلان، وموسى بن عبيدة، وإبراهيم بن عبيد، وغيرهم.
قال ابن سعد: كان ثقةً عالمًا كثير الحديث ورِعًا، وقال العجليّ: مدنيّ تابعيّ ثقةٌ، رجل صالح، عالم بالقرآن، وقال ابن المدينيّ، وأبو زرعة: ثقةٌ، وقال البخاريّ: إن أباه كان ممن لم يُنبت يوم قريظة، فتُرك، ثم ساق بإسناده عن محمد بن كعب قال: سمعت ابن مسعود، فذكر حديثًا، وقال: لا أدري أحفظه أم لا؟ وقال أبو داود: سمع من عليّ، ومعاوية، وابن مسعود، قال: وسمعت قتيبة يقول: بلغني أنه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال الترمذيّ: سمعت قتيبة يقول: بلغني أن محمد بن كعب وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال يعقوب بن شيبة: وُلد في آخر خلافة عليّ سنة أربعين، ولم يسمع من العباس، وجاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من طرق أنه قال:"يخرج من أحد الكاهنين، رجل يدرس القرآن دراسة، لا يدرسها أحد يكون بعده"، قال ربيعة: فكنا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان: قريظة والنضير، وقال عون بن عبد اللَّه: ما رأيت أحدًا أعلم بتأويل القرآن منه، وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علمًا وفقهًا، وكان يقصّ في المسجد، فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه تحت الهدم، سنة ثماني عشرة، وأرّخه أبو بكر بن أبي شيبة، وغير واحد سنة ثمان ومائة، وقال يعقوب بن شيبة وغيره: مات سنة سبع عشرة، وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وقال ابن نمير: مات سنة تسع عشرة، وقال ابن سعد وغيره: مات سنة عشرين، وقيل غير ذلك.
قال الحافظ: وما تقدم نَقْله عن قتيبة من أنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لا حقيقة له، وإنما الذي وُلد في عهده صلى الله عليه وسلم هو أبوه، فقد ذكروا أنه كان من سبي
قريظة ممن لم يحتلم، ولم يُنبت، فخَلَّوا سبيله، حكى ذلك البخاريّ في ترجمة محمد. انتهى
(1)
.
أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.
والباقيان ذُكرا قبله.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6940]
(2749) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ، لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(جَعْفَرٌ الْجَزَرِيُّ) هو: جعفر بن بُرقان -بضم الموحّدة، وسكون الراء، بعدها قاف- الكلابيّ، أبو عبد اللَّه الرّقّيّ، صدوق يَهِمُ في حديث الزهريّ [7] (ت 150) وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ) واسمه عمرو بن عُبيد بن معاوية البكائيّ -بفتح الموحّدة، والتشديد- أبو عوف الكوفي، نزيل الرّقّة، وهو ابن أخت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنهما، يقال: له رؤية، ولا يثبت، وهو ثقة [3](ت 103)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 63/ 357.
والباقون ذُكروا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.
(1)
"تهذيب التهذيب" 3/ 684 - 685.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فيه مشروعيّة الحلف من غير استحلاف؛ إذا اقتضى المقام ذلك، وفيه إثبات اليد للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، من غير تمثيل، ولا تأويل، ولا تعطيل. (لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ) الباء للتعدية، كما في قوله:(وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ)؛ أي: آخرين من جنسكم، أو من غير جنسكم، (يُذْنِبُونَ) بضمّ أوله، من الإذناب (فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ)؛ أي: فيتوبون إلى اللَّه تعالى، ويطلبون منه مغفرته، (فَيَغْفِرُ لَهُمْ") على مقتضى وعده السابق:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]، وقوله:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} [الزمر: 53]، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 6940](2749)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 309)، و (معمر) في "الجامع"(11/ 181)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 181)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 410)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 508)، واللَّه تعالى أعلم.
(3) - (بَابُ فَضْلِ دَوَامِ الذِّكْرِ، وَالْفِكْرِ فِي أُمُورِ الآخِرَةِ، وَالْمُرَاقَبَةِ، وَجَوَازِ تَرْكِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6941]
(2750) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَقَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
قَالَ: لَقِيَني أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا
(1)
رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ، وَالأَوْلَادَ، وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَمَا ذَاكَ؟ "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُدَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ، وَالأَوْلَادَ، وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا
(2)
كَثِيرًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ، وَهي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)
(3)
.
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ) النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.
2 -
(قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ) -بنون، ومهملة، مصغرًا- أبو عباد البصريّ الْغُبَريّ -بضم الغين المعجمة، وفتح الموحّدة الخفيفة- الذارع، صدوقٌ، يُخطئ [10](م د ت) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
3 -
(جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الضُّبَعيّ -بضم المعجمة، وفتح الموحّدة- أبو سليمان البصريّ، صدوقٌ، زاهدٌ، لكنه كان يتشيع [8](ت 178)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 55/ 322.
4 -
(سَعِيدُ بْنُ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم- أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ [5] اختلط قبل موته بثلاث سنين (ت 144)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.
5 -
(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمر الكوفيّ المخضرم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
6 -
(حَنْظَلَةُ الأُسَيدِيُّ) حنظلة بن الربيع بن صَيْفيّ -بفتح الصاد المهملة،
(1)
وفي نسخة: "كأنا" بإسقاط"حتى" في الموضعين.
(2)
وفي نسخة: "فنسينا".
(3)
وفي نسخة: "ثلاث مرار".
بعدها تحتانية ساكنة- ابن رَبَاح بن الحارث التميميّ الأُسَيِّديّ، أبو ربعي المعروف بحنظلة الكاتب، وهو ابن أخي أكتم بن صيفيّ حكيم العرب، نزل الكوفة، ثم انتقل إلى قُرقيسياء.
روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه أبو عثمان النَّهْديّ، وابن ابن أخيه المرقع بن صيفي بن رباح بن الربيع، وقيس بن زهير، والحسن البصريّ، وقتادة، ولم يدركه، وغيرهم.
شَهِد مع خالد بن الوليد حروبه بالعراق، وقال ابن الْبَرْقيّ: إنما سُمِّي الكاتب؛ لأنه كتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي، وتُوُفّي بعد عليّ معتزلًا للفتنة، وقال يونس بن بكرٍ، عن محمد بن إسحاق: بَعَث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حنظلة بن الربيع ابن أخي أكتم بن صيفي إلى أهل الطائف، وقال ابن حبان: مات في أيام معاوية رضي الله عنهما.
أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وأعاده بعده.
[تنبيه]: قوله: "الأُسَيِّدِيُّ" بضم الهمزة، وفتح السين المهملة، بعدها دال مهملة: نسبة إلى أُسيّد، بطن من تميم، يقال له: أسيد بن عمرو بن تميم، قال ابن الأثير: المحدّثون يُشدّدون الياء في هذه النسبة، وأما النحاة فإنهم يسكّنونها. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنِّف رحمه الله، وأن معظمه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له إلا حديثان، هذا عند مسلم، والترمذيّ، وابن ماجه، وحديث:"كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة، فمررنا بامرأة مقتولة. . . " الحديث عند النسائيّ في "الكبرى"، وابن ماجه
(2)
.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 61.
(2)
راجع: "تحفة الأشراف" 3/ 85 - 86.
شرح الحديث:
(عَنْ حَنْظَلَةَ) بن الربيع -بفتح الراء، وكسر الموحّدة، وسكون التحتية- (الأُسَيِّدِيِّ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطوه بوجهين: أصحهما، وأشهرهما ضم الهمزة، وفتح السين، وكسر الياء المشدّدة، والثاني كذلك، إلا أنه بإسكان الياء، ولم يذكر القاضي عياض إلا هذا الثاني، وهو منسوب إلى بني أُسَيّد بطن من بني تميم انتهى
(1)
.
وقال الفَتَّني في "المغني: الأُسَيِّدي بمضمومة، ومفتوحة، وشدّة تحتية مكسورة، وسكونها، والشدة عند المحدثين؛ للأصل، وتسكينها عند أهل اللغة؛ لِلْخفة، منسوب إلى أسيد بن عمرو بن تميم بن مُرّ، ومنه حنظلة بن الربيع. انتهى.
وقال ابن عبد البرّ: بنو أُسَيِّد بن عمرو بن تميم من أشراف بني تميم، وهو أسَيِّد بكسر الياء، وتشديدها. انتهى.
وحنظلة هذا هو حنظلة بن الرَّبِيع بن صيفيّ التميمي المعروف بحنظلة الكاتب؛ لأنه كتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم الوحي، ففي مسلم، والترمذيّ من طريق أبي عثمان النَّهْدي:"عن حنظلة، وكان من كُتَّاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وهو ابن أخي أكثم بن صيفيّ حكيم العرب، وليس هو حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة، أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف، وشَهِد القادسيّة، ونزل الكوفة، وتخلَّف عن عليّ في قتال أهل البصرة يوم الجمل، ونزل قرقيسياء حتى مات في خلافة معاودة رضي الله عنهما، ولا عَقِب له
(2)
.
(قَالَ) أبو عثمان: (وَكَانَ) حنظلة هذا (مِنْ كتابِ) بضمّ الكاف: جَمْع كاتب؛ أي: كان ممن كتب الوحي لـ (رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا، وذكره القاضي عن بعض شيوخهم كذلك، وعن أكثرهم:"وكان من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وكلاهما صحيح، لكن الأول أشهر في الرواية، وأظهر في المعنى، وقد قال في الرواية التي بعد هذه: "عن حنظلة
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 65.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 802.
الكاتب". انتهى
(1)
.
(قَالَ) حنظلة: (لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، قال القاري: ولعله لما كان مغلوبًا لم يقل: لقيت أبا بكر، كما هو مقتضى الأدب
(2)
، وفي الترمذيّ:"أنه مَرّ بأبي بكر، وهو يبكي". (فَقَالَ) له أبو بكر رضي الله عنه: (كيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟) قال القاري: سؤال عن الحال؛ أي: كيف استقامتك على ما نسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أهي مجوَّدة، أم لا؟
(3)
، وقال الطيبيّ:"كيف" سؤال عن الحال؛ أي: أمستقيم على الطريق أم لا؟
(4)
. (قَالَ) حنظلة رضي الله عنه: (قُلْتُ) مجيبًا عن سؤال أبي بكر رضي الله عنه: (نَافَقَ حَنْظَلَةُ)؛ أي: صار منافقًا، وأراد: نفاق العمل، لا نفاق الاعتقاد، قال الطيبيّ رحمه الله: فيه تجريد؛ لأنَّ أصل الكلام: نافقت، فجرّد من نفسه شخصًا آخر مثله، فهو يخبر عنه؛ لِمَا رأى من نفسه ما لا يَرضَى؛ لمخالفة السر العلن، والحضور الغَيبة.
وقال الجزريّ: النفاق ضدّ الإخلاص، وأراد به في هذا الحديث: أنني في الظاهر إذا كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم أخلصت، وإذا انفردت عنه، رغبت في الدنيا، وتركت ما كنت عليه، فكأنه نوعٌ من مخالفة الظاهر للباطن، وما كان يرضى أن يسامح به نفسه، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يؤاخذون أنفسهم بأقل الأشياء.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: أنه خاف أنه منافق، حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويظهر عليه ذلك مع المراقبة، والفكر، والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة، والأولاد، ومعاش الدنيا، وأصلُ النفاق: إظهار ما يكتم خلافه من الشرّ، فخاف أن يكون ذلك نفاقًا، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلَّفون الدوام على ذلك. انتهى
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نافق حنظلة" إنكار منه على نفسه لَمّا وجد
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 65 - 66.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 149.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 149.
(4)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1731.
(5)
"شرح النوويّ" 17/ 66 - 67.
منها في خلوتها خلاف ما يظهر منها بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخاف أن يكون ذلك من أنواع النفاق، وأراد من نفسه أن يستديم تلك الحالة التي كان يجدها عند موعظة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يشتغل عنها بشيء. انتهى
(1)
.
(قَالَ) أبو بكر رضي الله عنه معتجّبًا من قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ) قال القاري: تعجبٌ، أو تبرئةٌ، وتنزيهٌ، (مَا تَقُولُ؟) قال الطيبيّ رحمه الله:"سبحان اللَّه" كلمة تعجّب، و"ما" استفهامية، وقوله:"تقول" هو المتعجَّب منه
(2)
، يعني: عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك. (قَالَ) حنظلة: (قُلْتُ: نَكُونُ)؛ أي: جميعًا على وصف الجمعية، (عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ المعنى: لا عَجَب في ذلك؛ لأنّا نكون عنده، وأتى بضمير الجمع؛ لأنَّ من المعلوم أنه لا بُدّ في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك، ولم يقل: نافقنا؛ لئلا يُتوهم العموم الشامل للخصوص
(3)
. (يُذَكِّرُنَا) بالتشديد؛ أي: يَعِظنا (بِالنَّارِ)؛ أي: بعذابها تارةً، (وَالْجَنَّةِ)؛ أي: بنعيمها أخرى؛ ترهيبًا، وترغيبًا، أو يذكّرنا اللَّه بذكرهما، أو بقربهما، (حَتَّى كَأَنَّا) وفي بعض النسخ:"كأنّا" بحذف "حتى" في الموضعين؛ أي: حتى صرنا كأنّا (رَأيَ عَيْنٍ) بالنصب؛ أي: كأنا نرى اللَّه، والجنة، والنار رأيَ عين، فهو مفعول مطلق بإضمار "نرى"، ورُوي بالرفع؛ أي: كأنا راؤون الجَنَّة والنار بِالْعين، على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل، ويصحّ كونه الخبرَ؛ للمبالغة، كرجل عدل، قال القاضي: ضبطناه "رأيُ عين" بالرفع؛ أي: كأنّا بحالِ من يراهما بعينه، قال: ويصحّ النصب على المصدر؛ أي: نراهما رأيَ عين. انتهى
(4)
.
(فَإِذَا خَرَجْنَا)؛ أي: فارقناه على وصف التفرقة، (مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ، وَالأَوْلَادَ) با لفاء، والسين المهملة؛ أي: خالطناهم،
(1)
"المفهم" 7/ 66.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1731.
(3)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 149.
(4)
"شرح النوويّ" 17/ 66.
ولاعبناهم، وعالجنا أمورهم، واشتغلنا بمصالحهم، قال الهرويّ وغيره: معناه: حاولنا ذلك، ومارسناه، واشتغلنا به؛ أي: عالجنا معايشنا، وحظوظنا.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات" هو بالفاء والسين المهملة، قال الهرويّ وغيره: معناهْ حاولنا ذلك، ومارسناه، واشتغلنا به؛ أي: عالجنا معايشنا، وحظوظنا، والضيعات: جمع ضيعة بالضاد المعجمة، وهي معاش الرجل، من مال، أو حرفة، أو صناعة، وروى الخطابيّ هذا الحرف:"عانسنا" بالنون، قال: ومعناه: لاعَبْنا، ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة، قال: ومعناه: عانَقْنا، والأول هو المعروف، وهو أعمّ. انتهى
(1)
.
(وَالضَّيْعَاتِ)؛ أي: الأراضي، والبساتين، جمع ضَيعة بالضاد المعجمة المفتوحة، وهي معاش الرجل، من مال، أو حرفة، أو صناعة. قال الهرويّ في "الغريبين": ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه، من صناعة، أو نخل، أو غَفة، أو غيرها كذلك أسمعنيه الأزهريّ، قال: شَمِر: ويدخل فيها الحرفة، والتجارة، يقال: ما ضيعتك؟ فتقول: كذا. انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عافسنا الأزواج، والأولاد، والضيعات" الرواية الصحيحة المعروفة: "عافسنا" بالعين المهملة، وبالفاء، والسين المهملة، ومعناه: عالجنا، وحاولنا، وفي "الصحاح": المعافسة: المعالجة؛ يعني: أنهم إذا خرجوا من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم "اشتغلوا بهذه الأمور، وتركوا تلك الحالة الشريفة التي كانوا يجدونها عند سماع موعظة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومشاهدته، وروى الخطابيّ هذا الحرف: "عانسنا" بالنون، وفسّره بلاعَبْنا، ورواه القتيبي: "عانشنا" بالنون والشين المعجمة، وفسّره بعانَقْنا، والتقييد الأول أَولى روايةً ومعنًى، وقد جاء مفسَّرًا في الرواية الأخرى، فقال: "ضاحكت الصبيان، ولاعبت المرأة".
والضيعات: جمع ضيعة، وهي: ما يكون معاش الرجل منه، من مال، أو حرفة، أو صناعة، وقد تقدّم ذِكرها. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 66.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 7/ 802.
(3)
"المفهم" 7/ 66 - 67.
(فَنَسِينَا كَثِيرًا)؛ أي: نسينا كثيرًا مما ذَكّرنا به، أو نسيانًا كثيرًا، كأنا ما سمعنا منه شيئًا قطّ، وهذا أنسب بقوله:"رأي عين". (قَالَ أَبُو بَكْرٍ) رضي الله عنه: إذا قلت ذلك، وذكرت بيانه، (فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا)؛ أي: من التفاوت في الحال؛ لِمَا تقرر من تأثير صحبة أهل الكمال. قال حنظلة: (فَانْطَلَقْتُ)؛ أي: ذهبت، وقوله:(أَنَا) أتى به لِيُمْكنه عطف قوله: (وَأَبُو بَكْرٍ) كما قال في "الخلاصة":
وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ
…
عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ
أَوْ فَاصِلٍ ما وَبِلَا وَصْلٍ يَرِدْ
…
فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضَعْفَهُ اعْتَقِدْ
(حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ)؛ أي: صار منافقًا (حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) فيه تجريد، كما تقدّم؛ إذ الأصل أن يقول: نافقت.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "نافق حنظلة" معناه: أنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويَظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الآخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصلُ النفاق: إظهار ما يُكتم خلافه من الشرّ، فخاف أن يكون ذلك نفاقًا، فأعلمهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق، وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، ساعةً وساعةً؛ أي: ساعة كذا، وساعة كذا. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا ذَاكَ؟ ")؛ أي: وما سبب ذلك القول؟ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأيَ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا)؛ أي: خالطنا (الأَزْوَاجَ، وَالأَوْلَادَ، وَالضَّيْعَاتِ)، وقوله:(نَسِينَا) بدل اشتمال من "عافسنا"، أو هو جواب "إذا" وجملة "عافسنا" حال، بتقدير "قد"، قاله القاري، ووقع في بعض النسخ:"فنسينا" بالفاء، وللترمذيّ:"ونسينا" بالواو. (كَثِيرًا) قال الطيبيُّ رحمه الله: أي: نسينا كثيرًا مما ذَكّرتنا به، أو نسيانًا كثيرًا، كأنا ما سمعنا منك شيئًا قط، وهذا أنسب بقوله:"رأي عين"
(2)
.
(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ لَوْ تَدُومُونَ)؛ أي: في حال
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 660 - 67.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1732.
غَيبتكم عني، وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "لو" لامتناع الشيء لامتناع غيره، فتنتفي المداومة على حالة حاصلة عند الحضور، وعلى الذكر بانتفاء مصافحة الملائكة عيانًا على الدوام. انتهى
(1)
.
(عَلَى مَا تَكونُونَ عِنْدِي)؛ أي: من صفاء القلب، والخوف من اللَّه تعالى، قاله الطيبيّ، أو من دوام الذكر، وتمام الحضور، فيكون قوله:(وَفِي الذِّكْرِ) معطوفًا على قوله: "على ما تكونون" عطفَ تفسير، وقال الطيبيّ: عَطْف على خبر "كان" الذي هو "عندي"، وقال ابن الملك: الواو بمعنى "أو" عَطْف على قوله: "ما تكونون"، أو على "عندي"؛ أي: لو تدومون في الذكر، أو على ما تكونون في الذكر، وأنتم بُعَداء مني من الاستغراق فيه، (لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ) قيل: أي: علانية، وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل، وقال ابن حجر: أي: عيانًا في سائر الأحوال، وإن كنتم (عَلَى فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ)؛ أي: في حالتَي فراغكم، وشغلكم، وفي زمان أيامكم ولياليكم؛ لأنكم إذا كنتم في الحضور والغَيبة على ما ذكرتم كنتم على أكمل الأحوال دائمًا، ومن هو كذلك مع الموانع البشرية، والقواطع النفسية، يرى الملائكة معظِّمين له في كل من الأمكنة والأزمنة
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر لصافحتكم الملائكة" هكذا صحّت الرواية بالواو العاطفة للطرف الثاني على الأول، ويفيد أنه وَقَفَ مصافحة الملائكة على حصول حالتين لنا: على حال مشاهدة الجَنَّة والنار مع ذكر اللَّه تعالى، ودوام ذلك، فيعني -واللَّه تعالى أعلم-: أن التمكن إنما هو أن يشاهد الأمور كلها باللَّه تعالى، فإذا شاهد الجَنَّة مثلًا لَمْ يحجبه ما يشاهد من نعيمها وحُسنها من رؤية اللَّه تعالى، بل لا يلتفت إليها من حيث هي جنة، بل من حيث هي أنها محل القرب من اللَّه تعالى، ومحل رؤيته، ومشاهدته، فيكون فرقه في جمعه، وعطاؤه في منعه، ومن كان كذلك ناسب الملائكة في معرفتها، فبادرت إلى إكرامه، ومشافهته،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1732.
(2)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 149.
وإعظامه، ومصافحته، والمسؤول من الكريم المتعال أن يمنحنا من صفاء هذه الأحوال. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ: قوله: "على فرُشكم، وطرقكم" يريد به الديمومة في جميع الحالات، وقال الأشرف: أي: في حالتَيْ فراغكم، وشُغلكم، وفي زمانَيْ أيامكم ولياليكم. انتهى
(2)
.
قال: وقوله: (وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ) استدراك عن هذا التعليق، وتقرير على الحالة التي كان عليها حنظلة، وأنكر عليها، ومن ثَمّ ناداه باسمه؛ تنبيهًا على أنه كان ثابتًا على الصراط المستقيم، وما نافق قط. انتهى
(3)
.
(سَاعَةً)؛ أي: كذا؛ يعني: المنا فسة، (وَسَاعَةً")؛ أي: كذا؛ يعني: المعافسة، وفي رواية:"ساعة فساعة" بالفاء، قال ابن الملك: الفاء في الساعة الثانية للإيذان بأن إحدى الساعتين معقبة بالأخرى.
والمعنى: أنه لا يكون الرجل منافقًا بأن يكون في وقت على الحضور، وفي وقت على الفتور، ففي ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم.
ويَحْتَمِل أن يكون قوله: "ساعة وساعة" للترخيص، أو للتحفظ؛ لئلا تسأم النفس عن العبادة.
وحاصله: أن هذه المداومة على ما ذكرت يا حنظلة مشقّة لا يطيقها كل أحد، فلم يكلَّف بها، وإنما الذي يطيقه الأكثرون أن يكون الإنسان على هذه الحالة ساعة، ولا عليه بأن يصرف نفسه للمعافسة المذكورة وغيرها ساعة أخرى، وأنت كذلك، فأنت على الصراط المستقيم، ولم يحصل منك نفاق قط، كما توهمته، فانته عن اعتقادك ذلك، فإنه مما يُدخله الشيطان على السالكين، حتى يغيّرهم عما هم فيه، ثم لا يزال يغيّرهم كذلك إلى أن يتركوا العمل رأسًا
(4)
.
(1)
"المفهم" 7/ 68.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1732.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1732.
(4)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 51.
وقوله: (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) وفي بعض النسخ: "ثلاث مرار"، قال القاري: وهو يَحْتَمِل أن يكون قوله: "والذي. . . إلخ"، أو قوله:"ولكن. . . إلخ"، أو قوله:"ساعة وساعة"، وإنما اختار الطيبي الأخير، لتحققه، وهذا يدل على تحقيقه. انتهى
(1)
.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ثلاث مرّات"، أي: قال: يكونون ساعةً في الحضور في الذكر، وساعةً في المعافسة ثلاث مرّات تأكيدًا لتأثير القول حتى يزيل عنه ما اتّهم به نفسه.
وقال التوربشتيّ: "ساعةً وساعةً" مُحْتَمِل للترخيص، وهو أظهر، ومُحْتَمِلٌ للحثّ على التحفّظ به، لئلا تسأم النفس عن العبادة.
وقال المظهر: معنى الحديث: لو كنتم في غَيبتي مثل ما كنتم في حضوري من صفاء القلب والخوف من اللَّه تعالى، ولو دمتم على الذكر لزارتكم الملائكة، وصافحتكم عيانًا، ولا بُدَّ من هذا القيد؛ لأنَّ الملائكة يصافحون أهل الذكر غير عِيان. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث حنظلة بن الربيع الأُسيّديّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 6941 و 6942 و 6943](2750)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2452 و 2514)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4239)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 178 و 346)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(2/ 23)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(15/ 323)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): أنه ينبغي للمؤمن أن يكون شديد الخوف من النفاق على
(1)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 52.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 5/ 1732.
نفسه، وقد ترجم البخاريّ رحمه الله على هذا في "كتاب الإيمان" من "صحيحه"، فقال:"باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وهو لا يشعر"، وقال إبراهيم التيميّ: ما عرضت قولي على عملي إلا خَشِيتُ أن أكون مُكَذِّبًا، وقال ابن أبي مليكة؛ أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحدٌ يقول: إنه على إيمان جبريل، وميكائيل، ويُذكَرُ عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنَه إلا منافق، وما يُحذر من الإصرار على النفاق، والعصيان من غير توبة؛ لقول اللَّه تعالى:{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]. انتهى
(1)
.
2 -
(ومنها): بيان ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من شدّة الخوف من النفاق، مع قوّة إيمانهم، واجتهادهم في إخلاص العمل للَّه تعالى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه الممتع "جامع العلوم والحكم": كان الصحابة رضي الله عنهم يخافون النفاق على أنفسهم، وكان عمر يسأل حذيفة عن نفسه، وسئل أبو رجاء العُطارديّ: هل أدركت من أدركت من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخشون النفاق؟ فقال: نعم إني أدركت منهم بحمد اللَّه صدرًا حسنًا، نَعَم شديدًا، نعم شديدًا، وقال البخاريّ في "صحيحه": وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ويُذكر عن الحسن قال: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمِنه إلا منافق. انتهى.
وروى الحسن: أنه حلف ما مضى مؤمن قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق غير آمن، وما مضى منافق قط، ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن، وكان يقول: من لم يَخَفْ النفاق فهو منافق، وسمع رجل أبا الدرداء يمعوذ من النفاق في صلاته، فلما سلم قال له: ما شأنك وشان النفاق؟ فقال: اللَّهُمَّ اغفر لي ثلاثًا، لا تأمن البلاء، واللَّه إن الرجل ليُفتَن في ساعة واحدة، فينقلب عن دينه.
والآثار عن السلف في هذا كثيرة جدًّا، قال سفيان الثوريّ: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث، فذكر منها، قال: نحن نقول: نفاق، وهم يقولون: لا نفاق، وقال الأوزاعيّ: قد خاف عمر النفاق على نفسه، قيل لهم: إنهم
(1)
"صحيح البخاريّ" 1/ 26.
يقولون إن عمر لم يَخَفْ أن يكون يومئذ منافقًا حتى سأل حذيفة، ولكن خاف أن يُبتلَى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع، يشير إلى أن عمر كان يخاف على النفاق على نفسه في الحال الظاهر أنه أراد أن عمر كان يخاف نفسه في الحال من النفاق الأصغر، والنفاق الأصغر وسيلة إلى النفاق الأكبر كما أن المعاصي بريد الكفر، وكما يُخشَى على من أصر على المعصية أن يُسلَب الإيمان عند الموت، كذلك يُخشَى على من أصر على خصال النفاق أن يُسلب الإيمان، فيصير منافقًا خالصًا.
وسئل الإمام أحمد: ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق؟ قال: ومن يأمَن على نفسه النفاق؟.
قال: ومن أعظم خصال النفاق العمليّ أن يعمل الإنسان عملًا، ويُظهر أنه قصد به الخير، وإنما عَمِله ليتوصل به إلى غرض له سيئ، فيتم له ذلك، ويتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وحَمْد الناس له على ما أظهره، ويتوصل به إلى غرضه السيئ الذي أبطنه، وهذا قد حكاه اللَّه في القرآن عن المنافقين واليهود، فحَكى عن المنافقين أنهم:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 107]، وأنزل في اليهود:{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)} [آل عمران: 188]، وهذه الآية نزلت في اليهود: سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه، وأخبروه بغيره، فخرجوا، وقد أَرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك، وفَرِحوا بما أوتوا من كتمانهم، وما سئلوا عنه، قال ذلك ابن عباس، وحديثه مخرَّج في "الصحيحين".
وفيهما أيضًا عن أبي سعيد: أنها نزلت في رجال من المنافقين كانوا إذا خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الغزو، وتخلفوا عنه فرحوا بمقعدهم خلافه، فإذا قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قال من غشنا فليس منا،
والمكر والخديعة في النار"
(1)
، وقد وصف اللَّه المنافقين بالمخادعة، ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله [من الخفيف]:
لَيْس دُنْيَا إِلَّا بِدِينٍ وَلَيْسَ الدْ
…
دِينُ إِلَّا مَكَارِمَ الأَخْلَاقْ
إِنَّمَا الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّا
…
رِ هُمَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ النِّفَاقْ
ولمّا تقرّر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السرّ والعلانية خَشِي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغيّر عليه حضور قلبه، ورقّته، وخشوعه عند سماع الذكر برجوعه إلى الدنيا، والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال، أن يكون ذلك منه نفاقًا، كما في "صحيح مسلم" عن حنظلة الأُسَيِّديّ: أنه مرّ به أبو بكر رضي الله عنهما. . . الحديث.
وفي "مسند البزار" عن أنس قال: قالوا: يا رسول اللَّه إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره، قال:"كيف أنتم وربّكم؟ " قالوا: اللَّه ربنا في السر والعلانية، قال:"ليس ذاكم من النفاق"
(2)
. انتهى
(3)
.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: وقول أبي بكر رضي الله عنه: "واللَّه إنا لنلقى مثل هذا" ردّ على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا يعرجون بسببها على أهل، ولا مال، ووَجْه الردّ أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس كلهم بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ومع ذلك، فلم يدّع خروجًا عن جبلّة البشرية، ولا تعاطى من دوام الذكر، وعدم الفترة ما هو خاصة الملائكة، وقد ادّعى قوم منهم دوام الأحوال، وهو بما ذكرناه شبه المحال، وإنما الذي يدوم المقامات، لكنها تتفاوت فيها المنازلات، والمقام: ما يحصل للإنسان بسعيه وكسبه، والحال: ما يحصل له بهبة ربه، ولذلك قالوا: المقامات مكاسب، والأحوال مواهب، ومن طاب وقته علا نَعْته، ومن صفا وارده طاب وِرْدُه.
(1)
رواه الطبرانيّ، وصححه ابن حبّان.
(2)
رواه البزار في "مسنده" رقم (52)، وأبو نعيم في "الحلية" 2/ 332، وذكره الهيثميّ في "المجمع" 1/ 32، وزاد نسبته إلى أبي يعلى، وقال: رجاله رجال الصحيح، انتهى.
(3)
راجع: "جامع العلوم والحكم" 2/ 491 - 495.
وعلى الجملة فسُنَّة اللَّه في هذا العالم الإنسانيّ جَعْلُ تمكينهم في تلوينهم، ومشاهدتهم في مكابدتهم، وسِرُّ ذلك أن هذا العالَم متوسّط بين عالَمَي الملائكة والشياطين، فمكّن الملائكة في الخير بحيث يفعلون ما يؤمرون، ويسبّحون الليل والنهار لا يفترون، ومكَّن الشياطين في الشرّ والإغواء، بحيث لا يغفلون، وجعل هذا العالم الإنسانيّ متلوّنًا، فيمكّنه، ويُلَوِّنه، ويُفنيه ويُبقيه، ويُشهده، ويُفقده، وإليه أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة".
وقال في حديث أبي ذرّ رضي الله عنه: "وعلى العاقل أن يكون له ساعاتٌ: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع اللَّه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب"
(1)
، هكذا الكمال، وما عداه تُرّهاتٌ وخيال. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6942]
(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَى الْبَيْتِ، فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ، وَلَاعَبْتُ الْمَرْأَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ، فَقَالَ: "مَهْ؟ "، فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ، فَقَالَ: "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ").
(1)
حديث ضعيف جدًّا، رواه أبو نعيم في "الحلية" 1/ 166 - 168، وابن حبّان في "صحيحه"(361)، وفي إسناده إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسانيّ الدمشقيّ: قال أبو حاتم: كذَّاب، وكذَّبه أبو زرعة، كما في "ميزان الاعتدال" 2/ 142 - 143، وقال الذهبيّ: متروك.
(2)
"المفهم" 7/ 67 - 68.
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ) الكوسج، تقدّم قبل باب.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ) بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتثقيل النون المضمومة- أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
3 -
(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَّرَ النَّارَ) يَحْتَمِلُ أن يكون بتخفيف الكاف، من الذكر، ويَحْتَمِل أن يكون بتشديدها، من التذكير، فقوله:"النارَ" بالنصب على المفعوليّة في الأول، وعلى نزع الخافض في الثاني؛ أي: ذكّرنا، وخوّفنا بذكر النار، وعذابها، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَقَالَ: "مَهْ؟ ") قال القاضي عياض: معناه الاستفهام؛ أي: ما تقول، والهاء هنا هي هاء السكت، قال: ويَحْتَمِل أنها للكفّ، والزجر، والتعظيم لذلك. انتهى
(1)
؛ أي: فالهاء على هذا الاحتمال جزء كلمة، فتنبّه.
والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6943]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ بهَيْنٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ حَنْظَلَةَ التَّمِيمِيِّ الأُسَيِّدِيِّ الْكَاتِبِ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَّرَنَا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا).
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 67 - 68.
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ) الكوفيّ، واسم دُكين: عمرو بن حماد بن زهير التيميّ مولاهم الأحول، أبو نعيم الْمَلائيّ -بضم الميم- مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 218 أو 219) وهو من كبار شيوخ البخاريّ (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 91.
3 -
(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا) فاعل ذَكَر ضمير سفيان الثوريّ، وضمير "حديثهما" لجعفر بن سليمان الضُّبَعيّ، وعبد الوارث بن سعيد.
[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن سعيد الْجُريريّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شُعب الإيمان"، فقال:
(1059)
- أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن عليّ بن ميمون بالرَّقَّة، ثنا الْفِرْيابيّ، والفضل بن دُكين قالا: ثنا سفيان، عن سعيد الْجُريريّ، عن أبي عثمان النَّهْديّ، عن حنظلة التميميّ الأُسَيِّديّ الكاتب، قال: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذَكَّرنا بالجنة والنار، كأنهما رأي عين، فقمت، وأتيت إلى أهلي، فضحكت، ولهوت -وفي حديث الفِرْيابيّ- ولَعِبت، فلقيت أبا بكر، فذكرت ذلك له، فقلت: يا أبا بكر نافق حنظلة، فقال أبو بكر: وما ذاك؟ فأخبرته، فقلت: كنا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكَّرنا بالجنة والنار، كأنّا رأي عين، فقمت إلى أهلي، فضحكت، ولعبت، فقال أبو بكر: إنّا لنفعل ذلك، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول اللَّه إنا إذا كنا عندك تُذَكِّرنا بالجنة والنار، كأنّا رأي عين، فقمت إلى أهلي، فضحكت، ولَعِبت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يا حنظلة ساعةً وساعةً، لو كنتم تكونون كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة في بيوتكم، وعلى فُرُشكم، يا حنظلة ساعةً وساعةً".
قال: الفريابي أتم سياقة للحديث، رواه مسلم في "الصحيح" عن زهير بن حرب، عن الفضل بن دُكين. انتهى
(1)
.
(1)
"شعب الإيمان" 2/ 23.
(4) - (بَابٌ فِي بَيَانِ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهَا سَبَقَتْ غَضَبَهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أَوَّلَ الكتاب قال:
[6944]
(2751) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَة -يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب وقبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ) وفي الرواية الثالثة: "لمّا قضى اللَّه الخلق"، ولا تنافي بين هذا وبين رواية ابن ماجه بلفظ:"قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ"؛ لإمكان حمل قوله: "لما خلق"، و"لَمّا قضى"؛ أي: أراد أن يخلق، أو أن يقضي، فهو قبل الخلق، واللَّه تعالى أعلم.
(كَتَبَ)؛ أي: كتابة حقيقيّة، لا مجازيّة، ودليل هذا رواية الترمذيّ وابن ماجه بلفظ:"كتب ربكم على نفسه بيده. . . " الحديث، فإنه ظاهر في أنه كَتَبه سبحانه وتعالى بيده، كما صحّ أنه كَتَب التوراة لموسى بيده، وقد قدّمنا غير مرّة أن الحقّ أن للَّه سبحانه وتعالى يدًا كما أثبتها لنفسه في كتابه، وأثبتها له النبيّ صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح، كهذا الحديث وغيره، أما ما ذكره في "الفتح" في "كتاب بدء الخلق"، وفي "كتاب التوحيد" في شرح هذا الحديث من التأويلات الزائفة المخالفة لطريق السلف فمما يجب الحذر عنه، ولولا مخافة التطويل لأوردته،
مع التعليق عليه، ولكن يكفي اللبيب التلميح، فإنه يفهم بالإشارة ما يفهمه الغبي بألف عبارة، ويكتفي بالقليل، والغبي لا يكفيه التطويل، ولو تُليت عليه التوراة والإنجيل.
(فِي كِتَابِهِ) يَحْتَمِل أن يكون المراد: اللوح المحفوظ، ويَحْتَمل أن يكون كتابًا آخر مختصًّا بهذا الأمر؛ تنويهًا بشأنه، ورفعًا لقدره. (فَهُوَ)؛ أي: ذلك الكتاب (عِنْدَهُ) سبحانه وتعالى عنديّة حقيقيّة على ظاهر اللفظ، على مراد اللَّه تعالى دون أن نؤوله، وقوله:(فَوْقَ الْعَرْشِ) صفة لـ "كتابه"، أو حال منه، قال في "الفتح": وقيل: إن فوق هنا بمعنى: دون، كما جاء في قوله تعالى:{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وهو بعيد. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفسير "فوق" في هذا الحديث بـ "دون" غير صحيح، وكذا تفسير ابن حبّان في "صحيحه" له بـ "تحت" حيث قال: قوله: "فوق العرش" من ألفاظ الأضداد التي تستعمل العرب في لغتها، يريد به: تحت العرش، لا فوقه، كقوله جلَّ وعلا:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79] يريد به: أمامهم؛ إذ لو كان وراءهم لكانوا قد جاوزوه، ونظير هذا قوله جلَّ وعلا:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] أراد به: فما دونها. انتهى كلامه
(2)
، غير صحيح أيضًا، فالأسلم ما ذهب إليه السلف، فإنهم يُثْبتون ما صحّ في الحديث على ظاهره، على مراد اللَّه تعالى، دون تأويل، ولا تمثيل، ولا تعطيل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فاسلك سبيلهم تَسْلم، وتَغْنم، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
وقال الخطابي: المراد بالكتاب أحد شيئين: إما القضاء الذي قضاه، كقوله تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]؛ أي: قضى ذلك، قال: ويكون معنى قوله: "فوق العرش"؛ أي: عنده علم ذلك، فهو لا ينساه، ولا يُبدله، كقوله تعالى:{فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]،
(1)
"الفتح" 17/ 409، "كتاب التوحيد" رقم (7422).
(2)
"صحيح ابن حبان" 14/ 12.
وإما اللوح المحفوظ الذي فيه ذِكر أصناف الخلق، وبيان أمورهم، وآجالهم، وأرزاقهم، وأحوالهم، ويكون معنى:"فهو عنده فوق العرش"؛ أي: ذِكره، وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج، على أنَّ العرش خَلْق مخلوق تحمله الملائكة، فلا يستحيل أن يماسُوا العرش إذا حملوه، وإن كان حامل العرش وحامل حملته هو اللَّه، وليس قولنا: إن اللَّه على العرش؛ أي: مماس له، أو متمكن فيه، أو متحيز في جهة من جهاته، بل هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به، ونفينا عنه التكييف؛ إذ ليس كمثله شيء
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مضمون كلام الخطابيّ المذكور أنه ينفي أن يكون فوق العرش كتاب؛ حيث تأول الكتاب بعلم اللَّه تعالى، وهذا غير صحيح، بل الحقّ أن اللَّه تعالى كتب كتابًا، فهو عنده فوق العرش.
وأجاد صاحب "المرعاة" حيث قال بعد ذكر كلام الخطّابيّ المذكور: قلت: هو خبر جاء به التوقيف، فقلنا به، ونفينا عنه التكييف؛ إذ ليس كمثله شيء، فالأَولى، بل المتعيَّن إمراره على ظاهره، كما جاء من غير تصرف فيه. انتهى
(2)
.
وسيأتي لبعض المحقِّقين مزيد ردّ على الخطابيّ في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى-.
وقال ابن أبي جمرة: يؤخذ من كون الكتاب المذكور فوق العرش أن الحكمة اقتضت أن يكون العرش حاملًا لِمَا شاء اللَّه من أثر حكمة اللَّه، وقدرته، وغامض غَيْبه؛ ليستأثر هو بذلك من طريق العلم، والإحاطة، فيكون من أكبر الأدلة على انفراده بعلم الغيب، قال: وقد يكون ذلك تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5]؛ أي: ما شاءه من قدرته، وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش. انتهى
(3)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: أول كلام ابن أبي جمرة حقّ، فقد أثبت الكتاب
(1)
"الفتح" 17/ 409.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 166.
(3)
"الفتح" 17/ 409.
المذكور، وأنه فوق عرشه، ثم أفسده بما ذكره في آخر كلامه، حيث فسّر قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} بأن المراد هو الكتاب المذكور، وهذا نفي لنصّ صريح بأنه تعالى قد استوى على عرشه استواء ظاهرًا كما يليق بجلاله، بأن المراد استواء هذا الكتاب، وهذا تأويل باطلٌ بلا شكّ، وقد تعقّبه الشيخ البراك، فأجاد، وأفاد، فقال:
وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطّابيّ، فإنه أثبت أن فوق العرش كتابًا، وهو مما اقتضته حكمته، وقدرته، ولكن من المنكَر في كلامه قوله: وقد يكون تفسيرًا لقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} إلخ فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى اللَّه عز وجل مجازٌ، وأن المراد به كون ذلك فوق العرش، فيؤُول معنى قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} إلى معنى: كتابه على العرش استوى، وهذا ظاهر الفساد، فإنه تحريف للكلم عن مواضعه. انتهى كلام الشيخ البرّاك
(1)
، وهو تعقّب سديد، وتحقيقٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.
(إِنَّ رَحْمَتي) بكسر الهمزة، وتفتح، فالكسر على أنها ابتداء كلام، يحكي مضمون الكتاب، والفتح على أنها مفعول "كَتَبَ"، وفي الرواية التالية:"سبقت رحمتي غضبي"، والمراد بالسبق هو الغلبة.
قيل: المعنى: أن تعلّق الرحمة غالبٌ سابقٌ على تعلّق الغضب؛ لأنَّ الرحمة مقتضى ذاته المقدّسة، وأما الغضب فإنه متوقّف على سابق عمل من العبد، وبهذا يندفع استشكال من أورد وقوع العذاب قبل الرحمة في بعض المواطن، كمن يَدخل النار من الموحّدين، ثم يَخرج بالشفاعة أو غيرها.
وقيل: معنى الغلبة: الكثرة والشمول، تقول: غلب على فلان الكرم؛ أي: أكثر أفعاله، وهذا كلّه بناءٌ على أنَّ الرحمة والغضب من صفات الذات، وهو الحقّ، وقال بعض العلماء: الرحمة والغضب من صفات الفعل، لا من صفات الذات، ولا مانع من تقدّم بعض الأفعال على بعض، فتكون الإشارة بالرحمة إلى إسكان آدم عليه السلام الجنّة أولّ ما خُلق مثلًا، ومقابلها ما وقع من
(1)
راجع: كتابة الشيخ البرَّاك على هامش "الفتح" 17/ 409 - 410.
إخراجه منها، وعلى ذلك استمرّت أحوال الأمم بتقديم الرحمة في خلقهم بالتوسيع عليهم من الرزق وغيره، ثم يقع بهم العذاب على كفرهم، وأما ما أشكل من أمر من يُعذّب من الموحّدين، فالرحمة سابقةٌ في حقّهم أيضًا، ولولا وجودها لخُلّدوا أبدًا.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: في سَبْق الرحمة بيان أن قِسْط الخَلْق منها أكثر من قِسطهم من الغضب، وإنها تنالهم من غير استحقاق، وإن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، ألا ترى أن الرحمة تشمل الإنسان جنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا، من غير أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يصدر عنه من الذنوب ما يستحق معه ذلك.
وقال الطيبيّ رحمه الله عند قوله: "لمّا قضى اللَّه الخلق" أي: لمّا خلق الخلق حكم حكمًا جازمًا ووعد وعدأ لازمًا، لا خُلف فيه بـ "إن رحمتي سبقت غضبي" شبّه حُكمه الجازم الذي لا يعتريه نسخ، ولا يتطرّق إليه تغيير حُكم الحاكم إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامه عَقَد عليه سِجِلًّا، وحفظه، عنده؛ ليكون ذلك حجة باقية، محفوظة عن التبديل والتحريف، وقوله:"فوق العرش" تنبيه على تعظيم الأمر، وجلالة القدر.
ووجه المناسبة بين قضاء الخلق وسبق الرحمة: أنهم مخلوقون للعبادة شكرًا للنعم الفائضة عليهم، ولا يقدر أحد على أداء حق الشكر، وبعضهم يقصرون فيه فسبقت رحمته في حق الشاكر بأن وفّي جزاءه، وزاد عليه ما لا يدخل تحت الحصر، وفي حق المقصر إذا تاب ورجع بالمغفرة والتجاوز، ومعنى"سبقت رحمتي": تمثيل لكثرتها وغلبتها على الغضب بفرسَي رهان تسابقتا فسبقت إحداهما على الأخرى. انتهى بتصرّف
(1)
.
وقال في "اللمعات": وذلك لأنَّ آثار رحمة اللَّه وَجُوده وإنعامه عمَّت المخلوقات كلها، وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب، فإنه ظاهر في بعض بني آدم بعض الوجوه، كما قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَ} [النحل: 18]، وقال:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]،
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1860.
وأيضًا تهاون العباد، وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى أكثر من أن يُعَدّ ويحصى، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، فمن رحمته أن يبقيهم، ويرزقهم، ويُنعّمهم بالظاهر، ولا يؤاخذهم بهذا في الدنيا، وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي:"إن للَّه مائة رحمة. . . وفيه: وأخّر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"، فإذن لا شك في أن رحمته تعالى سابقة وغالبة على غضبه. انتهى
(1)
.
وقال السنديّ رحمه الله: قوله: "كتب على نفسه" يدلّ على أنه ساق هذا الكلام على أنه وَعَدَ بأنه سيُعامل بالرحمة ما لا يُعامل بالغضب، لا أنه إخبار عن صفة الرحمة والغضب بأن الأُولى دون الثانية؛ لأنَّ صفاته كلها كاملة عظيمة، ولأن ما فَعَلَ من آثار الأُولى فيما سبق أكثر مما فَعَل من آثار الثانية.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قرّر السنديّ، لكن فيه ما المانع من كون الأولى دون الثانية، كما دلّ عليه ظاهر السياق، فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
قال: ولا يُشكل هذا الحديث بما جاء أن الواحد من الألف يدخل الجَنَّة، والبقيّة النار:
إِمّا لأنه يعامل بمقتضى الرحمة، ولا يُعامل بمقتضى الغضب، كما قال تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160]، وقال:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الآية [البقرة: 261]، وقال:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
وإِمّا لأنَّ مظاهر الرحمة أكثر من مظاهر الغضب، فإن الملائكة كلهم مظاهر الرحمة، وهم أكثر خلق اللَّه، وكذا ما خلق اللَّه في الجنة من الحور والوالدان وغير ذلك. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 166.
(2)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 1/ 123.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6944 و 6945 و 6946](2751)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3194) و"التوحيد"(7404 و 7422 و 7435 و 7553 و 7554)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3543)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 417 و 418)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(189) وفي "الزهد"(4295)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(1/ 13)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1126)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 242 و 257 و 259 و 313 و 358 و 381 و 3907 و 433 و 466)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6143 و 6144 و 6145)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 189)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(13096)، و (ابن أبي عاصم) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1/ 270)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 114) وفي "الأسماء والصفات"(ص 395 - 396 و 416)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4177)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة رحمة اللَّه تعالى، وهو كقوله عز وجل:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف: 156].
2 -
(ومنها): بيان إثبات صفة الكتابة، واليد، والرحمة، والغضب، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا التفات إلى من فسّر الغضب باللازم، فقال: هو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، كما مشى عليه في "الفتح" وغيره؛ لأنَّ ذلك من التأويلات التي مشى عليها المتأخرون من الأشاعرة وغيرهم، وهو مخالف لهدي السلف، فإن مذهبهم التمسك بظواهر الكتاب والسُّنَّة، فصفة الغضب ثابتةٌ للَّه تعالى كسائر صفاته، من المحبة، والرضا، والضحك، وغير ذلك على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فعليك بمذهب السلف تسلم، وتغنم، واللَّه تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
3 -
(ومنها): بيان إثبات كتابة الأمور في الأزل، وأن اللَّه سبحانه وتعالى عَلِم الأشياء وكَتَبها قبل أن يخلقها، فهي تكون على مقتضى ذلك، دون زيادة أو نقص.
4 -
(ومنها): ما قاله الشيخ البرَّاك -حفظه اللَّه تعالى-: هذا الحديث من
أدلّة أهل السُّنَّة على علوّ اللَّه تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه، وهو يدلّ كذلك على أنَّ الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه، وهو عنده فوق العرش، وهذه العنديّة عنديّة مكان؛ لقوله:"فوق العرش"، وهذا الكتاب يَحْتَمِل أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أمّ الكتاب، وهو كتاب المقادير، ويَحْتَمِل أن يكون غيره، فهو كتاب خاصّ، واللَّه أعلم.
قال: وعلى كلّ فلا يمتنع أن يكون الكتاب المذكور عند اللَّه تعالى فوق العرش، كما هو ظاهر الحديث، ولا موجب لتأويله بصرفه عن ظاهره، كما صنع ذلك الخطّابيّ -في كلامه السابق- حيث قال: المراد بالكتاب: أحد الشيئين. . . إلى آخر كلامه، فنفى على كل من التقديرين أن يكون فوق العرش كتاب؛ إذ تأول الكتاب بعلم اللَّه تعالى بما كَتب على نفسه، أو الذي عنده ذِكر الكتاب وعِلمه، والحامل له على هذا التأويل إما اعتقاد أن اللَّه ليس بذاته فوق العرش، فلا يكون شيء من المخلوقات عنده فوق العرش، وإما اعتقاد امتناع أن يكون شيء غير اللَّه فوق العرش، والأول باطلٌ بأدلّة العلوّ والاستواء، والثاني لا دليل عليه، بل هذا الحديث بمجموع ألفاظه يدلّ على بطلانه، فقد دلّ الحديث على أنَّ هذا الكتاب عند اللَّه فوق العرش، واللَّه تعالى أعلم بنفسه، والرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبر بذلك أعلم بربّه، فليس لأحد أن يعارض خبره صلى الله عليه وسلم. انتهى كلام البرّاك، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6945]
(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللَّهُ عز وجل: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6946]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتي تَغْلِبُ غَضَبِي").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) -بمعجمتين، وزانُ جعفر- المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.
2 -
(أَبُو ضَمْرَةَ) أنس بن عياض الليثيّ المدنيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عبد اللَّه بن سعد بن أبي ذُباب -بضم الذال المعجمة، وموحّدتين- الدَّوْسيّ المدنيّ، صدوقٌ يَهِم [5](ت 246)(عخ م مدت س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 54/ 1529.
4 -
(عَطَاءُ بْنُ مِينَاءَ) -بكسر الميم، وسكون التحتانية، ثم نون- المدنيّ، وقيل: البصريّ، أبو معاذ، صدوق [3](ع) تقدم في "الإيمان" 77/ 398.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
وقوله: (لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ) ظاهر الحديث أن الكتابة بعد الخلق، ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"إن اللَّه كتب كتابًا قبل أن يخلق الخلق" ففيه أن الكتابة قبل الخلق، فقيل: معنى قوله: "قضى الخلق" أي: أراد الخلق، وقيل: المراد من الثاني: تعلّق الخلق، وهو حادث، فجاز أن يكون بعده، وأما الأول فالمراد منه نفس الحكم، وهو أَولي، فبالضرورة يكون قبله، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ) وفي رواية البخاريّ: "وَضْعٌ عنده". قال في "العمدة": وَضْعٌ بمعنى موضوع عنده، قال الجوهريّ: وضعت الشيء من يدي وَضْعًا، ومَوْضِعًا، ومَوضُوعًا، وهو مثل المعقول؛ أي: وزنًا. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.
(1)
"عمدة القاري" 25/ 100.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6947]
(2752) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَاب، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستّة:
1 -
(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) هو: حرملة بن يحيى بن حرملة بن عمران، أبو حفص التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوق [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
2 -
(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب المصريّ، تقدّم قبل باب.
3 -
(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النجاد الأَيْليّ، أبو يزيد، مولى آل أبي سفيان، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7](ت 159) على الصحيح، وقيل: سنة (165)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.
4 -
(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
5 -
(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) بن حَزْن بن أبي وهب القرشيّ المخزوميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العلماء الأثبات، الفقهاء الكبار، من كبار [3] مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وأنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وقد اتفقوا على أنَّ مرسلاته أصحّ المراسيل، وقال ابن المدينيّ: لا أعلم في التابعين أوسع علمًا منه، وفيه أبو هريرة رأس المكثرين السبعة، روى (5374) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلمة الزهريّ (أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّب أَخْبَرَهُ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جَعَلَ اللَّهُ الرَّحمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع في نُسخ بلادنا جميعًا: "جعل اللَّه الرحمة مائة جزء"، وذكر القاضي:"جعل اللَّه الرُّحْم"، بحذف الهاء، وبضم الراء، قال: ورويناه بضم الراء، ويجوز فتحها، ومعناه: الرحمة. انتهى
(1)
.
وفي رواية للبخاريّ: "إن اللَّه خلق الرحمة مائة رحمة"، قال في "العمدة": أي: الرحمة التي جعلها في عباده وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته عز وجل، وقوله:"مائة رحمة"؛ أي: مائة نوع من الرحمة، أو مائة جزء، كما في الحديث الآخر. انتهى
(2)
.
ووقع في رواية للبخاريّ: "جعل اللَّه الرحمة في مائة جزء"، قال الكرمانيّ
(3)
: كان المعنى يتم بدون الظرف، فلعل "في" زائدة، أو متعلقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة؛ إذ جعلها مظروفًا لها معنى، بحيث لا يفوت منها شيء.
وقال ابن أبي جمرة
(4)
: يَحْتَمِل أن يكون: لَمّا مَنّ على خلقه بالرحمة جعلها في مائة وعاء، فأهبط منها واحدًا للأرض.
قال الحافظ: خَلَت أكثر الطرق عن الظرف، كرواية سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة الآتية في "الرقاق":"إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة"، ولمسلم من رواية عطاء، عن أبي هريرة:"إن للَّه مائة رحمة"، وله من حديث سلمان:"إن اللَّه خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض".
وقال القرطبيّ: يجوز أن يكون معنى "خَلَق": اخترع، وأوجد، ويجوز
(1)
"شرح النوويّ" 7/ 69 - 70.
(2)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 33/ 245.
(3)
"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 21/ 165.
(4)
"بهجة النفوس" 4/ 153 - 154.
أن يكون بمعنى قَدَّر، وقد ورد "خَلَق" بمعنى قدّر في لغة العرب، فيكون المعنى: أن اللَّه أظهر تقديره لذلك يوم أظهر تقدير السماوات والأرض.
وقوله: "كلُّ رحمة تَسَعُ طباق الأرض" المراد بها التعظيم، والتكثير، وقد ورد التعظيم بهذا اللفظ في اللغة والشرع كثيرًا
(1)
.
(فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ) زاد في رواية للبخاريّ: "جزءًا"، وفي رواية:"وأَخَّر عنده تسعة وتسعين رحمة"، وفي رواية العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة الآتية هنا:"وخبأ عنده مائة إلا واحدة". (وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا) وفي رواية المقبريّ: "وأرسل في خلقه كلّهم رحمة"، وفي رواية عطاء:"أنزل منها رحمة واحدة بين الجنّ، والإنس، والبهائم"، وفي حديث سلمان:"فجعل منها في الأرض واحدة"، قال القرطبيّ: هذا نصّ في أن الرحمة يراد بها متعلّق الإرادة، لا نفس الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم
(2)
. (فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ"). وفي رواية عطاء: "فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها"، وفي حديث سلمان:"فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش، والطير بعضها على بعض"، قال ابن أبي جمرة: خَصّ الفرس بالذِّكر؛ لأنها أشد الحيوان المألوف الذي يعاين المخاطبون حركته مع ولده، ولمَا في الفرس من الخفة والسرعة في التنقل، ومع ذلك تتجنب أن يصل الضرر منها إلى ولدها.
وزاد في حديث سلمان في آخره: "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة مائة"، وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضًا، وصرح بذلك المهلَّب، فقال: الرحمة التي خلقها اللَّه لعباده، وجعلها في نفوسهم في الدنيا هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم، قال: ويجوز أن يستعمل اللَّه تلك الرحمة فيهم، فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كل شيء، وهي التي من صفة ذاته، ولم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي خلقها لهم،
(1)
"الفتح" 13/ 543 رقم (6000).
(2)
"الفتح" 13/ 543 رقم (6000).
قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض؛ لأنَّ استغفارهم لهم دالّ على أنَّ في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض.
قال الحافظ: وحاصل كلامه: أن الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات، وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل، وهي المشار إليها هنا، ولكن ليس في شيء من طرق الحديث أن التي عند اللَّه رحمة واحدة، بل اتفقت جميع الطرق على أنَّ عنده تسعة وتسعين رحمة، وزاد في حديث سلمان:"أنه يكملها يوم القيامة مائة" بالرحمة التي في الدنيا، فتعدد الرحمة بالنسبة للخلق.
وقال القرطبيّ: مقتضى هذا الحديث: أن اللَّه عَلِمَ أن أنواع النعم التي يُنعم بها على خلقه مائة نوع، فأنعم عليهم في هذه الدنيا بنوع واحد، انتظمت به مصالحهم، وحصلت به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بقي، فبلغت مائة، وكلها للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، فإن رحيمًا من أبنية المبالغة التي لا شيء فوقها، ويُفهم من هذا أن الكفار لا يبقى لهم حظ من الرحمة، لا من جنس رحمات الدنيا، ولا من غيرها، إذا كمل كل ما كان في علم اللَّه من الرحمات للمؤمنين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الآية [الأعراف: 156].
وقال الكرمانيّ: الرحمة هنا عبارة عن القدرة المتعلقة بإيصال الخير والقدرة في نفسها غير متناهية، والتعلق غير متناه، لكن حصره في مائة على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفهم، وتقليلًا لِمَا عند الخلق، وتكثيرًا لِمَا عند اللَّه سبحانه وتعالى.
وأما مناسبة هذا العدد الخاصّ، فحكى القرطبي عن بعض الشراح: أن هذا العدد الخاصّ أُطلق لإرادة التكثير والمبالغة فيه.
وتعقبه بأنه لَمْ تَجْر عادة العرب بذلك في المائة، وإنما جرى في السبعين، كذا قال.
وقال ابن أبي جمرة: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدنيا بتسع وستين جزءًا، فإذا قوبل كل جزء برحمة، زادت الرحمات ثلاثين جزءًا، فيؤخذ منه أن الرحمة في الآخرة أكثر من النقمة فيها، ويؤيده قوله:"غلبت رحمتي غضبي".
قال الحافظ: لكن تبقى مناسبة خصوص هذا العدد، فيَحْتَمِل أن تكون مناسبة هذا العدد الخاصّ؛ لكونه مثل عدد درج الجنة، والجنة هي محل الرحمة، فكان كل رحمة بإزاء درجة، وقد ثبت أنه لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة اللَّه تعالى، فمن نالته منها رحمة واحدة كان أدنى أهل الجنة منزلة، وأعلاهم منزلة من حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى بُعد هذه المناسبات التي ذكروها هنا، فالأَولى والأوضح تفويض هذا العلم إلى عالم الغيب والشهادة، وعدم الخوض في مثله؛ إذ لم نُكلَّف بعلمه، ولم يرد نصّ نتمسّك به، ونعتمد عليه، فسلّم تسلم، وفوّض تغنم، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6947 و 6948 و 6949](2752)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6000) و"الرقاق"(6469) وفي "الأدب المفرد"(100)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3541)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4293)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 367)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 321)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6147 و 6148)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 297) وفي "مسند الشاميين"(4/ 166)، و (اللالكائي) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1197)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 457)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4179 و 4180) و"التفسير"(2/ 87)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة رحمة اللَّه سبحانه وتعالى.
2 -
(ومنها): بيان عدد أقسام الرحمة، وأنه مائة جزء، والحقّ أنه لا يَعلم حكمة التجزئة إلى هذا العدد إلا من أخبر بذلك، فالسلامة الإيمان به والتسليم.
(1)
"الفتح" 13/ 543 رقم (6000).
3 -
(ومنها): أن الرحمة المنقسمة إلى هذا العدد هي الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى، فإنها مخلوقة قابلة للتقسيم، وأما الرحمة التي هي من صفات ذاته سبحانه وتعالى، فإنها صفة قائمة به، لا تتجزّأ.
قال الشيخ البرّاك -حفظه اللَّه تعالى-: دلّت النصوص من الكتاب والسُّنَّة على أنَّ الرحمة المضافة إلى اللَّه تعالى رحمتان:
إحداهما: هي صفته، وصفاته تعالى غير مخلوقة، وإضافتها إليه تعالى من إضافة الصفة إلى الموصوف، كما قال تعالى عن نبيّ اللَّه سليمان عليه السلام:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وقال تعالى:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، وقال تعالى:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فهذان الاسمان متضمّنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدلّ على الرحمة الذاتيّة التي لم يزل، ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدلّ على الرحمة الفعليّة التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى، كما قال تعالى:{إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54]، وقال تعالى:{وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21].
وأهل السُّنَّة والجماعة يُثبتون الرحمة للَّه تعالى صفة قائمة به، والمعطّلة، ومن تبعهم ينفون حقيقة الرحمة عن اللَّه تعالى، ومنهم الأشاعرة، ويؤوّلونها بالإرادة، أو النعمة.
والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى: هي رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه هي إضافة مخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قول اللَّه تعالى:{فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} [الروم: 50]، وقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)} [آل عمران: 107]، وقوله -للجنّة- كما في الحديث القدسيّ:"أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
والرحمة المذكورة في حديث الباب هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها اللَّه عز وجل في مائة جزء، والرحمة المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته، ومقتضاها. انتهى كلام البرّاك
(1)
، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
راجع: هامش "الفتح" 13/ 544 - 545.
4 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء، والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار الإسلام، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعم اللَّه تعالى به، فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الآخرة، وهي دار القرار، ودار الجزاء، واللَّه أعلم
(1)
.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: في الحديث إدخال السرور على المؤمنين؛ لأنَّ العادة أن النفس يكمل فرحها بما وُهب لها إذا كان معلومًا مما يكون موعودًا. انتهى
(2)
.
6 -
(ومنها): وفيه الحثّ على الإيمان، واتساع الرجاء في رحمات اللَّه تعالى المدّخرة للمؤمن في الآخرة، وسيأتي في حديث أبي هريرة الآتي في الباب:"ولو يعلم الكافر ما عند اللَّه من الرحمة ما قنط من جنّته أحد"، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6948]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبِ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ: ابْنَ جَعْفَرٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ، وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً إِلَّا وَاحِدَةً").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ -بفتح الميم، والقاف، ثم موحّدة مكسورة- البغداديّ العابد، ثقةٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
2 -
(ابْنُ حُجْرٍ) -بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم- هو: عليّ بن حُجر بن إياس السَّعْديّ، أبو الحسن المروزيّ، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 68 - 69.
(2)
"بهجة النفوس" 4/ 156.
3 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.
4 -
(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن بن يعقوب الْحُرَقيّ -بضم الحاء المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف- أبو شِبْل -بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة- المدنيّ، صدوق، رُبَّما وَهِم [5] مات سنة بضع (130)(ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
5 -
(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ المدنيّ، مولى الْحُرَقة، ثقةٌ [3](ز م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقيان ذُكرا في الباب.
وقوله: (وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً)؛ أي: ستر، وحفظ، يقال: خبأت الشيءَ خَبْأً، مهموزًا، من باب نَفَعَ: سترته، وخَبّأته: حفظته، والتشديد تكثير، ومبالغة، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6949]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ للَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(عَبْدُ الْمَلِكِ) بن أبي سليمان ميسرة الْعَرْزميّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
(1)
راجع: "المصباح المنير" 1/ 163.
4 -
(عَطَاءُ) بن أبي رَبَاح أسلم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وعطاء، فمكيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "إِنَّ للَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ) قال في "المرعاة": المراد بالرحمة هنا: هي التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهى قائمة بذاته تعالى غير مخلوقة. وقال الطيبيّ رحمه الله: رحمة اللَّه تعالى لا نهاية لها، فلم يُرِد بما ذكره تحديدًا، بل تصويرًا للتفاوت بين قِسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافة المربوبين في الدنيا. انتهى.
وقال في "اللمعات": لعل المراد: أنواعها الكلية التي تحت كل نوع منها أفراد غير متناهية، أو المراد ضَرْب المثل لبيان المقصود من قلة ما عند الناس، وكثرة ما عند اللَّه تقريبًا إلى فهم الناس، أو هو من قبيل قوله:"إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة" في أن الحصر باعتبار هذا الوصف فافهم
(1)
.
(أَنْزَلَ مِنْهَا)؛ أي: من جملة المائة (رَحْمَةً وَاحِدَةً) وفي رواية: "وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة"، قال القاري: الإنزال تمثيل مشيرٌ إلى أنها ليست من الأمور الطبيعية، بل هي من الأمور السماوية، مقسومة بحسب قابلية المخلوقات. (بَيْنَ الْجِنِّ)؛ أي: بعضهم مع بعض، (وَالإِنْسِ) كذلك، (وَالْبَهَائِمِ)؛ أي: مع أولادها، (وَالْهَوَامِّ) بتشديد الميم: جمع هامّة، وهي كل ذات سم، وقد يقع على ما يَدِبّ من الحيوان، وإن لم يقتل، كالحشرات، كذا
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 171.
في "النهاية". (فَبِهَا)؛ أي: بتلك الرحمة الواحدة، وبسبب خَلْقها فيهم (يَتَعَاطَفُونَ)؛ أي: يعطف بعضهم على بعض، يقال: عَطَف يعَطِف من باب ضرب: مال، وعليه: أشفق، كتعطّف
(1)
. (وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ)؛ أي: يرحم بعضهم بعضًا، (وَبِهَا تَعْطِفُ) بكسر الطاء المهملة؛ أي: تُشفق، وتَحِنّ (الْوَحْشُ) بفتح، فسكون: حيوان البرّ، كالوَحِيش، جمعه وُحُوشٌ، ووُحْشان، والواحد: وحشيّ
(2)
. (عَلَى وَلَدِهَما)؛ أي: حين صِغرها. (وَأَخَّرَ اللَّهُ) قال الطيبيّ رحمه الله: عطفٌ على "أنزل منها رحمة"، وأظهر المستكنّ بيانًا لشدة العناية برحمة اللَّه الأخروية. انتهى. وفي رواية:"فأمسك عنده"، وفي حديث سلمان:"وخبأ عنده". (تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ)؛ أي: المؤمنين (يَوْمَ الْقِيَامَةِ")؛ أي: قبل دخول الجَنَّة وبعدها، وفيه إشارة إلى سعة فضل اللَّه تعالى على عباده المؤمنين، وإيماء إلى أنه أرحم الراحمين.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6950]
(2753) - (حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ، وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة.:
1 -
(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى) بن أبي زُهير البغداديّ، أبو صالح الْقَنْطَريّ، ثقةٌ [10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.
2 -
(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ) الْعَنبريّ البصريّ، تقدّم قبل بابين.
3 -
(سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ) ابن طرخان البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
(1)
راجع: "القاموس المحيط" ص 885.
(2)
راجع: "القاموس المحيط" ص 1385.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ) عبد الرحمن بن مْلّ بن عمرو، تقدّم في الباب الماضي.
5 -
(سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ) أبو عبد اللَّه الصحابيّ الشهير، ويقال له: سلمان الخير، أصله من أصبهان، وقيل: من رَامَهُرْمُز، أول مشاهده الخندق، مات رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين (ع) تقدم في "الطهارة" 17/ 612، وشرح الحديث وما يتعلّق به يأتي بعده -إن شاء اللَّه تعالى-.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6951]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ البصريّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.
2 -
(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل أربعة أبواب.
ووالد المعتمر هو سليمان التيمي، ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية المعتمر عن أبيه هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6952]
(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
(1)
، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ، وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
(1)
وفي نسخة: "ما بين السماء إلى الأرض".
2 -
(دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) دينار القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5] (ت 140) وقيل: قبلها (خ ت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
والباقون ذُكروا في الإسنادين السابقين، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير، و"أبو عثمان" هو النهديّ، عبد الرحمن بن ملّ.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه سلمان رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ومن المعمّرين، يقال: إنه عاش ثلاثمائة سنة، وقيل غير ذلك.
شرح الحديث:
(عَنْ سَلْمَانَ) الفارسيّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)؛ أي: أظهر تقديرها يوم أظهر تقدير السماوات والأرض، وفيه بشرى للمؤمنين؛ لأنه إذا حصل من رحمة واحدة في دار الأكدار ما حصل من النعم الغزار، فما ظنك بباقيها في دار القرار؟ (مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)؛ أي: ملء ما بينهما، ومقصوده التعظيم والتكثير، وفي بعض النسخ:"طباق ما بين السماء إلى الأرض". (فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً) قال القرطبيّ: هذا نصّ في أن الرحمة يراد بها متعلق الإرادة، وأنها راجعة إلى المنافع والنعم، (فَبِهَا تَعْطِفُ)؛ أي: تَحِنّ، وتَرِقّ، وتُشفق، وفي "الصحاح": عَطَف عليه، من باب ضرب: أشفق، وفي "المصباح": عَطَفت الناقة على ولدها عَطْفًا: حَنّت. (الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَما) من الآدميين، وكل ذي روح، (وَالْوَحْشُ، وَالطَّيْرُ)؛ أي: وغيرهما من كل نوع من أنواع ذوات الأرواح، ولعل تخصيص الوحش والطير؛ لشدة نفورها، واللَّه أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم، قال القرطبيّ: وحكمة ذلك: تسخير القويّ للضعيف، والكبير للصغير، حتى يحفظ نوعه، وتتم مصلحته، وذلك تدبير اللطيف الخبير. (بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ)"كان" هنا
تامّة، اكتفت بمرفوعها، وهو "يوم"، كما قال الحريريّ في "ملحة الإعراب":
وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ
…
فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَا إِلَى خَبَرْ
وجواب "إذا " قوله: (أَكْمَلَهَا)؛ أي: المائة، (بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ") الواحدة، فالرحمة التي في الدنيا يتراحمون بها أيضًا يوم القيامة، قال المهلّب: الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات، وهي لا تتعدّد، ورحمة من صفة الفعل، وهي هذه وقال بعضهم: الرحمة الذاتية واحدة، ورحمته المتعدية متعددة، وهي كما في هذا الخبر مائة، ففي الأرض منها واحدة، يقع بها الارتباط بين الأنواع، وبها يكون حسن الطباع والميل بين الجنِّ، والإنس، والبهائم، كل شكل إلى شكله، والتسعة والتسعون حظ الإنسان يوم القيامة، يتصل بهذه الرحمة، فتكمل مائة، فيصعد بها في درج الجنة، حتى يرى ذات الرحيم، ويشاهد رحمته الذاتية. انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث سلمان الفارسيّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ على مسلم هذه الرواية بأن أبا معاوية خالف غيره في الرفع؛ يعني: أن غيره يرويه موقوفًا على سلمان رضي الله عنه.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي أن رفع أبي معاوية هو الأرجح، كما هو رأي مسلم؛ لأنه لم ينفرد به، بل تابعه عليه سليمان التيميّ، كما في الرواية السابقة، وأيضًا له شواهد من حديث أبي هريرة وغيره، وأيضًا إن هذا مما لا يقال بالرأي
(2)
.
والحاصل: أن الحديث مرفوعًا صحيح، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6950 و 6951 و 6952](2753)، و (أحمد)
(1)
"فيض القدير" 2/ 235.
(2)
راجع: ما كتبه الشيخ ربيع في كتابه "بين الإمامين" ص 407 - 409، فقد أجاد وأفاد.
في "مسنده"(5/ 439)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6146)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6144)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 312 و 2/ 614)، و (الطبريّ) في "التفسير"(13097 و 13098)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6953]
(2754) - (حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ -وَاللَّفْظُ لِحَسَنٍ
(1)
- حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّهُ قَالَ: قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْي، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْي أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا، وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ "، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ التَّمِيمِيُّ) تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
3 -
(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن الْحَكَم بن محمد بن سالم المعروف بابن أبي مريم الْجُمَحيّ بالولاء، أبو محمد المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 224) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 22/ 188.
4 -
(أَبُو غَسَّانَ) محمد بن مُطَرِّف بن داود الليثيّ المدنيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ [6] مات بعد (160)(ع) تقدمِ في "المساجد ومواضع الصلاة" 52/ 1525.
5 -
(زيدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ مولاهم، أبو عبد اللَّه، أو أبو أسامة المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، وكان يرسل [3](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.
6 -
(أَبُوهُ) أسلم العدويّ مولى عمر بن الخطّاب، ثقةٌ مخضرمٌ مات سنة ثمانين، وقيل: بعد سنة ستين، وهو ابن أربع عشرة ومائة سنة (ع) تقدم في "الهبات" 1/ 4156.
(1)
وفي نسخة: "للحسن".
7 -
(عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) بن نُفيل بن عبد العُزّى بن رِيَاح -بتحتانية- ابن عبد اللَّه بن قُرط -بضم القاف- ابن رَزَاح -بِراء، ثم زاي خفيفة- ابن عديّ بن كعب القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين، الخليفة المشهور، استُشْهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، ووَلِي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من أبي غسّان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه رضي الله عنه جمّ المناقب، من السابقين الأولين، وثاني الخلفاء الأربعة الراشدين، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو المحدَّث، تتحدّث الملائكة على لسانه، وكان الشيطان يخاف منه، فما يسلك طريقًا إلا سلك الشيطان غيره خوفًا منه رضي الله عنه.
شرح الحديث:
(عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ قَالَ: قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بضمّ القاف، مبنيًّا للمفعول، ونائب فاعله قوله:(بِسَبْيٍ) وفي رواية: "قَدِم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ"، فـ "قَدِم" بفتح القاف، وكسر الدال مبنيًّا للفاعل، و"سبيٌ" مرفوع على الفاعليّة، و"السبي" بفتح السين المهملة، وسكون الموحّدة: الأسير، من الغلمان والجواري، وسَبَيْته سبيًا، من باب رمى: إذا حملته من بلد إلى بلد، قال المجد رحمه الله: سبى العدوّ سبيًا وسِبَاءً: أسَرَه، كاستباه، فهو سَبِيّ، وهي سَبِيّ أيضًا، جَمْعه سبايا. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ: سَبَيْتُ العدوّ سَبْيًا، من باب رَمَي، والاسم: السِّبَاءُ، وزانُ كتاب، والقصر لغةٌ، وأَسْبَيْتُهُ مثله، "الغلام سَبِيٌّ، ومَسْبِيٌّ، والجارية سَبِيَّةٌ، ومَسْبِيَّةٌ، وجَمْعها سَبَايَا، مثل عَطِيّة وعطايا، وقوم سَبْيٌ وَصْفٌ بالمصدر، قال الأصمعيّ: لا يقال للقوم إلا كذلك. انتهى
(2)
.
(1)
"القاموس المحيط" ص 592.
(2)
"المصباح المنير" 1/ 265.
وكان هذا السبي من سبي هوازن، قاله في "الفتح"
(1)
.
(فَإِذَا امْرَأَةٌ) لا يُعرف اسمها، (مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ "صحيح مسلم": "تبتغي" من الابتغاء، وهو الطلب، قال القاضي عياض: وهذا وَهَمٌ، والصواب ما في رواية البخاريّ:"تسعى" بالسين، من السعي، وتعقّبه النوويّ، قائلًا: كلاهما صواب، لا وَهَم فيه، فهي ساعية، وطالبة مبتغية لابنها، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
وفي رواية البخاريّ: "فإذا امرأة من السبي تَحْلُب ثَديَهَا، تسقي"، قال في "الفتح": كذا للمستملي، والسرخسيّ بسكون المهملة، من "تَحْلُبُ"، وضم اللام، و"ثديها" بالنصب، و"تسقي" بفتح المثناة، وبقاف مكسورة، وللباقين:"قد تَحَلَّب" بفتح الحاء، وتشديد اللام؛ أي: تهيَّأ لأنَّ يُحْلَب، و"ثديُها" بالرفع، ففي رواية الكشميهنيّ بالإفراد، وللباقين:"ثدياها" بالتثنية، وللكشميهنيّ:"بِسَقْيٍ" بكسر الموحّدة، وفتح المهملة، وسكون القاف، وتنوين التحتانية، وللباقين:"تَسْعَى" بفتح العين المهملة، من السعي، وهو المشي بسرعة.
وفي رواية مسلم عن الحلوانيّ وابن سهل كلاهما عن ابن أبي مريم: "تبتغي" بموحدة ساكنة، ثم مثناة مفتوحة، ثم غين معجمة، من الابتغاء، وهو الطلب، قال عياض: وهو وَهَمٌ، والصواب ما في رواية البخاريّ، وتعقبه النوويّ بأن كلًّا من الروايتين صواب، فهي ساعية، وطالبة لولدها، وقال القرطبيّ: لا خفاء بحسن رواية "تسعى"، ووضوحها، ولكن لرواية "تبتغي" وجه، وهو: تطلب ولدها، وحُذف المفعول للعلم به، فلا يُغَلَّط الراوي مع هذا التوجيه. انتهى
(3)
.
(إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا) من فرحها بوجدانه، وغاية محبتها له، (وَأَرْضَعَتْهُ) قال في "الفتح": كذا للجميع، ولمسلم، وحُذف منه شيء بيَّنته رواية الاسماعيليّ، ولفظه: "إذا وجدت صبيًّا أخذته، فأرضعته،
(1)
"الفتح" 13/ 541، "كتاب الأدب" رقم (5999).
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 70.
(3)
"الفتح" 13/ 541، "كتاب الأدب" رقم (5999).
فوجدت صبيًّا، فأخذته، فألزمته بطنها"، وعُرف من سياقه أنها كانت فقدت صبيّها، وتضررت باجتماع اللبن في ثديها، فكانت إذا وجدت صبيًّا أرضعته؛ ليخفّ عنها، فلما وجدت صبيّها بعينه أخذته، فالتزمته، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الصبيّ، ولا على اسم أمه. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَرَوْنَ) بضم الفوقية؛ أي: تظنون، ويَحْتَمِل أن يكون بفتح التاء، وهو أيضًا بمعنى: تظنّون
(2)
. (هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً)؛ أي: ملقيةً (وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ "، قُلْنَا: لَا وَاللَّهِ)؛ أي: لا نظن أنها طارحة، وقال القسطلانيّ: أي: لا تطرحه (وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ)؛ أي: لا تطرحه طائعة أبدًا، وقال الطيبيّ رحمه الله: الواو للحال، وصاحبها مقدَّر؛ أي: لا تكون طارحةً حال قدرتها على أن لا تطرح، وفائدة الحال: أن المرأة إذا استطاعت أن تحفظ الولد، ولم تضطرّ إلى طرحه بذلت جهدها فيه، واللَّه منزّه عن الاضطرار، فلا يطرح عبده في النار البتة. انتهى
(3)
. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "للَّهُ) بفتح اللام أوله، وهي لام التأكيد، وصرَّح بالقَسَم في رواية الإسماعيليّ، فقال:"واللَّه للَّه أرحم. . . إلخ". (أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ)؛ أي: المؤمنين، أو مطلقًا، (مِنْ هَذِهِ) المرأة (بِوَلَدِهَا") قال في "الفتح": كأن المراد بالعباد هنا: من مات على الإسلام، ويؤيده ما أخرجه أحمد، والحاكم، والبزار ورجالهم رجال الصحيح، من حديث أنس رضي الله عنه، قال: مَرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في نفر من الصحابة، وصبيّ على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعي، وتقول: ابني ابني، وَسَعَتْ فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللَّه، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال:"ولا اللَّهُ بطارح حبيبه في النار"، فالتعبير بحبيبه يُخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يَتُبْ من مرتكبي الكبائر.
(1)
"الفتح" 13/ 541.
(2)
ذكر في "حاشية الخضريّ" 1/ 132: أن الغالب في استعمال "رأى" بمعنى "ظنّ" أن تكون بصيغة المبنيّ للمفعول، وقد تكون بصيغة المبنيّ للفاعل، وتتعدى لمفعولين في الحالتين. انتهى بتصرّف.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1864.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: لفظ العباد عامّ، ومعناه خاصّ يالمؤمنين، وهو كقوله تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]، فهي عامة من جهة الصلاحية، وخاصة بمن كُتبت له، ثم ذكر ابن أبي جمرة احتمال تعميمه حتى في الحيوانات، ورجحه العينيّ، حيث قال: والظاهر أنها على العموم لمن سبق له منها نصيب من أيّ العباد كان، حتى الحيوانات على ما ورد في حديث أبي هريرة:"وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق". انتهى من "الفتح" بزيادة من "المرعاة"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلَّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6953](2754)، و (البخاريّ) في "الأدب"(5999)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 323) و"الصغير"(1/ 173)، و (البزّار) في "مسنده"(1/ 412)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 228)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 422 و 7/ 467)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان شدّة رحمة اللَّه تعالى، ورأفته بعباده.
2 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أنه ينبغي للمرء أن يجعل تعلقه في جميع أموره باللَّه تعالى وحده، وأن كُلّ من فُرض أن فيه رحمة ما يُقصد لأجلها، فاللَّه سبحانه وتعالى أرحم منه، فليقصد العاقل لحاجته من هو أشد له رحمة.
3 -
(ومنها): أن فيه ضربَ المثل بما يُدرَك بالحواسّ لِمَا لا يُدرك بها؛ لتحصيل معرفة الشيء على وجهه، وإن كان الذي ضُرب له المثل لا يحاط بحقيقته؛ لأن رحمة اللَّه لا تُدرك بالعقل، ومع ذلك فقرَّبها النبيّ صلى الله عليه وسلم للسامعين بحال المرأة المذكورة.
(1)
"الفتح" 13/ 541، و"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 189.
4 -
(ومنها): جواز النظر إلى النساء المسبيَّات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَنْه عن النظر إلى المرأة المذكورة، بل في سياق الحديث ما يقتضي إذنه في النظر إليها.
5 -
(ومنها): جواز ارتكاب أخف الضررين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه المرأة عن إرضاع الأطفال الذين أرضعتهم مع احتمال أن يكبر بعضهم، فيتزوج بعض من أرضعته المرأة معه، لكن لمّا كانت حالة الإرضاع ناجزةً، وما يُخشى من المحرمية مُتَوَهَّمٌ اغتُفْر.
6 -
(ومنها): أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وقد يُستدلّ به على عكس ذلك، فأما الأول فمن جهة أن الأطفال لولا أنهم كان بهم ضرورة إلى الإرضاع في تلك الحالة ما تركها النبيّ صلى الله عليه وسلم تُرضع أحدًا منهم، وأما الثاني وهو أقوى، فلأنه أقرّها على إرضاعهم من قبل أن تتبين الضرورة، قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6954]
(2755) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ، وَابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، أَخْبَرَنِي الْعَلَاءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ").
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل أربعة أحاديث، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ) قيل: الحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي، الإشارة إلى أنه لم يقع له علم ذلك، ولا يقع؛ لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى. (مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ) بيان لـ "ما"؛ أي: من غير التفات إلى الرحمة، (مَا طَمِعَ) بكسر
(1)
"الفتح" 13/ 541.
الميم، يقال: طَمِعَ فيه، وبه، كفَرِح طَمَعًا، وطَمَاعًا، وطَمَاعيةً: حَرَصَ عليه، قاله المجد
(1)
، وقال الفيّوميّ: طَمِعَ في الشيء طَمَعًا، وطَمَاعَة، وطَمَاعِيَةً، مخففًا، فهو طَمِعٌ، وطَامِعٌ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَطْمَعْتُهُ، وأكثر ما يُستعمل فيما يقرُب حصوله، وقد يُستعمل بمعنى الأمل، ومن كلامهم: طَمِعَ فِي غَيْرِ مَطْمَع: إذا أمل ما يبعد حصوله؛ لأنه قد يقع كل واحد موقع الآخر؛ لتقارب المعنى. انتهى
(2)
.
(بِجَنَّتِهِ) وللترمذيّ: "في الجنة"، (أَحَدٌ)؛ أي: من المؤمنين فضلًا عن الكافرين، ولا بُعد أن يكون "أحد" على إطلاقه من إفادة العموم؛ إذ تصوُّر ذلك وحده يوجب اليأس من رحمته، وفيه بيان كثرة عقوبته؛ لئلا يغترّ مؤمن بطاعته، أو اعتمادًا على رحمته، فيقع في الأمن، {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. (وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ) من القنوط، وهو اليأس، من باب نصر، وضرب، وسمع، (مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ")؛ أي: من الكافرين.
قال الطيبيّ: الحديث في بيان صفتي القهر والرحمة للَّه تعالى، فكما أن صفات اللَّه تعالى غير متناهية لا يبلغ كُنه معرفتها أحد، كذلك عقوبته ورحمته، فلو فُرض أن المؤمن وقف على كُنه صفته القهارية لَظَهر منها ما يقنط من ذلك الخواطر، فلا يطمع بجنته أحد، وهذا معنى وضع "أحد" موضع ضمير "المؤمن"، ويجوز أن يراد بالمؤمن الجنس على سبيل الاستغراق، فالتقدير: أحد منهم، ويجوز أن يكون المعنى على وجه آخر، وهو أن المؤمن قد اختص بأن يطمع في الجنة، فإذا انتفى الطمع منه، فقد انتفى عن الكل، وكذلك الكافر مختص بالقنوط، فإذا انتفى القنوط عنه، فقد انتفى عن الكل.
وورد الحديث في بيان كثرة رحمته وعقوبته؛ كيلا يغترّ مؤمن برحمته، فيأمَن من عذابه، ولا ييأس كافر من رحمته، ويترك بابه.
وحاصل الحديث: أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف بمطالعة
(1)
"القاموس المحيط" ص 812.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 378.
صفات الجمال تارةً، وبملاحظة نعوت الجلال أخرى، كذا في "المرقاة"
(1)
.
وقال في "اللمعات": سياق الحديث لبيان صفتي اللطف والرحمة والغضب، وعدم بلوغ أحد إلى كنههما، فلو عَلِم المؤمنون الذين هم مظاهر رحمة اللَّه ما عند اللَّه من القهر ما طمع أحد منهم الجَنَّة، وكذا في الكافرين، وهذا مقصود آخر لا ينافي سَبْق رحمته على غضبه بالمعنى الذي سبق. انتهى
(2)
.
وقد ذكر البخاريّ هذا الحديث مع حديث أبي هريرة رضي الله عنه الماضي: "جعل الرحمة مائة جزء. . . " الحديث، ولفظه: من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند اللَّه من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند اللَّه من العذاب لم يأمن من النار". انتهى
(3)
.
قال في "الفتح": قوله: "فلو يعلم الكافر" كذا ثبت في هذه الطريق بالفاء؛ إشارةً إلى ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ومن ثَمّ قَدَّم ذِكر الكافر؛ لأن كثرتها وَسَعتها تقتضي أن يطمع فيها كل أحد، ثم ذكر المؤمن استطرادًا.
قال: والحكمة في التعبير بالمضارع دون الماضي الإشارة إلى أنه لم يقع له عِلم ذلك، ولا يقع؛ لأنه إذا امتنع في المستقبل كان ممتنعًا فيما مضى.
وقوله: "بكل الذي" استُشكل هذا التركيب؛ لكون "كل" إذا أضيفت إلى الموصول كانت إذ ذاك لعموم الأجزاء، لا لعموم الأفراد، والغرض من سياق الحديث تعميم الأفراد.
وأجيب بأنه وقع في بعض طرقه أن الرحمة قُسمت مائة جزء، فالتعميم حينئذ لعموم الأجزاء في الأصل، أو نُزِّلت الأجزاء منزلة الأفراد مبالغة.
(1)
"المرقاة" 5/ 251.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 174.
(3)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2374.
وقوله: "لم ييأس من الجنة" قيل: المراد أن الكافر لو عَلِم سعة الرحمة لَغَطَّى على ما يعلمه من عِظَم العذاب، فيحصل له الرجاء، أو المراد: أن متعلَّق علمه بسعة الرحمة مع عدم التفاته إلى مقابلها يُطمعه في الرحمة.
قيل: في الجملة الأُولى نوع إشكال، فإن الجنة لم تُخلق للكافر، ولا طَمَع له فيها، فغير مستبعَد أن يطمع في الجنة من لا يعتقد كُفْر نفسه، فيُشكل ترتب الجواب على ما قبله.
وأجيب بأن هذه الكلمة سيقت لترغيب المؤمن في سعة رحمة اللَّه التي لو علمها الكافر الذي كُتب عليه أنه يختم عليه أنه لا حظ له في الرحمة لتطاول إليها، ولم ييأس منها، إما بإيمانه المشروط، وإما لِقَطْع نَظَره عن الشرط مع تيقنه بأنه على الباطل، واستمراره عليه عنادًا، وإذا كان ذلك حال الكافر، فكيف لا يطمع فيها المؤمن الذي هداه اللَّه للإيمان؟
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متَّفق عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6954](2755)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6469)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3542)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 334 و 484)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(345 و 656)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 392)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 157)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(2/ 4)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4180)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة رحمة اللَّه سبحانه وتعالى، بحيث إنه لو يعلم الكافر به حقيقة لَمَا قنط من الجنّة، وقد ورد أن إبليس يتطاول للشفاعة لِمَا يرى يوم القيامة من سعة الرحمة، أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، من حديث جابر، ومن حديث حذيفة، وسند كل منهما ضعيف
(2)
.
(1)
"الفتح" 11/ 202.
(2)
"الفتح" 11/ 202.
2 -
(ومنها): بيان شدّة عقوبة اللَّه عز وجل، بحيث إن المؤمن لو علم بحقيقته، لَمَا طمع في الجنّة، وقريب من هذا الحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه الآخر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لَمّا خلق اللَّه الجنة والنار، أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاء، فنظر إليها، وإلى ما أعدَّ اللَّه لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها، فحُفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها، فإذا هي قد حُفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، وقال: اذهب إلى النار، فانظر إليها، وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها، فإذا هي يركب بعضها بعضًا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد، فيدخلها، فأَمر بها، فحُفّت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد، إلا دخلها"، رواه أبو داود، والنسائيّ، والترمذيّ، واللفظ له، وقال: حديث حسن صحيح.
3 -
(ومنها): أن الكرمانيّ رحمه الله تكلّم هنا على "لو" بما حاصله: أنها هنا لانتفاء الثاني، وهو الرجاء لانتفاء الأول، وهو العلم، فأشبهت: لو جئتني أكرمتك، وليست لانتفاء الأول لانتفاء الثاني، كما بحثه ابن الحاجب في قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والعلم عند اللَّه، قال: والمقصود من الحديث: أن المكلَّف ينبغي له أن يكون بين الخوف والرجاء، حتى لا يكون مُفَرِّطًا في الرجاء، بحيث يصير من المرجئة القائلين: لا يضرّ مع الإيمان شيء، ولا في الخوف بحيث لا يكون من الخوارج، والمعتزلة القائلين بتخليد صاحب الكبيرة إذا مات من غير توبة في النار، بل يكون وسطًا بينهما، كما قال اللَّه تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57]، ومن تتبع دين الإسلام وجد قواعده أصولًا وفروعًا كلها في جانب الوسط، واللَّه أعلم.
4 -
(ومنها): أن الحديث قد اشتمل على الوعد والوعيد المقتضيين للرجاء والخوف، فمن عَلِم أن من صفات اللَّه تعالى الرحمة لمن أراد أن يرحمه، والانتقام ممن أراد أن ينتقم منه، لا يأمن انتقامه من يرجو رحمته،
ولا ييأس من رحمته من يخاف انتقامه، وذلك باعث على مجانبة السيئة، ولو كانت صغيرة، وملازمة الطاعة، ولو كانت قليلة، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6955]
(2756) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ ابْنُ بِنْتِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، فَي الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطُّ لأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ، ثُمَّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ، فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَحْرَ، فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ يَا رَبِّ، وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقِ ابْنُ
(1)
بِنْتِ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ) هو: محمد بن محمد بن مرزوق الباهليّ نُسِب لجدّه مرزوق، صدوقٌ له أوهام [11](ت 248)(م، ق) تقدم في "الحج" 59/ 3184.
2 -
(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسّان القَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.
3 -
(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.
والباقون ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من مالك، والباقيان بصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، قد سبق القول فيه قريبًا.
(1)
قوله: "ابنُ بنت" برفع "ابن" صفة لمحمد، فما وقع في النسخ المطبوعة مضبوطًا بالجرّ غلطٌ، فتنبّه.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ)؛ أي: ممن كان قبلنا، ففي حديث أبي سعيد الخدريّ:"أن رجلًا كان قبلكم رزقه اللَّه مالًا"، وفي رواية له:"ذكر رجلًا فيمن سلف، أو فيمن كان قبلكم"، وصرح في حديث حذيفة، وأبي مسعود عند الطبرانيّ أنه كان من بني إسرائيل، ولذلك أورد البخاريّ حديث أبي سعيد، وحذيفة، وأبي هريرة في ذِكر بني إسرائيل، قيل: اسم هذا الرجل جهينة، فقد أخرج أبو عوانة في "صحيحه" من حديث حذيفة، عن أبي بكر الصديق أن الرجل المذكور في حديث الباب هو آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة، وقد وقع في "غرائب مالك" للدارقطني من طريق عبد الملك بن الحكم، وهو واهٍ، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، رفعه:"إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له: جهينة، فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين"، وحكى السهيلي أنه جاء أن اسمه هنّاد، قاله في "الفتح"
(1)
.
وقوله: (لَمْ يَعْمَلْ) صفة "رجلٌ"(حَسَنَةً قَطُّ) ولفظ البخاريّ: "خيرًا قط"؛ أي: عملًا صالحًا بعد الإِسلام، قال الباجيّ: ظاهر أن العمل ما يتعلق بالجوارح، وهو العمل، وإن جاز أن يُطلق على الاعتقاد على سبيل المجاز والاتساع، فقوله صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل: إنه لم يعمل شيئًا من الحسنات التي تعمل بالجوارح، وليس فيه إخبار عن اعتقاد الكفر، وإنما يُحمل هذا الحديث على أنه اعتقد الإيمان، ولكنه لم يأت من شرائعه بشيء، فلما حضره الموت خاف تفريطه، فأمر أهله أن يحرقوه. انتهى.
قال المباركفوريّ: وقع في رواية أحمد 2/ 304: "كان رجل ممن كان قبلكم، لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد"، وهكذا وقع استثناء التوحيد في حديث ابن مسعود أيضًا عن أحمد 1/ 398، ورواية الباب وإن لم يذكر فيها هذا الاستثناء صريحًا لكنها كالصريح في ذِكره؛ لإطباق الروايات على ذِكر خشيته، وخوفه من عذابه، وغفرانه تعالى. انتهى
(2)
.
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
وفي رواية "أسرف رجل على نفسه"؛ أي: بالغ في فعل المعاصي، وهذا لفظ مسلم، وللبخاريّ:"كان رجل يسرف على نفسه"، وفي حديث حذيفة عند البخاريّ:"إنه كان يسيء الظن بعمله"، وفي حديث أبي سعيد عند الشيخين:"فإنه لم يبتئر عند اللَّه خيرًا"، وفسَّرها قتادة: لم يَدَّخِر، ووقع في آخر حديث حذيفة عند البخاريّ: قال عقبة بن عمرو أبو مسعود: وأنا سمعته -يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، وكان نباشًا -أي: للقبور- يسرق أكفان الموتى، قال الحافظ: قوله: "وكان نباشًا" هو من رواية حذيفة، وأبي مسعود معًا، كما يدلّ عليه رواية ابن حبان.
ووقع في رواية للطبراني بلفظ: "بينما حذيفة وأبو مسعود جالسين، فقال أحدهما: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجلًا من بني إسرائيل كان ينبش القبور".
وقوله: (لأَهْلِهِ) متعلّق بـ "قال"، (إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ) بصيغة الأمر من التحريق، وفي الرواية التالية:"فأحرقوه" من الإحراق، ومقتضى السياق أن يقول: إذا مت فحرّقوني، لكنه على طريق الالتفات، قال الطيبيّ: قوله: "إذا مات. . . إلخ" مقول "قال" على الرواية الأُولى، ومعمول "أوصى" على الرواية الأخرى، فقد تنازعا فيه في عبارة الكتاب. انتهى.
(ثُمًّ اذْرُوا) يجوز فيه وصل الهمزة، وقَطْعها من الثلاثي المجرد، والمزيد، يقال: ذَرَت الريح التراب وغيره تَذْرُوه ذروًا وذريًا وذَرّته: أطارته، وسفّته، وأذهبته، وفرّقته بهبوبها، قال الحافظ: بهمز قَطْع وسكون المعجمة، مِن: أذرت العين دمعها، وأذريت الرجل عن الفرس، وبالوصل مِن: ذروت الشيءَ، ومنه:{تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45].
وفي رواية: "ثم اطحنوني، ثم ذُرُّوني" بضم المعجمة، وتشديد الراء، من الذرّ؛ أي: فرّقوني. وفي حديث حذيفة عند البخاري في "الرقاق": "فذروني"، قال الحافظ: بالتخفيف بمعنى الترك، وبالتشديد بمعنى التفريق، وهو ثلاثيّ مضاعف، تقول: ذررت الملح أَذُرّه، ومنه الذريرة نوع من الطِّيب. قال ابن التين: ويَحْتَمِل أن يكون بفتح أوله، وكذا قرأناه، ورويناه بضمها، وعلى الأول هو من التذرية، وعلى الثاني من الذرّ. انتهى.
(نِصْفَهُ)؛ أي: نصف رماده (فِي الْبَرِّ، وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ) وفي حديث حذيفة: "إذا أنا مت، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، وأوقدوا فيه نارًا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي، فامتحشت، فخذوها، فاطحنوها، ثم انظروا يومًا راحًا
(1)
، فاذروه في اليمّ. . ." الحديث.
وفي حديث أبي سعيد: "فإذا مت فاحرقوني: حتى إذا صرت فحمًا، فاسحقوني -أو قال-: فاسهكوني، ثم إذا كان ريح عاصف، فاذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك".
قال الباجيّ: وذلك على وجهين:
أحدهما: على وجه الفرار مع اعتقاده أنه غير فائت، كما يفرّ الرجل أمام الأسد، مع اعتقاده أنه لا يفوته سَبْقًا، ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله.
والوجه الثاني: أن يفعل هذا خوفًا من الباري تعالى، وتذللًا ورجاء أن يكون هذا سببًا إلى رحمته، ولعله كان مشروعًا في ملته. انتهى
(2)
.
(فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ) بتخفيف الدال، وتشديدها، من القَدْر، بمعنى التضييق، أو بمعنى القضاء، لا من القدرة والاستطاعة. (لَيُعَذِّبَنَّهُ) بنون التوكيد المشدّدة، (عَذَابًا)؛ أي: تعذيبًا (لَا يُعَذِّبُهُ)؛ أي: ذلك العذاب، (أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)؛ أي: من الموحدين.
وقد استُشكل هذا الحديث؛ لأن صنيع الرجل، وقوله ظاهر في الشكّ في قدرة اللَّه تعالى على البعث والإحياء، والشك في القَدَر كُفر، وقد قال في آخر الحديث:"خَشْيَتك، وغفر له"، والكافر لا يخشاه، ولا يُغفر له.
واختُلف في تأويله، فقيل: إن "قدَر" بالتخفيف بمعنى ضَيّق، ومنه قوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] بالتخفيف، والتشديد، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، والمعنى: لئن ضيَّق اللَّه عليه، وناقشه في حساب.
وقيل: المعنى: لئن قَدَر عليه العذاب؛ أي: قضى، من قَدَر بالتخفيف،
(1)
أي: كثير الريح وشديده.
(2)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
والتشديد، بمعنى واحد؛ أي: لئن قدر عليه أن يعذبه ليعذبنه، ولكن هذا كالذي قبله معنى غير مناسب للسوق أصلًا، مع أنه وقع في حديث معاوية بن حيدة عند أحمد 4/ 447 و 5/ 3، 4:"ثم اذروني في الريح، لعلي أضلّ اللَّه عز وجل"؛ أي: أغيب عنه، وأفوته، يقال: ضل الشيءُ: إذا فات وذهب، وهو كقوله تعالى:{لَا يَضِلُّ رَبِّي} [طه: 52]، وهذا يدلّ على أن قوله:"لئن قدر اللَّه عليه" على ظاهره، وأنه أراد التمنع بالتحريق من قدرة اللَّه، ومع ذلك أخبر الصادق بغفرانه، فلا بد من وجه يمكن القول بإيمانه، فقيل: مقصود الرجل بهذه الوصية: إن فرقوا أجزائي في البرّ والبحر بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جَمْعها، فيَحْتَمِل أنه رأى أن جَمْعه حينئذٍ يكون مستحيلًا، والقدرة لا تتعلّق بالمستحيل، فلذلك قال:"فلئن قدر اللَّه عليه"، فلا يلزم أنه نفى القدرة، أو شك فيها، فصار بذلك كافرًا، فكيف يغفر له؟ وذلك أنه ما نفى القدرة على ممكن، وإنما فَرَض غير المستحيل مستحيلًا فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة، والكفر هو الأول لا الثاني.
وقيل: إن الرجل ظن أنه إذا فعل هذا الصنيع تُرك فلم يُنْشَر، ولم يعذَّب، وأما تلفّظه بقوله:"لئن قدر اللَّه"، وبقوله:"فلعلي أضل اللَّه" فلأنه كان جاهلًا بذلك.
وقد اختُلف في مثله، هل يكفر أم لا؟ بخلاف الجاحد للصفة.
قال الخطابيّ: إنه لم ينكر البعث، وإنما جهل، فظن أنه إذا فُعل به ذلك لا يعاد، فلا يعذَّب، وقد ظهر إيمانه باعترافه بأنّه إنما فعل ذلك من خشية اللَّه.
وقيل: كان هذا الرجل موحّدًا مثبتًا للصانع، وكان في زمن الفترة حين ينفع مجرد التوحيد، ولم تبلغه شرائط الإيمان، ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح؛ لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقيل: إنما وصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها، وإسرافها؛ رجاء أن يرحمه، فيغفر له، وهذا يؤيد أن قوله:"لئن قدر" بمعنى ضيّق، وقيل: لقي من هول المطلع ما أدهشه، وسَلَب عقله، فلم يتمكن من تمهيد القول، وتخميره، فبادر بسَقْط من القول، وأخرج كلامه مخرجًا لم يعتقد حقيقته.
قال التوربشتيّ: وهذا أسلم الوجوه، وقال الطيبيّ: وهو كلام صدر عن غلبة حيرة، ودهشة، من غير تدبر في كلامه، كالغافل، والناسي، فلا يؤاخذ فيما قال، قال القاري: هذا هو الظاهر من الحديث كما سيأتي حيث قال تعالى: "لِمَ فعلت؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم".
وقيل: ذلك لا يؤاخذ عليه، وقال السنديّ: يَحْتَمِل أن شدة الخوف طيَّرت عقله، فما التفت إلى ما يقول، وما يفعل، وأنه هل ينفعه أم لا؟، كما هو المشاهَد في الواقع في مهلكة، فإنه قد يتمسك بأدنى شيء لاحتمال أنه لعله ينفعه؛ إذ هو فيما قال، وفَعَل في حُكْم المجنون. انتهى.
وجعل الحافظ هذا القول أظهر الأقوال، حيث قال: وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته، وغلبة الخوف عليه، حتى ذهب بعقله لِما يقول، ولم يقله قاصدًا لحقيقة معناه، بل في حالة كان فيها كالغافل، والذاهل، والناسي الذي لا يؤاخَذ بما يصدر منه، قال: وأبعد الأقوال قول من قال: إنه كان في شَرْعهم جواز المغفرة للكافر. انتهى.
وقال ابن أبي جمرة: كان الرجل مؤمنًا؛ لأنه قد أيقن بالحساب، وإن السيئات يعاقَب عليها، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزًا في شرعهم لتصحيح التوبة، فقد ثبت في شرع بني إسرائيل قَتْلهم أنفسهم، وقيل: ظن هذا الرجل أن اللَّه تعالى إن وجده على حاله وهيئته يعذبه شديدًا، وإذا وجده محترقًا مطحونًا مفرقًا، فلعله يرحمه، ويُشفق عليه؛ لتحمّله تلك المشاقّ والشدائد، كما هو دأب الموالي الكرماء، فإنهم إذا وجد أحدهم عبده المسيء في مرض، أو شدة رَحِمه، وعَطَف عليه، ورضي عنه، وإن كان قبل ذلك ساخطًا عليه، وغضبان، واللَّه تعالى أعلم
(1)
.
(فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ) الموصي بذلك، (فَعَلُوا)؛ أي: أهله، أو بَنُوه، (مَا أَمَرَهُمْ) به، من التحريق وغيره، (فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ، فَجَمَعَ مَا فِيهِ)؛ أي: من أجزاء الرجل، (وَأَمَرَ الْبَحْرَ، فَجَمَعَ مَا فِيهِ)؛ أي: من أجزائه أيضًا، وفي رواية:"فأمر اللَّه تعالى الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم"،
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
وفي حديث أبي سعيد: "فقال اللَّه: كن، فإذا رجل قائم"، وفي حديث سلمان الفارسيّ عند أبي عوانة في "صحيحه":"فقال اللَّه له: كن، فكان كأسرع من طرفة العين"، وهذا جميعه كما قال ابن عقيل: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله: فجمعه اللَّه؛ لأن التحريق، والتفريق، إنما وقع على الجسد، وهو الذي يُجمع، ويعاد عند البعث. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا داعي إلى صرف ظاهر الحديث بهذا التأويل، فإن الحديث ظاهر في كون هذا الأمر بعد أن فَعل الرجل ما أَمر به مباشرة، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.
(ثُمَّ قَالَ) اللَّه عز وجل للرجل: (لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟)؛ أي: ما ذُكر من الوصية الجائرة، وفي رواية:"ما حملك على ما صنعت؟ "(قَالَ) الرجل: (مِنْ خَشْيَتِكَ)؛ أي: فعلتُ ما فعلتُ من أجل خشيتي لعذابك (يَا رَبِّ) وفي حديث حذيفة: "ما حملني إلا مخافتك"، (وَأَنْتَ أَعْلَمُ) بقصدي من ذلك، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: وهذا دليل على إيمانه؛ إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن، بل لعالم، قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، وقد رُوي الحديث بلفظ:"قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد"، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمانه، والأصول تعضدها:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].
قلت
(2)
: الخشية من لوازم الإيمان، ولمّا كان فعله هذا من أجل خشية اللَّه تعالى، وخوفه، فلا بد من القول بإيمانه، وعلى هذا فالحديث ظاهر، بل هو كالصريح في استثناء التوحيد، كما تقدم، فلا إشكال فيه.
(فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ") وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "فما تلافاه أن رحمه"؛ أي: تداركه، و"ما" موصولة؛ أي: الذي تلافاه هو الرحمة، أو نافية، وصيغة الاستثناء محذوفة، وفي رواية بلفظ:"فتلقاه رحمة".
(1)
"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 178.
(2)
القائل هو المباركفوري، صاحب "المرعاة"، فتنبّه.
قال الحافظ رحمه الله: قالت المعتزلة: غُفر له؛ لأنه تاب عند موته، وندم على فعله، وقالت المرجئة: غُفر له بأصل توحيده الذي لا تضرّ معه معصية.
وتُعُقّب الأول بأنّه لم يَرِد أنه ردَّ المظلمة، فالمغفرة حينئذ بفضل اللَّه، لا بالتوبة؛ لأنها لا تتم إلا بأخذ المظلوم حقه من الظالم، وقد ثبت أنه كان نَبّاشًا.
وتُعُقِّب الثاني بأنّه وقع في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه المشار إليه أولًا أنه عُذّب، فعلى هذا فتُحْمَل الرحمة والمغفرة على إرادة ترك الخلود في النار، وبهذا يردّ على الطائفتين معًا: على المرجئة في أصل دخول النار، وعلى المعتزلة في دعوى الخلود فيها، وفيه أيضًا ردّ على من زعم من المعتزلة أنه بذلك الكلام تاب، فوجب على اللَّه قبول توبته. انتهى.
وقيل: إن مغفرته إنما هي لكمال خوفه، وخشيته من اللَّه عز وجل؛ لأنَّ الخشية من المقامات السنية، ولمّا كانت على أقصى مراتبها، وإن حصلت عند حضور علامات الموت، صارت سببًا لمحو جميع سيئاته، ووسيلة إلى مغفرة جميع ذنوبه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقد تقدّم أن الخوف من اللَّه من لوازم الإيمان، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6955 و 6956](2756)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3481) و"التوحيد"(7506)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(4/ 112) وفي "الكبرى"(2206)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4255)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 240)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 398 و 2/ 204)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4183 و 4184)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): قد ذكر الإمام أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله اختلاف رواة "الموطّأ" في رفع هذا الحديث ووقفه، فقال بعد أن أورد الحديث من رواية يحيى بن يحيى الليثيّ عن مالك مرفوعًا ما نصّه:
قال أبو عمر: تابع يحيى على رفع هذا الحديث عن مالك بهذا الإسناد أكثر رواة "الموطأ"، ووَقَفه مصعب بن عبد اللَّه الزبيريّ، وعبد اللَّه بن مسلمة القعنبيّ، فجعلاه من قول أبي هريرة، ولم يرفعاه، وقد رُوي عن القعنبيّ مرفوعًا كرواية سائر الرواة عن مالك، وممن رواه مرفوعًا عن مالك: عبد اللَّه بن وهب، وابن القاسم، وابن بكير، وأبو المصعب، ومطرف، ورَوح بن عبادة، وجماعة. انتهى
(1)
.
وقال في "الاستذكار" بعدما ذكر نحو هذا: والصواب رفعه؛ لأن مثله لا يكون رأيًا، وقد ذكرنا في "التمهيد" طرقًا كثيرة لحديث أبي هريرة هذا، وذكرنا من رواه معه من الصحابة رضي الله عنهم. انتهى
(2)
.
(المسألة الرابعة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إثبات البعث بعد الموت، وإن تفرقت الأجزاء، وتلاشت.
2 -
(ومنها): بيان عظمة قدرة اللَّه تعالى.
3 -
(ومنها): بيان فضيلة الخوف من اللَّه تعالى، وغَلَبتها على العبد، وأنها من مقامات الإيمان، وأركان الإِسلام، وبها انتفع هذا المسرف، وحصلت له المغفرة.
[تنبيه]: قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: إن قلت: في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن اللَّه تعالى:"أنا عند ظنّ عبدي بي"، وهذا قد ظنّ بربه تعذيبه، وعدم المغفرة له، فكيف غفر له؟.
قلت: قد اختلفوا في معنى هذا الحديث، فقيل: المراد به الرجاء، وتأميل العفو. وقيل: معناه: بالغفران له إذا استغفر، والقبول له إذا تاب، والإجابة إذا دعا، والكفاية إذا طلب الكفاية. فإن قلنا بالثاني، فالجمع واضح؛ لأنَّ هذا قد ندم على ما فَرَطَ منه، ولولا ندمه لَمَا أَمَر أن يُفعل به ذلك، فكان تائبًا، فقُبلت توبته، وغُفر له. وإن قلنا بالأوّل، فقد حكى القاضي عياض، والنوويّ في "شرح مسلم" أنه قيل: إنما أوصى بذلك تحقيرًا لنفسه، وعقوبة
(1)
"التمهيد" 18/ 37.
(2)
"الاستذكار" 3/ 94.
لها؛ لعصيانها، وإسرافها، رجاء أن يرحمه اللَّه تعالى، فهو حينئذ قد رجا العفو، وأمّله، فكان اللَّه عند ظنّه به، فعفا عنه، وهذا بعيد من قوله:"إن قدر اللَّه عليّ"، إن لم يؤوّله بما تقدّم، واللَّه تعالى أعلم. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما قاله القاضي عياض، والنوويّ -رحمهما اللَّه تعالى- جواب سليم، وتوجيه مستقيم، وبه يزول الإشكال. واللَّه تعالى أعلم.
4 -
(ومنها): أنه لا ضرر على العبد في غلبة الخوف، وإن كانت بقرب الوفاة، وإن كان المطلوب من العبد في تلك الحالة أن يُحسن ظنه بربّه، لِمَا أخرجه مسلم عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاريّ رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام، يقول:"لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه عز وجل".
5 -
(ومنها): أنه يدلّ على أن خوف العبد من ذنبه، ليس كراهية للقاء اللَّه تعالى؛ لأنَّ الخائف من ذنبه يطلب أن يكون مصيره إلى الدار الآخرة على وجه مرضيّ، يقربه إلى اللَّه تعالى، فَكَرِه حالة نفسه التي هو عليها، ولم يكره لقاء اللَّه تعالى مطلقًا، بل أحبّ لقاءه على غير تلك الحالة، قاله وليّ الدين رحمه الله.
6 -
(ومنها): أن الأعمال بالنيّات، والمقاصد، فإن اللَّه تعالى لم ينظر إلى هذا العمل، بل إلى القصد، فقال له:"لم فعلت هذا؟ "، ولما كان الحامل عليه الخشية، كان سبب المغفرة، ولو حَمَل عليه سبب آخر فاسد، لكان الأمر بخلاف ذلك، فيما يظهر، واللَّه تعالى أعلم.
7 -
(ومنها): أن فيه بيانَ سعة رحمة اللَّه تعالى، ومغفرته، وأن المسرف على نفسه لا ييأس من ذلك، وقد قال اللَّه تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، وقد قيل: إن هذه الآية أرجى آية في كتاب اللَّه تعالى، اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنّا سيّاتنا، وأدخلنا الجنّة برحمتك يا أرحم الراحمين.
(المسألة الخامسة): أنه استُشكل قوله: "لئن قدر اللَّه عليّ، ليعذّبنّي"؛ لأنَّ ظاهره نفي قدرة اللَّه تعالى على إحيائه، وإعادته، والشاكّ في قدرة اللَّه تعالى كافر، مع أن الحديث يدلّ على إسلامه من وجهين:
أحدهما: إخباره بأنّه إنما فعل هذا من خشية اللَّه تعالى، والكافر لا يخشى اللَّه تعالى.
الثاني: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن اللَّه تعالى غفر له، والكافر لا يُغفر له، مع ما انضمّ إلى ذلك من الرواية التي في "مسند أحمد" الصريحة في أنه كان موحّدًا، فاختلف العلماء في تأويله:
فقالت طائفة: لا يصحّ حمله على ظاهره؛ لِمَا ذكرناه، فيكون له تأويلان:
أحدهما: أن معناه: لئن قدر اللَّه عليّ العذاب؛ أي: قضاه، يقال منه: قَدَرَ -بالتخفيف- وقَدَّر -بالتشديد- بمعنى واحد.
الثاني: أن "قدَرَ" بمعنى: ضَيّق، فقوله:"لئن قدر اللَّه عليّ"؛ أي: لئن ضيّق اللَّه، ومنه قوله تعالى:{فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى:{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
وقال الآخرون: اللفظ على ظاهره، وذكروا له تأويلات:
أحدها: أن هذا الرجل قال هذا الكلام، وهو غير ضابط لكلامه، ولا قاصد لحقيقة معناه، ومعتقد لها، بل قاله في حالةٍ غلب عليه فيها الدّهْشُ، والخوف، والجزَع الشديد، بحيث ذهب تيقّظه، وتدبّره، ما يقوله، فصار في معنى الغافل، والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرَح حين وجد راحلته:"أنت عبدي، وأنا ربّك"، فلم يُكفَّر بذلك، للدهش، والغلبة، والسهو، وقد ورد في غير "الصحيحين":"فلعلي أضلّ اللَّه"؛ أي: أغيب عنه، وهذا يدلّ على أن قوله:"لئن قدر اللَّه" على ظاهره، كما ذكرنا.
الثاني: أن هذا من مجاز كلام العرب، وبديع استعمالها، يسمّونه: مزج الشكّ باليقين، وسمّاه بعضهم: تجاهل العارف، ومنه قوله تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، فصورته صورة شكّ، والمراد به اليقين.
الثالث: أن غاية ما فيه أن هذا رجل جهل صفة من صفات اللَّه تعالى، وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة، فممن كفّره بذلك محمد بن جرير
الطبريّ، وقاله الشيخ أبو الحسن الأشعريّ أوّلًا. وقال آخرون: لا يكفّر بجهل الصفة، ولا يخرج به عن اسم الإيمان، بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعريّ، وعليه استقرّ قوله، قال: لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادًا نقطع بصوابه، ويراه دينًا وشرعًا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حقّ؛ قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات، لَوُجد العالم بها قليلًا.
وحكاه ابن عبد البرّ عن المتقدّمين، من العلماء، ومن سلك سبيلهم، من المتأخرين، واستدلّ عليه بأن عمر، وعمران بن حُصين، وجماعة من الصحابة، سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن القدَر، ومعلوم أنهم إنما سألوه عن ذلك، وهم جاهلون به، وغير جائز عند أحد من المسلمين أن يكونوا بسؤالهم عن ذلك كافرين. انتهى.
الرابع: أنه كان في زمن فترة، حين ينفع مجرّد التوحيد، ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح، لقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
الخامس: أنه يجوز أنه كان متمسّكًا بشريعة فيها جواز العفو عن الكافر، وإن كان ذلك غير جائز في شرعنا، فإنه من مجوّزات العقول عند أهل السُّنَّة، وإنما منعناه في شرعنا بالشرع، وهو قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} الآية [النساء: 116]. وغير ذلك من الأدلّة.
ونصّ عبارة ابن عبد البرّ رحمه الله في "الاستذكار": وفي رواية أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: "قال رجل لم يعمل خيرًا قط إلا التوحيد"، وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرجل، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها؛ لأنه محال أن يغفر اللَّه للذين يموتون وهم كفار؛ لأنَّ اللَّه عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وقال:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، فمن لم ينته عن شركه، ومات على كفر لم يك مغفورًا له، قال اللَّه عز وجل:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18].
وأما قوله: "لم يعمل حسنة قط" وقد روي: "لم يعمل خيرًا قط" ما عدا
التوحيد من الحسنات والخير، بدليل حديث أبي رافع المذكور.
وهذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، وقد تقول العرب: لم يفعل كذا قط تريدُ الأكثر من فعله، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يضع عصاه عن عاتقه" يريد أن الضرب للنساء كان منه كثيرًا، لا أن عصاه كانت ليلًا ونهارًا على عاتقه.
والدليل على أن الرجل كان مؤمنًا قوله حين قال له: "لم فعلت هذا؟ " قال: من خشيتك يا رب، والخشية لا تكون إلا لمؤمن يصدق، بل ما تكاد تكون إلا من مؤمن عالم، قال اللَّه تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
قالوا: كل من خاف اللَّه فقد آمن به وعرفه، ويستحيل أن يخاف من لا يؤمن به.
وأما قوله: "لئن قدر اللَّه عليّ" فقد اختلف العلماء في ذلك:
فقال بعضهم: هذا رجل جهل بعض صفات اللَّه تعالى، وهي القدرة، قالوا: ومن جهل صفة من صفات اللَّه عز وجل، وآمن به، وعلم سائر صفاته، أو أكثر صفاته لم يكن بجهله بعضها كافرًا، وإنما الكافر مَن عاند الحقّ، لا مَن جَهِله، والشواهد على هذا من القرآن كثيرة.
ومنها قول اللَّه عز وجل: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70]، وقال:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال:{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75]، وقال:{فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5]، وقال:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
فهذا هو الكفر المجتمع عليه في الاسم الشرعيّ، والاسم اللغويّ.
والدليل على أن من جهل صفة من صفات اللَّه تعالى لا يكون بها كافرًا إذا كان مصدّقًا باللَّه ورسله وكتبه واليوم الآخر: أن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمر وغيره سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن القدر، ومعناه قِدَمُ العلم أنه مكتوب عنده
ما سبق في علمه، وفي ذلك يجري خلفه لا فيما يستأنف، بل ما قد جَفّ به القلم، وكل صغير وكبير مسطَّر في اللوح المحفوظ، فأعلمهم أنه ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم في حين سؤالهم وقبله كانوا مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول فيه غير ذلك، ولو كان لا يسعه جهل صفة من صفات اللَّه تعالى، وهي قِدَم العلم لِعِلمهم بذلك مع الشهادة بالتوحيد، ويجعله عمودًا سادسًا للإسلام.
وقال آخرون: أراد بقوله: "لئن قدر اللَّه عليّ"؛ أي: لئن كان قدر اللَّه عليه، والتخفيف في هذه اللفظة والتشديد سواء في اللغة، فَقَدَر هنا عند هؤلاء من القدر الذي هو الحُكم، وليس من باب القدرة والاستطاعة في شيء، وهو مثل قوله عز وجل:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
وللعلماء في تأويل هذه اللفظة في هذه الآية قولان: أحدهما: أنها من التقدير والقضاء، والآخر: أنها من التقتير والتضييق.
والمعنى في قول هؤلاء -واللَّه أعلم- لئن ضيّق اللَّه عليّ، وبالغ في محاسبتي، ولم يغفر لي وجازاني على ذنوبي ليكونن ما ذُكر.
والوجه الآخر: كأنه قال: لئن كان قد سبق في قَدَر اللَّه وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه، لَيعذبنني على ذنوبي عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين غيري، وهذا منه خوف ويقين وإيمان، وتوبيخ لنفسه، وخشية لربه، وتوبة على ما سلف من ذنوبه، وهذا كله لا يكون إلا لمؤمن مصدق مؤمن بالبعث والجزاء.
وفي القدر لغتان مشهورتان: قَدَّر اللَّه -بالتشديد- وقَدَر اللَّه -بالتخفيف- ذكره ابن قتيبة عن الكسائيّ، وذكره ثعلب وغيره. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله
(1)
.
وقد ذكرناه والشواهد عليه في التمهيد والحمد له.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: الذي يترجّح عندي من هذه الأقوال هو القول بأن الرجل إنما تكلم بهذا الكلام في حال شدّة خوفه من اللَّه تعالى،
(1)
"الاستذكار" 3/ 94 - 95.
فطار عقله، وغاب وعيه، فَعَذره اللَّه تعالى في خطئه بسبب ذلك، كما عَذَر من أخطأ في شدة الفرح بقوله:"اللَّهُمَّ أنت عبدي، وأنا ربّك"، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة السادسة): قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: إن قلت: ظاهر حال هذا الرجل أنه وقع في كبيرة، وهو اليأس من رحمة اللَّه، وكان هذا خاتمة أمره، فكيف كانت هذه الكبيرة سبب المغفرة؟.
قلت: إن صرفنا اللفظ عن ظاهره، يحمل "قَدَرَ" على "قضى"، أو "ضيّق"، فليس فيه اليأس من رحمة اللَّه، فإنه يرجو الرحمة بتقدير أن لا يقضي عليه بالعذاب، أو لا يضيّق عليه على اختلاف القولين.
وإن أخذناه على ظاهره، فالجواب عن هذا: أن شدّة الخوف اصطلمته، وأذهلته، حتى خرج عن حدّ التكليف، فنفعه خوفه، ونَجّاه مع التوحيد، ولم يضرّه يأسه؛ لأنه حصل له في حالة انقطع عنه فيها التكليف، وبتقدير أنه لم يصل إلى حالة أخرجته عن حيّز المكلّفين، فالخوف الحاصل له كفّر عنه سيّئته التي هي اليأس من رحمة اللَّه، بل كفَّر عنه سيئآته التي كان يرتكبها طول عمره، وقد يشتمل الفعل الواحد على طاعة من وجه، ومعصية من وجه، فربما غلبت الطاعة، فكفّرت المعصية، وربما غلبت المعصية، فأحبطت ثواب الطاعة، وفي هذا المحلّ غلبت الطاعة، فكفّرت المعصية.
وعن الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام أنه قال فيمن سمع بآلة محرّمة، فأحدثت له أحوالًا صالحة، يحصل له إثم السماع المحرّم، وثواب الأعمال الصالحة، فإن غلب الثواب ربح، وإن غلب الإثم خسر، وإن استويا تكافأ. هذا معناه.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي ذكره وليّ الدين من كلام الشيخ عز الدين ابن عبد السلام، غير صحيح، فإن السماع المحرّم لا تحصل منه أحوال صالحة، وإن تخيّل صاحبه ذلك، وادّعاه، فإن الأحوال الصالحة، إنما تحصل بطاعة اللَّه تعالى، وأما المحرّمات، فلا يحصل بها إلا الأحوال الشيطانية، فتنبّه. واللَّه تعالى أعلم.
قال: وروى الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، وغيرُهُ بإسناد جيّد، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "فعلتَ كذا وكذا؟ "، قال: لا، والذي لا إله إلا هو، يا رسول اللَّه، ما فعلت، فقال: "بلى، ولكن غُفر لك
بالإخلاص". وروي هذا المعنى أيضًا من حديث ابن عباس، وأنس، وابن الزبير رضي الله عنهم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: لعله صلى الله عليه وسلم أراد بالإخلاص التوحيد، فإن الرجل موحّد، والموحّد يُغفر له؛ كما قال تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ولعله صلى الله عليه وسلم أوحي إليه أن الرجل ممن شاء اللَّه مغفرته، فأخبر بذلك، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6956 و 6957](2619) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ-: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، قَالَ: قَالَ لِيَ الزُّهْرِيّ: أَلَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ، فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي، ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ، أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ").
(قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3]
(1)
(105) على الصحيح، وقيل: إن روايته عن عمر مرسلة (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": من الثانية؛ لما لا يخفى على طالع ترجمته، فتنبّه.
شرح الحديث:
(قَالَ) معمر بن راشد: (قَالَ لِيَ الزُّهْرِيّ) محمد بن مسلم: (أَلَا) أداة تحضيض (أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ) مبيّنًا الحديث الأول: (أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الزهريّ المدنيّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) في الرواية الآتية: "سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وقد ذكر الحافظ أبو عمر: أن أكثر رواة "الموطإ" رفعوا هذا الحديث، ووَقَفه القعنبيّ، ومصعب الزبيريّ، على أبي هريرة. قال وليّ الدين: والمراد: وَقْف لفظه، وأما حكمه فهو الرفع؛ لأنه لا يقال مثله، من قِبَل الرأي، فهو مرفوع على كل حال. انتهى.
(قَالَ: "أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ) وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: "كان رجل ممن كان قبلكم يسيء الظنّ بعمله"، وفي حديث أبي مسعود: أن هذا الرجل كان نبّاشًا. وفي رواية للطبراني: بينما حذيفة، وأبو مسعود جالسين، فقال أحدهما: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول:"إن رجلًا من بني إسرائيل، كان ينبش القبور". وفي الرواية الماضية: "لم يعمل حسنة قط". ولأحمد، من حديث ابن مسعود:"أنه لم يعمل شيئًا قط إلا التوحيد".
وظاهر قوله: "أنه لم يعمل حسنة قط"، أنه لم يكن موحدًا؛ لأنَّ التوحيد أعظم الخير، لكن إخباره بأنّه فعل هذا من خشية اللَّه تعالى يدلّ على توحيده، وكيف يخشى اللَّه من لا يعرفه؟ بل يدلّ على علمه؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} الآية [فاطر: 28]، وقد رَفعت رواية أحمد المذكورة هذا الإشكال، حيث استثنت من الخير التوحيد.
(فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ) بكسر الميم، وضمّها، من مات يَمَاتُ، كخاف يخاف، ومات يموت، كقال يقول، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند البخاريّ:"أن رجلًا كان قبلكم رَغَسَه اللَّه مالًا، فقال لبنيه لمّا حُضِر: أي أَبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا أنا متّ. . .". وله من حديث حذيفة رضي الله عنه: "أن رجلًا حضره الموت، لمّا أيس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا متّ، فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا، ثم أَوْرُوا نارًا، حتى إذا أكلَتْ لحمي، وخلصت إلى عظمي، فخذوها،
فاطحنوها، فذرّوني في اليمّ، في يوم حارّ. . .". (فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي) بفتح الحاء المهملة، أمْر من سحق يسحق، كمنع يمنع، قيل: روي: "اسحكوني"، واسهكوني"، والكل بمعنى واحد، وهو الدّقّ والطحن.
(ثُمَّ اذْرُونِي) بالذال المعجمة، ويجوز في همزه الوصل والقطع، يقال: ذرتْهُ الريحُ، وأذرتْهُ، تذرُوه، وتذرِيه: إذا أَطارته، ومنه تذرية الطعام. كذا ذكر في "المشارق"، و"النهاية": ذريت، وأذريت، بمعنًى. وقال في "الصحاح": ذريته: طيّرته، وأذهبته، وذَرَت الريحُ الترابَ، وغيره تذروه ذَرْوًا، وذَرْيًا؛ أي: سَفَتْهُ، ومنه قولهم: ذَرَى الناسُ الحنطةَ، ثم قال: وأذريت الشيءَ: إذا ألقيته كإلقائك الحَبّ للزرع، وطعَنَهُ، فأذراه عن ظهر دابّته؛ أي: ألقاه. انتهى. وذكر في "المحكم" نحوه، وهذا يقتضي الفرق بين الثلاثيّ، والرباعيّ، وأن ما يُلقَى في غير محلّ معيّن، يُستعمل فيه الثلاثيّ، كما في هذا الحديث، وما يُلقَى في محلّ معيّن يُستعمل فيه الرباعيّ. قاله الحافظ وليّ الدين رحمه الله
(1)
.
(فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ) الجارّ الأول متعلّق بالفعل قبله، والثاني متعلق بحال مقدّر من "الريح"؛ أي: حال كون ذلك الريح كائنًا في البحر، وإنما لم يتعلّق بما تعلّق به ما قبله؛ لئلا يتعلق حرفا جرّ بلفظ ومعنى واحد بفعل واحد، وهو ممنوع، كما هو معروف في محله.
وفي حديث أبي سعيد: "في يوم عاصف"؛ أي: عاصف ريحه. وفي رواية: "في ريح عاصف"، وإنما أمرهم بهذا لتتفرّق أجزاؤه، بحيث لا يكون هناك سبيل إلى جَمْعها في ظنّه، كما بَيَّنَ ذلك بقوله:(فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّي)"قدر" من باب نصر، وضرب، وفرِحَ، يقال: قدرتُ على الشيء: إذا قَوِيتَ عليه، وتمكنتَ منه، والاسم: القدرة.
قال السنديّ رحمه الله ما معناه: يَحْتَمِل أنه رأى أن جَمْعه يكون مستحيلًا، والقدرة لا تتعلّق بالمستحيل، فلذلك قال:"فواللَّه لئن قَدَر اللَّه"، فلا يلزم أنه نَفَى القدرة، فصار بذلك كافرًا، فكيف يُغفر له؟، وذلك أنه ما نفى القدرة على
(1)
"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 267.
ممكن، وإنما فرض غيرَ المستحيل مستحيلًا فيما لم يثبت عنده أنه ممكن من الدين بالضرورة، والكفر هو الأول، لا الثاني.
ويَحْتَمِل أن شدّة الخوف طيّرت عقله، فما التفت إلى ما يقول، وما يفعل، وأنه هل ينفعه، أم لا؟، كما هو المشاهَد في الواقع في مهلكة، فإنه قد يتمسّك بأدنى شيء؛ لاحتمال أنه لعله ينفعه، فهو فيما قال، وفعل في حكم المجنون. وأجاب بعضهم بأن هذا رجل لم تبلغه الدعوة، وهذا بعيد، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم هذا البحث مستوفًى في المسألة الخامسة، فأرجع إليه تزدد علمًا جمًّا، وباللَّه تعالى التوفيق.
(لَيُعَذِّبُنِي) جواب القسم، والفعل مبنيّ على الفتح لاتصال نون التوكيد به، (عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا، قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ)؛ أي: جميع ما أوصاهم به، (فَقَالَ) اللَّه تعالى (لِلأَرْضِ: أَدِّي) فعل أمر للمؤنّثة من التأدية، وهي الأرض، (مَا أَخَذْتِ) وفي الرواية الآتية:"فقَالَ اللَّهُ عز وجل لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا: أَدِّ مَا أَخَذْتَ منه"؛ أي: من أجزاء هذا الميت، وفي رواية البخاريّ:"فأمر اللَّه الأرض، فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلت. . .". (فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ)"إذا" هنا هي الفُجائيّة؛ أي: ففاجأ قيامه، وفيه سرعة اجتماع أجزائه، وفي حديث سلمان رضي الله عنه عند أبي عوانة في "صحيحه":"فقال اللَّه له: كن، فكان كأسرع من طرفة العين".
قال في "الفتح": وهذا جميعه -كما قال ابن عقيل-: إخبار عما سيقع له يوم القيامة، وليس كما قال بعضهم: إنه خاطب روحه، فإن ذلك لا يناسب قوله:"فجمعه اللَّه"؛ لأنَّ التحريق، والتفريق، إنما وقع على الجسد، وهو الذي يُجمع، ويعاد عند البعث. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الذي قاله في "الفتح"، نقلًا عن ابن عقيل من أنه إخبار عما سيقع. . . إلخ فيه نظر لا يخفى؛ إذ سياق الحديث
(1)
"حاشية السنديّ على النسائيّ" 3/ 113.
(2)
"الفتح" 7/ 206 - 207 رقم (3478).
يأباه، وهذا الذي نفاه من الوقوع قبل ذلك ليس ببعيد، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20]. فتبصّر، واللَّه تعالى أعلم.
(فَقَالَ) اللَّه عز وجل (لَهُ)؛ أي: لذلك الرجل الذي اجتمعت أجزاؤه، (مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟)"ما" الأولى استفهاميّة، والثانية موصولة؛ أي: أيُّ شيء حملك على هذا الذي صنعته من هذه الوصيّة الجائرة؟ (فَقَالَ) الرجل: (خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ، أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ) برفع "خشيتك"، أو "مخافتك" على الفاعليّة لفعل مقدّر، يدلّ عليه السؤال، كما أشار إلى ذلك ابن مالك رحمه الله في "خلاصته"، حيث قال:
وَيَرْفَعُ الْفَاعِلَ فِعْلٌ أُضْمِرَا
…
كَمِثْلِ "زَيْدٌ" فِي جَوَابِ "مَنْ قَرَا؟ "
أي: "حملني على ذلك خشيتك"، أو "مخافتك" (فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ")؛ أي: بسبب خشيته، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"فتلقّاه برحمته".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
ثمَّ ذكر المصنّف رحمه الله الحديث الثاني من الحديثين العجيبين اللذين حدّثه بهما حميد بن عبد الرحمن، فقال بالسند الماضي، وليس معلّقًا، ولذا لم أرقّم له ترقيمًا جديدًا، فما فعله بعض الشرّاح، وكذا الذين رقموا الكتاب من الترقيم الجديد غير صحيح، فتنبّه.
(قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا"، قَالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ، وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ).
قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله وهو متّفقٌ عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدّم في "كتاب قتل الحيّات""باب تحريم قتل الهرّة" برقم [4/ 5841](2243)، وفي "كتاب البرّ والصلة""باب تحريم تعذيب الهرّة إلخ" برقم [37/ 6656](2619)، وتقدّم شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد علمًا جمًّا، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.
وقوله: (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ) لا يُعرف اسمها، فقيل: حِمْيريّة، وقيل:
إسرائيلية، ولا تعارض؛ لأنَّ طائفة من حِمْيَر تهوّدت، فنُسبت إلى دينها تارةً، وإلى قبيلتها أخرى.
وقوله: (فِي هِرَّةٍ)؛ أي: بسببها.
وقوله: (مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ) بفتح الخاء المعجمة، وكسرها، وضمها، حكاهنّ في "المشارق"، والفتح أشهر، ورُوي بالحاء المهملة، والصواب المعجمة، وهي هوامّ الأرض، وحشراتها، كما وقع في الرواية الأخرى، وقيل: المراد به: نبات الأرض، وهو ضعيف، أو غلط، قاله النوويّ
(1)
.
وقوله: (حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا) بفتح الهاء، وضمّها؛ أي: ضَعفًا، قال المجد رحمه الله: الهُزالُ بالضم: نقيضُ السِّمَنِ، وهُزِلَ، كعُنِيَ هُزالًا، وهَزَلَ، كنَصَرَ هَزْلًا، ويُضَمُّ، وهَزَلْتُه أهْزِلُه، وهَزَّلْتُه، وأهْزَلُوا: هُزِلَتْ أمْوالهُم، كهَزَلُوا، كضَرَبوا، وحَبَسوا أمْوالَهُم عن شِدَّةِ، وضِيقٍ. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ الزُّهْرِيُّ: ذَلِكَ) إشارة إلى سبب ذكره الحديثين: حديث صاحب الوصيّة، وحديث صاحبة الهرّة، فذكرتُ الحديث الثاني (لِئَلَّا يَتَّكِلَ رَجُلٌ) من أهل الطاعة على طاعته، فيستخفّ بالمعاصي، ويسترسل فيها؛ اتّكالًا على الطاعة، فإن هذه المرأة الظاهر أنه كانت مطيعة، وإنما دخلت النار بسبب ظُلمها الهرة فقط، فإذا سمع القصّة تَرَك الاتكال على طاعته، وانكفّ عن الاسترسال في المعاصي؛ خوفًا من المؤاخذة، كما وقع لهذه المرأة.
(وَلَا يَيْأَسَ رَجُلٌ)؛ أي: وذكرتُ الحديث الأول؛ لئلا يقع رجل من أهل المعاصي في القنوط بسبب كثرة معاصيه، فإذا سمع هذا الحديث انشرح صدره لرجاء رحمة ربه، فأناب، وتاب، فقبل اللَّه تعالى توبته، كما قبل توبة الرجل، واللَّه تعالى أعلم.
وقال صاحب "التكملة": قوله: "لئلا يتّكل إلخ"؛ يعني: أن قصّة تعذيب المرأة بسبب الهرّة توجب الحذر من الذنوب، فإن الذنب اليسير ربّما يكفي لتعذيب الإنسان في الآخرة، فهذه القصّة تنفي الاتّكال على الرجاء، والغفلة عن الخوف.
وأما قصّة الرجل الذي أوصى بتحريقه، فإنها تنفي اليأس والقنوط من
(1)
"شرح النوويّ" 16/ 173.
(2)
"القاموس المحيط" ص 1383.
رحمة اللَّه تعالى، فليكن الإنسان دائرًا بين الخوف والرجاء، ولذلك أتبع الإمام الزهريّ رحمه الله حديث الرجل بحديث الهرّة؛ ليستوي الطرفان. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6958]
(2756) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَسْرَفَ عَبْدٌ عَلَى نَفْسِهِ"، بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ إِلَى قَوْلِهِ: "فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ"، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ فِي قِصَّةِ الْهِرَّةِ، وَفِي حَدِيثِ الزُّبَيْدِيِّ قَالَ: "فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا: أَدِّ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ").
رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:
1 -
(أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ)
(2)
بن رُشيد البغداديّ الأحول الْخُتَّليّ -بضم الخاء المعجمة، وتشديد المثناة-[11].
كان أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه. وقال الخطيب: كان ثقة. وقال ابن قانع: ثقة. وقال صالح بن محمد الأسدي: أبو الربيع الأحول ثقة، كان ببغداد. مات سنة (231). انفرد به مسلم.
2 -
(مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ) الْخَولانيّ الْحِمْصيّ الأبرش، ثقةٌ [9](ت 194)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
3 -
(الزُّبَيْدِيُّ) مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، أبو الْهُذيل الحمصيّ القاضي، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار أصحاب الزهريّ [7](ت 6 أو 7 أو 149)(ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" برقم [1174].
والباقون ذُكروا قبله.
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 19 - 20.
(2)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: كون صاحب الترجمة هنا هو الْخُتّليّ هو الصواب، وعليه أصحاب برامج الحديث، وقد أخطأ الشارح الهرريّ، فكتب ترجمة سليمان العتكيّ الزهرانيّ، راجع "شرحه" 25/ 217، وقد كنت أنا أيضًا أخطات فيما مضى في "كتاب الطبّ"[6/ 5713](2197)، لكني تراجعت تبعًا للحافظ المزيّ في "تهذيب الكمال" 11/ 414 - 415 حيث بيّن أنه الختّليّ، وأخرج الحديث من روايته، فليُتنبّه.
[تنبيه]: رواية الزبيديّ عن الزهريّ هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "المجتبى"، فقال:
(2079)
- أخبرنا كثير بن عُبيد، قال: حدّثنا محمد بن حرب، عن الزُّبيديّ، عن الزهريّ، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أسرف عبد على نفسه، حتى حضرته الوفاة، قال لأهله: إذا أنا متّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم اذروني في الريح في البحر، فواللَّه لئن قدر اللَّه عليّ ليعذبنّي عذابًا، لا يعذبه أحدًا من خلقه، قال: ففعل أهله ذلك، قال اللَّه عز وجل لكل شيء أخذ منه شيئًا: أَدِّ ما أخذت، فإذا هو قائم، قال اللَّه عز وجل: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر اللَّه له". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6959]
(2757) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ، يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ "أَنَّ رَجُلًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، رَاشَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا، فَقَالَ لِوَلَدِهِ: لَتَفْعَلُنَّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ، أَوْ لأُوَلِّيَنَّ مِيرَاثِي غَيْرَكُمْ، إِذَا أَنَا مِتُّ، فَأَحْرِقُونِي -وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنَّهُ قَالَ-: ثُمَّ اسْحَقُونِي، وَاذْرُونِي فِي الرِّيحِ، فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي، قَالَ: فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، وَرَبِّي، فَقَالَ اللَّهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: مَخَافَتُكَ، قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا").
رجال هذا الإسناد: ستةٌ:
1 -
(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.
2 -
(عُقْبَةُ بْنُ عَبْدِ الْغَافِرِ) الأزديّ الْعَوْذيّ، أبو نَهّار البصريّ، ثقةٌ [4] قديم الموت، مات سنة ثلاث وثمانين (خ م س) تقدم في "البيوع" 39/ 4076.
3 -
(أَبُو سعِيدٍ الْخُدْريُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
(1)
"سنن النسائيّ (المجتبى) " 4/ 112.
والباقون ذُكروا بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد المكثرين السبعة.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدوسيّ؛ أنه (سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ) الأزديّ البصريّ، حال كونه (يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) رضي الله عنه، حال كونه (يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ "أَنَّ رَجُلًا) تقدّم أنه لا يُعرف اسمه. (فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)؛ أي: من الأمم السابقة، بني إسرائيل، أو غيرهم، (رَاشَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا) قال النوويّ رحمه الله: هذه اللفظة رويت بوجهين في "صحيح مسلم": أحدهما: "راشه" بألف ساكنة غير مهموزة، وبشين معجمة، والثاني: رأسه بهمزة، وسين مهملة، قال القاضي: والأول هو الصواب، وهو رواية الجمهور، ومعناه: أعطاه اللَّه مالًا وولدًا، قال: ولا وجه للمهملة هنا، وكذا قال غيره: ولا وجه له هنا. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "راشه اللَّه مالًا" كذا الرواية الصحيحة، ومعناه: أكسبه اللَّه مالًا. قال ابن الأعرابيّ: الرِّياش: المال، وقال القتبيّ: أصله من الرِّيش، كأنّ الْمُعْدِمَ لا نهوض له مثل المقصوص من الطير. وعند الفاسيّ:"رأسه" بألف مهموزة، وسين مهملة، وهو تصحيف، ولا وجه له. وفي رواية:"رغسه اللَّه مالًا وولدًا" بغين معجمة، وسين مهملة؛ أي: أعطاه اللَّه تعالى من ذلك كثيرًا. قال أبو عبيد: يقال: رغسه اللَّه يَرْغَسه رغسًا
(2)
: إذا كان ماله ناميًا كثيرًا، وكذلك هو في الحَسَب. انتهى
(3)
.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 73.
(2)
من باب منع، ويقال: أرغسه بالهمزة، كما في "القاموس".
(3)
"المفهم" 7/ 77 - 78.
(فَقَالَ لِوَلَدِهِ) بفتحتين، ويَحْتَمِل أن يكون بضمّ، فسكون، وهو لغة فيه: قال الفيّوميّ رحمه الله: الوَلَدُ بفتحتين: كلُّ ما وَلَده شيء، ويُطلق على الذكر، والأنثى، والمثنى، والمجموع، فَعَلٌ بمعنى مفعول، وهو مذكّر، وجَمْعه: أوْلَادٌ، والوُلْدُ وزان قُفْل لغة فيه، وقيس تجعل المضموم جَمْع المفتوح، مثل أُسْدٍ، جمع أَسَدٍ. انتهى
(1)
.
(لَتَفْعَلُنَّ) باللام الموطّئة للقسم؛ أي: واللَّه لتفعلنّ، وهو فعل مضارع مسند لضمير الجماعة، مؤكّد بنون التوكيد الثقيلة، وأصله لتَفعلوننّ، حُذفت نون الرفع؛ لتوالي الأمثال، وواو الجماعة لالتقاء الساكنين، فصار لتَفْعَلُنّ. (مَا) موصولة؛ أي: الشيء الذي (آمُرُكُمْ بِهِ، أَوْ لأُوَلِّيَنَّ) بنون التوكيد الثقيلة أيضًا، من التولية؛ أي: لأعطينّ (مِيرَاثِي)؛ أي: ما يورث مني من المال، (غَيْرَكُمْ) ممن لا يرثني، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه ما يدلّ على أنه كان من شرائع من قبلنا أن للرجل أن يُوَرِّث ماله من يشاء من الناس، فنَسخ ذلك شرعنا. انتهى
(2)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ويَحْتَمل أن يكون قاله تهديدًا لهم، لا ليفعله، واللَّه تعالى أعلم.
والمعنى: اختاروا أحد الأمرين: إما أن تفعلوا ما آمركم به، أو يحصُل مني إعطاء ميراثكم مني غيركم، ثم بيّن لهم ما يفعلونه بقوله:(إِذَا أَنَا مُتُّ) بضمّ الميم، من مات يموت، كقال يقول، وبكسرها، كخاف يخاف، (فَأَحْرِقُونِي) بهمزة القطع، من الإحراق، قال شعبة:(وَأَكْثَرُ) بالثاء المثلّثة (عِلْمِي)؛ أي: أكبر ظنّي (أَنَّهُ)؛ أي: قتادة (قَالَ: ثُمَّ اسْحَقُونِي)؛ أي: دُقّوني، واطحنوني، وهو بفتح الحاء المهملة، أمْر من سَحَق يَسْحَق، كمنع يمنع، قيل: روي "اسحكُوني"، و"اسهكوني"، والكل بمعنى واحد، وهو الدّقّ والطحن.
وقال في "العمدة": قوله: "فاسحقوني" من السحق، وهو دَقّ الشيء ناعمًا، أو قال:"فاسهكوني"، شكّ من الراوي، من السهك، قالوا: السحق والسهك بمعنى واحد، وقيل: السهك دونه، وهو أن يُفَتّ الشيء، أو يدقّ
(1)
"المصباح المنير" 2/ 671.
(2)
"المفهم" 7/ 79.
قِطَعًا صغارًا. انتهى
(1)
.
وقال القاضي عياض في "المشارق": قوله في حديث المحرق: "اسحكوني، أو قال: اسحقوني" كذا في بعض الروايات، وفي رواية عن أبي ذرّ:"أو قال: اسهكوني"، وفي باب آخر:"اسكهوني" بتقديم الكاف. انتهى
(2)
.
(وَاذْرُونِي) يصحّ أن يُقرأ موصول الألف، من ذَرأت الشيء: فرّقته، ويصح أن يكون أصله من الثلاثي المزيد فيه، فتُقطع الهمزة، من قولهم: أذرت العين دمعَها، وأذريتُ الرجلَ عن فرسه؛ أي: رميته، وقال ابن التين: قرأناه بقطع الهمزة، قاله في "العمدة"
(3)
.
(فِي الرِّيحِ) متعلّق بما قبله، ثم ذكر لهم سبب أمْره بذلك بما ذكره بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنِّي)؛ أي: لأني (لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا) قال القرطبيّ رحمه الله: بالهاء، رواية الشيوخ، وعند ابن ماهان:"لم يبتئر"، بالهمزة، وكلاهما بمعنى واحد، والهمزة تُبدل من الهاء، وكذلك ابتار، وامتار، بالباء، والميم، فإنَّها تُبدل منها. وقد فسّرها قتادة، فقال: لم يَدّخر، وهو تفسير صحيح، ويشهد له المعنى، والمساق. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في بعض النسخ، ولبعض الرواة:"أبتئر" بهمزة بعد التاء، وفي أكثرها:"لم أبتهر" بالهاء، وكلاهما صحيح، والهاء مُبدلة من الهمزة، ومعناهما: لم أُقَدِّم خيرًا، ولم أَدِّخره، وقد فسَّرها به قتادة في كلامه الآتي، وفي رواية:"لم يبتئر" هكذا هو في جميع النسخ، وفي رواية:"ما امتأر" بالميم، مهموزٌ أيضًا، والميم مبدلة من الباء الموحّدة. انتهى
(5)
.
(وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي) قال القرطبيّ رحمه الله: وجدنا الروايات، والنُّسخ تختلف في ضَبْط هذه الكلمات، وحاصله يرجع إلى تقييدين:
أحدهما: تشديد "إنَّ" مكسورة، ونَصْب الاسم المعظّم بها، و"يَقْدِرُ"
(1)
"عمدة القاري" 23/ 74.
(2)
"مشارق الأنوار" 2/ 208.
(3)
"عمدة القاري" 23/ 74.
(4)
"المفهم" 7/ 78.
(5)
"شرح النوويّ" 17/ 73.
مرفوعًا فعل مضارع، وهو خبر "إنَّ"، و"على أن يعذبني" متعلّق به، وهذا خبر محقَّق عن الرجل، أخبر به عن نفسه أن اللَّه يَقْدِر على تعذيبه، وهي رواية مصححة لقول من قال: لم يكن جاهلًا، ولا شاكًّا، وإنما كان خائفًا.
وثانيهما: تخفيف "إِنْ" المكسورة، ورَفْع اسم اللَّه تعالى بعدها، وجَزْم "يَقْدِرْ" بها، و"عليّ" مشددة الياء، و"يُعَذِّبْني" مجزوم على جواب الشرط، وهذه الرواية مصححة لقول من قال: إن الرجل كان شاكًّا على ما ذكرناه، والأول أشبه ما اخترناه، واللَّه تعالى أعلم. انتهى
(1)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وَإِنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي" هكذا هو في معظم النُّسخ ببلادنا، ونقل القاضي عياض اتفاق الرواة، والنسخ عليه، هكذا بتكرير "إن"، وسقطت لفظة "إن" الثانية في بعض النسخ المعتمدة، فعلى هذا تكون "إن" الأُولى شرطية، وتقديره: إن قدر اللَّه عليَّ عَذّبَنِي، وهو موافق للرواية السابقة، وأما على رواية الجمهور، وهي إثبات "إن" الثانية مع الأولى، فاختُلف في تقديره، فقال القاضي: هذا الكلام فيه تلفيق، قال: فإن أُخذ على ظاهره، ونُصِب اسم اللَّه، وجُعِل "يَقدِر" في موضع خبر "إنَّ" استقام اللفظ، وصح المعنى، لكنه يصير مخالفًا لِمَا سبق من كلامه الذي ظاهره الشكّ في القدرة، قال: وقال بعضهم: صوابه حذف "إن" الثانية، وتخفيف الأُولى، ورَفْع اسم اللَّه تعالى، قال: وكذا ضبطناه عن بعضهم، هذا كلام القاضى.
وقيل: هو على ظاهره بإثبات "إن" في الموضعين، والأُولى مشدّدة، ومعناه: إن اللَّه قادر على أن يعذبني، ويكون هذا على قول من تأوَّل الرواية الأُولى على أنه أراد بقَدَر: ضيّق، أو غيره مما ليس فيه نفي حقيقة القدرة، ويجوز أن يكون على ظاهره، كما ذكر هذا القائل، لكن يكون معنى قوله هنا: إن اللَّه قادر على أن يعذبني، إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني، وذريتموني في البرّ والبحر، فلا يقدر عليّ، ويكون جوابه كما سبق، وبهذا تجتمع الروايات، واللَّه أعلم. انتهى
(2)
.
(قَالَ: فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقًا، فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، وَرَبِّي) قال النوويّ رحمه الله: هكذا
(1)
"المفهم" 7/ 78 - 79.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 73 - 74.
هو في جميع نُسخ "صحيح مسلم": "وربي" على القَسَم، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه أيضًا في كتاب مسلم، قال: وهو على القَسَم من المخبِر بذلك عنهم؛ لتصحيح خبره، وفي "صحيح البخاريّ":"فأخذ منهم ميثاقًا، وربي ففعلوا ذلك به"، قال بعضهم: وهو الصواب، قال القاضي: بل هما متقاربان في المعنى والقسم، قال: ووجدته في بعض نُسخ "صحيح مسلم" من غير رواية لأحد من شيوخنا، إلا للتميميّ من طريق ابن الحذّاء:"ففعلوا ذلك، وذري" قال: فإن صحت هذه الرواية فهي وجه الكلام؛ لأنه أمرهم أن يَذرُوه، ولعل الذال سقطت لبعض النساخ، وتابعه الباقون، هذا كلام القاضي، قال النوويّ: والروايات الثلاث المذكورات صحيحات المعنى، ظاهرات، فلا وجه لتغليط شيء منها، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ اللَّهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: مَخَافَتُكَ، قَالَ: فَمَا تَلَافَاهُ غَيْرُهَا)؛ أي: ما تداركه، والتاء فيه زائدة، قاله النوويّ، وضمير "غيرها" للرحمة؛ أي: لم يصادفه عند قوله: "مخافتك" إلا الرحمة والمغفرة، ويبيّن هذا رواية البخاريّ للحديث بلفظ:"فتلقّاه برحمته"، وفي رواية:"فتلقاه رحمته"، قال في "الفتح": قوله: "فتلقاه رحمته" في رواية الكشميهني "فتلافاه"، قال ابن التين: أما تلقاه بالقاف فواضح، لكن المشهور تعديته بالباء، وقد جاء هنا بغير تعدية، وعلى هذا فالرحمة منصوبة على المفعولية، ويَحْتَمِل أن يكون ذَكَر الرحمة، وهي على هذا بالرفع، قال: وأما تلافاه بالفاء فلا أعرف له وجهًا، إلا أن يكون أصله فتلففه؛ أي: غشاه، فلما اجتمعت ثلاث فاءات أُبدلت الأخيرة ألفًا، مثل دسّاها.
قال الحافظ: كذا قال، ولا يخفى تكلفه، والذي يظهر أنه من الثلاثيّ، والقول فيه كالقول في التلقي، وقد وقع في حديث سلمان:"مما تلافاه عندها أن غَفَر له". انتهى
(2)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: وفي الحديث أن المسرف على نفسه لا ييأس من
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 74.
(2)
"الفتح" 8/ 138 - 139، "كتاب الأنبياء" رقم (3478).
رحمة اللَّه تعالى، ومغفرته
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 6959 و 6960](2757)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3478) و"الرقاق"(6481) و"التوحيد"(7508)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 13 و 17)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(649 و 650)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 232)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(559)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 284 و 8/ 469)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(2/ 261)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6960]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، ذَكَرُوا جَمِيعًا بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ نَحْوَ حَدِيثِهِ، وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ، وَأَبِي عَوَانَةَ:"أَنَّ رَجُلًا مِنَ النَّاسِ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا"، وَفِي حَدِيثِ التَّيْمِيِّ:"فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا"، قَالَ: فَسَّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدَّخِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا، وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ:"فَإِنَّهُ وَاللَّهِ مَا ابْتَأَرَ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا"، وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ:"مَا امْتَأَرَ" بِالْمِيمِ).
رجال هذا الإسناد: عشرة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) هو: يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.
(1)
"المفهم" 7/ 79.
2 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ الكوفيّ الحافظ تقدّم قبل بابين.
3 -
(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب -بمعجمة، ثم تحتانية- أبو عليّ البغداديّ، قاضي الموصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.
4 -
(شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى نحوة، بطن من الأزد، لا إلى علم النحو [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.
5 -
(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد بن المثنّى، أبو موسى الْعَنّزي المعروف بالزّمِن، تقدّم قريبًا.
6 -
(أَبُو الْوَلِيدِ) هشام بن عبد الملك الباهليّ مولاهم الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 227) وله أربع وتسعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 63.
7 -
(أَبُو عَوَانَةَ) وَضّاح اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.
والباقون ذُكروا في الباب.
وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ قَتَادَةَ) ضمير التثنية لشيبان، وأبي عوانة.
وقوله: (ذَكَرُوا جَمِيعًا. . . إلخ) ضمير الجماعة للثلاثة، وهم: سليمان التيميّ، وشيبان النحويّ، وأبو عوانة.
وقوله: (بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ)؛ أي: عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه. وقوله:(نَحْوَ حَدِيثِهِ)؛ أي: نحو حديث شعبة.
وقوله: (رَغَسَهُ اللَّهُ مَالًا وَوَلَدًا) هو بِالغين المعجمة المخففة، والسين المهملة؛ أي: أعطاه مالًا، وبارك له فيه، قاله النوويّ.
وقال في "الفتح": قوله: "رغسه اللَّه" بفتح الراء، والغين المعجمة، بعدها سين مهملة؛ أي: كَثّر ماله، وقيل: رَغْسُ كلِّ شيء أصله، فكأنه قال: جعل له أصلًا من مال، قال: ووقع في مسلم: "رأسه اللَّه" بهمز بدل الغين المعجمة، قال ابن التين: وهو غلط، فإن صح -أي: من جهة الرواية- فكأنه كان فيه رَاشَهُ -يعني: بألف ساكنة، بغير همز، وبشين معجمة- والريش والرياش: المال. انتهى.
ويَحْتَمِل في توجيه رواية مسلم أن يقال: معنى "رأسه": جعله رأسًا، ويكون بتشديد الهمزة، وقوله:"مالًا"؛ أي: بسبب المال. انتهى
(1)
.
وقوله: (فَإِنَّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرًا) قال في "الفتح": كذا وقع هنا "يبتئر" بفتح أوله، وسكون الموحّدة، وفتح المثناة، بعدها تحتانية مهموزة، ثم راء مهملة، وتفسير قتادة صحيح، وأصله من البئيرة بمعنى الذخيرة، والخبيئة، قال أهل اللغة: بأرت الشيءَ، وابتأرته أبأره، وأبتئره: إذا خبأته، ووقع في رواية ابن السكن:"لم يأبتر" بتقديم الهمزة على الموحّدة، حكاه عياض، وهما صحيحان بمعنى، والأول أشهر، ومعناه: لم يُقَدِّم خيرًا، كما جاء مفسرًا في الحديث، يقال: بأرتُ الشيء، وابتأرته، وائبترته: إذا ادّخرته، ومنه قيل للحفرة: البئر، ووقع في "التوحيد"، وفي رواية أبي زيد المروزيّ فيما اقتصر عليه عياض، وقد ثبت عندنا كذلك في رواية أبي ذرّ:"لم يبتئر، أو لم يبتئز" بالشك في الزاي، أو الراء، وفي رواية الجرجاني بنون بدل الموحّدة، والزاي، قال: وكلاهما غير صحيح، وفي بعض الروايات في غير البخاريّ:"ينتهز" بالهاء بدل الهمزة، وبالزاي، و"يمتئر" بالميم بدل الموحّدة، وبالراء أيضًا، قال: وكلاهما صحيح أيضًا، كالأولين. انتهى
(2)
.
وقوله: (قَالَ: فَسَّرَهَا قَتَادَةُ. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير سليمان التيميّ.
وقوله: (مَا ابْتَأَرَ، وكذا مَا امْتَأَرَ) بِالْمِيمِ معناهما واحد، كما سبق آنفًا؛ أي: ما ادّخر، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: أما رواية سليمان التيميّ عن قتادة فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(6116)
- حدّثنا موسى، حدّثنا معتمر، سمعت أبي، حدّثنا قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا فيمن كان سلف، أو قبلكم، آتاه اللَّه مالًا وولدًا؛ يعني: أعطاه، قال: فلما حُضِر، قال لبنيه: أيُّ أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر عند اللَّه خيرًا -فسَّرها قتادة: لم يدخر- وإن يَقْدَم على اللَّه يعذبه، فانظروا،
(1)
"الفتح" 8/ 136.
(2)
"الفتح" 8/ 136.
فإذا متّ، فأحرقوني، حتى إذا صِرْت فَحْمًا، فاسحقوني، أو قال: فاسهكوني، ثمَّ إذا كان ريح عاصف، فاذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا، فقال اللَّه: كن، فإذا رجل قائم، ثم قال: أي عبدي ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فَرَق منك، فما تلافاه أن رحمه الله"، فحدّثت أبا عثمان
(1)
، فقال: سمعت سلمان، غير أنه زاد:"فاذروني في البحر"، أو كما حدث.
وقال معاذ: حدّثنا شعبة، عن قتادة، سمعت عقبة، سمعت أبا سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى
(2)
.
وأما رواية شيبان النحويّ عن قتادة، فساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(11682)
- حدّثنا حسن بن موسى، ثنا شيبان، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن رجلًا ممن خلا من الناس، رَغَسه اللَّه مالًا وولدًا، فلما حضره الموت، ودعا بنيه، فقال: أيُّ أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه واللَّه ما ابتأر عند اللَّه خيرًا قط، فإذا مات فاحرقوه، حتى إذا كان فَحْمًا، فاسحقوه، ثم اذروه في يوم؛ يعني: ريحًا عاصفًا، قال: وقال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أخذ مواثيقهم على ذلك وربي، ففعلوا وربي، لمّا مات أحرقوه، حتى إذا كان فحمًا سحقوه، ثم أذروه في يوم عاصف، قال ربه: كن، فإذا هو رجل قائم، قال له ربه: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: رب خِفت عذابك، قال: فوالذي نفس محمد بيده ما تلافاه غيرها، أن غفر اللَّه له"، قال الحسن مرّةً:"ما تلاقاه غيرها، أن غفر اللَّه له"، قال قتادة: رجل خاف عذاب اللَّه، فأنجاه اللَّه من مخافته. انتهى
(3)
.
وأما رواية أبي عوانة عن قتادة، فساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(1)
القائل: "فحدثت" هو سليمان التيميّ، و"أبو عثمان" هو: النهديّ، و"سلمان" هو الفارسيّ الصحابيّ رضي الله عنه.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2378.
(3)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 69.
(3291)
- حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أن رجلًا كان قبلكم رَغَسه اللَّه مالًا، فقال لبنيه لمّا حُضِر: أيُّ أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإني لم أعمل خيرًا قط، فإذا متّ فأحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه اللَّه عز وجل، فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته". انتهى
(1)
.
(5) - (بَابُ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَإِنْ تَكَرَّرَتِ الذُّنُوبُ، وَالتَّوْبَةُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6961]
(2758) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل، قَالَ:"أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ"، قَالَ عَبْدُ الأَعْلَى: لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ، أَوِ الرَّابِعَةِ:"اعْمَلْ مَا شِئْتَ"؟
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُويَهْ الْقُرَشِيُّ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).
(1)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1282.
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادِ) بن نصر الباهليّ مولاهم البصريّ، أبو يحيى المعروف بالنَّرْسيّ -بفتح النون، وسكون الراء، وبالمهملة- ثقةٌ
(1)
، من كبار [10](ت 6 أو 237)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.
2 -
(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار، أبو سلمة البصريّ، ثقة عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.
3 -
(إِسْحاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أبو يحيى المدنيّ، ثقةٌ حجةٌ [4] (ت 132) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 30/ 667.
4 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ) واسمه عمرو بن محصن، وقيل: غيره، الأنصاريّ النجاريّ، ثقةٌ، يقال: وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة [2](ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 47/ 1492.
5 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر في الحديث الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من إسحاق، والباقيان بصريّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد سبق القول فيه قريبًا.
شرح الحديث:
(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ التابعيّ المشهور، (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ) قال في "الفتح": تابعيّ جليل من أهل المدينة، له في البخاريّ عن أبي هريرة عشرة أحاديث، غير هذا الحديث، واسم أبيه كنيته، وهو أنصاريّ صحابيّ، ويقال: إن لعبد الرحمن رؤيةً، وقال ابن أبي حاتم: ليست له صحبة، ولهم عبد الرحمن بن أبي عمرة آخر، أدركه مالك، وقال ابن عبد البرّ: هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أبي عمرة، نُسب لجدّه،
(1)
هذا أَولى من قوله في "التقريب": لا بأس به، كما يظهر من "تهذيب التهذيب".
قال الحافظ: فعلى هذا هو ابن أخي الراوي عنه. انتهى
(1)
.
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه وأخرج البخاريّ هذا الحديث في "كتاب التوحيد" من "صحيحه"، فقال:"حدّثنا أحمد بن إسحاق، حدّثنا عمرو بن عاصم، حدّثنا همّام، حدّثنا إسحاق بن عبد اللَّه، سمعت عبد الرحمن بن أبي عمرة، قال: سمعت أبا هريرة، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم" فصرّح بالتحديث، والسماع من أوله إلى آخره. (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عز وجل) هذا هو المسمّى بالحديث القدسيّ. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَذْنَبَ عَبْدٌ)؛ أي: من هذه الأمة أو من غيرهم، (ذَنْبًا) وفي رواية البخاريّ:"إن عبدًا أصاب ذنبًا -وربما قال-: أذنب ذنبًا"، قال الحافظ: كذا تكرر هذا الشكّ في هذا الحديث من هذا الوجه، ولم يقع في رواية حماد بن سلمة -يعني: في رواية مسلم هنا- ولفظه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال: "أذنب عبد ذنبًا"، وكذا في بقية المواضع. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ) ذلك العبد، وهو عَطْف على "أذنب"، قال الطيبيّ: الفاء سببيّة، جعل اعترافه بالذنب سببًا للمغفرة، حيث أوجب اللَّه تعالى المغفرة للتائبين المعترفين بالسيّئات على سبيل الوعد
(3)
. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي) وفي رواية البخاريّ: "إن عبدًا أصاب ذنبًا، وربما قال: أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت، وربما قال: أصبت فاغفر لي". (فَقَالَ تَبَارَكَ)؛ أي: تكاثرت خيرات أسمائه (وَتَعَالَى)؛ أي: ارتفع عن كل ما لا يليق به، (أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ)؛ أي: إذا شاء لمن شاء، (وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ)؛ أي: يؤاخذ، ويعاقب فاعله، إذا شاء لمن شاء، وفي رواية البخاريّ:"فقال ربه: أَعَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي"، "فقال ربه" للملائكة:"أَعَلِمَ عبدي" بهمزة الاستفهام، والفعل الماضي، وللأصيليّ:"علم" بحذف الهمزة، وقال الطيبيّ: قوله: "أعلم" يجوز أن يكون استخبارًا عن الملائكة،
(1)
"الفتح" 17/ 513، "كتاب التوحيد" رقم (7507).
(2)
"الفتح" 17/ 513.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1843.
وهو أعلم به؛ للمباهاة، وأن يكون استفهامًا للتقرير، والتعجيب، وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة شكرًا لصنيعه إلى غيره، وإحمادًا له على فعله. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ) وفي رواية البخاريّ: "ثمَّ مكث ما شاء اللَّه، ثم أذنب ذنبًا، وربما قال: أصاب ذنبًا"، (فَقَالَ: أَيْ) بفتح، فسكون: حرف نداء للقريب، وفيها خلاف بين النحاة، أشرت إليه في "التحفة المرضيّة"، بقولي:
"أَيْ" لِنَدَا الْأَوْسَطِ أَوْ ذِي الْقُرْبِ
…
أَوْ ذِي الْبُعْدِ وَالتَّفْسِيرَ أَيْضًا قَدْ رَأَوْا
(رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ، فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تبارك وتعالى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا، يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ)؛ أي: من الذنب المعقَّب بالتوبة الصحيحة، ففيه أن التوبة الصحيحة لا يضرّ فيها العود إلى الذنب ثانيًا، بل مضت على صحتها، ويتوب من المعصية الثانية. (فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ")؛ أي: ما دُمت تُذنب، ثم تتوب، قال المنذريّ رحمه الله: قوله: "فليعمل ما شاء" معناه: إذا كان هذا دأبه، يذنب الذنب، فيتوب منه، ويستغفر، فليفعل ما شاء؛ لأنه كلما أذنب كانت توبته، واستغفاره كفارة لذنبه، فلا يضرّه، لا أنه يذنب الذنب، فيستغفر منه بلسانه، من غير إقلاع، ثم يعاوده، فإن هذه توبة الكذابين، ويدل له قوله:"ثمَّ أصاب ذنبًا آخر". انتهى.
وقال النوويّ رحمه الله: معناه: ما دُمت تذنب، ثم تتوب غفرت لك.
وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: اعمل ما شئت ما دُمت تذنب، ثم تتوب، فإني أغفر لك، قال: وهذه العبارة تُستعمل تارة في معرض السخطة والنكير، وتارةً في صورة التلطّف والحفاوة، وليس المراد منه في كلتا الصورتين حثّ على الفعل، أو الترخّص فيه، وعلى السخطة والنكير وَرَدَ قوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، وعلى الحفاوة والتلطّف وَرَدَ هذا الحديث، وذلك مثل قولك لمن تودّه، وترى منه الجفاء: اصنع ما شئت، فلست بتارك لك، وقوله صلى الله عليه وسلم في حقّ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه: "لعلّ اللَّه اطّلع
(1)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1843.
على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم". انتهى.
قال المباركفوريّ رحمه الله: قد أشكل على كثير من الناس معنى قوله: "فليعمل ما شاء" كما أشكل عليهم معنى قوله المذكور في حديث حاطب، فإن ظاهره إباحة كل الأعمال لأهل بدر، وتخييرهم فيما شاءوا منها، وذلك ممتنع.
وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
منها: ما قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 16: إن هذا خطاب لقوم قد عَلِمَ اللَّه سبحانه وتعالى أنهم لا يفارقون دينهم، بل يموتون على الإِسلام، وأنهم قد يقارفون بعض ما يقارفه غيرهم من الذنوب، ولكن لا يتركهم سبحانه مصرّين عليها، بل يوفقهم لتوبة نصوح، واستغفار، وحسنات، تمحو أثر ذلك، ويكون تخصيصهم بهذا دون غيرهم؛ لأنه قد تحقق ذلك فيهم، وإنهم مغفور لهم، ولا يمنع ذلك كون المغفرة حصلت بأسباب تقوم بهم، كما لا يقتضي ذلك أن يعطلوا الفرائض؛ وثوقًا بالمغفرة، فلو كانت قد حصلت بدون الاستمرار على القيام بالأوامر لَمَا احتاجوا بعد ذلك إلى صلاة، ولا صيام، ولا حجّ، ولا زكاة، ولا جهاد، وهذا محال، ومِن أوجب الواجبات التوبة بعد الذنب، فضمان المغفرة لا يوجب تعطيل أسباب المغفرة، ونظير هذا قوله في الحديث الآخر:"أذنب عبد ذنبًا، فقال: أيْ رب أذنبت ذنبًا، فاغفره لي، فغفره له. . ." الحديث، وفيه:"قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء"، فليس في هذا إطلاق وإذن منه سبحانه له في المحرمات، والجرائم، وإنما يدلّ على أنه يغفر له ما دام كذلك، إذا أذنب وتاب، واختصاص هذا العبد بهذا؛ لأنه قد عَلِم أنه لا يصرّ على ذنب، وأنه كلما أذنب تاب، وهذا حكمٌ يعمّ كل من كانت حاله حاله، لكن ذلك العبد مقطوع له بذلك، كما قُطع به لأهل بدر، وكذلك كل من بَشَّره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجنة، أو أخبره بأنّه مغفور له لم يَفْهَم منه هو ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم إطلاق الذنوب والمعاصي له، ومسامحته بترك الواجبات، بل كان هؤلاء أشدّ اجتهادًا، وحذرًا، وخوفًا بعد البشارة منهم قبلها؛ كالعشرة المشهود لهم بالجنة، وقد كان الصدّيق شديد الحذر والمخافة، وكذلك عمر، فإنهم عَلِموا أن البشارة المطلقة مقيدة بشروطها، والاستمرار عليها إلى الموت، ومقيدة بانتفاء موانعها، ولم يَفْهم أحد منهم من ذلك
الإطلاق الإذن فيما شاءوا من الأعمال. انتهى كلام ابن القيّم رحمه الله
(1)
، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله: (قَالَ عَبْدُ الأَعْلَى) هو ابن حمّاد شيخه، (لَا أَدْرِي أَقَالَ) فاعله ضمير حمّاد بن سلمة، (فِي) المرّة (الثَّالِثَةِ، أَوِ) المرّة (الرَّابِعَةِ: "اعْمَلْ مَا شِئْتَ"؟)؛ يعني: أنه شكّ في قوله: "اعمل ما شئت" هل قاله في المرّة الثالثة، أو في الرابعة.
وقوله: (قَالَ أَبُو أَحْمَدَ) هو: محمد بن عيسى بن محمد الزاهد النيسابوريّ الْجُلُوديّ المتوفَّى في ذي الحجة سنة (368 هـ)
(2)
وهو تلميذ أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ الزاهد الفقيه، راوي هذا الكتاب عن مؤلِّفه مسلم بن الحجاج. (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زَنْجُويَهْ الْقُرَشِيُّ الْقُشَيْرِيُّ) هو: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغداديّ، أبو بكر الغزّال، ثقةٌ [11]، مات سنة (258) وليس هو من رجال مسلم، وإنما يروي عنه الجلوديّ في زياداته؛ لعلوّ إسناده، وقد تقدّم هذا. (حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمَّادٍ النَّرْسِيُّ) شيخ مسلمُ (بِهَذَا الإِسْنَادِ)؛ أي: بإسناد مسلم، وهو عن حمّاد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وغرض أبي أحمد بهذا الكلام بيان علوّ إسناده في هذا الطريق على إسناده في طريق مسلم؛ لأنه وصل إلى عبد الأعلى بهذا بواسطة واحدة، وهو ابن زنجويه، بخلافه هناك، فإنه وصل إليه بواسطتين، وهما: أبو إسحاق، ومسلم، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
(1)
"الفوائد" لابن قيّم الجوزيّة رحمه الله ص 16.
(2)
تقدّمت ترجمته في مقدّمة "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 63.
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6961 و 6962](2758)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7507)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 111) وفي "عمل اليوم والليلة"(1/ 318)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 296 و 405 و 492)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(622 و 625)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 409)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 242)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1067)، و (الطبرانيّ) في "الدعاء"(1/ 503)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 188) و"شعب الإيمان"(5/ 405)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سعة رحمة اللَّه سبحانه وتعالى، وفضله، وكرمه.
2 -
(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث أن الذنوب لو تكررت مائة مرة، بل ألفًا، أو أكثر، وتاب في كل مرة قُبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة صحّت توبته.
3 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث يدلّ على عظيم فائدة الاستغفار، وكثرة فضل اللَّه وسعة رحمته وحلمه وكرمه، ولا شكّ في أن هذا الاستغفار ليس هو الذي ينطق به اللسان، بل هو يثبت معناه في الجِنان، مقارنًا للسان؛ لتنحل به عقدة الإصرار، ويحصل معه الندم على ما سلف من الأوزار، فإذًا الاستغفار ترجمة التوبة، وعبارة عنها، ولذلك قال:"خياركم كل مُفْتَنٍ تواب"
(1)
، قيل: هو الذي يتكرر منه الذنب والتوبة، فكلّما وقع في الذنب عاد إلى التوبة، وأما من قال بلسانه: أستغفر اللَّه، وقلبه مصرّ على تلك المعصية، فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار، وصغيرته لاحقة بالكبار؛ إذ لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع استغفار. انتهى
(2)
.
قال الحافظ رحمه الله: ويشهد له ما أخرجه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من
(1)
رواه البيهقيّ في "شعب الإيمان"(7120 و 7121). قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: ضعيف، وقد صحّ بلفظ:"إن المؤمن خُلق مفتنًا توّابًا. . .". راجع: "الضعيفة" 5/ 268.
(2)
"المفهم" 7/ 85 - 86.
الذنب، وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه"، والراجح أن قوله: والمستغفر. . . إلى آخره موقوف، وأوله عند ابن ماجه، والطبرانيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وسنده حسن، وحديث: "خياركم كل مفتن توّاب"، ذكره في "مسند الفردوس" عن عليّ رضي الله عنه
(1)
.
4 -
(ومنها): ما قاله القرطبيّ أيضًا: فائدة هذا الحديث أن العود إلى الذنب، وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه انضاف إلى نقض التوبة، فالعودة إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه انضاف إليها ملازمة الإلحاح بباب الكريم، فإنه لا غافر للذنوب سواه. انتهى
(2)
.
5 -
(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث أن المصرّ على المعصية في مشيئة اللَّه تعالى، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، مغلّبًا الحسنة التي جاء بها، وهي اعتقاد أن له ربًا خالقًا، يعذبه، ويغفر له، واستغفاره إياه على ذلك يدلّ عليه قوله تعالى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ولا حسنة أعظم من التوحيد، فإن قيل: إن استغفاره ربه توبة منه.
قلنا: ليس الاستغفار أكثر من طلب المغفرة، وقد يطلبها المصرّ والتائب، ولا دلالة في الحديث على أنه تاب مما سأل الغفران عنه؛ لأنَّ حدّ التوبة الرجوع عن الذنب، والعزم على أن لا يعود إليه، والإقلاع عنه، والاستغفار بمجرّده لا يُفهم منه ذلك
(3)
.
وقال غيره: شروط التوبة ثلاثة: الإقلاع، والندم، والعزم على أن لا يعود إليه، والتعبير بالرجوع عن الذنب لا يفيد معنى الندم، بل هو إلى معنى الإقلاع أقرب.
قال بعضهم: يكفي في التوبة تحقق الندم على وقوعه منه، فإنه يستلزم الإقلاع عنه، والعزم على عدم العود فهما ناشئان عن الندم، لا أصلان معه، ومن ثمَّ جاء الحديث:"الندم توبة"، وهو حديث حسن من حديث ابن
(1)
تقدّم أن قوله: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" حديث حسن لغيره.
(2)
"المفهم" 7/ 85 - 86.
(3)
"شرح البخاريّ" لابن بطال رحمه الله 10/ 503.
مسعود رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه، وصححه الحاكم، وأخرجه ابن حبَّان من حديث أنس، وصححه، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في أوائل "كتاب التوبة"، فلتراجعه هناك، وباللَّه تعالى التوفيق.
وقال السبكيّ الكبير في "الحلبيات": الاستغفار طلب المغفرة، إما باللسان، أو بالقلب، أو بهما، فالأول: فيه نفع؛ لأنه خير من السكوت، ولأنه يعتاد قول الخير، والثاني: نافع جدًّا، والثالث: أبلغ منه، لكن لا يمحصان الذنب -أي: قطعًا، وجزمًا- حتى توجد التوبة منه، فإن العاصي المصرّ يطلب المغفرة، ولا يستلزم ذلك وجود التوبة -إلى أن قال-: والذي ذكرته إن معنى الاستغفار غير معنى التوبة هو بحَسَب وَضْع اللفظ، لكنه غلب عند كثير من الناس أن لفظ "أستغفر اللَّه" معناه التوبة، فمن كان ذلك معتقده فهو يريد التوبة، لا محالة، ثم قال: وذكر بعض العلماء أن التوبة لا تتم إلا بالاستغفار؛ لقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]، والمشهور أنه لا يشترط. انتهى من "الفتح"
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6962]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَاصٌّ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا"، بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَذَكَرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: "أَذْنَبَ ذَنْبًا"، وَفِي الثَّالِثَةِ: "قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) هو: عبد الحميد بن حُميد الكسيّ، تقدّم في الباب الماضي.
2 -
(أَبُو الْوَلِيدِ) هشام بن عبد الملك الطيالسيّ البصريّ، ذُكر قبل حديث.
(1)
"الفتح" 17/ 514 - 515، "كتاب التوحيد" رقم (7507).
3 -
(هَمَّامُ) بن يحيى الْعَوْذيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقون ذُكروا قبله.
[تنبيه]: رواية همّام بن يحيى عن إسحاق بن عبد اللَّه هذه ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الدعاء" بلفظ المصنّف رحمه الله فقال:
(1776)
- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا عفان، وحفص بن عمر الحوضيّ (ح) وحدّثنا يوسف القاضي، ثنا أبو الوليد الطيالسيّ، قالوا: ثنا همام، ثنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، قال: كان قاصّ بالمدينة، يقال له: عبد الرحمن بن أبي عمرة، فسمعته يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن عبدًا أذنب، فقال: يا رب أذنبت ذنبًا، فاغفر لي، فقال ربه عز وجل: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، فغفر له، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: يا رب أذنبت ذنبًا، فاغفر لي، فقال ربه عز وجل: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، ثم مكث ما شاء اللَّه، ثم أذنب ذنبًا آخر، فقال: رب أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فقال ربه عز وجل: عَلِم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب، ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء". انتهى
(1)
.
وأخرجه أحمد بنحو معناه في "مسنده"(2/ 296)، وابن حبَّان في "صحيحه"(2/ 388)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6963]
(2759) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم قريبًا.
2 -
(عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بن عبد اللَّه بن طارق الْجَمَليّ المراديّ، أبو عبد اللَّه
(1)
"الدعاء" للطبرانيّ 1/ 503.
الكوفيّ الأعمى، ثقةٌ عابدٌ، كان لا يدلِّس، ورمي بالإرجاء [5] (ت 118) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452.
3 -
(أَبُو عُبَيْدَةَ) بن عبد اللَّه بن مسعود، مشهور بكنيته، والأشهر أنه لا اسم له غيرها، ويقال: اسمه عامر، الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3] والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة ثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 85/ 452. 4 - (أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس بن سُليم بن حَضّار -بفتح المهملة، وتشديد الضاد المعجمة- الأشعريّ الصحابيّ المشهور، أَمّرَه عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الحكمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عز وجل يَبْسُطُ يَدَهُ)؛ أي: بسطًا حقيقيًّا، لا مجازيًّا، فإن الحقّ، والصواب أن للَّه تعالى يدًا حقيقيّة، كما أثبتتها نصوص الكتاب والسُّنَّة، فنُثبتها إثباتًا بلا تمثيل، وننزّه اللَّه سبحانه وتعالى عن مشابهة خَلْقه، تنزيهًا، بلا تعطيل، وأما ما يذكره شرّاح هذا الحديث من التأويل، فهو تأويل مذموم مخالف لِمَا عليه السلف الصالح، ودونك بعض ما قالوه.
قال في "المرعاة": قوله: "إن اللَّه يبسط يده" قيل: بسط اليد عبارة عن الطلب؛ لأنَّ عادة الناس إذا طلب أحدهم شيئًا من أحدهم بسط إليه كفه؛ والمعنى: يدعو المذنبين إلى التوبة، وقال النوويّ: معناه: يقبل التوبة من المسيئين نهارًا وليلًا، حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يختص قبولها بوقت، فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازريّ: المراد به قبول التوبة، وإنما
ورد لفظ بسط اليد؛ لأنَّ العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسيّ يفهمونه، وهو مجاز، فإن يد الجارحة مستحيلة في حق اللَّه تعالى. انتهى. وقيل: البسط عبارة عن التوسع في الجود، والعطاء، والتنزه عن المنع، وفي الحديث تنبيه على سعة رحمته، وكثرة تجاوزه. وقال الطيبيّ: هو تمثيل يدلّ على أن التوبة مطلوبة عنده، محبوبة لديه، كأنه يتقاضاها من المسيء. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذه التأويلات كلّها غير مقبولة؛ لأنَّ حاصلها حَمْل بسط اللَّه تعالى يده على لازم المعنى، والحقّ أن أصل المعنى ثابت للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ثم يتبعه ما ذكروه من اللوازم، فتنبذه، ولا تغترّ بكثرة القائلين، وإنما الحقّ ما دلّ عليه صريح الكتاب والسُّنَّة، وإن قلّ قائلوه، على أن هذه المسألة القائلون بها كثيرون، وهم السلف، ومن سلك سبيلهم، فاتّبع طريقهم تَسْلَم، وتَغْنَم، واللَّه تعالى الهادي إلى الطريق الأقوم.
(بِاللَّيْلِ)؛ أي: فيه، فالباء بمعنى "في"، (لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ)؛ يعني: أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، بل يمهلهم؛ ليتوبوا، (وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا")؛ أي: إلى طلوع الشمس من محلّ غروبها، وذلك قرب الساعة، وهو وقت غلق باب التوبة، قال تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158]، قال القرطبيّ رحمه الله: يعني: أن التوبة تصحّ، وتُقبل دائمًا إلى الوقت الذي تطلع فيه الشمس من حيث تغرب، فإذا كان ذلك طُبع على كل قلب بما فيه، ولم تنفع توبة أحد، وهذا معنى قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158].
وسرّ ذلك، وسببه أن ذلك هو أول قيام الساعة، فإذا شوهد ذلك، وَعُويِنَ حصل الإيمان الضروريّ، وارتفع الإيمان بالغيب الذي هو المكلّف به، وسيأتي القول في تحقيق القول في طلوع الشمس من مغربها في محلّه
(1)
.
(1)
"المفهم" 7/ 105.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: طلوع الشمس من مغربها إحدى العلامات الكبرى التي رمز إليها بعضهم بقوله: "مَدْعِي طَد" فالميم للمهديّ، والدال للدجّال، والعين لعيسى عليه السلام، والياء ليأجوج ومأجوج، والطاء لطلوع الشمس من مغربها، والدال لدابّة الأرض، ويزاد عليها ثلاث خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وريح تخرج من قعر عدن، فتسوق الناس إلى المحشر، فهذه هي الآيات العشر التي سيأتي بيانها بالتفصيل في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" عند شرح حديث حذيفة بن أَسِيد الغِفَاريّ رضي الله عنه، قال: اطّلع النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، ونحن نتذاكر، فقال:"ما تذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة، قال:"إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات، فذكر: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تَخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم".
وسأستوفي شرحها هناك بالتفصيل -إن شاء اللَّه تعالى-.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 6963 و 6964](2759)، و (النسائيّ) في "الكبرى"، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 و 404)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 197)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 39)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(695)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 136 و 10/ 188) و"شعب الإيمان"(5/ 400) وفوائده ستأتي في "كتاب الفتن، وأشراط الساعة" -إن شاء اللَّه تعالى-.
[6964]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.
و"شُعبة" ذُكر قبله.
[تنبيه]: رواية أبي داود الطيالسيّ عن شعبة هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(16281)
- أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد اللَّه بن جعفر الأصبهانيّ، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود الطيالسيّ، ثنا شعبة، عن عمرو بن مُرّة، سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها". انتهى
(1)
.
(6) - (بَابُ بَيَانِ غَيْرَةِ اللَّهِ عز وجل، وَتَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6965]
(2760) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.
(1)
"سنن البيهقيّ الكبرى" 8/ 136.
والباقون كلّهم تقدّموا قبل أربعة أبواب، وإسحاق هو ابن راهويه، و"جرير" هو ابن عبد الحميد.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه إسحاق، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه عبد اللَّه مهملًا، هو ابن مسعود رضي الله عنه ذو المناقب الجمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ) أفعل التفضيل بمعنى المفعول، وقوله:(الْمَدْحُ) بالرفع فاعله، (مِنَ اللَّهِ) وحبّ اللَّه المدح ليس من جنس ما يُعقل من حب المدح، وإنما الرب أحب الطاعات، ومن جملتها مَدْحه؛ ليثيب على ذلك، فينتفع المكلّف، لا لينتفع هو بالمدح، ونحن نحب المدح لننتفع، ويرتفع قدرنا في قومنا، فظهر من غلط العامة قولهم: إذا أحب اللَّه المدح، فكيف لا نحبه نحن، فافهم، قاله في "العمدة"
(1)
.
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ)؛ أي: ولأجل حبه المدح (مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ)"أغير" أفعل تفضيل من الغَيْرة -بفتح الغين- وهي الأَنَفَة، والْحَمِيّة، قال النحّاس: هو أن يحمي الرجل زوجته وغيرها، من قرابته، ويمنع أن يدخل عليهنّ، أو يراهن غير ذي محرم، والغيور ضدّ الدَّيّوث، والقندع، بضم الدال، وفتحها: الدّيّوث، وفي "الموعب" لابن التيانيّ: رجل غيران، من قوم غيارى، وغيارى بفتح الغين، وضمها، وقال ابن سِيده: غار الرجل غَيرة، وغَيْرًا، وغارًا، وغيارًا، وحكى البكريّ عن أبي جعفر البصريّ: غِيرة بكسر الغين، والْمِغيار: الشديد المغيرة، وفلان لا يتغير على أهله؛ أي: لا يغار، وقال الزمخشريّ: أغار الرجل امرأته: إذا حملها على المغيرة، يقال: رجل غيور، وامرأة غيور، هذا في حقّ الآدميين، وأما في حقّ اللَّه، فقد جاء مُفَسّرًا في
(1)
"عمدة القاري" 18/ 228.
الحديث، وغيرة اللَّه تعالى أن يأتي المؤمن ما حرّمه اللَّه عليه؛ أي: أن غيرته مَنْعُه وتحريمه، ولمّا حرّم اللَّه الفواحش، وتواعد عليها وصفه صلى الله عليه وسلم بالغيرة، وقال صلى الله عليه وسلم:"مِن غَيْرته أن حرَّم الفواحش"
(1)
.
وقال في "الفتح": وقيل: غيرة اللَّه كراهة إتيان الفواحش؛ أي: عدم رضاه بها، لا التقدير
(2)
، وقيل: الغضب، لازم المغيرة، ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة. انتهى
(3)
.
وكتب الشيخ البرّاك تعليقًا على ما ذكره في "الفتح"، فقال: قوله: "وقيل: غيرة اللَّه كراهة إتيان الفواحش إلخ": لا ريب أن غيرة اللَّه سبحانه وتعالى من الفعل تتضمّن كراهته له، والغضب على فاعله، وهذا يدلّ على قبح الفعل عنده سبحانه وتعالى، ولذلك يحرّمه على عباده، يدلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"، والغيرة، والكراهة، والغضب صفات ثابتة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله، تأويلها بإرادة إيصال العقوبة هي طريقة الأشاعرة الذين لا يُثبتون إلا الصفات السبع، ومنها الإرادة، ومعنى ذلك: أنه لا يوصف عندهم بهذه الصفات على حقيقتها. انتهى كلام البرّاك -حفظه اللَّه تعالى-
(4)
.
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: خلاصة القول في هذا المسألة: مسألة الصفات، كالغيرة؛ والمحبّة، والرضا، والغضب، والإتيان، والمجيء، والاستواء والنزول أننا نعتقد ثبوتها للَّه سبحانه وتعالى على ظواهرها، على ما يليق بجلاله، إثباتًا بلا تمثيل، ولا تعطيل، ولا تأويل، واللَّه تعالى أعلم.
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ)؛ أي: لأجل الغيرة (حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ") قال الإمام ابن جرير رحمه الله: إن أهل التأويل اختلفوا في المراد بالفواحش، فمنهم من حملها
(1)
"عمدة القاري" 18/ 228، "تحفة الأحوذيّ" 9/ 357.
(2)
هكذا وقع في "الفتح" بلفظ: "التقدير"، وقال الشيخ البرّاك: الظاهر أن هذه اللفظة مصحّفة من "التغيير"؛ لأنه المناسب لمادّة المغيرة. انتهى.
(3)
"الفتح" 17/ 352.
(4)
من هامش "الفتح" 17/ 352 "كتاب التوحيد" رقم (7403).
على العموم، وساق ذلك عن قتادة، قال: المراد: سرّ الفواحش، وعلانيتها، ومنهم من حملها على نوع خاصّ، وساق عن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السرّ، ويستقبحونه في العلانية، فحرَّم اللَّه الزنى في السرّ والعلانية، ومن طريق سعيد بن جبير، ومجاهد: ما ظهر نكاح الأمهات، وما بطن الزنى، ثم اختار ابن جرير القول الأول، قال: وليس ما رُوي عن ابن عباس وغيره بمدفوع، ولكن الأَولى الحمل على العموم. انتهى
(1)
.
وقال في "العمدة": اختَلَف المفسرون في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} الآية [الأنعام: 151]، فعن ابن عباس، والحسن، والسديّ أنهم قالوا: كانوا يستقبحون فعل الزنى علانية، ويفعلونه سرًّا، فنهاهم اللَّه عز وجل، وقيل: ما ظهر: الخمر، وما بطن: الزنا، قاله الضحاك، وقال الماورديّ: الظاهر: فِعل الجوارح، والباطن: اعتقاد القلب، وقيل: هي عامّة في الفواحش، ما ظهر، ما أُعلن منها، وما بَطن فُعِل سرًّا، وقيل: ما ظهر: ما بينهم وبين الخلق، وما بطن: ما بينهم وبين اللَّه تعالى، وقيل: ما ظهر: العِناق والقُبلة، وما بطن: النية. انتهى
(2)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 6965 و 6966 و 6967 و 6968](2760)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4634 و 4637) و"النكاح"(5220) و"التوحيد"(7403)، و (الترمذيّ) في "الدعوات"(3530)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11183)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 149)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(266)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 436)، و (ابن حبَّان) في "صحيحه"(294)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 103 و 109)، و (الطبرانيّ) في
(1)
"تحفة الأحوذيّ" 9/ 357.
(2)
"عمدة القاري" 18/ 228.
"الكبير"(10378)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 44)، و (البيهقيّ) في "الصفات"(ص 283)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2373)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): إثبات صفة المحبّة للَّه تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ومما يُحبّه اللَّه تعالى المدح، ولأجل محبّته مدح نفسه في كتابه الكريم.
2 -
(ومنها): إثبات صفة الغيرة له سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ولا نتأوله، كما تأوله الأشاعرة، وغيرهم، قال ابن دقيق العيد: المنزّهون للَّه إما ساكت عن التأويل، وإما مؤوّل، والثاني يقول: المراد بالغيرة: المنع من الشيء، والحماية، وهما من لوازم المغيرة، فأُطلقت على سبيل المجاز؛ كالملازمة، وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب. انتهى
(1)
.
وتعقّبه الشيخ البرّاك، فقال: قول ابن دقيق العيد: المنزّهون. . . إلخ يريد بالمنزّهين: نفاة حقائق كثيرة من الصفات؛ كالمحبّة، والرضا، والضحك، والفرح، والغضب، والكراهة، والغيرة، وأنهم في نصوص هذه الصفات طائفتان: إما مفوّضةٌ، وإما مؤوّلة، وهذا يصدق على الأشاعرة ونحوهم، فإنهم ينفون هذه الصفات، ويوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لظاهر اللفظ، وإطلاق لفظ المنزّهة عليهم يستلزم أن من يُثبت هذه الصفات مشبّه، وكذلك يسمّون المثبتين لسائر الصفات -وهم أهل السُّنَّة- مشبّهةً، كما أن الجهميّة، والمعتزلة يسمّون المثبتين لبعض الصفات؛ كالأشاعرة مشبّهةً، والحقَّ أن المنزّهة على الحقيقة هم أهل السُّنَّة والجماعة الذين أثبتوا للَّه جميع الصفات الواردة في الكتاب والسُّنَّة، ونزَّهوه عن مماثلة المخلوقات، فتسيمة النفاة منزّهةً، والمثبتين للصفات مشبّهةً من المغالطات، وتسمية الحقائق بغير أسمائها. انتهى كلام البرّاك، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.
3 -
(ومنها): أن من أجل غيرة اللَّه سبحانه وتعالى حرّم على عباده الفواحش ما ظهر منها، وما بطن، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
نقله في "الفتح" 17/ 382.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6966]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، غير أبي كريب محمد بن العلاء، فتقدّم قريبًا.
وقوله: ("لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) يجوز أن تكون "لا" هنا نافية للجنس تعمل عما "إن"، و"أحد" اسمها مبنيّ على الفتح، و"أغير" مرفوع على الخبريّة لها، وأن تكون عاملة عمل "ليس"، فـ "أحدٌ" اسمها مرفوع، و"أغيرَ" خبرها منصوب بها، و"من اللَّه" متعلّق به، وكذا إعراب قوله:"وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ".
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّلَ الكتاب قال:
[6967]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قُلْتُ لَهُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَرَفَعَهُ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا أَحَدٌ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (قُلْتُ لَهُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ. . . إلخ) السائل هو عمرو بن مرّة سأل أبا وائل، عن سماعه بنفسه عن ابن مسعود، فأجابه بنعم، وزاده أن ابن مسعود رفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وباللَّه تعالى التوفيق.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6968]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ عز وجل، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ").
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ) السّلميّ الرَّقّيّ، ويقال: الكوفيّ، ثقةٌ [4](ت 94)(بخ م د س) تقدم في "فضائل الصحابة" 22/ 6310.
2 -
(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ) بن قيس النخعيّ، أبو بكر الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [3](ت 83)(ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 295.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: ("لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ عز وجل) إلخ قوله: "المدح"؛ أي: الثناء بالجميل؛ يعني: أنه يحب المدح من عباده؛ ليثيبهم على مَدْحهم الذي هو بمعنى الشكر، والاعتراف بالعبودية للواحد الخالق المنعم القهار، فإذا كان الأشخاص المعلولون المربوبون المذنبون المقصرون يحبون المدح، فالذي يستحقه أَولى، وأحقّ تبارك الممدوح في أوصافه، المحمود على أفعاله، المنعم على عباده، البرّ الرؤوف الرحيم، قال في "التنقيح": فَهِم النوويّ منه أن يقال: مدحت اللَّه، وليس صريحًا؛ لاحتمال كون المراد أنه تعالى يحب أن
يمدح غيره، لا أن المراد: يحب أن يمدحه غيره. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله النوويّ رحمه الله هو الصواب؛ إذ هو ظاهر النصّ، فتأمل بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "ولا أحد أحب إليه المدح من اللَّه تعالى": حقيقة هذا مصلحة للعباد؛ لأنهم يُثنون عليه سبحانه وتعالى، فيثيبهم، فينتفعون، وهو سبحانه غنيّ عن العالمين، لا ينفعه مدحهم، ولا يضرّه تَرْكهم ذلك، وفيه تنبيه على فضل الثناء عليه سبحانه وتعالى، وتسبيحه، وتهليله، وتحميده، وتكبيره، وسائر الأذكار. انتهى
(2)
.
وقوله: (وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ) قال ابن بطّال رحمه الله: معناه ما ذُكر في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25]، فالعذر في هذا الحديث: التوبة والإنابة. انتهى
(3)
.
وقال في "العمدة": قوله: "العذر" مرفوع؛ لأنه فاعلُ "أحبّ"، قال الكرمانيّ: المراد بالعذر: الحجة؛ لقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)} [النساء: 165]، وقال صاحب "التوضيح": العذر: التوبة، والإنابة. انتهى
(4)
.
وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أحب إليه العذر. . . إلخ" قال القاضي: يَحْتَمِل أن المراد: الاعتذار؛ أي: اعتذار العباد إليه من تقصيرهم، وتوبتهم من معاصيهم، فيغفر لهم كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25].
وقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أنزَلَ الْكِتَابَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ")؛ أي: من أجل أنه يحبّ العذر أنزل الكتاب، والمراد جنسه، فيشمل القرآن، والتوراة، والإنجيل، وأرسل الرسل؛ أي: جميع المرسلين الذين أرسلهم لإرشاد الخلق إلى الحقّ.
وقال المناويّ رحمه الله: جمع بين محبة المدح والعذر الموجبين لكمال
(1)
"فيض القدير" 5/ 361.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 77 - 78.
(3)
"شرح ابن بطال لصحيح البخاريّ"20/ 90.
(4)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 36/ 64.
الإحسان، وبيَّن أنه لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى، ولأجل ذلك أرسل رسله، وأنزل كُتُبه؛ إعذارًا وإنذارًا، وهذا غاية المجد والإحسان، ونهاية الكمال والامتنان، فهو لا يُسرع بإيقاع العقوبة من غير إعذار منه، ومن غير قبول للعذر ممن اعتذر إليه، وفيه دلالة على كرم اللَّه سبحانه وتعالى، وقبوله عُذْر عباده، فقد بَسَط عُذْرهم، ودلَّهم على موضع التملق له، وعرّفهم أنه يُقِيل عثراتهم، ويعفو عن زلاتهم، ويتجاوز عن سقطاتهم. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6969 و 6970](2761 و 2762) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌ والنَّاقِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ".
قَالَ يَحْيَى: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ؛ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَتْهُ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَيْسَ شَيءٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ عز وجل").
رجال هذين الإسنادين: ثمانية:
1 -
(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ابْنُ عُلَيَّةَ) البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(حَجَّاجُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ) ميسرة، أو سالم الصوّاف، أبو الصَّلْت الْكِنْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [6](ت 243)(ع) تقدم في "الإيمان" 52/ 318.
4 -
(يَحْيَى) بن أبي كثير صالح بن المتوكّل الطائيّ مولاهم، أبو نصر اليماميّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه يدلِّس، ويرسل [5] (ت 132) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 424.
(1)
"فيض القدير" 5/ 361.
5 -
(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد اللَّه، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94 أو 104)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.
6 -
(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، ذُكر في الباب الماضي.
7 -
(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ [3](ت 94) على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.
8 -
(أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ) الصّدّيق، زوج الزبير بن العوّام، من كبار الصحابيّات، عاشت مائة سنة، وماتت سنة ثلاث، أو أربع وسبعين (ع) تقدمت في "الطهارة" 33/ 681.
شرح الحديث:
(عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ) اسمه ميسرة، وقيل: سالم الصوّاف البصريّ، أنه (قَالَ: قَالَ يَحْيَى)؛ أي: ابن أبي كثير، (وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ) هكذا بواو العطف، وهو معطوف على محذوف؛ أي: حدثني أبو سلمة بكذا، وحدّثني أيضًا (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ) "الغيرة": بفتح المعجمة، وسكون التحتانية، بعدها راء، قال عياض وغيره: هي مشتقة من تغير القلب، وهيجان الغضب، بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزوجين، هذا في حقّ الآدميّ، وأما في حقّ اللَّه، فقال الخطابيّ: أحسن ما يفسَّر به ما فُسّر به في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، وهو قوله: "وغيرة اللَّه أن يأتي المؤمن ما حَرّم اللَّه عليه". قال عياض: ويَحْتَمِل أن تكون الغيرة في حقّ اللَّه: الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل: الغيرة في الأصل: الحميّة، والأَنَفَةُ، وهو تفسير بلازم التغير، فيرجع إلى الغضب، وقد نَسب إلى نفسه في كتابه الغضب، والرضا.
وقال ابن العربيّ: التغير محال على اللَّه بالدلالة القطعية، فيجب تأويله بلازمه؛ كالوعيد، أو إيقاع العقوبة بالفاعل، ونحو ذلك، ثم قال: ومن أشرف وجوه غَيرته تعالى اختصاصه قومًا بعصمته؛ يعني: فمن ادَّعَى شيئًا من ذلك
لنفسه عاقبه، قال: وأشدّ الآدميين غيرةً رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يغار للَّه، ولِدِينه، ولهذا كان لا ينتقم لنفسه. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا نقل الحافظ في "الفتح" عن القاضي عياض، وابن العربيّ تأويل غيرة اللَّه عز وجل بلازم المعنى، وهذا غير صحيح، وقد كتب الشيخ البرّاك حفظه اللَّه تعالى في هذه المسألة تحقيقًا نفيسًا، فقال: دلّ حديث ابن مسعود رضي الله عنه يعني: الذي قبل هذا- على إثبات صفة الغيرة للَّه تعالى، وأن غيرته أكمل وأعظم من غيرة كل أحد، فيجب أن يكون القول فيها كالقول في سائر الصفات، وهو الإيمان بأن اللَّه تعالى يغار حقيقةً، وأن غَيْرته ليست كغيرة المخلوقين، بل غيرة تليق به سبحانه وتعالى، ويدلّ على أن الغيرة من اللَّه حقيقة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد؛ يعني: قوله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنَا أغير منه، واللَّه أغير مني"، والغيرة في مثل هذا السياق تتضمّن الغضب؛ لانتهاك الحرمة، فاللَّه سبحانه وتعالى يُبغض ما حرّم، ويغضب إذا انتُهكت حرماته.
قال ردًّا على قول القاضي عياض وغيره مما تقدّم: وقول عياض: ويَحْتَمل أن تكون الغيرة في حقّ اللَّه: الإشارة إلى تغيّر حال فاعل ذلك، هو من التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة، والحامل عليه الحذر من إضافة التغيّر إلى اللَّه تعالى الذي يُشعر به لفظ الغيرة، وهو ممتنع عنده، وعند ابن العربيّ، ولهذا قال فيما نقله الحافظ ابن حجر: التغيّر محال على اللَّه بالدلائل القطعيّة، والحقّ أن التغيّر من الألفاظ المجملة المبتدَعة في باب صفات اللَّه تعالى، إذ لم يَرِد إطلاقه على اللَّه تعالى نفيًا ولا إثباتًا، والواجب في مثل هذا: التفصيل، والاستفصال، فمن أراد بالإثبات، أو النفي حقًّا قُبل، وإن أراد باطلًا رُدّ، فالتغيّر إن أريد به النقص بعد الكمال، أو الكمال بعد النقص، فهو ممتنع على اللَّه عز وجل؛ لأنه منزّه عن النقص أزلًا وأبدًا، وإن أُريدَ به التغيّر في أفعاله تبعًا لمشيئته وحكمته، مثل أن يُحبّ، ويُبغض، ويغضب، ويرضى، فذلك من كماله، وتسمية هذا تغيّرًا في ذاته ممنوع وباطل، والأسماء لا تغيّر الحقائق، والمعوّل في الأحكام على الحقائق والمعاني، لا على الألفاظ والعبارت. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد البرّاك في هذا التحقيق، وخلاصته
إثبات صفة الغيرة للَّه سبحانه وتعالى على حقيقتها، كما يليق بجلاله، وعدم تأويلها بشيء مما تقدّم عن عياض، وابن العربيّ، وغيرهما، وهذا هو الذي سلكه السلف في جميع صفات اللَّه تعالى، وهو الحقّ المبين، وما عداه رأي عاطل مهين، واللَّه تعالى أعلم.
(وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ)؛ أي: يتغير قلبه، ويهيج غضبه، إذا شورك فيما له به اختصاص، وقوله:(وَغَيْرَةُ اللَّهِ) مبتدأ خبره قوله: (أَنْ يَأتِيَ)؛ أي: يفعل (الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ") يَحْتَمِل أن يكون بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير اللَّه، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، والجارّ والمجرور هو النائب عن الفاعل.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "ما حَرّم اللَّه"، قال في "الفتح": قوله:
"وغيرة اللَّه أن يأتي المؤمن ما حَرّم اللَّه"، كذا للأكثر، وكذا هو عند مسلم، لكن بلفظ:"ما حَرَّمَ عليه" على البناء للفاعل وزيادة "عليه"، والضمير للمؤمن، ووقع في رواية أبي ذرّ:"وغيرة اللَّه أن لا يأتي" بزيادة "لا"، وكذا رأيتها ثابتة في رواية النسفيّ، وأفرط الصغانيّ، فقال: كذا للجميع، والصواب حذف "لا"، قال الحافظ: كذا قال، وما أدري ما أراد بالجميع، بل أكثر رواة البخاريّ على حَذْفها وفاقًا لمن رواه غير البخاريّ؛ كمسلم، والترمذيّ، وغيرهما، وقد وجّهها الكرمانيّ وغيره بما حاصله: أن غيرة اللَّه ليست هي الإتيان، ولا عدمه، فلا بد من تقدير مثل: لِأَنْ لا يأتي؛ أي: غيرةُ اللَّه على النهي عن الإتيان، أو نحو ذلك، وقال الطيبيّ: التقدير: غيرة اللَّه ثابتة لأجل أن لا يأتي، قال الكرمانيّ: وعلى تقدير "أن لا" يستقيم المعنى بإثبات "لا"، فذلك دليل على زيادتها، وقد عُهدت زيادتها في الكلام كثيرًا مثل قوله:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص: 75]، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]، وغير ذلك. انتهى
(1)
.
ثم قال المصنّف رحمه الله بالسند المذكور قبله:
(قَالَ يَحْيَى) فهو موصول، وليس معلّقًا، و"يحيى" هو ابن أبي كثير المذكور في السند الماضي. (وَحَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ) هكذا بواو العطف، فهو
(1)
"الفتح" 11/ 671، "كتاب النكاح" رقم (5223).
معطوف على "وحدّثني أبو سلمة الماضي، (أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ)؛ أي: أبا سلمة، قال في "الفتح": ورواية أبي سلمة عن عروة، من رواية القرين عن القرين؛ لأنهما متقاربان في السنّ واللقاء، وإن كان عروة أسنّ من أبي سلمة قليلًا. انتهى
(1)
. (أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنهما (حَدَّثَتْهُ)؛ أي: عروة، (أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَيْسَ شَيْءٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ عز وجل") وفي الرواية الثالثة: "لا شيء أغير من اللَّه عز وجل"، ومعنى الروايتين واحد.
[تنبيه]: جمع المصنّف رحمه الله بين حديثي أبي هريرة، وأسماء رضي الله عنهما هنا بسند واحد، وهكذا صنع البخاريّ، غير أنه قدّم حديث أسماء، ثم عَطَف عليه حديث أبي هريرة، عكس صنيع مسلم، ودونك نصّه:
(4924)
- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا همّام، عن يحيى، عن أبي سلمة؛ أن عروة بن الزبير حدّثه، عن أمه أسماء، أنها سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا شيء أغير من اللَّه".
وعن يحيى: أن أبا سلمة حدّثه، أن أبا هريرة حدّثه، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(4925)
- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا شيبان، عن يحيى، عن أبي سلمة؛ أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن اللَّه يغار، وغيرةُ اللَّه أن يأتي المؤمن ما حَرَّم اللَّه". انتهى
(2)
.
قال في "الفتح": قوله: "وعن يحيى أن أبا سلمة حدثه أن أبا هريرة حدثه" هكذا أورده، وهو معطوف على السند الذي قبله، فهو موصول، ولم يَسُق البخاريّ المتن من رواية همام، بل تحول إلى رواية شيبان، فساقه على روايته، والذي يظهر أن لفظهما واحد، وقد وقع في رواية حجاج بن أبي عثمان عند مسلم بتقديم حديث أبي سلمة، عن عروة، على حديثه عن أبي هريرة عكس ما وقع في رواية همام عند البخاريّ، وأورده مسلم أيضًا من رواية حرب بن شداد، عن يحيى بحديث أبي هريرة فقط، مثل ما أورده البخاريّ من رواية شيبان، عن يحيى، ثم أورده مسلم من رواية هشام الدستوائيّ، عن يحيى، بحديث أسماء فقط، فكأن يحيى كان يجمعهما تارةً، ويُفْرد أخرى، وقد
(1)
"الفتح" 11/ 671.
(2)
"صحيح البخاريّ" 5/ 2002.
أخرجه الإسماعيليّ من رواية الأوزاعيّ، عن يحيى بحديث أسماء فقط، وزاد في أوله:"على المنبر". انتهى
(1)
.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم هذان متّفقٌ عليهما.
(المسألة الثانية): في تخريجهما:
أخرجهما (المصنّف) هنا [6/ 6969 و 6970 و 6971 و 6972 و 6973 و 6974](2761 و 2762)، و (البخاريّ) في "النكاح"(5222 و 5223)، و (الترمذيّ) في "الرضاع"(1168)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1640 و 2357)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 343 و 387 و 519 و 520 و 536 و 539)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(291 و 293)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 221 و 222 و 223 و 224 و 225)، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6971]
(2761)
(2)
- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، وَحَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ رِوَايَةِ حَجَّاجٍ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَاصَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ أَسْمَاءَ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبانُ بْنُ يَزِيدَ) العطّار، أبو يزيد البصريّ، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.
2 -
(حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ) اليَشْكُريّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ [7](ت 161)(خ م د ت س) تقدم في "الحج" 83/ 3339.
والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، و"أبو داود" هو: سليمان بن داود الطيالسيّ.
(1)
"الفتح" 11/ 671.
(2)
مكرّر.
وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ أَسْمَاءَ) هكذا النسخ، بإفراد فاعل "يذكر"، وكان الأَولى أن يقول: ولم يذكرا؛ لأنه يعود إلى أبان، وحرب، لكن لِمَا هنا وجه، وهو أن يقدّر: ولم يذكر كل منهما، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله أيضًا: (وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ أَسْمَاءَ) توضيح لمعنى "خاصّة".
[تنبيه]: رواية أبان بن يزيد، وحرب بن شدّاد كلاهما عن يحيى بن أبي كثير ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(10746)
- حدّثنا سليمان
(1)
ثنا حرب وأبان عن يحيى بن أبي كثير، ثني أبو سلمة، أن أبا هريرة أخبره؛ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إن اللَّه عز وجل يغار، وإن المؤمن يغار، وغَيرةُ اللَّه أن يأتي المؤمن ما حَرَّم عليه". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6972]
(2762)
(3)
- (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا شَيْءَ أَغيَرُ مِنَ اللَّهِ عز وجل").
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ) هو: محمد بن أبي بكر بن عليّ بن عطاء بن مُقَدَّم -بالتشديد- أبو عبد اللَّه الثقفيّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [10](234)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
2 -
(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.
3 -
(هِشَامُ) بن أبي عبد اللَّه سَنْبَر -بمهملة، ثم نون، ثم موحدة، وزانُ جعفر- أبو بكر البصريّ الدستوائيّ -بفتح الدال، وسكون السين المهملتين، وفتح المثناة، ثم مدّ- ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.
(1)
يعني: سليمان بن داود، وهو أبو داود الطيالسيّ.
(2)
"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 519.
(3)
مكرر.
والباقون ذُكروا قبله.
وقوله: ("لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ عز وجل")"شيء" اسم "لا" مبنيّ على الفتح، و"أغير" بالرفع خبرها، وهو أفعل تفضيل من الغيرة؛ أي: لا شيء أشدّ غيرة على ما حرّمه من اللَّه عز وجل، وفيه إطلاق لفظ "شيء" على اللَّه تعالى، قال المناويّ: وقوله: "شيء" اسم من أسمائه التي لا يختص بها، فكل موجود شيء، وهو سبحانه وتعالى شيء، لا كالأشياء، يسمى به في التعريف، ولا يسمى به في الابتهال، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} الآية [الأنعام: 19]. انتهى
(1)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوَّل الكتاب قال:
[6973]
(2761) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عبيد الدّرَاوَرْديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يحدّث من كُتب غيره، فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد اللَّه العُمَريّ منكر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
وقوله: (وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في النُّسخ: "غَيْرًا" بفتح الغين، وإسكان الياء، منصوب بالألف، وهو الغيرة، قال أهل اللغة: الغَيْرة، والْغَيْرُ، والغار بمعنى. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: غَارَ الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغَارُ، من باب تَعِب غَيْرًا، وغَيْرَةً، بالفتح، وغَارًا، قال ابن السِّكِّيت: ولا يقال: غِيرًا، وَغِيرَةً، بالكسر، فالرجل غَيُورٌ، وغَيْرَانُ، والمرأة غَيُورٌ أيضًا،
(1)
"فيض القدير" 6/ 428.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 79.
وغَيْرَى، وجمع غَيُورٍ غُيُرٌ، مثلُ رسول ورُسُل، وجمع غَيْرَانَ، وغَيْرَى غُيَارَى، بالضم، والفتح، وأَغَارَ الرجل زوجته: تزوج عليها، فَغَارَتْ عليه. انتهى
(1)
.
وقال في "المشارق": الغيرة: تغيُّر القلب، وهيجان الحفيظة، بسبب المشاركة في الاختصاص من أحد الزوجين بالآخر، أو بحريمه، وذبُّه عنهم، ومَنْعه منهم، يقال: غار الرجل فهو غَيُور، من قوم غُيُر، مثل كُتُب، وغائر أيضًا، قال: وجاء في حديث أم سلمة: "وأنا غيور" للأنثى، وكثيرًا ما جاء فَعُول للأنثى بغير هاء، كعَروب، وضَحوك، وشَموع، وعَقَبة كَؤود، وأرض صَعود، وحَدور، وكذا الباب كله متى كان فَعول بمعنى فاعل. انتهى باختصار
(2)
.
والحديث متّفقٌ عليه.
[6974]
(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلَاءَ بِهَذَا الإِسْنَادِ).
رجال هذا الإسناد: أربعة:
وكلّهم ذُكروا في الباب.
[تنبيه]: رواية شعبة عن العلاء هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(7981)
- حدّثنا محمد بن جَعْفَرٍ، ثنا شُعْبَةُ، قال: سمعت الْعَلَاءَ يحدّث عن أبيه، عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"الْمُؤْمِنُ، الْمُؤْمِنُ مَرَّتَيْنِ، أو ثَلَاثًا يَغَارُ، يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا". انتهى
(3)
.
(1)
"المصباح المنير" 2/ 458.
(2)
"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 2/ 272.
(3)
"مسند أحمد بن حنبل" 2/ 300.
(7) - (بَابُ قَوْلِ اللَّه عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ})
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6975]
(2763) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، كِلَاهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُريعٍ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ- حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَنَزَلَتْ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(يَزِيدُ بْنُ زُريعٍ) أبو معاوية العيشيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(التَّيْمِيُّ) سليمان بن طرخان البصريّ، تقدّم قبل بابين.
4 -
(أَبُو عُثْمَانَ) عبد الرحمن بن ملّ بن عمرو، تقدّم قبل بابين أيضًا.
والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن معظمه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه ابن مسعود الصحابيّ الشهير ذو المناقب الجمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَجُلًا) هو أبو الْيَسَر -بفتح الياء، آخر الحروف، والسين المهملة- وقد صرّح به الترمذيّ في روايته، فأخرج بسنده عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: أتتني امرأة تبتاع تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أطيب منه، فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها، فقبلتها، فأتيت أبا بكر رضي الله عنه، فذكرت ذلك له، فقال: استُرْ على نفسك، وتُبْ، فأتيت
عمر رضي الله عنه، فذكرت له ذلك، فقال: استُر على نفسك، وتُبْ، ولا تخبر أحدًا، فلم أصبر، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فقال: أخَلَفْت غازيًا في سبيل اللَّه في أهله بمثل هذا؟ حتى تمنى أنه لم يكن أسلم إلى تلك الساعة، حتى ظن أنه من أهل النار، قال: فأطرق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طويلًا حتى أوحى اللَّه تعالى إليه: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]، قال أبو اليسر: فأتيته، فقرأها عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال أصحابه: يا رسول اللَّه ألهذا خاصّة أم للناس عامّة؟ قال: "لا بل للناس عامّة"، ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وقال الذهبيّ: أبو اليسر كعب بن عمرو السَّلَميّ بدريّ.
(أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ) لم يُعرف اسمها، إلا أن في رواية أنها من الأنصار، والجارّ والجرور حال مقدّم من قوله:(قُبْلَةً) بضمّ القاف، وسكون الموحّدة: اسم من قبّلت الولد تقبيلًا، والجمع قُبَلٌ، مثلُ غُرْفة وغُرَف
(1)
؛ أي: قبّلها من مجامعة.
(فَأَتَى) الرجل (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) بعد أن ندم على فعله، وعزم على تلافي حاله؛ عملًا بقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} الآية [النساء: 64]، (فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ)؛ أي: إصابته من امرأة قبلةً، وفي رواية معتمر بن سليمان، عن أبيه التالية:"فذكر أنه أصاب من امرأة قبلةً، أو مسًّا بيد، أو شيئًا، كأنه يسأل عن كفارة ذلك"، وعند عبد الرزاق عن معمر، عن سليمان التيميّ بإسناده:"ضَرَب رجل على كَفَل امرأة. . . " الحديث، وفي رواية علقمة والأسود، عن ابن مسعود:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه إني وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قبلتها، ولزمتها، فافعل بي ما شئت. . . " الحديث، وللطبريّ من طريق الأعمش، عن إبراهيم النخعيّ:"قال: جاء فلان ابن معتب الأنصاريّ، فقال: يا رسول اللَّه دخلت على امرأة، ففعلت منها ما ينال الرجل من أهله، إلا أني لم أجامعها. . . " الحديث، وأخرجه ابن أبي خيثمة، لكن قال:"إن رجلًا من الأنصار، يقال له: معتب".
(1)
"المصباح المنير" 2/ 488.
وقد جاء أن اسمه كعب بن عمرو، وهو أبو اليسر -بفتح التحتانية، والمهملة- الأنصاريّ، أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، والبزار، من طريق موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو:"أنه أتته امرأة، وزوجها قد بعثه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعث، فقالت له: بعني تمرًا بدرهم، قال: فقلت لها، وأعجبتني: إن في البيت تمرًا أطيب من هذا، فانطلق بها معه، فغمزها، وقبلها، ثم فرغ، فخرج، فلقي أبا بكر، فأخبره، فقال: تُبْ، ولا تَعُدْ، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم. . الحديث، وفي روايته أنه صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم العصر، فنزلت".
وفي رواية ابن مردويه من طريق أبي بريدة
(1)
، عن أبيه:"جاءت امرأة من الأنصار إلى رجل يبيع التمر بالمدينة، وكانت حسناء جميلة، فلما نظر إليها أعجبته"، فذكر نحوه، ولم يُسَمّ الرجل، ولا المرأة، ولا زوجها.
وذكر بعض الشراح في اسم هذا الرجل: نبهان التمار، وقيل: عمرو بن غَزِيّة، وقيل: أبو عمرو زيد بن عمرو بن غزية، وقيل: عامر بن قيس، وقيل: عبّاد.
وقصة نبهان التمار ذكرها عبد الغني بن سعيد الثقفيّ أحد الضعفاء في "تفسيره" عن موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مطوّلًا، وأخرجه الثعلبيّ وغيره من طريق مقاتل بن سليمان، عن الضحاك
(2)
، عن ابن عباس:"أن نبهانًا التمار أتته امرأة حسناء جميلة، تبتاع منه تمرًا، فضرب على عجيزتها، ثم ندم، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إياك أن تكون امرأة غازٍ في سبيل اللَّه، فذهب يبكي، ويصوم، ويقوم، فأنزل اللَّه تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} الآية [آل عمران: 135]، فأخبره، فحمد اللَّه، وقال: يا رسول اللَّه هذه توبتي قُبلت، فكيف لي بأن يُتقبل شكري؟ فنزلت: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] الآية".
(1)
هكذا النسخة، ولعله "ابن بريدة"، فليُحرّر.
(2)
قال في "الإصابة": مقاتل متروك، والضحّاك لم يسمع من ابن عبّاس، وعبد الغنيّ وموسى هالكان.
قال الحافظ: وهذا إن ثبت
(1)
حُمل على واقعة أخرى؛ لِمَا بين السياقين من المغايرة.
وأما قصة ابن غزيّة، فأخرجها ابن منده، من طريق الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله:" {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال: نزلت في عمرو بن غزية، وكان يبيع التمر، فأتته امرأة تبتاع تمرًا، فأعجبته. . . " الحديث والكلبيّ ضعيف، فإن ثبت حُمل أيضًا على التعدد.
وظن الزمخشري أن عمرو بن غزية اسم أبي اليسر، فجزم به، فَوَهِم.
وأما ما أخرجه أحمد، وعبد بن حميد، وغيرهما من حديث أبي أمامة، قال:"جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أصبت حدًّا، فأقمه عليَّ، فسكت عنه ثلاثًا، فأقيمت الصلاة، فدعا الرجل، فقال: أرأيت حين خرجت من بيتك ألست قد توضأت، فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، قال: ثم شهدت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: فإن اللَّه قد غفر لك، وتلا هذه الآية"، فهي قصة أخرى ظاهر سياقها أنها متأخرة عن نزول الآية، ولعل الرجل ظنّ أن كل خطيئة فيها حدّ، فأطلق على ما فعل حدًّا، واللَّه أعلم.
وأما قصة عامر بن قيس، فذكرها مقاتل بن سليمان في "تفسيره"، وأما قصّة عبّاد، فحكاها القرطبيّ، ولم يَعْزُها، وعبّاد اسم جدّ أبي اليسر، فلعله نُسب، ثم سقط شيء.
وأقوى الجميع أنه أبو اليسر، واللَّه أعلم
(2)
.
(فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية عبد الرزاق: أنه أتى أبا بكر، وعمر أيضًا، وقال فيها: فكل من سأله عن كفارة ذلك قال: أمُعزبة هي؟ قال: نعم، قال: لا أدري، حتى أَنزل، فذكر بقية الحديث، وهذه الزيادة وقعت في حديث يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عند أحمد بمعناه، دون قوله:"لا أدري"، قاله في "الفتح".
(قَالَ) عبد اللَّه: (فَنَزَلَتْ) الآية، قال الطيبيّ: الفاء عطف على مقدر؛
(1)
قد عرفت مما قاله في "الإصابة" أنه لا يثبت، فتنبّه.
(2)
"الفتح" 10/ 227 - 228، "كتاب التفسير" رقم (4687).
أي: فأخبره، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فصلى الرجل، فأنزل اللَّه، يدل عليه الحديث الآتي. انتهى.
وقال في "العمدة": يشير بهذا إلى أن سبب نزول هذه الآية في أبي اليسر المذكور، وفي تفسير ابن مردويه عن أبي أمامة:"أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه أقم فيّ حد اللَّه مرّة أو مرّتين، فأعرض عنه، ثم أقيمت الصلاة، فأنزل اللَّه تعالى الآية".
وروى أبو عليّ الطوسيّ في "كتاب الأحكام" من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ رضي الله عنه قال: ولم يسمع منه: "أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول اللَّه أرأيت رجلًا لقي امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئًا إلى امرأته، إلا قد أتاه إليها، إلا أنه لم يجامعها، فأنزل اللَّه تعالى الآية، فأمره أن يتوضأ، ويصلي، قال معاذ: فقلت: يا رسول اللَّه أهي له خاصّة أم للمؤمنين عامّة؟ قال: بل للمؤمنين عامة".
قال العينيّ رحمه الله: واعلم أن كون الرجل في الحديث المذكور أبا اليسر هو أصح الأقوال الستة.
القول الثاني: إنه عمرو بن غزية بن عمرو الأنصاريّ أبو حَبّة بالباء الموحدة التمار، رواه أبو صالح، عن ابن عباس: "جاءت امرأة إلى عمرو بن غزية تبتاع تمرًا، فقال: إن في بيتي تمرًا، فانطلقي أبيعك منه، فلما دخلت البيت بَطَش بها، فصنع بها كل شيء، إلا أنه لم يقع عليها، فلما ذهب عنه الشيطان نَدِم على ما صنع، وأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه تناولت امرأة، فصنعت بها كل شيء، يصنع الرجل بامرأته، إلا أني لم أقع عليها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أدري، ولم يردّ عليه شيئًا، فبينما هم كذلك، إذ حضرت الصلاة، فصلّوا، فنزلت الآية:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} .
القول الثالث: إنه ابن معتب رجل من الأنصار، ذكره ابن أبي خيثمة في "تاريخه" من حديث إبراهيم النخعيّ، قال: "أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار، يقال له: معتب، فذكر الحديث.
القول الرابع: إنه أبو مقبل عامر بن قيس الأنصاريّ، ذكره مقاتل في "نوادر التفسير"، وقال هو الذي نزل فيه:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} .
القول الخامس: هو نبهان التمار، وزعم الثعلبي أن نبهان لم ينزل فيه إلا قوله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران: 135].
القول السادس: إنه عبّاد، ذكره القرطبيّ في "تفسيره". انتهى
(1)
.
وهي قوله تعالى: ({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ})؛ أي: الغداة، والعشيّ؛ أي: الصبح، والظهر، والعصر، وانتصاب {طَرَفَيِ النَّهَارِ} على الظرف؛ لأنهما مضافان إلى الوقت، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، وأتيته نصف النهار، وأوله وآخره، تَنصب هذا كلَّه على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه
(2)
. ({وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}) قال النسفيّ رحمه الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} غدوة وعشية {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ، وساعات من الليل، جَمْع زلفة، وهي ساعته القريبة من آخر النهار، من أزلفه: إذا قرّبه، وصلاة الغدوة: الفجر، وصلاة العشية: الظهر، والعصر؛ لأن ما بعد الزوال عشيّ، وصلاة الزلف: المغرب والعشاء. انتهى
(3)
.
وقال ابن كثير رحمه الله: قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} قال: يعني: الصبح والمغرب، وكذا قال الحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال الحسن -في رواية- وقتادة، والضحاك، وغيرهم: هي الصبح والعصر.
وقال مجاهد: هي الصبح في أول النهار، والظهر والعصر من آخره. وكذا قال محمد بن كعب القُرَظي، والضحاك في رواية عنه.
وقوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وغيرهم: يعني: صلاة العشاء.
وقال الحسن في رواية ابن المبارك، عن مبارك بن فَضَالة، عنه:{وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} ؛ يعني: المغرب والعشاء، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"هما زُلْفَتَا الليل: المغرب والعشاء". وكذا قال مجاهد، ومحمد بن كعب، وقتادة، والضحاك: إنها صلاة المغرب والعشاء.
وقد يَحْتَمِل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة
(1)
"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 27/ 362.
(2)
"تفسير النسفيّ" 2/ 50.
(3)
"تفسير النسفيّ" 2/ 50.
الإسراء؛ فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها. وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة، ثم نُسخ في حق الأمة، وثَبَت وجوبه عليه، ثم نُسخ عنه أيضًا، في قول، واللَّه أعلم
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الاحتمال الأخير بعيد جدّ؛ لأن سياق الروايات يبطله، فتنبّه.
({إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ})؛ أي: إن الصلوات الخمس يُذهبن الذنوب، وفي الحديث:"الصلوات الخمس كفارة ما بينهنّ. . . "، أو المراد: الطاعات، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وأتْبع السيئة الحسنة تمحها"، أو "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر".
وقال الطبريّ: يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة اللَّه، والعمل بما يرضيه، يُذهب آثام معصية اللَّه، ويكفّر الذنوب.
قال: ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى اللَّه في هذا الموضع، اللاتي يُذهبن السيئات، فقال بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات، وقال آخرون: هو قول: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر".
قال الطبريّ: وأَولى التأويلين بالصواب في ذلك، قولُ من قال في ذلك:"هن الصلوات الخمس"؛ لصحة الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتواترها عنه أنه قال:"مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى باب أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ "، وأن ذلكَ في سِياق أمْر اللَّه بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها، أَولى من الوعد على ما لم يَجْر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض. انتهى
(2)
.
وقوله: ({ذَلِكَ}) إشارة إلى قوله: {فَاسْتَقِمْ} ، فما بعده، أو القرآن. ({ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ})؛ أي: عظة للمتعظين.
وقال الطبريّ رحمه الله: قوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} ، يقول تعالى ذِكره: هذا
(1)
"تفسير ابن كثير" 4/ 355.
(2)
"تفسير الطبريّ" 15/ 515.
الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات، تذكرة ذَكّرت بها قومًا يَذكُرون وعد اللَّه، فيرجُون ثوابه ووعيده، فيخافون عقابه، لا من قد طُبع على قلبه، فلا يجيب داعيًا، ولا يسمع زاجرًا. انتهى
(1)
.
(قَالَ) ابن مسعود: (فَقَالَ الرَّجُلُ) السائل عن هذه المسألة، وهو على الصحيح أبو اليسر. (أَلِيَ) بفتح الياء، وسكونها لغتان، (هَذِهِ) الآية (يَا رَسُولَ اللَّهِ؟)؛ يعني: أهذه الآية مختصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي، أو عامة لكل الأمة؟ والهمزة في "ألي" مفتوحة؛ لأنها للاستفهام، وقوله:"هذه" مبتدأ، وخبره مقدمًا قوله:"ألي"، وقُدّم لإفادة التخصيص
(2)
.
وقال في "الفتح": قوله: "قال الرجل ألي هذه؟ "؛ أي: الآية؛ يعني: خاصة بي بأن صلاتي مذهبة لمعصيتي، وظاهر هذا أن صاحب القصة هو السائل عن ذلك، ولأحمد والطبرانيّ من حديث ابن عباس:"قال: يا رسول اللَّه ألي خاصة، أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره، وقال: لا، ولا نعمة عين، بل للناس عامة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: صدق عمر".
وفي حديث أبي اليسر: "فقال إنسان: يا رسول اللَّه له خاصة"، وفي رواية إبراهيم النخعيّ عند مسلم:"فقال معاذ: يا رسول اللَّه أله وحده، أم للناس كافّة؟ "، وللدارقطني مثله، من حديث معاذ نفسه، ويُحْمَل على تعدد السائلين عن ذلك، وقوله:"ألي" بفتح الهمزة استفهامًا، وقوله:"هذا" مبتدأ، تقدم خبره عليه، وفائدته التخصيص. انتهى
(3)
.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لِمَنْ عَمِلَ بِهَا) الجارّ والمجرور خبر لمحذوف؛ أي: هي كائنة لمن عمل بها؛ أي: بهذه الآية، بأن فعل حسنة بعد سيئة، وقوله:(مِنْ أُمَّتِي") بيان لـ "من"؛ أي: هي عامّة لأمتي كلّهم الموجودين الآن، والآتين بعد إلى يوم القيامة.
(1)
"تفسير الطبريّ" 15/ 515.
(2)
راجع: "عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 27/ 362.
(3)
"الفتح" 10/ 228 - 229.
وقال في "الفتح": قوله: "قال: لمن عَمِل بها من أمتي" تقدم في "الصلاة" من هذا الوجه بلفظ: "قال: لجميع أمتي كلهم"، وتمسَّك بظاهر قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} المرجئة، وقالوا: إن الحسنات تكفّر كل سيئة كبيرة كانت، أو صغيرة، وحَمَل الجمهور هذا المطلق على المقيّد في الحديث الصحيح أن "الصلاة إلى الصلاة كفارة لِمَا بينهما، ما اجتُنبت الكبائر".
فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات كفارة لِمَا عدا الكبائر من الذنوب، وإن لم تُجتنب الكبائر لم تَحُطّ الحسنات شيئًا.
وقال آخرون: إن لم تُجتنب الكبائر لم تَحُطّ الحسنات شيئًا منها، وتحط الصغائر، وقيل: المراد أن الحسنات تكون سببًا في ترك السيئات، كقوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، لا أنها تكفّر شيئًا حقيقةً، وهذا قول بعض المعتزلة، وقال ابن عبد البرّ: ذهب بعض أهل العصر إلى أن الحسنات تكفر الذنوب، واستدل بهذه الآية وغيرها من الآيات، والأحاديث الظاهرة في ذلك، قال: ويَرُدّه الحثّ على التوبة في أيّ كبيرة، فلو كانت الحسنات تكفر جميع السيئات لَمَا احتاج إلى التوبة.
واستُدلّ بهذا الحديث على عدم وجوب الحدّ في القبلة، واللمس، ونحوهما، وعلى سقوط التعزير عمن أتى شيئًا منها، وجاء تائبًا نادمًا، واستنبط منه ابن المنذر أنه لا حدّ على مَن وُجد مع امرأة أجنبية في ثوب واحد. انتهى
(1)
.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6975 و 6976 و 6977 و 6978 و 6979](2763)، و (البخاريّ) في "المواقيت"(526) و"التفسير"(4687)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3114)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(1/ 144 و 4/ 318 و 6/ 366)،
(1)
"الفتح" 10/ 228 - 229.
و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1398) و"الزهد"(4254)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 429)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(312)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1729)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 267)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 156)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10560)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(18676)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 241)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(346)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان سبب نزول الآية المذكورة.
2 -
(ومنها): بيان أن الحسنات يكفّرن السيئات؛ أي: صغائر الذنوب، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: هذا الذنب الذي أصابه ذلك الرجل، وسأل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية بسببه، كان من الصغائر، وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الصلاة إنما تكفر الصغائر دون الكبائر، وكذلك الوضوء، غيرَ أن الصلاة تكفر أكثر مما يكفر الوضوء، كما قال سلمان الفارسيّ رضي الله عنه: الوضوء يكفر الجراحات الصغار، والمشي إلى المسجد يكفر أكثر، والصلاة تكفر أكثر من ذلك، خرّجه محمد بن نصر المروزيّ وغيره، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه:"فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، تكفرها الصلاة، والصيام، والصدقة"؛ وذلك لأن أكثر ما يصيب الإنسان في هذه الأشياء تكون من الصغائر دون الكبائر، قال: وقد ذكرنا في "كتاب الوضوء" الاختلاف في أن الوضوء: هل يكفر الصغائر خاصة، أم يعم الذنوب كلها؟ والأكثرون على أن لا يكفر سوى الصغائر، وقد ذهب قوم إلى أنه يكفر الكبائر أيضًا. انتهى
(1)
.
3 -
(ومنها): أنه يستفاد منه فيه عدم وجوب الحدّ في القبلة وشِبْهها من المسّ ونحوه من الصغائر، وهو من اللمم المعفوّ عنه باجتناب الكبائر بنصّ القرآن.
4 -
(ومنها): ما قاله صاحب "التوضيح" رحمه الله: وقد يُستدل به على أنه لا حدّ، ولا أدب على الرجل والمرأة وإن وُجدا في ثوب واحد، وهو اختيار ابن المنذر. انتهى.
(1)
"فتح الباري لابن رجب" 4/ 15 - 16.
قال العينيّ رحمه الله: سلّمنا في نفي الحدّ، ولا نسلّم في نفي الأدب، سيما في هذا الزمان. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان أن إقامة الصلوات الخمس تجري مجرى التوبة لمرتكب الصغائر.
6 -
(ومنها): بيان أن باب التوبة مفتوح، والتوبة مقبولة.
وقال المباركفوريّ رحمه الله: واستدلّ مغلطائي الحنفي بقوله: {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} على وجوب الوتر؛ لأن زلفًا جمع وأقله الثلاث، فلا بد أن تكون هناك صلاة ثالثة، وهي الوتر.
قال بعض الحنفية: لا دليل في الآية على وجوب الوتر. أما جمعية الزلف فهي باعتبار وقوع العشاء في هذه الحصة تارة وتارة في الحصة الأخرى، فكانت باعتبار حصص الليل وساعاته من حيث تعجيل العشاء وتأخيره. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد هذا الحنفيّ حيث ردّ على هذا القول، ولم يتعصّب لمذهبه، كما تعصّب مغلطاي، وتبعه العينيّ، وقد أسلفت الردّ على القول بوجوب الوتر في محلّه بأدلّة لا مجال لمغالطتها، ولا محيد عن القول بها، وباللَّه التوفيق، وله الحمد والمنّة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6976]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ أَنَّ رَجُلًا أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَنَّهُ أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ إِمَّا قُبْلَةً، أَوْ مَسًّا بِيَدٍ، أَوْ شَيْئًا، كَأَنَّهُ يَسْأَل عَنْ كَفَّارَتهَا، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.
وقوله: (إِمَّا قُبْلَةً، أَوْ مَسًّا بِيَدٍ، أَوْ شَيْئًا) هذا شكّ من المعتمر، أو من غيره، هل قبّل تلك المرأة، أو مسّها بيده، أو فعل فعلًا نحو ذلك، كالمعانقة؟.
(1)
"عمدة القاري" 5/ 12.
وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير، "المعتمر"؛ أي: ذكر المعتمر عن أبيه مثل حديث يزيد بن زريع عن التيميّ، وهو أبو المعتمر.
[تنبيه]: رواية المعتمر عن أبيه هذه ساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(312)
- أخبرنا محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ، وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب ابن الشهيد، قالا: حدّثنا المعتمر، عن أبيه، نا أبو عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر له أنه أصاب من امرأة، إما قبلةً، أو مسًّا بيد، أو شيئًا، كأنه يسأل عن كفارتها، قال: فأنزل اللَّه عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} [هود: 114]، قال: فقال الرجل: أليَ هذه؟ قال: "هي لمن عَمِل بها من أمتي".
قال: وحدّثناه الصنعانيّ، حدّثنا يزيد بن زريع، حدّثنا سليمان، وهو التميميّ، بهذا الإسناد مثله، فقال:"أصاب من امرأة قبلةً"، ولم يشكّ، ولم يقل: كأنه يسأل عن كفارتها. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6977]
(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ بِهَذَا الإِسْنَادِ: قَالَ: أَصَابَ رَجُلٌ مِنِ امْرَأَةٍ شَيْئًا، دُونَ الْفَاحِشَةِ، فَأَتى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَعَظَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَعَظَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ، وَالْمُعْتَمِرِ).
رجال هذا الإسناد: ثلاثة:
وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.
وقوله: (شَيْئًا، دُونَ الْفَاحِشَةِ) تقدّم تفسير الشيء بأنه القبلة، والمراد بالفاحشة: الزنا في الفرج.
وقوله: (فَعَظَّمَ عَلَيْهِ)؛ أي: عدّ عمر رضي الله عنه هذا الفعل من الرجل ذنبًا
(1)
"صحيح ابن خزيمة" 1/ 161.
عظيمًا حيث ارتكب ما حرّم اللَّه عليه، وكذا أبو بكر رضي الله عنه، ولعلهما كانا يريان هذا من الكبائر، وإلا فهذا من الصغائر، أو عظّما عليه زجرًا له، ولغيره، وحثَّا على التوبة والاستغفار، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ، وَالْمُعْتَمِرِ) فاعل "ذَكَر" ضمير جرير بن عبد الحميد؛ أي: ذكر جرير عن سليمان التيميّ بمثل ما ذكره يزيد بن زريع، والمعتمر بن سليمان، عن سليمان التيميّ.
[تنبيه]: رواية جرير عن سليمان التيميّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(17331)
-أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، أخبرني أبو بكر بن عبد اللَّه، أنبأ الحسن بن سفيان، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، عن سليمان التيميّ، عن أبي عثمان، عن عبد اللَّه، قال: أصاب رجل من امرأة شيئًا دون الفاحشة، فأتى عمر رضي الله عنه، فعَظم عليه، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه، فعظّم عليه، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا أدري أعظّم عليه أم لا؟ قال: فأنزل اللَّه عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، فقال الرجل: أَلِيَ هذه يا رسول اللَّه؟ فقال: "هي لمن أخذ بها من أمتي". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6978]
(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ، فَانْطَلَقَ، فَأَتبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا دَعَاهُ
(2)
، وَتَلَا عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} ،
(1)
"سنن البيهقي الكبرى" 8/ 322.
(2)
وفي نسخة: "فدعاه، فتلا".
فَقَالَ رَجُل مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: "بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً").
رجال هذا الإسناد: تسعة:
1 -
(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُو الأَحْوَصِ) سلام بن سُليم الحنفيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(سِمَاكُ) بن حرب، أبو المغيرة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
4 -
(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعيّ، أبو عمران الكوفيّ الفقيه، ثقةٌ، إلا أنه يرسل كثيرًا [5](ت 96) وهو ابن خمسين، أو نحوها (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
5 -
(عَلْقَمَةُ) بن قيس بن عبد اللَّه النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عابدٌ [2] مات بعد الستين، وقيل: بعد السبعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 52.
6 -
(الأَسْوَدُ) بن يزيد بن قيس النخعيّ، أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مخضرمٌ ثقةٌ مكثرٌ فقيهٌ [2](ت 4 أو 75)(ع) تقدم في "الطهارة" 32/ 674.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ) تقدّم أن الأصحّ أنه أبو اليسر -بفتح المثناة التحتية، والسين المهملة- كعب بن عمرو الأنصاريّ، وقيل: نبهان التمار، وقيل: عمرو بن غزية. (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً)؛ أي: داعبتها، ونلت منها ما يكون بين الرجل والمرأة غير أني ما جامعتها، وقال النوويّ رحمه الله: معنى "عالجها"؛ أي: تناولها، واستمتع بها، والمراد بالمسّ: الجماع، ومعناه: استمتعت بها بالقبلة، والمعانقة، وغيرهما، من جميع أنواع الاستمتاع إلا الجماع. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "عالجت امرأة"؛ أي: حاولتها لأصيب منها غرضًا، وشهوة، (فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ)؛ أي: ما بَعُدَ منها؛ يعنى: موضعًا خاليًا عن الناس. انتهى
(2)
.
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 80.
(2)
"المفهم" 7/ 87.
(وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا)"ما" موصوله؛ أي: أصبت منها ما يجاوز المسّ؛ أي: المجامعة، (فَأَنَا هَذَا)؛ أي: أنا موجود، وحاضر بين يديك، ومنقاد لحكمك.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما دون أن أمسّها"؛ أي: لم أجامعها، وقد قال في رواية أخرى: إن الذي أصاب منها قبلةٌ قبَّلها، وإياها عنى في الرواية الأخرى بقوله:"أصبت حدًّا"، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أصبت منها شيئًا ممنوعًا؛ لأن الحدّ في أصله هو المنع، ويَحْتَمِل أنه ظن أن في ذلك حدًّا، فأطلق عليه ذلك، وهو الظاهر من قوله:"أصبت حدًّا، فأقم عليّ كتاب اللَّه". انتهى
(1)
.
(فَاقْضِ فِيَّ)؛ أي: فاحكم في حقي (مَا شِئْتَ)؛ أي: الذي أردت أن تقضيه، مما يجب عليّ، وهو كناية عن غاية التسليم، والانقياد إلى حكم اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم. (فَقَالَ لَهُ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه:(لَقَدْ سَتَرَكَ اللَّهُ) حيث لم يعلم أحد من الناس بما فعلته، (لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ)؛ أي: لكان حسنًا. (قَالَ) ابن مسعود: (فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا)؛ أي: لم يردّ صلى الله عليه وسلم على الرجل، بل سكت؛ انتظارًا لقضاء اللَّه تعالى فيه؛ رجاءَ أن يخفف من عقوبته. (فَقَامَ الرَّجُلُ)؛ أي: من مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب إلى حاجته؛ ظنًّا منه؛ لسكوته صلى الله عليه وسلم أن اللَّه سينزل فيه شيئًا، وأنه لا بدّ أن يبلغه، فإن كان عفوًا شكر، وإلا عاد؛ ليُستَوفَى منه. (فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بقطع الهمزة، من الإتباع؛ أي: أرسل وراءه (رَجُلًا) لم يُعرف الرجل، وقوله:(دَعَاهُ) جملة في محلّ نصب صفة "رجلًا"، وفي بعض النسخ:"فدعاه"، (وَتَلَا) وفي بعض النسخ:"فتلا"؛ أي: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الرجل (هَذِهِ الآيَةَ) وهي قوله: ({وَأَقِمِ الصَّلَاةَ})؛ أي: المفروضة، ({طَرَفَيِ النَّهَارِ}) ظرف لـ "أقم"؛ أي: الغداة، والعشيّ؛ أي: الصبح، والظهر، والعصر، {وَزُلَفًا} جمع زلفة؛ أي: طائفة، وهو عطف على {طَرَفَيِ} ، فينتصب على الظرفية؛ إذ المراد به ساعات الليل القريبة من النهار، وقوله:({مِنَ اللَّيْلِ})؛ أي: المغرب والعشاء، ({إِنَّ الْحَسَنَاتِ}) كالصلوات الخمس، ({يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات})؛ أي: يمحونهنّ.
(1)
"المفهم" 7/ 87.
({ذَلِكَ})؛ أي: ما ذُكر من قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} الآيات، ({ذِكْرَى}) عظة ({لِلذَّاكِرِينَ})؛ أي: المتعظين، وقال القرطبيّ: أي: تَذَكُّرٌ لمن تذكّر، واتعاظ لمن اتعظ. انتهى.
وقال القرطبيّ رحمه الله أيضًا: قوله: "فدعاه، فتلا عليه هذه الآية" إنما دعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد انصرافه عنه؛ لأن اللَّه تعالى أنزل الآية بعد انصرافه بسبب سؤال الرجل المذكور، كما جاء نصًّا في رواية أخرى:"أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، قال: فنزلت الآية"، فتبيّن أن الآية نزلت بسبب ذلك الرجل.
وإقامة الصلاة: القيام بفعلها على سُنَّتها، والمثابرة عليها، وطرفا النهار: هما الصبح والعصر، وقيل: الظهر والعصر، وقيل: العشاء، والمغرب، وزُلَفًا من الليل: بفتح اللام على قراءة الجماعة، وهي الساعات المتقاربة، جمع زُلفة، وهي القربة والمنزلة، وقرأها يزيد بضمّ اللام، وابن محيصن بسكونها، والمراد: المغرب والعشاء. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ) قيل: هو أبو اليسر، وقيل: معاذ، وقيل: عمر. (يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟ قَالَ: "بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً") قال النوويّ رحمه الله: هكذا تستعمل "كافّة" حالًا؛ أي: كلهم، ولا يضاف، فلا يقال: كافة الناس، ولا الكافة بالألف واللام، وهو معدود في تصحيف العوامّ، ومَن أشبههم. انتهى
(2)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: وجاء الناس كَافَّةً قيل: منصوب على الحال، نصبًا لازمًا، لا يستعمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]؛ أي: إلا للناس جميعًا، وقال الفراء في "كتاب معاني القرآن": نُصبت؛ لأنها في مذهب المصدر، ولذلك لم تُدخل العرب فيها الألف واللام؛ لأنها آخر لكلام مع معنى المصدر، وهي في مذهب قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، فلا يُدخلون الألف واللام على معًا، وجميعًا، إذا كانت بمعناها أيضًا، وقال الأزهريّ أيضًا: كَافّةً منصوب على الحال، وهو مصدر على فاعلة، كالعافية، والعاقبة، ولا يُجمع، كما لو قلت: قاتلوا
(1)
"المفهم" 7/ 87 - 88.
(2)
"شرح النوويّ" 17/ 80.
المشركين عامّةً، أو خاصّةً، لا يثنى ذلك، ولا يُجمع. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الحديث على مسلم، فقال: وأخرج مسلم حديث أبي الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد اللَّه: أن رجلًا قال: عالجت امرأة، فأصبت منها ما دون الجماع، فنزلت:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} . . . الحديث.
وأخرجه أيضًا عن أبي موسى، عن أبي النعمان الحكم بن عبد اللَّه، عن شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد اللَّه. قال: رواه إسرائيل عن سماك مثل أبي الأحوص، وقيل: عن أبي عوانة كذلك أيضًا، وقال خالد السمتيّ عنه، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود بلا شكّ، وقال أسباط بن نصر: عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود وحده. وقال أبو قطن، وأبو زيد الهرويّ: عن شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن عبد اللَّه، ولم يُسمّ خاله هذا. وقال شريك: عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة وحده، عن عبد اللَّه. وقال الثوريّ: عن سماك، عن إبراهيم، عن عبد اللَّه بن يزيد الصائغ، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه خاله. والفضل السينانيّ. وقال الفريابيّ: عن الثوريّ، عن الأعمش، وسماك، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد الصائغ، وكان سماك يضرب فيه، واللَّه أعلم بالصواب.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: غرض الدارقطنيّ رحمه الله إعلال رواية سماك بن حرب هذه بالاضطراب، ومسلم رحمه الله لا يرى هذا اضطرابًا؛ لأن رواية أبي الأحوص أرجح؛ لكونه تابعه غيره، كإسرائيل، وأبي عوانة، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6979]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدِّثُ، عَنْ خَالِهِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِهَذَا خَاصَّةً، أَوْ لَنَا عَامَّةً؟ قَالَ: "بَلْ لَكُمْ عَامَّةً").
(1)
"المصباح المنير" 2/ 536.
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ) الأنصاريّ، ويقال: القيسيّ -بالقاف- ويقال: العجليّ، البصريّ، ثقةٌ، له أوهام [9].
رَوَى عن سعيد بن أبي عروبة، وشعبة، ويزيد بن زريع، وغيرهم.
وروى عنه أبو قُدامة السرخسي، ومحمد بن المثنّى، ومحمد بن المنهال الضرير، وغيرهم.
قال عقبة بن مكرم: كان من أصحاب شعبة الثقات، وقال البخاريّ: حديثه معروف، كان يحفظ، وقال الخطيب: كان ثقة يوصف بالحفظ، وقال ابن حبان: كان حافظًا، ربما أخطأ، روى عنه أهل الكوفة، وقال الذهليّ: ثنا أبو النعمان الحكم بن عبد اللَّه القيسيّ، وكان ثبتًا في شعبة، عاجله الموت، سمعت عبد الصمد يثبته، ويذكره بالضبط، وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: كان يحفظ، وهو مجهول، وقال أبو الوليد الباجيّ في "كتاب رجال البخاريّ": لا أعلم له في "صحيح البخاريّ" غير حديث أبي مسعود في الصدقة، وقال ابن عديّ: له مناكير، لا يتابعه عليها رجل، وكَنَاه أبا مروان، ثم أخرج من طريق ابن أبي بزة، ثنا أبو مروان الحكم بن عبد اللَّه البصريّ البزار، ثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس، رفعه:"من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسرّه به سَرَّه اللَّه يوم القيامة" قال: وهذا حديث منكر بهذا الإسناد، ثم ذكر له حديثين عن شعبة غريبين.
قال الحافظ: ويهجس في خاطري أن الراوي عن سعيد هو أبو مروان، وهو غير أبي النعمان الراوي عن شعبة، فاللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وله في هذا الكتاب حديثان، فقط هذا برقم (2763)، وحديث (2901):"إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات. . . " الحديث.
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ) فاعل "قال" ضمير الحكم بن عبد اللَّه.
(1)
"تهذيب التهذيب" 2/ 369.
وقوله: (فَقَالَ مُعَاذ) هو ابن جبل الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.
[تنبيه]: رواية الحكم بن عبد اللَّه عن شعبة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:
(7321)
- أخبرنا محمد بن المثنى، قال: ثنا الحكم بن عبد اللَّه، قال: ثنا شعبة، عن سماك، قال: سمعت إبراهيم، عن خاله الأسود، عن عبد اللَّه، أن رجلًا لقي امرأة في بعض طرق المدينة، فأصاب منها ما دون الجماع، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأنزل اللَّه تعالى في ذلك:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} ، قال معاذ: يا رسول اللَّه، أله خاصّة، أو لنا عامّة؟ قال:"بل لكم عامّةً". انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6980]
(2764) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ: وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ، قَالَ: "هَلْ حَضَرْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "قَدْ غُفِرَ لَكَ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلّال، نزيل مكة، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَمْرُو بْنُ عَاصِمِ) بن عبيد اللَّه الْكِلابيّ القيسيّ، أبو عثمان البصريّ، صدوقٌ، في حفظه شيء، من صغار [9](ت 213)(ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
والباقون تقدّموا قبل باب.
شرح الحديث:
(عَنْ أنس) بن مالك رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) قال
(1)
"السنن الكبرى" للنسائيّ 4/ 316.
الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم الرجل، ولكن مَن وَحّد هذه القصة والتي في حديث ابن مسعود فسّره به، وليس بجيّد؛ لاختلاف القصتين، وعلى التعدد جرى البخاريّ في هاتين الترجمتين، فحمل الأُولى على من أقرَّ بذنب دون الحد؛ للتصريح بقوله:"غير أني لم أجامعها"، وحَمَل الثانية على ما يوجب الحدّ لأنه ظاهر قول الرجل، وأما من وحّد بين القصتين، فقال: لعله ظن ما ليس بحدّ حدًّا، أو استعظم الذي فعله، فظنّ أنه يجب فيه الحد، قال: ولحديث أنس شاهد أيضًا من رواية الأوزاعيّ، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع
(1)
. انتهى
(2)
.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَبْتُ حَدًّا)؛ أي: فعلت فعلًا يوجب الحدّ عليّ، (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ) بتشديد الياء، زاد في رواية البخاريّ:"ولم يسأله"؛ أي: لم يستفسره، وفي حديث أبي أمامة التالي:"فسكت عنه، ثم عاد".
(قَالَ) أنس: (وَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ) وفي حديث أبي أمامة التالي: "فأقيمت الصلاة"، (فَصَلَّى) الرجل (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ) وفي رواية البخاريّ: "فلما قضى النبيّ صلى الله عليه وسلم الصلاة"؛ أي: انتهى، وخرج منها بالتسلييم، (قَالَ) الرجل، ولفظ البخاريّ:"قام إليه الرجل، فقال": (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْ فِيَّ كِتَابَ اللَّهِ)؛ أي: الحدّ الذي أنزله اللَّه تعالى في كتابه، ولعله ظن أن قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية [النور: 2] ينطبق عليه؛ لأن الزنا يحصل باليد، وبالعين، وغيرهما، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالةَ، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى، وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك كلّه، أو يكذبه"، متّفقٌ عليه.
(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("هَلْ حَضَرْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ "، قَالَ: نَعَمْ) وفي رواية البخاريّ: "أليس قد صليت معنا؟ "، وفي حديث أبي أمامة التالي:"أليس حيث خرجت من بيتك توضأت، فأحسنت الوضوء؟ " قال: بلى، قال: "ثم شَهِدت
(1)
رواه ابن حبّان في "صحيحه" رقم (1727).
(2)
"الفتح" 15/ 628 - 689، "كتاب الحدود" رقم (6823).
معنا الصلاة؟ قال: نعم"، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("قَدْ غُفِرَ لَكَ") وفي رواية البخاريّ: "فإن اللَّه قد غفر لك ذنبك"، أو قال: "حدّك" بالشكّ؛ أي: ما يوجب حدّك، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
[تنبيه]: قال في "الفتح": قد طعن الحافظ أبو بكر البرزنجيّ في صحة هذا الخبر، مع كون الشيخين اتفقا عليه، فقال: هو منكر، وَهْمٌ، وفيه عمرو بن عاصم، مع أن همامًا كان يحيى بن سعيد لا يرضاه، ويقول: أبان العطار أمثل منه.
قال الحافظ: لم يبيّن وجه الوهم، وأما إطلاقه كونه منكرًا، فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الراوي منكرًا، إذا لم يكن له متابع، لكن يجاب بأنه وإن لم يوجد لهمام، ولا لعمرو بن عاصم فيه متابع، فشاهده حديث أبي أمامة الذي أخرجه مسلم عقبه، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6980](2764)، و (البخاريّ) في "الحدود"(6823)، و (عبد الرزاق) في "مصنّفه"(10/ 230)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 333)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم فيمن قال: أصبت حدًّا:
قال في "الفتح": قد اختَلَف نظر العلماء في هذا الحكم، فظاهر ترجمة البخاريّ حَمْله على من أقرّ بحدّ ولم يفسِّره، فإنه لا يجب على الإمام أن يقيمه عليه إذا تاب، وحَمَله الخطابيّ على أنه يجوز أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم اطّلع بالوحي على أن اللَّه قد غفر له؛ لكونها واقعة عين، وإلا لكان يستفسره عن الحدّ، ويقيمه عليه، وقال أيضًا: في هذا الحديث أنه لا يُكشَف عن الحدود، بل يدفع مهما أمكن، وهذا الرجل لم يُفصح بأمر يلزمه به إقامة الحدّ عليه، فلعله أصاب صغيرة ظنها كبيرة، توجب الحدّ، فلم يكشف النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن
(1)
"الفتح" 15/ 628 - 689، "كتاب الحدود" رقم (6823).
موجب الحد لا يثبت بالاحتمال، وإنما لم يستفسره إما لأن ذلك قد يدخل في التجسيس المنهيّ عنه، وإما إيثارًا للسَّتر، ورأى أن في تعرضه لإقامة الحد عليه ندمًا ورجوعًا، وقد استحب العلماء تلقين من أقرّ بموجب الحد بالرجوع عنه، إما بالتعريض، وإما بأوضح منه؛ ليدرأ عنه الحدّ، وجزم النوويّ وجماعة أن الذنب الذي فعله كان من الصغائر، بدليل أن في بقية الخبر أنه كفّرته الصلاة؛ بناءً على أن الذي تكفّره الصلاة من الذنوب الصغائر، لا الكبائر، وهذا هو الأكثر الأغلب، وقد تكفِّر الصلاة بعض الكبائر، كمن كَثُر تطوّعه مثلًا بحيث صَلَح لأن يكفّر عددًا كثيرًا من الصغائر، ولم يكن عليه من الصغائر شيء أصلًا، أو شيء يسير، وعليه كبيرة واحدة مثلًا، فإنها تكفّر عنه ذلك؛ لأن اللَّه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
وقد وقع في رواية أبي بكر البرزنجي عن محمد بن عبد الملك الواسطيّ، عن عمرو بن عاصم، بسند حديث الباب بلفظ:"أن رجلًا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه إني زنيت، فأقم عليّ الحدّ. . . " الحديث، فحَمَله بعض العلماء على أنه ظنّ ما ليس زنا زنا، فلذلك كفّرت ذنبه الصلاة.
وقد يتمسك به من قال: إنه إذا جاء تائبًا سقط عنه الحدّ.
ويَحْتَمِل أن يكون الراوي عبّر بالزنا من قوله: "أصبت حدًّا"، فرواه بالمعنى الذي ظنه، والأصل ما في "الصحيحين"، فهو الذي اتفق عليه الحفاظ عن عمرو بن عاصم، بسنده المذكور.
ويَحْتَمِل أن يختص ذلك بالمذكور؛ لإخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم أن اللَّه قد كفَّر عنه حدّه بصلاته، فإن ذلك لا يُعرف إلا بطريق الوحي، فلا يستمر الحكم في غيره، إلا في من عُلم أنه مثله في ذلك، وقد انقطع عِلْم ذلك بانقطاع الوحي بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقد تمسَّك بظاهره صاحب "الهدي"، فقال: للناس في حديث أبي أمامة -يعني: المذكور بعد هذا- مسالك:
أحدها: أن الحدّ لا يجب إلا بعد تعيينه، والإصرار عليه من المُقِرّ به.
والثاني: أن ذلك يختص بالرجل المذكور في القصة.
والثالث: أن الحد يسقط بالتوبة، قال: وهذا أصح المسالك، وقوّاه بأن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طوعًا بخشية اللَّه وحده تقاوم السيئة التي عملها؛ لأن حكمة الحدود الردع عن العَوْد، وصنيعه ذلك دالّ على ارتداعه، فناسب رفع الحدّ عنه لذلك، واللَّه أعلم. انتهى
(1)
.
[6981]
(2765) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا شَدَّاد، حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُل، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَعَادَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ، وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ؟، فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ، أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ، فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ "، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "ثُمَّ شَهِدْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ "، فَقَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ -أَوْ قَالَ: ذَنْبَكَ-").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) هو: نصر بن عليّ بن نصر بن عليّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء فامتنع [10](ت 250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.
2 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم في الباب الماضي.
3 -
(عُمَرُ بْنُ يُونُسَ) بن القاسم الحنفيّ، أبو حفص اليماميّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
4 -
(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) الْعِجْليّ، أبو عمّار اليماميّ، أصله من البصرة،
(1)
"الفتح" 15/ 628 - 689، "كتاب الحدود" رقم (6823).
صدوقٌ، يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قُبيل (160)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.
5 -
(شَدَّادُ) بن عبد اللَّه القرشيّ، أبو عمار الدمشقيّ، ثقةٌ يرسل [4](بخ م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1337.
6 -
(أَبُو أُمَامَةَ) صُديّ -بالتصغير- ابن عجلان الباهليّ الصحابي المشهور، سكن الشام، ومات بها سنة ست وثمانين رضي الله عنه (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 43/ 1874.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.
شرح الحديث:
عن شَدَّاد بن عبد اللَّه القرشيّ، أنه قال:(حَدَّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ) صُديّ بن عجلان الباهليّ رضي الله عنه (قَالَ: بَيْنَمَا) تقدّم البحث فيها غير مرّة، فلا تغفل. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجدِ) النبويّ، وقوله:(وَنَحْنُ قُعُود مَعَهُ) جملة حاليّة من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، (إِذْ جَاءَ رَجُلٌ) لا يُعرف، قال الشيخ مشهور فيما كتبه في هامش تنبيه المعلم:"لم يُعيّنه أحد من الشرّاح، قال ابن حجر في "الفتح" 1/ 320: "وينبغي أن لا يبالَغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقّه ما يُذمّ به"، وكنت قد بدأت بجمع المحدودين، فلما وقفت على كلام ابن حجر ضربت عما بدأت صفحًا، وباللَّه التوفيق. انتهى
(1)
.
(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا)؛ أي: ما يوجبه، (فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لعله لانتظار الوحي، (ثُمَّ أَعَادَ) الرجل الكلام (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أَصبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَسَكَتَ) صلى الله عليه وسلم (عَنْهُ، وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ) لم تُعرف تلك الصلاة، (فَلَمَّا انْصَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) من صلاته بالتسليم، (قَالَ أَبُو أُمَامَةَ) رضي الله عنه:(فَاتَّبَعَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ) من المسجد إلى بيته، (وَاتَّبَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:(أَنْظُرُ مَا يَرُدُّ عَلَى الرَّجُلِ؟)
(1)
راجع: هامش "تنبيه المعلم" ص 449.
جملة في محل نَصْب على الحال، (فَلَحِقَ الرَّجُلُ رَسُولَ اللَّهِ) صلى الله عليه وسلم، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني عن حالك (حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ) مريدًا السؤال عما اقترفته من الذنوب، (أَلَيْسَ قَدْ تَوَضَّأْتَ، فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟ "، قَالَ) الرجل:(بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ)؛ أي: فعلت ذلك، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("ثُمَّ شَهِدْتَ) بكسر الهاء، من باب تعب، (الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ "، فَقَالَ) الرجل (نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ)؛ أي: صليت معك، (قَالَ) أبو أمامة:(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدَّكَ)؛ أي: ما يوجبه (أَوْ) للشكّ من الراوي، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: قد غفر لك (ذَنْبَكَ")، واللَّه تعالى أعلم.
مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي أمامة الباهليّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 6981](2765)، و (أبو داود) في "الحدود"(4381)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 315)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 262 - 263 و 265)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7623)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(18681)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(311)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 403)، واللَّه تعالى أعلم.
(8) - (بَابُ بَيَانِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ كَثُرَ قَتْلُهُ)
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6982]
(2766) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنى- قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُل قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ،
فَأَتَاهُ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ، فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ، فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ، وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُور آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى، فَهُوَ لَهُ، فَقَاسُوهُ، فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ"، قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لنَا أنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ، نَأَى بِصَدْرِهِ).
رجال هذا الإسناد: سبعة:
1 -
(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.
2 -
(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد اللَّه سَنْبر الدستوائيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.
3 -
(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
4 -
(أَبُو الصِّدِّيقِ) بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس الناجيّ -بالنون، والجيم- البصريّ، ثقةٌ [3](ت 108)(ع) تقدم في "الصلاة" 35/ 1019.
5 -
(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
والباقيان ذُكرا قبل باب.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجمعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنه، ومن المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الصِّدَيقِ) وفي الرواية التالية: "عن قتادة أنه سمع أبا الصدّيق الناجيّ"، فصرّح قتادة بالسماع، فزالت عنه تهمة التدليس، واسم أبي الصديق -وهو بكسر الصاد المهملة، وتشديد الدال المكسورة-: بكر، واسم أبيه: عمرو، وقيل: قيس، وليس له عند مسلم إلا حديثان فقط، هذا، وحديث تقدّم في "الصلاة"، وقال الحافظ: وليس له في البخاريّ سوى هذا الحديث.
(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) وفي رواية البخاريّ: "كان في بني إسرائيل"، (رَجُلٌ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسمه، ولا على اسم أحد من الرجال ممن ذُكر في القصة. انتهى
(1)
. (قَتَلَ تِسْعَةً وَتسْعِينَ نَفْسًا)؟ أي: ظلمًا، (فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ) إنما سأل عن الأعلم؛ لأنه الذي يوجد عنده عِلم أحكام الشرع، (فَدُلَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: دلّه الناس (عَلَى رَاهِبٍ) اسم فاعل من رَهِبَ؛ أي: خاف، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَهِبَ رَهَبًا، من باب تَعِب: إذا خاف، والاسم: الرَّهْبَةُ، فهو رَاهِبٌ من اللَّه، واللَّه مَرْهُوبٌ، والأصل: مرهوب عقابه، والرَّاهِبُ، عابد النصارى من ذلك، والجمع رُهْبَانٌ، وربما قيل: رَهَابِينُ، وتَرَهَّبَ الرَّاهِبُ: انقطع للعبادة، والرَّهْبَانِيَّةُ من ذلك، قال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]، مَدَحهم عليها ابتداءً، ثم ذَمّهم على ترك شَرْطها بقوله:{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]؛ لأن كُفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أحبطها، قال الطُّرْطُوشيّ: وفي هذه الآية تقوية لمذهب من يرى أن الإنسان إذا ألزم نفسه فعلًا من العبادة لَزِمه، قال: وأنا أمِيل إلى ذلك، والجواب عنه أن التعرّض بالذمّ لم يكن لإفسادهم العبادة بنوع من الإفسادات المنهية عند الفاعل، وهم لم يفسدوها على اعتقادهم، وإنما ذمّهم على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فالذمّ متوجه على الراهب وغيره، فألغى وصف الرهبانية بدليل مَدْحٍ من آمن منهم، وقد أبطل تلك العبادة بقوله:{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27]، ولم يقل:
(1)
"الفتح" 8/ 127 - 128، "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3470).
الذين أتموا، وأما قوله:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، فالمراد: لا تبطلوها بمعصية الرسول صلى الله عليه وسلم. انتهى
(1)
.
قال في "الفتح": قوله: "فأتى راهبًا" فيه إشعار بأن ذلك كان بعد رفع عيسى؛ لأن الرهبانية إنما ابتدعها أتباعه، كما نُصّ عليه في القرآن. انتهى
(2)
.
(فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى الرجل القاتلُ الراهبَ (فَقَالَ) له: (إِنَّهُ) فيه التفات؛ إذ الأصل أن يقول: "إني". (قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا)؛ أي: ظُلمًا، (فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟)؛ أي: صحيحة، (فَقَالَ) له الراهب جوابًا عن سؤاله:(لَا)؛ أي: لا توبة لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين إنسانًا، وأفتاه بذلك؛ لغلبة الخشية عليه، واستبعاده أن تصح توبته بعد قَتْله لمن ذَكَر أنه قَتَله بغير حقّ
(3)
، وقال القاري: وهذا قاله إما جهلًا منه بعلم التوبة، وإما لغلبة الخشية عليه، وإما لتصوّره عدم إمكان إرضاء خصومه عنه
(4)
. (فَقَتَلَهُ)؛ أي: الراهب، (فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً) قال القاري: لعله لكونه أوهمه أنه لا يقبل له توبة منها، وإن رضي مستحقوه، وقيل: لأن فتياه اقتضت عنده أن لا نجاة له، فيئس من الرحمة، ثم تداركه اللَّه تعالى، فنَدِم على ما صنع، فرجع يسأل، وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب؛ لأنه كان من حقّه التحرز ممن اجترأ على القتل حتى صار له عادة، بأن لا يواجهه بخلاف مراده، وأن يستعمل معه المعاريض؛ مداراةً عن نفسه، هذا لو كان الحكم عنده صريحًا في عدم قبول توبة القاتل، فضلًا عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونًا
(5)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قول الراهب للقاتل: لا توبة لك دليل على قلّة علم ذلك الراهب، وعدم فطنته، حيث لم يُصب وجه الفتيا، ولا سَلَك طريق التحرّز على نفسه، ممن صار القتل له عادة معتادة، فقد صار هذا مثل الأسد الذي لا يبالي بمن يفترسه، فكان حقّه ألا يشافهه بمنع التوبة؛ مداراةً لدفع القتل عن نفسه، كما يدارى الأسد الضاري، لكنه أعان على نفسه، فإنَّه لمّا آيسه من
(1)
"المصباح المنير" 1/ 241.
(2)
"الفتح" 8/ 127 - 128.
(3)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 46.
(4)
"مرقاة المفاتيح" 5/ 159.
(5)
"مرعاة المفاتيح" 8/ 46.
رحمة اللَّه، وتوبته قَتَله، بحكم سبعيته، ويأسه من رحمة اللَّه، وتوبته عليه، ولمّا لَطَف اللَّه به بقي في نفسه الرغبة في السؤال عن حاله، فما زال يبحث إلى أن ساقه اللَّه تعالى إلى هذا الرجل العالم الفاضل، فلما سأله نطق بالحقّ والصواب، فقال له: ومن يحول بينك وبينها؟ مفتيًا منكرًا على من ينفيها عنه، ثم إنه أحاله على ما ينفعه، وهو مفارقته لأرضه التي كانت غلبت عليه بحكم عادة أهلها الفاسدة، ولقومه الذين كانوا يُعينونه على ذلك، ويَحملونه عليه. وبهذا يُعلم فضل العلم على العبادة، فإنَّ الأول غلبت عليه الرهبانية، واغترّ بوصف الناس له بالعلم، فأفتى بغير علم، فهلك في نفسه، وأهلك غيره، والثاني كان مشتغلًا بالعلم، ومعتنيًا به، فوُفّق للحق، فأحياه اللَّه في نفسه، وأحيا به الناس.
قال القاضي: ومذهب أهل السُّنَّة والجماعة أن التوبة تكفِّر القتل، كسائر الذنوب، وهو قول كافّة العلماء، وما رُوي عن بعضهم من تشديد في الزجر، وتورية في القول، فإنما ذلك لئلا يجترئ الناس على الدماء، وقد اختلف في قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية [النساء: 93]، فقيل: معناه: إن جازاه، وقيل: الخلود: طول الإقامة، لا التأبيد، وقيل: الآية في رجل بعينه قَتل رجلًا له عليه دم بعد أخذ الدية، ثم ارتدّ، وقد تقدّم القول على أن كل ما دون الشرك يجوز أن يغفره اللَّه تعالى، وأنه ليس من ذلك شيء كفرًا، قتلًا كان، أو تَرْك صلاة، أو غيرها، كما دل عليه قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"تبايعوني على ألّا تشركوا باللَّه شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم اللَّه إلا بالحق، فمن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره اللَّه عليه، فأمْره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه"، متّفقٌ عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة رضي الله عنه أيضًا:"خمس صلوات افترضهن اللَّه عز وجل على العباد، فمن جاء بهنّ لم يضيّع منهن شيئًا، كان له عند اللَّه عهد أن يغفر له، ومن لم يأت بهنّ، فليس له عند اللَّه عهد، إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه"، وهذه حُجج صريحة تبيّن فساد مذهب المكفرة بشيء
من ذلك. انتهى
(1)
.
(ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ) بالبناء للمفعول أيضًا، (عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ) الرجل القاتل للعالم: (إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)؛ أي: صحيحة، (فَقَالَ) ذلك العالمْ (نَعَمْ) لك توبة صحيحة، (وَمَنْ) استفهاميّة، والاستفهام للإنكار؛ أي: لا أَحَدَ (يَحُولُ)؛ أي: يمنع، ويحجُز (بَيْنَهُ)؛ أي: بين القاتل، وقد سبق أنه فيه التفاتًا؛ أي: بينك (وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟)؛ يعني: أن التوبة مفتوح بابها، فبادِر إليها، ثم أرشده إلى ما يُعينه عليها، بقوله:(انْطَلِقْ)؛ أي: اذهب من أرضك هذه التي ارتكبت فيها هذه الجرائم الشنيعة الفظيعة (إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا) لأرض سمّاها له، وقع تسمية القريتين في حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، مرفوعًا في "المعجم الكبير" للطبرانيّ، قال فيه: إن اسم القرية الصالحة: نصرة، واسم القرية الأخرى: كفرة، قاله في "الفتح"
(2)
.
ثم ذكر سبب أمْره له بالانطلاق إليها بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّ بِهَا)؛ أي: لأن بتلك الأرض (أُنَاسًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: "الأناسُ" قيل: فُعالٌ بِضَمّ الفَاءِ، مُشْتَقُ مِنَ الأُنِس، لكن يجوزُ حذف الهمزة تخفيفًا على غير قياس، فيبقى النَّاسَ، وعنِ الكسائيّ أن الأُنَاسَ، والنَّاسَ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، وهو الوجهُ؛ لأنهما مادَّتَانِ مُخْتلِفَتانِ في الاشْتِقَاق، والحذف تَغْيِيرٌ، وهو خِلافٌ الأَصْلِ. انتهى
(3)
.
(يَعْبُدُونَ اللَّهَ) عز وجل (فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ) حتى تلحق بهم؛ لأن اللَّه تعالى يقول فيهم: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم"، (وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ) ثم بيّن له سبب نهيه عن الرجوع إليها بما قرنها بالفاء التعليليّة، فقال:(فَإِنَّهَا)؟ أي: لأن أرضك (أَرْضُ سَوْءٍ) بفتح السين المهملة، وسكون الواو؛ أي: قبيحة تُغري على الفساد؛ لسوء سُكّانها، أو لغير ذلك. (فَانْطَلَقَ) الرجل قاصدًا تلك الأرض، (حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ)، أي: بلغ نصفه، يقال: نصفتُ الشيءَ نَصْفًا، من باب قتل: بلغتُ نصفه، وكلُّ شيء بلغ نصف شيءقيل: نصَفَهُ
(1)
"المفهم" 7/ 89 - 91.
(2)
"الفتح" 8/ 128.
(3)
"المصباح المنير" 1/ 26.
ينْصُفُهُ، فإن بلغ نصف نفسه، ففيه لغاتٌ، نَصَفَ ينصُفُ، من باب قتل، وأنصف بالألف، وتنصّف، قاله الفيّوميّ رحمه الله
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نصف الطريقَ"؛ أي: بلغ نصفه، يقال: نصف الماءَ، والشجرةَ، وغيرهما: إذا بلغ نصف ذلك. انتهى
(2)
.
(أَتَاهُ الْمَوْتُ)؛ أي: أمارته، وسكراته، (فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ)؛ أي: في قبض روحه، (مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَاب، فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ): نحن أحقّ به؛ لأنه (جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ) عز وجل، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25].
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنه جاء تائبًا، مقبلًا بقلبه" هذا نصّ صريح في أن اللَّه تعالى أطلع ملائكة الرحمة على ما في قلبه، من صحة قَصْده إلى التوبة، وحِرصه عليها، وأن ذلك خَفِي على ملائكة العذاب، حتى قالت: إنه لم يعمل خيرًا قط، ولو اطّلعت على ما في قلبه من التوبة لَمَا صحّ لها أن تقول هذا، ولا تُنازع ملائكة الرحمة في قولها: إنه جاء تائبًا مقبلًا بقلبه، بل شَهِدت بما في عِلمها، كما شهد الآخرون بما تحقّقوه، لكن شهادة ملائكة الرحمة على إثبات، وشهادة ملائكة العذاب على عدم علم، وشهادة الإثبات مقدّمة، فلا جَرَمَ لَمّا تنازع الصنفان، وخرج كلاهما عن الشهادة إلى الدعاوى، بعث اللَّه إليهما ملَكًا حاكمًا يفصل بينهما، وصوّره بصورة آدميّ؛ إخفاءً عن الملائكة، وتنويهًا ببني آدم، وأن منهم من يصلح لأن يفصل بين الملائكة إذا تنازعوا. انتهى
(3)
.
(وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ) نحن أحقّ به، (إِنَّهُ) يَحْتَمل أن يكون بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الجملة المستأنفة التعليليّة، وأن يكون بفتحها بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأنه (لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ) لعل ذلك لكونه قتل مائة نفس، فأحاط ذلك بحسناته كلّها، أو لأنهم علموا أنه ليس من أهل الطاعة، بل عمره كلّه جرائم، كما سبق في الرجل الذي أوصى بالوصيّة الجائرة؛ لأنه "لم يبتئر
(1)
"المصباح المنير" 2/ 608.
(2)
"المفهم" 7/ 91.
(3)
"المفهم" 7/ 91 - 92.
عند اللَّه خيرًا"؛ أي: لم يدّخر. (فَأتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُور آدَمِيّ، فَجَعَلُوهُ) حَكَمًا (بَيْنَهُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: فيه حجَّة لمالك على قوله: إن المتخاصمَين إذا حكّما بينهما رجلًا يصلح للتحكيم، لزمهما ما يحكم به، وقد خالفه في ذلك الشافعيّ. انتهى
(1)
.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد استوفيت البحث فيها في "شرح النسائيّ" عند شرح حديث شُريح بن هانئ، عن أبيه هانئ، أنه لمّا وَفَد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمعه، وهم يَكنون هانئًا أبا الحَكَم، فدعاه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال له:"إن اللَّه هو الحكم، وإليه الحُكْم، فلم تكنَى أبا الحكم؟ " فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال:"ما أحسن من هذا؟ فما لك من الولد؟ " قال: لي شُريح، وعبد اللَّه، ومسلم، قال:"فمن أكبرهم؟ " قال: شُريح، قال:"فأنت أبو شُريح"، فدعا له، ولولده. انتهى
(2)
.
فذكرت اختلاف العلماء في المسألة، ورجّحت ما دلّ عليه هذا الحديث من جواز التحكيم في كل شيء، وأنه ينفذ، ولا يجوز للقاضي أن ينقضه، فراجع شرحي هناك
(3)
، وباللَّه تعالى التوفيق.
(فَقَالَ) ذلك الملك: (قِيسُوا) بكسر القاف، أمْر من قاس الشيء يقيسه قَيْسًا، من باب باع: بمعنى قدّره، وقاسه يقوسه قَوْسًا، من باب قال لغةٌ، وقايسته بالشيء مقايسةً، وقياسًا، من باب قاتل، وهو تقديره به، والمقياس: المقدار
(4)
.
(مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ)؛ أي: الأرض التي خرج منها، والأرض التي خرج إليها، (فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ) الرجل (أَدْنَى)؛ أي: أقرب، (فَهُوَ)؛ أي: ذلك الرجل، (لَهُ)؛ أي: لذلك الأقرب، (فَقَاسُوهُ)؛ أي: قاسوا ما بين الأرضين (فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ)؛ أي: قَصَد الذهاب إليها، (فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ") لكونه مقبول التوبة، وهذا مصداق قوله رحمه الله:"إن رحمتي سبقت غضبي".
(1)
"المفهم" 7/ 92.
(2)
"سنن النسائيّ (المجتبى) " 8/ 226.
(3)
راجع: "ذخيرة العقبى" 39/ 241 - 245 رقم (5389).
(4)
"المصباح المنير" 2/ 521.
قال النوويّ رحمه الله: وأما قياس الملائكة ما بين القريتين، وحُكم الملَك الذي جعلوه بينهم بذلك، فهذا محمول على أن اللَّه تعالى أمَرهم عند اشتباه أمْره عليهم، واختلافهم فيه أن يُحَكِّموا رجلًا ممن يمرّ بهم، فمَرَّ الملَك في صورة رجل، فحَكَم بذلك. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فإلى أيتهما كان أدنى فهو له" دليل على أن الحاكم إذا تعارضت الأقوال عنده، وتعذرت الشهادات، وأمكنه أن يستدلّ بالقرائن على ترجيح بعض الدعاوي، نفذ الحكم بذلك، كما فعله سليمان؛ حيث قال:"ائتوني بالسكين أشقّه بينهما".
[تنبيه]: قال القاضي: جعل اللَّه قربه من القرية علامة للملَك عند اختلافهم مع عدمهم معرفة حقيقة باطنه التي اطَّلَع اللَّه عليها، ولو تحقّقوا توبته لم يختلفوا، ولم يحتاجوا للمقايسة.
وتعقّبه القرطبيّ، فقال: هذه غفلة منه عن قول ملائكة الرحمة: "جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى اللَّه عز وجل")، وهذا نصّ في أن ملائكة الرحمة عَلِمت ما في قلبه، فلو علمت ملائكة العذاب ما في قلبه لَمَا تنازعوا؛ لأن الملائكة كلّهم لا يخفى عليهم أن التوبة إذا صحّت في القلب، وعَمِل على مقتضاها بالجوارح بالقَدْر الممكن مقبولة بفضل اللَّه تعالى، ووَعْده الصادق، والأحسن ما ذكرناه إن شاء اللَّه تعالى، وإنما جعل اللَّه قُرب تلك الأرض سببًا مرجّحًا لحجَّة ملائكة الرحمة، ومصدّقًا لصحة التوبة، وفيه دليل على أن أعمال الظاهر عنوان على الباطن. انتهى
(2)
.
(قَالَ قَتَادَةُ) بن دعامة: (فَقَالَ الْحَسَنُ) البصريّ: (ذُكِرَ لَنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: ذَكر بعض الناس لنا، (أَنَّهُ)؛ أي: الرجل، (لَمَّا أتاهُ الْمَوْتُ)؛ أي: مقدّماته، وعلاماته، (نَأَى)؛ أي: ابتعد (بِصَدْرهِ) عن الأرض التي جاء منها إلى جهة الأرض التي خرج إليها؛ أي: فبسبب تلك المحاولة كان أقرب إليها، فقبضته ملائكة الرحمة، وفي رواية شعبة التالية:"فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجُعل من أهلها"، وفي روايته أيضًا:"فأوحى اللَّه إلى هذه أنْ تباعدي، وإلى هذه أنْ تقرّبي".
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 84.
(2)
"المفهم" 7/ 92 - 93.
وقال النوويّ: قوله: "نأى بصدره"؛ أي: نهض، ويجوز تقديم الألف على الهمزة، وعكسه، وسبق في حديث أصحاب الغار. انتهى
(1)
.
وقال القرطبيّ رحمه الله: "نأى بصدره"؛ أي: نهض به مع ثِقَل ما أصابه من الموت، وذلك دليل على صحة توبته، وصِدق رغبته. انتهى
(2)
.
ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فناء"، قال في "الفتح": قوله: "فناء" بنون، ومدّ؛ أي: بَعُد، أو المعنى: مالَ، أو نهض مع تثاقُل، فعلى هذا فالمعنى: فمال إلى الأرض التي طلبها، هذا هو المعروف في هذا الحديث، وحَكَى بعضهم فيه:"فنأى" بغير مدّ قبل الهمز، وبإشباعها، بوزن سَعَى، تقول: نَأَى يَنْأَى نَأْيًا؛ أي: بَعُد، وعلى هذا فالمعنى: فبَعُد عن الأرض التي خرج منها.
قال: ووقع في رواية هشام عن قتادة ما يُشعر بأن قوله: "فَنَاءَ بصدره" إدراج، فإنه قال في آخر الحديث:"قال قتادة ة قال الحسن: ذُكِر لنا أنه لمّا أتاه الموت ناء بصدره". انتهى، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6982 و 6983 و 6984](2766)، و (البخاريّ) في "أحاديث الأنبياء"(3470)، و (ابن ماجه) في "الديات"(2622)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 63)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 20 و 72)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(611 و 615)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 508)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1056)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 102)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 17) وفي "شُعب الإيمان"(5/ 397)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان مشروعية التوبة من جميع الكبائر، حتى مِنْ قَتْلِ
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 84.
(2)
"المفهم" 7/ 91.
الأنفس، ويُحمل على أن اللَّه تعالى إذا قَبِل توبة القاتل تكفّل برضا خصمه.
2 -
(ومنها): بيان أن المفتي قد يجيب بالخطأ، وغَفَل من زعم أنه إنما قَتَل الأخير على سبيل التأوّل؛ لكونه أفتاه بغير علم؛ لأن السياق يقتضي أنه كان غير عالم بالحكم، حتى استمر يستفتي، وأن الذي أفتاه استبعد أن تصح توبته بعد قَتْله لمن ذَكَر أنه قتله بغير حقّ، وأنه إنما قَتَله بناءً على العمل بفتواه؛ لأن ذلك اقتضى عنده أن لا نجاة له، فيئس من الرحمة، ثم تداركه اللَّه، فنَدِم على ما صنع، فرجع يسأل، وفيه إشارة إلى قلة فطنة الراهب؛ لأنه كان من حفه التحرز ممن اجترأ على القتل، حتى صار له عادة بأن لا يواجهه بخلاف مراده، وأن يستعمل معه المعاريض مداراةً عن نفسه، هذا لو كان الحكم عنده صريحًا في عدم قبول توبة القاتل، فضلًا عن أن الحكم لم يكن عنده إلا مظنونًا.
3 -
(ومنها): أن الملائكة الموكَلين ببني آدم يَختلف اجتهادهم في حقهم بالنسبة إلى من يكتبونه مطيعًا أو عاصيًا، وأنهم يختصمون في ذلك، حتى يقضي اللَّه بينهم.
4 -
(ومنها): بيان فضل التحول من الأرض التي يصيب الإنسان فيها المعصية؛ لِمَا يَغلب بحكم العادة على مثل ذلك؛ إما لتذكره لأفعاله الصادرة قبل ذلك، والفتنة بها، وإما لوجود من كان يعينه على ذلك، ويحضّه عليه، ولهذا قال له الأخير:"ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء".
5 -
(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلّها، والاشتغال بغيرها.
6 -
(ومنها): بيان فضل العالم على العابد؛ لأن الذي أفتاه أوّلًا بأن لا توبة له غلبت عليه العبادة، فاستعظم وقوع ما وقع من ذلك القاتل، من استجرائه على قتل هذا العدد الكثير، وأما الثاني فغلب عليه العلم، فأفتاه بالصواب، ودلّه على طريق النجاة.
7 -
(ومنها): أن التوبة -كما قال عياض-: تنفع من القتل، كما تنفع من سائر الذنوب، وهو وإن كان شرعًا لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف، لكن ليس هذا من موضع الخلاف؛ لأن موضع الخلاف إذا لم يَرِد في شرعنا
تقريره، وموافقته، أما إذا وَرَدَ فهو شَرْع لنا بلا خلاف، ومن الوارد في ذلك قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
وحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، ففيه بعد قوله:"ولا تقتلوا النفس". وغير ذلك من المنهيات، "فمن أصاب من ذلك شيئًا، فأمره إلى اللَّه، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه" متفق عليه.
قال الحافظ: ويؤخذ ذلك أيضًا من جهة تخفيف الآصار عن هذه الأمة بالنسبة إلى مَنْ قَبْلهم من الأمم، فإذا شُرع لهم قبول توبة القاتل، فمشروعيتها لنا بطريق الأَولى.
8 -
(ومنها): أنه استُدِلّ به على أن في بني آدم من يصلح للحكم بين الملائكهَ إذا تنازعوا
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6983]
(. . .) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبا الصَّدِّيقِ النَّاجِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَجَعَلَ يَسْأَلُ هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَتَى رَاهِبًا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ، فَقَتَلَ الرَّاهِبَ، ثُمَّ جَعَلَ يَسْأَلُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَى قَرْيَةٍ فِيهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَنَأَى بِصَدْرِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، فَكَانَ إِلَى الْقَرْيَةِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبَ مِنْهَا بِشِبْرٍ
(2)
، فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.
2 -
(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.
(1)
راجع: "الفتح" 8/ 129 - 130، "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3470).
(2)
وفي نسخة: "أقرب بشبر".
والباقون ذُكروا في الباب وقبله.
وقوله: (سَمِعَ أَبَا الصِّدِّيقِ) بكسر الصاد، والدال المهملتين، وتشديد الثانية، واسمه: بكر بن قيس، أو بكر بن عمرو.
وقوله: (النَّاجِيَّ) بالنون، وتخفيف الجيم، وتشديد الياء: نسبة إلى بني ناجية بن سامة بن لؤيّ، وهي قبيلة كبيرة من سامة، قاله في "اللباب"
(1)
.
وقوله: (هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟)؛ أي: هل تُقبل توبته بعد هذه الجريمة العظيمة؟ قال الطيبيّ رحمه الله: في الحديث إشكال؛ لأنا إن قلنا: لا، فقد خالفنا نصوصًا، وإن قلنا: نعم، فقد خالفنا أيضًا أصل الشرع، فإن حقوق بني آدم لا تسقط بالتوبة، بل توبتها أداؤها إلى مستحقها، أو الاستحلال منها.
فالجواب: أن اللَّه تعالى إذا رضي عنه، وقَبِل توبته يُرضي خصمه. انتهى
(2)
.
وقوله: (فَنَأَى بِصَدْرهِ)؛ أي: نهض، ويَحْتَمل أن يكون بمعنى: نَاءَ؛ أي: بَعُد، يقال: ناء، ونأى بمعنى
(3)
.
والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنة.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6984]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ، وَزَادَ فِيهِ: "فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تبَاعَدِي، وَإِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي").
رجال هذا الإسناد: أربعة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قبل باب.
2 -
(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.
(1)
"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 287.
(2)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1840.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1840.
والباقيان ذُكرا قبله.
وقوله: (وَزَادَ فِيهِ) فاعل "زاد" ضمير ابن أبي عديّ.
وقوله: (فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي. . . إلخ) معناه: أن اللَّه تعالى أمر الأرض التي خرج منها أن تتباعد عن الرجل، وأمر الأرض التي توجّه تائبًا إليها أن تتقرب إليه حتى تكون أقلّ مسافةً من تلك، فتأخذه ملائكة الرحمة.
وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان ذلك لَمّا حَكَم الحاكم بقياس الأرض، ويُفهم منه أن الرجل كان أقرب إلى الأرض التي خرج منها، فلو تَرك اللَّه الأرض على حالها لقبضته ملائكة العذاب، لكن غَمَرته الألطاف الإلهية، وسبقت له العناية الأزلية، فقرّبت البعيد، وألانت الحديد، ويستفاد منه أن الذنوب وإن عظمت، فعفو اللَّه أعظم منها، وأن من أُلهم صِدق التوبة، فقد سُلك به طريق اللطف، والقربة. انتهى
(1)
.
[تنبيه]: رواية ابن أبي عديّ عن شعبة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:
(3283)
- حدّثنا محمد بن بشّار، حدّثنا محمد بن أبي عديّ، عن شعبة، عن قتادة، عن أبي الصّدِّيق الناجيّ، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كان في بني إسرائيل رجل، قتل تسعة وتسعين إنسانًا، ثم خرج يسأل، فأَتَى راهبًا، فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، فأوحى اللَّه إلى هذه أن تقرَّبي، وأوحى اللَّه إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوُجد إلى هذه أقرب بشبر، فغُفِر له". انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6985]
(2767) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
(1)
"المفهم" 7/ 93.
(2)
"صحيح البخاريّ" 3/ 1280.
"إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دَفَعَ اللَّهُ عز وجل إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، فَيَقُولُ: هَذَا فَكَاكُكَ مِنَ النَّارِ").
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.
2 -
(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أُسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.
3 -
(طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى) بن طلحة بن عُبيد اللَّه التيميّ المدنيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ، يخطئ [6](ت 148)(م 4) تقدم في "الصلاة" 8/ 858.
4 -
(أَبُو بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، وُلد بالبصرة، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقةٌ [3](ت 104) وقيل غير ذلك، وقد جاز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.
5 -
(أَبُو مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قبل بابين.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.
شرح الحديث:
(عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد اللَّه بن قيس الأشعريّ رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) "كان" تامّة، و"يوم" مرفوع على الفاعليّة؛ أي: إذا جاء، ووقع يوم القيامة، ويَحْتَمِل أن تكون ناقصة، واسمها مقدّر؛ أي: الزمان، أو الوقت، و"يومَ" منصوب على الخبريّة، وجواب "إذا" قوله: (دَفَعَ اللَّهُ عز وجل إِلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)؛ أي: شخص موصوف بالإسلام، فيشمل الذَّكَر والأنثى، (يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانيًّا)؛ أي: واحدًا من أهل الكتاب، فـ "أو" للتنويع، (فَيَقُولُ) اللَّه سبحانه وتعالى: (هَذَا) الكافر (فَكَاكُكَ) بفتح الفاء، وتُكسر؛ أي: خلاصك (مِنَ النَّارِ") وفي الرواية التالية: "لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا"، وفي الرواية الثالثة: "يَجِيء يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى"، ورواه الطبرانيّ في "الكبير"، والحاكم في "الكنى" عن أبي موسى، ولفظه: "إذا كان يوم القيامة بعث اللَّه تعالى إلى كل مؤمن ملَكًا معه كافر، فيقول الملك للمؤمن: يا مؤمن هاك هذا الكافر، فهذا فداؤك من النار".
وقال في "المشارق": "هذا فكاكك" بفتح الفاء؛ أي: خلاصك منها، ومعافاتك، ومنه فَكاك الرقبة، تخليصها من الرّقّ، وفكاك الرهن تخليصه من عُهدة الارتهان، وإطلاقه لربه، "وفُكّوا العاني"؛ أي: افْدُوا الأسيرَ، وخلّصوه من الأَسْرِ. انتهى
(1)
.
وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَكَكْتُ الرهنَ: خَلّصته، والاسم: الفِكَاكُ بالفتح، والكسر لغةٌ حكاها ابن السِّكِّيت، ومَنَعها الأصمعيّ، والفراء، وفَكَكْتُ الأسيرَ، والعبدَ: إذا خَلّصته من الإسار، والرقّ. انتهى
(2)
.
وقال التوربشتيّ رحمه الله: فِكاكُ الرهن -بفتح الفاء- ما يُفَكّ به، ويُخَلّص، والكسر لغة فيه، قال القاضي رحمه الله: لمّا كان لكل مكلَّف مقعد من الجنة، ومقعد من النار، فمن آمن حقّ الإيمان بُدّل مقعده من النار بمقعد من الجنة، ومن لم يؤمن فبالعكس، كانت الكفرة كالخلف للمؤمنين في مقاعدهم من النار، والنائب منابهم فيها، وأيضًا لَمّا سبق القَسَم الإلهيّ بملء جهنم كان ملؤها من الكفار خلاصًا للمؤمنين، ونجاةً لهم من النار، فهم في ذلك للمؤمنين كالفداء، والفكاك، ولعل تخصيص اليهود والنصارى بالذكر؛ لاشتهارهما بمضادة المسلمين، ومقابلتهما إياهم في تصديق الرسول المقتضي لنجاتهم. انتهى
(3)
.
وقيل: عَبّر عن ذلك بالفكاك تارةً، وبالفداء أخرى، على وجه المجاز والاتساع؛ إذ لم يُرِد به تعذيب الكتابيّ بذنب المسلم؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، واللَّه تعالى أعلم
(4)
.
(1)
"مشارق الأنوار" 2/ 157.
(2)
"المصباح المنير" 2/ 479.
(3)
"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3506 - 3507.
(4)
"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 119.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6985 و 6986 و 6987 و 6988](2767)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 391 و 398 و 402 و 407 و 408 و 409 و 410)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(499)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(537)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(630)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد اهل السُّنَّة"(6/ 1066)، واللَّه تعالى أعلم.
(المسألة الثالثة): في أقوال العلماء في معنى حديث الباب:
قال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه تعالى إلى كل مسلم يهوديًّا، أو نصرانيًّا، فيقول هذا فكاكك من النار"، وفي رواية:"لا يموت رجل مسلم إلا أدخل اللَّه مكانه النار يهوديًّا، أو نصرانيًّا"، وفي رواية:"يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها اللَّه لهم، ويَضَعها على اليهود والنصارى".
"الفِكاك" بفتح الفاء، وكسرها، والفتح أفصح، وأشهر، وهو الخلاص، والفداء، ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خَلَفه الكافر في النار، لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعنى فكاكك من النار أنك كنت مُعرَّضًا لدخول النار، وهذا فكاكك؛ لأن اللَّه تعالى قدّر لها عددًا يملؤها، فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم، صاروا في معنى الفكاك للمسلمين.
وأما رواية: "يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب" فمعناه: أن اللَّه تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين، ويُسقطها عنهم، ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النار بأعمالهم، لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التأويل؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، وقوله:"ويضعها" مجاز، والمراد: يضع عليهم مثلها بذنوبهم، كما ذكرناه، لكن لمّا أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم، وأبقى على الكفار سيئاتهم، صاروا
في معنى مَن حَمَل إثم الفريقين؛ لكونهم حملوا الإثم الباقي، وهو إثمهم.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد آثامًا كان للكفار سبب فيها، بأن سَنُّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو اللَّه تعالى، ويوضع على الكفار مثلها؛ لكونهم سنُّوها، ومن سنَّ سُنَّة سيئة كان عليه مثل وِزر كل من يعمل بها. انتهى
(1)
.
وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح" -عند شرح الأحاديث التي أوردها البخاريّ رحمه الله في "باب القصاص يوم القيامة"-: وفي حديث الباب وما بعده دلالة على ضعف الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية غيلان بن جرير، عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعريّ، عن أبيه، رفعه:"يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، يغفرها اللَّه لهم، ويضعها على اليهود والنصارى"، فقد ضعَّفه البيهقيّ، وقال: تفرَّد به شدّاد أبو طلحة، والكافر لا يعاقَب بذنب غيره؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر، عن أبي بردة، بلفظ:"إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلى كل مسلم يهوديًّا، أو نصرانيًّا، فيقول: هذا فداؤك من النار"، قال البيهقيّ: ومع ذلك فضعَّفه البخاريّ، وقال: الحديث في الشفاعة أصحّ.
قال البيهقيّ: ويَحْتَمِل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كُفّرت عنهم في حياتهم، وحديث الشفاعة في قوم لم تكفّر ذنوبهم، ويَحْتَمِل أن يكون هذا القول لهم في الفداء بعد خروجهم من النار بالشفاعة.
وقال غيره: يَحْتَمِل أن يكون الفداء مجازًا عما يدل عليه حديث أبي هريرة الآتي في أواخر "باب صفة الجنة والنار" قريبًا بلفظ: "لا يدخل الجنة أحد إلا أُريَ مقعده من النار، لو أساء؛ ليزداد شكرًا. . . " الحديث، وفيه في مقابله:"ليكون عليه حسرةً"، فيكون المراد بالفداء: إنزال المؤمن في مقعد الكافر من الجنة الذي كان أُعِدّ له، وإنزال الكافر في مقعد المؤمن الذي كان أُعدّ له، وقد يلاحظ في ذلك قوله تعالى:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} [الزخرف: 72]، وبذلك أجاب النوويّ تبعًا لغيره.
وأما رواية غيلان بن جرير، فأوّلها النوويّ أيضًا تَبَعًا لغيره، بأن اللَّه يغفر
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 85.
تلك الذنوب للمسلمين، فإذا سقطت عنهم وُضعت على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم، فيعاقبون بذنوبهم، لا بذنوب المسلمين، ويكون قوله:"ويضعها"؛ أي: يضع مثلها؛ لأنه لمّا أُسقط عن المسلمين سيئاتهم، وأُبقيَ على الكفار سيئاتهم، صاروا في معنى مَن حَمَل إثم الفريقين؛ لكونهم انفردوا بحمل الإثم الباقي، وهو إثمهم.
ويَحْتَمِل أن يكون المراد آثامًا كانت الكفار سببًا فيها بأن سنُّوها، فلما غُفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سنّ تلك السُّنَّة السيئة باقيةً؛ لكون الكافر لا يُغفر له، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لَحِق الكافر بما سنّه من عمله السيّئ، ووَضْعه عن المؤمن الذي فعله بما منّ اللَّه به عليه من العفو والشفاعة، سواء كان ذلك قبل دخول النار، أو بعد دخولها، والخروج منها بالشفاعة، وهذا الثاني أقوى. انتهى ما في "الفتح"
(1)
، وهو تحقيقٌ مفيدٌ، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6986]
(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ؛ أَنَّ عَوْنًا، وَسَعِيدَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ حَدَّثَاهُ؛ أَنَّهُمَا شَهِدَا أَبَا بُرْدَةَ، يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ، إِلَّا أَدْخَلَ اللَّهُ مَكَانَهُ النَّارَ يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، قَالَ: فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَحَلَفَ لَهُ، قَالَ: فَلَمْ يُحَدِّثْني سَعِيدٌ أَنَّهُ اسْتَحْلَفَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَوْنٍ قَوْلَهُ).
رجال هذا الإسناد: ثمانية:
1 -
(عَفانُ بْنُ مُسْلِمٍ) بن عبد اللَّه الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، ورُبّما وَهِم، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.
(1)
"الفتح" 15/ 53 - 54، "كتاب الرقاق" رقم (6533).
2 -
(عَوْنُ) بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود الْهُذَليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [4]، مات قبل سنة عشرين ومائة (م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 27/ 1361.
3 -
(سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ) بن أبي موسى الأشعريّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، [5](ع) تقدم في "الزكاة" 16/ 2333.
والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.
وقوله: (قَالَ)؛ أي: عون بن عبد اللَّه، ويَحتَمِل أن يكون قتادة راويًا عنه، (فَاسْتَحْلَفَهُ)؛ أي: استحلف أبا بردة (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) الخليفة الراشد المتوفّى في رجب سنة (101 هـ). (بِاللَّهِ) متعلّق بـ "استحلفه"، (الَّذِي لَا إِلَهَ إِلا هُوَ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَحَلَفَ لَهُ) قال النوويّ رحمه الله: إنما استحلفه؛ لزيادة الاستيثاق، والطمأنينة، ولِمَا حصل له من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين، ولأنه إن كان عنده فيه شكّ، وخَوْفُ غَلَط، أو نسيان، أو اشتباه، أو نحو ذلك أمسك عن اليمين، فإذا حلف تحقّق انتفاء هذه الأمور، وعُرف صحة الحديث، وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز، والشافعيّ -رحمهما اللَّه تعالى- أنهما قالا: هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين، وهو كما قالا؛ لِمَا فيه من التصريح بفداء كل مسلم، وتعميم الفداء، وللَّه الحمد. انتهى
(1)
.
وقوله: (قَالَ: فَلَمْ يُحَدِّثْنِي. . . إلخ) فاعل "قال" ضمير قتادة؛ يعني: أن سَعِيد بن أبي بردة لم يحدثه باستحلاف عمر بن عبد العزيز، وإنما حدّثه به عون بن عبد إللَّه، لكن سعيدًا كان حاضرًا لتحديث عون به، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيه قَوْلَهُ؛ يعني: قول عون بالاستحلاف المذكور.
وقال صاحب "التكملة": قوله: "وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عون قَوْلَهُ"؛ يعني: أن سعيد بن أبي بردة، وإن لم يذكر قصّة الاستحلاف التي ذكرها عونٌ، ولكنه لم ينكر على عون في ذكره للاستحلاف، فكأنه سكت عن إثباته، أو نفيه، وإنما نبّه الراوي على ذلك؛ للإشعار بأن سكوت سعيد عن قصّة الاستحلاف لا يدلّ
(1)
"شرح النوويّ" 17/ 86.
على أنها لم تقع؛ لأن المثبِت مقدّم على النافي، فعلى الساكت أَولى. انتهى
(1)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6987]
(. . .) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، أَخْبَرَنَا هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عَفَّانَ، وَقَالَ: عَوْنُ بْنُ عُتْبَةَ).
رجال هذا الإسناد: خمسة:
1 -
(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل بابين.
2 -
(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتثقيل النون المضمومة- أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.
والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: رواية همّام عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:
(19503)
- حدّثنا عبد الصمد، ثنا همّام، ثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يموت مسلم إلا أدخل اللَّه عز وجل مكانه النارَ يهوديًّا، أو نصرانيًّا".
(19504)
- حدّثنا عبد الصمد، ثنا همّام، حدّثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، وعون بن عتبة، أنهما شَهِدا أبا بُردة يحدّث عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث، قال عون: فاستحلفه باللَّه الذي لا إله إلا هو أن أباه حدّثه أنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر ذلك سعيد على عون أنه استحلفه. انتهى
(2)
.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6988]
(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ،
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 38.
(2)
"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 391.
حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، حَدَّثَنَا شَدَّادٌ أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ غَيْلَانَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"يَجِيء يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِذُنُوب أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ، وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى"، فِيمَا أَحْسِبُ أَنَا قَالَ أَبُو رَوْحٍ: لَا أَدْرِي مِمَّنِ الشَكُّ؟ قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَحَدَّثْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: أَبُوكَ حَدَّثَكَ هَذَا عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ).
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ) الْعَتَكيّ -بفتح العين المهملة، والمثناة- أبو جعفر البصريّ، صدوق [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.
2 -
(حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ) بن أبي حفصة نابت -بنون، وموحّدة، ثم مثناة- وقيل: كالجادّة، الْعَتَكيّ، أبو رَوْح البصريّ،، صدوق يَهِم [9](ت 201)(خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 31/ 1394.
3 -
(شَدَّاد أَبُو طَلْحَةَ الرَّاسِبِيُّ) هو: شدّاد بن سعيد البصريّ، صدوقٌ يخطئ [8].
رَوى عن أبي الوزاع جابر بن عمرو، وسعيد الْجُريريّ، وغيلان بن جرير، وقتادة، ومعاوية بن قرة، وغيرهم.
وروى عنه حرميّ بن عُمارة، وابن عليّة، وزيد بن الْحُباب، وابن المبارك، وغيرهم.
قال أحمد: شيخ ثقةٌ، وقال ابن معين: ثقةٌ، وقال أبو خيثمة: شداد بن سعيد ثقةٌ، وقال البخاريّ: ضعَّفه عبد الصمد بن عبد الوارث، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وقال العقيليّ: له غير حديث لا يتابَع عليه، وقال ابن حبان في "الثقات" في الطبقة الرابعة: وربما أخطأ، وكان قد ذكره قبل الطبقة الثالثة فلم يقل هذه اللفظة، وقال الدارقطنيّ: بصريّ يُعتبر به، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقويّ عندهم، وقال النسائيّ في "الكنى": أنا أحمد بن عليّ بن سعيد، ثنا القواريريّ، ثنا يوسف بن يزيد، ثنا شدّاد بن سعيد أبو طلحة، بصريّ ثقةٌ،
وقال البزار: ثقةٌ. وقال ابن عديّ: لم أر له حديثًا منكرًا، وأرجو أنه لا بأس به.
أخرج له المصنّف، وأبو داود في "فضائل الأنصار"، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث
(1)
.
4 -
(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ) الْمِعْوَليّ الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [5](ت 129)(ع) تقدم في "الطهارة" 15/ 598.
والباقيان ذُكرا قبله.
شرح الحديث:
وقوله: (فَيَغْفِرُهَما اللَّهُ لَهُمْ) إما لتوبتهم في وقتها، أو لرحمته الخاصّة التي لا تتقيّد بالقواعد، وعلى الصورة الثانية لا يسع المؤمن أن يجترئ على الذنوب والمعاصي رجاء رحمة اللَّه تعالى؛ لأن مثل هذه الرحمة مستثناة من القواعد العامّة، فلا سبيل إلى الجزم بأنه سوف ينالها، والأصل الذي نطقت به نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الذنوب تستحقّ العقاب إلا إذا تداركها المؤمن بالتوبة في أوانها، وبهذا صرّح النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديثه المعروف:"الكَيِّس من دان نفسه، وعَمِل لِمَا بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على اللَّه الأمانيّ"
(2)
، قاله في "التكملة"
(3)
.
وقوله: (وَيَضَعُهَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى) ليس معناه أن اليهود والنصارى يُحمّلون من الذنوب ما ارتكبها المسلمون؛ لأن ذلك مخالف لصريح قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} بل المراد: أن اليهود والنصارى توضع عليهم ذنوبهم في حين أن المسلمين المذكورين لا توضع عليهم ذنوبهم، بل
(1)
قال في "التهذيب": له في مسلم حديث واحد، حديث أبي بردة، عن أبيه، في وَضْع ذنوب المسلمين على اليهود والنصارى، قال الحافظ: لكنه في الشواهد، انتهى.
(2)
أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسن، وضعّفه الألبانيّ، وهو أقرب؛ لأن في سنده أبا بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
(3)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 38 - 39.
يُغفر لهم، فضمير المؤنّث في "يضعها" راجع إلى جنس الذنوب، لا إلى آحادها التي ارتكبها المسلمون، قاله في "التكملة" أيضًا
(1)
، وهو تحقيق حسن.
وقوله: (فِيمَا أَحْسِبُ أَنَا) يَحتَمِل أن يكون هذا الشكّ من الراسبيّ، أو من غيلان، ومعناه: أنه شكّ هل قال شيخه: "ويضعها على اليهود والنصارى" أم لا؟.
وقوله: (قَالَ أَبُو رَوْحٍ: لَا أَدْرِي مِمَّنِ الشَّكُّ؟) أبو روح هو حرميّ بن عمارة؛ يعني: أنه شكّ في قول مَن هذا الشكّ؛ يعنى: قوله: "فيما أحسب أنا"، هل هو من الراسبيّ، أو من غيلان؟
[تنبيه]: قد تكلّم البيهقيّ رحمه الله في أحاديث الباب، وجَمَع بينها جمعًا حسنًا، أحببت إيراده هنا ملخّصًا؛ لنفاسته، وأهميّته، فقال في كتابه الممتع "شُعب الإيمان":
[فصل في فداء المؤمن]
ثم أخرج بسنده عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دُفع إلى كل مؤمن رجل من أهل الملل، فقيل له: هذا فداؤك من النار"، ثم أخرج قصّة استحلاف عمر بن عبد العزيز لأبي بردة.
ثم قال: وروينا في الحديث الثابت عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحد الجنة، إلا أُري مقعده من النار، لو أساء؛ ليزداد شكرًا، ولا يدخل النار أحد، إلا أري مقعده من الجنة، لو أحسن؛ ليكون عليه حسرةً"، ثم قال: رواه البخاريّ رحمه الله في "الصحيح".
قال: وفي رواية أخرى: "ما منكم من رجل إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار، ورث أهل الجنة منزله، قال: فذلك قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)} [المؤمنون: 10] ".
قال البيهقيّ رحمه الله: ويشبه أن يكون هذا الحديث تفسيرًا لحديث الفداء، والكافر إذا أورث على المؤمن مقعده من الجنة، والمؤمن إذا أورث على
(1)
"تكملة فتح الملهم" 6/ 39.
الكافر مقعده من النار يصير في التقدير، كأنه فُدي المؤمن بالكافر، واللَّه أعلم.
وقد عَلَّل البخاريّ رحمه الله حديث الفداء برواية بُريد بن عبد اللَّه وغيره، عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، وبرواية أبي حصين عنه، عن عبد اللَّه بن يزيد، وبرواية حميد عنه عن رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم قال: الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، وأن قومًا يُعَذَّبون، ثم يخرجون من النار أكثر، وأبْيَن.
وحديث أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد صح عند مسلم بن الحجاج وغيره رحمهم الله من الأوجه التي أشرنا إليها، وغيرها، ووجهه ما ذكرناه، وذلك لا ينافي حديث الشفاعة، فإن حديث الفداء، وإن ورد مورد العموم في كل مؤمن، فيَحْتَمِل أن يكون المراد به: كل مؤمن قد صارت ذنوبه مكفَّرةً بما أصابه من البلايا في حياته، ففي بعض ألفاظه:"إن أمتي أمة مرحومةٌ، جعل اللَّه عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلى كل رجل من المسلمين رجلًا من أهل الأديان، فكان فداءه من النار"، وحديث الشفاعة يكون فيمن لم تَصِر ذنوبه مكفّرة في حياته، ويَحْتَمِل أن يكون هذا القول لهم في حديث الفداء بعد الشفاعة، واللَّه تعالى أعلم.
قال: وأما حديث شدّاد أبي طلحة الراسبيّ، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب مثل الجبال، يغفرها اللَّه لهم، ويَضعها على اليهود والنصارى، فيما أحسب أنا" قاله بعض رواته، فهذا حديث شَكّ فيه راويه، وشداد أبو طلحة ممن تكلم أهل العلم بالحديث فيه، وإن كان مسلم بن الحجاج استَشْهَد به في كتابه، فليس هو ممن يقبل منه ما يخالف فيه، والذين خالفوه في لفظ الحديث عدد، وهو واحد، وكل واحد ممن خالفه أحفظ منه، فلا معنى للاشتغال بتأويل ما رواه، مع خلاف ظاهر ما رواه الأصولَ الصحيحة الممهّدة في {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، واللَّه أعلم. انتهى كلام البيهقيّ رحمه الله
(1)
.
(1)
"شعب الإيمان" 1/ 340 - 343.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد البيهقيّ رحمه الله في هذا التحقيق، وأفاد، وخلاصته أن زيادة "ويضعها على اليهود والنصارى" غير صحيحة؛ لأمور:
منها: أن الإمام البخاريّ رحمه الله ضعّف حديث الفداء أصلًا بحديث الشفاعة؛ لكونه أقوى.
ومنها: وقوع الشكّ في هذه الزيادة من راويها.
ومنها: كون من رواها وهو أبو طلحة الراسبيّ ممن لا يُحتَمَل تفرّده، فكيف وقد خالف غيره من الحفّاظ، كما قال البيهقيّ رحمه الله.
ومنها: مخالفتها للنصوص الصريحة، كقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، واللَّه تعالى أعلم.
وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:
[6989]
(2768) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتَوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ أَعْرِفُ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ، وَالْمُنَافِقُونَ، فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ").
رجال هذا الإسناد: ستة:
1 -
(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل باب.
2 -
(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم قبل بابين.
3 -
(صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزِ) بن زياد المازنيّ، أو الباهليّ البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [3]
(1)
(ت 74)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.
(1)
هذا أَولى مِن جَعْلِه في "التقريب" من الطبقة الرابعة؛ لِمَا يظهر من مراجعة مشايخه من الصحابة، والرواة عنه من التابعين في "التهذيبين"، وكذا تاريخ وفاته يحقّق ذلك، فتنبّه.
4 -
(ابْنُ عُمَرَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.
والباقيان ذُكرا في الباب، وقبله.
[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:
أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى شيخه، كما أسلفته، والصحابيّ مدنيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن المشهورين بالفتوى، وشدّة اتّباع السُّنَّة من الصحابة رضي الله عنهم.
شرح الحديث:
(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدُوسيّ البصريّ (عَنْ صفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ) -بضم الميم، وسكون الحاء المهملة، وكسر الراء، وبالزاي في آخره- المازنيّ البصريّ، وليس له عند مسلم إلا ثلاثة أحاديث، وله عند البخاريّ حديثان فقط.
ووقع في رواية للبخاريّ من طريق شيبان عن قتادة: "حدّثنا صفوان"، فانتفت عن قتادة تهمة التدليس.
(قَالَ) صفوان: (قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عُمَرَ) وفي رواية للبخاريّ: "أن رجلًا سأل ابن عمر"، وفي رواية عن صفوان:"قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر، آخذ بيده"، وفي رواية:"بينما ابن عمر يطوف، إذ عَرَض له رجل"، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على اسم السائل، لكن يمكن أن يكون هو سعيد بن جبير، فقد أخرج الطبرانيّ من طريقه:"قال: قلت لابن عمر: حدّثني. . . "، فذكر الحديث.
(كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاريّ: "فقال: يا أبا عبد الرحمن"، وهي كنية عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما. (يَقُولُ فِي النَّجْوَى؟) هي ما تكلّم به المرء يُسمع نفسه، ولا يُسمع غيره، أو يسمع غيره سرًّا دون من يليه، قال الراغب: ناجيته: إذا ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل: أصله من النجاة، وهي أن تنجو بسرّك من أن يُطَّلَع عليه، والنجوى أصله المصدر، وقد يوصف بها، فيقال: هو نجوى، وهم نجوى، والمراد بها
هنا: المناجاة التي تقع من الرب سبحانه وتعالى يوم القيامة مع المؤمنين، وقال الكرمانيّ: أطلق على ذلك النجوى؛ لمقابلة مخاطبة الكفار على رؤوس الأشهاد هناك. انتهى
(1)
.
(قَالَ) ابن عمر رضي الله عنهما: (سَمِعْتُهُ)؛ أي: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (يَقُولُ:"يُدْنَى) بالبناء للمفعول، (الْمُؤْمِنُ) وفي رواية للبخاريّ: "يُدنى أحدكم من ربّه"، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عز وجل)؛ أي: دُنُوًّا يليق بجلاله، فاللَّه سبحانه وتعالى يُدني إليه من يشاء من عباده إذا شاء، كيف شاء، فنؤمن بصفة الدنوّ على مراد اللَّه، كما يليق بجلاله، وذلك كما نؤمن بأن المؤمنين يرونه سبحانه وتعالى في الآخرة رؤية حقيقيّة، دون أن نعلم كيفيّتها، فتأويل الشرّاح؛ كالحافظ، والنوويّ، والقاضي عياض، وغيرهم الدنوّ هنا ليس مما ينبغي، فكما يثبتون الرؤبة على حقيقتها، دون تأويل، ولا تكييف، ولا تشبيه، فكذلك الدنوّ هنا دون أيّ فرق، فتنبّه، فإن هذا مما حادت فيه الأفهام، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ) -بفتح الكاف، والنون، بعدها فاء-؛ أي: جانبه، والكنف أيضًا السِّتر، وهو المراد هنا، والأول مجاز في حقّ اللَّه تعالى، كما يقال: فلان في كنف فلان؛ أي: في حمايته، وكلاءته، وذكر عياض أن بعضهم صحّفه تصحيفًا شنيعًا، فقال بالمثناة بدل النون، ويؤيد الرواية الصحيحة أنه وقع في رواية سعيد بن جبير بلفظ:"يجعله في حجابه"، زاد في رواية همام:"وسِتره"، قاله في "الفتح".
قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قوله: والأول -يعني: تفسيره بالجانب- مجاز في حقّ اللَّه تعالى كما يقال: فلان في كَنَف فلان؛ أي: في حمايته وكَلاءته، فيه نظرٌ من وجهين:
[الأول]: أن المراد هنا بالكنف هو الحجاب والستر؛ لكونه جاء في الرواية الأخرى بهذا اللفظ، كما سبق بيانه آنفًا، والرواية يفسّر بعضها بعضًا، وأخرج الحديث البخاريّ في كتابه "خلق أفعال العباد" من طريق عبد اللَّه بن المبارك، عن محمد بن سواء، عن قتادة، ثم قال في آخر الحديث: قال
(1)
"الفتح" 13/ 637، "كتاب الأدب" رقم (6070).
عبد اللَّه بن المبارك: كَنَفه: سِتره. قاله في "الفتح"
(1)
،
[والثاني]: أنه قال في "القاموس": أنت في كَنَف اللَّه تعالى مُحَرَّكَةً: في حِرْزه وسِتْره، وهو الجانب، والظلّ، والناحية. انتهى
(2)
.
فإذا ثبت لغةً إطلاق الكنف على الجانب، فالحقّ إبقاؤه على ظاهره وحقيقته؛ إذ لا حاجة إلى المجاز، كسائر الصفات من السمع، والبصر، والكلام، والرضا، والغضب، والاستواء، والنّزول، ونحوها مما وردت به النصّوص الصحيحة، فنثبتها كلها على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى من غير تعطيل، ولا تحريف، ومن غير تمثيل، ولا تكييف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه]: الحكمة في وضع الكنف عليه: سَتره عن أهل الموقف حتى لا يطّلع على سرّه غيره. واللَّه تعالى أعلم.
[تنبيه آخر]: قال في "الفتح": ومن رواه "كتفه" بالمثنّاة المكسورة، فقد صحّف على ما جزم به جَمْع من العلماء. انتهى
(3)
.
(فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ)؛ أي: يحمله على أن يعترف بها، ويقرّرها على نفسه، وقد فسّر التقرير بقوله:(فَيَقُولُ) اللَّه عز وجل: (هَلْ تَعْرِفُ؟) هكذا في هذه الرواية بحذف المفعول، وقد فُسّر في رواية البخاريّ، ولفظه:"فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ " زاد في رواية: "فيقرره بذنوبه"، وفي رواية سعيد بن جبير:"فيقول له: اقرأ صحيفتك، فيقرأ، ويُقرّره بذنب ذنب، ويقول: أتعرف، أتعرف؟ "، وفي رواية للبخاريّ:"فيقول: عَمِلت كذا وكذا". (فَيَقُولُ) المؤمن: (أَيْ رَبِّ) "أي حرف نداء، وقد مرّ الخلاف، هل للقريب، أم للبعيد، أم للوسط؟ وهنا للقريب، كما يدلّ عليه سياق الحديث. (أَعْرِفُ) ذلك الذنب، (قَالَ) اللَّه عز وجل:(فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا) حيث لم أطلع عليها أحدًا من الناس، (وإِنِّي
(1)
"الفتح" 13/ 592.
(2)
"القاموس المحيط" ص 765.
(3)
"الفتح" 13/ 592.
أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) وفي رواية سعيد بن جبير: "فيلتفت يمنةً ويسرةً، فيقول: لا بأس عليك، إنك في سِتري، لا يَطَّلِع على ذنوبك غيري"، وفي رواية:"اذهب، فقد غفرتها لك"، (فَيُعْطَى) بالبناء للمفعول، ووقع في بعض الروايات بلفظ:"فيُطوى"، وهو خطأ. (صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ)؛ أي: بيده اليمنى، حتى يقرأه، ويستبشر به، ويُقرئه أصحابه، كما قال اللَّه عز وجل:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)} [الحاقة: 19 - 23].
(وَأمَّا الْكُفَّارُ، وَالْمُنَافِقُونَ، فَيُنَادَى) بالبناء للمفعول، (بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) ثم بيّن ما هو النداء؟ بقوله:(هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ) بنسبة الولد، والشريك إليه سبحانه وتعالى.
[تنبيه]: أول الآية قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على اللَّه كذبًا بقولهم لأصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم: الملائكة بنات اللَّه، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاريّ، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم.
فالمعنى على هذا: لا أحد مثلهم في الظلم فضلًا عن أن يوجد من هو أظلم منهم، والإشارة بقوله:{أُولَئِكَ} إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ، وهو مبتدأ، وخبره {يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} فيحاسبهم على أعمالهم، أو المراد بعرضهم: عَرْض أعمالهم.
{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} الأشهاد: هم الملائكة الحفظة، وقيل: المرسلون. وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلّغوا ما أمرهم اللَّه بإبلاغه، وقيل: جميع الخلائق.
والمعنى: أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض: هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه، ولم يصرّحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمرًا معلومًا عند أهل ذلك الموقف.
وقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هذا من تمام كلام الأشهاد؛ أي:
يقولون: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة اللَّه على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، ويجوز أن يكون من كلام اللَّه سبحانه، قاله بعدما قال الأشهاد:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18]، والأشهاد جمع شهيد، ورجّحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله:{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)} [النساء: 41]، وقيل: هو جَمْع شاهد كأصحاب وصاحب، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد. انتهى من تفسير الشوكانيّ رحمه الله
(1)
، واللَّه تعالى أعلم.
مسائل تتعلّق بهذا الحديث:
(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.
(المسألة الثانية): في تخريجه:
أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 6989](2768)، و (البخاريّ) في "المظالم"(2441) و"التفسير"(4685) و"الأدب"(6070) و"التوحيد"(7514) و"خلق أفعال العباد"(ص 61 - 62)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 364)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(183)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 74 و 105)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 64)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(846)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7355 و 7356)، و (ابن منده) في "الإيمان"(790 و 1079)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(604 و 605)، و (الطبريّ) في "التفسير"(6497 و 18089 و 18090)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 268)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1164)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 216)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 253) وفي "الأسماء والصفات"(ص 219 - 220)، واللَّه تعالى أعلم.
(1)
"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله-3/ 437.
(المسألة الثالثة): في فوائده:
1 -
(منها): بيان إكرام اللَّه تعالى لعبده المؤمن، حيث يدنيه منه، ويضع عليه كنفه، حتى لا يسمع أحد مناجاته له.
2 -
(ومنها): أن فيه الرّدَّ على الجهميّة في إنكارهم الصفات، حيث إن فيه إثبات صفة الكلام للَّه سبحانه وتعالى، حيث يكلّم عبده المؤمن في الآخرة.
3 -
(ومنها): بيان فضل سَتر المؤمن على نفسه في الدنيا إذا وقع منه مخالفة؛ لأن ذلك يكون سببًا لمغفرة اللَّه تعالى له ذلك في الآخرة.
4 -
(ومنها): ما قاله المهلَّب رحمه الله: في الحديث تفضُّل اللَّه على عباده بسَتره لذنوبهم يوم القيامة، وأنه يغفر ذنوب من شاء منهم، بخلاف قول من أنفذ الوعيد على أهل الإيمان؛ لأنه لم يستثن في هذا الحديث ممن يَضع عليه كنفه وسِتره أحدًا إلا الكفار والمنافقين، فإنهم الذين يُنادَى عليهم على رؤوس الأشهاد باللعنة.
قال الحافظ بعد نقل كلام المهلّب المذكور ما نصّه: قد استشعر البخاريّ هذا، فأورد في "كتاب المظالم" هذا الحديث، ومعه حديث أبي سعيد:"إذا خَلَص المؤمنون من النار، حُبِسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاصّون مظالم، كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا، ونُقُّوا أُذن لهم في دخول الجنة. . . "، الحديث.
فدلّ هذا الحديث على أن المراد بالذنوب في حديث ابن عمر: ما يكون بين المرء وربه سبحانه وتعالى دون مظالم العباد، فمقتضى الحديث أنها تحتاج إلى المقاصصة، ودلّ حديث الشفاعة أن بعض المؤمنين من العصاة يُعذَّب بالنار، ثم يخرج منها بالشفاعة، كما تقدم تقريره في "كتاب الإيمان"، فدلّ مجموع هذه الأحاديث على أن العُصاة من المؤمنين في القيامة على قسمين:
أحدهما: مَن معصيته بينه وبين ربه، فدلّ حديث ابن عمر على أن هذا القِسم على قِسمين: قِسْم تكون معصيته مستورة في الدنيا، فهذا الذي يسترها اللَّه
عليه في القيامة، وهو بالمنطوق، وقسم تكون معصيته فجاهَرة، فدلّ مفهومه على أنه بخلاف ذلك.
والقسم الثاني: مَن تكون معصيته بينه وبين العباد، فهم على قسمين أيضًا: قسم ترجح سيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء يقعون في النار، ثم يخرجون بالشفاعة، وقسم تتساوى سيئاتهم وحسناتهم، فهؤلاء لا يدخلون الجنة حتى يقع بينهم التقاصّ، كما دلّ عليه حديث أبي سعيد.
وهذا كله بناء على ما دلّت عليه الأحاديث الصحيحة أن يفعله باختياره، وإلا فلا يجب على اللَّه شيء، وهو يفعل في عباده ما يشاء. انتهى
(1)
.
5 -
(ومنها): بيان قبح المجاهرة بالمعاصي، وأن اللَّه تعالى لا يغفر لأصحابها؛ لمبارزتهم له بها، واستخفافهم بشأنها.
أخرج الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي مُعَافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يُصبح وقد سَتَره اللَّه عليه، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف سِتر اللَّه عنه".
6 -
(ومنها): بيان فضيحة الكفّار والمنافقين يوم القيامة، حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، بينما ينادى المؤمنون بأسمى النداء:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)} [الزخرف: 68 - 73].
(1)
"الفتح" 13/ 638 - 639، "كتاب الأدب" رقم (6070).
اللَّهُمَّ اعصمنا من المعاصي والفتن، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واجعلنا من عبادك المتّقين الذين أعليت أقدارهم، ورفعت درجاتهم، حيث قلت:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} [يونس: 62 - 71] بفضلك وَجُودك ومنّك وكرمك، يا أرحم الراحمين.
قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة -عفا اللَّه عنه وعن والديه-:
قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثاني والأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم" المسمَّى "البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج" رحمه الله بعد صلاة العشاء ليلة الأحد، وهي الليلة العاشرة من شهر رمضان المبارك
(1)
(10/ 9/ 1433 هـ الموافق 29 يوليو - تموز 2012 م).
أسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رءوف رحيم.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].
(1)
قال الجامع عفا اللَّه عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة (52) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة اللَّه وبركاته".
ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثالث والأربعون مفتتحًا بـ (9) - (بَابُ ذِكْرِ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهم)[6990](2769).
"سبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".
* * *