المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم قال الجامع عفا اللَّه عنه: شرعت في - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٤٣

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الجامع عفا اللَّه عنه: شرعت في كتابة الجزء الثالث والأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" ليلة الأحد من شهر رمضان المبارك (10/ 9/ 1433 هـ).

(9) - (بَابُ ذِكْرِ حَدِيثِ تَوْبَةِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهم

-)

أما كعب بن مالك رضي الله عنه، فتأتي ترجمته بعدُ، وأما صاحباه، فهما: مُرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة رضي الله عنهما.

أما مرارة، فهو: مرارة بن الربيع الأنصاريّ الأوسيّ، من بني عمرو بن عوف، ويقال: إن أصله من قُضاعة، حالف بني عمرو بن عوف، صحابيّ مشهور، شَهِد بدرًا على الصحيح، وهو أحد الثلاثة الذين تِيْبَ عليهم، أخرجاه في "الصحيحين" من حديث كعب بن مالك في قصة توبته، فقلت: هل لقي أحد مثل ما لقيت؟ قالوا: هلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، فذكروا لي رجلين صالحين، شَهِدا بدرًا، وفي حديث جابر عند قوله تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] قال: هم كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكلهم من الأنصار، ذكره في "الإصابة"

(1)

.

وأما هلال، فهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلم بن عامر بن كعب بن واقف الأنصاريّ الواقفيّ، شَهِد بدرًا وما بعدها، وله ذِكر في "الصحيحين" من رواية سعيد بن جبير، عن ابن عمر، وأخرج ابن شاهين من طريق عطاء بن عجلان، عن مكحول، عن عكرمة، عن هلال بن أمية أنه أتى عمر، فذكر قصة اللعان مطوّلة، قال الحافظ: وهذا لو ثبت لدلّ على أن

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 65.

ص: 5

هلال بن أمية عاش إلى خلافة معاوية، حتى أدرك عكرمة الرواية عنه، ولكن عطاء بن عجلان متروك، ويَحْتَمِل أيضًا أن يكون عكرمة أرسل الحديث عنه، قاله في "الإصابة" أيضًا

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6990]

(2769) - (حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بْنِ سَرْحٍ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ، وَنَصَارَى الْعَرَبِ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:

فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعبِ كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي قَدْ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخلَّفَ عَنْهُ، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهُمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوةِ، واللَّه مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوةِ، فَغَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَمَفَازًا، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ؛ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الَّذِي يُرِيدُ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ -يُرِيدُ بِذَلِكَ: الدِّيوَانَ-.

قَالَ كَعْبٌ: فَقَلَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ يَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 6/ 546.

ص: 6

فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، وَالظِّلَالُ، فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ، فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي، حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ، فَرَجَعْتُ، وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي، حَتَّى أَسْرَعُوا، وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ، فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ، فَأُدْرِكَهُمْ، فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ ذَلِكَ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْزُنُنِي أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً، إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ، أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ.

وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ

(1)

، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ:"مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ "، قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ

(2)

: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، واللَّه يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُو أَبُو خَيْثَمَةَ الأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ، فَقَالَ كعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي بَثِّي، فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا، وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلَّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ، حَتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بالْمسْجِدِ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ

(1)

وفي نسخة: "تبوكًا".

(2)

هو: عبد اللَّه بن أنيس، قاله الواقديّ، "تنبيه المعلم".

ص: 7

مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علَانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، حَتَّى، جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ، تَبَسَّمَ تبسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ:"تَعَالَ"، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي:"مَا خَلَّفَكَ؟، أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي واللَّه لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا، وَلَكِنِّي واللَّه لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ، تَرْضَى بِهِ عَنِّي، لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْحطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللَّهِ

(1)

، واللَّه مَا كَانَ لِي عُذْرٌ، واللَّه مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فيكَ".

فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: واللَّه مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ، قَالَ: فَواللَّه مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ، قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، قَالَ: فذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شِهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا، أيّهَا الثَّلَاثَةُ، مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَقَالَ: تَغَيَّرُوا لَما حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا، وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا، يَبْكِيانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ، وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ، فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي

(1)

وفي نسخة: "لأرجو فيه عفو اللَّه".

ص: 8

رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ، وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَواللَّه مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ، هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَعُدْتُ، فَنَاشَدْتُهُ، فَسَكَتَ، فَعُدْتُ، فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ، فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ، مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ قَالَ: فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، حَتَّى جَاءَنِي، فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ كَاتِبًا، فَقَرَأْتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ، فَسَجَرْتُهَا بِهَا، حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا، فَلَا تَقْرَبَنَّهَا، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَي بِمِثْلِ ذَلِكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ، حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ، قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ:"لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنَّكِ"، فَقَالَتْ: إِنَّهُ واللَّه مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَواللَّه مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا.

قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَة هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟، قَالَ:

ص: 9

فَلَبثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً، مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلَامِنَا. قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ، قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي، وَأَوْفَى الْجَبَلَ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي، فَنَزَعْتُ

(1)

لَهُ ثَوْبَيَّ، فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتِهِ، واللَّه مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ، فَلَبِسْتُهُمَا، فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمَّمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي، وَهَنَّأَنِي، واللَّه مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهاجِرِينَ غَيْرُهُ، قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.

قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، وَيَقُولُ:"أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: أَمِنْ، عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ:"لَا، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ"، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، كَأَنَّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، قَالَ: وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ، وإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ"، قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ، قَالَ: وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لَا أُحَدِّثَ

(1)

وفي نسخة: "نزعت".

ص: 10

إِلَّا صِدْقًا مَا بَقِيتُ، قَالَ: فَواللَّه مَا عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ، واللَّه مَا تَعَمَّدْتُ كَذْبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِيَ اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} حَتَّى بَلَغَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} .

قَالَ كَعْبٌ: واللَّه مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْد إِذْ هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ لَا أَكَونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا، إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، وَقَالَ اللَّهُ:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95 - 96]. قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا خُلِّفْنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ، فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ عز وجل:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]، وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خُلِّفْنَا تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ) المصريّ، ثقةٌ [10](ت 250)(م د س ت) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه بن وهب المصريّ الحافظ، ثقة عابد [9](ت 197)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 10.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد الأيليّ، ثقةٌ من كبار [7](ت 159)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

ص: 11

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام الشهير، رأس الطبقة [4](ت 125)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 348.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ، أبو الخطاب المدنيّ، ثقةٌ عالمٌ [3] مات في خلافة هشام بن عبد الملك (خ م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كعْبِ) بن مالك الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ، يقال: له رؤية [2] مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.

7 -

(كَعْبُ بْنُ مَالِكِ) بن أَبِي كعب الأنصاريّ السَّلَميّ -بالفتح- المدنيّ الصحابي المشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، مات في خلافة عليّ رضي الله عنهما (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من ابن شهاب، والباقون مصريّون، وفيه ثلاثة من التابعين روي بعضهم عن بعض: ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن كعب، ورواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة، ستأتي قصّته في حديث الباب.

شرح الحديث:

(عَن) محمد بن مسلم بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه (ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ؛ أنه (قَالَ: ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) من هنا إلى قوله: "قال ابن شهاب: فأخبرني" من مرسل الزهريّ، وعبارة "الفتح" عند قوله:"قوله: عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك؛ أن عبد اللَّه بن كعب": كذا عند الأكثر، ووقع عن الزهريّ في بعض هذا الحديث روايةٌ عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وهو عمّ عبد الرحمن بن عبد اللَّه الذي حدّث به عنه هنا، وفي رواية عن عبد اللَّه بن كعب نفسه، قال أحمد بن صالح، فيما أخرجه ابن مردويه: كان الزهريّ سمع هذا القَدْر من عبد اللَّه بن كعب نفسه، وسمع هذا الحديث بطوله من ولده عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، وعنه أيضًا رواية

ص: 12

عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب، عن عمه عُبيد اللَّه بالتصغير

(1)

، ووقع عند ابن جرير من طريق يونس، عن الزهريّ في أول الحديث بغير إسناد:"قال الزهريّ: غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد نصارى العرب، والروم بالشام، حتى إذا بلغ تبوك، أقام بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وَفْد أذرح، ووَفْد أيلة، فصالحهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قَفَل من تبوك، ولم يجاوزها، وأنزل اللَّه تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} الآية [التوبة: 117]، والثلاثة الذين خُلِّفوا رهطٌ من الأنصار، في بضعة وثمانين رجلًا، فلما رجع صَدَقَهُ أولئك، واعترفوا بذنوبهم، وكَذَبَ سائرهم، فحلفوا ما حبسهم إلا العذر، فقَبِل ذلك منهم، ونهى عن كلام الذين خُلِّفوا، قال الزهريّ: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب. . "، فساق الحديث بطوله. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما ذُكر أن قوله في رواية مسلم هنا: "قال ابن شهاب: ثم غزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" إلى قوله: "قال ابن شهاب" مرسل، وليس موصولًا بالسند المذكور، كما ظنّه بعض الشرّاح

(3)

، فتنبّه، وباللَّه تعالى التوفيق.

[تنبيه]: قال الرشيد العطّار رحمه الله في "غُرره" ما ملخّصه: هذا الحديث قد أخرجه البخاريّ، ولم يورد ما فيه من مرسل ابن شهاب، ولا يخفى على من له أُنس بعلم الرواية أن مسلمًا رحمه الله إنما احتجّ بما في هذه الأحاديث، وما شاكَلها بالمسنَد، دون المرسل، وإنما أوردها بما فيها من المرسل جريًا على عادته في ترك الاختصار، واللَّه عز وجل أعلم. انتهى

(4)

.

(غَزْوَةَ تَبُوكَ) بفتح المثنّاة، بعدها موحّدة، ثم واو، ثم كاف: مكان معروف، وهو نصف طريق المدينة إلى دمشق، وهو من المدن المشهورة اليوم في المملكة العربيّة السعوديّة في أقصى شمالها.

(1)

هي: الرواية الرابعة عند مسلم هنا.

(2)

"الفتح" 9/ 564، "كتاب المغازي" رقم (4418).

(3)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 257.

(4)

"غُرَرُ الفوائد" رقم (54)، وتقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 134.

ص: 13

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: بَاكَتِ الناقةُ تَبُوكُ بَوْكًا: سَمِنَتْ، فهي بَائِكٌ، بغيم هاء، وبهذا المضارع سُمِّيت غزوة تَبُوكُ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع، فصالح أهلها على الجزية، من غير قتال، فكانت خالية عن البؤس، فأشبهت الناقة التي ليس بها هُزال، ثم سُمِّيت البقعة تَبُوكُ بذلك، وهو موضع من بادية الشام قريب من مَدْيَن الذين بَعث اللَّه إليهم شعيبًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره الفيّومي سببًا لتسمية تبوك، فيه نظر لا يخفى؛ لأن هذا الاسم اسم قديم، قبل غزوة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يكون غزوه سببًا للتسمية، فتأمله بالإمعان.

وقال المرتضى رحمه الله: وتَبُوك: أَرْضٌ بينَ الشّامِ والمَدِينَةِ، وفي "العُباب": بينَ وادِي القُرَى والشّام، وإِلَيها نُسِبَتْ غَزْوَو من غَزَواتِه صلى الله عليه وسلم، واخْتُلِفَ في وَزْنِها، ووَجْهِ تَسمِيَتِها، قال الأَزْهرِيُّ: فإِن كانت التاءُ في تَبُوكَ أَصليّة فلا أَدْرِي مِمَّ اشْتِقاقُ تَبُوك، وإنْ كانَتْ للتَّأنِيثِ في المُضارعِ فهي من باكَتْ تَبُوكُ، ثمّ قال: وقد يَكُونُ تَبُوكُ على تَفْعُول، قال: وقرأْتُ في "الرَوْضِ" للسُّهَيلِيِّ ما نَصُّه: غزوةُ تَبُوكَ سُمِّيَت بعَيْنِ تَبُوك، وهي العَينُ التي أَمَرَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ أَلّا يَمَسُّوا من مائِها شَيئًا، فسَبَق إِلَيها رَجُلانِ، وهي تَبِضُّ بشيءٍ من ماءٍ، فجَعَلا يُدْخِلانِ فيها سَهْمَيْنِ؛ ليَكْثُرَ ماؤها، فسَبَّهُما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقالَ لَهُمَا فيما ذَكَره القُتَبِيُّ: ما زِلْتُما تَبُوكانِها منذُ اليَوْم؟ قال: فبِذلِكَ سُمِّيَت العَيْنُ تَبُوك، ووَقع في "السِّيرَة": فقال: "مَنْ سَبَق إِلى هذا؟ " فقِيلَ له: يا رَسُولَ اللَّهِ فلانٌ، وفُلانٌ، وفلانٌ، وقالَ الواقِدِيُّ فيما ذُكِرَ لي: سَبَقَه إِليها أَرْبَعَةٌ من المُنافِقِينَ: مُعَتِّبُ بن قُشيرٍ، والحارِثُ بن يَزِيدَ الطَّائِيُّ، ووَدِيعَةُ بنُ ثابِتٍ، وزيدُ بنُ نُصَيب. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ يُرِيدُ الرُّومَ) جملة حاليّة من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، و"الرُّوم" بالضم: جِيل من وَلَد الروم بن عيصو بن إسحاق عليه السلام سُمُّوا بِاسم جدّهم، قيل: كان لعيصو ثلاثون ولدًا منهم الرُّوم، ودخل في الروم طوائف من تَنُّوخ، ونَهْد، وسليم، وغيرهم، من غسان كانوا بالشأم، فلما أجلاهم المسلمون عنها

(1)

"المصباح المنير" 1/ 66.

(2)

"تاج العروس" ص 6661.

ص: 14

دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم، قاله في "التاج"

(1)

.

(وَنَصَارَى الْعَرَبِ بِالشَّامِ) بهمزة ساكنة، ويجوز تخفيفها، والنسبة إليها شأميّ على الأصل، ويجوز شآم بالمدّ من غير ياء، مثلُ يمنيّ، ويمانٍ، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": الشأم بلاد عن مشأمة القبلة، وقد سُمّيت لذلك؛ أي: لأنها عن مشأمة القبلة، أو لأن قومًا من بني كنعان تشاءموا إليها؛ أي: تياسووا، أو سُمِّي بِسام بن نوح، فإنه بالشين المعجمة بالسريانية، ثم لمّا أعربوه أعجموا الشين، وهذا الوجه قد أنكره كثير من محققي أئمة التواريخ، وقالوا: لم ينزلها سام قط، ولا رآها فضلًا عن كونه بناها، أو لأن أرضها شامات: بِيضٌ، وحُمْرٌ، وسُود، وقد بَحثوا في هذا الوجه أيضًا، وصوّبوا الأول، واقتصروا عليه، وعلى هذا لا تهمز؛ لأنه معتلّ واويّ، وكذلك على الوجه الذي قبله، وينافيه أنهم لا ينطقون به إلا مهموزًا، مؤنثةٌ، وقد تُذَكَّرُ. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: كان سبب غزوة تبوك ما ذكره ابن سعد، وشيخه، وغيرهما، قالوا: بلغ المسلمين من الأنباط الذين يَقْدَمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جَمَعت جموعًا، وأجلبت معهم لخم، وجذام، وغيرهم من متنصرة العرب، وجاءت مقدّمتهم إلى البلقاء، فندب النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الخروج، وأعلمهم بجهة غزوهم، ورَوَى الطبرانيّ من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل أن هذا الرجل الذي خرج يدّعي النبوّة هلك، وأصابتهم سنون، فهلكت أموالهم، فبعث رجلًا من عظمائهم، يقال له: قباذ، وجهّز معه أربعين ألفًا، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، ولم يكن للناس قوّة، وكان عثمان قد جهّز عِيرًا إلى الشام، فقال: يا رسول اللَّه هذه مائتا بعير بأقتابها، وأحلاسها، ومائتا أوقية، قال: فسمعته يقول: "لا يضرّ عثمان ما عَمِل بعدها"، وأخرجه الترمذيّ، والحاكم، من حديث عبد الرحمن بن حبان نحوه.

(1)

"تاج العروس" ص 7740.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 328.

(3)

"تاج العروس" ص 7773.

ص: 15

وذكر أبو سعيد في "شرف المصطفى"، والبيهقي في "الدلائل" من طريق شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غَنْم، أن اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا، فالْحَقْ بالشام، فإنها أرض المحشر، وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل اللَّه تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل:{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية [الإسراء: 76]. انتهى، قال الحافظ: وإسناده حسن مع كونه مرسلًا. انتهى

(1)

.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ بالسند السابق، فمن هنا متّصلٌ، وما قبله مرسلٌ، كما نبّهت عليه. (فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ، وكَانَ)؛ أي: عبد اللَّه بن كعب، ووقع في بعض النسخ:"كان" بلا واو، فيكون خبر "أنّ". (قَائِدَ كَعْبٍ) اسم فاعل من قاده يقوده، يقال: قَاد الرجلُ الفرسَ قَوْدًا، من باب قال، وقِيَادًا بالكسر، وقِيَادَةً، قال الخليل: القَوْدُ: أن يكون الرجلُ أمام الدابة، آخذًا بقيادها، والسَّوْق: أن يكون خلفها. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ بَنِيهِ) قال في "الفتح": بفتح الموحّدة، وكسر النون، بعدها تحتانيّة ساكنة، وقع في رواية القابسيّ هنا، وكذا لابن السكن في "الجهاد":"من بيته" بفتح الموحّدة، وسكون التحتانية، بعدها مثنّاة، والأول هو الصواب. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "من بنيه": وهم عبد اللَّه هذا، وعبيد اللَّه، وعبد الرحمن. انتهى

(3)

.

(حِينَ عَمِيَ) بفتح العين المهملة، وكسر الميم، من باب تَعِبَ؛ أي: فَقَدَ بصره، وفي رواية مَعِقل بن عبيد اللَّه، عن ابن شهاب الآتية:"وكان قائد كعب حين أُصيب بصره، وكان أعلم قومه، وأوعاهم لأحاديث أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(قَالَ) عبد اللَّه بن كعب: (سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكِ) بن أبي كعب،

(1)

"الفتح" 9/ 556 - 557.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 508.

(3)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 21/ 463.

ص: 16

واسمه: عمرو السَّلَميّ المدنيّ الشاعر، صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الثلاثة الذين تاب اللَّه عليهم، وأنزل فيهم:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} الآية [التوبة: 118]. (يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ)؛ أي: زمان تخلّفه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ) الجارّان متعلّقان بـ "تخلّف"، وفي رواية البخاريّ:"حين تخلّف عن قصة تبوك"، وعليه فـ "عن قصّة" متعلق بقوله:"يُحَدّث".

(قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه: (لَمْ أَتَخَلَّفْ)، أي: لم أتأخّر (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ)، أي: في أيّ وقت مضى، يقال: ما فعلت ذلك قَطُّ؛ أي: في الزمان الماضي، بضمّ الطاء مشدّدة، قال الفيّوميّ

(1)

.

وقال في "القاموس" و"شرحه": وإِذا أَرَدْتَ بقَطّ الزَّمَانَ فمُرْتَفِعٌ أَبدًا، غير مُنَوَّن تقول: ما رَأَيْتُ مثلَه قَطُّ؛ لأَنَّهُ مثلُ قَبْلُ، وبَعْدُ، فإِنْ قَلَّلَت بقَطْ فاجْزِمْها، ما عِنْدَكَ إلا هذا قَطْ، فإِن لَقِيَتْه أَلِفُ وَصْلٍ كَسَرْتَ، تقول: مَا عَلِمْتُ إلّا هذا قَطِ اليَوْمَ، وما فَعَلْت هذا قَطْ مَجْزُومَ الطّاء، ولا قَطُّ مُشَدَّدًا مضمومَ الطّاءِ، أَو يُقَال: قَطّ يا هذا مُثَلَّثَهَ الطّاءِ، مُشَدَّدَة، ومَضْمُومَةَ الطّاءِ مُخَفَّفَة، ومَرْفُوعَةً، ونصُّ اللِّحْيَانِيِّ في "النَّوَادِرِ": وما زالَ هذا مُذْ قُطُّ يا فَتَى بضَمِّ القافِ والتَّثْقِيل، وتَخْتَص بالنَّفْي ماضِيًا، وتَقُولُ العَامَّةُ: لا أَفْعَلُه قَطُّ، وإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ في المُسْتَقْبَلِ عَوْضُ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال، والصحيح أن استعمال "قط" في المثبَت لغة فصيحة، فقد وقع بعد المثبت في مَواضِعَ من "صحِيح البُخارِيِّ" مِنْها في "باب صلاةِ الكُسُوفِ":"أَطْوَلُ صلاةٍ صَلَّيْتَها قَطُّ"، وفي "سُنَن أَبِي دَاوُدَ":"تَوَضَّأَ ثَلاثًا قَطْ"، وأثْبَتَه ابنُ مالِكٍ لغةً، وحَقَّقَ بَحثَه في "التَّوْضِيحِ على مُشْكِلاتِ الصَّحِيح" قال: وهي مِمّا خَفِيَ على كَثيرٍ من النُّحاةِ. انتهى بتصرّف

(2)

.

(إِلَّا فِي غَزْوةِ تَبُوكَ) زاد أحمد من رواية معمر: "وهي آخر غزوة غزاها"، وهذه الزيادة رواها موسى بن عقبة، عن ابن شهاب بغير إسناد، ومثله في زيادات المغازي ليونس بن بُكير، من مرسل الحسن، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 518.

(2)

"تاج العروس" ص 4974.

(3)

"الفتح" 9/ 564.

ص: 17

وكانت غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة، في رجب منها

(1)

.

(غَيْرَ أَنِّي قَدْ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ)؛ أي: لم أشهدها، (وَلَمْ يُعَاتِبْ)؛ أي: لم يعاتب النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَحَدًا) ويَحْتَمِل أن يكون الفاعل ضمير اللَّه عز وجل، ويؤيّده ما وقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"ولم يعاتب اللَّه أحدًا".

وقال في "العمدة": قوله: "ولم يُعاتِب أحدًا"؛ أي: لم يعاتب اللَّه أحدًا، ويُروَى:"لم يُعَاتَبْ" على صيغة المجهول، و"أحد" بالرفع نائب فاعله

(2)

.

(تَخَلَّفَ عَنْهُ)؛ أي. عن غزوة بدر، ولفظ البخاريّ:"عنها"؛ أي: عن الغزوة، ثم بيّن سبب عدم المعاتبة، فقال:(إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلي بدر، (وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشِ) بكسر العين، وسكون التحتانيّة: الإبل تَحْمِل الْمِيرة، ثم غلب على كلّ قافَلة

(3)

؛ يعني: أنهم أرادوا أن يأخذوا عِير قريش التي أقبلت من الشام، وهي محملّة بضائع التجارات. (حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهمْ)؛ أي: بين النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمين (وَبَيْنَ عَدُوِّهُمْ)؛ أي: مشركي قريش، (عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ) بكسر الميم: وقت الوعد، أو موضعه؛ يعني: دون أن يكون بين المسلمين والمشركين مواعدة للقتال في وقت، أو مكان معيّن. (وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ) أراد به أنه وإن لم يتشرّف بحضوره غزوة بدر، إلا أنه تشرّف بحضور ليلة العقبة التي بايع الأنصار فيها رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم على مؤازرته، والدفاع عنه، فأبدله اللَّه تعالى عن نعمة الحضور في غزوة بدر بنعمة أخرى، وهي شهوده ليلة العقبة

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: ليلة العقبة هي الليلة التي بايع الأنصار فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم علي الإسلام، وأن يُؤْووه، وينصروه، والعقبة التي في طرف مِنى التي تضاف إليها الجمرة، وكانت البيعة بها مرّتين في سنتين، في السنة الأولى كانوا اثني عشر، وفي الثانية كانوا سبعين، كلّهم من الأنصار رضي الله عنهم. انتهى

(5)

.

(حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلَامِ) بثاء مثلثة، وقاف؛ أي: أخذ بعضنا على

(1)

"عمدة القاري" 14/ 217.

(2)

"عمدة القاري" 26/ 325.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 440.

(4)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 42.

(5)

"شرح النوويّ" 17/ 88.

ص: 18

بعض الميثاق لَمّا تبايعنا على الإسلام والجهاد، (وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا)؛ أي: بدل العقبة، فالباء بمعنى بدل، كما قال في "الخلاصة":

وَ"مِنْ" وَ"بَاءٌ" يُفْهِمَانِ بَدَلَا

. . . . . . . . . . .

(مَشْهَدَ بَدْرٍ)؛ أي: شهود غزوه، فالمشهد كالْمَحْضَر وزنًا ومعنًى

(1)

. (وَإنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ)؛ أي: أعظم ذِكرًا، وأشهر بالفضيلة (فِي النَّاسِ)؛ أي: بينهم، (مِنْهَا)؛ أي: من العقبة، وفي رواية:"وإن كانت بدر أكثر ذكرًا في الناس منها"، ووقع في رواية لأحمد بلفظ:"ولَعَمْري إن أشرف مشاهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لبدرٌ".

قاله كعب رضي الله عنه: (وَكَانَ) وفي نسخة: "فكان"(مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى)؛ أي: أشدّ قوّةً (وَلَا أَيْسَرَ)؛ أي: أكثر يُسرًا (مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ)؛ أي: تأخّرت (عَنْهُ) صلى الله عليه وسلم (فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ)؛ أي: غزوة تبوك، (واللَّه مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطُّ)؛ أي: لم يجتمع لي فيما مضى من الوقت راحلتان، (حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ)؛ أي: حتى تيسّر لي جَمْعهما في غزوة تبوك.

وزاد في رواية ابن أخي الزهريّ الآتية: "فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلّما يريد غزوة إلا ورّى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة"، ولفظ البخاريّ:"ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها"؛ أي: أوْهَم غيرها، والتورية أن يذكر لفظًا يَحْتَمِل معنيين، أحدهما أقرب من الآخر، فيوهم إرادة القريب، وهو يريد البعيد، وزاد أبو داود من طريق محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهريّ:"وكان يقول: الحرب خدعة". وزاد في رواية من طريق يونس، عن الزهريّ:"وقَلّما كان يخرج إذا خرج في سفر إلا يوم الخميس"، وللنسائيّ من طريق ابن وهب، عن يونس:"في سفر جهاد، ولا غيره"، وله من وجه آخر:"وخرج في غزوة تبوك يوم الخميس"

(2)

.

(فَغَزَاهَا)، أي: غزوة تبوك، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرٍّ شَدِيدٍ)، أي: في وقت اشتداد الحرّ، (وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا) إذ بين تبوك وبين المدينة أربع عشرة

(1)

"المصباح المنير" 1/ 325.

(2)

"الفتح" 9/ 565.

ص: 19

مرحلةً، (وَمَفَازًا) بفتح الميم، ويقال لها: المفازة، قال ابن منظور رحمه الله: الْمَفَازُ، والْمَفازة: الْبَرَيّة الْقَفْرُ، وتُجمع الْمَفَاوز. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": المفازة: المهلكة، سُمّيت بذلك؛ تفاؤلًا بالفوز والسلامة، كما قالوا للّديغِ: سليم، وذكر ابن الأنباريّ عن ابن الأعرابيّ أنها مأخوذة من قولهم: قد فوَّز الرجل: إذا هلك، وقيل: لأن من قطعها فاز ونجا. انتهى

(2)

.

وقال المرتضى رحمه الله: المَفازَةُ: المَنْجاةُ، وبه فَسَّرَ أَبو إسحاقَ قولَه تعالى:{فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] أي: بمَنْجاةٍ منه، وقال الفرَّاءُ؛ أي: ببعيدٍ منه، قيل: أَصْلُ المَفازَةِ: المَهْلَكَةُ من الفَوزِ، بمعنى الهَلاكِ، وقال ابن الأَعرابيِّ: سُمِّيَتِ المَفازَةُ من فوَّزَ الرَّجلُ إذا ماتَ، وقيل: سُمِّيَتْ تَفاؤُلًا بالسَّلامة من الفَوز: النَّجاةِ، وهذا قول الأصمعيّ، حقَّقه ابنُ فارس في "المُجمَل" وغيره. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: فَازَ يَفُوزُ فَوْزًا: ظَفِر، ونجا، ويقال لمن أخذ حقّه من غريمه: فَازَ بما أخذ؛ أي: سَلِم له، واختَصّ به، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَفَزْتُهُ بالشيء، وفَازَ: قطع المَفَازَةَ، والمَفَازةُ: الموضع الْمُهْلِك، مأخوذة من فَوّزَ بالتشديد: إذا مات؛ لأنها مَظِنّة الموت، وقيل: من فَازَ: إذا نجا، وسَلِم، وسُمّيت به تفاؤلًا بالسلامة. انتهى

(4)

.

(وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا) وهو الروم، ومن انضاف إليهم من لخم، وجُذام، وغيرهم من منتصرة العرب، (فَجَلَا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ) "جلا" بالجيم؛ أي: أظهره؛ ليتأهبوا لذلك، وهو مخفف اللام، يقال: جليت الشيء: إذا كشفته، وبيّنته، وأوضحته، وفي "التلويح": ضَبَطه الدمياطي في حديث سعد في المغازي بالتشديد، وهو خطأ، قاله في "العمدة"

(5)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: وهو خطأٌ، فيه نظر، فقد ضبطه في

(1)

"لسان العرب" 5/ 393.

(2)

"عمدة القاري" 14/ 217.

(3)

"تاج العروس" ص 3783.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 483.

(5)

"عمدة القاري" 14/ 217.

ص: 20

"الفتح" بهما، فقال: قوله: "فجلَّى" بالجيم، وتشديد اللام، ويجوز تخفيفها؛ أي: أوضح. انتهى

(1)

.

يعني: أنه أظهر لهم الأمر، وكَشَفه، ولم يورِّه، والمقصود؛ أنه صلى الله عليه وسلم كان من هديه أن لا يُعلن جهة خروجه للقتال، بل كانت عادته التوريةَ بذلك، فإن كان يريد جهة المشرق مثلًا توجه إلى المغرب عند خروجه، ثم عاد إلى المشرق؛ لئلا يتبيّن أمره للمنافقين، ولطلائع العدوّ، وكان ذلك من تدبير الحرب، وسياسته، فإن الحرب خُدعة، ولكنه لم يفعل مثل ذلك في غزوة تبوك، بل أعلن جهة خروجه قبل أن يخرج لِمَا رأى من طول السفر، وكثرة العدوّ، وزيادة المشقّة، فأراد أن يكون المسلمون على بيّنة من الأمر، ويستعدّوا لهذا السفر بما تيسّر لهم

(2)

، كما أبان ذلك بقوله:(لِيَتَأَهَّبُوا) متعلّق بـ "جلا"؛ أي: ليستعدّوا، يقال: تأهّب للسفر: إذا تهيّأ له، وقوله:(أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ) بضمّ الهمزة، وسكون الهاء؛ أي: عُدّته، وجميع ما يحتاج إليه الإنسان في سفره، والجمع: أُهَبٌ، بضمّ، ففتح، كغُرْفة وغُرَف

(3)

.

وقال في "الفتح": في رواية الكشميهنيّ: "أُهْبة عدوّهم"، والأهبة بضم الهمزة، وسكون الهاء: ما يُحتاج إليه في السفر والحرب. انتهى

(4)

.

(فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ)؛ أي: بقصدهم (الَّذِي يُرِيدُ) هـ صلى الله عليه وسلم، وقوله:(وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ) جملة مستأنفة، أو في محلّ نصب على الحال، (وَلَا يَجْمَعُهُمْ)؛ أي: لا يستوعب عددهم (كِتَابُ حَافِظٍ) بالإضافة؛ أي: حساب شخص ماهر في الحساب، وفي رواية البخاريّ:"كتابٌ حافظٌ" بالتنوين فيهما، على أن الثاني صفة للأول، وزاد في رواية معقل الآتية:"يزيدون على عشرة آلاف، ولا يجمعهم ديوان حافظ"، وللحاكم في "الإكليل" من حديث معاذ:"خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك زيادةً على ثلاثين ألفًا"، وبهذه العِدّة جزم ابن إسحاق، وأورده الواقديّ بسند آخر موصول، وزاد:"أنه كان معه عشرة آلاف فرس"، فتُحمَل رواية معقل على إرادة عدد

(1)

"الفتح" 9/ 565.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 43.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 28.

(4)

"الفتح" 9/ 565.

ص: 21

الفرسان، ولابن مردويه:"ولا يجمعهم ديوان حافظ"؛ يعني كعب بذلك: الديوان، يقول: لا يجمعهم ديوان مكتوبٌ، وهو يُقَوِّي رواية التنوين، وقد نُقل عن أبي زرعة الرازي أنهم كانوا في غزوة تبوك أربعين ألفًا، ولا تخالِف الرواية التي في "الإكليل":"أكثر من ثلاثين ألفًا"، لاحتمال أن يكون من قال: أربعين ألفًا جبر الكسر، قاله في "الفتح"

(1)

.

(يُرِيدُ) كعب بن مالك (بِذَلِكَ)؛ أي: بقوله: "ولا يجمعه كتاب حافظ"(الدِّيوَانَ) قال الحافظ رحمه الله: قوله: "يريد الديوان" هو كلام الزهريّ، وأراد بذلك الاحتراز عما وقع في حديث حذيفة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: اكتبوا لي من تلفَّظ بالإسلام"، وقد ثبت أن أوّل من دوَّن الديوان عمر رضي الله عنه. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال المجد رحمه الله: الدِّيوانُ -؛ أي: بالكسر- ويفتح: مُجْتَمَعُ الصُّحُفِ، والكِتابُ، يُكْتَبُ فيه أهلُ الجَيْشِ، وأهْلُ العَطِيَّةِ، وأوَّلُ مَنْ وَضَعَهُ عُمَرُ رضي الله عنه، جمعه: دَواوِينُ، ودَياوِينُ. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الدِّيوَانُ جَرِيدة الحساب، ثم أُطلق على الحساب، ثم أُطلق على موضع الحساب، وهو مُعَرَّب، والأصل: دِوَّانٌ، فأُبدل من أحد المضعّفين ياء؛ للتخفيف، ولهذا يُردّ في الجمع إلى أصله، فيقال: دَوَاوِينُ، وفي التصغير: دُوَيْوِينٌ؛ لأن التصغير، وجمع التكسير، يردّان الأسماء إلى أصولها، ودَوَّنْتُ الديوان، أي: وضعته، وجمعته، ويقال: إن عمر أول من دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ في العرب؛ أي: رتّب الجرائد للعُمّال، وغيرها. انتهى

(4)

.

والمعنى لم يكن هناك كتاب، أو ديوان تُسجّل فيه أسماء المشاركين في الغزو.

(قَالَ كعْبٌ) رضي الله عنه: (فَقَلَّ رَجُلٌ) من المسلمين (يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ) من الجيش، (يَظُنُّ) هكذا رواية مسلم، وفي رواية البخاريّ:"إلا يظنّ" بـ "إلا"، وهو الصواب، فلا بُدّ من تقديرها في رواية مسلم؛ لأن المعنى عليها، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يظنّ أن ذلك سيخفى له" كذا وقع هذا الكلام في سائر روايات مسلم، وفي

(1)

"الفتح" 9/ 565.

(2)

"الفتح" 9/ 565.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1545.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 204.

ص: 22

نُسخه، وسقط من الكلام "إلا" قبل "يظن"، وبه يستقيم الكلام، وهي إيجاب بعدما تضمّنه "قَلّ" من معنى النفي؛ لأن معنى قوله:"قلّ رجلٌ" بمعنى: ما رجل، فكأنه قال: ما رجل يريد أن يتغيب إلا ظنّ أن ذلك سيخفى له. انتهى

(1)

.

(أَنَّ ذَلِكَ) التغيّب (سَيَخْفَى) مضارع خَفِي، كرضي يرضى، وفي رواية البخاريّ:"إلا ظن أنه سيخفى"، ووقع في رواية الكشميهنيّ:"أَنْ سيخفى" بتخفيف النون، بلا هاء. (لَهُ) اللام بمعنى "على"؛ أي: على النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن من كان يريد أن يتغيّب عن الغزو، فإنه من السهل عليه أن يفعل ذلك؛ لأنه يظنّ أنه صلى الله عليه وسلم لا يطّلع عليه؛ لكثرة الناس، ولعدم تسجيل أسمائهم في ديوان، إلا أن ينزل وحي من اللَّه تعالى، كما بيّنه بقوله:(مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ) بالبناء للفاعل، أو المفعول، (وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ عز وجل)؛ أي: إلا أن يُنزل اللَّه عز وجل وحيًا على رسوله صلى الله عليه وسلم بتغيّب ذلك الرجل، واللَّه تعالى أعلم.

(وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ)؛ أي: غزوة تبوك، (حِينَ طَابَتِ)؛ أي: أدركت (الثِّمَارُ، وَ) تفيّأت (الظِّلَالُ)؛ يعني: حين كانت الأثمار ناضجة على الأشجار، وكان ذلك موسم أهل المدينة، يشتاقون إليه، لتوفّر الثمار فيه، ولكونها زمن تجارتهم فيها، والحصول على الأرباح، وهي التي كانت أساس معيشتهم في ذلك الزمان

(2)

.

وفي رواية موسى بن عقبة، عن ابن شهاب:"في قيظ شديد، في ليالي الخريف، والناس خارفون في نخيلهم"، وفي رواية أحمد من طريق معمر:"وأنا أَقْدَر شيء في نفسي على الجهاز، وخفّة الحاذ، وأنا في ذلك أصغو إلى الظلال والثمار".

وقوله: "الْحَاذِ" بحاء مهملة، وتخفيف الذال المعجمة، هو الحال وزنًا ومعنى، وقوله:"أصغو" بصاد مهملة، وضم المعجمة، أي: أمْيَل، ويُروَى:"أصعُر" بضم العين المهملة، بعدها راء، وفي رواية ابن مردويه:"فالناس إليها صعر"، قاله في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 95.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 44.

(3)

"الفتح" 9/ 565.

ص: 23

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "بضمّ العين" فيه نظر؛ لأنه مخالف لِمَا في كتب اللغة، فقد ضُبط فيه بفتحها، من باب تَعِبَ، فتنبّه.

(فَأَنَا إِلَيْهَا)؛ أي: إلى التمتّع بتلك الثمار والظلال (أَصْعَرُ)؛ أي: أمْيَل، وهم أفعل تفضيل من صَعِرَ، من باب فَرِحَ.

قال الفيّوميّ رحمه الله: الصَّعَرُ: ميلٌ في العنق، وانقلاب في الوجه إلى أحد الشدقين، وربما كان الإنسان أَصْعَرَ خِلْقةً، أو صَعَّرَهُ غيره بشيء يصيبه، وهو مصدر من باب تَعِبَ، وصَعَّرَ خَدَّه بالتثقيل وصَاعَرَهُ: أماله عن الناس إعراضًا وتكبرًا. انتهى

(1)

.

وقال المرتضى رحمه الله: الصَّعَرُ مُحَرَّكَةً، والتَّصَعُّرُ: ميَلٌ في الوَجْهِ، وقيل: الصَّعَرُ: المَيَلُ في الخَدِّ خاصَّةً، أو هو مَيَلٌ في العُنُقِ، وانقلابٌ في الوَجْهِ إِلى أَحدِ الشِّقَّيْنِ، أو هو داءٌ في البعيرِ يأخُذُه، ويَلْوِي عُنُقه منه، ويُمِيلُه، صَعِرَ كفَرِحَ صَعَرًا، فهو أَصْعَرُ، وجمْعه صُعْرٌ، قال أَبو دَهْبَلٍ: أنشده أَبو عَمْرِو بنُ العلاءِ [من الكامل]:

وَتَرَى لَهَا دَلًّا إذَا نَطَقتْ

تَرَكَتْ بَنَاتِ فُؤادِهِ صُعْرا

(2)

(فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، أي: تأهبّ بإعداد جَهَاز السفر، وهو أُهبته، وما يحتاج إليه في قطع المسافة، وهو بالفتح، وبه قرأ السبعة في قوله تعالى:{فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} [يوسف: 70]، والكسر لغةٌ قليلة، وجِهَازُ العَرُوس، والميت باللغتين أيضًا، يقال: جَهَّزَهُمَا أهلهما بالتثقيل، وجَهَّزْتُ المسافرَ بالتثقيل أيضًا: هَيّأت له جِهازه، فَالمُجَهِّزُ بالكسر اسم فاعل، قاله الفيّوميّ

(3)

.

وقوله: (وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ) يَحْتَمِل أن يكون عطفًا على الفاعل، وأن يكون مبتدأ والظرف خبره، والجملة في محلّ نصب على الحال، (وَطَفِقْتُ) بكسر الفاء، وتُفتح على قلّة؛ أي: شرعت، قال المرتضى رحمه الله: طَفِق يفْعَلُ كَذا، كفرِح طَفَقًا: جعَلَ يفعَلُ، وأخذَ، وهو من أفْعالِ المُقارَبَة، قال الليْثُ: ولُغَة رَديئة طَفَق مثل ضَرَبَ طَفْقًا، وطُفوقًا، وعَزاه الجَوْهَريّ إلى الأخْفَش، وقال ابنُ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 340.

(2)

"تاج العروس" ص 3060.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 113.

ص: 24

سيدَه: وهي لُغة عن الزّجّاج، والأخفَش، وقال أبو الهَيثَم: طَفِق، وعلِقَ، وجَعَل، وكادَ، وكَرَب، لا بُدّ لهُنّ من صاحِب يصْحَبهنّ يوصَف بهنّ، فيرتَفِع، ويطلُبْن الفِعْلَ المُسْتَقْبَل خاصّةً، كقولك: كادَ زَيْدٌ يقول ذلك، فإن كنَيْتَ عن الاسمِ قلت: كادَ يقول ذاك، ومنه قولُه تعالَى:{فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ} [ص: 33]، أراد: طَفِق يمْسَحُ مسْحًا.

قال المرتضى: وقوله: إذا واصَلَ الفِعْلَ، قال شيخُنا: هو مِثلُ نقْلِ الحافِظِ ابنِ حَجَرٍ في "فتح الباري": طَفِقَ يفعَل كذا: إذا شرَعَ في فِعْلٍ، واستمرّ فيه، قلتُ: المَعروفُ في أفعال الشّروعِ هو الدّلالة على الشّروعِ فيه، مع قطْع النّظَر عن الاستِمرار، والمُواصَلة أم لا، ولذلِك مَنَعوا خبَرَها من دخولِ "أَنْ" عليه، لِمَا فِيها من مَعْنى الاستِقْبال، فدَلالتُها على الاستِمرار كيْفَ يُتَصَوَّر فتأمّل.

وقال ابنُ دُرَيد: خاصٌّ بالإثباتِ، يُقال: طفِقَ يفعَلُ كذا، ولا يُقال: ما طَفِقَ يفعلُ كذا وكذا. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَغْدُو)، أي: أذهب مبكّرًا، وهو خبر "طَفِقت"؛ لأنها من أفعال الشرع التي ترفع المبتدأ اسمًا لها، وتنصب الخبر خبرًا لها، قال في "الخلاصة":

كَأَنْشَأَ السَّائِقُ يَحْدُو وَطَفِقْ

كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

(لِكَيْ أَتجَهَّزَ مَعَهُمْ)؛ أي: مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، (فَأَرْجِعُ) إلى بيتي (وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا)؛ أي: لم أفعل من إعداد جهازي السفر لا كثيرًا، ولا قليلًا، (وَأَقُولُ فِي نَفْسِي)؛ أي: أحدّث نفسي، فأقوله:(أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ)، أي: على التجهّز لهذه الغزوة (إِذَا أَرَدْتُ)؛ أي: في أيّ وقت قصدت ذلك. (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ)؛ أي: محادثة نفسي بذلك (يَتَمَادَى بِي)، أي: يستمرّ، ويلازمني، وبثبّطني عن الجدّ في ذلك (حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ) بكسر الجيم، والرفع على أنه فاعل استمرّ؛ أي: استمرّ الاجتهاد، والاهتمام بالخروج، وفي رواية البخاريّ:"حتى اشتدّ الناسُ الجدَّ". قال في "الفتح": بكسر الجيم، وهو الجدّ

(1)

"تاج العروس" ص 6454.

ص: 25

في الشيء، والمبالغة فيه، وضبطوا "الناسُ" بالرفع على أنه الفاعل، و"الجدَّ" بالنصب على نزع الخافض، أو هو نعت لمصدر محذوف، أي: اشتدّ الناسُ الاشتدادَ الجدَّ، وعند ابن السكن:"اشتدّ بالناس الجدُّ" برفع "الجدُّ"، وزيادة الموحّدة، وهو الذي في رواية أحمد، ومسلم، وغيرهما، وفي رواية الكشميهنيّ:"بالناس الجدُّ"، و"الجدُّ" على هذا فاعل، وهو مرفوع، وهي رواية مسلم، وعند ابن مردويه:"حتى شَمَّر الناس الجدّ"، وهو يؤيد التوجيه الأول. انتهى

(1)

.

(فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِيًا)؛ أي: ذاهبًا وقت الغدوّ، قال الفيّوميّ رحمه الله: غَدَا غُدُوًّا، من باب قعد: ذهب غُدْوُةً، وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وجمع الغُدْوَةِ غُدًى، مثل مُديةٍ ومُدًى، هذا أصله، ثم كَثُر، حتى اسُتعمِل في الذهاب، والانطلاق أيِّ وقت كان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"وَاغْدُ يَا أُنَيْسَ. . . "، أي: وانطلق. انتهى

(2)

، وقوله:(وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، وكذا قوله:(وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي) بفتح الجيم، وتُكسر على قلّة، كما أسلفته؛ أي: من أُهبة سفري (شَيْئًا)، أي: كثيرًا أو قليلًا، وعند ابن أبي شيبة، وابن جرير من وجه آخر، عن كعب:"فأخذت في جِهازي، فأمسيت، ولم أفرغ، فقلت: أتجهز في غد". (ثُمَّ غَدَوْتُ)؛ أي: خرجت من بيتي مبكّرًا لإعداد الجهاز، (فَرَجَعْتُ) إلى بيتي (وَ) الحال أني (لَمْ أَقْضِ شَيْئًا) من ذلك، (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ)، أي: الغدوّ، والرجوع بلا قضاء شيء (يَتَمَادَى)؛ أي: يستمرّ (بِي، حَتَّى أَسْرَعُوا) بالسين المهملة؛ أي: أسرع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه إلى الخروج، وفي رواية الكشميهنيّ:"حتى شَرُعوا" بالشين المعجمة، وهو تصحيف. (وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ) بالفاء، والطاء المهملة؛ أي: فات، وسبق، والفَرَط: السبق، وفي رواية ابن أبي شيبة:"حتى أمعن القومُ، وأسرعوا، فطفقت أغدو للتجهيز، وتشغلني الرجال، فأجمعت القعود، حين سبقني القوم"، وفي رواية أحمد من طريق عمر بن كثير، عن كعب:"فقلت: أيهات، سار الناس ثلاثًا، فأقمت".

(1)

"الفتح" 9/ 565.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 443.

ص: 26

(فَهَمَمْتُ) من باب نصر؛ أي: قصدت (أَنْ أَرْتَحِلَ)؛ أي: أذهب إلى الغزو (فَأُدْرِكهُمْ) بالنصب عطفًا على "أرتحل"، (فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ) الارتحال، حتى أدركهم، (ثُمَّ لَمْ يُقَدَّرْ) بالبناء للمفعول، من التقدير؛ أي: لم يقدِّر اللَّه تعالى (ذَلِكَ)؛ أي: الارتحال (لِي) بل تأخرت، وتخلّفت عنهم (فَطَفِقْتُ)؛ أي: شرعت (إِذَا خَرَجْتُ) من بيتي (فِي النَّاسِ) الباقين في المدينة، (بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) منها إلى الغزو، (يَحْزُنُنِي) بفتح حرف المضارعة، وضمّ الزاي، مضارع حزنه، من باب نصر، أو بضمّ حرف المضارعة، وكسر الزاي، من أحزنه، قال الفيّوميّ رحمه الله: حَزِنَ حَزَنًا، من باب تَعِب، والاسم: الحُزْن بالضمّ، فهو حَزِين، ويتعدى في لغة قريش بالحركة، يقال: حَزَنَنِي الأمر يَحْزُنُنِي، من باب قَتَل، قاله ثعلب، والأزهريُّ، وفي لغة تميم بالألف، ومَثَّل الأزهريّ بِاسم الفاعل، والمفعول، في اللغتين، على بابهما، ومنع أبو زيد استعمال الماضي من الثلاثيّ، فقال: لا يقال: حَزَنَهُ، وإنما يستعمل المضارع من الثلاثيّ، فيقال: يَحْزُنُهُ. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: الحُزْنُ بالضم، ويُحَرَّكُ: الهَمُّ، جَمْعه: أحْزَانٌ، حَزِنَ كفَرِحَ، وتَحَزَّنَ، وتَحازَنَ، واحْتَزَنَ، فهو حَزْنانٌ، ومِحْزانٌ، وحَزَنَهُ الأَمْرُ حُزْنًا بالضم، وأحْزَنَهُ، أو أحْزَنَهُ: جَعَلَهُ حَزينًا، وحَزَنَهُ: جَعَلَ فيه حُزْنًا، فهو مَحْزونٌ، ومُحْزَنٌ، وحَزِين، وحَزِنٌ بكسر الزاي، وضَمِّها، جَمْعه: حِزانٌ، وحُزَناءُ. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَنِّي لَا أَرَى لِي أُسْوَةً) في تأويل المصدر فاعل "يحزنني"، أي: يحزنني عدم رؤية من يكون لي أسوة، بضمّ الهمزة، وكسرها؛ أي: قُدوةً أقتدي به، (إِلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا) بالغين المعجمة، والصاد المهملة؛ أي: مطعونًا (عَلَيْهِ فِي) دينه، متّهمًا بـ (النِّفَاقِ) وقيل: معنى "مغموصًا": مُستحقَرًا، تقول: غمصت فلانًا: إذا استحقرته، وكذلك أغمصته، قاله العينيّ رحمه الله، وقال القرطبيّ رحمه الله: المغموص: المَعيب المتّهم المحتقَر. (أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ)؛ أي: في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى

(1)

"المصباح المنير" 1/ 134.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1535.

ص: 27

الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)} [التوبة: 91].

قال كعب: (وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ) هكذا في بعض نُسخ مسلم بغير صرف للعلمية والتأنيث، وكذا هو في رواية الأكثرين، ووقع في بعضها "تبوكًا" بالصرف، على إرادة المكان، أو الموضع. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (وَهُوَ جَالِسٌ) جملة حاليّة من الفاعل، (فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ) متعلّقان بـ "جالس"، ("مَا فَعَلَ) "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء فعل (كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟ ") حين تخلّف عنا في المدينة، (قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ)

(1)

بكسر اللام: القبيلة المشهورة، وفي رواية معمر:"من قومي"، وعند الواقدي أنه عبد اللَّه بن أنيس، وهذا غير الجهنيّ الصحابيّ المشهور، وقد ذكر الواقديّ فيمن استُشهِد باليمامة عبد اللَّه بن أنيس السَّلَميّ، بفتحتين، فهو هذا. (يَا رَسُولَ اللَّهِ: حَبَسَهُ بُرْدَاهُ) تثنية بُرْد، وهو بضمّ، فسكون: ثوب مخطَّط، جَمْعه أبراد، وبرُد، وبُرُود، وأكسية يُلتَحَف بها، الواحدة بِهاء

(2)

. (وَالنَّظَرُ)؛ أي: وحبسه النظر (فِي عِطْفَيْهِ) بكسر العين المهملة؛ أي: جانبيه، وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه، ولباسه، وقيل: كنى بذلك عن حُسنه، وبهجته، والعرب تَصِف الرداء بصفة الحسن، وتسميه عِطْفًا؛ لوقرعه على عطفي الرجل

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "البردان"؛ يعني به: الرداء والإزار، والرداء والقميص، وسمّاهما بردين؛ لأنَّ القميص والإزار قد يكونان من برود، والبرود: ثياب من اليمن فيها خطوط، ويَحْتَمِل أن تسميتها بردين على طريقة: العُمَرين، والبكرين، والقمرين. و"العطف": الجانب، وكأن هذا القائل كان في نفسه حقدٌ، ولعلّه كان منافقًا، فنَسب كعبًا إلى الزهو والكِبْر، وكانت نسبةً باطلةً، بدليل شهادة العدل الفاضل معاذ بن جبل رضي الله عنه؛ إذ قال:"بئسما قلت، واللَّه يا رسول اللَّه ما علمنا عليه إلا خيرًا"، وفيه جواز الذمّ، والتقبيح للمتكلّم

(1)

"تنبيه المعلم".

(2)

"القاموس المحيط" ص 92.

(3)

"عمدة القاري" 18/ 52.

ص: 28

في حقّ المسلم بالعيب، والقبيح، ونصرة المسلم في حال غيبته، والردّ عن عرضه. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) كون معاذ بن جبل رضي الله عنه هو الذي ردّ عليه متّفق عليه، إلا ما حَكَى الواقديّ، وفي رواية أنه أبو قتادة، قال: والأول أثبت. (بِئْسَمَا قُلْتَ)، أي: بئس القول الذي قلته في كعب بن مالك، (واللَّه يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ)؛ أي: على كعب (إِلَّا خَيْرًا)؛ أي: فإنه ليس ممن يغترّ بردائه، وعطفيه، قال النوويّ رحمه الله: فيه ردّ غيبة المسلم الذي ليس بمنهمك في الباطل، ولذا لم ينكر النبيّ صلى الله عليه وسلم على قائل ذلك اكتفاء بإنكار معاذ رضي الله عنه. (فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ) الحال (رَأَى رَجُلًا مُبَيِّضًا) بكسر الياء: اسم فاعل من بيّض، فهو مبيِّضٌ؛ أي: أظهر بياض نفسه في السراب، (يَزُولُ)؛ أي: يتحرّك، ويضطرب (بهِ السَّرَابُ) بالفتح: هو ما يُرى نصف النهار كأنه ماء، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ") قال القرطبيّ رحمه الله: هذه صيغة أمر، ومعناها الخبر؛ أي: هو أبو خيثمة، وقيل: معناها: لِتوجَد أبا خيثمة، واسمه عبد اللَّه، وقيل: مالك بن قيس. (فَإِذَا هُو أَبُو خَيْثَمَةَ الأَنْصَارِيُّ)"إذا" هنا هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأهم حضوره، واسم أبي خيثمة هذا سعد بن خيثمة، كذا أخرجه الطبرانيّ من حديثه، ولفظه:"تخلفت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخلت حائطًا، فرأيت عَرِيشًا قد رُشّ بالماء، ورأيت زوجتيّ، فقلت: ما هذا بإنصاف، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في السموم، والحرور، وأنا في الظل والنعيم، فقمت إلى ناضح لي، وتمرات، فخرجت، فلما طلعت على العسكر، فرآني الناس، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة، فجئت، فدعا لي"، وذكره ابن إسحاق عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم مرسلًا، وذكر الواقديّ أن اسمه عبد اللَّه بن خيثمة، وقال ابن شهاب: اسمه مالك بن قيس

(2)

.

وقوله: (وَهُوَ)؛ أي: أبو خيثمة (الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ) الظاهر أنه مدرج من الراوي، ويَحْتَمِل أن يكون من الزهريّ؛ لأنه معروف بمثل هذا الإدراج، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 7/ 96.

(2)

"الفتح" 9/ 567.

ص: 29

(حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ)؛ أي: عابوه، واللمز: الطعن، والعيب.

أخرج الشيخان عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لمّا نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا، فجاء رجل، فتصدق بشيء كثير، فقالوا: مرائي، وجاء رجل، فتصدق بصاع، فقالوا: إن اللَّه لغني عن صدقة هذا. فنزلت: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآية [التوبة: 79].

وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: واللَّه ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وقالوا: إنْ كان اللَّه ورسوله لغنيَّين عن هذا الصاع.

وقال العوفيّ، عن ابن عباس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم: أن اجمعوا صدقاتكم، فجمع الناس صدقاتهم، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر، فقال: يا رسول اللَّه، هذا صاع من تمر بِتُّ ليلتي أجرّ بالجرير الماء، حتى نِلت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما، وأتيتك بالآخر، فأمره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات، فسخر منه رجال، وقالوا: إن اللَّه ورسوله لغنيّان عن هذا، وما يصنعان بصاعك من شيء، ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل بقي أحد من أهل الصدقات؟ فقال: "لا"، فقال له عبد الرحمن بن عوف: فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أمجنون أنت؟ قال: ليس بي جنون، قالى: فعلتَ ما فعلتَ؟ قال: نعم، مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي، وأما أربعة آلاف فلي، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بارك اللَّه لك فيما أمسكت، وفيما أعطيت"، ولمزه المنافقون فقالوا: واللَّه ما أعطى عبد الرحمن عطيّته إلا رياء، وهم كاذبون، إنما كان به متطوعًا، فأنزل اللَّه عز وجل عُذره، وعُذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر، فقال تعالى في كتابه:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية

(1)

.

(1)

راجع: "تفسير ابن كثير" 4/ 184.

ص: 30

(فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه: (فَلَمَّا بَلَغَني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجَّهَ)؛ أي: أقبل (قَافِلًا)؛ أي: راجعًا، ولفظ البخاريّ:"فلما بلغني أنه توجه قافلًا"(مِنْ تَبُوكَ)؛ أي: من غزوتها، وذكر ابن سعد أن قدوم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة كان في رمضان. (حَضَرَنِي)؛ أي: أخذني (بَثِّي) بالموحّدة، ثم المثلثة؛ أي: حزني، ولفظ البخاريّ:"حضرني همي"، وفي رواية الكشميهنيّ:"همّني"، وفي رواية ابن أبي شيبة:"فطفقت أُعِدّ العذر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا جاء، وأُهيّئ الكلام". (فَطَفِقْتُ)؛ أي: شرعت، وأخذت (أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ) في الاعتذار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم في تخلّفي عنه، (وَأَقُولُ) في نفسي، ولمن أستعين برأيه:(بِمَ)؛ أي: بأيّ حيلة (أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ) صلى الله عليه وسلم (غَدًا)؛ أي: يوم القيامة، يُعبّر عنها بغد؛ لتحقّق وقوعها لا محالة، وأنه حتم مقضيّ. (وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ)؛ أي: جَمْع الأعذار، (كُلَّ ذِي رَأْي)؛ أي: عقل، وتفكُّر (مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ لِي: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلَّ)؛ أي: أصبح (قَادِمًا) من سفره، (زَاحَ)؛ أي: زال، وابتعد (عَنِّي الْبَاطِلُ)؛ أي: الكذب الذي كنت أزوّره للاعتذار، (حَتَّى عَرَفْتُ) وفي رواية البخاريّ:"وعرفت" بالواو، (أَنِّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ)؛ أي: من سخطه صلى الله عليه وسلم (بِشَيْءٍ) من الأعذار الكاذبة (أَبَدًا) منصوب على الظرفيّة، متعلّق بـ "أنجو"، وهو ظرف مستغرق لِمَا يُستقبل من الزمان، ملازم للنفي

(1)

، قال الفيّوميّ رحمه الله: الأَبَدُ محرّكةً: الدَّهْر، ويقال: الدَّهْر الطويل، الذي ليس بمحدود، قال الرُّمَّانيُّ: فإذا قلت: لا أكَلِّمُهُ أبدًا، فالأبُدُ من لَدُنْ تكَلَّمْت إلى آخر عمرك، وجَمْعه آبَادٌ، مثلُ سَبَبٍ وأسباب. انتهى

(2)

.

(فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ)؛ أي: جزمت بذلك، وعقدت عليه قصدي، يقال: أَجْمَعْتُ المسيرَ، والأمرَ وأَجْمَعْتُ عليه، يتعدى بنفسه، وبالحرف: عزمتُ عليه، وفي الحديث:"من لم يُجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"؛ أي: من لم يَعزِم عليه، فينويه، وأَجْمَعُوا على الأمر: اتفقوا عليه، قاله

(1)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 266.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 1.

ص: 31

الفيّوميّ رحمه الله

(1)

؛ والمعنى: أنه عزم أن لا يتكلّم عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا بالصدق، فإنه الذي يُنجيه يوم القيامة.

وفي رواية ابن أبي شيبة: "وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق".

(وَصَبَّحَ)؛ أي: أتى صباحًا، أو بمعنى صار، ولفظ البخاريّ:"وأصبح" وهو بمعناه، قال المجد رحمه الله: أصبح: دخل في الصباح، وبمعنى صار، وصبّحهم: أتاهم صباحًا، كصَبَحهم بالتخفيف، كمنعهم. انتهى بتصرّف

(2)

. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِمًا) المعنى: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قادمًا صباحًا، أو صار قادمًا صباحًا، (وَكَانَ) صلى الله عليه وسلم؛ أي: كان هديه (إِذَا قَدِمَ) بكسر الدال المهملة؛ أي: أتى (مِنْ سَفَرِ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ) النبويّ قبل دخوله منزله (فَرَكَعَ فِيهِ)؛ أي: صلّى في المسجدَ (رَكْعَتَيْنِ) تحيّة المسجد، وفي رواية أحمد من طريق ابن جريج، عن ابن شهاب:"لا يَقْدَم من سفر إلا في الضحى، فيبدأ بالمسجد، فيصلي فيه ركعتين، ويقعد"، وفي رواية ابن أبي شيبة:"ثم يدخل على أهله"، وفي حديث أبي ثعلبة عند الحاكم، والطبرانيّ:"كان إذا قَدِم من سفر بدأ بالمسجد، فصلى فيه ركعتين، ثم يَثني بفاطمة، ثم يأتي أزواجه"، وفي لفظ:"ثم بدأ ببيت فاطمة، ثم أتى بيوت نسائه". (ثُمَّ جَلَسَ) في المسجد (لِلنَّاسِ)؛ أي: لأجل أن يسلّم عليه أصحابه؛ لِغَيبته عن المدينة هذه المدّة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك؛ ليبدأ بتعظيم بيت اللَّه عز وجل قبل بيته، وليقوم بشكر نعمة اللَّه تعالى عليه في سلامته، وليسلّم عليه الناس، ولِيَسُنّ ذلك في شرعه صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

(فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ)؛ أي: البدء بالمسجد، وصلاة ركعتين فيه، ثم الجلوس للناس، (جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ) بتشديد اللام، اسم مفعول من خُلِّف؛ أي: أُخّر؛ أي: الذين خلّفهم النفاق، ومرض القلب عن الخروج مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للغزو، (فَطَفِقُوا) بكسر الفاء، وتُفتح؛ أي: شرعوا، وأخذوا (يَعْتَذِرُونَ)؛ أي: يقيمون العذر في تخلّفهم عن تلك الغزوة (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، (وَيَحْلِفُونَ لَهُ) على أنهم صادقون

(1)

"المصباح المنير" 1/ 109.

(2)

"القاموس المحيط" ص 625.

(3)

"المفهم" 7/ 97.

ص: 32

في دعواهم ذلك؛ ليصدّقهم في دعواهم الباطل، (وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا) ذكر الواقديّ أن هذا العدد كان من منافقي الأنصار، وأن المعذِّرين من الأعراب كانوا أيضًا اثنين وثمانين رجلًا، من بني غفار، وغيرهم، وأن عبد اللَّه بن أُبَيّ، ومن أطاعه من قومه، كانوا من غير هؤلاء، وكانوا عددًا كثيرًا.

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: البِضْعُ في العدد بالكسر، وبعض العرب يفتح، واستعماله من الثلاثة إلى التسعة، وعن ثعلب من الأربعة إلى التسعة، يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال: بِضْعُ رجال، وبِضْعُ نسوة، ويُستعمل أيضًا من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء في بِضْعٍ مع المذكر، وتُحذف مع المؤنث؛ كالنيِّف، ولا يُستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقول: بِضْعَةٌ وعشرون رجلًا، وبِضْعٌ وعشرون امرأة، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا معنى البِضْعِ، والبِضْعَةِ في العدد قطعةٌ مبهمةٌ غير محدودة. انتهى كلام الفيّوميّ

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "البضع" بالكسر، ويُفْتَحُ: الطائِفةُ من الليلِ، وما بينَ الثَّلاثِ إلى التِسْعِ، أو إلى الخَمْسِ، أو ما بين الواحِدِ إلى الأَرْبَعَةِ، أو مِن أرْبَع إلى تِسْعٍ، أو هو سَبْعٌ، وإذا جاوَزْتَ لَفْظَ العَشْرِ ذَهَبَ البِضْعُ، لا يقالُ: بِضْعٌ وعِشْرونَ، أو يقالُ ذلك، وقال الفَرَّاءُ: لا يُذْكَرُ مَعَ العَشَرَةِ، والعِشْرينَ، إلى التِّسْعينَ، ولا يقالُ: بِضْعٌ ومِئَةٌ، ولا ألْفٌ، وقال مَبْرَمَانُ: البِضْعُ: ما بينَ العَقْدَيْنِ من واحِدٍ إلى عَشَرَةٍ، ومِنْ أحَدَ عَشَرَ إلى عِشْرينَ، ومع المُذَكَّرِ بِهاءٍ، ومعَهَا بغيرِ هاءٍ، بِضْعَة وعِشْرُونَ رجُلًا، وبِضْعٌ وعِشْرونَ امرأةً، ولا يُعْكَسُ، أو البِضْعُ: غيرُ مَعْدودٍ؛ لأَنَّهُ بمعنَى القِطْعَةِ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن بضعة، وبضعًا له حُكم ثلاثة وثلاث، قال في "شرح الكافية الشافية": لبضعة وبضع حُكم تسعة، وتسع في الإفراد والتركيب، وعطف عشرين وأخواته عليه، نحو: لبثت بضعة أعوام، وبضع سنين، وعندي بضعة عشر غلامًا، وبضع عشرة أمةً، وبضعة وعشرون كتابًا، وبضع وعشرون صحيفةً، ويراد ببضع: من ثلاث إلى تسع، وببضعة: من ثلاثة إلى تسعة. انتهى.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 49 - 50.

(2)

"القاموس المحيط" ص 112.

ص: 33

والحاصل: أنه ورد في الأحاديث الصحيحة استعماله مع عشرين، فما فوقه، كهذا الحديث:"بضعة وثمانين رجلًا"، وكحديث:"رأين بضعة وثلاثين ملكًا"، وحديث:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الواحد ببضع وعشرين درجة"، وغير ذلك، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَبِلَ) بكسر الباء، من باب تَعِب، (مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَانِيَتَهُمْ)؛ أي: ظواهرهم (وَبَايَعَهُمْ)؛ أي: جدّد مبايعتهم على نصرة الإسلام، (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ)؛ أي: مما وقع منهم من التخلّف عنه، وذلك لأن اللَّه عز وجل أمره بالاستغفار لمن تخلّف عن مجلسه، فقال:{فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 62].

(وَوَكَلَ) بفتحات، مع التخفيف؛ أي: فوّض (سَرَائِرَهُمْ)؛ أي: أمر سرائرهم التي اشتملت عليها قلوبهم، من الإخلاص، أو النفاق، (إِلَى اللَّهِ) سبحانه وتعالى؛ لأنه الذي يتولّى السرائر، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، وقال:{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29]، وقال:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].

(حَتَّى جِئْتُ) إليه صلى الله عليه وسلم، (فَلَمَّا سَلَّمْتُ) ولفظ البخاريّ:"فلما سلّمت عليه"، (تَبَسَّمَ) يقال: بَسَمَ بَسْمًا، من باب ضرب: إذا ضَحِك قليلًا، من غير صوت، وابتسم، وتبسُّم كذلك، ويقال: هو دون الضحك

(1)

. (تبَسُّمَ الْمُغْضَب) بصيغة اسم المفعول؛ أي: تبسُّم من يظهر عليه الغضب، وذلك بسبب تخلَّفه عنه. وعند ابن عائذ في "المغازي":"فأعرض عنه، فقال: يا نبي اللَّه لِمَ تعرض عني؟ فواللَّه ما نافقت، ولا ارتبت، ولا بدلّت، قال: فما خلّفك؟ ".

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("تَعَالَ") بفتح اللام، أمْر من تعالى يتعالى، قال الفيّوِميّ رحمه الله: تَعَالَ فعلُ أمر من تعالى يتعالى: إذا ارتفع، وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل، فيقول: تَعَالَ، ثم كَثُر في كلامهم حتى استُعْمِل بمعنى هَلُمّ مطلقًا، وسواء كان موضع المدعوّ أعلى، أو أسفل، أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنى خاصّ، ثم استُعمل في معنى عامّ، ويتصل به الضمائر

(1)

"المصباح المنير" 1/ 49.

ص: 34

باقيًا على فتحه، فيقال: تَعَالَوا، تَعَالَيَا، تَعْالُينَ، وربما ضُمّت اللام مع جمع المذكر السالم، وكُسرت مع المؤنثة، وبه قرأ الحسن البصريّ في قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64] لمجانسة الواو. انتهى

(1)

.

(فَجِئْتُ) إليه صلى الله عليه وسلم، حال كوني (أَمْشِي) على هِينتي، (حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (لِي:"مَا خَلَّفَكَ؟) "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء جعلك تتخلّف عنّي في هذه الغزوة؟ (أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ ")، أي: مركوبك (قَالَ) كعب: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي واللَّه لَوْ جَلَسْتُ عنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا)؛ أي: من ملوكهم، (لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ) بفتحتين، أو بضمّ، فسكون، (بِعُذْرٍ)؛ أي: بذكر عذر من الأعذار، ثمّ بيّن سبب خروجه من ذلك، فقال:(وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا) بفتحتين؛ أي: فصاحةً، وقوّةً كلام، بحيث أخرج عن عهدة ما يُنسب إليّ بما يُقبَل، ولا يُرَدّ، (وَلَكِنِّي واللَّه لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ)؛ أي: في هذه الدنيا (حَدِيثَ كَذِبٍ) بالإضافة، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، وقوله:(تَرْضَى بِهِ عَنِّي) جملة في محلّ جرّ صفة "حديث"، أو حال منه، (لَيُوشِكَنَّ)؛ أي: ليقرُبنّ، وليُسرعنّ (اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ) بضم حرف المضارعة، من الإسخاط؛ أي: يجعلك ساخطًا، وغاضبًا عليّ باطلاعك على كذبي، (وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ) اليوم (حَدِيثَ صِدْقٍ) بالإضافة، من إضافة الموصوف إلى الصفة أيضًا، (تَجِدُ) بكسر الجيم؛ أي: تغضب (عَلَيَّ فِيهِ)؛ أي: بسببه، فـ "في" سببيّة، كما في حديث:"عُذّبت امرأة في هرّة حبستها. . " متّفقٌ عليه. (إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ)؛ أي: في تحديثي إياك بحديث صدق، (عُقْبَى اللَّهِ) بضمّ العين المهملة، وسكون القاف، مقصورًا؛ أي: ثوابه، قال المجد رحمه الله: الْعُقْبَى: جزاء الأمر. انتهى

(2)

، وفي بعض النسخ:"عفو اللَّه". (واللَّه مَا كَانَ لِي عُذْرٌ)، أي: مانع يمنعني من الخروج معك، (واللَّه مَا كُنْتُ قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من عمري (أَقْوَى)؛ أي: أشدّ قوّة في الجسم (وَلَا أَيْسَرَ)؛ أي: أكثر مالًا (مِنِّي)؛ أي: من قوَّتي، ويساري، (حِينَ تَخَلَّفْتُ)؛ أي: وقت تأخّري (عَنْكَ)؛ أي: عن الخروج معك إلى تبوك. (قَالَ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 428.

(2)

"القاموس المحيط" ص 892.

ص: 35

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَّا هَذَا)؛ أي: كعب بن مالك، (فَقَدْ صَدَقَ)؛ أي: وأما غيره من المنافقين الذين اعتذروا، وطلبوا الاستغفار لهم، فقد كذبوا، (فَقُمْ) من هذا المجلس (حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فيكَ")؛ أي: حتى يُنزل اللَّه في قبول توبتك. (فَقُمْتُ) زاد النسائيّ: "فمضيت"، (وَثَارَ)؛ أي: وثَب (رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ) بكسر اللام، وهم قومه، (فَاتَّبَعُونِي) بوصل الهمزة، وتشديد التاء، (فَقَالُوا لِي: واللَّه مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا) التخلّف من غزوة تبوك، (لَقَدْ عَجَزْتَ) بفتح الجيم، من باب ضرب، وفي لُغة ضعيفة، من باب تَعِب أيضًا، قال الفيوميّ رحمه الله: عَجَزَ عن الشيء عَجْزًا، من باب ضرب، ومَعْجَزَةٌ بالهاء، وحَذْفها، ومع كل وجه فتح الجيم، وكسرها: ضَعُف عنه، وعَجِزَ عَجَزًا، من باب تَعِبَ لغة لبعض قَيْس عَيْلان، ذكرها أبو زيد، وهذه اللغة غير معروفة عندهم، وقد رَوَى ابن فارس بسنده إلى أن ابن الأعرابيّ أنه لا يقال: عَجِز الإنسان، بالكسر، إلا إذا عَظُمت عَجِيزَتُهُ. انتهى

(1)

.

(فِي أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ)؛ أي: لقد صرت عاجزًا في عدم اعتذارك، وقول بعض الشرّاح:"في" بمعنى "عن"، و"لا" زائدة، أي: لقد عجزت عن أن تكون معتذرًا إلخ، مما لا يخفى بُعده، فلا حاجة إلى دعوى الزيادة؛ لأن المعنى بدون ذلك صحيح، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا)، أي: بمثل الاعتذار الذي (اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ) بالنصب خبرًا مقدّمًا لـ "كان"، وقوله:(ذَنْبَكَ) مفعول به لـ "كافيك"، وقوله:(اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ) تنازعاه "كان"، و"كافيك"، فـ "كان" تطلبه اسمًا لها مؤخّرًا، و"كافيك" يطلبه فاعلًا.

وقال في "الفتح": قوله: "كافيك ذنبك" بالنصب على نزع الخافض، أو علي المفعولية أيضًا، و"استغفار" بالرفع على أنه الفاعل. انتهى، والإعراب الأول أَولى، فتنبّه.

وعند ابن عائذ: "فقال كعب: ما كنت لأجمع أمرين: أتخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأكذبه، فقالوا: إنك شاعر جريء، فقال: أما على الكذب

(1)

"المصباح المنير" 2/ 393.

ص: 36

فلا"، زاد في رواية ابن أبي شيبة: "كما صنع ذلك بغيرك، فقبل منهم عذرهم، واستغفر لهم".

(قَالَ) كعب رضي الله عنه: (فَواللَّه مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي) بنون ثقيلة، ثم موحّدة، من التأنيب، وهو اللوم العنيف، (حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُكَذِّبَ نَفْسِي) فيما قلت، من الصدق، وأعتذر إليه بالكذب. (قَالَ) كعب:(ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ:)، أي: للرجال الذين لاموه على الصدق، وأنّبوه عليه:(هَلْ لَقِيَ) بكسر القاف، (هَذَا)؛ أي: ما وقع لي من صدقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شأن التخلّف، (مَعِي) بفتح الياء، وسكونها، (مِنْ أَحَدٍ؟)"من" زائدة للتوكيد، و"أحد" فاعل "لقي". (قَالُوا: نَعَمْ، لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلَانِ) من المتخلِّفين، (قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ)؛ أي: الاعتراف بعدم العذر، والصدق في ذلك، (فَقِيلَ لَهُمَا)؛ أي: قال لهما النبيّ صلى الله عليه وسلم (مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ)؛ أي: من قوله: "أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللَّه فيك". (قَالَ) كعب: (قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟) الرجلان، (قَالُوا: مُرَارَةُ) بضم الميم، وراءين، الأُولى خفيفة، (ابْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيُّ) قال النوويّ: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم: "العامريّ"، وأنكره العلماء، وقالوا: هو غلط، إنما صوابه "العمريّ" بفتح العين، وإسكان الميم، من بني عمرو بن عوف، وكذا ذكره البخاريّ، وكذا نسبه محمد بن إسحاق، وابن عبد البرّ، وغيرهما، من الأئمة، قال القاضي: هو الصواب، وإن كان القابسيّ قد قال: لا أعرفه إلا العامريّ، فالذي عرفه الجمهور أصحّ.

وأما قوله: "مرارة بن ربيعة" فكذا وقع في نُسخ مسلم، وكذا نقله القاضي عن نُسخ مسلم، ووقع في البخاريّ: ابن الربيع، قال ابن عبد البرّ: يقال بالوجهين. انتهى

(1)

.

ولفظ البخاريّ: "مُرارة بن الربيع الْعَمْريّ"، قال في "الفتح": قوله: "العمريّ" بفتح المهملة، وسكون الميم: نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ووقع لبعضهم:"العامريّ"، وهو خطأ.

وقوله: "ابن الربيع" هو المشهور، ووقع في رواية لمسلم بن ربيعة، وفي

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 92.

ص: 37

حديث مُجَمِّع بن جارية عند ابن مردويه: "مرارة بن ربعيّ"، وهو خطأ، وكذا ما وقع عند ابن أبي حاتم، من مرسل الحسن، من تسميته ربيع بن مرارة، وهو مقلوب، وذكر في هذا المرسل أن سبب تخلفه أنه كان له حائط حين زَهَى، فقال في نفسه:"قد غزوت قبلها، فلو أقمت عامي هذا، فلما تذكر ذنبه، قال: اللَّهُمَّ إني أُشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك"، وفيه أن الآخر؛ يعني: هلالًا كان له أهل تفرقوا، ثم اجتمعوا، فقال: لو أقمت هذا العام عندهم، فلما تذكر قال: اللَّهُمَّ لك عليّ أن لا أرجع إلى أهل، ولا مال. انتهى

(1)

.

(وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ) هو بقاف، ثم فاء: منسوب إلى واقف، بطن من الأنصار، وهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى بن عامر بن كعب بن واقف، واسم واقف: مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس الأنصاريّ، قاله النوويّ

(2)

.

(قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ، قَدْ شِهِدَا بَدْرًا) قال الحافظ رحمه الله: هكذا وقع هنا، وظاهره أنه من كلام كعب بن مالك، وهو مقتضى صنيع البخاريّ، وقد قررت ذلك واضحًا في غزوة بدر، وممن جزم بأنهما شهدا بدرًا، أبو بكر الأثرم، وتعقبه ابن الجوزيّ، ونسبه إلى الغلط، فلم يُصِب، واستدَلّ بعض المتأخرين لكونهما لم يشهدا بدرًا بما وقع في قصة حاطب، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يهجره، ولا عاقبه، مع كونه جَسّ عليه، بل قال لعمر لَمّا هم بقتله:"وما يُدريك لعل اللَّه اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم؟ "، قال: وأين ذنب التخلف من ذنب الجسّ؟.

قال الحافظ: وليس ما استدلّ به بواضح؛ لأنه يقتضي أن البدريّ عنده إذا جنى جناية، ولو كبرت لا يعاقب عليها، وليس كذلك، فهذا عمر رضي الله عنه مع كونه المخاطب بقصة حاطب، فقد جلد قُدامة بن مظعون الحدّ لَمّا شَرِب الخمر، وهو بدريّ، كما تقدم، وإنما لم يعاقب النبيّ صلى الله عليه وسلم حاطبًا، ولا هجره؛ لأنه قَبِل عذره في أنه إنما كاتب قريشًا خشيةً على أهله وولده، وأراد أن يتخذ له عندهم يدًا، فعَذَره بذلك، بخلاف تخلّف كعب وصاحبيه، فإنهم لم يكن

(1)

"الفتح" 9/ 569.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 92.

ص: 38

لهم عذر أصلًا. انتهى كلام الحافظ رحمه الله وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(فِيهِمَا)؛ أي: في هذين الرجلين، وهو خبر مقدّم لقوله:(أُسْوَةٌ) بكسر الهمزة، وضمها؛ أي: تأسّ، واقتداء، وقال ابن التين: التأسي بالنظير ينفع في الدنيا، بخلاف الآخرة، قال اللَّه تعالى:{وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} الآية [الزخرف: 39]. انتهى

(1)

.

(قَالَ) كعب: (فَمَضَيْتُ)؛ أي: ذهبت إلى بيتي، ولم أرجع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لتكذيب نفسي (حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي)؛ أي: حين ذكر الرجال الرجلين الصالحين اللذين لي بهما أسوة حسنة، وفي رواية معمر:"فقلت: واللَّه لا أرجع إليه في هذا أبدًا". (قَالَ) كعب: (وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا)؛ أي: تكليمهم لنا، (أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ) قال القاضي: هو بالرفع، وموضعه نُصب على الاختصاص؛ أي: أخصّ أيها الثلاثةُ، أو متخصصين أيها الثلاثة بذلك دون بقية الناس، قال سيبويه نقلًا عن العرب: اللَّهُمَّ اغفر لنا أيتُها العصابةُ، وهذا مثله، كما قال في "الخلاصة":

الاخْتِصاصُ كَنِدَاءٍ دُونَ يَا

كَأَيُّهَا الْفَتَى بِإِثْرِ ارْجُونِيَا

وفى هذا هجران أهل البدع والمعاصي، وقوله:(مِنْ بَيْنِ مَنْ تخَلَّفَ عَنْهُ) متعلّق بأخصّ المقدّر. (قَالَ) كعب: (فَاجْتَنبَنَا النَّاسُ) بفتح الباء الموحّدة، و"نا" ضمير المتكلم ومعه غيره، وهي جملة من الفعل، والفاعل، والمفعول. (وَقَالَ) كعب:(تَغَيَّرُوا لَنَا)؛ أي: تغيّر الناس علينا، كأنهم لا يعرفوننا، وتغيّر ما في الأرض علينا (حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي فِي نَفْسِيَ الأَرْضُ) قال النوويّ: معناه: تغيّر عليّ كل شيء حتى الأرض، فإنها توحّشت عليّ، وصارت كأنها أرض لم أعرفها؛ لتوحّشها عليّ، كما قال:(فَمَا هِيَ بِالأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُـ) ـها، وفي رواية معمر:"وتنكّرت لنا الحيطان، حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكّر لنا الناس، حتى ما هم الذين نعرف"، وهذا يجده الحزين، والمهموم، في كل شيء، حتى قد يجده في نفسه، وزاد البخاريّ في "التفسير" من طريق إسحاق بن

(1)

"عمدة القاري" 18/ 53.

ص: 39

راشد، عن الزهريّ:"وما من شيء أهمّ إليّ من أن أموت، فلا يصلي عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو يموت، فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم، ولا يصلي عليّ"، وعند ابن عائذ:"حتى وَجِلُوا أشدّ الوَجَل، وصاروا مثل الرهبان".

قال السهيليّ: وإنما اشتدّ الغضب على من تخلّف، وإن كان الجهاد فرض كفاية، لكنه في حقّ الأنصار خاصّة فرض عين؛ لأنهم كانوا بايعوا على ذلك، ومصداق ذلك قولهم، وهم يحفرون الخندق:

نَحْنُ الذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

فكان تخلّفهم عن هذه الغزوة كبيرة؛ لأنه كالنكث لبيعتهم. انتهى.

وعند الشافعيّة وجه أن الجهاد كان فرض عين في زمنه صلى الله عليه وسلم، ذكره القسطلانيّ.

(فَلَبِثْنَا)؛ أي: مكثنا معاشر الثلاثة (عَلَى ذَلِكَ) الهجران (خَمْسِينَ لَيْلَةً) استُنبط منه جواز الهجران أكثر من ثلاث، وأما النهي الوارد عن الهجر فوق ثلاث، فمحمول على من لم يكن هجره لأمر شرعيّ. (فَأَمَّا صَاحِبَايَ)، يعني: مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، (فَاسْتَكَانَا)؛ أي: خضعا (وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا) حال كونهما (يَبْكِيَانِ) على تخلّفهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ)؛ أي: أصغرهم سنًّا (وَأَجْلَدَهُمْ)، أي: أقواهم بدنًا، (فَكُنْتُ أَخْرُجُ) من بيتي (فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ)، أي: أحضر صلاة الجماعة في المساجد، (وَأَطُوفُ)؛ أي: أدور، وأتجوّل (فِي الأَسْوَاقِ) استئناسًا بأهل الأسواق من الوحشة التي حلّت به بسبب جفاء الناس له، (وَ) الحال أنه (لَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ) من الناس؛ حيىث نهاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ) جملة حاليّة، (بَعْدَ الصَّلَاةِ) متعلّق بـ "أُسلّم"، أو بـ "آتي" على سبيل التنازع، (فَأَقُولُ فِي نَفْسِي)؛ أي: أحدّث نفسي قائلًا: (هَلْ حَرَّكَ) صلى الله عليه وسلم (شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ أَمْ لَا؟)؛ أي: أم لم يحرّكهما، ولعلّه إنما لم يجزم بتحريك شفتيه صلى الله عليه وسلم بردّ السلام عليه لكونه لا يديم النظر إليه من الخجل، (ثُمَّ أُصَلِّي) النوافل (قَرِيبًا مِنْهُ)؛ أي: في مكان قريب منه صلى الله عليه وسلم، أو حال كوني قريبًا منه، (وَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ) بالسين المهملة، والقاف، أي: أنظر إليه في خفية، (فَإِذَا

ص: 40

أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي) ولم ألتفت يمنة، ولا يسرة (نَظَرَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَيَّ) رضًا باشتغاله بالصلاة، (وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ)؛ أي: جهته صلى الله عليه وسلم، (أَعْرَضَ عَنِّي) زيادة في العقوبة، حتى يتوب إلى اللَّه تعالى توبة نصوحًا. (حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ) الهجران (عَلَيَّ)، وقوله:(مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ) بيان لاسم الإشارة، وهو بفتح الجيم، وسكون الفاء؛ أي: إعراضهم، وفي رواية ابن أبي شيبة:"وطفقنا نمشي في الناس، لا يكلمنا أحد، ولا يردّ علينا سلامًا"، (مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ)؛ أي: علوت سور بستانه، وقال النوويّ رحمه الله: معنى تسوّرته: عَلَوْته، وصَعِدت سُوره، وهو أعلاه، وفيه دليل لجواز دخول الإنسان بستان صديقه، وقريبه الذي يُدلّ عليه، ويَعرف أنه لا يَكره له ذلك بغير إذنه، بشرط أن يعلم أنه ليس له هناك زوجة، مكشوفة، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: أبو قتادة هذا هو الأنصاريّ، واسمه الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ -بكسر الراء، وسكون الموحّدة، بعدها مهملة- ابن بُلْدُمة -بضم الموحّدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة- السَّلَميّ -بفتحتين- المدنيّ الصحابيّ الشهير، شَهِد أُحدًا وما بعدها، ولم يصحّ شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، والأولى أصحّ، وأشهر، تقدّمت ترجمته في "الطهارة" 18/ 619.

وقال في "العمدة": وأبو قتادة -بفتح القاف- اسمه الحارث بن رِبْعِيّ -بكسر الراء، وسكون الباء الموحّدة، وبالعين المهملة- ابن بُلدُمة الأنصاريّ السَّلميّ الخزرجيّ، من بني غَنْم بن كعب بن سَلِمة بن يزيد بن جَشَم بن الخزرج، هكذا يقول ابن شهاب، وجماعة أهل الحديث: إن اسم أبي قتادة الحارث بن رَبعيّ، قال ابن إسحاق: وأهله يقولون: اسمه النعمان بن عمرو بن بلدمة، قال أبو عمر: يقولون: بَلدمة بالفتح، وبُلدمة بالضمّ، وبلذمة بالذال المنقوطة، والضمّ أيضًا، تُوفي بالكوفة في خلافة عليّ رضي الله عنهما وصلى هو عليه. انتهى

(2)

.

(وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ) ذكر أنه ابن عمه لكونهما معًا من بني

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 93.

(2)

"عمدة القاري" 18/ 53.

ص: 41

سَلِمة، وليس هو ابن عمه أخي أبيه الأقرب. (فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَواللَّه مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ) لعموم النهي عن كلامهم، وفيه أنه لا يُسَلَّم على المبتدعة، ونحوهم، وفيه أن السلام كلام، وأن من حلف لا يكلِّم إنسانًا، فسلّم عليه، أو ردّ عليه السلام حَنِث

(1)

.

(فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ) بفتح الهمزة، وضم الشين، من باب نصر، أي أسألك باللَّه، وأصله من النشيد، وهو: رفع الصوت بالشعر وغيره

(2)

. (هَلْ تَعْلَمَنَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولَهُ؟) صلى الله عليه وسلم (قَالَ) كعب: (فَسَكَتَ) أبو قتادة؛ أي: لم يردّ عليه شيئًا، (فَعُدْتُ)، أي: لمقالتي (فَنَاشَدْتُهُ)؛ أي: قلت له: أنشدك باللَّه" إلخ (فَسَكَتَ، فَعُدْتُ، فَنَاشَدْتُهُ، فَقَالَ) أبو قتادة: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) قال في "الفتح": ليس هو تكليمًا لكعب؛ لأنه لم ينو به ذلك، كما سيأتي تقريره.

وقال القاضي عياض: لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه؛ لأنه منهيّ عن كلامه، وإنما قال ذلك لنفسه لَمّا ناشده اللَّه، فقال أبو قتادة مظهرًا لاعتقاده، لا ليُسمعه، ولو حلف رجل لا يكلم رجلًا، فسأله عن شيء، فقال: اللَّه أعلم يريد إسماعه وجوابه حَنِث. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهره أنه أجابه عند إلحاحه عليه بالسؤال، فيكون قد كلّمه، فيكون مخالفًا للنهي، وقد يُؤوّل بأن أبا قتادة قال ذلك لنفسه، مخبرًا عن اعتقاده، ولم يقصد كلامه، ولا إسماعه.

قال: ويَحْتَمِل أن يقال: إن أبا قتادة فَهِم أن الكلام الذي نُهي عنه، إنما هو الحديث معه، والمباسطة، وإفادة المعاني، فأمَّا مثل هذا الكلام الذي يقتضي الإبعاد، والمنافرة، فلا -واللَّه أعلم- ألا ترى أنه لم يردّ عليه السلام، ولا التفت لحديثه؟. انتهى

(3)

.

قال كعبٌ: (فَفَاضَتْ)، أي: سالت (عَيْنَايَ) دموعًا، (وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ) وفي رواية معمر: "فلم أملك نفسي أن بكيت، ثم اقتحمت

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 93.

(2)

"المفهم" 7/ 98.

(3)

"المفهم" 7/ 98.

ص: 42

الحائط خارجًا"، (فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ) "إذا" فجائيّة، رابطة لجواب "بينا"؛ أي: ففاجأني حضور نبطيّ (مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشَّامِ) قال القرطبيّ رحمه الله: "النبطيّ": واحد النبط، وهم العامرون لتلك الأراضي، وسُمّوا بذلك؛ لأنهم ينبطون المياه؛ أي: يستخرجونها. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: يقال: النبط، والأنباط، والنبيط، وهم فلّاحو العجم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": "النبطيّ": بفتح النون، والموحّدة: نسبة إلى استنباط الماء، واستخراجه، وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفِلاحة، وهذا النبطيّ الشاميّ كان نصرانيًّا، كما وقع في رواية معمر:"إذا نصرانيّ جاء بطعام له يبيعه"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا النصرانيّ، ويقال: إن النبط يُنسبون إلى نَبَط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح. انتهى

(3)

.

(مِمَّنْ قَدِمَ) بكسر الدال، (بِالطَّعَامِ)، وقوله:(يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ) جملة حاليّة من الفاعل، (يَقُولُ: مَنْ) استفهاميّة مبتدأ، خبره قوله:(يَدُلُّـ) ــني (عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟، قَالَ) كعب: (فَطَفِقَ النَّاسُ)؛ أي: شرعوا (يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ)، أي: بأن هذا الشخص هو كعب بن مالك، (حَتَّى جَاءَنِي)، أي: ذلك النبطيّ (فَدَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ) بفتح الغين المعجمة، وسين مهملة ثقيلة، هو جَبَلة بن الأيهم، جزم بذلك ابن عائذ، وعند الواقديّ: الحارث بن أبي شَمِر، ويقال: جبلة بن الأيهم، وكان ملِكًا لنصارى العرب، له عهد وصداقة مع نصارى الروم، وفي رواية ابن مردويه:"فكتب إليّ كتابًا في سَرَقَة من حرير"

(4)

.

قال كعب: (وَكُنْتُ كَاتِبًا)؛ أي: عارفًا بقراءة المكتوب، (فَقَرَأْتُهُ)؛ أي: قرأت ذلك الكتاب، (فَإِذَا فِيهِ)"إذا" هي الفجائيّة، أي: ففاجأني وجود ما يلي: (أمّا بَعْدُ) هي من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لِقَطعها عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: أما بعد كذا، (فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو الذي تفسّره الجملة

(1)

"المفهم" 7/ 98.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 93.

(3)

"الفتح" 9/ 571.

(4)

"الفتح" 9/ 571، و"التكملة" 6/ 50.

ص: 43

بعده، وهي قوله:(قَدْ بَلَغَنَا أَنَّ صَاحِبَكَ) يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم، (قَدْ جَفَاكَ)؛ أي: هجرك، (وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ)؛ أي: ذلّ، وصَغار، (وَلَا مَضْيَعَةٍ) بفتح الميم، وسكون الضاد المعجمة، وكسرها أيضًا لغتان؛ أي: حيث يضيع حقّك، وعند ابن عائذ:"فإن لك مُتَحَوَّلًا" بالمهملة، وفتح الواو؛ أي: مكانًا تتحول إليه، (فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ) قال النوويّ: وفي بعض النُّسخ: "نواسيك" بزيادة ياء، وهو صحيح؛ أي: ونحن نواسيك، وقطعه عن جواب الأمر، ومعناه: نشاركك فيما عندنا. انتهى.

وقال في "الفتح": "نواسك" -بضم النون، وكسر المهملة- من المواساة، وزاد في رواية ابن أبي شيبة:"في أموالنا، فقلت: إنا للَّه قد طَمِع فيّ أهل الكفر"، ونحوه لابن مردويه. (قَالَ) كعب:(فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا:)؛ أي: تلك الرسالة، أو الصحيفة، (وَهَذِهِ أَيْضًا) مثل هجران المسلمين، (مِنَ الْبَلَاءِ)؛ أي: من جملة اختبار اللَّه تعالى إياك، (فَتَيَامَمْتُ بِهَا التَّنُّورَ) قال النوريّ: هكذا هو في جميع النُّسخ ببلادنا، وهي لغة في "تيممت"، ومعناها: قصدت. انتهى

(1)

.

و"التّنُّور" بفتح التاء المثنّاة، وتشديد النون: الذي يُخبز فيه، وافقت فيه لغة العرب لغة العجم، وقال أبو حاتم: ليس بعربيّ صحيح، والجمع: تنانير، قاله الفيّوميّ

(2)

.

وقال المرتضى: التَّنُّورُ: نَوع من الكَوانِينِ، وفي "الصّحاح": التَّنُّورُ: الكانُونُ الذي يُخْبَزُ فيه، يقال: هو في جميع اللُّغَاتِ كذلك، وقال اللَّيْثُ: التَّنُّورُ عَمَّتْ بكل لسانٍ، قال أبو منصور: وهذا يَدُلُّ على أنّ الاسمَ في الأَصل أعْجَمِيٌّ، فعَرَّبَتْهَا العربُ، فصار عربيًّا، على بناءِ فَعُّولٍ، والدَّلِيلُ على ذلك أنّ أصلَ، بنائِه تَنَرَ، قال: ولا نعرفُه في كلام العربِ؛ لأنه مُهْمَلٌ، وهو نَظِيرُ ما دَخَلَ في كلامِ العربِ من كلامِ العَجَمِ، مثلُ الدِّيباجِ، والدِّينارِ، والسُّنْدُسِ، والإسْتَبْرَقِ، وما أشبَهها، ولمّا تكلَّمتْ بها العربُ صارت عربيَّةً. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 93.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 77.

(3)

"تاج العروس" ص 2559.

ص: 44

(فَسَجَرْتُهَا بِهَا) بسين مهملة، وجيم؛ أي: أوقدته، وأنّث ضمير الكتاب على معنى الصحيفة، وفي رواية ابن مردويه:"فعمدت بها إلى تنّور به، فسجرته بها"، ودلّ صنيع كعب رضي الله عنه هذا على قوّة إيمانه، ومحبته للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض، قد يَضعُف عن تحمّل ذلك، وتَحْمِلُهُ الرغبةُ في الجاه والمال على هجران مَن هَجَره، ولا سيما مع أمْنه من الملِك الذي استدعاه إليه، أنه لا يُكرهه على فراق دينه، لكن لمّا احتَمَل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حَسَم المادّة، وأحرق الكتاب، ومنع الجواب، هذا مع كونه من الشعراء الذين طُبعت نفوسهم على الرغبة، ولا سيما بعد الاستدعاء، والحثّ على الوصول إلى المقصود، من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه، ونسيبه، ومع ذلك فغلب عليه دينه، وقَوِي عنده يقينه، ورجّح ما هو فيه من النكد، والتعذيب على ما دُعي إليه، من الراحة، والنعيم؛ حبًّا في اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم:"وأن يكون اللَّه ورسوله أحب إليه مما سواهما"، وعند ابن عائذ:"أنه شكا حاله إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: ما زال إعراضك عني، حتى رَغَّب فيّ أهلَ الشرك"

(1)

.

قال كعب رضي الله عنه: لبثنا على ذلك الهجران (حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ)؛ أي: أبطأ، وتأخّر، وهو عطف على "مضت"، أو حال بتقدير "قد". (الْوَحْيُ)؛ أي: في شأنه، وشأن صاحبيه، (إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي)"إذا" الأُولى شرطيّة، وهذه فُجائيّة رابطة لجواب الأُولى، كما قال في "الخلاصة":

وَتَخْلُفُ الْفَاءَ "إِذَا" الْمُفَاجَأَهْ

كَإِنْ تجُدْ إِذَا لَنَا مُكَافَأَهْ

قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على اسم هذا الرسول، ثم وجدت في رواية الواقديّ أنه خزيمة بن ثابت، قال: وهو الرسول إلى هلال، ومرارة بذلك.

(فَقَالَ) ذلك الرسول: (إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ)؛ أي: تبتعد عن (امْرَأَتَكَ) هي عميرة بنت جبير بن صخر بن أمية الأنصاريةّ، أم أولاده الثلاثة: عبد اللَّه، وعبيد اللَّه، ومعبد، ويقال: اسم امرأته التي كانت يومئذ

(1)

"الفتح" 9/ 571.

ص: 45

عنده: خيرة -بالمعجمة المفتوحة، ثم التحتانية- (قَالَ) كعب:(فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا)؛ أي: المرأة (أَمْ مَاذَا أفعَلُ؟ قَالَ) الرسول: (لَا) تطلّقها (بَلِ اعْتَزِلْهَا)؛ أي: بل ابتعد عن الاستمتاع بها (فَلَا تَقْرَبَنَّهَا)؛ أي: لا تجامعها. (قَالَ) كعب: (فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم (إِلَى صَاحِبَيَّ) بتشديد الياء على التثنية، هما: مرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة، (بِمِثْلِ ذَلِكَ)؛ أي: بمثل ما أرسل إليّ من الاعتزال عن امرأتيهما. (قَالَ) كعب: (فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي الْحَقِي) بوصل الهمزة، وفتح الحاء المهملة، أمْر من لَحِقَ، من باب سَمِع، (بِأَهْلِكِ)؛ أي: أقربائك: أبويك، ونحوهما، (فَكُونِي عِنْدَهُمْ) هذا دليل على أن هذا اللفظ ليس صريحًا في الطلاق، وإنما هو كناية، ولم ينوِ به الطلاق، فلم يقع، قال النوويّ.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا يدلّ على أن: الحقي بأهلك ليس من ألفاظ الطلاق، لا من صرائحه، ولا من كناياته الظاهرة، وغايته أن يكون مما يَحْتَمِل أن يراد به الطلاق، إذا نَوِي ذلك. انتهى

(1)

.

(حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ) الذي نزل بنا من الهجران بسبب التخلّف عن الغزوة، زاد النسائيّ من طريق مَعْقِل بن عُبيد اللَّه، عن الزهريّ:"فلَحِقت بهم".

(قَالَ) كعب: (فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ) هي خولة بنت عاصم، وقال الذهبيّ: هي التي لاعنها هلال، ففرّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بينهما

(2)

. (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ) اسم فاعل من ضاع يضيع: إذا هلك، وتَلِف، ثم فسَّرت الضياع هنا بقولها:(لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ) تقدّم أن الخادم بلا هاء يطلق على الذكر والأنثى، وقلّ استعمال خادمة بالهاء للأنثى

(3)

. (فَهَلْ تَكْرَهُ) بفتح أوله، وثالثه، من باب تعب، (أَنْ أَخْدُمَهُ؟) بكسر الدال، وضمّها، من بابي ضرب، ونصر

(4)

. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا)؛ أي: لا أكره أن تخدميه، (وَلَكِنْ) بسكون النون حرف استدراك، (لَا يَقْرَبَنَّكِ") بنون التوكيد المشدّدة؛ أي: لا يجامعنّك، وفي رواية البخاريّ:"ولكن لا يقربك" دون توكيد.

(1)

"المفهم" 7/ 100.

(2)

"عمدة القاري" 18/ 54.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 165.

(4)

راجع: "القاموس" ص 354.

ص: 46

[تنبيه]: "يقربنّك" هنا بفتحِ أوله وثالثه، يقال: قَرِبتُ الأمرَ أقربه، من باب تَعِبَ، وفي لغة من باب نصَرَ قِربانًا بالكسر: إذا فعلته، أو دانيته، ومن الأول قوله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32]، ومن الثاني قولهم: لا تقرب الحمى؛ أي: لا تَدْنُ منه، فهو متعدّ بنفسه، وأما قَرُب من الشيءِ من باب كَرُم، فهو يتعدّى بـ "من"، وما هنا من الأول، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَتْ) المرأة: (إِنَّهُ)؛ أي: هلالًا، ويَحْتَمل أن يكون الهاء ضمير شأن، والجملة بعده تفسيره. (واللَّه مَا بهِ حَرَكَةٌ)، أي: تحرّك، واشتهاء (إِلَى شَيْءٍ) من النساء، (وَواللَّه مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهٍ مَا كَانَ) من هجران الناس له؛ أي: من ابتداء مدّة ذلك الأمر (إِلَى يَوْمِهِ هَذَا) الذي أتيتك في شأنه الآن. (قَالَ) كعب: (فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، واستُشكل هذا مع نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن كلام الثلاثة.

وأجيب: بأنه يَحْتَمِل أن يكون عَبَّر عن الإشارة بالقول، وقيل: لعله بعض ولده، أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللاتي في بيوتهم، أو الذي كلّمه بذلك كان منافقًا، أو كان ممن يخدمه، ولم يدخل في النهي. انتهى

(1)

.

(لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ)؛ أي: في خدمتها، (فَقَدْ أَذِنَ) الفاء تعليليّة؛ أي: لأنه صلى الله عليه وسلم قد أَذِنَ (لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ، قَالَ) كعب: (فَقُلْتُ: لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا) في خدمتها (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا يُدْرِينِي) بضم أوله؛ أي: ما يُعلمني (مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لي (إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا)؛ أي: في خدمتها، هل يردّ علي بالرضا، كما ردّ هلال، أم بالغضب والسخط؟ (وَ) الحال (أَنَا رَجُلٌ شَابٌّ؟) قويّ قادر على خدمة نفسي، أو خائف على نفسي من حِدّة الشباب أن أصيب امرأتي، وقد نُهيت عنها. (قَالَ) كعب:(فَلَبِثْتُ)؛ أي: مكثت (بذَلِكَ) الحال، من هجران الناس لنا، ومفارقة أهلي (عَشْرَ لَيَالٍ، فَكَمُلَ) بفتح الميم، وضمّها، وكسرها، من أبواب قَرُبَ، وضرب، وتَعِب

(1)

"الفتح" 9/ 572، و"عمدة القاري" 18/ 54.

ص: 47

ثلاث لغات، لكن باب تعب أردؤها، قاله الفيّوميّ

(1)

. (لَنَا) معاشر الثلاثة، (خَمْسُونَ لَيْلَةً، مِنْ حِينَ) بالبناء على الفتح؛ لإضافته إلى مبنيّ، ويجوز إعرابه بالجرّ، والباء أرجح، وروي بالوجهين قول الشاعر [من الطويل]:

عَلَى حِينِ عَاتَبْت الْمَشِيبَ عَلَى الصِّبَا

فَقُلْتُ أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازعُ

وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَابْنِ اوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

(نُهِيَ) بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل قوله:(عَنْ كَلَامِنَا) ولفظ البخاريّ: "من حين نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كلامنا". (قَالَ) كعب: (ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ)؛ أي: سطح (بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا) الظاهر أنه لم يتمكّن من الصلاة في المسجد لعذر ما، وإلا فقد سبق أنه قال:"فكنت أخرج، فأشهد الصلاة". (فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ) تقدّم الكلام على "بينا"، و"بينما" غير مرّة، فلا تغفل. (عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عز وجل مِنَّا) في كتابه العزيز، وهو إشارة إلى قوله عز وجل:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)} [التوبة: 118].

ثم شرح مضمون الآية بقوله: (قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ)، أي: وعلى صاحبيّ (نَفْسِي) وأنفسهما، (وَضَاقَتْ عَلَيَّ) وعليهما (الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ)"ما" مصدريّة، و"رحبت" صِلتها؛ أي: مع رَحَبها، وسَعَتها، وقال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: بما اتسعت؛ ومعناه: ضاقت عليّ الأرض مع أنها متسعة، والرحب: السعة. انتهى

(2)

.

وهذا تمثيل للحيرة في أمره، كأنه لم يجد فيها مكانًا يفرّ إليه، قلقًا، وجزعًا، وإذا كان هؤلاء لم يأكلوا مالًا حرامًا، ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، وأصابهم ما أصابهم، فكيف بمن واقع الفواحش والكبائر، قاله القسطلاني

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 541.

(2)

"المفهم" 7/ 150.

(3)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 278 - 279.

ص: 48

[تنبيه]: قال الفيّوميّ رحمه الله: رَحُبَ المكانُ رُحْبًا، من باب قَرُب، فهو رَحِيبٌ، ورَحْبٌ، مثالُ قَرِيب، وفَلْسٍ، وفي لغة: رَحِبَ رَحَبًا، من باب تَعِبَ، وأَرْحَبَ بالألف مثله، ويتعدى بالحرف، فيقال: رَحُبَ بِكَ المكانُ، ثم كَثُر، حتى تعدَّى بنفسه، فقيل: رَحُبَتْكَ الدارُ، هذا شاذّ في القياس، فإنه لا يوجد فَعُل بالضم إلا لازمًا، مثلُ شَرُفَ، وكَرُمَ، ومن هنا قيل: مَرْحَبًا بك، والأصل: نزلت مكانًا واسعًا، ورَحَّبَ بِهِ بالتشديد: قال: له مرحبًا. انتهى

(1)

.

(سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ)؛ أي: منادٍ رافع صوته، قال الذهبيّ رحمه الله: الذي بشّر كعبًا بالتوبة هو حمزة بن عمرو الأسلميّ، وكذا قاله الواقديّ، نقله الشيخ وليّ الدين عنه

(2)

.

وقال في "العمدة": قال الواقديّ: الذي أوفى على سَلْع أبو بكر الصديق رضي الله عنه. انتهى

(3)

.

(أَوْفَى)؛ أي: صَعده، وارتفع عليه، (عَلَى سَلْعٍ)؛ أي: على جبل سَلْع -بفتح السين المهملة، وسكون اللام-: جبل بالمدينة معروف، وفي رواية معمر:"من ذروة سلع"؛ أي: أعلاه، وزاد ابن مردويه:"وكنت ابتنيت خيمة في ظهر سلع، فكنت أكون فيها"، ونحوه لابن عائذ، وزاد:"أكون فيها نهارًا".

(يَقُولُ) ذلك الصارخ (بِأَعْلَى صَوْتهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ)"كعب" يجوز فيه الضمّ، والفتح، وأما ابن مالك، فلا يجوز فيه إلا النصب؛ لكونه مضافًا، قال في "الخلاصة":

وَنَحْوَ زيدٍ ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ أَزَيْدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا

أَوْيَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

(أَبْشِرْ) بقطع الهمزة، من الإبشار، وفي رواية عمر بن كثير، عن كعب، عند أحمد:"إذ سمعت رجلًا على الثنية يقول: كعبًا كعبًا حتى دنا مني، فقال: بشِّروا كعبًا". (قَالَ: فَخَرَرْتُ)؛ أي: أسقطت نفسي على الأرض حال كوني

(1)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(2)

"تنبيه المعلم" ص 454.

(3)

"عمدة القاري" 18/ 54.

ص: 49

(سَاجِدًا) للَّه سبحانه وتعالى، حيث منّ عليّ بقبول توبتي، وعند ابن عائذ:"فخرّ ساجدًا يبكي فرحًا بالتوبة".

قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل للشافعيّ وموافقيه، في استحباب سجود الشكر بكل نعمة ظاهرة، حَصَلت، أو نقمة ظاهرة اندفعت. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذه سجدة الشكر، وظاهر هذا أنها كانت معلومة عنادهم، معمولًا بها فيما بينهم، وقال بها الشافعيّ، ومالك في أحد قوليه، ومشهور مذهبه الكراهة. انتهى.

وقوله: (وَعَرَفْتُ) جملة حاليّة من الفاعل بتقدير "قد"؛ أي: والحال أني قد عرفت بسماع صوته (أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ) من اللَّه تعالى بكشف كربتنا، و"أن" مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف؛ أي: أنه قد جاء فرج، قال في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَن

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ جُمْلَة مِنْ بَعْدِ "أَنْ"

وإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مَمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفْيٍ أَوْ

تَنْفِيسٍ أَوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"

(قَالَ) كعب: (فَآذَنَ) بالمدّ، وفتح المعجمة؛ أي: أعلم، وللكشميهنيّ بغير مدّ، وبالكسر، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ) سبحانه وتعالى (عَلَيْنَا) معاشر الثلاثة.

(حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ)؛ أي: فرغ منها بالتسليم، ووقع في رواية إسحاق بن راشد، ومعمر:"فأنزل اللَّه توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة مُحسنةً في شأني، معتنية بأمري، فقال: يا أم سلمة تِيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه، فأُبَشِّره؟ قال: إذًا يَحْطِمكم الناسُ، فيمنعوكم النوم سائر الليلة، حتى إذا صلى الفجر آذن بتوبة اللَّه علينا".

(فَذَهَبَ النَّاسُ) بعدما سمعوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبر التوبة، والحال أنهم (يُبَشِّرُونَنَا) معاشر الثلاثة.

قال النوويّ رحمه الله: فيه دليل لاستحباب التبشير، والتهنئة لمن تجددت له

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 94.

ص: 50

نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه كربة شديدة، ونحو ذلك، وهذا الاستحباب عامّ في كل نعمة حصلت، وكربة انكشفت، سواء كانت من أمور الدين، أو الدنيا. انتهى

(1)

.

(فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ) بتشديد الياء، تثنية صاحب، وهما: مرارة، وهلال، (مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ويَحْتَمِل أن يكون هو حمزة بن عمرو الأسلميّ

(2)

، وقال في "العمدة": هو الزبير بن العوّام، وقيل: حمزة بن عمرو

(3)

، واللَّه أعلم. انتهى

(4)

.

(إِلَيَّ) بتشديد الياء، (فَرَسًا)، أي: أجراه جريًا قويًّا حتى يسبق غيره بالبشرى، (وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي) قال في "الفتح": هو حمزة بن عمرو، رواه الواقديّ، وعند ابن عائذ: أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر، لكنه صدّره بقوله: زعموا، وعند الواقديّ: وكان الذي أوفى على سَلْع أبا بكر الصديق، فصاح: قد تاب اللَّه على كعب، والذي خرج على فرسه الزبير بن العوّام، قال: وكان الذي بشّرني فنزعت له ثوبي: حمزة بن عمرو الأسلميّ، قال: وكان الذي بشر هلال بن أمية بتوبته: سعيد بن زيد، قال: وخرجت إلى بني واقف، فبشّرته، فسجد، قال سعيد: فما ظننته يرفع رأسه حتى تخرج نَفْسه؛ يعني: لِمَا كان فيه من الجهد، فقد قيل: إنه امتنع من الطعام حتى كان يواصل الأيام صائمًا، ولا يفتر من البكاء، وكان الذي بشّر مرارة بتوبته: سلكان بن سلامة، أو سلمة بن سلامة بن وقش. انتهى

(5)

.

(وَأَوْفَى)، أي: صَعِد (الْجَبَلَ)؛ أي: جبل سَلْع، (فَكَانَ الصَّوْتُ)؛ أي: صوت الذي أوفى على الجبل، (أَسْرَعَ)؛ أي: أسبق إليّ (مِنَ الْفَرَسِ) من

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 95.

(2)

"الفتح" 9/ 572.

(3)

قال في "العمدة" 18/ 54: قال أبو عمر: حمزة بن عمرو الأسلميّ من وَلَدِ أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، يكنى أبا حاتم، ويُعَدّ في أهل الحجاز، مات سنة إحدى وستين، وهو ابن ثمانين سنة، روى عنه أهل المدينة، وكان يسرد الصوم. انتهى.

(4)

"عمدة القاري" 18/ 54.

(5)

"الفتح" 9/ 572 - 573.

ص: 51

وصول الفرس إليّ، (فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ) حال كونه (يُبَشِّرُنِي) بقبول التوبة، وهو حمزة بن عمرو رضي الله عنه، وقوله:(نَزَعْتُ لَهُ) جواب "لَمّا"، وما وقع في بعض النسخ بلفظ:"فنزعت" بالفاء، الظاهر أنه غلط؛ لأن جواب "لَمّا" لا يُقرن بالفاء، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(ثَوْبَيَّ) بتشديد الياء على التثنية، (فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبِشَارَتهِ)؛ أي: بسبب تبشيره إياي، ووقع عند البخاريّ بلفظ:"فكسوته إياهما ببشراه"، وهي الموافِقة للقاعدة؛ إذ الأفصح في باب كسى وأعطى، تقديم الآخذ على المأخوذ، وإن كان يجوز العكس

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب إجازة البشير بخِلْعة، وإلا فبغيرها، والْخِلْعة أحسن، وهي المعتادة. انتهى.

(واللَّه مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ) قال الحافظ رحمه الله: يريد من جنس الثياب، وإلا فقد تقدّم أنه كان عنده راحلتان، وسيأتي أنه استأذن أن يخرج من ماله صدقةً، ثم وجدت في رواية ابن أبي شيبة التصريح بذلك، ففيها:"وواللَّه ما أملك يومئذ ثوبين غيرهما"، وزاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهريّ:"فلبسهما"

(2)

.

(وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ) في رواية الواقديّ: "من أبي قتادة"، (فَلَبِسْتُهُمَا) فيه جواز العارية، وجواز إعارة الثوب للُّبس، قاله النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وكِسوته للبشير ثوبيه، مع كونه ليس له غيرهما دليل على جواز مثل ذلك، إذا ارتجى حصول ما يستبشر به، وهو دليل على جواز إظهار الفرح بأمور الخير، والدين، وجواز البذل والهبات عندها، وقد نَحَر عمر رضي الله عنه لمّا حَفِظ "سورة البقرة" جَزورًا. انتهى

(4)

.

(فَانْطَلَقْتُ)؛ أي: ذهبت من بيتي، حال كوني (أتَأَمَّمُ)؛ أي: أقصد، وهي لغة في أمّم، قال الفيّوميّ رحمه الله: أمّه أمًّا، من باب قتل: قَصَده، وأمّمه،

(1)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 280.

(2)

"الفتح" 9/ 573.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 95.

(4)

"المفهم" 7/ 101.

ص: 52

وتأمّمه أيضًا: قَصَده. انتهى

(1)

. (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حال كوني (يَتَلَقَّانِي النَّاسُ)؛ أي: يستقبلوني في الطريق (فَوْجًا فَوْجًا)؛ أي: جماعة جماعة، حال كونهم (يُهَنِّئُونِي) بنون واحدة، أصله: يهنّئونني بنونين إحداهما: نون الرفع، والثانية نون الوقاية، فحُذفت إحداهما، وهي نون الرفع على الأصحّ، تخفيفًا، وقوله:(بِالتَّوْبَةِ) متعلّق بما قبله، (وَيَقُولُونَ:) في صيغة التهنئة، (لِتَهْنِئْكَ) بكسر النون، وزعم ابن التين أنه بفتحها، بل قال السفاقسيّ: إنه أصوب؛ لأنه مِن يهنأ، وفيه نظر، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال المرتضى رحمه الله: والتَّهْنِئَةُ: خلافُ التَّعْزِيَةِ، تقول: هَنَّأَهُ بالأَمرِ، والوِلايَةِ، تَهْنِئَةً، وتَهْنيئًا، وهَنَأَهُ هَنْأً: إِذا قال له: ليَهْنِئْكَ، والعربُ تقول: ليَهْنِئْكَ الفارِسُ، بجزم الهمزة، وليَهْنيك الفارِسُ بياء ساكنةٍ، ولا يجوز: ليَهْنِك، كما تقول العامَّة؛ أي: لأنَّ الياء بدل من الهمزة، قال: وقد ورد في "صحيح البُخاريّ" في حديث توبَةِ كَعْبِ بن مالكٍ: يقولون: ليَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عليك، ضَبَطه الحافظُ ابنُ حَجَرٍ بكسرَ النون، وزعم ابنُ التين أنَّه بفتحها، وصوَّبه البَرماويّ، ونَظَّره الزَّرْكَشِيّ، فراجع في شرح الحافظ العسقَلانيّ رحمه اللَّه تعالى. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وهَنُؤَ الشّيءُ بالضم، مع الهمز هَنَاءَةً بالفتح، والمدّ: تيسَّر من غير مشقة، ولا عناء، فهو هَنِيٌّ، ويجوز الإبدال، والإدغام، وهَنَأَنِي الولدُ يَهْنَؤُنِي مهموزٌ، من بابَي نفع، وضرب، وتقول العرب في الدعاء: لِيَهْنِئْكَ الولدُ بهمزة ساكنة، وبإبدالها ياءً، وحذفُها عاميّ، ومعناه: سَرَّني، فهو هَانِئٌ، وبه سُمّي، وهَنَأْتُهُ هَنْئًا باللغتين: أعطيته، أو أطعمته، وهَنَأَنِي الطعامُ يَهْنَؤُنِي: ساغ، ولذّ، وأكلته هَنِيئًا مَرِيئًا؛ أي: بلا مشقة، ويَهْنُؤ بضم المضارع في الكل لغةٌ، قال بعضهم: وليس في الكلام يَفْعُل بالضم مهموزًا، مما ماضيه بالفتح، غير هذا الفعل، وهَنَّأْتُهُ بالولد بالتثقيل، وبِاسم المفعول سُمّي. انتهى

(4)

.

(تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ) فيه دليل على جواز التهنئة بأمور الخير، بل على نَدْبيّتها

(1)

"المصباح المنير" 1/ 23.

(2)

"الفتح" 9/ 573.

(3)

"تاج العروس" ص 267.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 642.

ص: 53

إذا كانت دينية، فإنه إظهار السرور بما يُسَرّ به أخوه المسلم، وإظهار المحبة، وتصفية القلب بالمودة، قاله القرطبيّ رحمه الله.

(حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ)؛ أي: فما زال الناس يهنئوني إلى أن دخلت المسجد النبويّ، وقوله:(فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ) النبويّ، (وَ) الحال أن (حَوْلَهُ) صلى الله عليه وسلم (النَّاسُ)؛ أي: الصحابة رضي الله عنهم، (فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مُرّة التيميّ، أبو محمد المدنيّ، أحد العشرة المبشّرين بالجنّة، الصحابيّ المشهور، استُشهد يوم الجمل سنة ست وثلاثين، وهو ابن ثلاث وستين سنةً، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 2/ 109.

حال كونه (يُهَرْوِلُ)؛ أي: يُسرع، يقال: هَرْول هَرْولةً: أسرع في مشيه دون الْخَبَب، ولهذا يقال: هو بين المشي والْعَدْو، وجعل جماعة الواو أصلًا، قال، الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (حَتَّى صَافَحَنِي)، أي: أفضى بيده إلى يدي، (وَهَنَّأَنِي)؛ أي: قال لي: لتهنئك التوبة.

قال النوويّ رحمه الله: فيه استحباب مصافحة القادم، والقيام له، إكرامًا، والهرولة إلى لقائه بشاشةً، وفرحًا. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليلٌ لمن قال بجواز القيام للدّاخل، والمصافحة، وقد بيّنّا الخلاف في ذلك في "الجهاد".

قال كعب: (واللَّه مَا قَامَ) للتهنئة (رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ)؛ أي: طلحة، قالوا: سبب ذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة لَمّا آخى بين المهاجرين والأنصار، والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير، لكن كان الزبير أخا طلحة في إخوة المهاجرين، فهو أخو أخيه، قاله في "الفتح"

(3)

.

(قَالَ) الراوي عن كعب، وهو ولده عبد اللَّه:(فَكَانَ كَعْبٌ لَا يَنْسَاهَا)، أي: لا ينسى تلك الفعلة، وهي قيامه، وهرولته إليه، ومصافحته، وتهنئته، (لِطَلْحَةَ) وقال القرطبيّ رحمه الله:"كان لا ينساها لطلحة"؛ أي: تلك القومة،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 637.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 95.

(3)

"الفتح" 9/ 573.

ص: 54

والبشاشة التي صدرت له منه، ومعناه: أن تلك الفَعْلة أكّدت في قلبه محبّته، وألزمته حُرمته، حتى عدّها من الأيادي الجسيمة، والمِنن العظيمة. انتهى

(1)

.

(قَالَ كَعْبٌ) رضي الله عنه (فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) صلى الله عليه وسلم، ولفظ البخاريّ:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"(وَهُوَ)، أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَبْرُقُ) من باب نصر؛ أي: يلمع، ويضيء (وَجْهُهُ) صلى الله عليه وسلم (مِنَ السُّرُورِ)، أي: من شدّة استبشاره، وفرحه بتوبة اللَّه تعالى على كعب، وصاحبيه، وقوله:(وَيَقُولُ:) هكذا النسخ، والظاهر أنه مؤكّد لـ "قال" الماضي، ولفظ البخاريّ:"قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر. . . " وليس فيه "يقول"، وهو الأصح، فتنبّه. ("أَبْشِرْ) بقطع الهمزة، (بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ") قال النوويّ رحمه الله: معناه: سوى يوم إسلامك، وإنما لم يستثنه؛ لأنه معلوم لا بدّ منه. انتهى.

وقال في "الفتح": استُشكل هذا الإطلاق بيوم إسلامه، فإنه مرّ عليه بعد أن ولدته أمه، وهو خير أيامه، فقيل: هو مستثنى تقديرًا، وإن لم ينطق به؛ لعدم خفائه، والأحسن في الجواب أن يوم توبته مُكمل ليوم إسلامه، فيوم إسلامه بداية سعادته، ويوم توبته مكمل لها، فهو خير جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها، فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير من يوم إسلامه المجرد عنها، واللَّه أعلم. انتهى.

(قَالَ) كعب: (فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ)؛ أي: أهذه البشارة من عندك (أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟) سبحانه وتعالى (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا)؛ أي: ليست من عندي، (بَلْ) هي (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ ") سبحانه وتعالى، زاد في رواية ابن أبي شيبة:"إنكم صَدَقتم اللَّهَ، فَصَدَقكم".

قال كعب رضي الله عنه: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: إذا حصل له الفرح والسرور (اسْتَنَارَ)؛ أي: أضاء (وَجْهُهُ) الشريف، (كَأَنَّ وَجْهَهُ) صلى الله عليه وسلم (قِطْعَةُ قَمَرٍ) وفي رواية إسحاق بن راشد:"حتى كأنه قطعة من القمر"، قال الحافظ: ويسأل عن السرّ في التقييد بالقطعة، مع كثرة ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد، وقد تقدّم في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم تشبيههم له بالشمس طالعةً، وغير ذلك، وكان كعب بن مالك قائلُ هذا من

(1)

"المفهم" 7/ 101.

ص: 55

شعراء الصحابة، وحاله في ذلك مشهورة، فلا بدّ في التقييد بذلك من حِكمة، وما قيل في ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر، ليس بقويّ؛ لأن المراد تشبيهه بما في القمر من الضياء، والاستنارة، وهو في تمامه، لا يكون فيها أقلّ مما في القطعة المجردة، قال: وقد ذُكرت في صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك توجيهات، ومنها: أنه للإشارة إلى موضع الاستنارة، وهو الجبين، وفيه يظهر السرور، كما قالت عائشة:"مسرورًا تبرق أسارير وجهه"، فكأن التشبيه وقع علي، بعض الوجه، فناسب أن يشبّه ببعض القمر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن كون حكمة التقييد للاحتراز من السواد الذي في القمر هو الأقوى، والأوضح مما قاله الحافظ، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) كعب: (وَكُنَّا) معاشر الصحابة (نَعْرِفُ ذَلِكَ)؛ أي: كون استنارة وجىهه صلى الله عليه وسلم علامة على سروه، وفي رواية البخاريّ:"وكنّا نعرف ذلك منه"، وفي، رواية الكشميهنيّ:"فيه"، وفيه ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه من كمال الشفقة على أمته، والرأفة بهم، والفرح بما يسرّهم، وعند ابن مردويه من وجه آخر، عن كعب بن مالك:"لمّا نزلت توبتي أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقبّلت يده، ورُكْبته".

(قَالَ) كعب: (فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي)؛ أي: تمامها وصِدقها، والشكر عليها، (أَنْ أَنْخَلِعَ)؛ أي: أخرج (مِنْ) جمع (مَالِي) حال كونه (صَدَقَةً)، وقال العينيّ:"صدقةً" بالنصب؛ أي: لأجل التصدق، ويجوز أن يكون حالًا، بمعنى متصدقًا. انتهى.

وقال في "الفتح": قوله: "صدقةً" هو مصدر في موضع الحال؛ أي: متصدقًا، أو ضمّن أنخلع معنى أتصدق، وهو مصدر أيضًا. انتهى.

وتعقّب في "المصابيح" كونه مصدرًا، فقال: لا نسلّم أن الصدقة مصدر، بل هي اسم لِمَا يُتصدّق به، ومنه قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} ، وفي "الصحاح": الصدقة: ما يُتصدّق به على الفقراء، فعلى هذا يكون نَصْبها على الحال من "مالي"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 8/ 122.

(2)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 283 - 284.

ص: 56

(إِلَى اللَّهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم) خالصة للَّه تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقوله: "إن من توبتي أن أنخلع إلخ"؛ أي: إن من علامات صدق توبتي، أو من شُكر توبتي أن أتصدق بمالي؛ أي: إن عليّ ذلك، فهي صيغة نذر، والتزام، خرج مخرج الشكر، وابتغاء الثواب، أقرّه عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك جائزًا، ولم يدخل في عموم النذر المنهيّ عنه بقوله:"لا تنذروا" متّفقٌ عليه، وقد بيّنا ذلك فيما تقدّم، وعلى مقتضى هذا اللفظ فقد وجب عليه إخراج كل ماله، لكن لمّا كان ذلك يؤدي إلى أن يبقى فقيرًا محتاجًا، وربما يفضي به ذلك إلى سؤال الناس، والى الدخول في مفاسد، اكتفى الشرع منه ببعضه، فقال:"أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك"، وهذا البعض الذي أمره بإمساكه هو أكثر، والمتصدَّق به هو الأقل، كما قال في حديث سعد رضي الله عنه:"الثلث، والثلث كثير"، متّفقٌ عليه، كما تقدم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلخ": معنى أنخلع منه: أخرج منه، وأتصدق به، وفيه استحباب الصدقة شكرًا للنعم المتجددة، لا سيما ما عَظُم منها، وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتصار على الصدقة ببعضه؛ خوفًا من تضرره بالفقر، وخوفًا أن لا يصبر على الإضاقة، ولا يخالف هذا صدقة أبي بكر رضي الله عنه بجميع ماله، فإنه كان صابرًا راضيًا.

[فإن قيل]: كيف قال: "أنخلع من مالي"، فأثبت له مالًا مع قوله أوّلًا:"نزعت ثوبيّ، واللَّه ما أملك غيرهما"؟.

[فالجواب]: أن المراد بقوله: "أن أنخلع من مالي" الأرض، والعقار، ولهذا قال:"فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".

وأما قوله: "ما أملك غيرهما" فالمراد به من الثياب، ونحوها، مما يُخلع، ويليق بالبشير.

وفيه دليل على تخصيص اليمين بالنية، قال: وهو مذهبنا، فإذا حلف لا مال له، ونوى نوعًا لم يحنث بنوع آخر من المال، أو لا يأكل، ونوى تمرًا،

(1)

"المفهم" 7/ 102.

ص: 57

لم يحنث بالخبز. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ") وفي رواية أبي داود، عن كعب أنه قال:"إن من توبتي أن أخرج من مالي كله إلى اللَّه، ورسوله، صدقةً، قال: لا، قلت: نصفه، قال: لا، قلت: فثلثه، قال: نعم".

ولابن مردويه من طريق ابن عيينة، عن الزهريّ:"فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك من ذلك الثلث"، ونحوه لأحمد في قصة أبي لبابة، حين قال:"إن من توبتي أن أنخلع من مالي كلّه صدقة للَّه، ورسوله، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث".

(قَالَ) كعب: (فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِيَ الَّذِي بِخَيْبَرَ)، يعني: سهمه الذي حصل له من قسمة غنيمة خيبر، وهي بخاء معجمة، وتحتانية، وموحّدة، بوزن جعفر، وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، قال ابن إسحاق: خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم في بقية المحرم سنة سبع، فأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة، إلى أن فتحها في صفر، وروى يونس بن بكير في "المغازي" عن ابن إسحاق في حديث المسور ومروان، قالا: انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، فنزلت عليه "سورة الفتح" فيما بين مكة والمدينة، فأعطاه اللَّه فيها خيبر بقوله:{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني: خيبر، فقَدِم المدينة في ذي الحجة، فأقام بها، حتى سار إلى خيبر في المحرَّم، ذكره في "الفتح"

(2)

.

(قَالَ) كعب: (وَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ)؛ أي: بسبب صدقي في إخبارك بعدم العذر لي في التخلّف عنك، (وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي)؛ أي: من تمامها، وصِدقها، (أَنْ لَا أُحَدِّثَ) من التحديث؛ أي: لا أخبر الناس (إِلَّا صِدْقًا)؛ أي: قولًا صادقًا (مَا بَقِيتُ) بكسر القاف، و"ما" مصدريّة ظرفيّة، أي: مدّة بقائي في الدنيا. (قَالَ) كعب: (فَواللَّه مَا) نافية، (عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ)، أي: أعطاه، وأنعم عليه (فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ)"في" بمعنى

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 96 - 97.

(2)

"الفتح" 9/ 295، "كتاب المغازي" رقم (4195).

ص: 58

الباء؛ أي: بصدق الحديث، (مُنْذُ ذَكَرْتُ)؛ أي: من وقت ذكري (ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا)؛ يعني: اليوم الذي حدّث فيه بهذا الحديث، (أَحْسَنَ مِمَّا أَبْلَانِي اللَّهُ بِهِ)؛ أي: بصدق الحديث، و"أحسن" نعت لمصدر محذوف؛ أي: إبلاء أحسن.

والمعنى: ما علمت أحدًا من المسلمين أبلاه اللَّه تعالى بصدق الحديث إبلاء أحسن مما أبلاني اللَّه تعالى به من وقت ذِكري ذلك الأمر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا الذي أتحدّث فيه الآن.

وقال في "الفتح": قوله: "فواللَّه ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه اللَّه"؛ أي: أنعم عليه، وقوله:"في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني"، وكذلك قوله بعد ذلك:"فواللَّه ما أنعم اللَّه عليّ من نعمة قط بعد أن هداني إلى الإسلام أعظم من صدقي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" ففي قوله: أحسن، وأعظم شاهد على أن هذا السياق يُورَد، ويراد به نفي الأفضلية، لا المساواة؛ لأن كعبًا شاركه في ذلك رفيقان-؛ أي: مرارة، وهلال- وقد نفى أن يكون أحد حصل له أحسن مما حصل له، وهو كذلك، لكنه لم ينف المساواة. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "أبلاه اللَّه تعالى إلخ"؛ أي: أنعم عليه، والبلاء، والإبلاء يكون في الخير، والشرّ، لكن إذا أُطلق كان للشرّ غالبًا، فإذا أريدَ الخير قُيِّد كما قيّده هنا، فقال:"أحسن مما أبلاني". انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فما أعلم أحدًا أبلاه اللَّه"؛ أي: أنعم عليه، ومنه قوله تعالى:{وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] أي: نعمة، ويقال في الخير والشرّ، ثلاثيًّا، ورباعيًّا، وقد جمع بينهما زهير، فقال [من الطويل]:

جَزَى اللَّهُ بِالإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ .... وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو

وأصله من الابتلاء، وهو الامتحان، والاختبار، ويمتحن بالخير والشرّ، كما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]. انتهى

(3)

.

(1)

"الفتح" 9/ 574 - 575.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 97.

(3)

"المفهم" 7/ 103.

ص: 59

(واللَّه مَا تَعَمَّدْتُ كِذْبَةً) بفتح الكاف، وكسرها، مع سكون الذال، من مصادر كذب، والأَولى هنا على ما يقتضيه سياق الكلام أن يكون بفتح الكاف مرادًا به المرّة من الكذب؛ لأن الكلام سيق لمبالغة نفي الكذب، فالمرة أَولى، واللَّه تعالى أعلم.

(مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى يَوْمِي هَذَا، وإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنيَ اللَّهُ) بفضله، وكرمه من الكذب (فِيمَا بَقِيَ)، أي: من عمري.

(قَال) كعب: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل) في هذه القضيّة قوله تعالى: ({لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} [التوبة: 117])؛ أي: فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين، وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن، وقعت منه أو له؛ لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار، وقد تكون التوبة منه تعالى على النبيّ صلى الله عليه وسلم من باب أنه ترك ما هو الأَولى، والأليق، كما في قوله:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ويجوز أن يكون ذَكَر النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب، ويتوبوا عما قد لابسوه منها، وكذلك تاب اللَّه سبحانه وتعالى ({وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار}) فيما قد اقترفوه من الذنوب، ومن هذا القبيل ما صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"إن اللَّه اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"، ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم ({الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ})؛ أي: اتبعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يتخلفوا عنه ({فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}) هي غزوة تبوك، فإنهم كانوا في عسرة شديدة، فالمراد بالساعة: جميع أوقات تلك الغزاة، ولم يُرِدْ ساعة بعينها، والعسرة: صعوبة الأمر.

({مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}) في {كَادَ} ضمير الشأن، و {قُلُوبُ} مرفوع {يَزِيغُ} عند سيبويه، وقيل: هي مرفوعة بـ {كَادَ} ، ويكون التقدير: من بعد ما كاد قلوب فريق منهم تزيغ، وقرأ الأعمش، وحمزة، وحفص:"يزيغ" بالتحتية. قال أبو حاتم: من قرأ بالياء التحتية، فلا يجوِز له أن يرفع القلوب بـ {كَادَ} ، قال النحاس: والذي لم يُجزه جائز عند غيره، على تذكير الجمع، ومعنى {يَزِيغُ} تتلف بالجهد، والمشقة، والشدّة، وقيل: معناه: تميل عن الحقّ، وتَتْرك المناصرة، والممانعة، وقيل: معناه: تَهُمّ بالتخلف عن الغزو، لِمَا هم فيه من الشدّة العظيمة.

ص: 60

وفي قراءة ابن مسعود: "من بعد ما زاغت"، وهم المتخلفون على هذه القراءة، وفي تكرير التوبة عليهم بقوله:({ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]) تأكيد ظاهر، واعتناء بشأنها، هذا إن كان الضمير راجعًا إلى من تقدّم ذكر التوبة عنهم، وإن كان الضمير إلى الفريق، فلا تكرار، قاله الشوكاني رحمه الله

(1)

.

({وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا})؛ أي: وتاب على الثلاثة الذين خلّفوا؛ أي: أُخِّروا، ولم تُقبل توبتهم في الحال، كما قُبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم، قال ابن جرير: معنى خُلّفوا: تُركوا، يقال: خَلَّفت فلانًا: فارقته. وقرأ عكرمة بن خالد: "خلفوا" بالتخفيف؛ أي: أقاموا بعد نهوض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو. وقرأ جعفر بن محمد: "خالفوا"، وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، أو ابن ربيعة العامريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، وكلهم من الأنصار، لم يَقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم توبتهم، حتى نزل القرآن بأن اللَّه قد تاب عليهم. وقيل: معنى {خُلِّفُوا} [التوبة: 118]: فسدوا، مأخوذ من خُلوف الفم.

({حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ}) معناه: أنهم أُخّروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، و"ما" مصدرية؛ أي: برحبها، لإعراض الناس عنهم، وعدم مكالمتهم من كل أحد؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم، والرحب: الواسع، يقال: منزل رحب، ورحيب، ورحاب، وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديبًا لهم؛ لينزجروا عن المعاصي.

{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} معنى ضِيق أنفسهم عليهم: أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة، وبما حصل لهم من الجفوة.

وقوله: (حَتَّى بَلَغَ)؛ أي: قرأ كعب الآية من أولها إلى أن بلغ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} وتمام القراءة: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 3/ 331.

ص: 61

الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، وعبَّر بالظن في قوله:{وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118] عن العلم، أي: عَلِموا أن لا ملجأ يلجؤون إليه قط، إلا إلى اللَّه سبحانه وتعالى بالتوبة، والاستغفار، وقوله:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} [التوبة: 118]؛ أي: رجع عليهم بالقبول والرحمة، وأنزل في القرآن التوبة عليهم؛ ليستقيموا، أو وَفّقهم للتوبة فيما يُستقبل من الزمان، إن فَرَطت منهم خطيئة، ليتوبوا عنها، ويرجعوا إلى اللَّه فيها، ويندموا على ما وقع منهم. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ} [التوبة: 118] أي: الكثير القبول لتوبة التائبين، {الرَّحِيمُ}؛ أي: الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده.

وقوله تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين} هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة اللَّه تعالى، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم

(1)

.

(قَالَ كَعْبٌ) رضي الله عنه: (واللَّه مَا أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطُّ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللَّهُ لِلإِسْلَامِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهُ صلى الله عليه وسلم) بنصب "رسول" مفعولًا به لـ "صدقي"؛ لأنه يعمل عَمَل فِعله، كما قال في "الخلاصة":

بفِعْلِهِ الْمَصْدَرَ أَلْحِقْ فِي الْعَمَلْ

مُضَافًا أَوْ مُجَرَّدًا أَوْ مَعَ "أَلْ"

إِنْ كَانَ فِعْلٌ مَعَ "أَنْ" أَوْ "مَا" يَحُلّ

مَحَلَّهُ وَلاسْمِ مَصْدَرٍ عَمَلْ

(أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْتُهُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم، وكثبر من روايات البخاريّ، قال العلماء: لفظة "لا"

(2)

في قوله: "أن لا أكون" زائدة، ومعناه: أن أكون كذبته؛ كقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ بعد ذكر ما ذكره النوويّ: وقد رواه الأصيليّ عن البخاريّ: "إلا أن أكون كذبته"، وليست بشيء، والأول هو الصواب

(4)

.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 3/ 331.

(2)

وأما ما ادّعاه الشيخ الهرريّ في شرحه من كون "لا" أصليّة، وردّ على النووي في كونها زائدة، ففيه نظر لا يخفى، فتأمل ركاكة عبارته 25/ 286.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 98.

(4)

"المفهم" 7/ 103.

ص: 62

وقال في "العمدة": قوله: "أن لا أكون" بدل من قوله: "من صدقي"؛ أي: ما أنعم أعظم من عدم كذبي، ثم عدم هلاكي. انتهى

(1)

.

(فَأَهْلِكَ) بالنصب عطفًا على "أكونَ"، وهو بكسر اللام، وفتحها، قال المجد رحمه الله: هَلَكَ، كضَرَبَ، ومَنَعَ، وعَلِمَ، هُلْكًا بالضم، وهَلاكًا، وتُهْلُوكًا، وهُلوكًا، بضمّهما، ومَهْلَكَة، وتَهْلَكَةً مُثَلَّثَتَي اللامِ: ماتَ، وأهْلَكَهُ، واسْتَهْلَكَهُ، وهَلَّكَهُ، وهَلَكَهُ يَهْلِكُهُ، لازِمٌ، مُتَعَدٍ. انتهى

(2)

.

(كَمَا هَلِكَ) كضرب، ومنع، وعلم، (الَّذِينَ كَذَبُوا) بتخفيف الذال؛ أي: حدّثوا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالكذب، حيث اعتذروا عن تخلّفهم عنه بأعذار مكذوبة، وهم المنافقون، وكانوا نيّفًا وثمانين رجلًا، كما سبق بيانه. (إِنَّ اللَّهَ) عز وجل (قَالَ لِلَّذِينَ)، أي: في بيان شأن الذين (كَذَبُوا) بتخفيف الذال أيضًا، (حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ) على رسوله صلى الله عليه وسلم (شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ) "شرّ" منصوب على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قال قولًا شرَّ ما قال لأحد؛ أي: شرّ ما قال لأحد من الناس، وقال في "العمدة"؛ أي: قال قولًا شرّ ما قال، بالإضافة؛ أي: شرّ القول الكائن لأحد من الناس، ثم بَيّن ذلك بقوله، (وَقَالَ اللَّهُ) عز وجل، وأعاد القول للتأكيد، ({سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95 - 96]).

قال الإمام ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم، {قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} [التوبة: 94]، أي: لن نصدقكم، {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94]؛ أي: قد أعلمنا اللَّه أحوالكم، {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94]؛ أي: سيُظهر أعمالكم للناس في الدنيا، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]؛ أي: فيُخبركم بأعمالكم، خيرِها وشرِّها، ويجزيكم عليها.

ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين؛ لتعرضوا عنهم، فلا تُؤَنِّبُوهم،

(1)

"عمدة القاري" 18/ 55.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1237.

ص: 63

{فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} احتقارًا لهم، {إِنَّهُمْ رِجْسٌ}؛ أي: خُبثاء، نجس بواطنهم واعتقاداتهم، {وَمَأْوَاهُمْ} في آخرتهم {جَهَنَّمُ} ، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: من الآثام، والخطايا.

وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم لهم، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]؛ أي: الخارجين عن طاعته تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الفسق هو الخروج، ومنه سميت الفأرة "فُوَيسقة"؛ لخروجها من جُحرها للإفساد، ويقال:"فسقت الرطبة": إذا خرجت من أكمامها. انتهى

(1)

.

وقال العلامة الشوكانيّ رحمه الله في "تفسيره": ثم ذكر أن هؤلاء المعتذرين بالباطل سيؤكدون ما جاؤوا به من الأعذار الباطلة بالحلف عند رجوع المؤمنين إليهم من الغزو، وغرضهم من هذا التأكيد هو: أن يُعرض المؤمنون عنهم، فلا يوبخونهم، ولا يؤاخذونهم بالتخلف، ويُظهرون الرضا عنهم، كما يفيده ذكر الرضا من بعدُ، وحذف المحلوف عليه لكون الكلام يدلّ عليه، وهو اعتذارهم الباطل، وأمْر المؤمنين بالإعراض عنهم المراد به: تَرْكهم، والمهاجرة لهم، لا الرضا عنهم، والصفح عن ذنوبهم، كما تفيده جملة:{إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الواقعة علة للأمر بالإعراض، والمعنى: أنهم في أنفسهم رجس؛ لكون جميع أعمالهم نجسة، فكأنها قد صيرت ذواتهم رجسًا، أو أنهم ذوو رجس، أي: ذوو أعمال قبيحة، ومثله:{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] وهؤلاء لمّا كانوا هكذا كانوا غير. متأهلين لقبول الإرشاد إلي الخير، والتحذير من الشرّ، فليس لهم إلا الترك، وقوله:{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} من تمام التعليل؛ فإن من كان من أهل النار لا يجدي فيه الدعاء إلى الخير، والمأوى كل مكان يأوي إليه الشيء، ليلًا أو نهارًا، وقد أوى فلان إلى منزله يأوي أُوِيًّا، وإيواء، {جَزَاءً} منصوب على المصدرية، أو على العلّية، والباء في {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} للسببية، وجملة:{يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بدل مما تقدّم، وحذف هنا المحلوف به؛ لكونه معلومًا مما سبق، والمحلوف عليه لمثل ما تقدّم، وبيَّن سبحانه أن مقصدهم بهذا الحلف هو رضا المؤمنين عنهم، ثم ذكر ما يفيد أنه لا يجوز الرضا عن هؤلاء

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 201.

ص: 64

المعتذرين بالباطل، فقال:{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ} كما هو مطلوبهم مساعدةً لهم، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وإذا كان هذا هو ما يريده اللَّه سبحانه من عدم الرضا على هؤلاء الفسقة العصاة، فينبغي لكم أيها المؤمنون أن لا تفعلوا خلاف ذلك، بل واجب عليكم أن لا ترضوا عنهم، على أن رضاكم عنهم لو وقع لكان غير معتدّ به، ولا مفيد لهم، والمقصود من إخبار اللَّه سبحانه بعدم رضاه عنهم، نهي المؤمنين عن ذلك؛ لأن الرضا على من لا يَرضَى اللَّه عليه مما لا يفعله مؤمن. انتهى

(1)

.

(قَالَ كَعْبٌ) رضي الله عنه: (كُنَّا خُلِّفْنَا) بالبناء للمفعول؛ أي: أُخّر أمر توبتنا، ولفظ البخاريّ:"تخلّفنا"، أخصّ (أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ)؛ يعني: نفسه، ومُرارة، وهلالًا رضي الله عنهم، فـ "أيّ" في محلّ نصب بعامل محذوف مبنيّ على الضمّ، لِشَبهها بالحرف شبهًا افتقاريًّا، وكانت حركتها ضمّة؛ لشَبَهها بأسماء الغايات، كقبلُ وبعدُ، و"ها" حرف تنبيه زِيد تعويضًا عما فات "أيّ" من الإضافة، و"الثلاثة" صفة "أيّ" تبعه باللفظ

(2)

؛ أي: أُخّر، وأُرجئ أمر توبتنا معاشر الثلاثة (عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ) المنافقين (الَّذِينَ قَبِلَ) بكسر الموحّدة، (مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) اعتذارهم (حِينَ حَلَفُوا لَهُ) على أن تخلّفهم كان لعذر (فَبَايَعَهُمْ)؛ أي: جدّد مبايعتهم لنصرة الإسلام، والجهاد في سبيل اللَّه عز وجل، (وَاسْتَغفرَ لَهُمْ)؛ أي: طلب من اللَّه تعالى أن يغفر لهم ما سلف من التخلّف، (وَأَرْجَأَ) بالجيم والهمزة، أي: أخّر (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا) معاشر الثلاثة (حَتَّى قَضَى اللَّهُ) سبحانه وتعالى، أي: حكم (فِيهِ)؛ أي: في أمرنا، فتاب علينا، (فَبِذَلِكَ)؛ أي: بسبب بيان أمرنا (قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118])؛ أي: ولقد تاب اللَّه على الثلاثة الذين خُلّفوا، أي: أُخّر أمر توبتهم، قال كعب رضي الله عنه مبيّنًا معنى "خلّفوا":(وَلَيْسَ) الأمر (الَّذِي ذكَرَ اللَّهُ) سبحانه وتعالى في هذه الآية هي: (مِمَّا خُلِّفْنَا) بالبناء للمفعول، أي: من تخليفنا، وهو بيان لـ "ما"، (تَخَلُّفَنَا) بالنصب على أنه خبر "ليس"، (عَنِ الْغَزْوِ) متعلّق بما قبله، (وَإِنَّمَا هُوَ)؛ أي: تخليفنا

(1)

"فتح القدير" 3/ 305.

(2)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 287.

ص: 65

المذكور في الآية (تَخْلِيفُهُ)؛ أي: تأخير اللَّه (إِيَّانَا) في التوبة، (وَإِرْجَاؤُهُ) عطف على "تخليفه" عطف مؤكّد، وإضافته من إضافة المصدر إلى فاعله، ونصب قوله:(أَمْرَنَا) على المفعوليّة، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ

كَمِّلْ بَنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ

وقوله: (عَمَّنْ حَلَفَ) متعلّق بـ "إرجاء"، (لَهُ) صلى الله عليه وسلم حلف كذب، (وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ) بأعذار كاذبة، (فَقَبِلَ) صلى الله عليه وسلم (مِنْهُ)؛ أي: ممن حلف، واعتذر، وهم المنافقون.

وحاصله: أن كعبًا رضي الله عنه فسّر قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} ؛ أي: أُخِّروا حتى تاب اللَّه عليهم، لا أن المراد أنهم خُلِّفوا عن الغزو، وفي تفسير عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع عكرمة في قوله تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} قال: خُلِّفوا عن التوبة، ولابن جرير من طريق قتادة نحوه، قال ابن جرير: فمعنى الكلام: لقد تاب اللَّه على الذين أُخِّرت توبتهم. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6990 و 6991 و 6992 و 6993](2769)، و (البخاريّ) في "الوصايا"(2757) و"الجهاد"(2947 و 2948 و 2949 و 2950 و 3088) و"المناقب"(3556) و"مناقب الأنصار"(3889) و"المغازي"(3951 و 4418) و"التفسير"(4673 و 4676 و 4677 و 4678) و"الاستئذان"(6255) و"الأيمان والنذور"(6690) و"الأحكام"(7225) وفي "الأدب المفرد"(944)، و (أبو داود) في "الطلاق"(2202) و"الجهاد"(2773) و"الأيمان والنذور"(3317 و 3320)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3101)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3422 و 3426) و"الأيمان والنذور"(3824 و 3826) وفي "الكبرى"(1/ 266)، و (ابن ماجه) في "الصلاة"(1393)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 400)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 386 و 390)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(14/ 540 - 545)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2242)،

ص: 66

و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3370)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(17449)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(19/ 96 و 97 و 98 و 99 و 100 و 101 و 103 و 104 و 105 و 106 و 107 و 108 و 109 و 110 و 133 و 134 و 135 و 136)، و (الدارقطنيّ) في "سننه"(2/ 5)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 181)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1676)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده، وإن كان بعضها تقدّم، إلا أن كونها في محلّ واحد أنفع، وأيسر

(1)

:

1 -

(منها): إباحة الغنيمة لهذه الأمة؛ لقوله: "خرجوا يريدون عِير قريش".

2 -

(ومنها): بيان فضيلة أهل بدر، وأهل العقبة.

3 -

(ومنها): جواز الحلف من غير استحلاف، في غير الدعوى عند القاضي.

4 -

(ومنها): أنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يُوَرِّيَ بغيرها؛ لئلا يسبقه الجواسيس، ونحوهم بالتحذير، إلا إذا كانت سفرة بعيدة، فيستحب أن يُعرِّفهم البعد، ليتأهبوا.

5 -

(ومنها): التأسف على ما فات من الخير، وتمنّي المتأسف أنه كان فعله؛ لقوله:"فيا ليتني فعلتُ".

6 -

(ومنها): مشروعيّة ردّ غِيبة المسلم، لقول معاذ رضي الله عنه:"بئسما قلت".

7 -

(ومنها): بيان فضيلة الصدق، وملازمته، وإن كان فيه مشقة، فإن عاقبته خير، "وإن الصدق يَهدي إلى البرّ، والبرّ يَهدي إلى الجنة"، كما ثبت في الصحيح.

8 -

(ومنها): بيان استحباب صلاة القادم من سفر ركعتين، في مسجد مَحِلّته أولَ قدومه قبل كل شيء.

9 -

(ومنها): أنه يستحب للقادم من سفر، إذا كان مشهورًا يقصده الناس

(1)

تقدّم بعض هذه الفوائد، وإنما أعدته؛ ليكون كلّه مجموعًا في محلّ واحد، فتكون الاستفادة منه أكثر، وأتمّ، فتنبّه.

ص: 67

للسلام عليه، أن يقعد لهم في مجلس بارزٍ، سهل الوصول إليه.

10 -

(ومنها): بيان أن الحُكم بالظاهر، واللَّه يتولى السرائر.

11 -

(ومنها): قبول معاذير المنافقين، ونحوهم، ما لم يترتب على ذلك مفسدة.

12 -

(ومنها): استحباب هِجران أهل البدع، والمعاصي الظاهرة، وترك السلام عليهم، ومقاطعتهم؛ تحقيرًا لهم، وزجرًا.

13 -

(ومنها): استحباب بكاء الإنسان على نفسه، إذا وقعت منه معصية.

14 -

(ومنها): بيان أن مسارقة النظر في الصلاة، والالتفات لا يبطلها.

15 -

(ومنها): أن السلام يُسَمَّى كلامًا، وكذلك ردّ السلام، وأن من حلف لا يكلم إنسانًا، فسلّم عليه، أو ردّ عليه السلام يحنث.

16 -

(ومنها): وجوب إيثار طاعة اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على مودّة الصديق، والقريب، وغيرهما، كما فعل أبو قتادة رضي الله عنه حين سَلّم عليه كعب، فلم يردّ عليه حيث نُهِي عن كلامه.

17 -

(ومنها): أنه إذا حلف لا يكلّم إنسانًا، فتكلم، ولم يقصد كلامه، بل قصد غيره، فسمع المحلوف عليه لم يحنث الحالف؛ لقوله:"اللَّه أعلم"، فإنه محمول على أنه لم يقصد كلامه، كما سبق.

18 -

(ومنها): جواز إحراق ورقةٍ، فيها ذِكر اللَّه تعالى؛ لمصلحة، كما فعل عثمان والصحابة رضي الله عنهم بالمصاحف التي هي غير مصحفه الذي أجمع معظم الصحابة عليه، وكان ذلك صيانةً، فهي حاجة، وموضع الدلالة من حديث كعب رضي الله عنه أنه أحرق الورقة، وفيها:"لم يجعلك اللَّه بدار هوان".

19 -

(ومنها): إخفاء ما يُخاف من إظهاره مفسدة، وإتلافه.

20 -

(ومنها): أن قوله لامرأته: "الحقي بأهلك" ليس بصريح طلاق، ولا يقع به شيء، إذا لم ينو.

21 -

(ومنها): جواز خدمة المرأة زوجها برضاها، وذلك جائز له بالإجماع، فأما إلزامها بذلك فلا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال النوويّ: "فإما إلزامها فلا"، وفيه نظر لا يخفى على المنصف، فقد قدّمت أن الصواب في هذه المسألة قول من قال

ص: 68

بوجوب خدمة المرأة زوجها، كما هو نصّ قوله تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية [البقرة: 228]، والمعروف في وقت نزول الآية أن المرأة تخدم زوجها، كما في قصّة فاطمة رضي الله عنها، حيث كانت تطحن، حتى تأثّرت يدها، فجاءت تطلب الخادم منه صلى الله عليه وسلم، فلم يُعطها، بل ثبّتها على الطحن، وقصّة عائشة رضي الله عنها حيث كانت تفتل قلائد هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقصّة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما حيث كانت تَحمل النوى من أرض الزبير تعلف فرسه، وكل هذا في "الصحيح"، فالقول بعدم الوجوب قول مخالف لنصوص كثيرة بلا نصّ، وقد استوفيت البحث في هذا في غير هذا المحلّ، وللَّه الحمد والمنّة.

22 -

(ومنها): استحباب الكنايات في ألفاظ الاستمتاع بالنساء، ونحوها.

23 -

(ومنها): الورع، والاحتياط بمجانبة ما يُخاف منه الوقوع في منهيّ عنه؛ لأن كعبًا رضي الله عنه لم يستأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في خدمة امرأته له، وعلَّل ذلك بأنه شابّ؛ أي: لا يأمن مواقعتها، وقد نُهي عنها.

24 -

(ومنها): استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة، أو اندفاع بلية ظاهرة، وهو مذهب الشافعيّ، وطائفة، وقال أبو حنيفة، وطائفة: لا يُشرع، وهو قول ضعيف، لمخالفته لحديث كعب رضي الله عنه هذا، ولِمَا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقد أخرج ابن ماجه، وصححه ابن حبّان، عن أبي بكرة رضي الله عنه:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يَسُرّه -أو يُسَرّ به- خَرّ ساجدًا شكرًا للَّه تبارك وتعالى"

(1)

.

25 -

(ومنها): استحباب التبشير بالخير.

26 -

(ومنها): استحباب تهنئة من رزقه اللَّه خيرًا ظاهرًا، أو صرف عنه شرًّا ظاهرًا.

27 -

(ومنها): استحباب إكرام المبشِّر بخلعة، أو نحوها.

28 -

(ومنها): أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية، فإذا حلف لا مال له، ونوى نوعًا لم يحنث بنوع من المال غيرِهِ، وإذا حلف لا يأكل، ونوى خبزًا لم

(1)

حسّنه الشيخ الألباني رحمه الله.

ص: 69

يحنث باللحم، والتمر، وسائر المأكول، ولا يحنث إلا بذلك النوع، وكذلك لو حلف لا يُكلِّم زيدًا، ونوى كلامًا مخصوصًا لم يحنث بتكليمه إياه غير ذلك الكلام المخصوص، قال النوويّ: وهذا كله متّفقٌ عليه عند أصحابنا، ودليله من هذا الحديث قوله في الثوبين:"واللَّه ما أملك غيرهما"، ثم قال بعده في ساعة:"إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً"، ثم قال:"فإني أمسك سهمي الذي بخيبر".

29 -

(ومنها): جواز العارية.

30 -

(ومنها): جواز استعارة الثياب للّبس.

31 -

(ومنها): مشروعيّة اجتماع الناس عند إمامهم، وكبيرهم في الأمور المهمة، من بشارة، ومشورة، وغيرهما.

32 -

(ومنها): استحباب القيام للوارد إكرامًا له، إذا كان من أهل الفضل بأيّ نوع كان، قال النوويّ: وقد جاءت به أحاديث، جمعتها في جزء مستقلّ بالترخيص فيه، والجواب عما يُظنّ به مخالفًا لذلك.

33 -

(ومنها): استحباب المصافحة عند التلاقي، وهي سُنَّة بلا خلاف.

34 -

(ومنها): استحباب سرور الإمام، وكبير القوم بما يُسَرّ به أصحابه، وأتباعه.

35 -

(ومنها): أنه يستحبّ لمن حصلت له نعمة ظاهرة، أو اندفعت عنه كربة ظاهرة، أن يتصدق بشيء صالح من ماله؛ شكرًا للَّه تعالى على إحسانه، قال النوويّ: وقد ذكر أصحابنا أنه يستحب له سجود الشكر، والصدقة جميعًا، وقد اجتمعا في هذا الحديث.

36 -

(ومنها): أنه يستحب لمن خاف أن لا يصبر على الإضاقة أن لا يتصدق بجميع ماله، بل ذلك مكروه له.

37 -

(ومنها): أنه يستحب لمن رأى مَن يريد أن يتصدق بكل ماله، ويخاف عليه أن لا يصبر على الإضاقة أن ينهاه عن ذلك، ويشير عليه ببعضه.

38 -

(ومنها): أنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ على ذلك السبب، فهو أبلغ في تعظيم حرمات اللَّه تعالى، كما فَعَل كعب رضي الله عنه في الصدق، واللَّه أعلم.

ص: 70

39 -

(ومنها): جواز الغزو في الشهر الحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غزاها في شهر رجب سنة تسع.

40 -

(ومنها): أن الإمام إذا استنفر الجيش عمومًا لزمهم النفير، ولحق اللوم بكل فرد فرد أن لو تخلف.

41 -

(ومنها): أن العاجز عن الخروج بنفسه، أو بماله، لا لوم عليه.

42 -

(ومنها): استخلاف من يقوم مقام الإمام على أهله، والضعفة.

43 -

(ومنها): ترك قتل المنافقين، ويُستنبط منه ترك قتل الزنديق، إذا أظهر التوبة، وأجاب من أجازه بأن الترك كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمصلحة التأليف على الإسلام.

44 -

(ومنها): عِظَم أمر المعصية، وقد نبّه الحسن البصريّ على ذلك، فيما أخرجه ابن أبي حاتم عنه، قال: يا سبحان اللَّه ما أكل هؤلاء الثلاثة مالًا حرامًا، ولا سفكوا دمًا حرامًا، ولا أفسدوا في الأرض، أصابهم ما سمعتم، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر.

45 -

(ومنها): أن القويّ في الدين يؤاخذ بأشدّ مما يؤاخذ الضعيف في الدين.

46 -

(ومنها): جواز إخبار المرء عن تقصيره، وتفريطه، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره؛ تحذيرًا، ونصيحةً لغيره.

47 -

(ومنها): جواز مَدْح المرء بما فيه من الخير، إذا أَمِن الفتنة، وتسلية نفسه بما لم يحصل له بما وقع لنظيره.

48 -

(ومنها): جواز ترك وطء الزوجة مدّةً؛ للحاجة.

49 -

(ومنها): أن المرء إذا لاحت له فُرصة في الطاعة، فحقّه أن يبادر إليها، ولا يُسَوِّف بها؛ لئلا يُحْرَمها، كما قال تعالى:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} الآية [الأنفال: 24]، ومثله قوله تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية [الأنعام: 110]، ونسأل اللَّه تعالى أن يُلهمنا المبادرة إلى طاعته، وأن لا يسلبنا ما خَوّلنا من نعمته، آمين.

50 -

(ومنها): أن الإمام لا يُهمل من تخلَّف عنه في بعض الأمور، بل يُذَكِّره؛ ليراجع التوبة.

ص: 71

51 -

(ومنها): جواز الطعن في الرجل بما يَغلب على اجتهاد الطاعن عن حمية للَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

52 -

(ومنها): جواز الردّ على الطاعن إذا غلب على ظنّ الرادّ، وَهْمُ الطاعن، أو غلطه.

53 -

(ومنها): استحباب بكاء العاصي؛ أَسَفًا على ما فاته من الخير.

54 -

(ومنها): أن التبسم قد يكون عن غضب، كما يكون عن تعجب، ولا يختص بالسرور.

55 -

(ومنها): معاتبة الكبير أصحابه، ومن يَعِزّ عليه دون غيره.

56 -

(ومنها): العمل بمفهوم اللقب، إذا حفّته قرينة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمّا حدّثه كعب:"أما هذا فقد صَدَق"، فإنه يشعر بأن من سواه كذب، لكن ليس على عمومه في حقّ كل أحد سواه؛ لأن مُرارة، وهلالًا أيضًا قد صدقا، فيختص الكذب بمن حلف، واعتذر، لا بمن اعترف، ولهذا عاقب من صَدَق بالتأديب الذي ظهرت فائدته عن قرب، وأَخَّر من كَذَب للعقاب الطويل، وفي الحديث الصحيح:"إذا أراد اللَّه بعبد خيرًا عَجّل له عقوبته في الدنيا، وإذا أراد به شرًّا أمسك عنه عقوبته، فيَرِدُ القيامة بذنوبه".

قيل: وإنما غُلِّظ في حقّ هؤلاء الثلاثة؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر، ويدل عليه قوله تعالى:{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 120]، وقول الأنصار:

نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا

عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا

57 -

(ومنها): تبريد حرّ المصيبة بالتأسي بالنظير، حيث تأسّى كعب رضي الله عنه بصاحبيه.

58 -

(ومنها): عِظَم مقدار الصدق في القول والفعل، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة، والنجاة من شرّهما به.

59 -

(ومنها): أن من عُوقب بالهجر يُعذر في التخلف عن صلاة الجماعة؛ لأن مرارة، وهلالًا رضي الله عنهما لم يخرجا من بيوتهما تلك المدّة.

60 -

(ومنها): جواز دخول المرء دار جاره وصديقه بغير إذنه، ومن غير البارب، إذا عَلِم رضاه.

ص: 72

61 -

(ومنها): أن قول المرء: "اللَّهُ ورسوله أعلم" ليس بخطاب، ولا كلام، ولا يحنث به من حلف أن لا يكلم آخر إذا لم ينو به مكالمته، وإنما قال أبو قتادة ذلك لَمّا ألحّ عليه كعب، وإلا فقد تقدم أن رسول ملك غسّان لمّا سأل عن كعب جعل الناس يشيرون له إلى كعب، ولا يتكلمون بقولهم مثلًا: هذا كعب؛ مبالغةً في هجره، والإعراض عنه، واللَّه تعالى أعلم.

ذكر هذه الفوائد النوويّ رحمه الله في "شرحه"

(1)

، والحافظ في "الفتح"

(2)

، والعينيّ في "عمدته"

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6991]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِإِسْنَادِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ سَوَاءً).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ حافظ عابد [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى) اليماميّ، أبو عمر، سكن بغداد، ووَلِي قضاء خراسان، ثقةٌ [9] مات ببغداد سنة (205) وقيل: بعد ذلك (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 81/ 437.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7](ت 175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ) -بالضمّ، مصغّرًا- ابن خالد بن عَقِيل -بالفتح- الأَيْليّ، أبو خالد الأُمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبت، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

و"ابنُ شهاب" ذُكر قبله.

وقوله: (بِإِسْنَادِ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ سَوَاءً)؛ يعني: أن عُقيلًا روى هذا

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 100 - 102.

(2)

راجع: "الفتح" 9/ 575 - 577.

(3)

"عمدة القاري" 18/ 55 - 56.

ص: 73

الحديث عن الزهريّ، كما رواه يونس عنه، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية عُقيل عن ابن شهاب هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4156)

- حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، أن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي، قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حين تخلّف عن قصّة تبوك، قال كعب: لم أتخلّف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يُعاتِب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع اللَّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شَهِدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أُحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، كان من خبري أني لم أكن قطّ أقوى، ولا أيسر، حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، واللَّه ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قطّ، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومَفَازًا، وعدوًّا كثيرًا، فجلى للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهْبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثيرٌ، ولا يجمعهم كتابٌ حافظٌ، يريد: الديوان.

قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظنّ أن سيخفى له، ما لم يَنزل فيه وحي اللَّه، وغزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، والظلال، وتجهّز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه، فطفِقت أغدو؛ لكي أتجهز معهم، فأرجع، ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتدّ بالناس الجدّ، فأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهز بعده بيوم، أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فَصَلُوا لأتجهز، فرجعت، ولم أقض شيئًا، ثم غدوت، ثم رجعت، ولم أقض شيئًا، فلم يزل بي، حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن

ص: 74

أرتحل، فأُدركهم، وليتني فعلت، فلم يُقَدِّر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم، أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق، أو رجلًا ممن عَذَر اللَّه، من الضعفاء، ولم يذكرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال، وهو جالس في القوم، بتبوك: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سَلِمة: يا رسول اللَّه حبسه بُرداه، ونظره في عِطْفيه، فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، واللَّه يا رسول اللَّه ما علمنا عليه إلا خيرًا، فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلًا حضرني همّي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدًا، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادمًا، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدًا بشيء فيه كذب، فأجمعت صِدقه، وأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قادمًا، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلَّفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقبل منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووَكَل سرائرهم إلى اللَّه، فجئته، فلما سلّمت عليه، تبسَّم تبسُّم المغضَب، ثم قال:"تعال"، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني واللَّه يا رسول اللَّه لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أُعطيت جدلًا، ولكني واللَّه لقد علمتُ، لئن حدثتك اليوم حديث كَذِب، ترضى به عني، ليوشكنّ اللَّه أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدق، تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو اللَّه، لا، واللَّه ما كان لي من عذر، واللَّه ما كنت قط أقوى، ولا أيسر مني، حين تخلفت عنك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما هذا فقد صَدَق، فقم حتى يقضي اللَّه فيك"، فقمت، وثار رجال من بني سَلِمة، فاتبعوني، فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المتخلفون، قد كان كافيَك ذنبك استغفارُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لك، فواللَّه ما زالوا يُؤنِّبونني، حتى أردت أن أرجع، فأُكَذِّب نفسي، ثم قلت لهم: هل

ص: 75

لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان، قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْريّ، وهلال بن أمية الواقفيّ، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شَهِدا بدرًا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.

ونهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، أيها الثلاثةُ، من بين من تخلف عنه، فاجتنبَنا الناس، وتغيَّروا لنا، حتى تنكّرت في نفسي الأرض، فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي، فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم، وأجلَدهم، فكنت أخرج، فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأسلّم عليه، وهو في مجلسه، بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه بردِّ السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي، أقبل إليّ، وإذا التفتُّ نحوه، أعرض عني، حتى إذا طال عليّ ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إليّ، فسلَّمت عليه، فواللَّه ما ردَّ عليّ السلام، فقدت: يا أبا قتادة أَنشُدك باللَّه، هل تعلمني أحب اللَّه ورسوله؟ فسكت، فعدت له، فنشدته، فسكت، فعدت له، فنشدته، فقال: اللَّه ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسوَّرت الجدار، قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نَبَطِيّ من أنباط أهل الشام، ممن قَدِم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني، دفع إليّ كتابًا من مَلِك غَسّان، فإذا فيه: أما بعدُ فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللَّه بدار هوان، ولا مضيعة، فالْحَقْ بنا نُواسِك، فقلت لما قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، فتيممت بها التنور، فسجرته بها.

حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيّ مثل ذلك، فقدت لامرأتي: الْحَقِي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر، قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه،

ص: 76

إن هلال بن أمية شيخ ضائع، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك، قالت: إنه واللَّه ما به حركة إلى شيء، واللَّه ما زال يبكي، منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأتك، كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: واللَّه لا أستأذن فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابّ، فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلةً، من حين نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن كلامنا.

فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلةً، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سَلْع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بتوبة اللَّه علينا، حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشّروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشّرون، وركض إليّ رجل فرسًا، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيّ، فكسوته إياهما ببُشراه، واللَّه ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين، فلبستهما، وانطلقت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيتلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنونني بالتوبة، يقولون: لِتَهْنِكَ توبةُ اللَّه عليك، قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس، حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد اللَّه يُهرول، حتى صافحني، وهنّاني، واللَّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة، قال كعب: فلما سلّمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يبرق وجهه من السرور:"أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمك"، قال: قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه، أم من عند اللَّه؟ قال:"لا، بل من عند اللَّه".

وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه، حتى كأنه قِطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه، قلت: يا رسول اللَّه إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللَّه، وإلى رسول اللَّه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك"، قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر،

ص: 77

فقلت: يا رسول اللَّه، إن اللَّه إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحَدِّث إلا صدقًا ما بَقِيت، فواللَّه ما أعلم أحدًا من المسلمين، أبلاه اللَّه في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبًا، وإني لأرجو أن يحفظني اللَّه فيما بقيت، وأنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} -إلى قوله-: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، فواللَّه ما أنعم اللَّه عليّ من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن اللَّه قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ} -إلى قوله-: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 95، 96]، قال كعب: وكُنّا تَخَلَّفْنا أيها الثلاثةُ عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له، فبايعهم، واستغفر لهم، وأرجأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا، حتى قضى اللَّه فيه، فبذلك قال اللَّه:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} ، وليس الذي ذكر اللَّه مما خُلِّفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6992]

(. . .) - وَحَدَّثَنِي عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَمِّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوةِ تَبُوكَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ عَلَى يُونُسَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيرهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ. وَلَمْ يَذْكرْ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ أَبَا خَيْثَمَةَ، وَلُحُوقَهُ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1603 - 1608.

ص: 78

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ) بن نصر الكِسيّ -بمهملة- أبو محمد، قيل: اسمه عبد الحميد، وبذلك جزم ابن حبان، وغير واحد، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 249)(خت م ت) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ) المدنيّ، صدوقٌ، له أوهام [7] (ت 152) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 352.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: قوله: (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) هكذا وقع في النسخة الهنديّة: "عبد اللَّه"، وهو المذكور في السند الماضي، ووقع في معظم نُسخ مسلم:"أن عبيد اللَّه بن كعب" مصغّرًا، وهو أخو المكبّر، وكلاهما ولدا كعب بن مالك رضي الله عنه، والصواب ما في النسخة الهنديّة: عبد اللَّه بن كعب مكبّرًا؛ لِما يلي:

أوّلًا: أن الإمام أحمد أخرج الحديث في "مسنده" بسند مسلم، فقال فيه:"أن عبد اللَّه بن كعب بن مالك" مكبّرًا.

وثانيًا: أن الدارقطنيّ لمّا انتقد الإسناد التالي من طريق معقل بن عبيد اللَّه حيث وقع فيه: "عبيد اللَّه" مصغّرًا ذكر أن رواية ابن أخي الزهريّ موافقة لرواية يونس، وعقيل بأنه:"عبد اللَّه بن كعب" مكبّرًا، لا مصغّرًا، وقال: إنه الصواب؛ لمتابعة ابن أخي الزهريّ لهما، وأما معقل، وإن تابعه صالح بن أبي الأخضر، فإنهما ضعيفان، لا يقاومان الأوَّلَين.

والحاصل: أن الصواب هو ما وقع في النسخة الهنديّة، من أنه عبد اللَّه بن كعب المكبّر، لا عبيد اللَّه المصغّر، كما هو في معظم النسخ، وعليه تكلّم النوويّ في شرحه

(1)

، وذكر انتقاد الدارقطني، وهذا ليس بصحيح، فإنه إنما

(1)

وكذا ما صنعه الحافظ المزيّ في "تحفة الأشراف" 8/ 323 من جِعله رواية =

ص: 79

انتقد الرواية التالية، لا هذه الرواية، كما سيأتي نصّه في التنبيه -إن شاء اللَّه تعالى-، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ) فاعل "ساق"، و"زاد" ضمير محمد بن عبد اللَّه ابن أخي الزهريّ.

وقوله: (قَلَّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا) من التورية؛ أي: أوهم غيرها، وأصله مِن وراء، كأنه جعل البيان وراء ظهره.

[تنبيه]: رواية محمد بن عبد اللَّه بن مسلم ابن أخي الزهريّ، عن الزهريّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(15827)

- حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا ابن أخي الزهريّ، محمد بن عبدا اللَّه، عن عمه محمد بن مسلم الزهريّ، قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، أن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه، حين عَمِي، قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه، حين تخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة غيرها قطّ إلا في غزوة تبوك، غير إني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع اللَّه بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شَهِدت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين توافقنا على الإسلام، ما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها، وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك لأني لم أكن قط أقوى، ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغَزَاة، واللَّه ما جمعت قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلّما يريد غَزاة يغزوها إلا ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة، فغزاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا، ومَفازًا، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فجلا للمسلمين أمره؛ ليتأهبوا أُهبة عدوّهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثير، لا يَجمعهم كتابٌ حافظٌ -يريد: الديوان-.

= ابن أخي الزهريّ مع رواية معقل الجزريّ أنه عبيد اللَّه مصغّرًا لا يخفى ما فيه، فتنبّه، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

ص: 80

فقال كعب: فقَلّ رجل يريد يتغيب إلا ظنّ أن ذلك سيخفى له، ما لم ينزل فيه وحي من اللَّه عز وجل، وغزا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تلك الغَزوة حين طابت الثمار، والظلّ، وأنا إليها أصعر، فتجهز إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معه، فأرجع ولم أقضِ شيئًا، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، إذا أردت، فلم يزل كذلك يتمادى بي، حتى شَمَّر بالناس الجدّ، فأصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غاديًا، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئًا، فقلت: أتجهّز

(1)

بعد يوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت، ولم أقض شيئًا من جهازي، ثم غدوت، فرجعت، ولم أقض شيئًا، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، فأدركهم، وليت أني فعلت، ثم لم يُقَدَّر ذلك لي، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم، يحزنني أن لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممن عَذَره اللَّه، ولم يذكرني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال، وهو جالس في القوم بتبوك:"ما فعل كعب بن مالك؟ "، قال رجل من بني سَلِمة: حبسه يا رسول اللَّه بُرداه، والنظر في عِطفيه، فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت، واللَّه يا رسول اللَّه ما علمنا عليه إلا خيرًا.

فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلًا من تبوك، حضرني بَثِّي، فطفقت أتفكر الكذب، وأقول بماذا أخرج من سخطه غدًا؟، أستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد أظل قادمًا، زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، وصبَّح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قَدِم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلًا، فقَبِل منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى اللَّه تبارك وتعالى، حتى جئت، فلما سلمت عليه، تبسَّم تبسُّم المغضب، ثم قال

(1)

وفي بعض نسح "المسند": "الجهاز"، والأُولى أوضح.

ص: 81

لي: "تعال"، فجئت أمشي، حتى جلست بين يديه، فقال لي:"ما خَلَّفك؟ ألم تكن قد استمَرّ ظهرك؟ " قال: فقلت: يا رسول اللَّه إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني أخرج من سخطته بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلًا، ولكنه واللَّه لقد علمت، لئن حدثتك اليوم حديث كذب، ترضى عني به، ليوشكنّ اللَّه تعالى يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك اليوم بصدق، تَجِد عليّ فيه، إني لأرجو قرة عيني عفوًا من اللَّه تبارك وتعالى، واللَّه ما كان لي عذر، واللَّه ما كنت قط أفرغ، ولا أيسر مني، حين تخلفت عنك، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللَّه تعالى فيك".

فقمت، وبادرتْ رجالٌ من بني سَلِمة، فاتّبعوني، فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبًا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، لقد كان كافِيَك من ذنبك استغفارُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لك، قال: فواللَّه ما زالوا يُؤنِّبوني، حتى أردت أن أرجع، فأُكَذِّب نفسي، قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، قال: فقلت لهم: من هما؟ قالوا: مُرارة بن الربيع العامريّ

(1)

، وهلال بن أمية الواقفيّ، قال: فذكروا لي رجلين صالحين، قد شَهِدا بدرًا، لي فيهما أُسوةٌ، قال: فمضيت حين ذكروهما لي، قال: ونهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثةُ، من بين من تخلّف عنه، فاجتنبَنا الناس، قال: وتغيّروا لنا، حتى تنكرت لي من نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأما صاحباي فاستكنا، وقعدا في بيوتهما، يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم، وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم عليه، فأقول في نفسي: حرَّك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ ثم أصلي قريبًا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ، فإذا التفتّ

(1)

كذا وقع في "المسند"، وقد تقدّم أن الصواب:"العَمْريّ" نسبة إلى بني عمرو بن عوف بن مالك بن أوس، فتنبّه.

ص: 82

نحوه أعرض، حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين، مشيت حتى تسوّرت حائط أبي قتادة، وهو ابن عصي، وأحب الناس إليّ، فسلّمت عليه، فواللَّه ما ردّ عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه هل تعلم أني أحب اللَّه ورسوله؟ قال: فسكت، قال: فعُدت، فنشدته، فسكت، فعُدت، فنشدته، فقال: اللَّه ورسوله أعلم، ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسوّرت الجدار، فبينما أنا أمشي بسوق المدينة، إذا نَبَطيّ من أنباط أهل الشام، ممن قَدِم بطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلّني على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاء، فدفع إليّ كتابًا من ملك غَسّان، وكنت كاتبًا، فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللَّه بدار هَوان، ولا مضيعة، فالْحَقْ بنا نواسك، قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء، قال: فتيممت بها التنور، فسجرته بها.

حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها، فلا تقربها، قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الْحَقِي بأهلك، فكوني عندهم، حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر، قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول اللَّه، إن هلالًا شيخ ضائعٌ، ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال:"لا، ولكن لا يقربنّك"، قالت: فإنه، واللَّه ما به حركة إلى شيء، واللَّه ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا، قال: فقال لي بعض أهلي: لو أستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه، قال: فقلت: واللَّه لا استأذن فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما أدري ما يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أستأذنته، وأنا رجل شابّ، قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، كمال خمسين ليلة، حين نَهَى عن كلامنا، قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على الحال التي ذكر اللَّه تبارك وتعالى منا، قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صارخًا أوفى على جبل سلع، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر، قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم-

ص: 83

بتوبة اللَّه تبارك وتعالى علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب يبشروننا، وذهب قبل صاحبي يبشرون، وركض إلي رجل فرسًا، وسعى ساع من أسلم، وأوفى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبيّ، فكسوتهما إياه ببشارته، واللَّه ما أملك غيرهما يومئذ، فاستعرت ثوبين، فلبستهما، فانطلقت أؤم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يلقاني الناس فوجًا فوجًا، يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة اللَّه عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد، حوله الناس، فقام إليّ طلحةُ بن عبيد اللَّه، يُهرول، حتى صافحني، وهنأني، واللَّه ما قام إليّ رجل من المهاجرين غيره، قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرق وجهه من السرور:"أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك"، قال: قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه، أم من عند اللَّه؟ قال:"لا، بل من عند اللَّه". قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، حتى يُعرف ذلك منه، قال: فلما جلست بين يديه قال: قلت: يا رسول اللَّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى اللَّه تعالى، وإلى رسوله، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أمسك بعض مالك، فهو خير لك". قال: فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، إنما اللَّه تعالى نجاني بالصدق، كان من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقًا ما بقيت، قال: فواللَّه ما أعلم أحدًا من المسلمين أبلاه اللَّه من الصدق في الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني اللَّه تبارك وتعالى، واللَّه ما تعمدت كذبة مذ قلت ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يَحفظني فيما بقي، قال: وأنزل اللَّه تبارك وتعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)} [التوبة: 117 - 119].

قال كعب: فواللَّه ما أنعم اللَّه تبارك وتعالى عليّ من نعمة قط بعد أن

ص: 84

هداني أعظم في نفسي من صدقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ، أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه حين كذبوه، فإن اللَّه تبارك وتعالى قال للذين كذبوه حين كذبوه شرّ ما يقال لأحد، فقال اللَّه تعالى:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} [التوبة: 95، 96].

قال: وكنا خُلِّفنا أيها الثلاثةُ عن أمر أولئك الذين قَبِل منهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم، واستغفر لهم، فأرجأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللَّه تعالى، فبذلك قال اللَّه تعالى:{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118]، وليس تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له، واعتذر إليه، فقَبِل منه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6993]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ -وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ- عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبِ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ، وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ، وَأَوْعَاهُمْ لأَحَادِيثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاسٍ كَثِيرٍ، يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرَةِ آلافٍ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظٍ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع (140)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرّانيّ، أبو

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 456 - 458.

ص: 85

عليّ نُسب إلى جدّه، صدوقٌ [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ) الْجَزريّ، أبو عبد اللَّه الْعَبسيّ -بالموحّدة- مولاهم، صدوقٌ، يُخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ) بْنِ مَالِكٍ هذا هو الأنصاريّ، أبو فَضَالة المدنيّ، ثقةٌ [3](خ م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: هذا الإسناد انتقده الدارقطنيّ رحمه الله فقال في "التتبّع": وأخرجه -يعني: حديث توبة كعب- من طرقات عن يونس، وعُقيل، وابن أخي الزهريّ على الصواب، وعن سلمة بن شبيب، عن ابن أعين، عن معقل، عن الزهريّ، عن عبد الرحمن -يعني: ابن عبد اللَّه بن كعب بن مالك- عن عمّه عبيد اللَّه بن كعب، عن كعب، قال: وتابع معقلًا صالحُ بن أبي الأخضر على عبيد اللَّه بن كعب، وكلاهما لم يحفظ، والأول الصواب. انتهى

(1)

.

وحاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله في هذا الكلام أن مسلمًا أخرج الحديث من ثلاث طرق على الصواب:

الأولى: طريق يونس، عن الزهريّ.

الثانية: طريق عُقيل، عن الزهريّ.

الثالثة: طريق ابن أخي الزهريّ، عن عمّه، وكلّهم اتفقوا على أنه عبد اللَّه بن كعب بن مالك.

وخالفهم: معقل بن عبيد اللَّه، فقال: عبيد اللَّه بن كعب، وصالحه عليه صالح بن أبي الأخضر، وكلاهما لم يحفظا، فالصواب هو الأول.

ويُعتذر عن مسلم بأنه إنما أخرج رواية معقل متابعة على أصل الحديث، لا احتجاجًا بروايته، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ)؛ يعني: أن عبيد اللَّه هذا كان يقود أباه بعد أن عَمِي، وهَذا الوصف تقدّم لأخيه عبد اللَّه المكبّر، وروايته هي المحفوظة، وأما هذه فلا تصحّ، وعلى تقدير صحّتها، فلا تعارض بينهما؛

(1)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع المدخلي في رسالته ص 410 - 411 فقد أجاد، وأفاد.

ص: 86

لاحتمال أن يتناوبا القيادة، فتارة يقود هذا، وأخرى يقود هذا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ، وَأَوْعَاهُمْ إلخ)؛ أي: أحفظهم.

وقوله: (غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ)، يعني: غزوة بدر، وغزوة تبوك.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير معقل بن عبيد اللَّه.

وقوله: (يَزِيدُونَ عَلَى عَشْرَةِ آلافٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا وقع هنا زيادة على عشرة آلاف، ولم يبيّن قدرها، وقد قال أبو زرعة الرازيّ: كانوا سبعين ألفًا، وقال ابن إسحاق: كانوا ثلاثين ألفًا، وهذا أشهر، وجمع بينهما بعض الأئمة بأن أبا زرعة عدَّ التابع والمتبوع، وابن إسحاق عَدّ المتبوع فقط، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظٍ) بكسر الدال، وحكي فتحها: الكتاب الذي يُكتب فيه الجيش، وأهل العطيّة، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابٌ فِي بَيَانِ حَدِيثِ الإِفْكِ، وَقَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6994]

(2770) - (حَدَّثَنَا حَبَّانُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيُّ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْن إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، وَالسِّيَاقُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدٍ، وَابْنِ رَافِعٍ، قَالَ يُونُسُ، وَمَعْمَرٌ جَمِيعًا: عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةُ بْنِ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا، وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 100.

ص: 87

بَعْضٍ، وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكرُوا أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرج بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ مَسِيرَنَا، حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم منْ غَزْوِهِ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي، أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ، فَلَمَسْتُ صَدْرِي، فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَني ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كانُوا يَرْحَلُونَ لِي، فَحَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ، قَالَتْ:

وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا، لَمْ يُهَبَّلْنَ، وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ، وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ، وَسَارُوا، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ، وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي، فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أنا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي، غَلَبَتْني عَيْنِي، فَنِمْتُ، وَكَالم صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ، ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ، قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ، فَادَّلَجَ، فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فَأَتَانِي، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيَّ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، حِينَ عَرَفَنِي، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَواللَّه مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ، حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا، فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ، بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي

ص: 88

قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي، إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ:"كَيْفَ تِيكُمْ؟ "، فَذَاكَ يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقِهْتُ، وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ، وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنَّ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التَّنَزُّهِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا.

فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ، وَهِيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مَسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟، قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟، قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ، فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:"كَيْفَ تِيكُمْ؟ "، قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَواللَّه لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا.

قَالَتْ: قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، حَتَّى أَصْبَحْتُ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصَبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ، قَالَتْ: فَأَمَّاَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ أَهْلُكَ، وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ، قَالَتْ: فَدَعَا

ص: 89

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ، فَقَالَ:"أَيْ بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟ "، قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالَّذِي بعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ، فَتَأْكُلُهُ، قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:"يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَواللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا، مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي".

فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا، فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ، قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَثَارَ الْحَيَّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ، قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي، فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي اسْتَأْذَنَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي.

قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ، قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً، فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيهِ"، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي، حَتَّى مَا

ص: 90

أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ، فَقَالَ: واللَّه مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: واللَّه مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ -وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ-: إِنِّي واللَّه لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا، حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ

(1)

، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ، واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي واللَّه مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا، إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)} [يوسف: 18].

قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، قَالَتْ: وَأَنَا واللَّه حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي، وَلَكِنْ واللَّه مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَي، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عز وجل فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤَيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا، قَالَتْ: فَواللَّه مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ:"أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ"، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: واللَّه لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي، قَالَتْ: فَأَنْزَل اللَّهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] عَشْرَ آيَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَؤُلَاءِ الآيَاتِ

(2)

بَرَاءَتِي.

قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ؛ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَفَقْرِهِ: واللَّه لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

(1)

وفي نسخة: "في أنفسكم".

(2)

وفي نسخة: "هذه الآيات".

ص: 91

قَالَ حِبَّانُ بْنُ مُوسَى: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: واللَّه إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَل زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشِ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِي: "مَا عَلِمْتِ، أَوْ مَا رَأَيْتِ؟ "، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي، واللَّه مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا، فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(حَبَّانُ بْنُ مُوسَى) بن سَوّار السُّلَميّ، أبو محمد المروزيّ، الكشميهنيّ، ثقة [10].

رَوَى عن ابن المبارك، وأبي حمزة السُّكّريّ، وداود بن عبد الرحمن العَطّار، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، ومسلم، وروى له الترمذيّ، والنسائيّ بواسطة أحلد بن عبدة الآمليّ، ومحمد بن حاتم بن نُعيم المروزيّ، ومحمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، وأحمد بن إبراهيم الدَّورقيّ، وجعفر الفريابي، وعباس الدُّوريّ، وأبو زرعة، وابن وارة، والحسن بن سفيان، وجماعة.

قال إبراهيم بن الجنيد: ليس صاحب حديث، ولا بأس به، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: مات سنة (233)، وكذا قال البخاريّ.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

وقال النوويّ رحمه الله: "حِبّان بن موسى": هو بكسر الحاء، وليس له في "صحيح مسلم" ذِكر إلا في هذا الموضع، وقد أكثر عنه البخاريّ في "صحيحه"

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 1 - 2.

ص: 92

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) المروزيّ، مولى بني حنظلة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام بن نافع الْحِمْيَريّ مولاهم، أبو بكر الصنعانيّ، ثقةٌ حافظ مصنِّف، شهيرٌ عَمِي في آخر عمره، فتغير، وكان يتشيع [9](ت 211) وله خمس وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد الأزديّ مولاهم، أبو عروة البصريّ، نزيل اليمن، ثقةٌ ثبت فاضل، إلا أن في روايته عن ثابت، والأعمش، وهشام بن عروة شيئًا، وكذا فيما حَدَّث به بالبصرة، من كبار [7](ت 154) وهو ابن ثمان وخمسين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) المخزوميّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوّام المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(عَلْقَمَةُ بْنِ وَقَّاصٍ) -بتشديد القاف- الليثيّ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [2] أخطأ من زعم أن له صحبةً، وقيل: إنه وُلد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، مات في خلافة عبد الملك (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1707.

8 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَليّ، أبو عبد اللَّه المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ [3] (ت 94) وقيل: سنة ثمان، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

9 -

(عَائِشَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، أفقه النساء مطلقًا، وأفضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا خديجة ففيهما خلاف شهير، ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح (ع) تقدّمت في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 315. والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وفيه رواية تابعيّ عن أربعة من التابعين، وكلّهم من الفقهاء السبعة، إلا علقمة بن وقّاص، وهم الذين ذكرهم بعضهم بقوله:

إِذَا قِيلَ مَنْ فِي الْعِلْمِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

مَقَالَتُهُمْ لَيْسَتْ عَنِ الْحَقِّ خَارِجَهْ

ص: 93

فَقُلْ هُمْ عُبَيْدُ اللَّهِ عُرْوَةُ قَاسِمٌ

سَعِيدٌ أَبُو بَكْرٍ سُلَيْمَانُ خَارِجَهْ

وجمعهم الحافظ العراقيّ بقوله:

وَفِي الْكِبَارِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ

خَارِجَةُ الْقَاسِمُ ثُمَّ عُرْوَةُ

ثُمَّ سُلَيْمَانُ عُبَيْدُ اللَّهِ

سَعِيدُ وَالسَّابِعُ ذُو اشْتِبَاهِ

إِمَّا أَبُو سَلَمَةٍ أَوْ سَالِمُ

أَوْ فَأَبُو بَكْرٍ خِلَافٌ قَائِمُ

وفيه عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين، وأفقه نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة، الذين جمعتهم بقولي:

الْمُكْثِرُونَ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرْ

مِنَ الصَّحَابَةِ الأَكَارِمِ الْغُرَرْ

أَبُو هُرَيْرَةَ يَلِيهِ ابْنُ عُمَرْ

فَأَنَسٌ فَزَوْجَةُ الْهَادِي الأَبَرّ

ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ يَلِيهِ جَابِرُ

وَبَعْدَهُ الْخُدْرِيُّ فَهْوَ آخِرُ

[تنبيه آخر]: قوله: (وَالسِّيَاقُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ)؛ يعني: أن سياق الحديث الذي أورده هنا هو سياق معمر بن راشد، وأما يونس، فروى معناه، وقوله:(مِنْ رِوَايَةِ عَبْدٍ)؛ يعني: ابن حُميد شيخه الرابع، (وَابْنِ رَافِعٍ) بالجرّ عطفًا على "عبد"؛ أي: من رواية محمد بن رافع شيخه الثالث، (قَالَ يُونُسُ) بن يزيد (وَمَعْمَر) بن راشد (جَمِيعًا)، وقوله:(عَنِ الزُّهْرِيِّ إلخ) مقول "قال يونس ومعمر"، واللَّه تعالى أعلم.

شرج الحديث:

(عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمد بن مسلم؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أن الأَولى أن يُقرأ بكسر الياء المشدّدة، لا بفتحها، قال السيوطيّ في "ألفية الأثر":

كُلُّ مُسَيَّبٍ بِفَتْح الْيَا سِوَى

أَبِي سَعِيدٍ زَادَ كَسْرًا فَاسْتَوَى

(1)

ثُمَّةَ هَذَا الْكَسْرُ أَوْلَى إِذْ أَتَى

أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِهِ فَثَبَتَا

وَعَنْ سَعِيدٍ كَرْهُة الْفَتْحَ وَرَدْ

بَلْ قِيلَ قَدْ دَعَا عَلَى مَنِ اعْتَمَدْ

فَابْعُدْ عَنِ الْفَتْحِ لِكَيْ تَجْتَنِبَا

دُعَاءَهُ وَنِعْمَ ذَاكَ مَطْلَبَا

(1)

أي: اعتدل، وانتظم لفظه، حيث ضُبط بالوجهين.

ص: 94

(وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) الأسديّ المدنيّ، (وَعَلْقَمَةُ بْنِ وَقَّاصٍ) الليثيّ، (وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتبةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الهذليّ المدنيّ.

[تنبيه]: قد لخّص الحافظ في "الفتح" روايات هذا الحديث، فأجاد، وأفاد، قال رحمه الله ما حاصله:

ساق البخاريّ رحمه الله حديث الإفك بطوله من طريق الليث، عن يونس بن يزيد، عن الزهريّ، عن مشايخه الأربعة، وقد ساقه بطوله أيضًا في "الشهادات" من طريق فُليح بن سليمان، وفي "المغازي" من طريق صالح بن كيسان، كلاهما عن الزهريّ، وأورده في مواضع أخرى باختصار، فأول ما أخرجه في "الجهاد"، ثم في "الشهادات"، ثم في "التفسير"، ثم في "الأيمان والنذور"، ثم في "التوحيد" من طريق عبد اللَّه النميريّ، عن يونس باختصار في هذه المواضع، وأخرجه في "التوحيد"، وعلّقه في "الشهادات" باختصار أيضًا، من رواية الليث أيضًا، وأخرجه في "التفسير"، و"الأيمان والنذور"، و"الاعتصام" من طريق صالح بن كيسان باختصار، في هذه المواضع أيضًا، وأخرج طرفًا منه معلقًا في "المغازي" من طريق النعمان بن راشد، عن الزهريّ، ومن طريق معمر، عن الزهريّ طرفًا آخر.

وأخرجه مسلم من رواية عبد اللَّه بن المبارك، عن يونس، ومن رواية عبد الرزاق، عن معمر، كلاهما عن الزهري، ساقه على لفظ معمر، ثم ساقه من طريق فُليح، وصالح، بإسنادهما، قال مثله، غير أنه بَيَّن الاختلاف في:"احتملته الحمية"، أو "اجتهلته"، وفي "موغرين"، كما سيأتي، وذكر في رواية صالح زيادة كما سأنبه عليها.

قال الجامع: زيادته هي قوله: "وَزَادَ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ، وَتَقُولُ: فَإِنَّهُ قَالَ:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ

(1)

وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

وَزَادَ أَيْضًا: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: واللَّه إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ

(1)

وفي نسخة: "ووالدتي".

ص: 95

لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ

(1)

أُنْثَى قَطُّ، قَالَتْ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ".

قال: وأخرجه النسائيّ في "عِشرة النساء" من طريق صالح، وأخرجه في "التفسير" من طريق محمد بن ثور، عن معمر، لكنه اقتصر على نحو نصف أوله، ثم قال: وساق الحديث، وأخرج من طريق ابن وهب، عن يونس، وذكر آخر، كلاهما عن الزهريّ بسنده:"ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليًّا، وأُسامة، يستشيرهما -إلى قوله-: فتأتي الداجن، فتأكله"، أخرجه في "القضاء".

وأخرج أبو داود من طريق ابن وهب، عن يونس طرفًا منه في "السُّنَّة"، وهو قول عائشة:"ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اللَّه فيّ بوحي يُتلى".

وذكره الترمذيّ عن يونس، ومعمر، وغيرهما عن الزهريّ معلقًا، عقب رواية هشام بن عروة عن أبيه.

قال: فهذه جميع طرقه في هذه الكتب.

وقد جاء عن الزهريّ من غير رواية هؤلاء، فأخرجه أبو عوانة في "صحيحه"، والطبرانيّ من رواية يحيى بن سعيد الأنصاريّ، وعبيد اللَّه بن عمر العُمريّ، وإسحاق بن راشد، وعطاء الْخُرَاسانيّ، وعُقيل، وابن جريج.

وأخرجه أبو عوانة أيضًا من رواية محمد بن إسحاق، وبكر بن وائل، ومعاوية بن يحيى، وحميد الأعرج.

وعند أبي داود طرف من رواية حميد هذا، والطبرانيّ أيضًا من رواية زياه. بن سعد، وابن أبي عتيق، وصالح بن أبي الأخضر، وأفلح بن عبد اللَّه بن المافيرة، وإسماعيل بن رافع، ويعقوب بن عطاء.

وأخرجه ابن مردويه من رواية ابن عيينة، وعبد الرحمن بن إسحاق، كلم، وعدّتهم ثمانية عشر نفسًا عن الزهريّ، منهم من طوّله، ومنهم من اختصره، وأكثرهم يُقَدِّم عروة على سعيد، وبعد سعيد علقمة، ويختم بعبيد اللَّه، وقَدَّم معمر، ويونس من رواية ابن وهب عنه، وعُقيل، وابن إسحاق في رواية

(1)

وفي نسخة: "من كنف".

ص: 96

معاوية، وزياد، وأفلحُ، وإسماعيل، ويعقوبُ سعيدَ بنَ المسيِّب على عروة، وقَدَّم ابن وهب علقمةَ على عبيد اللَّه، وقدم ابنُ إسحاق في روايةٍ علقمةَ، وثنَّى بسعيد، وثلَّث بعروة، وأخَّر عبيد اللَّه، وقدَّم عطاءٌ الخراسانيّ عبيدَ اللَّه على عروة في رواية، وحذف من أخرى سعيدًا، وكذا قدم صالحُ بن أبي الأخضر عبيدَ اللَّه، لكن ثنّى بأبي سلمة بن عبد الرحمن بدل سعيد، وثلّث بعلقمة، وختم بعروة، واقتصر بكرٌ على سعيد. انتهى ما قاله الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ) متعلّقٌ بـ "أخبرني"، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بدل، أو عطف بيان لـ "عائشة".

[تنبيه]: "الزوج" بلا هاء يُطلق على الذكر والأنثى، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرجل زَوْجُ المرأة، وهي زَوْجُهُ أيضًا، هذه هي اللغة العالية، وبها جاء القرآن، نحو قوله تعالى:{اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، والجمع فيهما أَزْوَاجٌ، قاله أبو حاتم، وأهل نَجْد يقولون في المرأة: زَوْجَةٌ، بالهاء، وأهل الحرم يتكلمون بها، وعَكَس ابن السِّكّيت، فقال: وأهل الحجاز يقولون للمرأة: زَوْجٌ، بغير هاء، وسائر العرب: زَوْجَةٌ بالهاء، وجَمْعها زَوْجَاتٌ، والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها؛ للإيضاح، وخوف لَبْس الذكر بالأنثى؛ إذ لو قيل: تركة فيها زَوْجٌ، وابن، لم يُعْلَم أذكر هو، أم أنثى؟ انتهى

(2)

.

وقوله: (حِينَ قَالَ لَهَا)"حين" ظرف متعلّق بصفة "حديث عائشة"؛ أي: حديثها الكائن وقت قول أهل الإفك لها، وقوله:(أَهْلُ الإِفْكِ) مرفوع على الفاعليّة، و"الإفك" بكسر الهمزة، وفتحها، وبفتحتين: الكذب، قال المجد رحمه الله: أَفَكَ، كضرب، وعَلِمَ إِفْكًا، بالكسر، والفتح، والتحريك، وأُفُوكًا: كَذَبَ. انتهى

(3)

.

وقال النسفي في "تفسيره": الإفك أبلغ ما يكون من الافتراء والكذب، وقيل: هو البهتان، لا تشعر به حتى يفجأك، وأصله: الأفك بالفتح مصدر

(1)

"الفتح" 10/ 390 - 392، "كتاب التفسير" رقم (4750).

(2)

"المصباح" 1/ 259.

(3)

"القاموس المحيط" ص 53.

ص: 97

قولك: أفكه يأفكه أَفْكًا: قَلَبه، وصرفه عن الشيء، ومنه قوله تعالى:{أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22]، وقيل للكذب: إفك؛ لأنه مصروف عن الصدق، قاله في "العمدة"

(1)

.

وسيأتي ذكر أسماء أهل الإفك قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(مَا قَالُوا)"ما" موصولة، والعائد محذوف، أي: الذي قالوه، مما لا يليق بجنابها رضي الله عنها.

(فَبَرَّأَهَا اللَّهُ)؛ أي: نزّه اللَّه عز وجل عائشة رضي الله عنها (مِمَّا قَالُوا)، أي: من الإفك الذي، قالوه، وافتروه عليها، فقال اللَّه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [النور: 11] إلى آخر الآيات العشر.

(وَكُلُّهُمْ)، أي: كلّ الأربعة المذكورين، (حَدَّثَنِي طَائِفَةً)؛ أي: بعضًا (مِنْ حَدِيثِهَا) قال في "الفتح": هو مقول الزهريّ كما في رواية فليح: "قال الزهريّ. . . إلخ"، وفي رواية ابن إسحاق:"قال الزهريّ: كلٌّ حدثني بعض هذا الحديث، وقد جمعت لك كل الذي حدثوني"، ولمّا ضَمّ ابنُ إسحاق إلى رواية الزهريّ عن الأربعة روايته هو عن عبد اللَّه بن أبي بكر، عن عمرة، وعن يحير، بن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه، كلاهما عن عائشة، قال:"دخل حديث هؤلاء جميعًا، يحدّث بعضهم ما لم يحدّث صاحبه، وكلّ كان ثقةً، فكلٌّ حَدّث عنها ما سمع، قال. . . " فذكره.

قال النوويّ رحمه الله: هذا الذي ذكره الزهريّ من جَمْعه الحديث عنهم جائز، لا مَنْع منه، ولا كراهة فيه؛ لأنه قد بَيّن أن بعض الحديث عن بعضهم، وبعضه عن بعضهم، وهؤلاء الأربعة أئمةٌ حُفّاظٌ ثقاتٌ من أجلِّ التابعين، فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو ذاك لم يضرّ، وجاز الاحتجاج بها؛ لأنهما ثقتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو قال: حدّثني زيد أو عمرو، وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطَب، جاز الاحتجاج به. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 102 - 103.

ص: 98

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإلى هذا الذي ذكره النوويّ رحمه الله من جواز الاحتجاج بمثل هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر"، فقال:

وَمَنْ رَوَى بَعْضَ حَدِيثٍ عَنْ رَجُلْ

وَبَعْضَهُ عَنْ آخَرٍ ثُمَّ جُمَلْ

ذَلِكَ عَنْ ذَيْنِ مُبَيِّنًا بِلَا

مَيْزٍ أَجِزْ وَحَذْفُ بَعْضٍ حُذِلَا

مُجَرَّحًا يَكُونُ أَوْ مُعَدَّلَا

وَحَيْثُ جَرْحُ وَاحِدٍ لَا تَقْبَلَا

وقال عياض: انتَقَدوا على الزهريّ ما صنعه من روايته لهذا الحديث ملفّقًا عن هؤلاء الأربعة، وقالوا: كان ينبغي له أن يُفرد حديث كل واحد منهم عن الآخر. انتهى.

قال الحافظ رحمه الله: وقد تتبعت طرقه، فوجدته من رواية عروة على انفراده، ومن رواية علقمة بن وقاص على انفراده، وفي سياق كلّ منهما مخالفات، ونقص، وبعض زيادة لِمَا في سياق الزهريّ عن الأربعة.

فأما رواية عروة، فأخرجها البخاريّ في "الشهادات" من رواية فُليح بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عقب رواية فُليح عن الزهريّ، قال: مثله، ولم يسق لفظه، وبينهما تفاوت كبير، فكأن فُليحًا تجوّز في قوله: مثله، وقد علقها البخاريّ، كما سيأتي قريبًا لأبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه بتمامه، ووصلها مسلم لأبي أسامة، إلا أنه لم يسقه بتمامه، ووصله أحمد، وأبو بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة بتمامه، وكذا أخرجه الترمذيّ، والطبريّ، والإسماعيليّ، من رواية أبي أسامة، وأخرجه أبو عوانة، والطبرانيّ من رواية حماد بن سلمة، وأبي أويس، وأبي عوانة، وابن مردويه من رواية يونس بن بكرٍ، والدارقطنيّ في "الغرائب" من رواية مالك، وأبو عوانة من رواية عليّ بن مُسهر، وسعيد بن أبي هلال، ووصلها البخاريّ باختصار في "الاعتصام" من رواية يحيى بن أبي زكريا، كلهم عن هشام بن عروة، مطوّلًا، ومختصرًا.

وأما رواية علقمة بن وقاص، فوصلها الطبريّ، والطبرانيّ من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عنه.

وأما رواية سعيد بن المسيِّب، وعبيد اللَّه، فلم أجدهما إلا من رواية الزهريّ عنهما.

ص: 99

وقد رواه عن عائشة غير هؤلاء الأربعة، فأخرجه البخاريّ في "الشهادات" من رواية عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة، ولم يسق لفظها، وقد ساقه أبو عوانة في "صحيحه"، والطبرانيّ من طريق أبي أويس، وأبو عوانة، والطبريّ أيضًا من طريق محمد بن إسحاق، كلاهما عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم عنها، وأخرجه أبو عوانة أيضًا من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، والبخاريّ من رواية القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة، إلا أنه لم يسق لفظه، أخرجه في "الشهادات"، وكذا رواية عمرة عقب رواية فُليح عن الزهريّ، وأخرجه أبو عوانة، والطبرانيّ من طريق الأسود بن يزيد، وعبّاد بن عبد اللَّه بن الزبير، ومِقسم مولى ابن عباس، ثلاثتهم عن عائشة.

وقد رَوَى هذا الحديث من الصحابة غير عائشة جماعة، منهم: عبد اللَّه بن الزبير، وحديثه أيضًا عقب رواية فليح عند البخاريّ في "الشهادات"، ولم يسق لفظ، وأمّ رُومان قد تقدم حديثها في قصة يوسف، وفي "المغازي" ويأتي باختصار قريبًا، وابن عباس، وابن عمر، وحديثهما عند الطبرانيّ، وابن مردويه، وأبو هريرة، وحديثه عند البزار، وأبو اليسر، وحديثه باختصار عند ابن مردويه.

فجميع من رواه من الصحابة غير عائشة ستة، ومن التابعين عن عائشة عشرة.

وأورده ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير مرسلًا بإسناد وَاهٍ، وأورده الحاكم في "الإكليل" من رواية مقاتل بن حيّان، وهو بالمهملة، والتحتانية مرسلًا أيضًا.

قال الحافظ رحمه الله: وسأذكر في أثناء شرح هذا الحديث ما في رواية هؤلاء من فائدة زائدة -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وسأورد في شرحي هذا ما ذكره الحافظ رحمه الله وأزيده ما في بقيّة الشروح -إن شاء اللَّه تعالى-.

(وَبَعْضُهُمْ)؛ أي: بعض هؤلاء الأربعة (كَانَ أَوْعَى)؛ أي: أحفظ، وأحسن إيرادًا وسردًا للحديث (لِحَدِيثِهَا)؛ أي: حديث عائشة رضي الله عنها، (مِنْ بَعْضٍ)

ص: 100

قال الحافظ رحمه الله: هذا إشارة إلى أن بعض هؤلاء الأربعة أمْيَز في سياق الحديث من بعض، من جهة حِفظ أكثره، لا أن بعضهم أضْبط من بعض مطلقًا، ولهذا قال:"أوعى له"؛ أي: للحديث المذكور خاصّة.

(وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا)؛ أي: سياقًا، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة":"اقتصاصًا"؛ أي: حفظًا، يقال: قصصت الشيء: إذا تتبّعت أثره شيئًا بعد شيء، ومنه قوله تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، وقوله:{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11]؛ أي: اتبعي أثره، ومنه القاصّ الذي يأتي بالقصة، ويجوز بالسين: قسست أثره قَسًّا. انتهى

(1)

.

(وَقَدْ وَعَيْتُ) بفتح العين؛ أي: حفظت (عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم)؛ أي: الأربعة المذكورين، (الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي) ولفظ البخاريّ:"الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عن عائشة"، قال الكرمانيّ: فإن قلت: قال أَوّلًا: "كلهم حدثني طائفة"، وثانيًا:"وعيت عن كل واحد منهم الحديث"، وهما متنافيان.

قلت: المراد بالحديث: البعض الذي حدثه منه؛ إذ الحديث يُطلق على الكل، وعلى البعض، وهذا الذي فعله الزهريّ من جَمْعه الحديث عنهم جائز

(2)

.

وقال في "الفتح": "الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي عن عائشة"، أي: القَدْر الذي حدّثني به؛ ليطابق قوله: "وكلٌّ حدثني طائفة من الحديث"، وحاصله أن جميع الحديث عن مجموعهم، لا أن مجموعه عن كل واحد منهم، ووقع في رواية أفلح:"وبعض القوم أحسن سياقًا".

(وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا) قال الحافظ: كأنه مقلوب، والمقام يقتضي أن يقول: وحديث بعضهم يُصَدِّق بعضًا، ويَحْتَمِل أن يكون على ظاهره، والمراد: أن بعض حديث كلٍّ منهم يدلّ على صدق الراوي في بقية حديثه، لحسن سياقه، وجودة حفظه. انتهى

(3)

.

وقال في "العمدة": القياس أن يقال: بعضهم يصدّق بعضًا، أو حديث

(1)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(3)

"الفتح" 10/ 393.

ص: 101

بعضهم يصدّق بعضًا، ولكن لا شك أن المراد ذلك، لكن قد يُستعمل أحدهما مكان الآخر؛ لِمَا بينهما من الملازمة، بحسب عُرف الاستعمال. انتهى

(1)

.

(ذَكَرُوا)؛ أي: الأربعة المذكورون، ووقع في رواية فُليح:"زعموا أن عائشة قالت" والزعم قد يقع موضع القول، وإن لم يكن فيه تردد، لكن لعلّ السر فيه أن جميع مشايخ الزهريّ لم يصرّحوا له بذلك، كذا أشار إليه الكرمانيّ

(2)

. (أَنَّ عَائِشَةَ زوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ) ووقع في رواية البخاريّ ما لفظه: "الذي حدّثني عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قال في "الفتح": هكذا في رواية الليث، عن يونس، وأما رواية ابن المبارك، وابن وهب، وعبد اللَّه النميريّ، فلم يقل واحد منهم عن يونس: "الذي حدّثني عروة"، وإنما قالوا: عن عائشة، فاقتضت رواية الليث أن سياق الحديث عن عروة، ويَحْتَمِل أن يكون المراد أولى شيء منه، ويؤيده أنه تقدم في "الهبة"، وفي "الشهادات" من طريق يونس، عن الزهريّ، عن عروة وحده، عن عائشة أوّل هذا الحديث، وهو القرعة عند إرادة السفر، وكذلك أفردها أبو داود، والنسائيّ من طريق يونس، وكذا يحيى بن يمان عن معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عند ابن ماجه، والاحتمال الأول أَولى؛ لِمَا ثبت أن الرواة اختلفوا في تقديم بعض شيوخ الزهريّ على بعض، فلو كان الاحتمال الثاني متعينًا لامتنع تقديم غير عروة علر، عروة، ولَأَشعر أيضًا أن الباقين لم يرووا عن عائشة قصة القرعة، وليس كذلك، فقد أخرج النسائيّ قصة القرعة خاصّة من طريق محمد بن عليّ بن شافع، عن الزهريّ، عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه وحده، عن عائشة، وستأتي القصة من رواية هشام بن عروة وحده، وفي سياقه مخالفة كثيرة للسياق الذي هنا للزهريّ عن عروة، وهو مما يتأيد به الاحتمال الأول، واللَّه أعلم. انتهى

(3)

.

(كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا)؛ أي: إلى سفر، فهو منصوب بنزع الخافض، أو ضُمِّن "يَخرج" معنى يُنشئ فيكون سفرًا نصبًا على

(1)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(2)

"الفتح" 10/ 394.

(3)

"الفتح" 10/ 393.

ص: 102

المفعولية، وفي رواية فُليح، وصالح بن كيسان:"كان إذا أراد سفرًا"(أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ)؛ أي: ساهم بينهنّ؛ تطييبًا لقلوبهنّ.

[تنبيه]: قال في "العمدة": كيفية القرعة بالخواتيم، يؤخذ خاتم هذا، وخاتم هذا، ويدفعان إلى رجل، فيُخرج منهما واحدًا، وعن الشافعيّ: يَجعل رقاعًا صغارًا يكتب في كل واحد اسم ذي السهم، ثم يَجعل بنادق طين، ويُغطي عليها ثوبٌ، ثم يُدخل رجل يده، فيخرج بندقة، وينظر مَن صاحبها، فيدفعها إليه، وقال أبو عبيد بن سلام: عَمِل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء عليهم السلام: نبيّنا، ويونس، وزكرياء عليهم السلام. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": ومشروعية القرعة مما اختُلف فيه، والجمهور على القول بها في الجملة، وأنكرها بعض الحنفية، وحَكَى ابن المنذر عن أبي حنيفة القول بها، وجعل البخاريّ ضابطها الأمرَ المشكلَ، وفسّرها غيره بما ثبت فيه الحق لاثنين، فأكثر، وتقع المشاححة فيه، فيُقرَع لفصل النزاع، وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطال شيء من الحقّ كما زعم بعض الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء، فعليهم أن يَعدِلوا ذلك بالقيمة، ثم يقترعوا، فيصير لكل واحد ما وقع له بالقرعة مجتمعًا مما كان له في المُلك مشاعًا فيُضم في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه؛ لأنَّ مقادير ذلك قد عُدِّلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحد منهم شيئًا معينًا، فيختاره الآخر، فيقع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية، وإما في تعيين الملك، فمن الأول عَقْد الخلافة، إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات، والمؤذنين، والأقارب في تغسيل الموتي، والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كنّ في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نَقْل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في الخان المسبَّل، ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القَسم، والدخول في ابتداء النكاح، وفي الإقراع بين العبيد، إذا أوصى بعتقهم، ولم يَسَعْهم الثلث، وهذه

(1)

"عمدة القاري" 13/ 228.

ص: 103

الأخيرة من صُوَر القسم الثاني أيضًا، وهو تعيين المُلك، ومن صُور تعيين الملك: الإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أنَّ للقرعة مدخلًا شرعيًّا في الحقوق المشتركة، وهو قول الكافة، قال أبو عبيدة: وقد عمل بها ثلاثة من الأنبياء: يونس، وزكريا، ومحمد -صلّى اللَّه عليهم وسلّم أجمعين- قال ابن المنذر: واستعمالها كالإجماع بين أهل العلم فيما يُقسم بين الشركاء، ولا معنى لقول من ردّها، وحَكَى عن أبي حنيفة إجازتها، قال: ولا تقسيم في القياس، ولكنا تركنا القياس للآثار.

قال القرطبيّ: ومقتضى هذا أنه قَصَرها على المواضع التي وردت في الأحاديث، دون تعديتها إلى غيرها، وهو قول مالك أيضًا، والمغيرة، وبعض أصحابنا، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة ترك القول بها، وأنكرها بعض الكوفيين، وقال: هي كالأزلام، وبإجازتها في المشكلات قال الشافعيّ، قال القاضي: وهو مشهور مذهب مالك.

وأما القرعة بين النساء إذا أراد سفرًا، فقد اختَلَف العلماء في ذلك، فذهب مالك في أحد قوليه، والشافعيّ، وأبو حنيفة إلى أنه لا يخرج منهنّ إلا من خرجت عليها القرعة؛ تمسُّكًا بظاهر هذا الحديث، فإنه كالنصّ في ذلك، وقال مالك أيضًا: إن له أن يسافر بمن شاء منهنّ بغير قرعة، وإن القسمة هنا سقطت للضرورة؛ إذ قد تكون إحداهنّ أخفّ محملًا، وأقلّ مؤونةً، وأصلح للسفر، والأخرى أصلح للمقام في بيته؛ لسدّ ضيعته، وللقيام بولده، وقد تكون أثقل جسمًا، وأكثر مؤونة.

قال القرطبيّ: والذي يقع لي أن هذا ليس بخلاف في أصل القرعة في هذا، وإنما هذا لاختلاف أحوال النساء، فإذا كان فيهنّ من تصلح للسفر، ومن لا تصلح تعيّن من تصلح، ولا يمكن أن يقال: يجب أن يسافر بمن لا تصلح؛ لأنَّ ذلك ضرر، ومشقة عليه، و"لا ضرر، ولا ضرار"

(2)

، وانما تدخل القرعة

(1)

"الفتح" 6/ 565 - 566، "كتاب الشهادات" رقم (2686).

(2)

هذا حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه بلفظ:"قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن لا ضرر، ولا ضِرار"، قاله الشيخ الألباني رحمه الله.

ص: 104

إذا كنّ كلهنّ صالحات للسفر، فحينئذ تتعيّن القرعة؛ لأنَّه لو أخرج واحدة منهنّ بغير قرعة لخيف أن يكون ذلك ميلًا إليها، ولكان للأخرى مطالبته بحقها، فإذا خرج بمن وقعت عليها القرعة انقطعت حجَّة الأخرى، وارتفعت التهمة عنه، وطاب قلب من بقي منهنّ، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الحقّ أن القرعة مشروعة، لصحة الأدلة على ذلك، وليس للمانعين حجة مقنعة، بل هي مجرّد استدلال عقليّ؛ فتأمل بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَيَّتُهُنَّ) وقع في رواية الأصيليّ من طريق فُليح: "فأيّهنّ" بغير مثناة، والأولى أَولى، (خَرَجَ سَهْمُهَا) بالقرعة (خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ) إلى السفر. (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها:(فَأَقْرَعَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا) هي غزوة بني المصطلِق، وصرّح بذلك محمد بن إسحاق في روايته، وكذا أفلح بن عبد اللَّه عند الطبرانيّ، وعنده في رواية أبي أويس:"فخرج سهم عائشة في غزوة بني المصطلِق، من خُزاعة"، وعند البزار من حديث أبي هريرة:"فأصابت عائشةَ القرعةُ في غزوة بني المصطلِق"، وفي رواية بكر بن وائل، عند أبي عوانة ما يُشعر بأن تسمية الغزوة في حديث عائشة مدرَج في الخبر، قاله في "الفتح"

(2)

.

[تنبيه]: اختُلف في غزوة المصطلِق متى كانت؟:

قال في "الفتح": أما المصطلق: فهو بضم الميم، وسكون الصاد المهملة، وفتح الطاء المهملة، وكسر اللام، بعدها قاف، وهو لقب، واسمه جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بطن من بني خزاعة.

وأما المريسيع: فبضم الميم، وفتح الراء، وسكون التحتانيتين، بينهما مهملة مكسورة، وآخره عين مهملة، هو ماء لبني خزاعة، بينه وبين الفُرْع مسيرة يوم.

قال ابن إسحاق: كانت سنة ست، كذا هو في مغازي ابن إسحاق، رواية يونس بن بكرٍ، وغيره عنه، وقال: في شعبان، وبه جزم خليفة، والطبريّ، وروى البيهقيّ من رواية قتادة، وعروة، وغيرهما، أنها كانت في شعبان سنة خمس، وكذا ذكرها أبو معشر قبل الخندق.

(1)

"المفهم" 7/ 365 - 366.

(2)

"الفتح" 10/ 395.

ص: 105

وقال موسى بن عقبة: سنة خمس، ولفظه: ثم قاتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بني المصطلق، وبني لحيان، في شعبان سنة خمس، ويؤيده ما أخرجه البخاريّ في "الجهاد" عن ابن عمر أنه غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم بني المصطلق في شعبان سنة أربع، ولم يؤذَن له في القتال؛ لأنه إنما أُذن له فيه في الخندق، كما تقدم، وهي بعد شعبان، سواء قلنا: إنها كانت سنة خمس، أو سنة أربع، وقال الحاكم في "الإكليل": قول عروة وغيره: إنها كانت في سنة خمس أشبه من قول ابن إسحاق.

قال الحافظ: ويؤيده ما ثبت في حديث الإفك أن سعد بن معاذ تنازع هو وسعد بن عبادة في أصحاب الإفك، كما سيأتي، فلو كان المريسيع في شعبان سنة ست مع كون الإفك كان فيها، لكان ما وقع في "الصحيح" من ذِكر سعد بن معاذ غلطًا؛ لأن سعد بن معاذ مات أيام قريظة، وكانت سنة خمس على الصحيح، كما تقدم تقريره، وإن كانت كما قيل: سنة أربع، فهي أشدّ، فيظهر أن المريسيع كانت سنة خمس في شعبان؛ لتكون قد وقعت قبل الخندق؛ لأن الخندق كانت في شوال من سنة خمس أيضًا، فتكون بعدها، فيكون سعد بن معاذ موجودًا في المريسيع، ورُمي بعد ذلك بسهم في الخندق، ومات من جراحته في قريظة، قال: ويؤيده أيضًا أن حديث الإفك كان سنة خمس؛ إذ الحاديث فيه التصريح بأن القصة وقعت بعد نزول الحجاب، والحجاب كان في ذي القعدة سنة أربع عند جماعة، فيكون المريسيع بعد ذلك، فيرجح أنها سنة خمس، أما قول الواقديّ: إن الحجاب كان في ذىِ القعدة سنة خمس فمردود، وقد جزم خليفة، وأبو عبيدة، وغير واحد بأنه كان سنة ثلاث، فحصلنا في الحجاب على ثلاثة أقوال: أشهرها سنة أربع، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن الصحيح كون غزوة المصطلق سنة خمس من الهجرة، واللَّه تعالى أعلم.

(فَخَرَجَ فِيهَا)، أي: تلك الغزوة، (سَهْمِي) قال في "الفتح": هذا يُشعر بأنها كانت في تلك الغزوة وحدها، لكن عند الواقديّ من طريق عبّاد بن عبد اللَّه

(1)

"الفتح" 9/ 241 - 242، "كتاب المغازي" رقم (4138).

ص: 106

عنها، أنها خرجت معه في تلك الغزوة أيضًا أم سلمة، وكذا في حديث ابن عمر، وهو ضعيف، ولم يقع لأم سلمة في تلك الغزوة ذِكر، ورواية ابن إسحاق من رواية عبّاد ظاهرة في تفرّد عائشة بذلك، ولفظه:"فخرج سهمي عليهنّ، فخرج بي معه". انتهى

(1)

.

(فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ)؛ أي: بعدما نزل الأمر بالحجاب، والمراد: حجاب النساء عن رؤية الرجال لهنّ، وكنّ قبل ذلك لا يُمنعن، وهذا قالته كالتوطئة للسبب في كونها كانت مستترةً في الهودج، حتى أفضى ذلك إلى تحميله، وهي ليست فيه، وهم يظنون أنها فيه، بخلاف ما كان قبل الحجاب، فلعل النساء حينئذ كنّ يركبن ظهور الرواحل بغير هوادج، أو يركبن الهوادج غير مستترات، فما كان يقع لها الذي يقع، بل كان يعرف الذي كان يَخدْم بعيرها، إن كانت ركبت أم لا.

(فَأَنَا أُحْمَلُ) بالبناء للمفعول، (فِي هَوْدَجِي) بفتح الهاء، وسكون الواو، وبفتح الذال المهملة، وفي آخره جيم، وهو مَرْكب من مراكب العرب، أُعِدّ للنساء، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": "الهودج" بفتح الهاء، والدال، بينهما واو ساكنة، وآخره جيم: مَحْمِل، له قُبّة، تُستر بالثياب ونحوه، يوضع على ظهر البعير، يركب عليه النساء؛ ليكون أستر لهنّ، ووقع في رواية أبي أويس بلفظ:"الْمِحَفّة"

(3)

.

(وَأُنْزَلُ فِيهِ)، وفي رواية ابن إسحاق:"فكنت إذا رَحُلوا بعيري جلست في هودجي، ثم يأخذون بأسفل الهودج، فيضعونه على ظهر البعير".

وقوله: (مَسِيرَنَا) هكذا رواية مسلم، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"فَسِرْنا حتى إذا فرغ إلخ"، وللأول وجه، وهو أن "مسيرنا" ظرف تنازعه "أُحمل"، و"أُنزل"؛ والمعنى: أن هذا الحمل في الهودج، والإنزال فيه كان في جميع أوقات السير، وأماكنه.

(1)

"الفتح" 10/ 395.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(3)

"الفتح" 10/ 395.

ص: 107

(حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوِهِ) قال في "الفتح": كذا اقتصرت القصةَ؛ لأن المراد سياق قصة الإفك خاصّة، وإنما ذكرتْ ما ذكرتْ ذلك كالتوطئة؛ لِما أرادت اقتصاصه، ويَحْتَمِل أن تكون ذكرت جميع ذلك، فاختصره الراوي؛ للغرض المذكور، ويؤيده أنه قد جاء عنها في قصة غزوة بني المصطلق أحاديث غير هذا، ويؤيد الأول أن في رواية الواقديّ عن عباد:"قلت لعائشة: يا أمتاه حدثينا عن قصة الإفك، قالت: نعم"، وعنده:"فخرجنا، فغَنَّمه اللَّه أموالهم، وأنفسهم، ورجعنا". انتهى

(1)

.

(وَقَفَلَ) بقاف وفاء، من باب نصر، وضرب قُفولًا

(2)

؛ أي: رجع من غزوته. (وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ) زاد في رواية البخاريّ: "قافلين"؛ أي: راجعين، والمراد: أن قصتها وقعت حال رجوعهم من الغزوة قُرب دخولهم المدينة. (آذَنَ) بالمدّ، والتخفيف، وبغير مدّ، والتشديد، كلاهما بمعنى أعْلَمَ بالرحيل، وفي رواية ابن إسحاق:"فنزل منزلًا، فبات به بعض الليل، ثم آذن بالرحيل". (لَيْلَةً) ظرف لـ "آذن"، (بِالرَّحِيلِ)؛ أي: بالذهاب من ذلك الموضع، وفي رواية بعضهم:"الرحيلَ" بغير موحّدة، وبالنصب، وكأنه حكاية قولهم: الرحيلَ بالنصب على الإغراء، قاله في "الفتح"

(3)

.

(فَقُمْتُ)؛ أي: من منزلي (حِينَ آذَنُوا)؛ أي: أعلموا (بِالرَّحِيلِ)؛ أي: بالارتحال، (فَمَشَيْتُ) بفتح الشين، من باب ضرب؛ أي: ذهبت لأقضي حاجتي منفردة، (حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ) وبعُدت عنهم، (فَلَمَّا قَضَيْتُ)؛ أي: فرغت (مِنْ شَأْنِي) ولفظ البخاريّ: "فلما قضيت شأني"؛ أي: الذي توجهت بسببه، وقال العينيّ؛ أي: ما يتعلق بقضاء الحاجة، وهو ما يُكنى عنه؛ استقباحًا لذكره. انتهى

(4)

.

قال في "الفتح": ووقع في حديث ابن عمر خلاف ما في "الصحيح"، وأن سبب توجهها لقضاء حاجتها أن رَحْل أم سلمة مَالَ، فأناخوا بعيرها؛ ليصلحوا رحلها، قالت عائشة: فقلت: إلى أن يُصلحوا رحلها، قضيت

(1)

"الفتح" 10/ 395.

(2)

راجع: "القاموس" ص 1080.

(3)

"الفتح" 10/ 396.

(4)

"عمدة القاري" 13/ 228.

ص: 108

حاجتي، فتوجهت، ولم يعلموا بي، فقضيت حاجتي، فانقطعت قلادتي، فأقمت في جمعها، ونظامها، وبعث القوم إبلهم، ومضوا، ولم يعلموا بنزولي، وهذا شاذّ، منكرٌ. انتهى

(1)

.

(أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ) قال الكرمانيّ: الرحل: المتاع، وقال العينيّ: الرحل: المنزل، والمسكن، يقال: انتيهنا إلى رحالنا؛ أي: إلى منازلنا. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ: الرَّحْلُ: كلُّ شيء يُعَدّ للرحيل، من وعاء للمتاع، ومركب للبعير، وحِلْس، ورَسَن، وجَمْعه أَرْحُلٌ، ورِحَالٌ، مثلُ أَفْلُسٍ، وسِهَامٍ. انتهى

(3)

.

(فَلَمَسْتُ) بيدي (صَدْرِي)، وقوله:(فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني انقطاع عقدي. (عِقْدِي) بكسر العين: قلادةٌ تُعَلَّق في العنق، للتزين بها، (مِنْ جَزْعِ) -بفتح الجيم، وسكون الزاي، بعدها عين مهملة-: خَرَزٌ معروف، في سواده بياض؛ كالعروق، قال ابن القطّاع: هو واحد، لا جمع له، وقال ابن سيده: هو جَمْع واحده جَزَعة، وهو بالفتح، فأما الجزع بالكسر، فهو جانب الوادي، ونَقَل كراع أن جانب الوادي بالكسر فقط، وأن الآخر يقال بالفتح، وبالكسر، وأغرب ابن التين فحكى فيه الضم، قال التيفاشيّ: يوجد في معادن العقيق، ومنه ما يؤتى به من الصين، قال: وليس في الحجارة أصلب جسمًا منه، ويزداد حُسْنه إذا طُبخ بالزيت، لكنهم لا يتيمّنون بِلُبسه، ويقولون: من تقلّده كَثُرت همومه، ورأى منامات رديئة، وإذا عُلِّق على طفل سال لعابه، ومن منافعه إذا أُمِرّ على شعر الْمَطْلُوقة

(4)

لسَهُلت ولادتها

(5)

. (مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ) قال النوويّ رحمه الله: الجزع: بفتح الجيم، وإسكان الزاي، هو خرز يمانيّ، وأما ظَفَار: فبفتح الظاء المعجمة، وكسر الراء، وهي مبنية على الكسر، تقول: هذه

(1)

"الفتح" 10/ 396.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 228.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(4)

وقع في نسخة "الفتح" الْمُطلَقَة، والذي في كتب اللغة أنها المطلوقة، يقال: طُلقت المرأة بالبناء للمفعول، فهي مطلوقة وهي التي أخذها وجع الولادة.

(5)

"الفتح" 10/ 396.

ص: 109

ظفارِ، ودخلت ظفارِ، وإلى ظفارِ بكسر الراء، بلا تنوين في الأحوال كلها، وهيب قرية في اليمن. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "من جزع أظفار"، قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية: "أظفار" بزيادة ألف، وكذا في رواية فليح، لكن في رواية الكشميهنيّ من طريقه:"ظفار"، وكذا في رواية معمر، وصالح، وقال ابن بطال: الرواية: "أظفار"، بألف، وأهل اللغة لا يعرفونه بألف، ويقولون:"ظفار"، قال ابن قتيبة:"جزع ظفاري"، وقال القرطبيّ: وقع في بعض روايات مسلم: "أظفار"، وهي خطأ.

قال الحافظ: لكنها في أكثر روايات أصحاب الزهريّ، حتى إن في رواية صالح بن أبي الأخضر عند الطبرانيّ:"جزع الأظافير".

فأما ظفار -بفتح الظاء المعجمة، ثم فاء، بعدها راء، مبنية على الكسر- فهي، مدينة باليمن، وقيل: جبل، وقيل: سُمِّيت به المدينة، وهي في أقصى اليمن إلى جهة الهند، وفي المثل:"من دخل ظفار حَمِر"؛ أي: تكلم بالحِمْيرية؛ لأن أهلها كانوا من حِمْير، وإن ثبتت الرواية:"من جزع أظفار" فلعل عِقدها كان من الظفر، أحد أنواع القُسط، وهو طيّب الرائحة، يُتبخّر به، فللَّه عُمل مثل الخرز، فأَطلقت عليه جزعًا؛ تشبيهًا به، ونظمته قلادة، إما لِحُسن لونه، أو لطيب ريحه.

وقد حَكَى ابن التين أن قيمته كانت اثني عشر درهمًا، وهذا يؤيد أنه ليس جَزَعًا ظفاريًّا؛ إذ لو كان كذلك لكانت قيمته أكثر من ذلك.

ووفع في رواية الواقديّ: "فكان في عنقي عِقدٌ من جزع ظفارِ، كانت أمي أدخلتني به على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: صحيح الرواية: "ظفار"، كما قاله ابن السكيت، وفي "الصحاح": ظفارِ: مثل قَطَامِ: مدينة في اليمن، يقال:"من دخل ظفار حَمَّر"، وجَزْعٌ ظفاريٌّ: منسوب إليها، وكذلك عُود ظفاريّ، وهو العود الذي

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 104.

(2)

"الفتح" 10/ 396 - 397.

ص: 110

يُتبخَّر به، وعلى هذا فمن قيّده جزع أظفار بألف، فقد أخطأ، وبالوجه الصحيح رويته. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قولها: "من جزع أظفار": الجزع بفتح الجيم، وسكون الزاي: خرز يمان، وزعم أبو العباس أحمد بن يوسف التيفاشي في كتابه "الأحجار": إنه يوجد في اليمن في معادن العقيق، ومنه ما يؤتى به من الصين، وهو أصناف، فمنه البقرانيّ، والغرويّ، والفارسيّ، والحبشيّ، والعسليّ، والمعرق، وليس في الحجارة أصلب من الجزع جسمًا، لا يكاد يجيب من يعالجه سريعًا، وإنما يحسن إذا طبخ بالزيت، وزعمت الفلاسفه أنه يُشتق من اسمه الجزع؛ لأنه يُوَلِّد في القلب جزعًا، ومن تقلّد به كثُرت همومه، ورأى أحلامًا رديئةً، وكثر الكلام بينه وبين الناس، وإن عُلِّق على طفل كثر لعابه، وسال، وإن لُفّ في شعر الْمُطلقة

(2)

ولدت، ويقطع نفث الدم، ويختم القروح، وعند البكريّ: ومنه جزع يُعرف بالنقمي، ومعدنه بضمير وسعوان، وعذيقة، ومخلاف حولان، والجزع السماويّ، وهو العشاريّ، وقال ثعلب في "الفصيح": والجزع: الخرز، وقال ابن درستويه: ليس كل الخرز يسمى جزعًا، وإنما الجزع منها المجزع؛ أي: المقطع بالألوان المختلفة، قد قَطع سوادُه ببياضَه، وفي "المنضد" لكراع، عن الأثرم: أهل البصرة يقولون: الْجَزْع، والْجِزْع بالفتح، والكسر: الخرز، وقال أبو القاسم التميمي في كتابه "المستطرف" عن بندار: الجزع واحد، لا جمع له، وقال الحربيّ، وابن سِيده: الجزع: الخرز، واحدته جزعة.

وقولها: "أظفار" بالألف في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهنيّ "ظفار" بلا ألف، وكذا وقع في "صحيح مسلم" بلا ألف، وقال القرطبيّ: مَن قيّده بألف أخطأ، وصحيح الرواية بفتح الظاء، وقال ابن السكيت:"ظفار" قرية باليمن، وعن ابن سعد: جبل، وفي "الصحاح": مبني على الكسر؛ كقَطَامِ، وقال البكريّ: قال بعضهم: سبيلها سبيل المؤنث، لا ينصرف، وقال ابن

(1)

"المفهم" 7/ 366 - 367.

(2)

تقدّم أن الصواب الْمَطلوقة، وهي التي أخذها الطلق، الولادة.

ص: 111

قرقول: تُرفع، وتُنصب، وقال أبو عبيد: وقَصْر المملكة بظفارِ قصر ذي ريدان، ويقال: إن الجن بَنَتها، وقال الكرمانيّ: ظفار بفتح المعجمة، وخفة الفاء، وبالراء: مدينة باليمن، ويقال: جَزْعٌ ظَفَاريّ، وفي بعضها أظفار، بزيادة همزة في أولها، نحو الأظفار جمع الظفر، ولعله سُمّي به؛ لأن الظفر نوع من العطر، أو لأنه ما اطمأنّ من الأرض، أو لأن الأظفار اسم لعُود يمكن أن يُجعل كالخرز، فيتحلى به. انتهى.

وقال ابن التين: في بعض الروايات: العقد الملتمس مقدار ثمنه اثني عشرة درهمًا. انتهى

(1)

.

(قَدِ انْقَطَعَ) وفي رواية ابن إسحاق: "قد انسلّ من عنقي، وأنا لا أدري"، (فَرَجعْتُ، فَالْتَمَسْتُ)؛ أيْ طلبت (عِقْدِي، فَحَبَسَنِي)؛ أي: منعني (ابْتِغَاؤُهُ)؛ أي: طلب ذلك العقد الذي قد انقطع منّي، وفي رواية ابن إسحاق:"فرجعت عَودي على بَدْئي إلى المكان الذي ذهبت إليه"، وفي رواية الواقديّ:"وكنت أظنّ أن القوم لو لبثوا شهرًا لم يبعثوا بعيري، حتى أكون في هودجي".

(وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ) -بفتح الراء، وسكون الهاء، وتفتح-، قال الفيّوميّ رحمه الله: الرَّهْطُ: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرَّهْطُ من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نَفَرٌ، وقال أبو زيد: الرَّهْطُ، والنَّفَرُ ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضًا: الرَّهْطُ، وَالنَّفَرُ، وَالقَوْمُ، وَالمَعْشَرُ؛ وَالعَشِيرَةُ، معناهم: الجمع لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السِّكِّيت: الرَّهْطُ، وَالْعَشِيرَةُ بمعنًى، ويقال: الرَّهْطُ ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورَهْطُ الرجلِ: قومُه، وقبيلته الْأَقربونَ. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ: ولم أعرف من الرهط هنا أحدًا، إلا أن في رواية الواقديّ أن أحدهم أبو موهوبة، مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو أبو مويهبة الذي رَوَى عنه عبد اللَّه بن عمرو بن العاص حديثًا في مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووفاته، أخرجه

(1)

"عمدة القاري" 13/ 228 - 229.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 241 - 242.

ص: 112

أحمد، وغيره، قال البلاذريّ: شَهِد أبو مويهبة غزوة المريسيع، وكان يَخْدُم بعير عائشة، وكان من مُوَلّدي بني مزينة، وكأنه في الأصل أبو موهوبة، ويُصغّر، فيقال أبو مويهبة. انتهى

(1)

.

(الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي) بفتح حرف المضارعة، وسكون الراء، وفتح الحاء، يقال: رحلتُ البعيرَ رَحْلًا، من باب نَفَعَ: شددت عليه رحله

(2)

، وتقدّم قريبًا معنى الرحل.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يَرْحلون لي" هكذا وقع في أكثر النسخ: "لي" باللام، وفي بعض النسخ:"بي" بالباء، واللام أجود، و"يَرْحَلون" بفتح الياء، وإسكان الراء، وفتح الحاء المخففة؛ أي: يجعلون الرَّحْل على البعير، وهو معنى قولها:"فَرَحلوه" بتخفيف الحاء. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "يرحلون" بفتح أوله، والتخفيف، رحلت البعير: إذا شددت عليه الرحل، ووقع في رواية أبي ذرّ هنا بالتشديد في هذا، وفي:"فرحلوه".

قال: وقوله: "لي"، في رواية معمر:"بي"، وحَكَى النوويّ عن أكثر نُسخ "صحيح مسلم":"يرحلون لي"، قال: وهو أجود، وقال غيره بالباء أجود؛ لأن المراد وَضْعها، وهي في الهودج، فشَبَّهَت الهودجَ الذي هي فيه بالرحل الذي يوضع على البعير. انتهى

(4)

.

(فَحَمَلُوا هَوْدَجِي) بفتح الهاء، وسكون الواو: مَرْكَب من مراكب النساء، كما مرّ قريبًا، وقولها:(فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِيَ) تفسير وتوضيح لمعنى قولها: "فحملوا هودجي"، و"البعير" تقدّم أنه بفتح الموحّدة، وتُكسر قليلًا، ويُطلق على الذكر والأنثى، بخلاف الجمل، فإنه خاصّ بالذكر، والناقة، فإنها خاصّة بالأنثى.

وقال في "الفتح": "فرحلوه"؛ أي: وضعوه، وفيه تجوّز، وإنما الرحل هو الذي يوضع على ظهر البعير، ثم يوضع الهودج فوقه. انتهى

(5)

.

(1)

"الفتح" 10/ 397.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 222.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 104.

(4)

"الفتح" 10/ 397 - 398.

(5)

"الفتح" 10/ 398.

ص: 113

(الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ)، وقولها:(وَهُمْ يَحْسَبُونَ) بفتح السين، وكسرها، من بابي عَلِمَ، وورِثَ، أي: يظنّون (أَنِّي فِيهِ) بفتح همزة "أنّ"؛ لسدّها مسدّ مفعولي "يحسبون"، ثم بيّن سبب هذا الحسبان، فـ (قَالَتْ: وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ)؛ أي: وقت حدوث هذه الواقعة، (خِفَافًا) بكسر الخاء، وتخفيف الفاء، وقال في "الفتح": قولها: "وكان النساء إذ ذاك خفافًا" قالت هذا كالتفسير لقولها: "وهم يحسبون أني فيه". انتهى

(1)

.

(لَمْ يُهَبَّلْنَ) قال النوويّ رحمه الله: ضبطو "يهبلن" على أوجه:

أشهرها: ضم الياء، وفتح الهاء، والباء المشدّدة؛ أي: يثقلن باللحم، والشحم.

والثاني: "يَهْبَلْنَ" بفتح الياء، والباء، وإسكان الهاء بينهما.

والثالث: بفتح الياء، وضم الباء الموحّدة، ويجوز بضم أوله، وإسكان الهاء وكسر الموحّدة، قال أهل اللغة: يقال: هبله اللحم، وأهبله: إذا أثقله، وكَثُر لحمه، وشحمه، وفي رواية البخاريّ:"لَمْ يثقلهنّ اللحم"، وهو بمعناه، وهو أيضًا المراد بقولها:"ولم يغشهنّ اللحم، ويأكلن العُلْقة" بضم العين؛ أي: القليل، ويقال لها أيضًا: البلغة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" قولها: "لم يثقلهنّ اللحم"، في رواية فُليح:"لم يثقلهنّ، ولم يغشهنّ اللحم".

قال ابن أبي جمرة: ليس هذا تكرارًا؛ لأن كل سمين ثقيل من غير عكس؛ لأن الهزيل قد يمتلئ بطنه طعامًا، فيثقل بدنه، فأشارت إلى أن المعنيَيْن لم يكونا في نساء ذلك الزمان

(3)

.

وقال الخطابيّ

(4)

: معنى قولها: "لم يغشهنّ"؛ أي: لم يكثر عليهنّ، فيركب بعضه بعضًا، وفي رواية معمر:"لم يهبلهن" وضبطه ابن الخشاب فيما حكاه ابن الجوزيّ

(5)

بفتح أوله، وسكون الهاء، وكسر الموحّدة، ومثله

(1)

"الفتح" 10/ 398.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 104.

(3)

"بهجة النفوس" 3/ 46.

(4)

"الأعلام" 2/ 1309.

(5)

"كشف المشكل" 4/ 326.

ص: 114

القرطبيّ

(1)

لكن قال: وضم الموحّدة، قال: لأن ماضيه بفتحتين مخففًا، ثم ذكر ما تقدّم عن النوويّ، وفي رواية ابن جريج:"لم يهبلهن اللحم"، وحَكَى القرطبيّ أنها في رواية لابن الحذاء في مسلم أيضًا، وأشار إليها ابن الجوزيّ

(2)

، وقال: المهبل: الكثير اللحم، الثقيل الحركة، من السِّمَن، وفلان مهبل، أي: مهيج، كأن به ورمًا. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: اختَلَف الرواة في تقييد هذا الحرف -يعني: لم يهبّلن- فرواه العذريّ بضم الياء، وفتح الهاء، وتشديد الباء، على ما لم يُسَمّ فاعله، ومن طريق الطبريّ: بفتح الياء، وسكون الهاء، وفتح الباء، والصواب بضمها؛ لأنَّ ماضيه فَعُل، وفي بعض الروايات عن ابن الحذاء:"لم يُهَبِّلْن" بضم الياء، وفتح الهاء، وكسر الباء مشدّدة، وهذه الرواية هي المعروفة في اللغة، قال في "الصحاح": هبّله اللحمُ: إذا كَثُر عليه، وركب بعضه على بعض، وأهبله أيضًا، يقال: رجل مُهْبَّلٌ، قال أبو كبير [من الكامل]:

مِمَّنْ حَمَلْنَ بِهِ وَهُنَّ عَوَاقِدٌ

حُبُكَ النِّطَاقِ فَشَبَّ غَيْرَ مُهَبَّلِ

قال: وقالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: "والنساء يومئذ لم يُهَبِّلهنّ اللحمُ". انتهى

(3)

.

(وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ) كذا للأكثر، وفي رواية الكشميهنيّ هنا:"إنما نأكل" بالنون أوله، وباللام فقط، (الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ) بضم العين المهملة، وسكون اللام، ثم قاف، أي: القليل، قال القرطبيّ: كأن المراد: الشيء القليل الذي يُسَكِّن الرّمَقَ، كذا قال، وقد قال الخليل: الْعُلْقة: ما فيه بُلْغَةٌ من الطعام إلى وقت الغداء، حكاه ابن بطال، قال: وأصلها شجر يبقى في الشتاء، تتبلغ به الإبل حتى يدخل زمن الربيع. انتهى

(4)

.

(فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ) وفي رواية للبخاريّ: "فلم يستنكر القوم خِفّة الهودج"، قال في "الفتح": وهذا أوضح؛ لأن مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها، وهي ليست فيه، فكأنها تقول: كأنها لخفة جسمها، بحيث إن

(1)

"المفهم" 7/ 367.

(2)

"كشف المشكل" 4/ 326 - 327.

(3)

"المفهم" 7/ 367.

(4)

"الفتح" 10/ 399.

ص: 115

الذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه، وعدمها، ولهذا أردفت ذلك بقولها:"وكنت جاريةً، حديثة السنّ"؛ أي: أنها مع نحافتها صغيرة السنّ، فذلك أبلغ في خفتها، وقد وُجِّهت رواية مسلم بأن المراد: لم يستنكروا الثقل الذي اعتادوه؛ لأن ثقله في الأصل إنما هو مما رُكِّب الهودج منه، من خشب، وحبال، وستور، وغير ذلك، وأما هي فلشدّة نحافتها كان لا يظهر بوجودها فيه زيادة ثقل.

والحاصل: أن الثقل والخفة من الأمور الإضافية، فيتفاوتان بالنسبة، ويستفاد من ذلك أيضًا أن الذين كانوا يَرْحَلون بعيرها كانوا في غاية الأدب معها، والمبالغة في ترك التنقيب عما في الهودج، بحيث إنها لم تكن فيه، وهم يظنون أنها فيه، وكأنهم جوّزوا أنها نائمة. انتهى

(1)

.

(حِينَ رَحَلُوهُ)، أي: حملوه على الرحل، وقولها:(وَرَفَعُوهُ) تأكيد لمعنى "رحلوه"، قالت عائشة رضي الله عنها:(وَكُنْتُ جَارَيةً حَدِيثَةَ السِّنِّ) هو كما قالت؛ لأنها أُدخلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة في شوال، ولها تسع سنين، وأكثر ما قيل في المريسيع: إنها عند ابن إسحاق كانت في شعبان سنة ست، فتكون لم تكمل خمس عشرة، فإن كانت المريسيع قبل ذلك، فتكون أصغر من ذلك، وفائدة ذكرها هذا أنها مع نحافتها صغيرة السنّ، فذلك أبلغ في خفتها، ويَحْتَمِل أن تكون أشارت بذلك إلى بيان عُذرها فيما فعلته من الحرص على العقد الذي انقطع، ومن استقلالها بالتفتيش عليه في تلك الحال، وترك إعلام أهلها بذلك، وذلك لِصِغَر سنها، وعدم تجاربها للأمور، بخلاف ما لو كانت ليست، صغيرة، لكانت تتفطن لعاقبة ذلك، وقد وقع لها بعد ذلك في ضياع العقد أيضًا أنها أعلمت النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمره، فأقام بالناس على غير ماء، حتى وجدته، ونزلت آية التيمم بسبب ذلك، فظهر تفاوت حال من جرّب الشيء، ومن لم يجربه، وقد تقدم إيضاحه في "كتاب التيمم".

(فَبَعَثُوا الْجَمَلَ)، أي: أثاروه، (وَسَارُوا) نحو المدينة ظانّين أنها في هودجها، قالت:(وَوَجَدْتُ عِقْدِي)؛ أي: قلادتي التي انقطعت منّي، ثم

(1)

"الفتح" 10/ 399.

ص: 116

ضاعت (بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ)"بعد" ظرف لـ "وجدت"، و"ما" مصدريّة، و"استمرّ" بمعنى مضى

(1)

؛ أي: بعد مضيّ الجيش، وذهابه، وقال في "الفتح":"استمرّ"؛ أي: ذهب ماضيًا، وهو استَفْعل، من مَرّ. انتهى.

وقال في "العمدة": "واستمرّ"؛ أي: ذهب، ومضي، قاله الداوديّ، ومنه قوله تعالى:{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]؛ أي: ذاهب، أو معناه دائم، أو قويّ شديد. انتهى

(2)

.

(فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ) جمع منزل؛ أي: مواضع نزول الجيش، (وَ) الحال أنه (لَيْسَ بِهَا)، أي: بتلك المنازل (دَاعٍ)، أي: طالب يطلب الضائع، وينادي: يا فلان أين أنت، (وَلَا مُجِيبٌ)؛ أي: لذلك الداع، والمراد أنه ليس هناك طالب ولا مطلوب، بل ذهب كل من كان في ذلك الموضع. وفي رواية فليح:"وليس فيها أحدٌ".

[فإن قيل]: لِمَ لَمْ تستصحب عائشة معها غيرها، فكان أدعى لأمنها، مما يقع للمنفرد، ولكانت لَمّا تأخرت للبحث عن العقد، ترسل من رافقها؛ لينتظروها، إن أرادوا الرحيل؟

[والجواب]: أن هذا من جملة ما يستفاد من قولها: "حديثة السنّ"؛ لأنها لم يقع لها تجربة مثل ذلك، وقد صارت بعد ذلك إذا خرجت لحاجتها تستصحب، كما سيأتي في قصتها مع أم مسطح.

(فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي)؛ أي: قصدت، وفي رواية البخايّ:"فأممت منزلي" بالتخفيف؛ أي: قَصدته، قال في "الفتح": وفي رواية أبي ذرّ هنا بتشديد الميم الأُولى، قال الداوديّ: ومنه قوله تعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، قال ابن التين: هذا على أنه بالتخفيف. انتهى.

(الَّذِي كُنْتُ) نازلة (فِيهِ) أَوّلًا، (وَظَنَنْتُ) الظنّ هنا بمعنى العلم؛ أي: علمت (أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونَنِي) هكذا في بعض النسخ: بنونين، إحداهما نون الرفع، والثانية نون الوقاية، وفي بعض النسخ:"سيفقدوني" بنون واحدة، وهو يَحْتَمل أن تكون النون مخفّفة بحذف إحدى النونين، ويَحْتَمل أن تكون مشدّدة، بإدغام المتماثلين.

(1)

راجع: "القاموس".

(2)

"عمدة القاري" 13/ 229.

ص: 117

ومعنى "يفقدوني": يَعدموني، يقال: فقده فقدًا، من باب ضرب، وفِقدانًا: عَدِمه، وافتقده مثله، وتفقّده: طلبه عند غَيبته

(1)

.

وقال المرتضى رحمه الله

(2)

: فَقَدَهُ يَفْقِدُه فَقْدًا، بفتح، فسكون، وفِقْدانًا بالكسر، وفُقْدَانًا بالضمّ، وفُقُودًا بالضَمِّ، عَدِمَه.

قال: وفي "المُفْرَدات" للراغب: الفَقْدُ أَخَصُّ من العَدَمِ؛ لأن العَدَم بعْدَ الوُجُودِ؛ أي: فهو أَعَمُّ، وقال أيضًا: التّفَقُّد: تَعْرُّفُ فِقْدَانِ الشيءِ، والتعَهُّد: تَعرُّفُ العَهْد المتقدّم.

قال: وقد أنشدَنَا بعضُ الأصحاب:

تَفَقُّدُ الخِلَّانِ مُسْتَحْسَنٌ

فَمَنْ بَدَاهُ فنِعمًّا بَدَا

سَنَّ سُلَيْمَانُ لنا سُنَّةً

فكان فيما سَنَّهُ المُقْتَدَى

تَفَقَّدَ الطَّيْرَ على رأْسِهِ

فقال ما لِي لا أَرى الهُدْهُدَا

(فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ) وقع في رواية معمر: "فيرجعوا" بغير نون، وكأنه على لغة من يحذفها مطلقًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وإلى أحكام نون الرفع ثبوتًا وحذفًا أشار ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية"

(3)

، فقال:

بِالنُّونِ رَفْعُ نَحْوِ "يَذْهَبُونَا"

وَ"تَذْهَبَانِ" ثُمَّ "تَذْهَبِينَا"

وَاحْذِفْ إِذَا جَزَمْتَ أَوْ نَصَبْتَا

كَـ "لَمْ تَكُونَا لِتَرُومَا سُحْتَا"

وَحَذْفُهَا فِي الرَّفْع قَبْلَ "نِي" أَتَى

وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامُ أَيْضًا ثَبَتَا

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"

قال عياض: الظنّ هنا بمعنى العلم، وتُعُقّب باحتمال أن يكون على بابه، فإنهم أقاموا إلى وقت الظهر، ولم يرجع أحد منهم إلى المنزل الذي كانت به، ولا نُقل أن أحدًا لاقاها في الطريق، لكن يَحْتَمِل أن يكونوا استمرّوا في السير إلى قرب الظهر، فلما نزلوا إلى أن يشتغلوا بحطّ رحالهم، ورَبْط رواحلهم،

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 478.

(2)

"تاج العروس" ص 2175.

(3)

"الكافية الشافية" لابن مالك رحمه الله 1/ 207 بنسخة الشرح.

ص: 118

واستصحبوا حالهم في ظنهم أنها في هودجها، لم يفتقدوها إلى أن وصلت على قرب، ولو فقدوها لرجعوا كما ظنته، وقد وقع في رواية ابن إسحاق:"وعرفت أن لو افتقدوني لرجعوا إليّ"، وهذا ظاهر في أنها لم تَتْبعهم.

ووقع في حديث ابن عمر خلاف ذلك، فإن فيه:"فجئت، فاتّبعتهم، حتى أعييت، فقصت على بعض الطريق، فمَرّ بي صفوان"، وهذا السياق ليس بصحيح؛ لمخالفته لِمَا في "الصحيح"، وأنها أقامت في منزلها إلى أن أصبحت، وكأنه تعارَض عندها أن تتبعهم فلا تأمن أن يختلف عليها الطرق، فتهلك قبل أن تدركهم، ولا سيما وقد كانت في الليل، أو تقيم في منزلها لعلهم إذا فقدوها عادوا إلى مكانها الذي فارقوها فيه، وهكذا ينبغي لمن فَقَد شيئًا أن يرجع بفكره القَهْقَرَى إلى الحد الذي يتحقق وجوده، ثم يأخذ من هناك في التنقيب عليه.

وأرادت بمن يفقدها: من هو منها بسبب؛ كزوجها، أو أبيها، والغالب الأول؛ لأنه كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يساير بعيرها، ويتحدث معها، فكأن ذلك لم يتفق في تلك الليلة، ولمّا لم يتفق ما توقعته من رجوعهم إليها ساق اللَّه إليها من حَمَلها بغير حول منها، ولا قوّة، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(فَبَيْنَا) أصله "بين"، فأشبعت فتحة النون، فصارت ألفًا، وهو مضاف إلى جملة (أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي)، وقولها:(غَلَبَتْنِي) جواب "بينا"، و (عَيْنِي) بالإفراد، (فَنِمْتُ) بكسر النون، من باب عَلِم، وما اشتهر على ألسنة العوامّ من ضمّ النون، فمن أغلاطهم الشائعة، فتنبّه.

قال في "الفتح": يَحْتَمِل أن يكون سبب النوم شدّةَ الغمّ الذي حصل لها في تلك الحالة، ومن شأن الغم، وهو وقوع ما يُكره غلبة النوم، بخلاف الهمّ، وهو توقّع ما يُكره، فإنه يقتضي السهر، أو لِما وقع من بَرْد السَّحَر لها، مع رطوبة بدنها، وصغر سنها، وعند ابن إسحاق:"فتلففت بجلبابي، ثم اضطجعت في مكاني"، أو أن اللَّه سبحانه وتعالى لطف بها، فألقى عليها النوم، لتستريح من وحشة الانفراد في البريّة بالليل. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 10/ 400 - 401.

(2)

"الفتح" 10/ 401.

ص: 119

(وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ) بفتح الطّاء المهملة المشدّدة، (السُّلَمِيُّ) بضم الذال المهملة، (ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ) منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة بن بُهْثَة، بضم الموحّدة، وسكون الهاء، بعدها مثلثة، ابن سُليم، وذكوان بطن من بني سُليم، وكان صحابيًّا فاضلًا، أول مشاهده عند الواقديّ: الخندق، وعند ابن الكلبي: المريسيع، وسيأتي في أثناء شرح هذا الحديث ما يدلّ على تقدم إسلامه، ويأتي أيضًا قول عائشة: إنه قُتل شهيدًا في سبيل اللَّه، ومرادها: أنه قُتل بعد ذلك، لا أنه في تلك الأيام، وقد ذكر ابن إسحاق أنه استُشهد في غَزاة إرمينية في خلافة عمر رضي الله عنهما، سنة تسع عشرة، وقيل: بل عاش إلى سنة أربع وخمسين، فاستُشهد بأرض الروم، في خلافة معاوية رضي الله عنهما.

وقال في "الإصابة": صفوان بن المعطَّل بن رُبَيّعة -بالتصغير- ابن خُزَاعيّ -بلفظ النسب- ابن محارب بن مُرّة بن فالج بن ذكوان السَّلميّ، ثم الذكوانيّ، هكذا نَسَبه أبو عمر، لكن عند ابن الكلبيّ:"رحضة" بدل "ربيعة"، وزاد بينه وبين خُزاعي:"المؤمل"، قال البغوي: سكن المدينة، وشهد صفوان الخندق، والمشاهد في قول الواقديّ، ويقال: أول مشاهده المريسيع، جرى ذكرها في حديث الإفك المشهور في "الصحيحين" وغيرهما، وفيه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما علمت عليه إلا خيرًا" وقصته مع حسان مشهورة أيضًا، ذكرها يونس بن بكرٍ في زيادات "المغازي" موصولة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: وقعد صفوان بن المعطَّل لحسان، فضربه بالسيف، قائلًا:

تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ مِنِّي فَإِنَّنِي

غُلَامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ

فجاء حسان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستعداه على صفوان، فاستوهبه الضربة، فوهبها له، وذكره موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهريّ نحوه. انتهى باختصار

(1)

.

(قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ)"عَرّس" بمهملات، مشدّدًا؛ أي: نزل، قال أبو زيد: التعريس: النزول في السفر، في أيّ وقت كان، وقال غيره: أصله النزول من آخر الليل في السفر للراحة، ووقع في حديث ابن عمر بيان سبب

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 3/ 440.

ص: 120

تأخر صفوان، ولفظه:"سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعله على الساقة، فكان إذا رحل الناس قام يصلي، ثم اتّبعهم، فمن سقط له شيء أتاه به"، وفي حديث أبي هريرة:"وكان صفوان يتخلف عن الناس، فيصيب القدح، والجراب، والإداوة"، وفي مرسل مقاتل بن حيان:"فيحمله، فيَقْدَم به، فيُعَرِّفه في أصحابه"، وكذا في مرسل سعيد بن جبير نحوه.

(فَادَّلَجَ) بتشديد الدال، وهو سَيْر آخر الليل.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "فأدلج"، قال في "الفتح":"أدلج" بسكون الدال في روايتنا، وهو كـ "ادّلج" بتشديدها، وقيل: بالسكون: سار من أوله، وبالتشديد: سار من آخره، وعلى هذا فيكون الذي هنا بالتشديد؛ لأنه كان في آخر الليل، وكأنه تأخر في مكانه حتى قَرُب الصبح، فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش، مما يخفيه الليل، ويَحْتِمِل أن يكون سبب تأخيره ما جرت به عادته من غلبة النوم عليه، ففي "سنن أبي داود"، والبزار، وابن سعد، وصحيحه ابن حبان، والحاكم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد:"أن امرأة صفوان بن المعطَّل جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن زوجي يضربني إذا صليت، ويُفَطِّرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، فسأله، فقال: أما قولها: يضربني إذا صليت، فإنها تقرأ سورتين، وقد نهيتها عنها، وأما قولها: يفطرني إذا صمت، فأنا رجل شابّ، لا أصبر، وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس. . . " الحديث.

قال البزار: هذا الحديث كلامه منكر، ولعل الأعمش أخذه من غير ثقةٌ، فدلّسه، فصار ظاهر سنده الصحة، وليس للحديث عندي أصل. انتهى.

قال الحافظ: وما أعله به ليس بقادح؛ لأن ابن سعد صرّح في روايته بالتحديث بين الأعمش وأبي صالح، وأما رجاله فرجال الصحيح، ولَمّا أخرجه أبو داود قال بعده: رواه حماد بن سلمة، عن حميد، عن ثابت، عن أبي المتوكل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه متابعة جيّدة، تُؤْذِن بأن للحديث أصلًا، وغفل من جعل هذه الطريقة الثانية علّة للطريق الأُولى.

ص: 121

وأما استنكار البزّار ما وقع في متنه، فمراده أنه مخالف للحديث الآتي قريبًا من رواية أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قصة الإفك، قالت:"فبلغ الأمرُ ذلك الرجلَ، فقال: سبحان اللَّه، واللَّه ما كشفت كنف أنثى قطّ"؛ أي: ما جامعتها، والكنف -بفتحتين-: الثوب الساتر، ومنه قولهم: أنت في كنف اللَّه، أي: في سِتره، والجمع بينه وبين حديث أبي سعيد على ما ذكر القرطبيّ أن مراده بقوله: ما كشفت كنف أنثى قط، أي: بِزِنا، قلت: وفيه نظر؛ لأن في رواية سعيد بن أبي هلال، عن هشام بن عروة في قصه الإفك:"أن الرجل الذي قيل فيه ما قيل لمّا بلغه الحديث قال: واللَّه ما أصبت امرأة قط حلالًا ولا حرامًا"، وفي حديث ابن عباس عند الطبرانيّ:"وكان لا يقرب النساء"، فالذي يظهر أن مراده بالنفي المذكور ما قبل هذه القصة، ولا مانع أن يتزوج بعد ذلك، فهذا الجمع لا اعتراض عليه، إلا بما جاء عن ابن إسحاق أنه كان حصورًا، لكنه لم يثبت، فلا يعارض الحديث الصحيح.

ونقل القرطبيّ أنه هو الذي جاءت امرأته تشكوه، ومعها ابنان لها منه، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لَهُما أشبه به من الغراب بالغراب"، ولم أقف على مستند القرطبيّ في ذلك، وسيأتي هذا الحديث في "كتاب النكاح"، وأُبَيّن هناك أن المقول فيه ذلك غير صفوان، وهو المعتَمد، إن شاء اللَّه تعالى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا طوّل الحافظ رحمه الله في الجمع بين هذه الأحاديث، ولا يخفى على المنصف أن هذا الجمع ظاهر التكلّف، والتعسّف، وما قاله البزّار من كون الحديث منكرًا هو الأظهر الذي لا غبار عليه، فالجمع بين هذه القصص، وبين ما في الصحيح، وغيره من قوله:"ما كشفت كنف أنثى قط"، وقوله:"ما أصحبت امرأة قط لا حلالًا، ولا حرامًا"، وقوله:"وكان حصورًا"، وغير ذلك من أبعد ما يكون من الجمع.

وذكر في "الإصابة"(3/ 441) قصّة مجيء امرأة صفوان إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وشكواها في الضرب وغيره، ثم قال: ولكن يشكل عليه أن عائشة قالت في

(1)

"الفتح" 10/ 401 - 403.

ص: 122

حديث الإفك: إن صفوان قال: واللَّه ما كشفت كنف أنثى قط، وقد أورد هذا الإشكال قديمًا البخاريّ، ومال إلى تضعيف الحديث أبو سعيد بذلك. انتهى.

والحاصل: أن الجمع المذكور لا يصحّ، فتأمّله بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم.

(فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي)؛ أي: مكاني الذي نزلت فيه في تلك الليلة، (فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ) السواد بلفظ ضدّ البياض يُطلق على الشخص أيَّ شخص كان، فكأنها قالت: رأى شخص آدميّ، لكن لا يظهر أهو رجل، أو امرأة؟ (فَأَتَانِي، فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي) هذا يُشعر بأن وجهها انكشف لمّا نامت؛ لأنه تقدّم أنها تلفّفت بجلبابها، ونامت، فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إلى تغطية وجهها. (وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ) بالبناء للمفعول، (الْحِجَابُ عَلَيَّ)؛ أي: وعلى غيرها من النساء، ولفظ البخاريّ:"وكان يراني قبل الحجاب"؛ أي: قبل نزول آية الحجاب، وهذا يدلّ على قِدَم إسلام صفوان، فإن الحجاب كان في قول أبي عبيدة، وطائفة: في ذي القعدة سنة ثلاث، وعند آخرين: فيها سنة أربع، وصححه الدمياطي، وقيل: بل كان فيها سنة خمس، وهذا مما تناقض فيه الواقديّ، فإنه ذكر أن المريسيع كان في شعبان سنة خمس، وأن الخندق كانت في شوال منها، وأن الحجاب كان في ذي القعدة منها، مع روايته حديث عائشة رضي الله عنها هذا، وتصريحها فيه بأن قصة الإفك التي وقعت في المريسيع كانت بعد الحجاب، وسَلِم من هذا ابن إسحاق، فإن المريسيع عنده في شعبان، لكن سنة ست، وسَلِم الواقديّ من التناقض في قصة سعد بن معاذ الآتي ذكرها، نعم وسَلِم منها ابن إسحاق، فإنه لم يذكر سعد بن معاذ في القصة أصلًا، كما سأبيّنه، ومما يؤيد صحة ما وقع في هذا الحديث أن الحجاب كان قبل قصة الإفك قول عائشة رضي الله عنها أيضًا في هذا الحديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عنها، وفيه: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه: وطفِقت أختها حَمْنة تحارب لها، فكل ذلك دالّ على أن زينب كانت حينئذ زوجته صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أن آية الحجاب نزلت حين دخوله صلى الله عليه وسلم بها، فثبت أن الحجاب كان قبل قصة الإفك، قال الحافظ: وقد كنت أمليت في أوائل "كتاب الوضوء" أن قصة الإفك وقعت قبل نزول

ص: 123

الحجاب، وهو سهو، والصواب بعد نزول الحجاب، فليُصْلَح هناك. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيس جدّا، واللَّه تعالى أعلم.

(فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ، حِينَ عَرَفَنِي)؛ أي: بقوله: "إنا للَّه، وإنا إليه راجعون"، وصرّح بها ابن إسحاق في روايته، وكأنه شقّ عليه ما جرى لعائشة رضي الله عنها، أو خشي أن يقع ما وقع، أو أنه اكتَفَى بالاسترجاع رافعًا به صوته عن مخاطبتها بكلام آخر؛ صيانةً لها عن المخاطبة في الجملة، وقد كان عمر رضي الله عنه يستعمل التكبير عند إرادة الإيقاظ، وفيه دلالة على فطنة صفوان رضي الله عنه، وحُسن أدبه.

(فَخَمَّرْتُ)؛ أي: غطّيت (وَجْهِي بِجِلْبَابِي)؛ أي: الثوب الذي كان عليها، قال الفيّوميّ رحمه الله: الجِلْبَابُ: ثوب أوسع من الخمار، ودون الرداء، وقال ابن فارس: الجِلْبَابُ: ما يُغَطَّى به، من ثوب، وغيره، والجمع: الجَلابِيبُ، وتَجلْبَبَتِ المرأةُ: لبست الجِلْبَابَ. انتهى

(2)

.

(وَواللَّه مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً) عَبّرت بهذه الصيغة؛ إشارةً إلى أنه استمرّ منه تَرْك المخاطبة؛ لئلا يُفهَم لو عَبّرت بصيغة الماضي اختصاص النفي بحال الاستيقاظ، فعبَّرت بصيغة المضارعة. (وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ)؛ أي: قوله: إنا للَّه، وإنا إليه راجعون، (حَتَّى أنَاخَ رَاحِلَتَهُ) وفي رواية الكشميهنيّ:"حين أناخ راحلته"، ووقع في رواية فُليح:"حتى" للأصيليّ و"حين" للباقين، وكذا عند مسلم عن معمر، وعلى التقديرين فليس فيه نفي أنه كلمها بغير الاسترجاع؛ لأن النفي على رواية:"حين" مقيد بحال إناخة الراحلة، فلا يمنع ما قبل الإناخة، ولا ما بعدها، وعلى رواية:"حتى"، معناها: بجميع حالاته إلى أن أناخ، ولا يمنع ما بعد الإناخة، وقد فَهِم كثير من الشراح أنها أرادت بهذه العبارة نفي المكالمة البتة، فقالوا: استعمل معها الصمت اكتفاء بقرائن الحال مبالغة منه في الأدب، وإعظامًا لها، وإجلالًا. انتهى.

وقد وقع في رواية ابن إسحاق أنه قال لها: "ما خلَّفك؟ "، وأنه قال لها:

(1)

"الفتح" 10/ 403.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 104.

ص: 124

"اركبي"، واستأخر، وفي رواية أبي أويس:"فاسترجع، وأعظم مكاني-؛ أي: حين رآني وحدي- وقد كان يعرفني قبل أن يُضرب علينا الحجاب، فسألني عن أمري، فسترت وجهي عنه بجلبابي، وأخبرته بأمري، فقرَّب بعيره، فوطئ على ذراعه، فولاني قفاه، فركبت"، وفي حديث ابن عمر:"فلما رآني ظنّ أني رجل، فقال: يا نومان قم، فقد سار الناس"، وفي مرسل سعيد بن جبير:"فاسترجع، ونزل عن بعيره، وقال: ما شأنك يا أم المؤمنين؟ فحدثته بأمر القلادة". انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ظاهر ما في "الصحيحين" يقوّي ما فهمه الشرّاح، من أنه لم يكلِّمها أصلًا، لكن إن ثبتت هذه الروايات، تدلّ على أنه كلّمها، ولكن لا بدّ من التثبّت في صحّتها، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا)؛ أي: ليكون أسهل لركوبها، ولا يحتاج إلى مَسّها عند ركوبها، وفي حديث أبي هريرة:"فغطى وجهه عنها، ثم أدنى بعيره منها". (فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ، حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ) هكذا وقع في جميع الروايات، إلا في مرسل مقاتل بن حيان، فإن فيه:"أنه ركب معها مردفًا لها"، والذي في "الصحيح" هو الصحيح. (بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ) -بضم الميم، وكسر الغين المعجمة، والراء المهملة-؛ أي: نازلين في وقت الوَغْرة -بفتح الواو، وسكون الغين- وهي شدّة الحرّ لَمّا تكون الشمس في كبد السماء، ومنه أخذ وَغْر الصدر، وهو توقّده من الغيظ بالحقد، وأوغر فلان: إذا دخل في ذلك الوقت؛ كأصبح، وأمسى.

وسيأتي لمسلم عن عبد بن حميد قال: قلت لعبد الرزاق: ما قوله: "موغرين؟ " قال: الوغرة: شدّة الحر.

وسيأتي أيضًا عنده من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان:"موعزين" بعين مهملة، وزاي، قال القرطبيّ: كأنه من وعزت إلى فلان بكذا؛ أي: تقدمت، والأول أَولى، قال: وصحّفه بعضهم بمهملتين، وهو غلط.

قال الحافظ: ورُوي "مُغَوِّرين"، بتقديم الغين المعجمة، وتشديد الواو، والتغوير: النزول وقت القائلة.

ص: 125

ووقع في رواية فُليح: "مُعَرِّسين" بفتح العين المهملة، وتشديد الراء، ثم سين مهملة، والتعريس: نزول المسافر في آخر الليل، وقد استُعمل في النزول مطلقًا، كما تقدم، وهو المراد هنا. انتهى

(1)

.

وقولها: (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) تأكيد لقولها: "موغرين"، فإن نحر الظهيرة أولها، وهو وقت شدّة الحرّ، ونحر كل شيء أوله، كأن الشمس لَمّا بلغت غايتها في الارتفاع، كأنها وصلت إلى النحر الذي هو أعلى الصدر.

ووقع في رواية ابن إسحاق: "فواللَّه ما أدركْنا الناسَ، ولا افتُقِدتُّ حتى نزلوا، واطمأنوا، طلع الرجل يقودني"، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": "في نحر الظهيرة": وهو وقت القائلة، وشدّة الحرّ، والنحر الأول، والصدر، وأوائل الشهر تسمى النحور، وقال الداوديّ: الظهيرة: نصف النهار عند أول الفيء، قال: وقيل: الظهر والظهير لِمَا بعد نصف النهار؛ لأن الظهر آخر الإنسان، وسمّي آخر الشهر بذلك، ولا نُسَلِّم له؛ لأن أول اشتداد الحرّ قبل نصف النهار. انتهى

(2)

.

(فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي)؛ أي: هلك الذين اشتغلوا بالإفك عليّ، وفي رواية أبي أويس:"فهُنالك قال فِيّ، وفيه أهل الإفك ما قالوا"، فأبهمت القائل، وما قال، وأشارت بذلك إلى الذين تكلموا بالإفك، وخاضوا في ذلك، وأما أسماؤهم فالمشهور في الروايات الصحيحة: عبد اللَّه بن أُبَيّ، ومِسْطح بن أُثاثة، وحسّان بن ثابت، وحَمْنة بنت جحش، وقد وقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ قال: قال عروة: لم يُسَمّ من أهل الإفك أيضًا غير عبد اللَّه بن أُبَيّ إلا حسان بن ثابت، ومِسطح بن أُثاثة، وحَمنة بنت جحش، في ناس آخرين، لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال اللَّه تعالى. انتهى.

والعصبة من ثلاثة إلى عشرة، وقد تُطلق على الجماعة من غير حصر في عدد، وزاد أبو الربيع بن سالم فيهم تبعًا لأبي الخطاب بن دحية: عبد اللَّه، وأبا أحمد ابنا جحش، وزاد فيهم الزمخشريّ: زيد بن رفاعة، قال الحافظ:

(1)

"الفتح" 10/ 404 - 405.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 230.

ص: 126

ولم أره لغيره، وعند ابن مردويه من طريق ابن سيرين: حلف أبو بكر أن لا ينفق على يتيمين، كانا عنده، خاضا في أمر عائشة، أحدهما: مسطح. انتهى، ولم أقف على تسمية رفيق مسطح.

وأما القول فوقع في حديث ابن عمر، فقال عبد اللَّه بن أُبَيّ: فَجَرَ بها، ورب الكعبة، وأعانه على ذلك جماعة، وشاع ذلك في العسكر، وفي مرسل سعيد بن جبير: وقذفها عبد اللَّه بن أُبَيّ، فقال: ما برئت عائشة من صفوان، ولا برئ منها، وخاض بعضهم، وبعضهم أعجبه.

(وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ)؛ أي: تَصَدَّى لمعظمه، وتقلّده، و"كبره"؛ أي: كبر الإفك، وكِبْر الشيء: معظمه، وهو قراءة الجمهور بكسر الكاف، وقرأ حميد الأعرج بضمها، قال الفراء: وهي قراءة جيّدة في العربية، وقيل: المعنى: الذي تولى إثمه، فقوله:"الذي تولّى" اسم "كان"، وخبرها قوله:(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) ويجوز العكس، ولكن الأول أولى؛ لأن العَلَم أعرف من الموصول، فهو أحقّ بأن يكون مسندًا إليه، فتنبّه، وقولها:(ابْنُ سَلُولَ) بالرفع نعتًا لـ "عبد اللَّه"، لا لـ "أبيّ"، ولذلك ينوّن "أبيٌّ"، وتثبت همزة الوصل في "ابن" خطًّا؛ لأن شرط حذفها أن يقع "ابن" بين علمين، ويكون الثاني أبًا للأول، ففي هذه الحالة، يُحذف من الاسم الأول التنوين، كما في "أبيّ" هنا، ويُحذف من "ابن" همزة الوصل خطًّا، وقد بُيّنت المسألة في شرح "الخلاصة"، وحواشيها

(1)

عند قول ابن مالك رحمه الله:

وَنَحْوَ "زَيْدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ "أَزيدُ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا

أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

والحاصل: أن "أُبيًّا" والد عبد اللَّه، و"سَلُولَ" بفتح السين أمه، غير منصرف؛ للعلميّة والتأنيث.

ووقع في المغازي من طريق صالح بن كيسان، عن الزهريّ، عن عروة، قال: أُخبرت أنه كان يشاع، ويتحدّث به عنده، فيُقِرّه -بضم أوله، وكسر القاف- ويستمعه، ويستوشيه -بمهملة، ثم معجمة-؛ أي: يستخرجه بالبحث

(1)

راجع: شرح "الخلاصة" 2/ 74.

ص: 127

عنه، والتفتيش، ومنهم من ضبطه: يَقُرّه، بفتح أوله، وضم القاف، وفي رواية ابن إسحاق:"وكان الذي تولى كبر ذلك عبد اللَّه بن أبيّ، في رجال من الخزرج".

(فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ)؛ أي: مرضت (حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا)، أي: مدّة شهر، (وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ) بضمّ حرف المضارعة؛ أي: يخوضون، من أفاص في قول: إذا أكثر منه، وقال في "العمدة": هو من الإفاضة، وهي التكثير، والتوسعة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، يخوضون، وهو من قوله:{لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)} [النور: 14]، وقال ابن عرفة: حديث مفاضٌ، ومستفاضٌ، ومستفيضٌ في الناس؛ أي: جارٍ فيهم، وفي كلامهم

(1)

. (فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ) متعلّق بـ "يُفيضون"، و"أهل الإفك" هم: أهل الكذب، والبهتان. (وَلَا أَشْعُرُ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، يقال: شعرت بالشيء شُعُورًا، من باب قعد، وشِعْرًا، وشِعْرَةً بكسرهما: عَلِمْتُ

(2)

؛ أي: لا أعلم.

(بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ)، أي: مما يخوض فيه الناس، وفي رواية ابن إسحاق:"وقد انتهى الحديث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإلى أبويّ، ولا يذكرون لي شيئًا من ذلك"، وفيها:"أنها مَرِضت بضعًا وعشرين ليلة"، وهذا فيه ردّ على ما وقع في مرسل مقاتل بن حيان:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا بلغه قول أهل الإفك، وكان شديد الغيرة، قال: لا تدخل عائشة رحلي، فخرجت تبكي، حتى أتت أباها، فقال: أنا أحقّ أن أخرجك، فانطلقت تجول، لا يُؤويها أحدٌ، حتى أنزل اللَّه عذرها"، قال الحافظ: وإنما ذكرته مع ظهور نكارته لإيراد الحاكم له في "الإكليل"، وتبعه بعض من تأخر غير متأمّل لِمَا فيه من النكارة، والمخالفة للحديث الصحيح، من عدّة أوجه، فهو باطل.

ووقع في حديث ابن عمر: "فشاع ذلك في العسكر، فبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم"، فلما قَدِموا المدينة أشاع عبد اللَّه بن أُبَيّ ذلك في الناس، فاشتد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم".

(1)

"عمدة القاري" 13/ 230.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 315.

ص: 128

(وَهُوَ يَرِيبُنِي) بفتح أوله، من الريب، ويجوز الضمّ، من الرباعيّ، يقال: رابه، وأرابه، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": "يريبني" بفتح الياء، وضمها، فالأول من رابني، والثاني من أرابني، يقال: رابني الأمرُ يَريبني: إذا توهمته، وشككت فيه، فإذا استيقنته قلت: رابني منه كذا يريبني، وعن الفراء هما بمعنى واحد في الشك، وقال صاحب "المنتهى"؛ الاسم: الريبة بالكسر، وأرابني، ورابني: إذا تخوفت عاقبته، وقيل: رابني: إذا علمت به الريبة، وأرابني: إذا ظننت به، وقيل: رابني: إذا رأيت منه ما يريبك، وتكرهه، وتقول هذيل: أرابني، وأراب: إذا أتى بريبة، وراب: صار ذا ريبة، وقال أبو محمد في "الواعي": رابني أفصح. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "يريبني": من الريبة، وهي اسم للتهمة، والشك، تقول: رابني فلان: إذا رأيت منه ما يريبك، وهذيل تقول: أرابني فلان، قال الهذلي:

يَا قَوْمِ مَا لِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ

كَأَنَّنِي أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ

وأراب الرجل: صار ذا ريبة، فهو مريب، حكاه الجوهريّ، وقال غيره: يمال: أرابني الأمرُ يُرِيبُني: إذا توهّمته، وشككت فيه، فإذا استيقنته قلت: رابني منه كذا يَريبني، وقال الفرّاء: هما بمعنى واحد في الشك. انتهى

(2)

.

(فِي وَجَعِي)، أي: في حال مرضي، (أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ) بضم أوله، وسكون ثانيه، وبفتحهما، لغتان، والمراد: الرفق، ووقع في رواية ابن إسحاق:"أنكرت بعض لطفه"، (الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي)؛ أي: حين أمرض، (إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ") بالمثناة المكسورة، وهي للمؤنث، مثل ذاكم للمذكر، والكاف لخطاب الحاضرين، وفي رواية ابن إسحاق:"فكان إذا دخل قال لأمي، وهي تُمَرِّضني: كيف تيكم"، واستدلت عائشة بهذه الحالة على أنها استشعرت منه بعض جفاء، ولكنها لمّا لَمْ تكن تدري السبب لم تبالغ في التنقيب عن ذلك،

(1)

"عمدة القاري" 13/ 230.

(2)

"المفهم" 7/ 369.

ص: 129

حتى تعرفه، ووقع في رواية أبي أويس:"إلا أنه يقول، وهو مارّ: كيف تيكم؟ ولا يدخل عندي، ولا يعودني، ويسأل عني أهل البيت"، وفي حديث ابن عمم:"وكنت أرى منه جفوة، ولا أدري من أي شيء؟ ".

(فَذَاكَ) الذي أراه منه (يَرِيبُنِي)؛ أي: يوقعني في الشكّ في تغيّر حاله صلى الله عليه وسلم، (وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ)، أي: بالإفك الذي افتراه الأفّاكون، وانتشر بين الناس، وتحدّثوا به، (حَتَّى خَرَجْتُ) من البيت (بَعْدَمَا نَقِهْتُ) بفتح القاف، وكسرها لغتان، حكاهما الجوهريّ في "الصحاح" وغيره، والفتح أشهر، واقتصر عليه جماعة، يقال: نَقَهَ يَنْقَه نُقُوهًا، فهو ناقِة، ككَلَح يَكْلَح كُلُوحًا فهو كالح، ونَقِهَ يَنْقَا، نَقَهًا، فهو ناقه، كفَرِح يَفْرَح فَرَحًا، والجمع نُقَّهٌ، بضم النون، وبتشديد القاف، والناقه هو الذي أفاق من المرض، وبرأ منه، وهو قريب عهد به، لم يتراجع إليه كمال صحته، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال في "الفتح": "نقهت" بفتح القاف، وقد تكسر، والأول أشهر، والناقه بكسر القاف: الذي أفاق من مرضه، ولم تتكامل صحته، وقيل: إن الذي بكسر القاف بمعنى: فَهِمْت، لكنه هنا لا يتوجه؛ لأنها ما فَهِمَت ذلك، إلا فيما بعدُ، وقد أطلق الجوهريّ وغيره أنه بفتح القاف وكسرها لغتان، في برأ من المرض، وهو قريب العهد لم يرجع إليه كمال صحته. انتهى

(2)

.

(وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ) وفي رواية أبي أويس: "فقلت: يا أم مسطح خذي الإداوة، فاملئيها ماء، فاذهبي بنا إلى المناصع". (قِبَلَ الْمَنَاصِعِ) بكسر القاف؛ أي: جهة المناصع، بفتح الميم، وهي مواضع خارج المدينة، كانوا يتبرزون فيها، الواحد منصع، وقال الأزهريّ: أراه موضعًا بعينه، خارج المدينة، وهو في الحديث:"صعيد أفيح، خارج المدينة"، وقال ابن السِّكِّيت: المناصع في اللغة: المجالس. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا) جملة حاليّة، وهو بفتح الراء المشدّدة، وبالزاي، وهو الموضع الذي يتبرزون فيه؛ أي: يقضون فيه حاجتهم، والبراز اسم ذلك

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 106.

(2)

"الفتح" 10/ 407.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 231.

ص: 130

الموضع أيضًا

(1)

. (وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ)، تعني: أنهنّ لا يخرجن لقضاء حاجتهنّ نهارًا، وهو في الليل، ثم يمتدّ ذلكَ إلى الليلة المستقبلة، (وَذَلِكَ)؛ أي: كوننا نخرج قبل المناصع، (قَبْلَ أَنَّ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ) بضم الكاف والنون: جمع كَنيف، قال أهل اللغة: الكنيف الساتر مطلقًا، وسُمّي به موضع الغائط؛ لأنهم يستترون به.

وقال في "الفتح": قوله: "متبرزنا" بفتح الراء، قبل الزاي: موضع التبرز، وهو الخروج إلى البراز، وهو الفضاء، وكله كناية عن الخروج إلى قضاء الحاجة، و"الكُنُف" بضمتين: جمع كَنيف، وهو الساتر، والمراد به هنا: المكان المتَّخذ لقضاء الحاجة، وفي رواية ابن إسحاق:"الكنف التي يتخذها الأعاجم"

(2)

.

وقولها: (قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا) منصوب على الحال، وأُفرد مع أن صاحبه جمع؛ لأن فعيلًا يستوي فيه الجمع والمفرد، أو منصوب بنزع الخافض على قلّة، أي: في مكان قريب من بيوتنا

(3)

.

(وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ) بضم الهمزة، وتخفيف الراء: صفة العرب، وبفتح الهمزة، وتشديد الراء: صفة الأمر، قال النوويّ: كلاهما صحيح، تريد أنهم لم يتخلقوا بأخلاق العجم.

قال الحافظ: ضبطه ابن الحاجب بالوجه الثاني، وصرّح بمنع وصف الجمع باللفظ الأول، ثم قال: إن ثبتت الرواية خُرّجت على أنَّ العرب اسم جمع، تحته جموع، فتصير مفردة بهذا التقدير. انتهى.

(فِي التَّنَزُّهِ)، أي: طلب النزاهة، ووقع في رواية للبخاريّ:"في التبرز قِبَل الغائط"، قال في "الفتح": وفي رواية فليح: "في البرّية" بفتح الموحّدة، وتشديد الراء، ثم التحتانية -"أو في التنزه" بمثناة، ثم نون، ثم زاي ثقيلة، هكذا على الشكّ-، والتنزه: طلب النزاهة بالخروج إلى الصحراء، والمراد: البعد عن البيوت. انتهى

(4)

.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 231.

(2)

"الفتح" 10/ 407.

(3)

راجع: شرح الشيخ الهرريّ 25/ 307.

(4)

"الفتح" 10/ 407، و"عمدة القاري" 13/ 231.

ص: 131

(وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ)؛ أي: برائحتها، وقوله:(أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا)"نتّخذ" صلة "أن"، والمصدر المؤوّل بدل من "الكنف". (فَانْطَلَقْتُ أَنَا) جيء به ليكن العطف على الضمير المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَأُمُّ مِسْطَحٍ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، وفتح الطاء، آخره حاء مهملة.

قال في "الإصابة": أم مِسطح القرشيَة التيميّة، ويقال: المطلبية، وهي بنت، أبي رُهْم أَنِيس -بفتح الهمزة، بعدها نون مكسورة- ابن عبد المطلب بن عبد مناف، ويقال: بنت صخر بن عامر بن كعب بن تيم بن مُرّة، قلت: هكذا حَكَى أبو موسى، وهو غلط، فإن هذا نَسَبُ سَلْمى أم الخير والدة أبي بكر، هي بنت صخر إلى آخره، والذي قال غيره: أنها بنت خالة أبي بكر الصديق، اسمها رائطة بنت صخر إلخ، هكذا، قال ابن سعد، يقال: اسمها سَلْمي، ويقال: ريطة حكاه ابن الأمين، عن ابن بشكوال، وبه جزم ابن حزم في "الجمهرة"، وهي مشهورة بكنيتها، ثبت ذكرها في "الصحيحين" في قصة الإفك، حين خرجت عائشة لقضاء الحاجة، فعَثَرت، فقالت: تَعِس مسطح، فقالت لها عائشة: تسبِّين رجلًا شَهِد بدرًا؟، فقالت: أوَ لم تعلمي ما قال؟ فذكرت لها قصة الإفك، وكان مسطح ممن تَكَلَّم في ذلك، وقال ابن سعد: أسلمت أم مسطح، فحَسُن إسلامها، وكانت من أشدّ الناس على مسطح، حين تكلم مع أهل الإفك. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": أم مِسطح، بكسر الميم، وسكون السين، وفتح الطاء، بعدها حاء مهملات، قيل: اسمها سَلْمى، وفيه نظر؛ لأن سلمى اسم أم أبي بكر، ثم ظهر لي أن لا وَهْم فيه، فإن أم أبي بكر خالتها، فسمِّيت باسمها. انتهى

(2)

.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 302.

(2)

"الفتح" 10/ 407.

ص: 132

(وَهِيَ)؛ أي: أم مِسطح (بِنْتُ أَبِي رُهْمِ) بضمّ الراء، وسكون الهاء، (ابْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ) قال في "الفتح": كذا هنا، ولم ينسبه فُليح، وفي رواية صالح:"بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف"، وهو الصواب، واسم أبي رُهم: أَنِيس. (وَأُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ)، أي: ابن كعب بن سعد بن تيم، من رهط أبي بكر، (خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ) اسمها رائطة، حكاه أبو نعيم. (وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ) بضم الهمزة، ومثلثتين: الأولى خفيفة، بينهما ألف، (ابْنِ عَبَّادِ بْني الْمُطَّلِبِ) فهو المطلبيّ من أبيه وأمه، والْمِسطح عُود من أعواد الخباء، وهو لقب، واسمه: عوف، وقيل: عامر، والأول هو المعتمَد، وقد أخرج الحاكم من حديث ابن عباس قال: قال أبو بكر يعاتب مِسطحًا في قصّة عائشة رضي الله عنهم:

يَا عَوْفُ وَيْحَكَ هَلْ لَا قُلْتَ عَارِفَةٌ

مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ تَبْتَغ بِهِ طَمَعَا

وكان هو وأمه من المهاجرين الأولين، وكان أبوه مات، وهو صغير فكفله أبو بكر؛ لقرابة أم مسطح منه، وكانت وفاة مسطح سنة أربع وثلاثين، وقيل: سنة سبع وثلاثين، بعد أن شَهِد صِفِّين مع عليّ رضي الله عنهما

(1)

.

(فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ) وفي رواية البخاريّ: "فأقبلت أنا، وأم مسطح"(قِبَلَ)؛ أي: جهة (بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا)؛ أي: قضينا حاجتنا التي خرجنا من أجلها، (فَعَثَرَتْ) بفتح العين المهملة، والثاء المثلثة، (أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا) بكسر الميم: كساء من صوف، قاله الداوديّ، وقال ابن فارس: مِلحفة يؤتزر بها، وقال الهرويّ: المروط: الأكسية، وضبطه ابن التين: المرط بفتح الميم، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": وفي رواية مِقسم، عن عائشة:"أنها وطِئت على عَظْم، أو شوكة"، وهذا ظاهره أنها عثرت بعد أن قضت عائشة حاجتها، ثم أخبرتها الخبر بعد ذلك، لكن في رواية هشام بن عروة الآتية قريبًا أنها عَثَرت قبل أن تقضي عائشة حاجتها، وأنها لمّا أخبرتها الخبر رجعت، كأن الذي خرجت له لا تجد منه لا قليلًا، ولا كثيرًا، وكذا وقع في رواية ابن إسحاق:

(1)

"الفتح" 10/ 408.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 231.

ص: 133

"قالت: فواللَّه ما قدرت أن أقضي حاجتي"، وفي رواية ابن أويس:"فذهب عني ما كنت أجد من الغائط، ورجعت عَودي على بَدئي"، وفي حديث ابن عمر:"فأخذتني الحمي، وتقلص ما كان مني"، ويُجمع بينهما بأن معنى قولها:"وقد فرغنا من شأننا"، أي: من شأن المسير، لا قضاء الحاجة

(1)

.

(فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ) بفتح العين، وكسرها، لغتان مشهورتان، واقتصر الجوهريّ على الفتح، والقاضي على الكسر، ورجّح بعضهم الكسر، وبعضهم الفتح، ومعناه: عَثَر، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشرّ، وقيل: بَعُدَ، وقيل: سقظ بوجهه خاصّة، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "العمدة": "تَعِسَ" بكسر العين، وفتحها، لغتان مشهورتان، ومعناه: عثر، وقيل: هلك، وقيل: لزمه الشرّ، وقيل: بَعُد، وقيل: سقط لوجهه، وقيل: التعس: أن لا ينتعش من عثرته، وقيل: تعس تعسًا، وأتعسه اللَّه، وقال ابن التين: المحدّثون يقرؤونه بكسر العين، وهو عند أهل اللغة، بفتحها، وقيل: معناه. انكبّ؛ أي: كبّه اللَّه. انتهى

(3)

.

قالت عائشة: (فَقُلْتُ لَهَا؛ بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلَا قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟) وفي رواية هشام بن عروة: أنها عَثَرت ثلاث مرات، كل ذلك تقول:"تعس مسطح"، وأن عائشة تقول لها:"أي أمُّ أتسبّين ابنك؟ "، وأنها انتهرتها في الثالثة، فقالت:"واللَّه ما أسبّه إلا فيك"، وعند الطبرانيّ:"فقلت: أتسبّين ابنك، وهو من المهاجرين الأولين؟ "، وفي رواية ابن حاطب، عن علقمة بن وقاص:"فقلت: أتقولين هذا لابنك، وهو صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ ففعلت مرتين، فأعدت عليها، فحدثتني بالخبر، فذهب عني الذي خرجت له، حتى ما أجد منه شيئًا".

قال أبو محمد بن أبي جمرة: يَحْتَمِل أن يكون قول أم مسطح هذا عمدًا، لتتوصل إلى إخبار عائشة بما قيل فيها، وهي غافلة، ويَحْتَمِل أن يكون اتفاقًا، أجراه اللَّه على لسانها، لتستيقظ عائشة من غفلتها عما قيل فيها. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 10/ 408.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 107.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 231.

(4)

"بهجة النفوس" 3/ 54.

ص: 134

(قَالَتْ) أم مسطح: (أَيْ هَنْتَاهُ)"أَيْ" حرف نداء للبعيد، وقد يستعمل للقريب، حيث يُنزل منه منزل البعيد، والنكتة فيه هنا أن أم مسطح نسبت عائشة إلى الغفلة عما قيل فيها؛ لإنكارها سبّ مسطح، فخاطبتها خطاب البعيد، و"هنتاه" بفتح الهاء، وسكون النون، وقد تفتح، بعدها مثناة، وآخره هاء ساكنة، وقد تضمّ؛ أي: هذه، وقيل: امرأة، وقيل: بلهي، كأنها نَسَبتها إلى قلة المعرفة بمكائد الناس، وهذه اللفظة تختص بالنداء، وهي عبارة عن كل نكرة، وإذا خوطب المذكر قيل: يا هنة، وقد تُشبع النون، فيقال: يا هناه، وحَكَى بعضهم تشديد النون فيه، وأنكره الأزهريّ، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ: قولها: "أي هنتاه": هي بإسكان النون، وفتحها، والإسكان أشهر، قال صاحب "النهاية":"يا هنتاه"، أي: يا هذه، وتفتح النون، وتسكن، وتضم الهاء الآخرة، وتسكن، وفي التثنية هنتان، وفي الجمع هنوات، وهنات، وفي المذكر هَنٌ، وهنان، وهنون. ولك أن تُلحقها الهاء، لبيان الحركة، فتقول: يا هنه، وأن تُشبع الحركة، فتصير ألفًا، فتقول: يا هناه، ولك ضم الهاء، فتقول: يا هناهُ أَقْبِلْ، قال الجوهريّ: هذه اللفظة تختص بالنداء.

ومعناه: يا هذه، وقيل: يا امرأة، وقيل: يا بلهاء، كأنها نُسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس، وشرورهم. انتهى

(1)

.

(أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟)، أي: مسطح في شأنك، (قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟)، أي: أيّ شيء قال فيّ؟، وفي رواية البخاريّ:"قالت: قلت: وما قال؟ " وفي رواية أبي أويس: "فقالت لها: إنك لغافلة عما يقول الناس"، وفيها:"أن مسطحًا، وفلانًا، وفلانًا، يجتمعون في بيت عبد اللَّه بن أُبَيّ، يتحدثون عنك، وعن صفوان، يرمونك به"، وفي رواية مِقسم، عن عائشة:"أشهد أنك من الغافلات المؤمنات"، وفي رواية هشام بن عروة الآتية:"فنَقَّرت لي الحديث"، وهي بنون، وقاف ثقيلة؛ أي: شَرَحته، ولبعضهم بموحدة، وقاف خفيفة؛ أي: أعلمتنيه، قاله في "الفتح"

(2)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" ص 1014، و"شرح النوويّ" 17/ 107.

(2)

"الفتح" 10/ 408.

ص: 135

(قَالَتْ) عائشة: (فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ)؛ أي: بما افتراه أهل الكذب، وقد تقدّمت أسماؤهم. (فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي) وعند سعيد بن منصور، من مرسل أبي صالح:"فقالت: وما تدرين ما قال؟ قالت: لا واللَّه، فأخبرتها بما خاض فيه الناس، فأخذتها الْحُمَّى"، وعند الطبرانيّ بإسناد صحيح، عن أيوب، عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة:"قالت: لما بلغني ما تكلموا به، هممت أن آتي قَلِيبًا، فأطرح نفسي فيه"، وأخرجه أبو عوانة أيضًا.

(فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قيل: الفاء في "فدخل" زائدة، والأَولى أن في الكلام حذفًا، تقديره: فلما دخلت بيتي، استقريت فيه، فدخل، ولفظ البخاريّ:"فلما رجعت إلى بيتي، ودخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم" بالواو، (فَسَلَّمَ) على من في البيت (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم على عادته:("كَيْفَ تِيكُمْ؟ ")؛ أي: كيف حال هذه المرأة؟ يريد عائشة رضي الله عنها، قالت عائشة:(قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟) أبا بكر، وأم رُومان رضي الله عنهما، وفي رواية هشام بن عروة:"فقلت: أرسِلني إلى بيت أبي، فأرسل معي الغلام"، قال الحافظ: ولم أقف على اسم هذا الغلام. (قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ)؛ أي: وقت استئذاني إيّاه (أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ)؛ أي: خبر الإفك (مِنْ قِبَلِهِمَا)؛ أي: من جهة أبويّ، (فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) في إتياني أبويّ، (فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي) أم رومان: (يَا أُمَّتَاهْ)؛ أي: يا أمي، (مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟) "ما" استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء يتحدّث الناس في شأني؟ (فَقَالَتْ) أمها: (يَا بُنَيَّةُ) تصغير ابنة، (هَوِّنِي) أمر من التهوين، وهو التسهيل، أي: سهّلي (عَلَيْكِ) الأمر، وفي رواية هشام بن عروة:"فقالت: يا بنية خففي عليك الشأن"، (فَواللَّه لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من الزمان.

[تنبيه]: قوله: "لقلّما""ما" هذه زائدة، تسمّى "ما" الكافّة؛ لأنها كفّت "قَلّ" عن عمل الرفع في الفاعل، قال ابن هشام الأنصاريّ رحمه الله في "مغنيه" ما معناه: لا تتّصل "ما" هذه إلا بثلاثة أفعال: "قلّ"، و"كثُر"، و"طال"، وعلّة ذلك شَبَهَهنّ بـ "رُبّ"، ولا يدخلن حينئذ إلا على جملة فعليّة، صُرّح بفعلها؛ كقوله [من الخفيف]:

قَلَّمَا يَبْرَحُ اللَّبِيبُ إِلَى مَا

يُورِثُ الْمَجْدَ دَاعِيًا أَوْ مُجِيبَا

ص: 136

وزعم بعضهم أن "ما" مع هذا الأفعال مصدرّية، لا كافّة. انتهى

(1)

.

وعلى هذا فالفعل بعدها صلتها، وهي في تأويل المصدر فاعل "قَلَّ".

وقال الأمير في "حاشيته" ما معناه: وزاد بعضهم على هذه الأفعال: "قَصُرَ"، قال: وهي أفعال لا فاعل لها؛ كالتوكيد اللفظيّ، في: قام قام زيد، وكان الزائدةِ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد نظمت ذلك بقولي:

وَ"مَا" تَكُفُّ "طَالَ""قَلَّ""كَثُرَا"

وَبَعْضُهُمْ زَادَ عَلَيْهَا "قَصُرَا"

وَلَا يَلِي الْفَاعِلُ هَذِهِ كَمَا

فِي قَامَ قَامَ إِذْ مُؤَكِّدًا سَمَا

وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ "مَا" مُؤَوِّلَهْ

فَمَعَ مَا يَلِي تَكُونُ فَاعِلَهْ

(وَضِيئَةٌ) بوزن عظيمة، من الوضأءة، وهو الحُسن والجمال؛ أي: حسنة جميلة، وكانت عائشة كذلك، ووقع في رواية بن ماهان:"حَظِيّة" بمهملة، ثم معجمة، من الحظوة، وهي الوجاهة، ورفعة المنزلة، وفي رواية هشام:"ما كانت امرأة حسناء"، (عِنْدَ رَجُلٍ) خبر "كان"، (يُحِبُّهَا) نعت لـ "رجل" وقوله:(وَلَهَا ضَرَائِرُ) جملة في محلّ نصب على الحال، و"الضرائر": جمع ضَرّة، وقيل للزوجات: ضرائر؛ لأن كل واحدة يحصل لها الضرر من الأخرى بالغيرة.

(إِلَّا كَثَّرْنَ)؛ أي: الضرائر، (عَلَيْهَا)؛ أي: أكثرن القول بالنقيصة والعيب لتلك المرأة الوضيئة، وقال في "الفتح":"أكثرن عليها" في رواية الكشميهنيّ: "كَثّرن" بالتشديد؛ أي: القول في عيبها، وفي رواية ابن حاطب:"لقلما أحبّ رجلٌ امرأته، إلا قالوا لها نحو ذلك"، وفي رواية هشام:"إلا حسدنها، وقيل فيها"، وفي هذا الكلام من فطنة أمها، وحسن تأتّيها في تربيتها ما لا مزيد عليه، فإنها عَلِمت أن ذلك يعظم عليها، فهَوَّنت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرد بذلك؛ لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له، وأدمجت في ذلك ما تُطَيّب به خاطرها من أنها فائقة في الجمال، والحظوة، وذلك مما يُعجب المرأة أن توصف به، مع ما فيه من الإشارة إلى ما وقع من حمنة بنت جحش، وأن

(1)

"مغني اللبيب" 2/ 7 - 8 بنسخة "حاشية الأمير".

(2)

المصدر السابق.

ص: 137

الحامل لها على ذلك كون عائشة ضرة أختها زينب بنت جحش، وعُرف من هذا أن الاستثناء في قولها إلا أكثرن عليها متصلٌ؛ لأنها لم تقصد قصتها بعينها، بل ذكرت شأن الضرائر، وأما ضرائرها هي، فإنهنّ وإن كنّ لم يصدر منهم في حقها شيء، مما يصدر من الضرائر، لكن لم يُعدَم ذلك ممن هو منهن بسبيل، كما وقع من حمنة؛ لأن ورع أختها منعها من القول في عائشة، كما منع بقيةَ أمهات المؤمنين، وإنما اختصت زينب بالذِّكر؛ لأنها التي كانت تضاهي عائشة في المنزلة. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ) استغاثت باللَّه تعالى، متعجبة من وقوع مثل ذلك في حقها، مع براءتها المحققة عندها، (وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟) الإفك، زاد الطبريّ من طريق معمر، عن الزهريّ:"وبلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم"، وفي رواية هشام:"فقلت: وقد عَلِم به أبي؟ قالت: نعم، قلت: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن إسحاق: "فقلت لأمي: غفر اللَّه لك، يتحدث الناس بهذا، ولا تذكرين لي"، وفي رواية ابن حاطب، عن علقمة: "ورجعت إلى أبويّ، فقلت: أما اتقيتما اللَّه فيّ، وما وصلتما رحمي، يتحدث الناس بهذا، ولم تُعلماني"، وفي رواية هشام بن عروة: "فاستعبرت، فبكيت، فسمع أبو بكر صوتي، وهو فوق البيت يقرأ، فقال لأمي: ما شأنها؟ فقالت: بلغها الذي ذُكر من شأنها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية، إلا رجعت إلى بيتك، فرجعت"، وفي رواية معمر، عند الطبرانيّ: "فقالت أمي: لم تكن علمت ما قيل لها، فأكبَّت تبكي ساعة، ثم قال: اسكتي يا بنية".

(قَالَتْ) عائشة: (فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، حَتَّى أَصْبَحْتُ، لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ) بالقاف، بعدها همزة؛ أي: لا ينقطع، من رقأ الدمع: إذا انقطع، (وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ)؛ أي: لا أنام، وهو استعارة للسهر، ووقع في رواية مسروق، عن أم رُومان:"فخَرَّتْ مغشيًّا عليها، فما استفاقت إلا وعليها حُمَّى بنافض، فطرحتُ عليها ثيابها، فغطيتها"، وفي رواية الأسود، عن عائشة:"فألقت عليّ أمي كلَّ ثوب، في البيت".

(1)

"الفتح" 10/ 410.

ص: 138

[تنبيه]: طُرُق حديث الإفك مجتمعة على أن عائشة رضي الله عنها بلغها الخبر من أم مسطح رضي الله عنها، لكن وقع في حديث أم رُومان ما يخالف ذلك، ولفظه:"بينا أنا قاعدة، أنا وعائشة، إذ وَلَجت علينا امرأة من الأنصار، فقالت: فعل اللَّه بفلان، وفعل، فقلت: وما ذاك؟ قالت: ابني ومن حدّث الحديث، قالت: وما ذلك؟ قالت: كذا وكذا، هذا لفظ البخاريّ في "المغازي"، ولفظه في قصة يوسف: "قالت: إنه نَمَى الحديث، فقالت عائشة: أيُّ حديث؟ فأخبرتها، قالت: فسمعه أبو بكر؟ قالت: نعم، قالت: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، فخَرَّت مغشيًّا عليها".

قال الحافظ رحمه الله: وطريق الجمع بينهما أنها سمعت ذلك أَوّلًا من أم مسطح، ثم ذهبت لبيت أمها لتستيقن الخبر منها، فأخبرتها أمها بالأمر مجملًا، كما مضى من قولها:"هَوِّني عليك"، وما أشبه ذلك، ثم دخلت عليها الأنصارية، فأخبرتها بمثل ذلك، بحضرة أمها، فقوي عندها القطع بوقوع ذلك، فسألت: هل سمعه أبوها، وزوجها؟ ترجيًّا منها أن لا يكونا سمعا ذلك؛ ليكون أسهل عليها، فلما قالت لها إنهما سمعاه، غُشي عليها، قال: ولم أقف على اسم هذه المرأة الأنصارية، ولا على اسم ولدها. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَصَبَحْتُ)؛ أي: دخلت في الصباح، والحال أني (أَبْكِي) من شدّة الحزن على ما قيل، (وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) هذا ظاهره أن السؤال وقع بعدما عَلِمت بالقصة؛ لأنها عَقَّبت بكاءها تلك الليلة بهذا، ثم عَقَّبت هذا بالخطبة، ورواية هشام بن عروة تُشعر بأن السؤال والخطبة وقعا قبل أن تعلم عائشة بالأمر، فإن في أول رواية هشام، عن أبيه، عن عائشة:"لما ذُكر من شأني الذي ذُكر، وما علمت به، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطيبًا"، فذكر قصة الخطبة الآتية.

ويمكن الجمع بأن الفاء في قوله: "فدعا" عاطفة على شيء محذوف، تقديره: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل ذلك قد سمع ما قيل، فدعا عنيًّا.

(وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زيدٍ) رضي الله عنهم، وفي

(1)

"الفتح" 10/ 411 - 412.

ص: 139

حديث ابن عمر: "وكان إذا أراد أن يستشير أحدًا في أمر أهله، لم يَعْدُ عليًّا وأُسامة"، لكن وقع في رواية الحسن العربي

(1)

عن ابن عباس، عند الطبرانيّ أنه صلى الله عليه وسلم استشار زيد بن ثابت، فقال: دعها، فلعل اللَّه يُحدث لك فيها أمرًا، قال الحافظ: وأظنّ في قوله: ابن ثابت تغيير، وأنه كان في الأصل ابن حارثة، وفي رواية الواقديّ: أنه سأل أم أيمن، فبرّأتها، وأم أيمن هي والدة أسامة بن زيد، وسيأتي أنه سأل زينب بنت جحش أيضًا.

(حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوحْيُ)؛ أي: أبطأ، وتأخّر، ولم ينزل، قاله في "العمدة"

(2)

، وقال في "الفتح": قوله: "حين استلبث الوحيُ" بالرفع، أي: طال لُبث نزوله، وبالنصب، أي: أستبطأ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله. انتهى

(3)

.

والمراد من الوحي: هو المتعلّق بشأن عائشة رضي الله عنها، لا مطلق الوحي، واللَّه اتعالى أعلم.

وقوله: (يَسْتَشِيرُهُمَا) جملة حاليّة مقدّرة، وهو من الاستشارة، يقال: شَاوَرْتُهُ في كذا، واسْتَشَرْتُهُ: راجعته لأرى رأيه فيه، فَأَشَارَ عليّ بكذا: أراني ما عنده فيه من المصلحة، فكانت إِشَارَةٌ حسنةً، والاسم المَشُورَةُ، وفيها لغتان: سكون الشين، وفتح الواو، والثانية: ضمّ الشين، وسكون الواو، وزان، مَعُونةٍ ويقال: هي من شَارَ الدابةَ: إذا عَرَضها في الْمِشْوَار، ويقال: من شُرْتُ العسل، شبّه حُسن النصيحة بشرب العسل، قاله الفيّوميّ

(4)

.

(فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ)؛ أي: عائشة، وإنما عَدَلت عن قولها:"في فراقي" إلى قولها: "فراق أهله"؛ لكراهتها التصريح بإضافة الفراق إليها. (قَالَتْ) عائشة: (فَامَّا أُسَامَةُ بْنُ زيدٍ، فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالَّذِي يَعْلَمُ)؛ أي: بما يعلمه من حال عائشة رضي الله عنها، وهو براءتها عن الفواحش والرذائل، وقولها:(مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِا) بيان للموصول، (وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ)؛ أي: لأهل النبيُّ صلى الله عليه وسلم، (مِنَ الْوُدِّ)؛ أي: من محبّته لهم، (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ أَهْلُكَ) هكذا رواية

(1)

هكذا نسخة "الفتح"، ولعله:"الحسن العرنيّ"، فليُحرّر.

(2)

"عمدة القاري" 13/ 232.

(3)

"الفتح" 10/ 412.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 327.

ص: 140

مسلم، ولفظ البخاريّ:"أهلُك"، قال في "العمدة": رُوي بالنصب؛ أي: ألزم أهلك، وروي بالرفع؛ أي: هي أهلك، لا تسمع فيها شيئًا. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "أهلك" بالرفع، فإن في رواية معمر:"هم أهلك"، ولو لم تقع هذه الرواية لجاز النصب؛ أي: أمسك، ومعناه: هم أهلك؛ أي: العفيفة اللائقة بك، ويَحْتَمِل أن يكون قال ذلك متبرئًا من المشورة، ووَكَل الأمر إلى رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف بذلك حتى أخبر بما عنده، فقال: ولا نعلم إلا خيرًا، وإطلاق الأهل على الزوجة شائع، قال ابن التين: أطلق عليها أهلًا، وذكرها بصيغة الجمع، حيث قال:"هم أهلك" إشارةً إلى تعميم الأزواج بالوصف المذكور. انتهى، ويَحْتَمِل أن يكون جمع لإرادة تعظيمها. انتهى

(2)

.

(وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا) لا نعلم في شأن عائشة إلا خيرًا كثيرًا من أنها عفيفة ورعة، تقيّة، نقيّة بريئة مما اُلصق بها، زورًا، وبُهتانًا، {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].

(وَأمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ) زاد في رواية للبخاريّ: "يا رسول اللَّه"(لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كثِيرٌ) قال في "الفتح": كذا للجميع بصيغة التذكير، كأنه أراد الجنس، مع أن لفظ فَعيل يشترك فيه المذكر والمؤنث إفرادًا وجمعًا، وفي رواية الواقديّ:"قد أحلّ لك، وأطاب، طَلِّقها، وانكِحْ غيرها"، وهذا الكلام الذي قاله عليّ رضي الله عنه حَمَله عليه ترجيح جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا رأى عنده من القلق بسبب القول الذي قيل، وكان صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة، فرأى عليّ رضي الله عنه أنه إذا فارقها، سَكَن ما عنده من القلق بسببها، إلى أن يتحقق براءتها، فيمكن رجعتها، ويستفاد منه ارتكاب أخفّ الضررين لذهاب أشدّهما.

وقال النوويّ

(3)

: رأى ذلك هو المصلحة في حقّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، واعتقد ذلك لِمَا رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة لإرادة راحة خاطره صلى الله عليه وسلم.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 232.

(2)

"الفتح" 10/ 412.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 107.

ص: 141

وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة

(1)

: لم يجزم عليّ بالإشارة بفراقها؛ لأنه عقب ذلك بقوله: "وسَلِ الجارية تصدقك"، ففوّض الأمر في ذلك إلى نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: إن أردت تعجيل الراحة ففارقها، وإن أردت خلاف ذلك فابحث عن حقيقة الأمر، إلى أن تَطَّلع على براءتها؛ لأنه كان يتحقق أن بريرة لا تخبره إلا بما علمته، وهي لم تعلم من عائشة إلا البراءة المحضة.

والعلة في اختصاص عليّ وأسامة رضي الله عنهما بالمشاورة أن عليًّا كان عنده كالولد؛ لأنه ربّاه من حال صغره، ثم لم يفارقه، بل وازداد اتصاله بتزويج فاطمة رضي الله عنهما، فلذلك كان مخصوصًا بالمشاورة فيما يتعلق بأهله، لمزيد اطلاعه على أحواله أكثر من غيره، وكان أهل مشورته فيما يتعلق بالأمور العامّة أكابر اللَّه صحابة، كأبي بكر، وعمر، وأما أسامة فهو كعليّ في طول الملازمة، ومزيد الاختصاص والمحبة، ولذلك كانوا يُطلقون عليه أنه حِبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وخَصَّه دون أبيه وأمه، لكونه كان شابًّا كعليّ، وإن كان عليّ أسن منه، وذلك أن للشاب من صفاء الذهن ما ليس لغيره، ولأنه أكثر جُرأة على الجواب بما يظهر له من المسنّ؛ لأن المسنّ غالبًا يحسب العاقبة، فربما أخفى ما يظهر له رعاية للقائل تارةً، والمسؤول عنه أخرى، مع ما ورد في بعض الأخبار أنه استشار غيرهما.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: وقع بسبب هذا الكلام من عليّ نسبة عائشة إياه إلى الإساءة في شأنها، كما تقدم

(2)

من رواية الزهريّ عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة في "المغازي"، وما

(1)

"بهجة النفوس" 3/ 58.

(2)

هو: ما أخرجه البخاريّ في "المغازي" 4/ 1522 فقال:

(3911)

- حدّثني عبد اللَّه بن محمد، قال: أملى علي هشام بن يوسف من حفظه، أخبرنا معمر، عن الزهريّ قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أبلغك أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟ قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، أن عائشة رضي الله عنها قالت لهما: كان عليّ مُسَلّمًا في شأنها. . . إلخ.

ص: 142

راجع به الوليد بن عبد الملك من ذلك، فأغنى عن إعادته، وقد وضح عذر عليّ رضي الله عنه في ذلك. انتهى

(1)

.

(وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ) هي بريرة مولاة عائشة رضي الله عنهما، (تَصْدُقْكَ)؛ أي: تخبرك خبرًا صادقًا عن شأنها، وفي رواية مِقسم، عن عائشة:"أَرْسِل إلى بريرة خادمها، فَسَلْها، فعسى أن تكون قد اطّلعت على شيء من أمرها". (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ) -بفتح الموحّدة، وكسر الراء- وفي رواية مِقسم:"فأرسل إلى بريرة، فقال لها: أتشهدين أني رسول اللَّه؟ قالت: نعم، قال: فإني سائلك عن شيء، فلا تكتمينه، قالت: نعم، قال: هل رأيت من عائشة ما تكرهينه؟ قالت: لا".

وقد قيل: إن تسميتها هنا وَهَمٌ؛ لأن قصّتها كانت بعد فتح مكة، كما ثبت أنها لمّا خُيِّرت، فاختارت نفسها، كان زوجها يبكي، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم للعباس:"يا عباس ألا تعجب من حبّ مغيث بريرة. . . " الحديث.

ويمكن الجواب بأن تكون بريرة كانت تخدُم عائشة، وهي في رقّ مواليها، وأما قصتها معها في مكاتبتها، وغير ذلك فكان بعد ذلك بمدّة، أو أن اسم هذه الجارية المذكورة في قصّة الإفك وافق اسم بريرة التي وقع لها التخيير.

قال الحافظ: وجزم البدر الزركشيّ فيما استدركته عائشة على الصحابة أن تسمية هذه الجارية بريرة مدرجة من بعض الرواة، وأنها جارية أخرى، وأخذه من ابن القَيّم الحنبليّ، فإنه قال: تسميتها ببريرة وَهَمٌ من بعض الرواة، فإن عائشة إنما اشترت بريرة بعد الفتح، ولمّا كاتبتها عقب شرائها، وعتقت خُيِّرت فاختارت نفسها، فظنّ الراوي أن قول عليّ: وسَلِ الجارية تصدقك أنها بريرة، فغلط، قال: وهذا نوع غامض لا ينتبه له إلا الحذاق.

قال الحافظ: وقد أجاب غيره بأنها كانت تخدُم عائشة بالأجرة، وهي في رقّ مواليها قبل وقوع قصتها في المكاتبة، وهذا أَولى من دعوى الإدراج، وتغليط الحفاظ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

.

(1)

"الفتح" 10/ 413.

(2)

"الفتح" 10/ 414.

ص: 143

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أجاد الحافظ في هذا التعقّب، فإن تغليط الحفّاظ مع إمكان الحمل المذكور ليس له وجه، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَيْ بَرِيرَةُ)"أيْ" حرف نداء، وتقدّم الخلاف فيها، هل هي للبعيد، أم للقريب، أو للوسط؟ (هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ)"من" زائدة، و"شيء" مفعول به لـ "رأيت"، وقوله:(يَرِيبُكِ) تقدّم أنه بفتح حرف المضارعة، وضمّه، صفة لـ "شيء"؛ أي: يشكّكك فيما قاله أهل الإفك (مِنْ عَائِشَةَ؟ ") رضي الله عنها، ولفظ البخاريّ:"أي بريرةُ، هل رأيت من شيء يريبك؟ "، وفي رواية هشام بن عروة:"فانتهرها بعض أصحابه، فقال: اصدقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية أبي أويس:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: شأنك بالجارية، فسألها عليّ، وتوعدها، فلم تخبره إلا بخير، ثم ضربها، وسألها، فقالت: واللَّه ما علمت على عائشة سوءًا"، وفي رواية ابن إسحاق:"فقام إليها عليّ، فضربها ضربًا شديدًا، يقول: اصدقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، ووقع في رواية هشام:"حتى أسقطوا لها به"، يقال: أسقط الرجل في القول: إذا أتى بكلام ساقط، والضمير في قوله:"به" للحديث، أو الرجل الذي اتهموها به.

وحَكَى عياض أن في رواية ابن ماهان في مسلم: "حتى أسقطوا لهاتها" بمثناة مفتوحة، وزيادة ألف بعد الهاء، قال: وهو تصحيف؛ لأنهم لو أسقطوا لهاتها، لم تستطع الكلام، والواقع أنها تكلمت، فقالت: سبحان اللَّه إلخ، وفي رواية حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عند الطبرانيّ:"فقال: لست عن هذا أسألك، قالت: نعمة، فلما فَطِنت قالت: سبحان اللَّه"، وهذا يدلّ على أنَّ المراد بقوله في الرواية:"حتى أسقطوا لها به" حتى صرّحوا لها بالأمر، فلهذا تعجبت.

وقال ابن الجوزيّ

(1)

: "أسقطوا لها به"؛ أي: صرحوا لها بالأمر، وقيل: جاؤوا في خطابها بسقط من القول.

ووقع في رواية الطبريّ من طريق أبي أسامة: "قال عروة: فجيبَ ذلك على من قاله".

(1)

"كشف المشكل" 4/ 325.

ص: 144

وقال ابن بطال

(1)

: يَحْتَمِل أن يكون من قولهم: سقط إلى الخبر: إذا علمه، قال الشاعر:

إِذَا هُنَّ سَاقَطْنَ الْحَدِيثَ وَقُلْنَ لِي

. . . . . . . . . . . .

قال: فمعناه: ذكروا لها الحديث، وشرحوه

(2)

.

(قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ) رضي الله عنها: (وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ) نافية؛ أي: ما (رَأَيْتُ عَلَيْهَا)؛ أي: على عائشة رضي الله عنها، (أَمْرًا)؛ أي: مما تسألون عنه شيئًا أصلًا، وأما من غيره ففيها ما ذكرت من غلبة النوم؛ لصغر سنّها، ورطوبة بدنها. (قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من الزمن، (أَغْمِصُهُ) بفتح الغين المعجمة، وكسر الصاد المهملة، وفتحها، من باب ضرب، وسَمِعَ، وفَرِح، يقال: غَمِصَهُ، غمصًا، احتقره، وعابه، كاغتمصه، قاله المجد

(3)

؛ أي: أعيبه (عَلَيْهَا)؛ أي: على عائشة رضي الله عنها (أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ) بدال مهملة، ثم جيم: الشاة التي تألف البيت، ولا تخرج إلى المرعى، وقيل: هي كل ما يألف البيوت مطلقًا، شاة، أو طيرًا، قال النوويّ رحمه الله: ومعنى هذا الكلام: أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه أصلًا، ولا فيها شيء من غيره، إلا نومها عن العجين (فَتَأْكُلُهُ) الداجن، وفي رواية ابن إسحاق:"ما كنت أعيب عليها إلا أني كنت أعجن عجيني، وآمرها أن تحفظه، فتنام عنه"، وفي رواية مِقسم:"ما رأيت منها مذ كنت عندها، إلا أني عجنت عجينًا لي، فقلت: احفظي هذه العجينة، حتى أقتبس نارًا؛ لأخبزها، فغفلت، فجاءت الشاة، فأكلتها"، وهو يفسّر المراد بقوله في رواية الباب:"حتى تأتي الداجن".

قال ابن المنير في "الحاشية": هذا من الاستثناء البديع الذي يراد به المبالغة في نفي العيب، فغفلتها عن عجينها أبعد لها من مثل الذي رُميت به، وأقرب إلى أن تكون من الغافلات المؤمنات، وكذا في قولها في رواية هشام بن عروة:"ما علمت إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر"؛ أي: كما لا يعلم

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 8/ 45.

(2)

"الفتح" 10/ 415.

(3)

"القاموس المحيط" ص 961.

ص: 145

الصائغ من المذهب الأحمر إلا الخلوص من العيب، فكذلك أنا لا أعلم منها إلا الخلوص من العيب.

وفي رواية ابن حاطب، عن علقمة: "فقالت الجارية الحبشية: واللَّه لعائشة أطيب من المذهب، ولئن كانت صنعت ما قال الناس، لَيُخْبِرَنّك اللَّه، قالت: فعجب الناس من فقهها.

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ) وفي رواية أبي أويس: "ثم خرج حين سمع من بريرة ما قالت"، وفي رواية هشام بن عروة:"قام فينا خطيبًا، فتشهد، وحمد اللَّه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد"، وزاد عطاء الخرسانيّ، عن الزهريّ هنا قبل قوله "فقام":"وكانت أم أيوب الأنصاربة قالت لأبي أيوب: أما سمعت ما يتحدث الناس؛ فحدثته بقول أهل الإفك، فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم".

وروى الطبري من حديث ابن عمر: "قال: قال أسامة: ما يحل لنا أن نتكلم بهذا سبحانك" الآية، لكن أسامة مهاجريّ، فإن ثبت حُمِل على التوارد.

وفي مرسل سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ ممن قال ذلك، وروى الطبريّ أيضًا من طريق ابن إسحاق: حدّثني أبي عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب قالت له أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلي، وذلك الكذب، أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا واللَّه، قال: فعائشة واللَّه خير منك، قالت: فنزل القرآن: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} الآية.

وللحاكم من طريق أفلح مولى أبي أيوب، عن أبي أيوب نحوه، وله من طريق أخرى قال: قالت أم طفيل لأبي بن كعب، فذكر نحوه.

(فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ) أما "أُبَيّ" فمنوّن، و"ابن سلولَ" فبكتابة ألف "ابن"، وهو غير منصرف؛ للعلميّة، والتأنيث، كما سبق؛ أي: طاب من يَعذِره منه؛ أي: يُنصفه، قال الخطابيّ: يَحْتَمِل أن يكون معناه: من يقوم بعذره فيما رمى أهلي به من المكروه، ومن يقوم بعذري إذا عاقبته على سوء ما صدر منه، ورجّح النوويّ هذا الثاني، وقيل: معنى من يعذرني: من ينصرني، والعذير: الناصر، وقيل: المراد: من ينتقم لي منه، وهو كالذي قبله، ويؤيده قول سعد: أنا أعذرك منه.

ص: 146

وقال الفيّوميّ رحمه الله: عَذَرْتُهُ فيما صنع عَذْرًا، من باب ضرب: رفعتُ عنه اللوم، فهو مَعْذُورٌ؛ أي: غير ملوم، والاسم: العُذْرُ، وتُضم الذال للإتباع، وتسكن، والجمع أَعْذَارٌ، قال: وقولهم: مَن عَذِيرِي من فلان، ومن يَعْذرُنِي منه؛ أي: من يلومه على فعله، ويُنحي باللائمة عليه، ويَعْذِرُنِي في أمره، ولا يلومني عليه، وقيل: معناه: من يقوم بِعُذْرِي إذا جازيته بصنعه، ولا يلومني على ما أفعله به، وقيل: عَذِيرٌ بمعنى نصير؛ أي: من ينصرني، فيقال: عَذَرْتُهُ -من باب ضرب-: إذا نصرته. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وقولها: "فاستعذر"؛ أي: طلب من يقبل عذره، كما قال:"من يَعذِرنِي من رجل قد بلغ أذاه في أهلي"؛ أي: من يقبل عذري في حقه، وعقوبته، فقال سعد: أنا أعذرك منه؛ أي: أقبل عذرك فيه. انتهى

(2)

.

(قَالَتْ) رضي الله عنها: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ) جملة حاليّة من الفاعل، ("يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي) من باب ضرب؛ أي: من يرفع عنّي اللوم (مِنْ رَجُلٍ)؛ أي: من أجل انتقامي منه، والرجل هو عبد اللَّه بن أبيّ المذكور، (قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي)؛ أي: في عائشة رضي الله عنها، وفي رواية هشام بن عروة:"أشيروا عليّ في أناس أَبَنُوا أهلي"، وهو بفتح الموحّدة الخفيفة، والنون المضمومة.

وحَكَى عياض أن في رواية الأصيليّ بتشديد الموحّدة، وهي لغة، ومعناه: عابوا أهلي، أو اتهموا أهلي، وهو المعتمَد؛ لأن الأَبَنَ بفتحتين: التهمة، وقال ابن الجوزيّ: المراد: رَمَوا أهلي بالقبيح، ومنه الحديث الذي في "الشمائل" في ذكر مجلسه صلى الله عليه وسلم:"لا تُؤبن فيه الْحُرَم"، وحَكَى عياض أن في رواية عبدوس بتقديم النون الثقيلة على الموحّدة، قال: وهو تصحيف؛ لأن التأنيب هو اللوم الشديد، ولا معنى له هنا. انتهى، قال النوويّ رحمه الله: وقد يوجه بأن المراد: لامُوهُم أشدّ اللوم فيما زعموا أنهم صنعوه، وهم لم يصنعوا شيئًا من ذلك، لكنه بعيد من صورة الحال، والأول هو المعتمَد، قال النوويّ رحمه الله: التخفيف أشهر.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 398 - 399.

(2)

"المفهم" 7/ 372.

ص: 147

وفي رواية ابن إسحاق: "ما بال أناس يؤذوني في أهلي"، وفي رواية ابن حاطب:"من يَعذِرني فيمن يؤذيني في أهلي، ويَجمع في بيته من يؤذيني"، ووقع في رواية الغسّاني المذكورة:"في قوم يسبّون أهلي"، وزاد فيه:"ما علمت عليهم من سوء قط".

(فواللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي) عائشة رضي الله عنها، وغيرها كذلك (إِلَّا خيْرًا)؛ أي: صلاحًا، وعفّةً، وتقوى، (وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا) هو صفوان بن الْمُعَطِّل رضي الله عنه، زاد الطبريّ في روايته:"صالِحًا"، وزاد أبو أويس في روايته: "وكان صفوان بن المعطِّل قعد لحسان، فضربه ضربة بالسيف، وهو يقول [من الطويل]:

تَلَقَّ ذَبَابَ السَّيْفِ مِنِّي فَإِنَّنِي

غُلَامٌ إِذُا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ

فصاح حسان، ففَرّ صفوان، فاستوهب النبيّ صلى الله عليه وسلم من حسان ضربة صفوان، فوهبها له.

(مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ)؛ أي: على صفوان (إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي"، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيُّ) قال الحافظ: كذا هنا، وفي رواية معمر، وأكثر أصحاب الزهريّ، ووقع في رواية صالح بن كيسان:"فقام سعد أخو بني عبد الأشهل"، وفي رواية فُليح:"فقام سعد، ولم ينسبه"، وقد تعيّن أنه سعد بن معاذ؛ لِمَا وقع في رواية الباب وغيره، قال: وأما قول شيخ شيوخنا القطب الحلبيّ: وقع في نسخة سماعنا: "فقام سعد بن معاذ"، وفي موضع آخر:"فقام سعد أخو بني عبد الأشهل"، فيَحْتَمِل أن يكون آخر غير سعدًا بن معاذ، فإن في بني عبد الأشهل جماعة من الصحابة، يُسَمَّى كل منهم سعدًا، منهم سعد بن زيد الأشهليّ، شَهِد بدرًا، وكان على سبايا قريظة الذين بيعوا بنجد، وله ذِكر في عدة أخبار، منها في خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته، قال: فيَحْتَمِل أن يكون هو المتكلم في قصة الإفك.

قال الحافظ: وحَمَله على ذلك ما حكاه عياض وغيره من الإشكال في ذِكر سعد بن معاذ في هذه القصة، والذي جوّزه مردود بالتصريح بسعد بن معاذ في هذه الرواية، فأنكر كلام عياض، وما تيسَّر من الجواب عنه.

قال عياض: في ذِكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال، لم يتكلم الناس عليه، ونبّهنا عليه بعض شيوخنا، وذلك أن الإفك كان في المريسيع،

ص: 148

وكانت سنة ست، فيما ذَكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ مات من الرَّمْية التي رُميها بالخندق، فدعا اللَّه، فأبقاه حتى حَكَم في بني قريظة، ثم انفجر جُرحه، فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع، إلا ما زعم الواقديّ أن ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كل تقدير، فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة، والأشبه أنه غيره، ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في روايته، وجعل المراجعة أولًا وثانيًا بين أُسيد بن حُضير، وبين سعد بن عبادة، قال: وقال لي بعض شيوخنا: يصح أن يكون سعد موجودًا في المريسيع، بناءً على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع، وقد حَكَى البخاريّ عن موسى بن عقبة، أنها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق كانت سنة أربع، فيصح أن تكون المريسيع قبلها؛ لأن ابن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان، وأن الخندق كانت في شوال، فإن كانا من سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق، فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ. انتهى.

قال الحافظ: وقد قدَّمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس، وأن الذي نقله عنه البخاريّ من أنها سنة أربع سَبْق قَلَم، نعم والراجح أن الخندق أيضًا كانت في سنة خمس، خلافًا لابن إسحاق، فيصح الجواب المذكور.

وممن جزم بأن المريسيع سنة خمس الطبريّ، لكن يعكر على هذا شيء لم يتعرضوا له أصلًا، وذلك أن ابن عمر ذكر أنه كان معهم في غزوة بني المصطلِق، وهو المريسيع، وثبت في "الصحيحين" أيضًا أنه عُرض في يوم أحد فلم يُجِزه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعُرض في الخندق فأجازه، فإذا كان أول مشاهده الخندق، وقد ثبت أنه شهد المريسيع لزم أن تكون المريسيع بعد الخندق، فيعود الإشكال.

ويمكن الجواب بأنه لا يلزم من كون ابن عمر كان معهم في غزوة بني المصطلِق، أن يكون أُجيز في القتال، فقد يكون صحب أباه، ولم يباشر القتال، كما ثبت عن جابر أنه كان يمنح الماء لأصحابه يوم بدر، وهو لم يشهد بدرًا باتفاق.

وقد سلك البيهقيّ في أصل الإشكال جوابًا آخر؛ بناء على أن الخندق

ص: 149

قَبْل المريسيع، فقال: يجوز أن يكون جُرْح سعد بن معاذ لَمْ ينفجر عقب الفراغ من بني قريظة، بل تأخر زمانًا، ثم انفجر بعد ذلك، وتكون مراجعته في قصة الإفك في أثناء ذلك، ولعله لم يشهد غزوة المريسيع لمرضه، وليس ذلك مانعًا له أن يجيب النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك بما أجابه.

قال الحافظ: وأما دعوى عياض أن الذين تقدموا لم يتكلموا على الإشكال المذكور، فما أدري من الذين عناهم، فقد تعرض له من القدماء إسماعيل القاضي، فقال: الأَولى أن تكون المريسيع قبل الخندق؛ للحديث الصحيح عن عائشة.

واستشكله ابن حزم؛ لاعتقاده أن الخندق قبل المريسيع، وتعرض له ابن عبد البرّ، فقال: رواية من روى أن سعد بن معاذ راجَعَ في قصة الإفك سعد بن عبادة وَهَمٌ خطأ، وإنما راجع سعدُ بن عبادة أُسيد بن حضير، كما ذكره ابن إسحاق، وهو الصحيح، فإن سعد بن معاذ مات في منصرفهم من غزوة بني قريظة، لا يختلفون في ذلك، فلم يدرك المريسيع، ولا حضرها، وبالغ ابن العربيّ على عادته، فقال: اتفق الرواة على أن ذكر ابن معاذ في قصة الإفك وَهَمٌ، وتَبِعه على هذا الإطلاق القرطبيّ

(1)

. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ) سعد بن معاذ رضي الله عنه: (أَنَا أَعْذِرُكَ)؛ أي: أنتقم لك (مِنْهُ)؛ أي: من هذا الرجل عبد اللَّه ابن أُبيّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) وفي رواية فُليح: "فقال: أنا واللَّه أعذِرك منه"، ووقع في رواية معمر:"أعذرك منه" بحذف المبتدأ. (إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ) القبيلة المشهورة، وهي قبيلة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهو: سعد بن معاذ -بضم الميم- ابن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن النبيت، واسمه عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ الأشهليّ، أسلم على يد مصعب بن عمير، لمّا أرسله النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يُعَلِّم المسلمين، شَهِد بدرًا، لم يختلفوا فيه، وشَهِد أُحُدًا، والخندق، ورماه يومئذ حِبَان ابن الْعَرِقَة في أكحله

(3)

. (ضَرَبْنَا عُنُقَهُ)

(1)

"المفهم" 7/ 388.

(2)

"الفتح" 10/ 418 - 419.

(3)

"عمدة القاري" 13/ 232.

ص: 150

وفي رواية صالح بن كيسان: "ضربتُ" بضم المثناة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان سيدهم، فجزم بأن حُكْمه فيهم نافذ، لا يخالفه فيه، ولأن من آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم يجب قتله. (وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ) القبيلة المشهورة أيضًا، وهي قبيلة سعد بن عُبادة رضي الله عنه، ولفظ البخاريّ:"وإن كان من إخواننا من الخزرج" بـ "من" في موضعين، فـ "من" الأولى تبعضية، والأخرى بيانية. (أَمَرْتَنَا) فيه بما تراه، (فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ)؛ أي: نفّذنا أمرك فيه، وفي رواية ابن جريج:"أتيناك به، ففعلنا فيه أمرك". (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، وهو: سعد بن عُبادة -بضم العين- ابن دُليم بن حارثة بن أبي حَزِيمة -بفتح الحاء المهملة، وكسر الزاي، وسكون الياء آخر الحروف، وفتح الميم، بعدها هاء- ابن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر أخي الأوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو المزيقياء بن عامر ماء السماء، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن قضاعة، وقيل: قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة، وكان نقيب بني ساعدة، شَهِد بدرًا عند بعضهم، وسار إلى الشام، فأقام بحوران إلى أن مات سنة خمس عشرة، ولم يختلفوا أنه وُجد ميتًا على مغتسله

(1)

.

وقولها: (وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ) جملة حاليّة من الفاعل، وفي رواية صالح بن كيسان:"فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بن ثابت بنت عمه، من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج"، انتهى، وأم حسان اسمها الفُريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد وَدّ بن زيد بن ثعلبة، وقوله:"من فخذه" بعد قوله: بنت عمه إشارة إلى أنها ليست بنت عمه حقيقةً؛ لأن سعد بن عبادة يجتمع معها في ثعلبة. (وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا) ولفظ البخاريّ: "وكان قبل ذلك رجلًا صالِحًا"؛ أي: كامل الصلاح، وفي رواية الواقديّ:"وكان صالِحًا، لكن الغضب بلغ منه، ومع ذلك لم يغمص عليه في دينه".

(وَلَكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو هنا لمعظم رواة "صحيح مسلم": "اجتهلته" بالجيم، والهاء: أي استخفّته، وأغضبته، وحملته

(1)

"عمدة القاري" 13/ 232.

ص: 151

على الجهل، وفي رواية ابن ماهان هنا:"احتملته" بالحاء، والميم، وكذا رواه ومسلم بعد هذا من رواية يونس، وصالح، وكذا رواه البخاريّ، ومعناه: أغضبته، فالروايتان صحيحتان. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ولكن احتملته الحمية" كذا للأكثر: "احتملته" -بحاء مهملة، ثم مثناة، ثم ميم- أي: أغضبته، وفي رواية معمر عند مسلم، وكذا يحيى بن سعيد عند الطبرانيّ:"اجتهلته" بجيم، ثم مثناة، ثم هاء، وصوّبها الوقشيّ؛ أي: حملته على الجهل. انتهى

(2)

.

(فَقَالَ) سعد بن عبادة (لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ) بفتح العين المهملة، هو البقاء، وهو العُمر بضمها، لكن لا يُستعمل في القسم إلا بالفتح، وقوله:(لَا تَقْتُلُهُ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ) زاد في رواية للبخاريّ: "ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتَلَ"، قال في "الفتح": فسّرَ قولَهُ: "لا تقتله" بقوله: "ولا تقدر على قتله"؛ إشارةً إلى أن قومه يمنعونه من قتله، وأما قوله:"ولو كان من رهطك" فهو من تفسير قوله: "كذبت"؛ أي: في قولك: إن كان من الأوس ضربتُ عنقه، فنَسَبه إلى الكذب في هذه الدعوي، وأنه جزم أن يقتله إن كان من رهطه مطلقًا، وأنه إن كان من غير رهطه إن أُمر بقتله قتله، وإلا فلا، فكأنه قال له: بل الذي نعتقده على العكس بما نطقت به، وأنه إن كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل، ولكنه من غير رهطك، فأنت تحب أن يُقتل، وهذا بحسب ما ظهر له في تلك الحالة.

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن معنى قوله: "كذبت، لا تقتله" أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يجعل حكمه إليك، فلذلك لا تقدر على قتله، وهو حَمْل جيّد.

وقد بيّنت الروايات الأخرى السبب الحامل لسعد بن عبادة على ما قال، ففي رواية ابن إسحاق:"فقال سعد بن عبادة: ما قلت هذه المقالة، إلا أنك علمت أنه من الخزرج"، وفي رواية ابن حاطب:"فقال سعد بن عبادة: يا ابن معاذ، واللَّه ما بك نصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولكنها قد كانت بيننا ضغائن في الجاهلية، وإِحَنٌ لم تُحْلَل لنا من صدوركم، فقال ابن معاذ: اللَّه أعلم بما أردتُ".

(1)

"شرح"النوويّ" 17/ 110.

(2)

"الفتح" 10/ 419.

ص: 152

وفي حديث ابن عمر: "إنما طلبت به دخول الجاهلية".

وقال ابن التين: قول ابن معاذ: "إن كان من الأوس ضربتُ عنقه" إنما قال ذلك؛ لأن الأوس قومه، وهم بنو النجار، ولم يقل في الخزرج؛ لِمَا كان بين الأوس والخزرج من التشاحن قبل الإسلام، ثم زال بالإسلام، وبقي بعضه بحكم الأَنَفة، قال: فتكلم سعد بن عبادة بحكم الأَنَفة، ونفى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، وهو من الأوس، قال: ولم يُرد سعد بن عبادة الرضا بما نُقل عن عبد اللَّه بن أُبَيّ، وإنما بمعنى قول عائشة:"وكان قبل ذلك رجلًا صالِحًا"، أي: لم يتقدم منه ما يتعلق بالوقوف مع أنفة الحمية، ولم تُرد أنه ناضل عن المنافقين، وهو كما قال، إلا أن دعواه أن بني النجار قوم سعد بن معاذ خطأ، وإنما هم من رهط سعد بن عبادة، ولم يَجْر لهم في هذه القصة ذِكر.

وقد تأوّل بعضهم ما دار بين السعدين بتأويل بعيد، فارتكب شططًا، فزعم أن قول سعد بن عبادة:"لا تقتله، ولا تقدر على قتله"، أي: إن كان من الأوس، واستَدَلَّ على ذلك بأن ابن معاذ لم يقل في الخزرجي ضربنا عنقه، وإنما قال ذلك في الأوسيّ، فدلّ على أن ابن عبادة لم يقل ذلك حمية لقومه؛ إذ لو كان حمية لم يوجهها رهط غيره، قال: وسبب قوله ذلك أن الذي خاض في الإفك كان يُظهر الإسلام، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقتل من يُظهر الإسلام، وأراد أن بقية قومه يمنعونه منه، إذا أراد قتله، إذا لم يصدر من النبيّ صلى الله عليه وسلم أمْر بقتله، فكأنه قال: لا تقل ما لا تفعل، ولا تَعِدْ بما لا تقدر على الوفاء به.

ثم أجاب عن قول عائشة: "احتملته الحمية" بأنها كانت حينئذ منزعجة الخاطر؛ لِمَا دهمها من الأمر، فقد يقع في فهمها ما يكون أرجح منه.

وعن قول أُسيد بن حضير الآتي بأنه حَمَل قول ابن عبادة على ظاهر لفظه، وخَفِي عليه أن له محملًا سائغًا. انتهى.

قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التعسف، من غير حاجة إلى ذلك، وقوله: إن عائشة قالت ذلك، وهي منزعجة الخاطر مردود؛ لأن ذلك إنما يتمّ لو كانت حدّثت بذلك عند وقوع الفتنة، والواقع أنها إنما حدّثت بها بعد دهر طويل، حتى سمع ذلك منها عروة، وغيره، من التابعين، كما قدَّمت الإشارة إليه، وحينئذ كان ذلك الانزعاج، وزال، وانقضى.

ص: 153

والحقّ أنها فهمت ذلك عند وقوعه بقرائن الحال، وأما قوله:"لا تقدر على قتله" مع أن سعد بن معاذ لم يقل بقتله، كما قال في حقّ من يكون من الأوس، فإن سعد بن عبادة فَهِم أن قول ابن معاذ: أمرتنا بأمرك؛ أي: إن أمرتنا بأمرك، أي: أمرتنا بقتله قتلناه، وإن أمرت قومه بقتله قتلوه، فنَفَى سعدُ بن عبادة قدرة سعد بن معاذ على قتله، إن كان من الخزرج؛ لعلمه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يأمر غير قومه بقتله، فكأنه أيأسه من مباشرة قتله، وذلك بحكم الحمية التي أشارت إليها عائشة، ولا يلزم من ذلك ما فهمه المذكور أنه يَرُدّ أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتله، ولا يمتثله، حاشا لسعد من ذلك.

وقد اعتذر المازريّ عن قول أُسيد بن حضير لسعد بن عبادة: إنك منافق أن ذلك وقع منه على جهة الغيظ، والْحَنَق، والمبالغة في زجر سعد بن عبادة عن المجادلة عن ابن أُبَيّ وغيره، ولم يُرِد النفاق الذي هو إظهار الإيمان، وإبطان الكفر، قال: ولعله صلى الله عليه وسلم إنما ترك الإنكار عليه لذلك، وسيأتي ذِكر ما في فوائد هذا الحديث في آخر شرحه زيادة في هذا -إن شاء اللَّه تعالى-.

(فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ) هو: أُسيد -بضم الهمزة- ابن حُضير -بضم إلى ناء المهملة، وفتح الضاد المعجمة- ابن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيده بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاريّ الأوسيّ الأسهليّ، أبو يحيى، أسلم على يد مصعب بن عمير بالمدينة بعد العقبة الأُولى، وقيل الثانية، واختُلف في شهوده بدرًا، فنفاه ابن إسحاق، والكلبيّ، وأثبته غيرهما، وشهد أُحُدًا، وما بعدها من المشاهد، وشَهِد مع عمر رضي الله عنهما فتح البيت المقدّس، مات بالمدينة سنة عشرين، وصلى عليه عمر رضي الله عنهما

(1)

.

(وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ)؛ أي: من رهطه، ولم يكن ابن عمه حقيقة؛ لأنه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل، وأُسيد بن حُضير بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس إنما يجتمعان في امرئ القيس، وهما في التعدد إليه سواء.

(1)

"عمدة القاري" 13/ 233.

ص: 154

(فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ)؛ أي: ولو كان من الخزرج، إذا أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وليست لكم قدرة على منعنا من ذلك، (فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ، تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ) أطلق أُسيد رضي الله عنه ذلك مبالغة في زجره عن القول الذي قاله، وأراد بقوله:"فإنك منافق"؛ أي: تصنع صنيع المنافقين، وفسّره بقوله:"تجادل عن المنافقين"، وقابل قوله لسعد بن معاذ:"كذبت، لا تقتله" بقوله هو: "كذبت لنقتلنّه"، وقال المازريّ: إطلاق أسيد لم يُرِد به نفاق الكفر، وإنما أراد أنه كان يُظهر المودة للأوس، ثم ظهر منه في هذه القصة ضدّ ذلك، فأشبه حال المنافق؛ لأن حقيقته إظهار شيء، وإخفاء غيره، ولعل هذا هو السبب في تَرْك إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه.

(فَثَارَ)؛ أي: تناهضوا للنزاع، والعصبية، وأصله من ثار الشيء يثور: إذا ارتفع، وانتشر، ولفظ البخاريّ:"فتثاور" بمثناة، ثم مثلّثة، تفاعل من الثورة. (الْحَيَّانِ) بحاء مهملة، ثم تحتانية مشدّدة: تثنية حيّ، والحيّ القبيلة؛ أي: تناهضوا للنزاع والعصبية، وقوله:(الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ) بدل من "الحيان"، والمعنى: نهض الحيّان بعضهم إلى بعض من الغضب، ووقع في حديث ابن عمر:"وقام سعد بن معاذ، فسَلّ سيفه".

(حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا)؛ أي: حتى قصدوا المحاربة، وتناهضوا للنزاع، وزاد ابن جريج في روايته، في قصة الإفك هنا:"قال: قال ابن عباس: فقال بعضهم لبعض: موعدكم الحرّة"، أي: خارج المدينة؛ لتتقاتلوا هناك. (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفِّضُهُمْ)؛ أي: يتلطف بهم ليسكتوا (حَتَّى سَكَتُوا)؛ أي: الحيّان، (وَسَكَتَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن حاطب:"فلم يزل يومئ بيده إلى الناس ها هنا، حتى هدأ الصوت"، وفي رواية فُليح:"فنزل، فخفّضهم، حتى سكتوا"، ويُحْمَل على أنه سكّتهم، وهو على المنبر، ثم نزل إليهم أيضًا ليكمل تسكيتهم، ووقع في رواية عطاء الخرسانيّ، عن الزهريّ:"فحجز بينهم".

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ) وفي رواية البخاريّ: "فمكثت يومي ذلك"، (لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ)؛ أي: لا ينقطع، (وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) كناية عن عدم نومها بالكلّيّة، زاد في رواية البخاريّ:"فأصبح أبواي عندي"؛ أي: أنهما

ص: 155

جاءا إلى المكان الذي هي فيه من بيتهما، لا أنها رجعت من عندهما إلى بيتها، ووقع في رواية محمد بن ثور، عن معمر، عند الطبريّ:"وأنا في بيت أبويّ"، (ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ) وفي رواية البخاريّ:"وقد بكيت ليلتين، ويومًا"؛ أي: الليلة التي أخبرتها فيها أم مسطح الخبر، واليوم الذي خطب فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس، والليلة التي تليه، ووقع في رواية فُليح:"وقد بكيت ليلتي ويومًا"، قال في "الفتح": وكأن الياء مشدّدة، ونَسَبتهما إلى نفسها؛ لِما وقع لها فيها. انتهى. (لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ)، وفي رواية فُليح:"حتى أظنّ"، ويُجمع بأن الجميع كانوا يظنون ذلك، (أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ) من فلق الشيء: إذا شقّه، (كَبِدِي) بفتح الكاف، وكسر الموحّدة، قال الفيوميّ رحمه الله: الكبد من الأمعاء معروفة، وهي أنثي، وقال الفرّاء: تُذكّر، وتؤنَّث، ويجوز التخفيف بكسر الكاف، وسكون الباء، والجمع أكباد، وكبود قليلًا. انتهى

(1)

.

وقال المجد: الكبد بالفتح، والكسر، وكَكَتِف: معروف، وقد يُذكّر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة القول أن الكبد فيه ثلاث لغات: فتح الكاف، وكسر الموحّدة، وسكونها، مع فتح الكاف، وكسرها، واللَّه تعالى أعلم.

(فَبَيْنَمَا هُمَا) وفي رواية للبخاريّ: "فبينا هما"، (جَالِسَانِ عِنْدِي، وَ) الحال (أَنَا أَبْكِي)، وقولها:(اسْتَأْذَنَتْ) جواب "بينما"؛ أي: طلبت الإذن منّي في الدخول عليّ، (عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. (فَأَذِنْتُ لَهَا) في الدخول (فَجَلَسَتْ تَبْكِي) معي تحزّنًا عليّ. (قَالَتْ) عائشة: (فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ)، وفي رواية للبخاريّ:"فينا نحن كذلك"، (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية هشام بن عروة:"فأصبح أبواي عندي، فلم يزالا، حتى دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد صلى العصر، وقد اكتنفني أبواي، عن يميني، وعن شمالي"، وفي رواية ابن حاطب:"وقد جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جلس على سريرٍ وجاهي"، وفي حديث أم رومان: "أن عائشة في تلك الحالة

(1)

"المصباح المنير" 2/ 523.

(2)

"القاموس" ص 1110.

ص: 156

كانت بها الحمى النافض، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا دخل، فوجدها كذلك، قال: ما شأن هذه؟ قالت: أخذتها الحمى بنافض، قال: فلعله في حديث تُحُدّث؟ قالت: نعم، فقعدت عائشة".

(فَسَلَّمَ) صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ جَلَسَ، قَالَتْ: وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ، وَقَدْ لَبِثَ) بكسر الباء؛ أي: مكث صلى الله عليه وسلم (شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ) حَكَى السهيليّ أن بعض المفسرين ذكر أن المدة كانت سبعة وثلاثين يومًا، فألغى الكسر في هذه الرواية، وعند ابن حزم أن المدة كانت خمسين يومًا، أو أَزْيد، ويُجمع بأنها المدة التي كانت بين قدومهم المدينة، ونزول القرآن في قصة الإفك، وأما التقييد بالشهر، فهو المدّة التي أولها إتيان عائشة إلى بيت أبويها حين بلغها الخبر.

(قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ) وفي رواية هشام بن عروة: "فحَمِد اللَّه، وأثنى عليه"، (ثُمَّ قَالَ) بعد التشهّد:("أَمَّا بَعْدُ) بالبناء على الضمّ، لقطعه عن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد التشهّد، (يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا) هو كناية عما رُميت به، من الإفك، قال القرطبيّ: وهذا يدلّ على أنَّ كذا وكذا يُكنى بها عن الأحوال، كما يُكنى بها عن الأعداد. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ: ولم أر في شيء من الطرق التصريح، فلعل الكناية من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم، ووقع في رواية ابن إسحاق:"فقال: يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقِ اللَّه، كان كنت قارفت سوءًا فتوبي"، (فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً) مما رُميت به (فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ)؛ أي: بوحي يُنزله بذلك، قرآنًا، أو غيره. (وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ)؛ أي: وقع منك على خلاف العادة، وهذا حقيقة الإلمام ومنه قوله:

أَلَمَّتْ بِنَا وَاللَّيْلُ مُرْخٍ سُتُورَهُ

وقول الآخر:

مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا

(1)

"المفهم" 7/ 373.

ص: 157

أي: متى يقع منك هذا النادر، وهو أصل اللمم

(1)

.

(فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ) وفي رواية معمر: "ثم توبي إليه"، وفي رواية أبي أويس:"إنما أنتِ من بنات آدم، إن كنت أخطأت، فتوبي"، قال النوويّ: معناه: إن كنت فعلت ذنبًا، وليس ذلك لك بعادة، وهذا أصل اللمم. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ)؛ أي: أقرّ (بِذَنْبٍ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ") قال القرطبيّ: هذا دليلٌ على أنَّ الاعتراف بالذنب لا يُغني عن التوبة، بل لا بدّ من التوبة مع الاعتراف.

وقال الداوديّ: أمَرها بالاعتراف، ولم يندبها إلى الكتمان المفرِّق بين أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم وغيرهنّ، فيجب على أزواجه الاعتراف بما يقع منهنّ، ولا يكتمنه إياه؛ لأنه لا يحل لنبيّ إمساك من يقع منها ذلك، بخلاف نساء الناس، فإنهنّ نُدبن إلى الستر.

وتعقبه عياض: بأنه ليس في الحديث ما يدلّ على ذلك، ولا فيه أنه أمَرها بالاعتراف، وإنما أمَرها أن تستغفر اللَّه، وتتوب إليه؛ أي: فيما بينها وبين ربها، فليس صريحًا في الأمر لها بأن تعترف عند الناس بذلك، قال الحافظ: وسياق جواب عائشة يُشعر بما قاله الداوديّ، لكن المعترف عنده ليس إطلاقه، فليتأمل، ويؤيد ما قاله عياض أن في رواية حاطب:"قالت: فقال أَبِي: إن كنت صنعت شيئًا فاستغفري اللَّه، وإلا فأخبري رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعذرك".

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ) تلك (قَلَصَ دَمْعِي) بفتح القاف، واللام، ثم صاد مهملة، أي: استمسك نزوله، فانقطع، ومنه قَلَص الظلّ: إذا ارتفع، قال القرطبيّ: سببه أن الحزن والغضب إذا أخذ أحدهما فُقد الدمع؛ لفرط حرارة المصيبة.

وقال النوويّ: "قلص" بفتح القاف، واللام، أي: ارتفع؛ لاستعظام ما يُعيبني من الكلام. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 373.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 111.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 111.

ص: 158

وقال القرطبيّ

(1)

: "قلص"؛ أي: انقبض، وارتفع، وإنَّما كان ذلك؛ لأنَّ الحزن والموجدة، قد انتهت نهايتها، وبلغت غايتها، ومهما انتهى الأمر إلى ذلك جفّ الدمع؛ لفرط حرارة المصيبة، كما قال الشاعر:

عَيْنَيَّ سُحَّا وَلَا تَشُحَّا

جَلَّ مُصَابِي عَنِ الدَّوَاءِ

إِنَّ الأَسَى وَالْبُكَا جَمِيـ

ــعًا ضِدَّانِ كَالدَّاءِ وَالدَّوَاءِ

(حَتَّى مَا أُحِسُّ) بضمّ الهمزة، وكسر السين المهملة، أي: ما أجد (مِنْهُ)؛ أي: من الدمع (قَطْرَةً، فَقُلْتُ لأَبِي) أبي بكر رضي الله عنه: (أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ)؛ أي: فيما تكلّم به الآن من الكلام، (فَقَالَ) أبو بكر رضي الله عنه:(واللَّه مَا) نافية، (أَدْرِي مَا) موصولة؛ أي: الذي (أقولُـ) ـــه (لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قيل: إنما قالت عائشة لأبيها ذلك، مع أن السؤال إنما وقع عما في باطن الأمر، وهو لا اطّلاع له على ذلك، لكن قالته إشارةً إلى أنها لم يقع منها شيء في الباطن، يخالف الظاهر الذي هو يطّلع عليه، فكأنها قالت له: برئني بما شئت، وأنت على ثقة من الصدق فيما تقول، وإنما أجابها أبو بكر بقوله:"لا أدري"؛ لأنه كان كثير الاتّباع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأجاب بما يطابق السؤال في المعني، ولأنه وإن كان يتحقق براءتها، لكنه كَرِه أن يزكي ولده، وكذا الجواب عن قول أمها:"لا أدري"، ووقع في رواية هشام بن عروة:"فقال: ماذا أقول؟ "، وفي رواية أبي أويس:"فقلت لأبي: أجب، فقال: لا أفعل، هو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والوحي يأتيه".

وقال النوويّ رحمه الله: قولها لأبويها: "أجيبا عني" فيه تفويض الكلام إلى الكبار؛ لأنهم أعرف بمقاصده، واللائق بالمواطن منه، وأبواها يعرفان حالها، وأما قول أبويها:"لا ندري ما نقول" فمعناه: أن الأمر الذي سألها عنه لا يَقفان منه على زائد على ما عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي، من حُسن الظنّ بها، والسرائر إلى اللَّه تعالى. انتهى

(2)

.

(فَقُلْتُ لأُمِّي أم رُومان) رضي الله عنها: (أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: واللَّه مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم). قالت عائشة: (فَقُلْتُ: وَ) الحال (أَنَا جَارِيَةٌ

(1)

"المفهم" 7/ 374.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 111.

ص: 159

حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ) قالت هذا؛ توطئةً لعذرها؛ لكونها لم تستحضر اسم يعقوب عليه السلام، ووقع في رواية هشام بن عروة:"فلما لم يجيباه، تشهدتُ، فحمدتُ اللَّه، وأثنيتُ عليه بما هو أهله، ثم قلتُ: أما بعدُ"، وفي رواية ابن إسحاق:"فلما استعجما عليّ، استعبرت، فبكيت، ثم قلت: واللَّه لا أتوب مما ذكروا أبدًا".

(إِنِّي واللَّه لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا) الأمر (حَتَّى اسْتَقَرَّ)، وفي رواية فُليح:"وقر" بالتخفيف، أي: ثبت وزنًا ومعنى (فِي نُفُوسِكُمْ) وفي بعض النسخ: "في أنفسكم"، (وَصَدَّقْتُمْ بِهِ) وفي رواية هشام بن عروة:"لقد تكلمتم به، وأُشربته قلوبكم"، قالت هذا، وإن لم يكن على حقيقته، على سبيل المتهابلة لِمَا وقع من المبالغة في التنقيب عن ذلك، وهي كانت لِمَا تحققته من براءة نفسها، ومنزلتها، تعتقد أنه كان ينبغي لكل من سمع عنها ذلك أن يقطع بكذبه، لكن العذر لهم عن ذلك أنهم أرادوا إقامة الحجة على من تكلم في ذلك، ولا يكفي فيها مجرد نفي ما قالوا، والسكوت عليه، بل تعيَّن التنقيب عليه؛ لِقَطْع شُبَهِهِم، أو مرادها بمن صَدَّق به: أصحاب الإفك، لكن ضمت إليه من لم يكذبهم تغليبًا.

(فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ) مما رُميت به، وقولها:(واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ) جملة معترضة بين الشرط وجوابه، جىِء بها تأكيدًا للكلام، (لَا تُصَدِّقُونِي بِذلِكَ)؛ أي: لا تقطعون بصدقي، وفي رواية هشام بن عروة:"ما ذاك بنافعي عندكم"، وقالت في الشق الآخر:"لتصدقني"، وإنما قالت ذلك؛ لأن المرء مؤاخذ بإقراره، ووقع في حديث أم رُومان:"لئن حلفت لا تصدقونني، ولئن قلت، لا تعذرونني".

(وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ) أي: بما رُميت به، (واللَّه يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي) بنونين، وفي رواية:"لتصدقُنّي" بتشديد النون، والأصل تصادقونني، فأدغمت إحدى النونين في الأخرى. (وَإِنِّي واللَّه مَا) نافية، (أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا)، وفي رواية:"واللَّه ما أجد لكم مثلًا"، وفي رواية:"ما أجد لكم، ولي مثلًا"، (إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ:) زاد ابن جريج في روايته: "واختُلس مني اسمه"، وفي رواية هشام بن عروة: "والتمست اسم يعقوب، فلم

ص: 160

أقدر عليه"، وفي رواية أبي أويس: "نسيت اسم يعقوب؛ لِمَا بي من البكاء، واحتراق الجوف"، ووقع في حديث أم رُومان: "مَثَلي ومَثَلكم، كيعقوب وبنيه"، وهي بالمعنى؛ للتصريح في حديث هشام وغيره بأنها لم تستحضر اسمه.

({فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18]) قال الزجاج، أي: فشأني، أو الذي أعتقده صبر جميل، وقال قطرب، أي: فصبري صبر جميل. وقيل: فصبر جميل أَولى بي، قيل: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه. قال الزجاج: قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف: "فصبرًا جميلًا". قال: وكذا في مصحف أنس، قال المبرد:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} بالرفع أَولى من النصب؛ لأن المعنى: قال ربّ عندي صبر جميل، وإنما النصب على المصدر؛ أي: فلأصبرنّ صبرًا جميلًا. قال الشاعر [من الرجز]:

شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى

صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلَانَا مَبْتَلَى

({وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ} [يوسف: 18])؛ أي: المطلوب منه العون ({عَلَى مَا تَصِفُونَ})؛ أي: على إظهار حال ما تصفون، أو على احتمال ما تصفون، وهذا منه عليه السلام إنشاء، لا إخبار

(1)

.

(قَالَتْ) عائشة: (ثمَّ تَحَوَّلْتُ) إلى الجهة الأخرى، (فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي) وزاد ابن جريج:"وولَّيت وجهي نحو الجدر"، (قَالَتْ: وَأَنَا واللَّه حِينَئِذٍ)؛ أي: حين تحوَّلت إلى الجهة الأخرى (أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ) مما رموني به، (وَأَنَّ اللَّهَ) بفتح الهمزة، لعطفه على "أني" الأُولي، (مُبَرِّئِي) منزل وحيًا يبرّؤني مما رُميت به، (بِبَرَاءَتِي)؛ أي: بسبب براءتي من ذلك.

وزعم ابن التين أنه وقع عنده: "وإن اللَّه مبرئني" بنون قبل الياء، وبعد الهمزة، قال: وليس ببيِّن؛ لأن نون الوقاية تدخل في الأفعال؛ لتَسْلَم من الكسر، والأسماء تُكسر، فلا تحتاج إليها. انتهى.

قال الحافظ: والذي وقفنا عليه في جميع الروايات: "مبرئي" بغير نون، وعلى تقدير وجود ما ذَكَر، فقد سُمع مثل ذلك في بعض اللغات. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد ورد شُذوذًا دخول نون الوقاية على اسم

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 4/ 11.

(2)

"الفتح" 10/ 425.

ص: 161

الفاعل؛ تشبيهًا له بالفعل، وعلى اسم التفضيل؛ لِشَبَهه بالتعجّب، فالأول كقوله صلى الله عليه وسلم لليهود:"هل أنتم صادقوني؟ "

(1)

، ومنه قول الشاعر:

وَلَيْسَ بِمُعْيِينِي وَفِي النَّاس مُمْتِعٌ

صَدِيقٌ إِذَا أَعْيَا عَلَيَّ صَدِيقُ

ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "غير الدجّال أخوفني عليكم"

(2)

روي بلا نون، وبها

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(وَلَكِنْ واللَّه مَا كُنْتُ أَظُنّ أَنْ يُنْزَلَ) بالبناء للمفعول، (فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى) بالبناء للمفعول أيضًا، (وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عز وجل فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى) بالبناء للمفعول أيضًا، وفي رواية فُليح:"من أن يُتَكَلَّم بالقرآن في أمري"، وفي رواية ابن إسحاق:"يُقرأ به في المساجد، ويُصَلَّى به".

قال القرطبيّ رحمه الله: فيه دليل على أن الذين يتعيَّن على أهل الفضل، والعلم، والجادة، والمنزلة: احتقار أنفسهم، وترك الالتفات إلى أعمالهم، وإلى أحوالهم، وتجريد النظر إلى لطف اللَّه تعالى، ومنّته، وعفوه، ورحمته، وكرمه، ومغفرته، وقد اغترّ كثير من الجهّال بالأعمال، فلاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وإجابة الدعوات، وزعموا أنهم ممن يُتبرك بلقائهم، ويُغتنم صالح دعائهم، وأنهم يجب احترامهم، وتعظيمهم، فيُتمسّح بأثوا بهم، وتُقبّل أيديهم، ويرون أن لهم من المكانة عند اللَّه بحيث يَنتقم لهم ممن تَنَقَّصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وهذه كلّها نتائج الجهل العميم، والعقل غير المستقيم، فإنَّ ذلك إنما يصدر من جاهل معجَب بنفسه، غافل عن جُرْمه وذنبه، مغتزّ بإمهال اللَّه عز وجل له عن أخذه، ولقد غلب أمثال هؤلاء الأنذال في هذه الأزمان، فاستتبعوا العوامّ، وعظمت بسببهم على أهل الدين المصائب والطوامّ، فإنا للَّه، وإنا إليه راجعون، وهذه نفثات صدور، وإلى اللَّه عاقبة الأمور. انتهى

(4)

.

(1)

أخرجه النسائيّ في "الكبرى" بسند صحيح 6/ 413.

(2)

أخرجه مسلم في "صحيحه" رقم (2937) ترقيم الأستاذ محمد فؤاد رحمه الله.

(3)

راجع: "حاشية الخضريّ على شرح ابن عقيل على الخلاصة" 1/ 60 في "باب النكرة والمعرفة".

(4)

"المفهم" 7/ 374 - 375.

ص: 162

(وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْم رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا)؛ أي: بتلك الرؤيا؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ. (قَالَتْ: فَواللَّه مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ)؛ أي: ما فارق صلى الله عليه وسلم مكان جلوسه، ومصدره الريم بالتحتانية، بخلاف رام بمعنى طلب، فمصدره الروم، ويفترقان أيضًا في المضارع، يقال: رام يروم رومًا، ورام يريم رَيْمًا، قاله في "الفتح".

(وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ)؛ أي: من الذين كانوا حينئذ حضورًا، (حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أبي أسامة:"وأنزل اللَّه على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته"، (فَأَخَذَهُ) صلى الله عليه وسلم (مَا) موصول في محل رفع على أنه فاعل، (كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ) بضم الموحّدة، وفتح الراء، ثم مهملة، ثم مدّ: هي شِدّة الْحُمَّى، وقيل: شدّة الكرب، وقيل: شدّة الحرّ، ومنه بَرَحَ بي الْهَمُّ: إذا بلغ مني غايته، ووقع في رواية إسحاق بن راشد:"وهو العرق"، وبه جزم الداوديّ، وهو تفسير باللازم غالبًا؛ لأن الْبُرَحاء شدّة الكرب، ويكون عنده العرق غالبًا، وفي رواية ابن حاطب:"وشَخَص بصره إلى السقف"، وفي رواية عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن عائشة عند الحاكم:"فأتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي أخذه السبل"، وفي رواية ابن إسحاق:"فسُجّي بثوب، ووُضعت تحت رأسه وسادةٌ، من أدم".

وقولها: (عِنْدَ الْوَحْي) متعلّق بـ "أخذه"، (حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ)؛ أي: ليتصبّب، ويسيل (مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ) -بضم الجيم، وتخفيف الميم-: اللؤلؤ، وقيل: حَبّ يُعمل من الفضة؛ كاللؤلؤ، وقال الداوديّ: خَرَزٌ أبيض، والأول أَولى، فشَبّهت قطرات عَرَقه صلى الله عليه وسلم بالجمان؛ لمشابهتها في الصفاء، والحسن، وزاد ابن جريج في روايته:"قال أبو بكر: فجعلت انظر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أخشى أن ينزل من السماء ما لا مردّ له، وأنظر إلى وجه عائشة، فإذا هو منبق، فيُطمعني ذلك فيها"، وفي رواية ابن إسحاق:"فأما أنا فواللَّه ما فَزِعت، قد عرفت أني بريئة، وأن اللَّه غير ظالمي، وأما أبواي فما سُرِّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجنّ أنفسهما فَرَقًا من أن يأتي من اللَّه تحقيق ما يقول الناس"، ونحوه في رواية الواقديّ.

وقولها: (مِنَ الْعَرَقِ) بيان لـ "مثل"، والعَرَقُ مُحرّكة: رشْحُ جِلْدِ الحَيَوان،

ص: 163

وقِيلَ: هو ما جَرَى من أُصولِ الشَّعَرِ، من ماءِ الجلْدِ، اسم للجِنْس، لا يُجمَع، وهو في في الحَيوانِ أصْلٌ، ويُسْتعارُ لغَيْرِه، قال اللَّيثُ: لَمْ أسمَعْ للعَرَقِ جمْعًا، فإذ جُمِع كان قِياسُه على فَعَلٍ وأفْعادٍ، مثل جدَثٍ وأجْداثٍ، ذكره المرتضى

(1)

.

وقولها: (فِي الْيَوْمِ) متعلّق بـ "يتحدّر"، (الشَّاتِ) صفة لـ "اليوم"؛ أي: البارد، يقال: شتا اليومُ، فهو شاتٍ، من باب قال: إذا اشتدّ برده

(2)

. (مِنْ ثِقَلِ)؛ أي: شدّة، وقوّة (الْقَوْلِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ) كما أخبر اللَّه عز وجل بذلك حيث قال:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]. (قَالَتْ) عائشة: (فَلَمَّا سُرِّيَ) بضم السين المهملة، وتشديد الراء، مبنيًّا للمفعول، أي: كُشف (عَنْ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ما كان يجده من الشدّة، وقولها:(وَهُوَ يَضْحَكُ) جملة حاليّة من "رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وفي رواية هشام بن عروة:"فرُفع عنه، وإني لأتبيّن السُّرور في وجهه، يمسح جبينه"، وفي رواية ابن حاطب:"فوالذي أكرمه، وأنزل عليه الكتاب، ما زال يضحك حتى إني لأنظر إلى نواجذه سرورًا، ثم مسح وجهه"، (فَكَانَ) يَحْتَمِل أن تكون الفاء زائدة، و"كان" جواب "لما"، ويَحْتَمِل أن يكون الجواب محذوفًا، أي: سُرّي عنه، وهذا هو الذي في "صحيح البخاريّ"، ولفظه:"فلما سُرّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سُرّي عنه، وهو يضحك، فكان. . . إلخ".

وقولها: (أَوَّلَ كَلِمَةٍ) بنصب "أول" على أنه خبر "كان" مقدّمًا، واسمها المصدر المؤوّل بعده، ويجوز العكس، لكن الأول أَولى؛ لأن المصدر المؤوّل بمنزلة الضمير، فيكون أعرف، فهو أحقّ بكونه اسم "كان"، واللَّه تعالى أعلم.

وقولها: (تَكَلَّمَ بِهَا) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "كلمة"، (أَنْ قَالَ:"أَبْشِرِي يَا عَائِشَة، أمّا اللَّهُ) عز وجل (فَقَدْ بَرَّأَكِ")؛ أي: بما أنزل من القرآن، وفي رواية فليح:"أن قال لي: يا عائشة احمدي اللَّه، فقد برأك"، وعند الترمذيّ من هذا الوجه:"البشرى يا عائشة، فقد أنزل اللَّه براءتك". (فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: معناه ة قالت لها أمها: قومي إليه صلى الله عليه وسلم، فاحمديه، وقبّلي

(1)

"تاج العروس" ص 6473.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 305.

ص: 164

رأسه، واشكريه؛ لنعمة اللَّه تعالى التي بشّرك، فقالت عائشة رضي الله عنها ما قالت إدلالًا عليه، وعَتْبًا لكونهم شَكُّوا في حالها، مع عِلمهم بحسن طرائقها، وجميل أحوالها، وارتفاعها عن هذا الباطل الذي افتراه قوم ظالمون، ولا حجة له، ولا شبهة فيه، قالت: وإنما أحمد ربي عز وجل الذي أنزل براءتي، وأنعم عليّ بما لم أكن أتوقعه، كما قالت:"ولشأني كان أحقر في نفسي، من أن يتكلم اللَّه تعالى فِيّ بأمر يُتْلَى". انتهى

(1)

.

(فَقُلْتُ: واللَّه لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي) وفي رواية صالح: "فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: واللَّه لا أقوم إليه، ولا أحمده، ولا أحمد إلا اللَّه الذي أنزل براءتي"، وفي رواية الطبريّ من هذا الوجه:"أحمد اللَّه، لا إياكما"، وفي رواية ابن جريج:"فقلت: بحمد اللَّه، وذَمِّكما"، وفي رواية أبي أويس:"نحمد اللَّه، ولا نحمدكم"، وفي رواية أم رُومان، وكذا في حديث أبي هريرة:"فقالت: نحمد اللَّه، لا نحمدك"، ومثله في رواية عمر بن أبي سلمة، وكذا عند الواقديّ، وفي رواية ابن حاطب:"واللَّه لا نحمدك، ولا نحمد أصحابك"، وفي رواية مِقسم، والأسود، وكذا في حديث ابن عباس:"ولا نحمدك، ولا نحمد أصحابك"، وزاد في رواية الأسود، عن عائشة:"وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيدي، فانتزعت يدي منه، فنهرني أبو بكر".

وعُذرها في إطلاق ذلك ما ذَكَرته من الذي خامرها من الغضب، من كونهم لم يبادروا بتكذيب من قال فيها ما قال، مع تحققهم حُسْن طريقتها.

قال ابن الجوزيّ: إنما قالت ذلك إدلالًا، كما يُدِلُّ الحبيب على حبيبه، وقيل: أشارت إلى إفراد اللَّه تعالى بقولها: فهو الذي أنزل براءتي، فناسب إفراده بالحمد في الحال، ولا يلزم منه ترك الحمد بعد ذلك.

ويَحْتَمِل أن تكون مع ذلك تمسكت بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم لها: "احمدي اللَّه"، ففَهِمت منه أمرها بإفراد اللَّه تعالى بالحمد، فقالت ذلك، وما أضافته إليه من الألفاظ المذكورة، كان من باعث الغضب.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 112 - 113.

ص: 165

وروى الطبريّ، وأبو عوانة من طريق أبي حَصِين، عن مجاهد، قال:"قالت عائشة: لمّا نزل عذرها، فقبّل أبو بكر رأسها، فقلت: ألا عذرتني؟ فقال: أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقِلّني إذا قلت ما لا أعلم؟! ".

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل) قوله: ({إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ} [النور: 11]) مرفوع على أنه خبر "إن"، و ({مِنْكُمْ} [النور: 11]) صفة لعصبة، وقيل: خبر "إن" قوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} [النور: 11]، ويكون "عصبة" بدلًا من فاعل {جَاءُوا} ، قال ابن عطية: وهذا أنسق في المعني، وأكثر فائدة من أن يكون الخبر {عُصْبَةٌ} ، وجملة {لَا تَحْسَبُوهُ} ، وإن كانت طلبية، فجعْلها خبرًا يصِح بتقدير، كما في نظائر ذلك، و"الإفك": أسوأ الكذب، وأقبحه، وهو مأخوذ من أَفَك الشيء: إذا قلبه عن وجهه، فالإفك: هو الحديث المقلوب، وقيل: هو البهتان، وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية: ما وقع من الإفك على عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وإنما وصفه اللَّه بأنه إفك؛ لأن المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك.

قال الواحديّ: ومعنى القَلْب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك النفر: أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحقّ الثناء بما كانت عليه من الحصانة، وشرف النسب، والسبب، لا القذف، فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح، وكذب ظاهر.

والعصبة: هم الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا: عبد اللَّه بن أُبيّ رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومِسطح بن أُثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقيل: العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. انتهى

(1)

.

وقولها: (عَشْرَ آياتٍ) بدل من {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} ؛ لأنه مفعول به لـ "أنزل" محكيّ، ولفظ البخاريّ:"العشر الآياتِ كلّها"؛ أي: أنزل اللَّه عز وجل إلى آخر عشر آيات، وآخر العشرة قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

(1)

"فتح القدير" 5/ 193.

ص: 166

قال الحافظ رحمه الله: لكن وقع في رواية عطاء الخراسانيّ، عن الزهريّ:"فأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} إلى قوله: {أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، وعدد الآي إلى هذا الموضع ثلاث عشر آية، فلعل في قولها: "العشر الآيات" مجازًا بطريق إلغاء الكسر، وفي رواية الْحَكَم بن عُتيبة مرسلًا عند الطبريّ: "لَمّا خاض الناس في أمر عائشة. . . "، فذكر الحديث مختصرًا، وفي آخره: "فأنزل اللَّه تعالى خمس عشرة آية من سورة النور، حتى بلغ: الخبيثات للخبيثين"، وهذا فيه تجوّز، وعدّة الآي إلى هذا الموضع ست عشرة، وفي مرسل سعيد بن جبير، عند ابن أبي حاتم، والحاكم في "الإكليل": "فنزلت ثماني عشرة آية، متواليةً، كَذَّبت مَن قذف عائشة:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا} إلى قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26] "، وفيه ما فيه أيضًا، وتحرير العدّة سبع عشرة.

قال الزمخشريّ: لم يقع في القرآن من التغليظ في معصيةٍ مَا وقع في قصة الإفك بأوجز عبارة، وأشبعها؛ لاشتماله على الوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام القول في ذلك، واستشناعه، بطرُق مختلفة، وأساليب متقنة، كل واحد منها كافٍ في بابه، بل ما وقع منها من وعيد عبدة الأوثان، إلا بما هو دون ذلك، وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتطهير من هو منه بسبيل.

وعند أبي داود من طريق حميد الأعرج، عن الزهريّ، عن عروة، عن عائشة:"جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكشف الثوب عن وجهه، ثم قال: أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} ".

وفي رواية ابن إسحاق: "ثم خرج إلى الناس، فخطبهم، وتلا عليهم"، ويُجمع بأنه قرأ ذلك عند عائشة، ثم خرج، فقرأها على الناس

(1)

.

(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل هَؤُلَاءِ الآيَاتِ) وفي بعض النسخ: "هذه الآياتِ"، وقولها:(بِبَرَاءَتِي)؛ أي: بسبب براءتي، ووقع في بعض النسخ:"بَرَاءَتي" دون الباء السببيّة، فيكون منصوبًا على أنه مفعول من أجله؛ أي: أنزلها لأجل

(1)

"الفتح" 10/ 427 - 428.

ص: 167

براءتي، فهو مصدر مضاف إلى مفعوله، كما قال في "الخلاصة":

يُنْصَبُ مَفْعُولًا لَهُ الْمَصدَرُ إِنْ

أَبَانَ تَعْلِيلًا كَـ "جُدْ شُكْرًا، وَدِنْ"

(قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه، وقولها:(وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ، وَفَقْرِهِ) جملة معترضة بين القول، ومقوله، وقولها:"لقرابته" بيان لسبب إنفاقه عليه، وقد تقدم بيان قرابته قبلُ، وقولها:"وَفَقْرِهِ"؛ أي: ولأجل كونه فقيرًا، فهو علّة أخرى للإنفاق عليه.

وقال في "الفتح": يؤخذ من فعل أبي بكر رضي الله عنه هذا مشروعية ترك المؤاخذة بالذنب ما دام احتمال عدمه موجودًا؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يقطع نفقة مِسطح إلا بعد تحقّق ذنبه فيما وقع منه.

(واللَّه لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ)؛ أي: على مِسطح (شَيْئًا أَبَدًا)؛ أي: فيما يُستقبل من الزمان حتى أموت، (بَعْدَ) الأمر (الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ)؛ أي: عن عائشة، وفي رواية هشام بن عروة:"فحلف أبو بكر أن لا ينفع مِسطحًا بنافعة أبدًا". (فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَلَا يَأْتَلِ} [النور: 22]) قال أبو عبيدة: معناه: لا يفتعل من آليت؛ أي: أقسمت، وله معنى آخر من ألوت؛ أي: قَصّرت، ومنه:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]، وقال الفرّاء: الائتلاء الحلف، وقرأ أهل المدينة:"ولا يتألّ"، بتأخير الهمزة، وتشديد اللام، وهي خلاف رسم المصحف، وما نسبه إلى أهل المدينة غير معروف، وإنما نُسبت هذه القراءة للحسن البصريّ، وقد روى ابن أبي حاتم، من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:{وَلَا يَأْتَلِ} يقول: لا يُقسم، وهو يؤيد القراءة المذكورة، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "فتح القدير"

(2)

: قوله {وَلَا يَأْتَلِ} ؛ أي: يحلف، ووزنه: يَفْتَعِل، من الأَلِيّة، وهي اليمين، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةَ لِيَرُدَّنِي

إِلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَايِدُ

وقول الآخر [من الطويل]:

قَلِيلُ الأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ

وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ

(1)

"الفتح" 10/ 444.

(2)

"فتح القدير" 5/ 199.

ص: 168

يقال: ائتلى يأتلي: إذا حلف، ومنه قوله سبحانه وتعالى:{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، وقالت فرقة: هو من الموت في كذا: إذا قَصَّرت، ومنه: لم آل جهدًا؛ أي: لم أقصر، وكذا منه قوله: " {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} [آل عمران: 118]، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ

(1)

نَفْسِهِ

بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِي

والأوّل أَولى بدليل سبب النزول. انتهى.

({أُولُو الْفَضْلِ})؛ أي: الغنى والسَّعة في المال، وقال النسفيّ:{أُولُو الْفَضْلِ} في الدين ({مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ}) في الدنيا، وقال أبو السعود:{أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} في الدين، وكفى به دليلًا على فضل الصدّيق رضي الله عنه، {وَالسَّعَةِ} في المال. انتهى

(2)

. ({أَنْ يُؤْتُوا})؛ أي: على أن لا يؤتوا، قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف "لا"، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا

وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيكِ وَأَوْصَالِي

وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار "لا"، والمعنى: لا يحلفوا على أنَّ لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يُقَصِّروا في أن يحسنوا إليهم، وإن كانت بينهم شحناء، لذنب اقترفوه، وقرأ أبو حيوة:"أن تؤتوا" بتاء الخطاب على الالتفات.

{أُولِي الْقُرْبَى} ؛ أي: أصحاب القربى؛ أي: القرابة، وقوله:{وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} معطوفان على {أُولِي} ، والمعنى: أن يؤتوا الأقارب، والمساكين، والمهاجرين، فهذه الأوصاف الثلاثة لموصوف واحد، والتعبير بصيغة الجمع، وبالعطف؛ لتعدّد الأوصاف، وإن الموصوف بها واحدًا، وهو مِسطح

(3)

.

(إِلَى قَوْلِهِ) عز وجل: ({أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ} [النور: 22]) وتمام الآية: {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

(1)

"الْحُشاشة" بالضمّ: بقيّة الروح من المريض.

(2)

"حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 214.

(3)

"حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 214.

ص: 169

قال الشوكانيّ رحمه الله: ثم علّمهم سبحانه أدبًا آخر، فقال:{وَلْيَعْفُوا} [النور: 22] عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم، وجنايتهم التي اقترفوها، مِن عَفَا الرَّبْع؛ أي: درس، والمراد: محو الذنب حتى يعفو، كما يعفو أثر الربع، {وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] بالإغضاء عن الجاني، والإغماض عن جنايته، وقُرئ بالفرقية في الفعلين جميعًاء

ثم ذكر -ترغيبًا عظيمًا لمن عفا، وصفح-، فقال:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] بسبب عفوكم، وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} [النور: 22]؛ أي: كثير المغفرة والرحمة لعباده، مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو، والصفح عن المسيئين إليهم. انتهى

(1)

.

وقال سليمان الجمل: قوله: {وَلْيَعْفُوا} ؛ أي: أولو الفضل عن الخائضين في الإفك، {وَلْيَصْفَحُوا}؛ أي: ليُعرضوا عن لومهم، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جُرمه، وقيل: العفو بالفعل، والصفح بالقلب. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله في "تفسيره": قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} تمثيل، وحجة؛ أي: كما تحبون عفو اللَّه عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم، ويُنظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"من لا يَرْحَم لا يُرْحَم"

(3)

. انتهى.

قال الإمام مسلم رحمه الله: (قَالَ حِبَّانُ) بكسر الحاء المهملة، وتشديد الموحّدة (ابنُ مُوسَى) شيخه في هذا الحديث، فهو موصول، وليس معلّقًا. (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ) الآية؛ يعني: قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} ، (أَرْجَى آيةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) عز وجل حيث بشّرت بغفران ذنوب من يغفر، ويصفح عن غيره، قال في "الفتح": وإلى هذا أشار القائل:

فَإِنَّ قَدْرَ الذَّنْبِ مِنْ مِسْطَحِ

يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفْقِهِ

(1)

"فتح القدير" 5/ 199.

(2)

"حاشية الجمل على الجلالين" 3/ 215.

(3)

متّفقٌ عليه.

ص: 170

وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الَّذِي قَدْ جَرَى

وُعُوتِبَ الصِّدِّيقُ فِي حَقِّهِ

[تنبيه]: اختُلف في أرجى آية في كتاب اللَّه تعالى:

قال أبو عبد اللَّه القرطبيّ المفسِّر رحمه الله: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب اللَّه تعالى، من حيث لُطف اللَّه بالقذَفة العصاة بهذا اللفظ. وقيل: أرجى آية في كتاب اللَّه عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)} [الأحزاب: 47]، وقد قال تعالى في آية أخرى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]، فشَرَح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشَّر به المؤمنين في تلك.

قال: ومن آيات الرجاء قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، وقوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19].

وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب اللَّه عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5]، وذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصدّيق رضي الله عنه لما سمع الآية: (واللَّه إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّه لِي) وفي رواية هشام بن عروة: "بلي، واللَّه يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا"، (فَرَجَعَ)؛ أي: ردّ (إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ)، وفي رواية فليح:"فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه"، وفي رواية هشام بن عروة:"وعاد له بما كان يصنع"، ووقع عند الطبرانيّ:"أنه صار يعطيه ضعف ما كان يعطيه قبل ذلك"، (وَقَالَ: لَا أَنْزِعُهَا)؛ أي: لا أرفعها.، وأقطعها (مِنْهُ أَبَدًا)؛ أي: ما دُمت حيًّا.

(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَل)، ولفظ البخاريّ:"يسأل"، (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (عَنْ أَمْرِي)؛ أي: عن شأني، وحالي بالنسبة لِمَا رُميت به، (مَما) استفهاميّة، أي: أيّ شيء (عَلِمْتِ) من شأن عائشة رضي الله عنها، (أَوْ) للشكّ من الراوي، أي: أو قال: (مَا رَأَيْتِ)؛ أي: أيّ شيء أبصرت من عائشة فيما تُرمى به، (فَقَالَتْ) زينب رضي الله عنه: (يَا رَسُولَ اللَّهِ

(1)

"تفسير القرطبيّ" 12/ 208 - 209.

ص: 171

أَحْمِي) من الحماية؛ أي: أحفظ (سَمْعِي وَبَصَرِي) فلا أنسب إليهما ما لم أسمع، وأبصر.

وقال القرطبيّ: قول زينب رضي الله عنها: "أحمي سمعي، وبصري"؛ أي: أمنعهما من عقوبة اللَّه تعالى بالكفّ عن قول: ست، أو رأيت، ولم أسمع، ولم أر، وما علمت إلا خيرًا، فعَصمها اللَّه من الهلاك بما رزقها من التثبّت، والدين، والورع، مع أنها كانت تناصبها، وتنافسها في المرتبة، فكان كما قال من لا يجوز عليه الخطأ ولا الكذب:{. . . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]

(1)

.

(واللَّه مَا عَلِمْتُ) عليها (إِلَّا خَيْرًا)؛ أي: عفّة، وحصانة، وتقى. (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها:(وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي)؛ أي: تعاليني من السموّ، وهو العلوّ، والارتفاع؛ أي: تطلب من العلوّ، والرفعة، والحظوة عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ما أطلب، أو تعتقد أن الذي لها عنده مثل الذي لي عنده، قال الحافظ: وذَهِل بعض الشراح، فقال: إنه من سَوْم الخسف، وهو حَمْل الإنسان على ما يكرهه، والمعنى: تغايظني، وهذا لا يصحّ، فإنه لا يقال في مثله: سام، ولكن: ساوم. انتهى.

(مِنْ) بين (أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَصَمَهَا)؛ أي: حفظها، (ومنعها اللَّهُ) عز وجل (بِالْوَرَعِ)؛ أي: بالمحافظة على دينها، ومجانبة ما تخشَى سوء عاقبته، (وَطَفِقَتْ) بكسر الفاء، وتفتح؛ أي: شرعت، وأخذت (أُخْتُهَا حَمْنَةُ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم، (بِنْتُ جَحْشٍ) وكانت تحت طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه، (تُحَارِبُ لَهَا)؛ أي: تجادل لها، وتتعصّب، وتحكي ما قال أهل الإفك؛ لتنخفض منزلة عائشة، وتعلو مرتبة أختها زينب، (فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ)؛ أي: حدّثت، فيمن حدّث، أو أثمت مع من أثم.

(قَالَ) ابن شهاب (الزُّهْرِيُّ: فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ) وفي رواية: "فهذا الذي بلغنا من حديث هؤلاء الرهط"، يعني: مشايخه الأربعة: سعيد بن المسيِّب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقّاص، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود.

(1)

"المفهم" 7/ 377.

ص: 172

زاد صالح بن كيسان عن ابن شهاب، عن عروة:"قالت عائشة: واللَّه إن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان اللَّه، والذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط" -وقد تقدم شرحه قبلُ- قالت عائشة: "ثم قُتل بعد ذلك في سبيل اللَّه"، وتقدم الخلاف في سنة قتله، وفي الغَزاة التي استُشهد فيها في أوائل الكلام على هذا الحديث.

ووقع في آخر رواية هشام بن عروة: "وكان الذي تكلم به مسطح، وحسان بن ثابت، والمنافق عبد اللَّه بن أُبيّ، وهو الذي يستوشيه، وهو الذي تولى كبره هو وحَمنةُ".

وعند الطبرانيّ من هذا الوجه: "وكان الذي تولى كبره عبد اللَّه بن أُبيّ، ومِسطح، وحمنة، وحسان، وكان كِبْر ذلك من قِبَل عبد اللَّه بن أبي".

وعند أصحاب "السنن" من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم، عن عمرة، عن عائشة:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام حدّ القذف على الذين تكلموا بالإفك"، لكن لم يذكر فيهم عبد اللَّه بن أُبيّ، وكذا في حديث أبي هريرة، عند البزار، وبنى على ذلك صاحب "الهدي"

(1)

، فأبدى الحكمة في ترك الحدّ على عبد اللَّه بن أُبيّ، وفاته أنه ورد أنه ذُكر أيضًا فيمن أقيم عليه الحدّ.

ووقع ذلك في رواية أبي أويس، وعن حسن بن زيد، عن عبد اللَّه بن أبي بكر، أخرجه الحاكم في "الإكليل"، وفيه ردّ على الماورديّ حيث صحح أنه لم يحدّهم مستندًا إلى أن الحدّ لا يثبت إلا ببيّنة، أو إقرار، ثم قال: وقيل: إنه حدَّهم، قال الحافظ: وما ضعّفه هو الصحيح المعتَمد. انتهى.

وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ) بيّن به الاختلاف بين يونس بن يزيد، وبين معمر بن راشد الراويين عن الزهريّ في هذا اللفظ، فرواه يونس بلفظ:"احتملته الحميّة"؛ أي: حملته الأَنَفة على أن يردّ على سعد بن معاذ نُصرته النبيّ صلى الله عليه وسلم بقتل الخزرجيّ، ورواه معمر بلفظ:"اجتهلته الحميّة"؛ أي: حملته على الجهل، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

يعني: ابن القيّم.

ص: 173

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 6994 و 6995 و 6996](2770)، و (البخاريّ) في "الشهادات"(2637 و 2661) و"الجهاد"(2879) و"المغازي"(4025 و 4141) و"التفسير"(4690 و 4750) و"الأيمان والنذور"(6662) و"الاعتصام"(7369) و"التوحيد"(7545)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4635)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 297 و 298 و 6/ 417)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 194 - 197)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(9748)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(2/ 521 و 522)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 134 و 135 و 139 و 140 و 141 و 142 و 143 و 144 و 145 و 146 و 147 و 148)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(4212 و 7099)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4927 و 4933 و 4935)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 302)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه، وهذا وَإن كان فِعل الزهريّ وحده، فقد أجمع المسلمون على قبوله منه، والاحتجاج به.

2 -

(ومنها): مشروعية القرعة حتى بين النساء، وفي العتق، وغيره، مما ذكرناه في أول الحديث، مع خلاف العلماء.

3 -

(ومنها): وجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهنّ.

4 -

(ومنها): أنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات، قال النوويّ: وهذا مجمَع عليه إذا كان السفر طويلًا، وحُكم القصير حكم الطويل علي المذهب الصحيح، وخالف فيه بعض أصحابنا.

5 -

(ومنها): جواز السفر بالنساء حتى في الغزو، وجواز ركوب النساء في الهوادج، وجواز خدمة الرجال لهنّ في تلك الأسفار.

6 -

(ومنها): جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر.

7 -

(ومنها): جواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل، ولو كان فيه مدح

ص: 174

ناس، وذم ناس، إذا تضمن ذلك إزالة توهم النقص عن الحاكي، إذا كان بريئًا عند قصد نصح من يبلغه ذلك؛ لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق.

8 -

(ومنها): أن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أَولى من تركه يقع في الإثم، وتحصيل الأجر للموقوع فيه.

9 -

(ومنها): استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام.

10 -

(ومنها): أن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة.

11 -

(ومنها): جواز ركوب المرأة الهودج على ظهر البعير، ولو كان ذلك مما يشقّ عليه، حيث يكون مطيقًا لذلك.

12 -

(ومنها): جواز خدمة الأجانب للمرأة من وراء الحجاب.

13 -

(ومنها): جواز تستّر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن.

14 -

(ومنها): جواز توجه المرأة لقضاء حاجتها وحدها، وبغير إذن خاصّ من زوجها، بل اعتمادًا على الإذن العامّ المستند إلى العرف العامّ.

15 -

(ومنها): صيانة المال، ولو كان قليلًا؛ للنهي عن إضاعة المال، فإن عِقد عائشة لم يكن من ذهب، ولا جوهر.

16 -

(ومنها): بيان شؤم الحرص على المال؛ لأنها لو لم تُطِل في التفتيش لرجعت بسرعة، فلما زاد على قدر الحاجة أَثَّر ما جري، وقريب منه قصة المتخاصمين، حيث رُفع عِلم ليلة القدر بسببهما، فإنهما لم يقتصرا على ما لا بدّ منه، بل زادا في الخصام، حتى ارتفعت أصواتهما، فأثَّر ذلك بالرفع المذكور.

17 -

(ومنها): توقف رحيل العسكر على إذن الأمير.

18 -

(ومنها): استعمال بعض الجيش سَاقَةً، يكون أمينًا، ليحمل الضعيف، ويحفظ ما يسقط، وغير ذلك من المصالح.

19 -

(ومنها): مشروعيّة الاسترجاع عند المصيبة.

20 -

(ومنها): تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي.

21 -

(ومنها): إطلاق الظنّ على العلم، كذا قيل، وفيه نظر، تقدّم عند شرح قولها:"وظننت أنهم سيفقدونني".

ص: 175

22 -

(ومنها): إغاثة الملهوف، وعون المنقطع، وإنقاذ الضائع، وإكرام ذوي القدر، وإيثارهم بالركوب، وتجشم المشقة لأجل ذلك.

23 -

(ومنها): حسن الأدب مع الأجانب، خصوصًا النساء، لا سيما في الخلوة.

24 -

(ومنها): المشي أمام المرأة؛ ليستقر خاطرها، وتأمَن مما يَتوهم من نظره، ولما عساه ينكشف منها في حركة المشي.

25 -

(ومنها): ملاطفة الزوجة، وحُسن معاشرتها، والتقصير من ذلك عند إشاعة ما يقتضي النقص، وإن لم يَتحقق، وفائدة ذلك أن تتفطن لتغيير الحال، فتعتذر، أو تعترف.

26 -

(ومنها): أنه لا ينبغي لأهل المريض أن يُعلموه بما يُؤدِّيَ باطنه؛ لئلا يزيد ذلك في مرضه.

27 -

(ومنها): مشروعيّة السؤال عن المريض.

28 -

(ومنها): أن فيه إشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة، فإذا كان السبب محققًا، فيُترك أصلًا، كما في حال كعب وصاحبيه رضي الله عنهم، وإن كان مظنونًا، فيخفف، وإن كان مشكوكًا فيه، أو محتملًا كما في حال عائشة رضي الله عنها؛ فيَحْسن التقليل منه، لا للعمل بما قيل، بل لئلا يظَنّ بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه؛ لأن ذلك من خوارم المروءة.

29 -

(ومنها): أن المرأة إذا خرجت لحاجة تستصحب من يؤنسها، أو يخدمها، ممن يُؤمَن عليها.

30 -

(ومنها): ذبّ المسلم عن المسلم خصوصًا من كان من أهل الفضل، وردع من يؤذيهم، ولو كان منهم بسبيل.

31 -

(ومنها): بيان مزيد فضيلة أهل بدر رضي الله عنهم.

32 -

(ومنها): إطلاق السبّ على لفظ الدعاء بالسوء على الشخص.

33 -

(ومنها): مشروعيّة البحث عن الأمر القبيح، إذا أُشيع، وتعرُّف صحته، وفساده بالتنقيب على من قيل فيه، هل وقع منه قبل ذلك ما يشبهه، أو يقرب منه؟ واستصحاب حال من اتُّهِم بسوء، إذا كان قبل ذلك معروفًا بالخير، إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك.

ص: 176

34 -

(ومنها): بيان فضيلةٍ قويّة لأم مسطح؛ لأنها لم تُحابِ ولدها في وقوعه في حقّ عائشة رضي الله عنها، بل تعمدت سبّه على ذلك.

35 -

(ومنها): أن فيه تقويةً لأحد الاحتمالين في قوله صلى الله عليه وسلم عن أهل بدر: "إن اللَّه قال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم"، وأن الراجح أن المراد بذلك أن الذنوب تقع منهم، لكنها مقرونة بالمغفرة؛ تفضيلًا لهم على غيرهم، بسبب ذلك المشهد العظيم، ومرجوحية القول الآخر: أن المراد أن اللَّه تعالى عصمهم، فلا يقع منهم ذنب، نبَّه على ذلك الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -نفع اللَّه به-.

36 -

(ومنها): مشروعية التسبيح عند سماع ما يَعتقد السامع أنه كذب، وتوجيهه هنا أنه سبحانه وتعالى يُنَزَّه أن يحصل لقرابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تدنيس، فيُشرع شكره بالتنزيه في مثل هذا، نبَّه عليه أبو بكر ابن العربيّ.

37 -

(ومنها): أن فيه توقفَ خروج المرأة من بيتها على إذن زوجها، ولو كانت إلى بيت أبويها.

38 -

(ومنها): أن فيه البحثَ عن الأمر المقول ممن يُدِلّ عليه المقول فيه.

39 -

(ومنها): التوقف في خبر الواحد، ولو كان صادقًا، وطلب الارتقاء من مرتبة الظنّ إلى مرتبة اليقين.

40 -

(ومنها): أن خبر الواحد إذا جاء شيئًا بعد شيء أفاد القطع، لقول عائشة رضي الله عنها: لأستيقن الخبر مِن قِبَلهما، وأن ذلك لا يتوقف على عدد معين.

41 -

(ومنها): استشارة المرء أهل بطانته، ممن يلوذ به بقرابة وغيرها، وتخصيص من جُرّبت صحة رأيه منهم بذلك، ولو كان غيره أقرب.

42 -

(ومنها): البحث عن حال من اتُّهِم بشيء، وحكايةُ ذلك؛ للكشف عن أمره، ولا يُعَدّ ذلك غِيبة.

43 -

(ومنها): استعمال: "لا نعلم إلا خيرًا" في التزكية، وأن ذلك كافٍ في حقّ من سبقت عدالته، ممن يَطَّلع على خفيّ أمره.

44 -

(ومنها): التثبت في الشهادة، وفطنة الإمام عند الحادث المهمّ، والاستنصار بالأَخِصّاء على الأجانب.

ص: 177

45 -

(ومنها): توطئة العذر لمن يُراد إيقاع العقاب به، أو العتاب له.

46 -

(ومنها): استشارة الأعلى لمن هو دونه.

47 -

(ومنها): استخدام من ليس في الرقّ.

48 -

(ومنها): أن من استُفْسِر عن حال شخص، فأراد بيان ما فيه من عيب، فليقدّم ذِكر عذره في ذلك، إن كان يعلمه، كما قالت بريرة في عائشة بحيث عابتها بالنوم عن العجين، فقدّمت قبل ذلك أنها جارية حديثة السن.

49 -

(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه، إلا بعد نزول الوحي؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي، نبَّه عليه الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة -نفع اللَّه به-.

50 -

(ومنها): أن الحميّة للَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تُذَمّ.

51 -

(ومنها): أن فيه فضائل جمّة لعائشة، ولأبويها، ولصفوان، ولعليّ بن أبي طالب، وأسامة، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير رضي الله عنهم أجمعين.

52 -

(ومنها): أن التعصب لأهل الباطل يُخرج عن اسم الصلاح.

53 -

(ومنها): جواز سبّ من يتعرض للباطل، ونسبته إلى ما يسوءه، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة فيه، لكن إذا وقع منه ما يُشبه ذلك جاز إطلاق ذلك عليه، تغليظًا له.

54 -

(ومنها): إطلاق الكذب على الخطأ.

55 -

(ومنها): جواز القسم بلفظ: "لعمر اللَّه".

56 -

(ومنها): أن فيه الندبَ إلى قطع الخصومة، وتسكين ثائرة الفتنة، وسدّ ذريعة ذلك.

57 -

(ومنها): احتمال أخفّ الضررين بزوال أغلظهما.

58 -

(ومنها): فضل احتمال الأذى.

59 -

(ومنها): مباعدة من خالف الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان قريبًا حميمًا.

60 -

(ومنها): بيان أن من آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول، أو فعل يُقتل؛ لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك، ولم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه.

61 -

(ومنها): مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع، والبكاء، والحزن.

ص: 178

62 -

(ومنها): أن فيه تثبتَ أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأمور؛ لأنه لم يُنقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرًا كلمة، فما فوقها، إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال: واللَّه ما قيل لنا هذا في الجاهلية، فكيف بعد أن أعزّنا اللَّه بالإسلام، وقع ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند الطبرانيّ.

63 -

(ومنها): أن فيه ابتداءَ الكلام في الأمر المهمّ بالتشهد، والحمد، والثناء، وقولِ:"أما بعدُ".

64 -

(ومنها): توقيف من نُقِل عنه ذنب على ما قيل فيه بعد البحث عنه.

65 -

(ومنها): أن قول: "كذا وكذا" يُكنى بها عن الأحوال، كما يكنى بها عن الأعداد، ولا يختصّ بالأعداد.

66 -

(ومنها): مشروعية التوبة، وأنها تُقبل من المعترف المقلع المخلص.

67 -

(ومنها): أن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها.

68 -

(ومنها): أن الاعتراف بما لم يقع لا يجوز، ولو عُرف أنه يصدَّق في ذلك، ولا يؤاخذ على ما يترتب على اعترافه، بل عليه أن يقول الحقّ، أو يسكت.

69 -

(ومنها): أن الصبر تُحمد عاقبته، ويُغبط صاحبه.

70 -

(ومنها): أن فيه تقديمَ الكبير في الكلام.

71 -

(ومنها): توقف من اشتبه عليه الأمر في الكلام.

72 -

(ومنها): أن فيه تبشيرَ من تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة.

73 -

(ومنها): مشروعيّة الضحك، والفرح، والاستبشار عند تجدد النعمة، واندفاع النقمة.

74 -

(ومنها): معذرة من انزعج عند وقوع الشدّة؛ لصغر سنّ ونحوه.

75 -

(ومنها): إدلال المرأة على زوجها، وأبويها.

76 -

(ومنها): تدريج من وقع في مصيبة، فزالت عنه؛ لئلا يَهْجُم على قلبه الفرح من أول وهلة، فيهلكه، يؤخذ ذلك من ابتداء النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها بالضحك، ثم تبشيرها، ثم إعلامها ببراءتها مجملة،

ص: 179

ثم تلاوته الآيات على وجهها، وقد نصّ الحكماء على أنَّ من اشتدّ عليه العطش لا يُمَكَّن من المبالغة في الريّ في الماء، لئلا يفضي به ذلك إلى الهلكة، بل يُجَرَّع قليلًا قليلًا.

77 -

(ومنها): أن الشدّة إذا اشتدت أعقبها الفرج.

78 -

(ومنها): فضل من يُفَوِّض الأمر لربه، وأن من قَوِيَ على ذلك خفّ عنه الهمّ والغمّ، كما وقع في حالتي عائشة رضي الله عنها قبل استفسارها عن حالها، وبعد جوابها بقولها:"واللَّه المستعان".

79 -

(ومنها): أن فيه الحثّ على الإنفاق في سبيل الخير خصوصًا في صلة الرحم.

80 -

(ومنها): وقوع المغفرة لمن أحسن إلى من أساء إليه، أو صفح عنه.

81 -

(ومنها): أن من حلف أن لا يفعل شيئًا من الخير، استُحِبّ له الحنث.

82 -

(ومنها): جواز الاستشهاد بآي القرآن في النوازله.

83 -

(ومنها): استحباب التأسّي بما وقع للأكابر، من الأنبياء عليهم السلام، وغيرهم.

84 -

(ومنها): مشروعيّة التسبيح عند التعجب، واستعظام الأمر.

85 -

(ومنها): ذمّ الغِيبة، وذم سماعها، وزجر من يتعاطاها، لا سيما إن تضمنت تهمة المؤمن بما لم يقع منه.

86 -

(ومنها): ذمّ إشاعة الفاحشة.

87 -

(ومنها): تحريم الشكّ في براءة عائشة رضي الله عنها.

88 -

(ومنها): جواز تأخير الحدّ عمن يُخشَى من إيقاعه به الفتنة، نبَّه على ذلك ابن بطال، مستندًا إلى أن عبد اللَّه بن أُبَيّ كان ممن قذف عائشة رضي الله عنها، ولم يقع في الحديث أنه ممن حُدّ.

وتعقبه القاضي عياض بأنه لم يثبت أنه قَذَف، بل الذي ثبت أنه كان يستخرجه، ويستوشيه.

وتعقّبه الحافظ بأنه قد ورد أنه قذف صريحًا، ووقع ذلك في مرسل

ص: 180

سعيد بن جبير، عند ابن أبي حاتم، وغيره، وفي مرسل مقاتل بن حيان، عند الحاكم في "الإكليل"، بلفظ:"فرماها عبد اللَّه بن أُبَيّ"، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عند الطبرانيّ، بلفظٍ أشنع من ذلك، وورد أيضًا أنه ممن جُلد الحدّ، وقع ذلك في رواية أبي أويس، عن الحسن بن زيد، وعبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما، مرسلًا، أخرجه الحاكم في "الإكليل"، فإن ثبتا سقط السؤال، وإن لم يثبتا فالقول ما قال عياض، فإنه لم يثبت خبر بأنه قذف صريحًا، ثم لم يُحَدّ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: من تأمّل سياق ما في "الصحيحين" من قصّة عائشة رضي الله عنها لا يكاد يرتاب في كون عبد اللَّه بن أُبيّ ممن صرّح بقذفها رضي الله عنها، فتأمل القصّة حقّ التأمل يظهر لك صِدق ما قلتُه، فتبصّر بالإنصاف، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

وقد حَكَى الماورديّ إنكار وقوع الحدّ بالذين قذفوا عائشة رضي الله عنها أصلًا كما تقدم، واعتل قائله بأن حدّ القذف لا يجب إلا بقيام بينة، أو إقرار، وزاد غيره: أو بطلب المقذوف، قال: ولم ينقل ذلك، قال الحافظ: كذا قال، وفيه نظر.

89 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به أبو عليّ الكرابيسيّ صاحب الشافعيّ في "كتاب القضاء" على منع الحكم حالة الغضب؛ لِمَا بدا من سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة من قول بعضهم لبعض حالة الغضب، حتى كادوا يقتتلون، قال: فإن الغضب يُخرج الحليم المتقي إلى ما لا يليق به، فقد أخرج الغضب قومًا من خيار هذه الأمة بحضرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ما لا يَشُكّ أحد من الصحابة أنها منهم زلة، إلى آخر كلامه في ذلك، قال الحافظ: وهذه مسألة نقل بعض المتأخرين فيها رواية عن أحمد، ولم تثبت.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى حُسن استنباط عدم المؤاخذة بما يصدر في حالة الغضب، فإن القصّة واضحة في ذلك، وأما الحكم في حالة الغضب فبعيد عنها، لكن ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عنه، فقد أخرج أصحاب "السنن" عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي الْحَكَم بين اثنين، وهو غضبان"، وهو حديث صحيح.

ص: 181

90 -

(ومنها): أنه يؤخذ من سياق عائشة رضي الله عنها جميعَ قصّتها المشتملة على براءتها بيانُ ما أُجْمِل في الكتاب والسُّنَّة لسياق أسباب ذلك، وتسمية من يُعرف من أصحاب القصص لِمَا في ضمن ذلك من الفوائد الأحكامية، والآدابية، وغير ذلك، وبذلك يُعرف قصور من قال: براءة عائشة رضي الله عنها ثابتة بصريح القرآن، فأيّ فائدة لسياق قصتها؟، ذكر هذه الفوائد كلّها في "الفتح"

(1)

، وباللَّه تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6995]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كيْسَانَ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، بِإِسْنَادِهِمَا، وَفِي حَدِيثِ فُلَيْحِ: اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، كَمَا قَالَ مَعْمَرٌ، وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، كَقَوْلِ يُونُسَ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبَّ عِنْدَهَا حَسَّانُ، وَتَقُولُ: فَإِنَّهُ قَالَ:

فَإِنَّ أَبي وَوَالِدَهُ

(2)

وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

وَزَادَ أَيْضًا: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: واللَّه إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ

(3)

أُنْثَى قَطُّ، قَالَتْ: ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِي حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مُوعِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: مُوغِرِينَ، قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ: مَا قَوْلُهُ: مُوغِرِينَ؟ قَالَ: الْوَغْرَةُ: شِدَّةُ الْحرِّ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزَّهْرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يتكلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

(1)

"الفتح" 10/ 430 - 435، "كتاب التفسير" رقم (4750).

(2)

وفي نسخة: "ووالدتي".

(3)

وفي نسخة: "من كنف".

ص: 182

2 -

(فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بن أبي المغيرة الْخُزاعيّ، أو الأسلميّ، أبو يحيى المدنيّ، ويقال: فليح لقبٌ، واسمه عبد الملك، صدوقٌ كثير الخطأ [7](ت 168)(ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 575.

3 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، تقدّم قبل بابين.

4 -

(صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ) أبو محمد الغفاريّ المدنيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية لفُليح، وصالح بن كيسان.

وقوله: (فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ) وفي نسخة: "ووالدتي"، وتقدّم شرح هذا البيت مع أبيات في مناقب حسّان رضي الله عنه.

وقوله: (وَزَادَ أَيْضًا)؛ أي: زاد صالح بن كيسان.

وقولها: (إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ إلخ)؛ تعني: صفوان بن المعطَّل.

وقولها: (مُوعِرِينَ. . . إلخ) بالعين المهملة بدل الغين المعجمة، قال الأبيّ؛ قال ابن سرّاج: ولا وجه له، ووقع عند القرطبيّ بلفظ:"موعزين"، قال الأبيّ: ولا وجه له أيضًا

(1)

، لكن قال القرطبيّ: يمكن أن يقال فيه: هو من وعزت إليه، أي: تقدّمت، قال: والرواية الأُولى أصحّ، وأَولى. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) نحر كل شيء أوله؛ أي: في أول وقت شدّة الحرّ.

[تنبيه]: أما رواية فُليح بن سليمان، عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2518)

- حدّثنا أبو الربيع سليمان بن داود، وأفهمني بعضه أحمد بن يونس، حدّثنا فُليح بن سليمان، عن ابن شهاب الزهريّ، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقّاص الليثيّ، وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة،

(1)

"شرح الأبيّ" 7/ 177.

(2)

"المفهم" 7/ 368.

ص: 183

عن عائشة لزوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فبرّأها اللَّه منه، قال الزهريّ: وكلهم حدّثني طائفة من حديثها، وبعضهم أوعى من بعض، وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدِّق بعضًا، زعموا أن عائشة قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غَزاة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت معه بعدما أُنزل الحجاب، فأنا أُحمل في هودج، وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقَفَل، ودنونا من المدينة آذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين أَذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى الرَّحْل، فلمست صدري، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْع أظفار، قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، فأقبل الذين يَرْحَلون لي، فاحتملوا هودجي، فرَحَلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خِفافًا، لم يَثقُلن، ولم يغشهنّ اللحم، وإنما يأكلن الْعُلْقة من الطعام، فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثِقَل الهودج، فاحتملوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل، وساروا، فوجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش، فجئت منزلهم، وليس فيه أحد، فأَمَمْتُ منزلي الذي كنت به، فظننت أنهم سيفقدونني، فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي، فنِمْتُ، وكان صَفْوان بن الْمُعَطَّل السُّلَميّ، ثم الذّكْوانيّ من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه، حين أناخ راحلته، فوَطِئ يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُعَرِّسين، في نَحْر الظهيرة، فهلك من هلك.

وكان الذي تولى الإفك عبد اللَّه بن أُبَيّ ابن سَلُولَ، فقدمنا المدينة، فاشتكيت بها شهرًا، يُفِيضون من قول أصحاب الإفك، ويُريبني في وجعي أني لا أرى من النبيّ صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أَمْرَض إنما يدخل، فيسلِّم، ثم يقول:"كيف تيكم؟ "، لا أشعر بشيء من ذلك، حتى نَقِهت، فخرجت أنا وأم مِسطح قِبَل المناصع، متبرَّزِنا، لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل،

ص: 184

وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمْرنا أمْر العرب الأُوَل في البريّة، أو في التنزه، فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رُهْم، نمشي، فعثرت في مِرطها، فقالت: تَعِس مِسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شهد بدرًا؟ فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلّم، فقال:"كيف تيكم؟ "، فقلت: ائذن لي إلى أبويّ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر مِن قِبَلهما، فأذن لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتيت أبويّ، فقلت لأمي: ما يتحدث به الناس؟ فقالت: يا بنية هَوِّني على نفسك الشأن، فواللَّه لقلّما كانت امرأة قط وضيئةٌ عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان اللَّه، ولقد يتحدث الناس بهذا؟ قالت: فبتّ الليلة، حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحيُ، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الودّ لهم، فقال أسامة: أهلُك يا رسول اللَّه، ولا نعلم واللَّه إلا خيرًا، وأما علي بن أبي طالب، فقال: يا رسول اللَّه لم يضيّق اللَّه عليك، والنساء سواها كثير، وسَلِ الجارية تصدقك، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال:"يا بريرة هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟ " فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرًا أغمصه عليها، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ، تنام عن العجين، فتأتي الداجن، فتأكله.

فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد اللَّه بن أُبَيّ ابن سلولَ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من يَعذِرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فواللَّه ما علمت على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول اللَّه أنا واللَّه أعذِرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا، ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالِحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال: كذبت، لعمر اللَّه لا تقتله، ولا تقدر على ذلك، فقام أُسيد بن الحضير، فقال: كذبت لعمر اللَّه، واللَّه لنقتلنّه، فإنك منافق، تجادل عن المنافقين، فثار الحيان: الأوس

ص: 185

والخزرج، حتى هَمُّوا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على المنبر، فنزل، فخفّضهم، حتى سكتوا، وسكت.

وبَكَيت يومي، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح عندي أبواي، قد بكيت ليلتين، ويومًا، حتى أظنّ أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي، وأنا أبكي، إذ استأذنت امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن كذلك، إذ دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجلس، ولم يجلس عندي من يوم قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يوحى إليه في شأني شيء، قالت: فتشهد، ثم قال:"يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بشيء، فاستغفري اللَّه، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب تاب اللَّه عليه"، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقالته، قَلَص دمعي، حتى ما أُحسّ منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قالت: وأنا جارية حديثة السنّ، لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلت: إني واللَّه لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس، ووَقَر في أنفسكم، وصدقتم به، ولئن قلت لكم: إني بريئة، واللَّه يعلم أني لبريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، واللَّه يعلم أني بريئة، لتصدقُنِّي، واللَّه ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف، إذ قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحولت على فراشي، وأنا أرجو أن يبرئني اللَّه، ولكن واللَّه ما ظننت أن يُنزل في شأني وحيًا، ولأنا أحقر في نفسي من أن يُتكلم بالقرآن في أمري، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا، يبرئني اللَّه، فواللَّه ما رام مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من الْبُرَحاء، حتى إنه ليتحدّر منه مثلُ الْجُمَان، من العرق، في يوم شاتٍ، فلما سُرِّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها، أن قال لي:"يا عائشة احمدي اللَّه، فقد برأك اللَّه"، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا، واللَّه لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا اللَّه، فأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ

ص: 186

مِنْكُمْ} الآيات [النور: 11]، فلما أنزل اللَّه هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه: واللَّه لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشة، فأنزل اللَّه تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} -إلى قوله-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فقال أبو بكر: بلى واللَّه إني لأحب أن يغفر اللَّه لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال:"يا زينب ما علمت؟، ما رأيت؟ " فقالت: يا رسول اللَّه أحمي سمعي، وبصري، واللَّه ما علمت عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تساميني، فعصمها اللَّه بالورع. انتهى

(1)

.

وأما رواية صالح بن كيسان عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله أيضًا في "صحيحه"، فقال:

(3910)

- حدّثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدّثني عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيّب، وعلقمة بن وقاص، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وكلّهم حدّثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وأثبت له اقتصاصًا، وقد وعيت عن كل رجل منهم الحديث الذي حدّثني عن عائشة، وبعض حديثهم يصدّق بعضًا، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض، قالوا: قالت عائشة: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعدما أُنزل الحجاب، فكنت أُحمل في هودجي، وأُنزل فيه، فَسِرْنا، حتى إذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت، حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني، أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري، فإذا عِقد لي من جَزْع ظَفَارِ، قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي،

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 943 - 946.

ص: 187

فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يَرْحَلون لي، فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافًا، لم يَهْبُلْنَ، ولم يغشهنّ اللحم، إنما يأكلن الْعُلْقة من الطعام.

فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وحملوه، وكنت جارية حديثة السنّ، فبعثوا الجمل، فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمرّ الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها منهم داع، ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدونني، فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلَميّ، ثم الذَّكْوَانيّ من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، وواللَّه ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش مُوغرين في نحر الظهيرة، وهم نزول، قالت: فهلك فيّ من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد اللَّه بن أبيّ ابن سلولَ، قال عروة: أُخبرت أنه كان يشاع، وبُتحدث به عنده، فيقرّه، ويستمعه، ويستوشيه، وقال عروة أيضًا: لم يُسَمَّ من أهل الإفك أيضًا إلا حسان بن ثابت، ومِسطح بن أُثاثة، وحَمْنة بنت جحش، في ناس آخرين، لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال اللَّه تعالى، وإن كِبْر ذلك يقال له: عبد اللَّه بن أبي ابن سلولَ، قال عروة: كانت عائشة تكره أن يُسَبّ عندها حسان، وتقول إنه الذي قال:

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدُهُ وَعِرْضِي

لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ

قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يُريبني في وجعي، أني لا أعرف من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ وسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيسلّم، ثم يقول:"كيف تيكم؟ "، ثم ينصرف، فذلك يريبني، ولا أشعر بالشرّ، حتى خرجت حين نَقِهت، فخرجت مع أم مسطح قِبَل المناصع، وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليل،

ص: 188

وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، قالت: وأمْرنا أمْر العرب الأُوَل في البريّة قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مِسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قِبَل بيتي، حين فرغنا من شأننا، فعَثَرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تَعِس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلًا شَهِد بدرًا؟ فقالت: أي هنتاه، أوَ لم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: وما قال؛ فأخبرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضًا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فسلّم، ثم قال:"كيف تيكم؟ " فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأريد أن استيقن الخبر من قِبَلهما، قالت: فأذن لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هَوِّني عليك، فواللَّه لقلّما كانت امرأة قط وضيئةٌ، عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا أكثرن عليها، قالت: فقلت: سبحان اللَّه، أوَ لقد تحدث الناس بهذا؟

قالت: فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحيُ، يسألهما، ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة فأشار على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلُك، ولا نعلم إلا خيرًا، وأما عليّ: فقال: يا رسول اللَّه لم يضيّقْ اللَّه عليك، والنساء سواها كثير، وسَلِ الجارية تصدقك، قالت: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال:"أي بريرةُ، هل رأيت من شيء يريبك؟ " قالت له بريرة: والذي بعثك بالحقّ ما رأيت عليها أمرًا قط أغمصه، أكثر من أنها جارية حديثة السنّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبد اللَّه بن أُبَيّ، وهو على المنبر، فقال:"يا معشر المسلمين من يَعذِرني من رجل، قد بلغني عنه أذاه في أهلي، واللَّه ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا، ما علمت عليه إلا خيرًا، وما يدخل على أهلي إلا معي"، قالت: فقام

ص: 189

سعد بن معاذ، أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا يا رسول اللَّه أَعذِرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا، ففعلنا أمرك، قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه، من فخذه، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلًا صالِحًا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر اللَّه لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل، فقام أُسيد بن حُضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر اللَّه لنقتلنه، فإنك منافق، تجادل عن المنافقين، قالت: فثار الحيّان: الأوس والخزرج، حتى هَمُّوا أن يقتتلوا، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخفضهم، حتى سكتوا، وسكت، قالت: فبكيت يومي ذلك كله، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين، ويومًا، لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواي جالسان عندي، وأنا أبكي، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك، دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علينا، فسلَّم، ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال:

"أما بعد، يا عائشة، إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك اللَّه، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري اللَّه، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف، ثم تاب تاب اللَّه عليه"، قالت: فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي، حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عني فيه، قال، فقال أبي: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما قال، قالت أمي: واللَّه ما أدري ما أقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقلت -وأنا جارية حديثة السنّ، لا أقرأ من القرآن كثيرًا-: إني واللَّه لقد علمت، لقد سمعتم هذا الحديث، حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقونني، ولئن اعترفت لكم بأمر، واللَّه يعلم أني منه بريئة، لتصدقُنِّي، فواللَّه لا أجد لي ولكم مَثَلًا إلا أبا

ص: 190

يوسف، حين قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18]، ثم تحولت، واضطجعت على فراشي، واللَّه يعلم أني حينئذ بريئة، وإن اللَّه مبرئي ببراءتي، ولكن واللَّه ما كنت أظن أن اللَّه منزل في شأني وحيًا يُتْلَى، لَشأني في نفسي، كان أحقر من أن يتكلم اللَّه فيّ بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا، يبرئني اللَّه بها، فواللَّه ما رام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أُنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من الْبُرَحاء، حتى إنه ليتحدّر منه من العرق مثل الْجُمَان، وهو في يوم شاتٍ، من ثِقَل القول الذي أُنزل عليه، قالت: فسُرِّي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال:

"يا عائشة، أما اللَّه فقد برأك"، قالت: فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: واللَّه لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا اللَّه عز وجل" قالت: وأنزل اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11] العشر الآياتِ، ثم أنزل اللَّه هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، وفقره: واللَّه لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل اللَّه:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} -إلى قوله-: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكر الصديق: بلي، واللَّه إني لأحب أن يغفر اللَّه لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: واللَّه لا أنزعها منه أبدًا، قالت عائشة: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب:"ماذا علمت؟ أو رأيت؟ " فقالت: يا رسول اللَّه أحمي سمعي وبصري، واللَّه ما علمت إلا خيرًا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فعصمها اللَّه بالورع، قالت: وطفقت أختها حَمْنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط، ثم قال عروة: قالت عائشة: واللَّه إن الرجل الذي قيل له ما قيل، ليقول: سبحان اللَّه، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قُتل بعد ذلك في سبيل اللَّه. انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1517 - 1518.

ص: 191

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6996]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِىِ شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا ذُكِرَ مِنْ شَأْنِي الَّذِي ذُكِرَ، وَمَا عَلِمْتُ بِهِ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، فَتَشَهَّدَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي، وَايْمُ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ واللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قطُّ، وَلَا دَخَلَ بَيْتِي قَطّ إِلَّا وَأَنَا حَاضِرٌ، وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا غَابَ مَعِي"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَفيهِ: وَلَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَل جَارِيَتِي، فَقَالَتْ: واللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ، فَتَأْكُلَ عَجِينَهَا، أَوْ قَالَتْ: خَمِيرَهَا -شَكَّ هِشَامٌ- فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، واللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا، إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ، وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِي قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، واللَّه مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ، قَالَتْ عَائِشَة: وَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الزِّيَادَةَ: وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهِ: مِسْطَحٌ، وَحَمْنَةُ، وَحَسَّانُ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْن أُبَيٍّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ، وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ، وَحِمْنَةُ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) أبو كريب الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دَلَّس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أَبُو أُسَامَةَ" هو: حماد بن أسامة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: لَمَّا ذُكِرَ) بالبناء للمفعول، ونائب فاعله الموصول بعده، وقولها:(مِنْ شَأْنِي) بيان لقولها: (الَّذِي ذُكِرَ) بالبناء للمفعول

ص: 192

أيضًا؛ أي: من قول أهل الإفك، (وَ) الحال أني (مَا) نافيهَ، (عَلِمْتُ بِهِ)؛ أي: بالذي ذُكر، وقولها:(قَامَ) جواب "لَمّا"، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (خَطِيبًا)، ثمّ فسّرت خطبته بقولها:(فَتَشَهَّدَ، فَحَمِدَ اللَّهَ) سبحانه وتعالى (وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ) من أوصاف الكمال، (ثُمَّ قَالَ:"أَمَّا بَعْدُ أَشِيرُوا عَلَيَّ) هكذا هذه الرواية بحذف الفاء من جواب "أمّا"، وهو جائز كثير إذا حُذف مع القول، وإن كان دونه كان قليلًا، كما قال في "الخلاصة":

"أَمَّا" كَـ "مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيْءٍ" وَفَا

لِتِلْوِ تِلْهَا وُجُوبًا أُلِفَا

وَحَذْفُ ذِي الْفَا قَلَّ فِي نَثْرٍ إِذَا

لَمْ يَكُ قَوْلٌ مَعَهَا قَدْ نُبِذَا

وقولها: (فِي أُنَاسٍ) تقدّم قريبًا أنه بضمّ الهمزة لغة في ناس، وقيل: بل لغتان بمعنى واحد، وليس أحدهما مشتقًّا من الآخر، وهذا القول هو الراجح

(1)

. (أَبَنُوا أَهْلِي) قال النوويّ رحمه الله: بباء موحّدة مفتوحة، مخففة، ومشددة، رووه هنا بالوجهين: التخفيف أشهر، ومعناه: اتّهموها، والأَبْنُ بفتح الهمزة، يقال: أبنه يَابُنُه، ويَأبِنُهُ، بضم الباء، وكسرها، من بابي نصر، وضرب: إذا اتّهمه، ورماه بخَلَّة سوء، فهو مأبون، قالوا: وهو مشتقّ من الأُبَن، بضم الهمزة، وفتح الباء، وهي الْعُقَد في القسيّ، تُفسدها، وتُعاب بها. انتهى

(2)

.

(وَايْمُ اللَّهِ) مبتدأ محذوف الخبر وجوبًا، كما قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . . . . .

وَفِي نَصِّ يَمِينٍ ذَا اسْتَقَرّ

أي: قَسَمي، (مَا) نافية، (عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ) "من" زائدة للتوكيد؛ أي: سوءًا (قَطُّ)؛ أي: فيما مضى من الوقت، (وَأَبْنُوهُمْ)؛ أي: اتهموهم (بِمَنْ)؛ أي: بالذي، أو بشخص، وقوله:(واللَّه) معترضة بين الموصول وصلته، للتأكيد، (مَا) نافية أيضًا، (عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ) وهو صفوان بن الْمُعَطَّل رضي الله عنه، (وَلَا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا وَ) الحال، (أَنَا حَاضِرٌ)؛ أي: موجود في البيت، (وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلّا غَابَ مَعِي") هذا كلّه غاية في نزاهة صفوان رضي الله عنه عن الفواحش، وبُعده عن الرذائل القبيحة الشنيعة التي رموه بها.

(1)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 26.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 114 - 115.

ص: 193

وقوله: (وَسَاقَ)؛ أي: هشام بن عروة (الْحَدِيثَ بِقِصَّتِهِ) الماضية، وستأتي في التنبيه -إن شاء اللَّه تعالى-.

(وَفِيهِ)؛ أي: في جملة ما ذُكر في الحديث قول عائشة رضي الله عنها: (وَلَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي، فَسَأَل جَارِيَتِي) هي بريرة رضي الله عنها، كما تقدّم بيانه. (فَقَالَتْ) معطوف على مقدّر؛ أي: فسألها عن شأني، فقالت:(واللَّه مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا)؛ أي: على عائشة رضي الله عنها (عَيْبًا، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ) من باب قعد؛ أي: تنام (حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ) هي الداجن التي مرّ ذكرها، (فَتَأْكُلَ) تلك الشاة (عَجِينَهَا)؛ أي: العجين الذي فيه يدها؛ لاستغراقها في نومها، وقوله:(أَوْ) للشكّ من الراوي، هل قالت:"عجينها"، أو (قَالَتْ: خَمِيرَهَا) ثم بيّن الشاكّ في هذا، فقال:(شَكَّ هِشَامٌ)؛ أي: ابن عروة. (فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ) هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه

(1)

، ومراده أن تحدّث النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصدق، ولا تكذب عليه، لا أنه يريد إلحاق الضرر بها، ولهذا سكت عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ) ذلك البعض: (اصْدُقِي)؛ أي: حدِّثي بالصدق (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ). قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "أسقطوا لها به" بالباء التي هي حرف الجرّ، وبِهاء ضمير المذكر، وكذا نقله القاضي عن رواية الْجُلُوديّ، قال: وفي رواية ابن ماهان: "لهاتها" بالتاء المثناة فوقُ، قال الجمهور: هذا غلطٌ، وتصحيفٌ، والصواب الأول، ومعناه: صرحوا لها بالأمر، ولهذا قالت:"سبحان اللَّه"؛ استعظامًا لذلك، وقيل: أتوا بسقط من القول في سؤالها، وانتهارها، يقال: أسقط، وسقط في كلامه: إذا أتى فيه بساقط، وقيل: إذا أخطأ فيه، وعلى رواية ابن ماهان إن صحّت معناها: أسكتوها، وهذا ضعيف؛ لأنها لم تسكت، بل قالت:"سبحان اللَّه، واللَّه ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تِبْر الذهب"، وهي القطعة الخالصة. انتهى

(2)

.

(فَقَالَتْ) الجارية تعجّبًا، واستبعادًا لتشدّدهم في الأمر: (سُبْحَانَ اللَّهِ، واللَّه

(1)

"الديباج على مسلم" للسيوطيّ 6/ 132.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 115.

ص: 194

مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا)؛ أي: على عائشة رضي الله عنها، (إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ) اسم فاعل من صاغ الذهب يصوغه صَوْغًا، من باب قال: جعله حَلْيًا

(1)

. (عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الأَحْمَرِ)"التِّبْرُ" بكسر التاء، وسكون الباء، آخره راء: هو ما كان من الذهب غير مضروب، فإن ضُرب دنانير، فهو عين، وقال ابن فارس: التبر: ما كان من الذهب، والفضة، غير مصوغ، وقال الزّجّاج: التِّبْرُ: كلُّ جوهر قبل استعماله؛ كالنحاس، والحديد، وغيرهما

(2)

.

و"الذهب" بفتحتين: معروفٌ، ويؤنّث، فيقال: هي الذَّهَبُ الحمراء، ويقال: إن التأنيث لغة الحجاز، وبها نزل القرآن، وقد يؤنث بالهاء، فيقال: ذَهَبَهُ، وقال الأزهريّ: الذَّهَبُ مذكّر، ولا يجوز تأنيثه، إلا أن يُجعل جمعًا لذَهَبة، والجمع أَذْهَابٌ، مثل سَبَبٍ وأسباب، وذُهْبَانٌ، مثلُ رُغفان، وأَذْهَبْتُهُ بالألف: مَوَّهته بالذهب

(3)

.

وقوله: "الأحمر" صفة لـ "الذهب"؛ لأن الغالب تذكيره، كما مرّ آنفًا.

(وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ)؛ أي: أمر الإفك، (ذَلِكَ الرَّجُلَ)؛ تعني: صفوان بن المعطَّل رضي الله عنه، (الَّذِي قِيلَ لَهُ)؛ أي: قيل عنه، فاللام بمعنى: عن، كما في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]؛ أي: عن الذين آمنوا، كما قاله ابن الحاجب، أو اللام بمعنى:"في"؛ أي: قيل فيه ما قيل، فهي كقوله تعالى:{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24]؛ أي: في مدّة حياتي

(4)

. (فَقَالَ) الرجل: (سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجّبًا، واستغرابًا لهذا القول الشنيع، (واللَّه مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ)؛ أي: ما جامعتها، والكنف بفتحتين: الثوب الساتر، ومنه قولهم: أنت في كنف اللَّه؛ أي: في سِتره، قاله في "الفتح"

(5)

.

(قَالَتْ عَائِشَة) رضي الله عنها: (وَقُتِلَ) الرجل، وهو صفوان رضي الله عنه، حال كونه

(1)

راجع: "المصباح" 1/ 352.

(2)

راجع: "المصباح" 1/ 72.

(3)

راجع: "المصباح" 1/ 210.

(4)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 331.

(5)

"الفتح" 8/ 462.

ص: 195

(شَهِيدًا فِي سَبيلِ اللَّهِ) قيل: في غزوة إرمينية في خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل غير ذلك، كما تقدّم بيانه. (وَفِيهِ)؛ أي: وفي حديث هشام بن عروة، فهو عطف على قوله المتقدّم:"وفيه ولقد دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. . . إلخ"، (أَيْضًا مِنَ الزِّيَادَةَ) قوله:(وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُو ابِهِ)؛ أي: بهذا الإفك، فالموصول خبر مقدّم لـ "كان"، واسمها:"مسطح إلخ"، ويجوز العكس. (مِسْطَحٌ) بكسر الميم، وسكون السين المهملة، ابن أُثاثة بضمّ الهمزة، (وَحَمْنَةُ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الميم ابنة جحش أخت زينب أم المؤمنين، (وَحَسَّانُ) بن ثابت؛ أي: فهؤلاء هم الذين تكلّموا بالإفك مع المنافقين، (وَأَمَّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ)؛ أي: يستخرجه بالبحث، والمسألةِ، ثم يُفشيه، ويُشيعه، ويُحَرِّكه، ولا يدعه يَخْمَد

(1)

.

(وَيَجْمَعُهُ) إلى ما عنده من البهتان، (وَهُوَ)؛ أي: عبد اللَّه بن أُبيّ، مبتدأ خبره قولها:(الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) بضم الكاف، وكسرها لغتان، فصيحتان، مشهورتان، وذكرهما في هذا الحديث القاضي عياض، وغيره، لكنهم رَجّحوا الضم، وقرئ قول اللَّه سبحانه وتعالى:{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} [النور: 11] بكسر الكاف، وضمّها، الكسر قراءة القراء السبعة، والضم في الشواذّ، قال الإمام أبو إسحاق الثعلبيّ المفسر رحمه الله: قراءة العامة بالكسر، وقراءة حميد الأعرج، ويعقوب الحضرميّ بالضم، قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ، وقال الكسائيّ: هما لغتان، ذكره النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقولها: (وَحِمْنَةُ) بالرفع عَطْف على فاعل تولّي، وجاز لفصله بالمفعول، كما تقدّم غير مرّة.

[تنبيه]: رواية هشام بن عروة عن أبيه هذه لساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(3180)

- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، أخبرني أبي، عن عائشة، قالت: لَمّا ذُكر من شأني الذي ذُكر، وما علمت به، قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيّ خطيبًا، فتشهد، وحَمِد اللَّه، وأثنى عليه بما

(1)

"عمدة القاري" 13/ 227.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 116.

ص: 196

هو أهله، ثم قال:"أما بعدُ أشيروا عليّ في أناس أَبَنُوا أهلي، واللَّه ما علمت على أهلي من سوء قط، وأبَنُوا بمن، واللَّه ما علمت عليه من سوء قطّ، ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي"، فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال: ائذن لي يا رسول اللَّه، أن أضرب أعناقهم، وقام رجل من بني الخزرج، وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك الرجل، فقال: كذبت، أما واللَّه أن لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تُضرب أعناقهم، حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شرّ في المسجد، وما علمت به، فلما كان مساء ذلك اليوم، خرجت لبعض حاجتي، ومعي أم مسطح، فعَثَرت، فقالت: تَعِس مسطح، فقلت لها: أي أمّ تسبّين ابنك؟، فسكتت، ثم عثرت الثانية، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: أي أم تسبّين ابنك؟، فسكتت، ثم عثرت الثالثة، فقالت: تعس مسطح، فانتهرتها، فقلت لها: أي أم تسبّين ابنك؟، فقالت: واللَّه ما أسبّه إلا فيك، فقلت: في أيّ شيء؟ قالت: فبقرت لي الحديث، قلت: وقد كان هذا؟ قالت: نعم واللَّه، لقد رجعت إلى بيتي، وكأن الذي خرجت له لم أخرج، لا أجد منه قليلًا ولا كثيرًا، ووُعِكت، فقلت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرسلني إلى بيت أبي، فأرسل معي الغلام، فدخلت الدار، فوجدت أم رُومان في السفل، وأبو بكر فوق البيت يقرأ، فقالت أمي: ما جاء بك يا بنية؟ قالت: فأخبرتها، وذكرت لها الحديث، فإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني، قالت: يا بنية خففي عليك الشأن، فإنه واللَّه لقلما كانت امرأة حسناء، عند رجل يحبها، لها ضرائر إلا حسدنها، وقيل فيها، فإذا هي لم يبلغ منها ما بلغ مني، قالت: قلت: وقد علم به أبي؟، قالت: نعم، قلت: ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، واستعبرت، وبكيت، فسمع أبو بكر صوتي، وهو فوق البيت يقرأ، فنزل، فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الذي ذُكر من شأنها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنية، إلا رجعت إلى بيتك، فرجعت، ولقد جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيتي، فسأل عني خادمتي، فقالت: لا واللَّه ما علمت عليها عيبًا، إلا أنها كانت ترقد، حتى تدخل الشاة، فتأكل خميرتها، أو عجينتها، وانتهرها بعض أصحابه، فقال: اصدقي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به.

ص: 197

فقالت: سبحان اللَّه، واللَّه ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تِبر الذهب الأحمر، فبلغ الأمر ذلك الرجل الذي قيل له، فقال: سبحان اللَّه، واللَّه ما كشفت كَنَف أنثى قط، قالت عائشة: فقُتل شهيدًا في سبيل اللَّه، قالت: وأصبح أبواي عندي، فلم يزالا، حتى دخل عليّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد صلى العصر، ثم دخل، وقد اكتنفني أبواي عن يميني، وعن شمالي، فتشهّد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فحَمِد اللَّه، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:"أما بعدُ يا عائشة، إن كنت قارفت سوءًا، أو ظلمت، فتوبي إلى اللَّه، فإن اللَّه يقبل التوبة عن عباده". قالت: وقد جاءت امرأة من الأنصار، وهي جالسة بالباب، فقلت: ألَّا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا؟ فوَعَظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالتفتّ إلى أبي، فقلت: أجبه، قال: فماذا أقول؟ فالتفتّ إلى أمي، فقلت: أجيبيه، قالت: أقول ماذا؟ قالت: فلما لم يجيبا تشهدت، فحمدت اللَّه، وأثنيت عليه بما هو أهلها، ثم قلت: أما واللَّه لئن قلت لكم: إني لم أفعل، واللَّه يشهد إني لصادقة، ما ذاك بنافعي عندكم لي، لقد تكلمتم، وأُشربت قلوبكم، ولئن قلت: إني قد فعدت، واللَّه يعلم أني لَمْ أفعل، لتقولنّ: إنها قد باءت به على نفسها، وإني واللَّه ما أجد لي ولكم مَثَلًا، قالت: والتمست اسم يعقوب، فلم أقدر عليه، إلا أبا يوسف، حين قال:{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].

قالت: وأُنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من ساعته، فسكتنا، فرُفع عنه، وإني لأتبين السرور في وجهه، وهو يمسح جبينه، ويقول:"البشرى يا عائشة، فقد أنزل اللَّه براءتك"، قالت: وكنت أشدّ ما كنت غضبًا، فقال لي أبواي: قومي إليه"، فقلت: لا واللَّه، لا أقوم إليه، ولا أحمده، ولا أحمدكما، ولكن أحمد اللَّه الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه، فما أنكرتموه، ولا غيّرتموه، وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش، فعصمها اللَّه بدينها، فلم تقل إلا خيرًا، وأما أختها حمنة، فهلكت فيمن هلك، وكان الذي يتكلم فيه مسطح، وحسان بن ثابت، والمنافق عبد اللَّه بن أُبيّ ابن سلولَ، وهو الذي كان يستوشيه، ويجمعه، وهو الذي تولى كِبره منهم هو، وحمنة، قالت: فحلف أبو بكر أن لا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى آخر الآية -يعني: أبا بكر- {أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى

ص: 198

وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} -يعني: مسطحًا، إلى قوله-:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، قال أبو بكر: بلى واللَّه يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا، وعاد له بما كان يصنع.

قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريب من حديث هشام بن عروة، وقد رواه يونس بن يزيد، ومعمر، وغير واحد عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، وسعيد بن المسيِّب، وعلقمة بن وقاص الليثيّ، وعبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عائشة، هذا الحديث أطول من حديث هشام بن عروة، وأتمّ. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ بَرَاءَةِ حُرَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الرِّيبَةِ)

قوله: "حُرَم النبيّ صلى الله عليه وسلم" بضمّ الحاء المهملة، وفتح الراء؛ أي: نسائه، قال المجد رحمه الله: وحُرَمك بضمّ الحاء، كزُفَر: نساؤك، وعيالك، وما تَحْمي. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6997]

(2771) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُتَّهَمُ بِأُمِّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ: "اذْهَبْ، فَاضْرِبْ عُنُقَهُ"، فَأَتَاهُ عَلِيٌّ، فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ يَتَبَرَّدُ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: اخْرُجْ، فَنَاوَلَهُ يَدَهُ، فَأَخْرَجَهُ، فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ، لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ، فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَمَجْبُوبٌ، مَا لَهُ ذَكَرٌ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَفَّانُ) بن مسلم الصفّار، تقدّم أيضًا قبل بابين.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) أبو سلمة البصريّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 332 - 335.

(2)

"القاموس المحيط" ص 282 بزيادة من الشرح.

ص: 199

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، وفيه أنس بن مالك رضي الله عنه الخادم الشهير، ومن المكثرين السبعة، وآخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه، (أَنَّ رَجُلًا) قيل: اسمه مأبور، ويقال: إنه ابن عمّ لمارية رضي الله عنها، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا الرجل المتّهم كان ابن عم مارية القبطية، أهداه معها المقوقس. انتهى

(1)

.

وقال في "الإصابة": مأبور -بموحّدة خفيفة مضمومة، واو ساكنة، ثم راء مهملة- القبطيّ الخصبيّ، قريب مارية، يأتي في ترجمة مارية وصفه بأنه شيخ كبير؛ لأنه أخوها، قلت

(2)

: ولا ينافي ذلك نعته في الروايات بأنه قريبها، أو نسيبها، أو ابن عمها، لاحتمال أنه أخوها لأمها، واللَّه أعلم، وهو قريب مارية أمّ ولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قَدِم معها من مصر.

وقال الواقديّ: حدّثنا يعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: بعث المقوقس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمارية، وأختها سيرين، وبألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا لينًا، وبغلته الدُّلْدُل، وحماره عُفير، ويقال: يعفور، ومعهم خصيّ يقال له: مأبور، ويقال: هابور، بِهاء بدل الميم، وبغير راء في آخره. . . الحديث، وفيه فأقام الخصيّ على دينه إلى أن أسلم بعدُ في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

وأخرج ابن سعد من طريق الزهريّ، عن أنس بن مالك، قال: كانت أم إبراهيم سُرّيّة للنبيّ صلى الله عليه وسلم في مشربتها، وكان قبطيّ يأوي إليها، ويأتيها بالماء والحطب، فقال الناس في ذلك: عِلْج يدخل على علجة، فبلغ ذلك

(1)

"الاستيعاب" 4/ 1912.

(2)

القائل صاحب "الإصابة"، فتنبّه.

(3)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 5/ 699 - 701.

ص: 200

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسل عليّ بن أبي طالب، فوجده عليّ على نخلة، فلما رأى السيف وقع في نفسه، فألقى الكساء الذي كان عليه، وتكشّف، فإذا هو مجبوب، فرجع عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إذا أَمرت أحدنا بالأمر، ثم رأى في غير ذلك، أيراجعك؟ قال:"نعم"، فأخبره بما رأى من القبطيّ، قال: وولدت مارية إبراهيم، فجاء جبريل عليه السلام إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فاطمأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإلى ذلك

(1)

.

(كَانَ يُتَّهَمُ) بالبناء للمفعول، أي: يُظنّ بأنه يزني (بِأُم وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هي مارية القبطيّة رضي الله عنها.

قال في "الإصابة": مارية القبطية أم ولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ذكر ابن سعد من طريق عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: بعث المقوقس صاحب الإسكندرية إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سنة سبع من الهجرة بمارية، وأختها سيرين، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا لينًا، وبغلته الدُّلْدُل، وحماره عُفيرًا، ويقال: يعفور، ومع ذلك خصيّ يقال له: مأبور شيخ كبير كان أخا مارية، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة، فعَرَض حاطب بن أبي بلتعة على مارية الإسلام، ورغّبها فيه، فأسلمت، وأسلمت أختها، وأقام الخصيّ على دينه، حتى أسلم بالمدينة بعدُ في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكانت مارية بيضاء جميلة، فأنزلها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في العالية في المال الذي صار يقال له: سرية أم إبراهيم، وكان يَختلف إليها هناك، وكان يطؤها بملك اليمين، وضرب عليها مع ذلك الحجاب، فحَملت منه، ووضعت هناك في ذي الحجة سنة ثمان.

ومن طريق عمرة، عن عائشة قالت: ما عَزّت عليّ امرأة إلا دون ما عزّت عليّ مارية، وذلك أنها كانت جميلة جَعْدةَ، فأُعجب بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامة الليل والنهار عندها، حتى فزعنا لها، فجَزِعت، فحوّلها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا.

(1)

"الطبقات الكبرى" لابن سعد 8/ 214، وفي سنده الواقديّ متكلّم فيه.

ص: 201

وتوفيت مارية رضي الله عنها في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك في المحرّم من سنة ست عشرة، وكان عمر يَحشُر الناس بنفسه لشهود جنازتها، وصلى عليها عمر، ودفنت بالبقيع. انتهى

(1)

.

وقال ابن منده: ماتت مارية بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم بخمس سنين

(2)

.

وذكر القاضي عياض أن ذلك الرجل كان قبطيًّا، وكان يتكلّم مع مارية القبطيّة رضي الله عنها؛ لكونها من أهل وطنه، فاتّهمه بعض الناس من أجل ذلك.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ) بن أبي طالب رضي الله عنه: ("اذْهَبْ) إليه (فَاضْرِبْ عُنُقَهُ")؛ أي: اقتله بالسيف، (فَأَتَاهُ عَلِيٌّ) رضي الله عنه (فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيٍّ) "إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأه كونه في ركيّ، وهي بفتح الراء، وكسر الكاف، وتشديد الياء: البئر التي لم تُطو، وجمعها ركايا، مثلُ عطيّة وعَطايا، أفاده في "المصباح".

وفي "القاموس"، و"شرحه": الرَّكِيّة؛ كغَنِيّة: البئر، جمعها رُكِيٌّ، كعُتِيّ، وضبط في "الصحاح" بالفتح، ورَكَايا، وفي "النهاية": الرّكِيّ: جنس للرّكِيّة، والمجمع رَكَايا، وقد تكرر ذكره في الحديث مفردًا، ومجموعًا، وقال ابن سِيدَهْ: إنما قضيت عليها بالواو؛ لأنها من ركا الأرضَ رَكْوًا: إذا حفرها حَفْرًا مستطيلًا، وركا الأمرَ رَكْوًا: أصلح. انتهى

(3)

.

حال كونه (يَتَبَرَّدُ فِيهَا)؛ أي: يغتسل فيها طلبًا للبرودة، (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لذلك الرجل، (عَلِيٌّ) رضي الله عنه:(اخْرُجْ) من الركيّ، (فَنَاوَلَهُ يَدَهُ)؛ أي: ناول الرجل يده عليًّا رضي الله عنه؛ ليُخرجه منها (فَأَخْرَجَهُ)؛ أي: فأخذ بيده، فأخرجه منها، (فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ)؛ أي: ففاجأه كونه مجبوبًا؛ أي: مقطوع الذَّكَر، كما فسّره بقوله:(لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ) يستحقّ به القتل، (فَكَفَّ عَلِيٌّ عَنْهُ)؛ أي: امتنع عليّ رضي الله عنه عن قتله؛ لعدم موجب القتل، حيث كان مجبوبًا، لا يحصل منه الزنا. (ثمَّ أَتَى) عليّ رضي الله عنه (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ)؛ أي: الرجل الذي أمرتني

(1)

"الاستيعاب" 4/ 1912.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 8/ 112.

(3)

"تاج العروس" ص 8410.

ص: 202

بضرب عنقه؛ لاتهامه بأم ولدك، (لَمَجْبُوبٌ، مَا لَهُ ذَكَرٌ)؛ أي: فتركه النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال النوويّ رحمه الله: قيل: كان منافقًا، ومستحقًّا للقتل بطريق آخر، وجُعل هذا محرّكًا لقتله بنفاقه وغيره، لا بالزني، وكفّ عنه عليّ رضي الله عنه؛ اعتمادًا على أنَّ القتل بالزني، وقد عُلم انتفاء الزنى. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي تمام البحث في هذا في المسألة الثالثة -إن شاء اللَّه تعالى-.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 6997](2771)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 281)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 42)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(5/ 449)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 90)، و (ابن سعد) في "الطبقات الكبرى"(8/ 214 و 215)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عِظَم قَدْر النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورفعة مكانته عند ربّه، حيث إنه سبحانه وتعالى عصم حُرَمه عن أن يتعرّض لهنّ أحد بسوء.

2 -

(ومنها): مشروعيّة قتل من آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن اتُّهم بسوء في أهله، أو نحو ذلك، إذا تحقّق منه ذلك.

3 -

(ومنها): إعمال النظر، والاجتهاد، وترك الجمود على الظواهر، فإن عليًّا رضي الله عنه لم ينفّذ أمره صلى الله عليه وسلم؛ لمّا رأى مانعًا يمنع من إقامة الحدّ على الرجل، حيث لم يرتكب ما يوجد حدّه؛ إذ كان مجبوبًا، فأقرّه صلى الله عليه وسلم عليه.

4 -

(ومنها): بيان أنه يجوز الاطلاع على العورة عند الضرورة؛ كتحمُّل شهادة الزني، كما صار إليه مالك رحمه الله. قاله القرطبيّ.

5 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: هذه الجارية هي ماريةُ أمّ إبراهيم،

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 118 - 119.

ص: 203

وَلَد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها، كان يزورها رجل قبطيّ، فتكلم المنافقون في ذلك، وشنَّعوا، فأظهر اللَّه براءتها بما ظهر من حال الرَّجل، وهذا نحو مِمَّا جرى لعائشة رضي الله عنها حتَّى برَّأها اللَّه تعالى، وأظهر من حال المرميّ أنَّه حصور، كل ذلك، مبالغةٌ في صيانة حُرَم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإظهار تكذيب من تَفَوَّهَ بشيء من ذلك. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قد نَزّه اللَّه عز وجل حُرمة النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يثبت شيء من ذلك في جهتها، والخبر معلوم أنه كان قبطيًا، وكان يتحدث إليها بحكم الجنسية، فتُكُلِّم في ذلك، ولم يأت أنه أسلم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهاه عن التحدث إليه، فلما خالفه استحق بذلك القتل؛ إما للمخالفة، أو لتأذي النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه، ومن آذى النبيّ صلى الله عليه وسلم بشيء ملعون كافر يستحقّ القتل.

ويَحْتَمِل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم علم براءته، وكونه مجبوبًا، وأمر عليًّا بما أمره به لَمّا ذكر له هو أو غيره خلوّه ليتجلى أمره وترتفع تهمته.

ويَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أوحي إليه أنه لا يقتله، وينكشف له من حاله ما يبيّن، أمره، وأنه في الرَّكِيِّ متجردًا لا أنه أمَره بقتله حقيقة، بل قال له ذلك، وهو يعلم أنه لا يقتله؛ لِمَا تبيّن له من براءته كما قال في الحديث الآخر:"احثُ في أفواههم التراب"، متّفقٌ عليه، وقد قالت عائشة له: ما أنت بفاعل، ففهمت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يُرِدْ ما قاله، بل على طريق التعجيز له، أي إنك لا تقدر على إسكاتهنّ ولا بذلك ولا يمكنك فعله.

وقد ذكر أصحاب الأخبار أن المقوقس صاحب مصر أهدى للنبيّ صلى الله عليه وسلم مع مارية أختها سيرين، ومعهما مخصيٌّ اسمه مأبور، وأنه أسلم، كذا سماه محمد بن سعد

(2)

، وقال غيره: مابور، والأول أثبت، فهو ذلك، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(المسألة الرابعة): قد استشكل العلماء أمره صلى الله عليه وسلم بقتل هذا الرجل:

(1)

"المفهم" 5/ 145.

(2)

انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد 8/ 170، 171.

(3)

"إكمال المعلم" 8/ 304 - 305.

ص: 204

قال ابن الجوزيّ رحمه الله: على هذا الحديث استشكال، وهو أن يقال: كيف أمر صلى الله عليه وسلم بقتل رجل بالتهمة؟ فقد أجاب عنه ابن جرير، فقال: جائز أن يكون قد كان من أهل العهد، وقد تقدم إليه بالنهي عن الدخول على مارية، فعاد، فأمر بقتله لنقض العهد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ: "اذهب فاضرب عنقه" فيه إشكال، وهو: أنه صلى الله عليه وسلم كيف يأمر بضرب عنق هذا الرجل، ولم يكن هناك موجبٌ للقتل، وقد ظهر ذلك حين انكشف حال الرَّجل؟ ويزول هذا الإشكال بأن هذا الحديث رواه أبو بكر البزار، بمساق أكمل من هذا، وأوضح، فقال فيه: عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كُثِّر على مارية في قبطيّ ابن عم لها كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خذ هذا السيف، فانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله". قال: قلت: يا رسول اللَّه! أكون في أمرك كالسِّكة المحماة، لا يثنيني شيء، حتى أمضي لِمَا أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال:"بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"، وذكر الحديث بنحو ما تقدم، فهذا يدلّ على أنَّ أمْره بقتله إنَّما كان بشرط أن يجده عندها على حالة تقتضي قتله، ولمّا فَهِمَ عنه عليّ رضي الله عنه ذلك سأله، فبيَّن له بيانًا شافيًا، فزال ذلك الإشكال، والحمد للَّه ذي الجلال.

ويَحْتَمِل أن يقال: إن ذلك خرج من النبيّ صلى الله عليه وسلم مخرج التغليظ، والمبالغة في الزجر على موجب الغيرة الْجِبِلِّيَّة، والأول ألْيق، وأسلم، واللَّه بحقائق الأمور أعلم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم ما أمر عليًّا رضي الله عنه بقتل الرجل إلا بعد أن يثبت لديه ما يوجب قتله، من تعرّضه لجاريته، ولذا لمّا وجده عليّ مجبوبًا كفّ عن قتله، وأقرّه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبهذا يزول الاستشكال، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 872.

(2)

"المفهم" 5/ 145 - 146.

ص: 205

(53) - (كِتَابُ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْقِيَامَةِ، والْجَنَّة، وَالنَّارِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ)

(1) - (بَابُ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6998]

(2772) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسىَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَّهُ سَمِعَ زيدَ بْنَ أَرْقَمَ، يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لأَصْحَابِهِ، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ -قَالَ زُهَيْرٌ: وَهِيَ قِرَاءَةُ

(1)

مَنْ خَفَضَ حَوْلَهُ- وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَسَأَلَهُ، فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ، فَقَالَ: كَذَبَ زيدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون: 1]، قَالَ: ثُمَّ دَعاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، قَالَ: فَلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ، وَقَوْلُهُ:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]، وَقَالَ: كَانُوا رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الْعَبْسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

(1)

وفي نسخة: "وهي في قراءة مَن خفض حوله".

ص: 206

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى) الأشيب -بمعجمة، ثم تحتانية- أبو عليّ البغداديّ، قاضي الموصل وغيرها، ثقةٌ [9](ت 9 أو 210)(ع) تقدم في "الإيمان" 55/ 321.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن حُديج، أبو خيثمة الْجُعْفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بآخَرَة [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لزهير عن أبي إسحاق، مع أنه لم يسمع منه إلا بعد اختلاطه؟.

[قلت]: لم ينفرد به زهير، فقد تابعه إسرائيل عند البخاريّ، وهو أحفظ الناس لأحاديث جدّه أبي إسحاق، حتى قال عبد الرحمن بن مهديّ: إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة، والثوريّ، وقال أيضًا: ما فاتني الذي فاتني من حديث الثوريّ عن أبي إسحاق، إلا لما اتَّكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم، قال في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

4 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عَمرو بن عبد اللَّه بن عُبيد، الْهَمْدانيّ السَّبِيعيّ -بفتح المهملة، وكسر الموحّدة- ثقةٌ مكثرٌ عابد مدلِّسٌ اختلَط بأخرة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ) بن زيد بن قيس الأنصاريّ الخزرجيّ الصحابيّ المشهور، أول مشاهده الخندق، وأنزل اللَّه تصديقه في "سورة المنافقين"، مات سنة ست، أو ثمان وستين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 7/ 1208.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث والسماع من أوله إلى آخره، فلا تُهمة في رواية أبي إسحاق المدلّس، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، فزيد بن أرقم رضي الله عنه ممن نزل الكوفة من الصحابة رضي الله عنهم، وأنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو منقبة شهيرة حيث أنزل اللَّه عز وجل في تصديقة سورة كاملة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 134.

ص: 207

شرح الحديث:

عن أبي إِسْحَاقَ، عمرو بن عبد اللَّه السَّبِيعيّ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمْ) رضي الله عنه (يَقُولُ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ)، وفي رواية البخاريّ:"كنت في غَزَاة"، قال في "الفتح": قوله: "كنت في غَزاة"، زاد بعد باب من وجها آخر عن إسرائيل:"مع عمّي"، وهذه الغَزَاة وقع في رواية محمد بن كعب، عن زيد بن أرقم، عند النسائيّ أنها غزوة تبوك، ويؤيده قوله في رواية زهير:"في سفر أصاب الناس فيه شدّة"، وأخرج عبد بن حميد بإسناد صحيح، عن سعيد بن جبير، مرسلًا:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلًا، لم يرتحل منه حتى يصلي فيه، فلما كان غزوة تبوك نزل منزلًا، فقال عبد اللَّه بن أُبَيّ. . . "، فذكر القصة، والذي عليه أهل المغازي أنها غزوة بني المصطلِق، قال: وفي حديث، جابر ما يؤيده، وعند ابن عائذ، وأخرجه الحاكم في "الإكليل" من طريقه، ثم من طريق أبي الأسود، عن عروة، أن القول الآتي ذِكره صَدَر من عبد اللَّه بن أُبَيّ بعد أن قفلوا. انتهى

(1)

.

(أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ)؛ أي: في ذلك السفر (شِدَّةٌ)؛ أي: من مجاعة وغيرها، (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ) رأس المنافقين (لأَصْحَابِهِ) المنافقين:(لَا) ناهية، (تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ يعني: فقراء المهاجرين، (حَتَّى يَنْفضُّوا مِنْ حَوْلِهِ)؛ أي: حتى يتفرّقوا عنه، قرأ الجمهور:{يَنْفَضُّوا} من الانفضاض، وهو التفرّق، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي:"يُنفضوا" من أنفض القوم: إذا فنيت أزوادهم، يقال: نفض الرجل وعاءه من الزاد، فانفضّ

(2)

.

فردّ اللَّه سبحانه وتعالى على هؤلاء أعنف ردّ، وأخبر بسَعة مُلكه، فقال:{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7]؛ أي: إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين؛ لأن خزائن الرزق له، فيعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء ما شاء، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} وذلك، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد اللَّه عز وجل، وأنه الباسط القابض المعطي المانع.

(1)

"الفتح" 10/ 701، "كتاب التفسير" رقم (4900).

(2)

"فتح القدير" 7/ 227.

ص: 208

(قَالَ زُهَيْرٌ)؛ أي: ابن معاوية الراوي عن أبي إسحاق، (وَهِيَ)؛ أي: هذه القراءة (قِرَاءَةُ مَنْ خَفَضَ حَوْلَهُ)، وفي نسخة:"وهي في قراءة من خفض حوله"، والمعنى: أن هذه القراءة قراءة من يقرأ: "من حوله" بكسر ميم "مِنْ"، ويجرّ "حوله" بها، واحترز به عن القراءة الشاذّة:"مَنْ حَوْلَهُ" بفتح الميم، ونَصْب "حوله"، أفاده النوويّ

(1)

.

وقال صاحب "التكملة": قوله: "وهي قراءة من خفض حوله": لفظ "من حوله" ليس موجودًا في القرآن الكريم، ولم يقصد الراوي تلاوة الآية، وإنما أراد حكاية كلام عبد اللَّه بن أُبيّ، وذكر بعض العلماء أن "من حوله" موجود في قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وقرأه بعضهم بكسر الميم واللام:"مِنْ حَوْلِهِ"، وبعضهم بفتحهما:"مَنْ حَوْلَهُ"، وعلى الثاني يكون بدلًا من ضمير الفاعل في "ينفضوا"، وعلى كل ليس موجودًا في القراءات المتواترة اليوم، والظاهر أنها كانت زيادة تفسيريّة من قبل عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، وقد ثبت أن مثل هذه الزيادات التفسيريّة ربما سُمّين بالقراءة، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: وقع في النسخة التي شرح عليها القاضي عياض، والأبيّ، والسنوسي ما نصّه:"قال زهير: وهي في قراءة عبد اللَّه: حتى ينفضّوا من خَفَض حوله"، ثم أخذ القاضي عياض في شرح ذلك بما لا يُستفاد منه كثيرًا، وتبعه الأبيّ، والسنوسي في نقل ذلك الكلام، ولا أرى له كبير فائدة، ولذا أعرضت عنه.

وقال الحافظ في "الفتح": قوله: "يقولون إلى قوله: حتى ينفضوا من حوله" هو كلام عبد اللَّه بن أُبَيّ، ولم يقصد الراوي بسياقه التلاوة، وغلط بعض الشراح، فقال: هذا وقع في قراءة ابن مسعود، وليس في المصاحف المتفق عليها، فيكون على سبيل البيان من ابن مسعود، قال الحافظ: ولا يلزم من كون عبد اللَّه بن أُبَيّ قالها قبلُ أن ينزل القرآن بحكاية جميع كلامه. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ"17120.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 93 - 94.

(3)

"الفتح" 10/ 701.

ص: 209

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أراد الحافظ بهذا ردّ ما ذكر عياض، ومن تبعه مما ذكروه في توجيه هذه الرواية، وطوّلوا نَفَسَهم في ذلك من دون طائل، والحقّ أن هذه لا تثبت.

والحاصل: أن الذي وقع في نُسخهم غلط، وتصحيف، فلا ينبغي التعويل عليه، ولا الاشتغال به بأكثر من تغليطه، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(وَقَالَ) عبد اللَّه بن أُبيّ أيضًا: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ) قال الشوكانيّ رحمه الله: القائل لهذه المقالة هو عبد اللَّه بن أبيّ رأس المنافقين، وعنى بالأعزّ: نفسه، ومن معه، وبالأذلّ: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومن معه، ومراده بالرجوع: رجوعهم من تلك الغزوة، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فردًا من أفرادهم، وهو عبد اللَّه بن أبيّ؛ لكونه كان رئيسهم، وصاحب أمرهم، وهم راضون بما يقوله، سامعون له، مطيعون. انتهى

(1)

.

وقال أبو العبّاس القرطبيّ رحمه الله: يعني المنافق بالأعزّ: نفسه، وعشيرته، وبالأذلّ: النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، جَهِل، فقال، وحيث وجب أن يسكت غلبت عليه شقوته، فانعكست فكرته، فظنّ الأرض سماء، والسراب ماء، فنبّهه ولده، نط فته على قبيح غلطته، فقال له: أنت واللَّه الأذلّ، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأعزّ، فأنزل اللَّه تصديقه في كتابه، لعلهم يسمعون، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ثم إن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلطّف بهم على مقتضى خُلُقه الكريم، وحِلمه العظيم، ودعاهم للاستغفار، فأبت الشقوة إلا التمادي على الجهل والاستكبار، فلوّوا رؤوسهم معرضين، وصدّوا مستكبرين، فقوبلوا {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6]، حشرنا اللَّه تعالى مع المؤمنين، وجنّبنا أحوال المنافقين بفضله وكرمه آمين

(2)

.

وقال أبو عبد اللَّه القرطبيّ المفسّر رحمه الله: ورُوي أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أُبَيّ، ابن سلولَ قال لأبيه: والذي لا إله إلا هو لا تدخل المدينة حتى تقول: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو الأعز، وأنا الأذلّ، فقاله

(3)

.

(1)

"فتح القدير" 7/ 227.

(2)

"المفهم" 7/ 409 - 410.

(3)

"تفسير القرطبيّ" 18/ 129.

ص: 210

فلما توهموا أن العزة بكثرة الأموال، والأتباع، ردّ اللَّه تعالى عليهم ذلك، وفنّده، وبيّن لهم أن العزة، والْمَنَعَة، والقوّة للَّه وحده لا شريك له، فقال:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]؛ أي: القوّة، والغلبة للَّه وحده لا شريك له، ولمن أفاضها عليه من رسله، وصالحي عباده، لا لغيرهم، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} بما فيه النفع فيفعلونه، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه، بل هم كالأنعام لِفَرْط جهلهم، ومزيد حيرتهم، والطبع على قلوبهم

(1)

.

[تنبيه]: سبب قول عبد اللَّه بن أُبيّ هذا الكلام بُيّن في حديث جابر رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان عن عمرو بن دينار، قال: سمعت جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما يقول: كنا في غَزاة، فَكَسَع

(2)

رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا لَلأنصار، وقال المهاجريّ: يا لَلمهاجرين، فسَمَّعَها اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم قال:"ما هذا؟ " فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاريّ: يا للأنصار، وقال المهاجريّ: يا للمهاجرين، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دَعُوها، فإنها منتنة"، قال جابر: وكانت الأنصار حين قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم أكثر، ثم كَثُر المهاجرون بعدُ، فقال عبد اللَّه بن أُبَيّ: أوَ قد فعلوا؟ واللَّه {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دَعْني يا رسول اللَّه أضرب عنق هذا المنافق، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"دَعْهُ، لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"

(3)

.

(قَالَ) زيد بن أرقم رضي الله عنه: (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ) هذا ظاهر في أن زيدًا أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بنفسه، لكن وقع في رواية للبخاريّ بلفظ:"فذكرت ذلك لعمّي، أو لعمر، فذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم".

قال في "الفتح": قوله: "فذكرت ذلك لعمي، أو لعمر" كذا بالشكّ، وفي سائر الروايات الآتية:"لعمي" بلا شكّ، وكذا عند الترمذي من طريق أبي سعد الأزديّ، عن زيد، ووقع عند الطبرانيّ، وابن مردويه أن المراد بعمه: سعد بن

(1)

"فتح القدير" 7/ 227.

(2)

أي: ضرب دُبُره بيده، أو برجله.

(3)

أخرجه البخاريّ برقم (4907)، وتقدّم لمسلم في "البر والصلة والآداب" برقم [16/ 6560](2584).

ص: 211

عبادة، وليس عمه حقيقة، وإنما هو سيد قومه الخزرج، وعَمّ زيد بن أرقم الحقيقيّ: ثابت بن قيس الصحابيّ، وعمّه زوج أمه: عبدُ اللَّه بن رواحة خزرجيّ أيضًا، ووقع في "مغازي أبي الأسود" عن عروة، أن مثل ذلك وقع لأواس بن أرقم، فذكره لعمر بن الخطاب، وجزم الحاكم في "الإكليل" أن هذه الرواية وَهَمٌ، والصواب: زيد بن أرقم، قال الحافظ: ولا يمتنع تعدد المخبَر بذلك، عن عبد اللَّه بن أُبَيّ، إلا أن القصة مشهورة لزيد بن أرقم، وفي حديث أنس ما يشهد لذلك.

قال: وقوله: "فذكره للنبيّ صلى الله عليه وسلم"؛ أي: ذكره عمي، ووقع في رواية ابن أبي ليلى عن زيد:"فأخبرت به النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وكدا في مرسل قتادة، فكأنه أطلق الإخبار مجازًا، لكن في مرسل الحسن، عن عبد الرزاق:"فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لعلك أخطأ سمعك، لعلك شُبِّه عليك"، فعلى هذا لعله راسل بذلك أَوّلًا على لسان عمه، ثم حضر هو، فأَخْبَرَ. انتهى

(1)

.

(فَأَرْسَلَ) النَّبيّ صلى الله عليه وسلم (إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَسَأَلَهُ) عما أخبره به زيد بن أرقم من مقالته الشنيعة، (فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ)؛ أي: بالغ في تأكيد حلفه أنه (مَا فَعَلَ")؛ أي: ما تكلّم بما قاله زيد، وفي رواية البخاريّ:"فحلفوا ما قالوا"، والمراد به: عبد اللَّه بن أُبَيّ، وجُمِع باعتبار من معه، ووقع في رواية أبي الأسود، عن عروة:"فبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عبد اللَّه بن أُبَيّ، فسأله، فحلف باللَّه ما قال من ذلك شيئًا". (فَقَالَ) ابن أُبيّ، ويَحْتَمل أن يكون الفاعل ضمير النبيّ صلى الله عليه وسلم يدلّ عليه ما في رواية البخاريّ بلفظ:"فكذّبني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصدَّقه" بتشديد الذال.

(كَذَبَ) بتخفيف الذال، (زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أخبره بالكذب، وفي رواية:"فقالوا: كَذَب زيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وهذا بالتخفيف، و"رسولَ اللَّه" بالنصب على المفعولية، وفي رواية ابن أبي ليلى، عن زيد عند النسائيّ:"فجعل الناس يقولون: أتى زيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالكذب".

(قَالَ) زيد: (فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ)؛ أي: شدّة همّ من أجل ما

(1)

"الفتح" 10/ 702.

ص: 212

قالوه؛ أي: من قولهم: كذب زيد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وفي رواية البخاريّ:"فأصابني همّ"، وفي رواية أبي سعد الأزديّ، عن زيد:"فوقع عليّ من الهم ما لم يقع على أحد"، وفي رواية محمد بن كعب:"فرجعت إلى المنزل، فَنِمْتُ"، زاد الترمذيّ في روايته:"فَنِمْتُ كَئيبًا حَزينًا"، وفي رواية ابن أبي ليلى:"حتى جلست في البيت؛ مخافةَ إذا رآني الناس أن يقولوا: كذبت".

زاد في رواية للبخاريّ: "فقال لي عمِي: ما أردت إلى أن كذّبك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ومَقَتك".

(حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقِي)؛ أي: تصديق ما أخبرت به النبيّ صلى الله عليه وسلم من قول عبد اللَّه بن أُبيّ الشنيع البذيّ، وقوله:({إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}) مفعول به لـ "أنزل" محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، والمراد به السورة بما اشتملت عليه من أحوال المنافقين، وأقوالهم الشنيعة، وفي رواية البخاريّ:"فأنزل اللَّه تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} "، فبعث إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ، فقال:"إن اللَّه قد صدّقك يا زيد"، وفي مرسل الحسن: فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأُذُن الغلام، فقال:"وَفَت أُذنك يا غلام" مرتين.

(قَالَ) زيد: (ثمَّ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: طلب صلى الله عليه وسلم المنافقين ابن أُبيّ وأصحابه ليحضروا مجلسه (لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ) ما اقترفوه من الجرائم الفظيعة، (قَالَ) زيد (فَلَوَّوْا) بتشديد الواو، أي: حرّكوا (رُؤُوسَهُمْ) استهزاء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": "لووا رؤوسهم حركوا، استهزؤوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ويُقرأ بالتخفيف، من لَوَيت". انتهى، قال في "الفتح": وفي مرسل سعيد بن جبير: "وجاء عبد اللَّه بن أبيّ، فجعل يعتذر، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: تُبْ، فجعل يلوي رأسه، فنزلت". انتهى

(1)

.

وقال في "فتح القدير": {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 5]؛ أي: إذا قال لهم القائل من المؤمنين: قد نزل فيكم ما نزل من القرآن، فتوبوا إلى اللَّه تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتعالوا يستغفر لكم رسول اللَّه، {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ}؛ أي: حَرّكوها استهزاء بذلك، قال مقاتل: عَطَفوا رؤوسهم رغبةً

(1)

"الفتح" 10/ 706.

ص: 213

عن الاستغفار، قرأ الجمهور:{لَوْ} [المنافقون: 5] بالتشديد، وقرأ نافع بالتخفيف، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} [المنافقون: 5]؛ أي: يُعرِضون عن قول من قال لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول اللَّه، أو يُعرضون عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وجملة:{وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5] في محل نَصْب على الحال من فاعل الحال الأُولى، وهي {يَصُدُّونَ} [المنافقون: 5]؛ لأن الرؤية بصرية، فـ {يَصُدُّونَ} [المنافقون: 5] في محل نصب على الحال، والمعنى: ورأيتهم صادّين مستكبرين. انتهى

(1)

.

(وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}، وَقَالَ) زيد بن أرقم مفسّرًا: (كَانُوا)؛ أي: المنافقون، (رِجَالًا أَجْمَلَ شَيْءٍ) الظاهر أن قول زيد هذا تفسير لقوله:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} ، لكن قال في "الفتح": إنه تفسير لقوله: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]، ونصّه: قوله: "خشب مسندة، قال: كانوا رجالًا أجمل شيء" هذا تفسير لقوله: "تعجبك أجسامهم"، و"خشب مسندة" تمثيل لأجسامهم، ووقع هذا في نفس الحديث، وليس مدرجًا، فقد أخرجه أبو نعيم من وجه آخر عن عمرو بن خالد، شيخ البخاري فيه، بهذه الزيادة، وكذا أخرجه الإسماعيليّ من وجه آخر عن زهير.

[تنبيه]: قرأ الجمهور {خُشُبٌ} بضمتين، وأبو عمرو، والأعمش، والكسائيّ بإسكان الشين. انتهى

(2)

.

قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": يقول جلّ ذِكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا رأيت هؤلاء المنافقين يا محمد تُعجبك أجسامهم؛ لاستواء خَلْقها، وحُسن صورها، وإن يقولوا تَسْمع لقولهم، يقول جل ثناؤه: وإن يتَكلموا تَسْمع كلامهم، يُشبه منطقهم منطق الناس، كأنهم خشب مسندة، يقول: كأن هؤلاء المنافقين خشب مسندة، لا خير عندهم، ولا فقه لهم، ولا علم، وإنما هم صُوَر بلا أحلام، وأشباح بلا عقول.

وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] يقول جل ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خُبثهم، وسوء ظنهم، وقلة يقينهم، كل صيحة عليهم؛

(1)

"فتح القدير" 7/ 227.

(2)

"الفتح" 10/ 706.

ص: 214

لأنهم على وَجَلٍ أن يُنزل اللَّه فيهم أمرًا يهتك به أستارهم، ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم، وسَبْي ذراريهم، وأخذ أموالهم، فهم من خوفهم من ذلك كلما نزل بهم من اللَّه وحي على رسوله صلى الله عليه وسلم ظنوا أنه نزل بهلاكهم، وعَطَبهم.

ويقول اللَّه جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: هم العدو يا محمد، فاحذرهم، فإن ألسنتهم إذا لقوكم معكم، وقلوبهم عليكم، مع أعدائكم، فهم عين لأعدائكم عليكم.

وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] يقول: أخزاهم اللَّه إلى أي وجه يُصرفون عن الحقّ. انتهى

(1)

.

وقال في "فتح القدير": {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]؛ أي: هيئاتهم، ومناظرهم؛ يعني: أن لهم أجسامًا تُعجب من يراها؛ لِمَا فيها من النضارة، والرونق، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فتحسب أن قولهم حقّ، وصِدق؛ لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وقد كان عبد اللَّه بن أبيّ رأس المنافقين فصيحًا، جسيمًا، جميلًا، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته، قال الكلبيّ: المراد: عبد اللَّه بن أبيّ، وجَدّ بن قيس، ومُعَتِّب بن قيس، كانت لهم أجسام، ومنظر، وفصاحة، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: لكلّ من يصلح له، ويدلّ عليه قراءة من قرأ:"يُسمَع" على البناء للمفعول، وجملة:{كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} مستأنفة؛ لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تُعجب الرائي، وتروق الناظر، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، شُبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تَفْهَم، ولا تَعْلَم، وهم كذلك؛ لخلوّهم عن الفهم النافع، والعلم الذي ينتفع به صاحبه، قال الزجاج: وَصَفهم بتمام الصُّوَر، ثم أعلم أنهم في تَرْك الفهم، والاستبصار بمنزلة الخشب، قرأ الجمهور:{خُشُبٌ} بضمتين، وقرأ أبو عمرو، والكسائي، وقنبل بإسكان الشين، وبها قرأ البراء بن عازب، واختارها أبو عبيد؛ لأن واحدتها خشبة كبدنة وبُدن، واختار القراءة الأُولى أبو حاتم، وقرأ سعيد بن

(1)

"تفسير الطبريّ" 28/ 107 - 108.

ص: 215

جبير، وسعيد بن المسيب بفتحتين، ومعنى {مُسَنَّدَةٌ}: أنها أُسندت إلى غيرها، من قولهم: أسندت كذا إلى كذا، والتشديد للتكثير، ثم عابهم اللَّه سبحانه بالجُبْن، فقال:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} ؛ أي: يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم، نازلة بهم؛ لفرط جُبْنهم، ورُعب قلوبهم، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان:

أحدهما: أنه عليهم، ويكون قوله:{هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] جملة مستأنفة؛ لبيان أنهم الكاملون في العداوة؛ لكونهم يُظهرون غير ما يُبطنون.

والوجه الثاني: أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله: {هُمُ الْعَدُوُّ} ، ويكون قوله:{عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] متعلقًا بـ {صَيْحَةٍ} [المنافقون: 4]، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر، وكان حقّه أن يقال: هو العدوّ، والوجه الأَوَّل أَولى، قال مقاتل، والسديّ: أي: إذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو أُنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون، لِمَا في قلوبهم من الرعب، ومن هذا قول الشاعر:

مَا زِلْتَ تَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَهُمُ

خَيْلًا تَكُرُّ عَلَيْهِمْ وَرِجَالَا

وقيل: كان المنافقون على وَجَل من أن ينزل فيهم ما يَهتك أستارهم، ويبيح دماءهم، وأموالهم.

ثم أمر اللَّه سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ حَذَره منهم، فقال:{فَاحْذَرْهُمْ} أن يتمكنوا من فرصة منك، أو يَطَّلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار.

ثم دعا عليهم بقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]؛ أي: لعنهم اللَّه، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب؛ كقولهم: قاتله اللَّه مِن شاعر، أو ما أشعره، وليس بمراد هنا، بل المراد ذمّهم وتوبيخهم، وهو طلب من اللَّه سبحانه طلبه من ذاته عز وجل أن يلعنهم، ويخزيهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك، ومعنى {أَنَّى يُؤْفَكُونَ}: كيف يُصرفون عن الحق، ويميلون عنه إلى الكفر، قال قتادة: معناه: يَعدِلون عن الحقّ، وقال

ص: 216

الحسن: معناه: يُصْرَفون عن الرُّشْد. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6998](2772)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4900 و 4901 و 4902 و 4903 و 4904)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3312)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 491 و 492)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 368 و 373)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 189)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 198 و 9/ 32)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان صفات المنافقين، فقد بيّنتها السورة أتمّ بيان، ليس وراءها بيان لأحد؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك: 14]، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14].

2 -

(ومنها): تَرْك مؤاخذة كبراء القوم بالهفوات؛ لئلا ينفر أتباعهم، والاقتصار على معاتباتهم، وقبول أعذارهم، وتصديق أيمانهم، وإن كانت القرائن تُرشد إلى خلاف ذلك؛ لِمَا في ذلك من التأنيس، والتأليف.

3 -

(ومنها): جواز تبليغ ما لا يجوز للمقول فيه، ولا يُعَدّ نميمةً مذمومة، إلا إن قصد بذلك الإفساد المطلق، وأما إذا كانت فيه مصلحة تُرَجَّح على المفسدة فلا.

4 -

(ومنها): بيان منقبة هذا الصحابيّ الجليل رضي الله عنه، حيث صدّق إخباره للنبيّ صلى الله عليه وسلم بما قاله المنافق ابن أُبيّ، فهذا هو الفخر العظيم، والفضل الجسيم.

5 -

(ومنها): بيان ما كان عليه المنافقون من الكذب، والبهتان، وما تنطوي عليه قلوبهم الغبيّة، من الحقد، والحسد، والمكر والتآمر على الإسلام والمسلمين، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى غالب على أمره، فيفضحهم، ويُخزيهم، ولا يبلّغهم

(1)

"فتح القدير" 7/ 227.

ص: 217

أمنيتهم، بل ينصر الإسلام والمسلمين وفاءً بوعده الصادق:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، اللَّهُمَّ انصر الإسلام والمسلمين، ودمّر أعداءك، أعداء الدين، وأهلك الكفرة والملحدين، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[6999]

(2773) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ ابْنُ عَبْدَةَ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَأَخْرَجَهُ مِنْ قَبْرِهِ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قريبًا.

3 -

(عَمْرُو) بن دينار الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، أبو محمد المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

4 -

(جَابِرُ) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام الأنصاريّ، ثم السِّلَميّ -بفتحتين- الصحابيّ ابن صحابيّ، غزا تسع عشرة غزوةً، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقيان ذُكرا في الإسنادين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (429) من رباعيّات الكتاب، وفيه جابر بن عبد اللَّه الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وأحد المكثرين السبعة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ عَمْرٍو) الأثرم المكيّ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا) رضي الله عنه (يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم-

ص: 218

قَبْرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ) زاد في رواية النسائيّ: "وقد وُضع في قبره، فوقف عليه"، (فَأَخْرَجَهُ)؛ أي: أمر بإخراجه (مِنْ قَبْرِهِ)؛ أي: فأُخرج له منه، (فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ) الشريفتين (وَنَفَثَ عَلَيْهِ) قال في "المصباح": نَفَثَه من فِيهِ، نفْثًا، من باب ضَرَبَ: رَمَى به، ونَفَثَ: إذا بَزَق، ومنهم من يقول: إذا بَزَقَ، ولا ريق معه. انتهى

(1)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: النَّفْث -بالنون، والفاء، والثاء-: شَبيه بالنفخ، وهو أقلّ من التفْل، قاله في "الصحاح"، و"المحكم"، و"النهاية"، زاد في "النهاية": لأن التَّفْل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق، وقال في "الصحاح": أولُهُ البَزْقُ، ثم التَّفْلُ، ثم النَّفْثُ، ثم النَّفْخُ، ثم قال في "المحكم": وقيل: هو التفل بعينه، وحَكَى في "المشارق" كونَ التفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق، عن أبي عُبيد، ثم قال: وقيل: هما سواء، يكون معهما ريق، وقيل: بعكس الأول. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قول من قال: إن النفث يكون معه ريق، هو الأشبه؛ لأنه يؤيّده قوله بعده:(مِنْ رِيقِهِ)، و"من" تبعيضية؛ أي: نفث صلى الله عليه وسلم عليه بعض ريقه المبارك.

قال ابن بطال رحمه الله: فيه حجة على من قال: إن ريق ابن آدم، ونُخامته نجس، وهو قول يُروَى عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، والعلماءُ كلهم على خلافه، والسننُ وردت بردّه، فمعاذ اللَّه أن يكون ريق النبيّ صلى الله عليه وسلم نجسًا، ونفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه وسلم عَلَّمَنَا النظافة، والطهارة، وبه طهّرنا اللَّه تعالى من الأدناس. انتهى.

(مِنْ رِيقِهِ) صلى الله عليه وسلم، وهو بكسر الراء: هو ماء الفم، ويؤنّث، فيقال: رِيقةٌ، وقيل: التأنيث بالهاء للوحدة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

(وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ)؛ أي: ألبس النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد اللَّه بن أُبيّ قميصه الذي كان يلبسه صلى الله عليه وسلم تبريكًا له.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 615 - 616.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 281.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 248.

ص: 219

وظاهر هذا الحديث يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم إنما ألبسه قميصه بعد إدخاله حفرته، وهو مخالف لِمَا سيأتي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث إن ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أُبيّ جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه له، وأمره أن يُؤْذنه بالصلاة، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر إلخ، فإن ظاهره أنه أعطاه قميصه أول وفاته، قبل دفنه، وإدخاله في حفرته.

وقد جُمع بينهما بأن معنى قوله في حديث ابن عمر: "فأعطاه"؛ أي: أنعم له بذلك، فأَطلق على الْعِدَّةِ اسم العطيّة مجازًا، لتحقّق وقوعها، وكذا قوله في حديث جابر:"بعدما دُفن عبد اللَّه بن أُبيّ"؛ أي: دُلّي في حفرته، وكأن أهل عبد اللَّه بن أبيّ خَشُوا على النبيِّ صلى الله عليه وسلم المشقّة في حضوره، فبادروا إلى تجهيزه قبل وصول النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما وصل وجدهم قد دلُّوه في حفرته، فأمر بإخراجه، إنجازًا لوعده في تكفينه في القميص، والصلاة عليه، واللَّه أعلم.

وقيل: أعطاه صلى الله عليه وسلم أحد قميصيه أَوَّلًا، ثم لمّا حضر أعطاه الثاني بسؤال ولده، وفي "الإكليل" للحاكم ما يؤيّد ذلك، وقيل: ليس في حديث جابر دلالة على أنه ألبسه قميصه بعد إخراجه من القبر؛ لأن لفظه: "فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه"، والواو لا ترتّب، فلعلّه أراد أن يذكر ما وقع في الجملة من إكرامه له من غير إرادة ترتيب

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا التأويل الأخير عندي هو الأقرب، والأشبه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (فَاللَّهُ أَعْلَمُ)؛ أي: بحال عبد اللَّه بن أُبَيّ، هل هو ممن يستحق قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فيه، أم لا؟ وهذا من كلام جابر رضي الله عنه، كما صرّح به عند النسائيّ، ولفظه: قال جابر: "وصلى عليه، واللَّه أعلم"، ولفظ "الكبرى":"قال جابر: واللَّه أعلم". وقد وقع مثله في حديث ابن عباس، عن عمر رضي الله عنهم، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 4/ 9، "كتاب الجنائز" رقم (1270).

ص: 220

مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 6999 و 7000](2773)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1270 و 1350) و"الجهاد"(3008) و"اللباس"(5795)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2901 و 2019 و 2020) وفي "الكبرى"(2028 و 2146 و 2147)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(6/ 40)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 381)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3174)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 458)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 138)، و (الضياء) في "المختارة"(10/ 163)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 402)، وفوائده تأتي في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور بعده -إن شاء اللَّه تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7000]

(. . .) - (حَدَّثنِي أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ بَعْدَمَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ. فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ سُفْيَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُويسُفَ الأَزْدِيُّ) هو: أحمد بن يوسف بن خالد، أبو الحسن النيسابوريّ المعروف بحمدان، ثقةٌ حافظ [11](ت 264) وله ثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 6/ 90.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم، المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فأَضلٌ يُدَلِّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين، وقيل: جاز المائة، ولم يثبت (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِا سُفْيَانَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن جريج.

ص: 221

[تنبيه]: رواية ابن جريج عن عموو بن دينار هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7001]

(2774) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ، فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ"، قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، أبو عثمان، ثقةٌ ثبتٌ، قدّمه أحمد بن صالح على مالك في نافع، وقدّمه ابن معين في القاسم عن عائشة على الزهريّ عن عروة عنها [5] مات سنة بضع و (140)(ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

2 -

(نَافِعٌ) أبو عبد اللَّه المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ مشهور [3](ت 117) أو بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 28/ 222.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو أُسامة" هو: حمّاد بن أُسامة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبيد اللَّه، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية تابعي، عن تابعي، وأن صحابيه أحد العبادلة الأربعة، وأحد المشهورين بالفتوي، وأحد المكثرين السبعة، روى (2630) حديثًا، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 222

شرح الحديث:

(عَن) عبد اللَّه (بْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما، أنه (قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ) ذكر الواقديّ، ثم الحاكم في "الإكليل" أنه مات بعد منصرفهم من تبوك، وذلك في ذي القعدة سنة تسع، وكانت مدّة مرضه عشرين يومًا، ابتداؤها من ليال بقيت من شوّال، قالوا: وكان قد تخلّف هو، ومن تبعه عن غزوة تبوك، وفيهم نزلت:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47].

قال الحافظ: وهذا يدفع قولَ ابن التين: إن القصة كانت في أول الإسلام، قبل تقرير الإحكام. انتهى

(1)

.

(جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) ووقع في رواية الطبريّ، من طريق الشعبيّ:"لمّا احتُضر عبد اللَّه، جاء ابنه عبد اللَّه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيّ اللَّه، إن أَبِي قد احتُضر، فأحبّ أن تشهده، وتصلي عليه"، قال:"ما اسمك؟ " قال: الْحُبَاب -يعني: بضم المهملة، وموحّدتين مخففًا- قال:"بل أنت عبد اللَّه، الحُبَاب اسم الشيطان".

وكان عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أُبيّ هذا من فضلاء الصحابة، وشهد بدرًا، وما بعدها، واستُشهد يوم اليمامة، في خلافة أبي بكر الصدّيق.

ومن مناقبه أنه بلغه بعض مقالات أبيه، فجاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، يستأذنه في قتله، قال:"بل أَحْسِنْ صحبته"، أخرجه ابن منده، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد حسن.

وفي الطبرانيّ من طريق عروة بن الزبير، عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبيّ أنه استأذن، نحوه، وهذا منقطع؛ لأن عروة لم يدركه.

وكأنه كان يَحْمِل أمر أبيه على ظاهر الإسلام، فلذلك التمس من النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحضر عنده، ويصلي عليه، ولا سيِّما، وقد ورد ما يدلّ على أنه فعل ذلك بعهد من أبيه، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد الرزّاق، عن معمر، والطبريُّ من طريق سعيد، كلاهما عن قتادة: قال: أرسل عبد اللَّه بن أُبَيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال:"أهلكك حبّ يهود"، فقال: "يا رسول اللَّه، إنما

(1)

"الفتح" 15/ 190، "كتاب التفسير" رقم (4670).

ص: 223

أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتوبّخني، ثم سأله أن يعطيه قميصه يكفَّن فيه، فأجابه"، وهذا مرسل، مع ثقةٌ رجاله، ويعضده ما أخرجه الطبرانيّ، من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: "لمّا مَرِضَ عبد اللَّه بن أُبيّ، جاءه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكلّمه، فقال: قد فَهِمْتُ ما تقول، فامنن عليّ، فكفّنّي في قميصك، وصلّ عليّ، ففعل".

وكأن عبد اللَّه بن أُبيّ أراد بذلك دفع العار عن ولده، وعشيرته، بعد موته، فأظهر الرغبة في صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، ووقعت إجابته إلى سؤاله بحسب ما، ظهر من حاله، إلى أن كشف اللَّه الغطاء عن ذلك.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا من أحسن الأجوبة فيما يتعلّق بهذه القصّة. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بـ "جاء"، (فَسَأَلَهُ)؛ أي: سأل عبد اللَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ، يُكَفِّنُ فِيهِ)؛ أي: في ذلك القميص (أَبَاهُ) رجاء بركة ما مسّ جسده صلى الله عليه وسلم، وفي رواية النسائيّ:"فَقَالَ: أَعْطِنِي قَمِيصكَ، حَتَّى أُكَفّنَهُ فِيه، وَصلِّ عَلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ". (فَأَعْطَاهُ) صلى الله عليه وسلم قميصه، وهذا يدلّ على أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى قميصه لعبد اللَّه بن أُبيّ بسبب طلب ولده له، لكن ثبت في حديث جابر رضي الله عنه ما يدلّ على أنه إنما أعطاه مكافأة على إعطائه قميصه لعمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، ويُجاب بأنه لا تنافي بين السببين؛ إذ يمكن أن يعطيه لهما جميعًا، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ سَأَلَهُ)؛ أي: سأل عبد اللَّه النبي صلى الله عليه وسلم (أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ)؛ أي: على أبيه، (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) من مجلسه (لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ).

(فَقَامَ عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَأَخَذَ بِثَوْب رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية:"فجذبه عمر"، وفي رواية ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: "قال: لما مات عبد اللَّه بن أبيّ ابن سَلُولَ، دُعي له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فلما قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إليه، فقلتُ: يا رسول اللَّه أتصلي على ابن أبيّ، وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟، قال: أُعدّد عليه قوله. . . . الحديث، يشير عمر رضي الله عنه بذلك إلى مثل

(1)

"الفتح" 10/ 190 - 191.

ص: 224

قوله: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]، وإلى مثل قوله:{لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، قاله في "الفتح"

(1)

.

(فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟) وفي رواية البخاريّ: "وقد نهاك ربك أن تصلي عليه"، قال في "الفتح": كذا في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استُشكل جدًّا، حتى أقدم بعضهم، فقال: هذا وَهَمٌ من بعض رواته، وعاكسه غيره، فزعم أن عمر اطَّلع على نهي خاصّ في ذلك، وقال القرطبيّ: لعلّ ذلك وقع في خاطر عمر، فيكون من قبيل الإلهام، ويَحْتَمِل أن يكون فَهِم ذلك من قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113].

قال الحافظ: قلت: الثاني -يعني: ما قاله القرطبيّ- أقرب من الأول؛ لأنه لم يتقدّم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث:"قال: فأنزل اللَّه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة: 84]، والذي يظهر أن في هذه الرواية تجوّزًا، بيّنَتْهُ الرواية الأخرى بلفظ: "فقال: تصلي عليه، وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم؟ ".

وروى عبد بن حميد، والطبريّ، من طريق الشعبيّ، عن ابن عمر، عن عمر:"قال: لمّا أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يصلي على عبد اللَّه بن أُبيّ، فأخذتُ بثوبه، فقلت: واللَّه ما أمر اللَّه بهذا، لقد قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] "، ووقع عند ابن مردويه، من طريق سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: فقال عمر: أتصلي عليه، وقد نهاك اللَّه أن تصلي عليه؟ قال:"أين؟ " قال: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية.

فكأن عمر رضي الله عنه قد فَهِم من الآية المذكورة ما هو الأكثر الأغلب من لسان العرب، من أن "أو" ليست للتخيير، بل للتسوية في عدم الوصف المذكور؛ أي: إن الاستغفار لهم، وعدم الاستغفار سواء، وهو كقوله تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، لكن الثانية أصرح، ولهذا ورد أنها نزلت بعد هذه القصّة.

(1)

"الفتح" 10/ 191.

ص: 225

وفَهِم عمر أيضًا من قوله: {سَبْعِينَ مَرَّةً} أنها للمبالغة، وأن العدد المعيّن لا مفهوم له، بل المراد: نفي المغفرة لهم، ولو كثر الاستغفار، فيحصل من ذلك النهي عن الاستغفار، فأطلقه.

وفَهِم أيضًا أن المقصود من الصلاة على الميت طلب المغفرة للميت، والشفاعة له، فلذلك استلزم عنده النهيُ عن الاستغفار تركَ الصلاة، فلذلك جاء عنه في هذه الرواية إطلاق النهي عن الصلاة، ولهذه الأمور استنكر إرادة الصلاة على عبد اللَّه بن أُبيّ

(1)

.

وقال الحافظ رحمه الله في موضع آخر من "الفتح": وقد وقفت لأبي نعيم الحافظ، صاحب "حِلْية الأولياء" على جزء جمع فيه طرق هذا الحديث، وتكلم على معانيه، فلخصته: فمن ذلك أنه قال: وقع في رواية أبي أسامة وغيره، عن عبيد اللَّه الغمَريّ في قول عمر:"أتصلي عليه، وقد نهاك اللَّه عن الصلاة على المنافقين؟ "، ولم يُبيّن محلّ النهي، فوقع بيانه في رواية أبي ضَمْرة، عن العُمَريّ، وهو أن مراده بالصلاة عليهم: الاستغفار لهم، ولفظه:"وقد نهاك اللَّه أن تستغفر لهم"، قال: وفي قول ابن عمر: "فصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وصلّينا عليه" أن عمر ترك رأي نفسه، وتابع النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونبّه على أن ابن عمر حمل هذه القصّة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بغير واسطة، بخلاف ابن عباس، فإنه إنما حملها عن عمر؛ إذ لَمْ يشهدها، إلى آخر ما سيأتي في المسألة الثالثة، عند ذكر فوائد الحديث -إن شاء اللَّه تعالى-.

قال: هذا تقرير ما صدر عن عمر رضي الله عنه، مع ما عُرف من شدة صلابته في الدين، وكثرة بُغضه للكفّار والمنافقين، وهو القائل في حقّ حاطب بن أبي بَلْتَعَة، مع ما كان له من الفضل، كشهوده بدرًا، وغير ذلك، لكونه كاتب قريشًا قبل الفتح: دعني يا رسول اللَّه، أضرب عنقه، فقد نافق، فلذلك أقدم على كلامه للنبيّ صلى الله عليه وسلم بما قال، ولم يلتفت إلى احتمال إجراء الكلام على ظاهره، لِمَا غلب عليه من الصلابة المذكورة.

وقال الزين ابن المنيّر رحمه الله: وإنما قال ذلك عمر رضي الله عنه حرصًا على

(1)

"الفتح" 10/ 191 - 192.

ص: 226

النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومشورةً، لا إلزامًا، وله عوائد بذلك، ولا يبعد أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان أذن له في مثل ذلك، فلا يستلزم ما وقع من عمر أنه اجتهد مع وجود النصّ، كما تمسّك به قوم في جواز ذلك، وإنما أشار بالذي ظهر له فقط، ولهذا احْتَمَل منه النبيّ صلى الله عليه وسلم أخْذه بثوبه، ومخاطبته له في مثل ذلك المقام، حتى التفت إليه، متبسمًا، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بذلك. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ) وفي رواية: "أنا بين خِيرتين" بكسر الخاء، وفتح الياء، أو سكونها؛ أي: بين اختيارين، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الْخِيرةُ": اسم من الاختيار، مثلُ الفِدْيَة، من الافتداء، والْخِيَرَة -بفتح الياء- بمعنى الخِيَار، والْخِيَار هو الاختيار، ومنه يقال: له خيار الرؤية، ويقال: هي اسمِّ من تخيّرت الشيءَ، مثلُ الطِّيَرَة، اسمٌ مِن تَطَيَّر، وقيل: هما لغتان بمعنى واحد، ويؤيّده قول الأصمعيّ: الْخِيَرَةُ بالفتح، والإسكانُ ليس بمختار، وفي التنزيل:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]. وفي "البارع": خِرْتُ الرجلَ على صاحبه، أَخِيُرُ، من باب باع، خِيَرًا، وِزانُ عِنَبٍ، وخِيْرَةً، وخِيَرَةً: إذا فضّلته عليه. وخَيَّرتُهُ بين الشيئين: فوَضتُ إليه الاختيار، فاختار أحدهما، وتَخَيَّره، واستخرتُ اللَّهَ: طلبت منه الْخِيَرَةَ، وهذه خَيْرَتي -بالفتح، والسكون-؛ أي: ما أخذته. انتهى

(2)

.

وقوله: ("إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ)؛ أي: إن اللَّه تعالى خيّرني، بين الاستغفار، وعدمه، فاخترت الاستغفار، (فَقَالَ) اللَّه عز وجل في تخييره:({اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً}، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ") وفي رواية ابن عباس، عن عمر:"فتبسم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال: أَخِّرْ عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خُيّرت، فاخترت، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له، لزدت عليها".

وعند عبد بن حميد، من طريق قتادة، قال: لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قد خيّرني ربي، فواللَّه لأزيدنّ على السبعين"، وأخرجه الطبريّ، من طريق مجاهد مثلَهُ، والطبريّ أيضًا، وابن أبي حاتم، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه مثله.

(1)

"الفتح" 10/ 199.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 185.

ص: 227

قال الحافظ رحمه الله: وهذه طرق، وإن كانت مراسيل، فإن بعضها يعضد بعضًا.

ودلّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم أطال في حال الصلاة عليه، من الاستغفار له، وقد ورد ما يدلّ على ذلك، فذكر الواقديّ، أن مُجَمّعَ بن جارية، قال: ما رأبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أطال على جنازة قطّ ما أطال على جنازة عبد اللَّه بن أُبيّ من الوقوف.

وروى الطبريّ من طريق مغيرة، عن الشعبيّ، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "قال اللَّه تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}، فأنا أستغفر لهم سبعين، وسبعين، وسبعين"

(1)

.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه: (إِنَّهُ مُنَافِقٌ)؛ أي: إن عبد اللَّه بن أُبيّ رجل منافق لا يستحقّ الاستغفار له، (فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم)؛ أي: صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم على عبد اللَّه بن أُبيِّ، مخالفًا لعمر رضي الله عنه.

وإنما لم يأخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقول عمر رضي الله عنه، وصلّى عليه، إجراء له على ظاهر حكم الإسلام، واستصحابًا لظاهر الحكم، ولِمَا فيه من إكرام ولده الذي تحقَّقت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه، ودفع المفسدة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين، ويعفو، ويصفح، ثم أُمر بقتال المشركين، فاستمرّ صَفْحه، وعفوه عمن يظهر الإسلام، ولو كان باطنه على خلاف، ذلك، لمصلحة الاستئلاف، وعدم التنفير عنه، ولذلك قال:"لا يتحدِّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"، فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإسلام، وقلّ أهل الكفر، وذَلُّوا، أُمر بمجاهرة المنافقين، وحَمْلهم على حكم مُرّ الحقّ، ولا سيما، وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك، مما أُمر فيه بمجاهرتهم.

قال الحافظ: وبهذا يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصّة -بحمد اللَّه تعالى-.

وقال الخطابيّ رحمه الله: إنما فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عبد اللَّه بن أبيّ ما فعل؛

(1)

"الفتح" 10/ 193.

ص: 228

لكمال شفقته على من تعلّق بطرف من الدين، ولتطييب قلب ولده عبد اللَّه الرجل الصالح، ولتأليف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يُجب سؤال ابنه، وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سُبّةً على ابنه، وعارًا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نُهي عنه، فانتهى.

وتبعه ابن بطّال، وعبّر بقوله: رجا أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإسلام. وتعقّبه ابن المنيّر بأن الإيمان لا يتبعّض، وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال: أن إيمانه كان ضعيفًا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: إن الإيمان لا يتبعّض فيه نظر لا يخفى؛ إذ الحقّ، والصواب الذي مشى عليه السلف أن الإيمان قول وفعل، ويزيد وينقص، والقول بأنه لا يتبعّض قول من يقول: إن الإيمان هو التصديق فقط، وهذا مذهب المرجئة، ومن سار على دربهم، فالحقّ الذي تدلّ عليه نصوص الكتاب والسُّنَّة أن الإيمان اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، وأنه يزيد وينقص، فتفطّن، ولا تكن أسير التقليد.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد اللَّه بن أُبيّ لكون النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى عليه، وذَهِلَ عن الوارد من الآيات، والأحاديث المصرّحة في حقّه بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شاف في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذِكره في كتب الصحابة، مع شهرته، وذِكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة.

وقد أخرج الطبريّ من طريق سعيد، عن قتادة في هذه القصّة، قال: فأنزل اللَّه تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)} [التوبة: 84]، قال: فذُكر لنا أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "وما يغني عنه قميصي من اللَّه، وإني لأرجو أن يُسلم بذلك ألف من قومه". انتهى

(1)

.

(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ}) متعلق بصفة لـ "أحد"، أو

(1)

"الفتح" 15/ 194.

ص: 229

بحال، من الضمير في قوله:{مَاتَ} ؛ أي: مات متصفًا بصفة النفاق؛ كقولهم: أنت مني؛ يعني على طريقتي، وجملةُ "مات" صفة لـ "أحد" أيضًا، أو حال منه، لوصفه بالجارّ والمجرور؛ إذ القاعدة أن الجملة وشِبهها بعد النكرات صفات، وبعد المعارف أحوال. ({أَبَدًا}) ظرف لـ "لا تصلّ"، وهو لتأييد النفي. ({وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ})؛ يعني: لا تقف عليه، ولا تتولّ دفنه، من قولهم: قام فلان بأمر فلان؛ إذا كفاه أمره، وناب عنه فيه.

وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: يقول جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلِّ يا محمد، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا، ولا تقم على قبره، يقول: ولا تتولَّ دفنه وتقبيره، من قول القائل: قام فلان بأمر فلان، إذا كفاه أمرَه. ({إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ})، يقول: إنهم جحدوا توحيد اللَّه تعالى، ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم، وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمرَ اللَّه ونهيه. انتهى

(1)

.

قال الزجاج: معنى قوله: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره، ودعا له، فمُنِع هنا منه، وقيل: معناه: لا تقم بمهمات إصلاح قبره، وجملة:{إِنَّهُمْ كَفَرُوا} تعليل للنهي، وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر؛ لأن الكافر قد يكون عدلًا في دينه، والكذب، والنفاق، والخداع، والجبن، والخبث، مستقبحة في كل دين

(2)

.

[تنبيه]: قال في "الفتح": ظاهر الآية يدلّ على أنها نزلت في جميع المنافقين، لكن ورد ما يدلّ على أنها نزلت في عدد معيّن منهم، قال الواقديّ: أنبأنا معمر، عن الزهريّ، قال حذيفة: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني مسرّ إليك سرًّا، فلا تذكره لأحد، إني نُهيت أن أصلي على فلان وفلان، رهط، ذوي عدد، من المنافقين؛ قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة، فإن مشى مشى معه، وإلا لم يصلّ عليه"، ومن طريق أخرى، عن جبير بن مطعم، أنهم اثنا عشر رجلًا، قال الحافظ: ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك أن اللَّه علم أنهم يموتون على الكفر، بخلاف مَن

(1)

"تفسير الطبريّ" 14/ 405.

(2)

"فتح القدير" للشوكانيّ 3/ 296.

ص: 230

سواهم، فإنهم تابوا. انتهى

(1)

.

زاد في الرواية التالية: "فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ" وفي حديث ابن عباس، عن عمر:"فصلى عليه، ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرًا حتى نزلت"، زاد ابن إسحاق في "المغازي"، قال: حدّثني الزهريّ بسنده، قال:"فما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه اللَّه". وزاد في رواية لابن إسحاق: "ولا قام على قبره". ورَوَى عبد الرزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال:"لما نزلت: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] "، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لأزيدنّ على السبعين"، فأنزل اللَّه تعالى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]"، ورجاله ثقات، مع إرساله، ويَحْتَمِل أن تكون الآيتان نزلتا معًا في ذلك، وزاد في رواية ابن عباس، عن عمر، قال: "فعجبت بعدُ من جُرْأَتي على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، واللَّه ورسوله أعلم".

وقوله: "واللَّه ورسوله أعلم" ظاهره أنه قولى عمر، ويَحْتَمِل أن يكون قول ابن عباس، وقد روى الطبريّ من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في نحو هذه القصّة: قال ابن عباس: "فاللَّه أعلم أيّ صلاة كانت، وما خادع محمد أحدًا قطّ"، ذكره في "الفتح"

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7001 و 7002](2774)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1269) و"التفسير"(4670 و 4672) و"اللباس"(5796)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3098)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1900) و"الكبرى"(2027)، و (ابن ماجه) في "الجنائز"(1523)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18)، و (الطبريّ) في "التفسير"(17050)، و (ابن حبّان) في

(1)

"الفتح" 10/ 196.

(2)

"الفتح" 10/ 190 - 196.

ص: 231

"صحيحه"(3175)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17051)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(5/ 287)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده

(1)

:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، فقد عَلِم ما كان من هذا المنافق، من الإيذاء له، وقابله بالحسنى، وألبسه قميصه كفنًا، وصلى عليه، واستغفر له، فهو كما وصفه اللَّه سبحانه وتعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4].

2 -

(ومنها): أنه قد تمسك بهذه القصّة من جعل مفهوم العدد حجةً، وكذا مفهوم الصفة من باب أَولى، ووجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم فَهِم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، فقال:"سأزيده على السبعين".

وأجاب من أنكر القول بالمفهوم بما وقع في بقية القصّة، وليس ذلك بدافع للحجّة؛ لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين المبالغة لكان الاستدلال بالمفهوم باقيًا.

3 -

(ومنها): النهي عن الصلاة على الكافر إذا مات على كفره.

4 -

(ومنها): جواز التكفين في القميص

(2)

، وهو القول الراجح من أقوال العلماء في ذلك.

5 -

(ومنها)

(3)

: أن فيه جواز الشهادة على المرء بما كان عليه حيًّا وميتًا، لقول عمر رضي الله عنه:"إن عبد اللَّه بن أُبيّ منافق"، ولم يُنكر النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه قولَهُ.

6 -

(ومنها): أنه يؤخذ منه أن المنهيّ عن سبّ الأموات ما قُصد به الشتم، لا التعريف.

7 -

(ومنها): أن المنافق تُجْرَى عليه أحكام الإسلام الظاهرة.

(1)

المراد: الفوائد التي اشتمل عليها الحديث بطرقه، وألفاظه المختلفة المذكورة في الشرح، لا خصوص سياق مسلم، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"الفتح" 10/ 199.

(3)

ما بعد هذا من الفوائد هو تَتِمّة ما نُقل عن أبي نعيم صاحب "الحلية" في كلامه على هذا الحديث، كما تقدّمت الإشارة إليه، فتنبّه.

ص: 232

8 -

(ومنها): أن الإعلام بوفاة الميت مجرّدًا لا يدخل في النعي المنهيّ عنه.

9 -

(ومنها): جواز سؤال الموسر من المال من تُرجى بركته شيئًا من ماله لضرورة دينية.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قالوا، وفيه أن هذا مما لم يثبت فعل السلف به مع غير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل القرون مع أبي بكر، ولا مع عمر، ولا مع غيرهما من الخلفاء رضي الله عنهم، ومع من بعدهم، فالظاهر أنه خاصّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

10 -

(ومنها): رعاية الحيّ المطيع بالإحسان إلى الميت العاصي.

11 -

(ومنها): جواز التكفين بالمخيط.

12 -

(ومنها): جواز تأخير البيان عن وقت النزول إلى وقت الحاجة.

13 -

(ومنها): العمل بالظاهر إذا كان النصّ محتملًا.

14 -

(ومنها): تنبيه المفضول للفاضل على ما يظنّ أنه سها فيه.

15 -

(ومنها): تنبيه الفاضل المفضول على ما يُشكل عليه.

16 -

(ومنها): استفسار السائل المسؤول، وعكسه عما يَحْتَمِل مما دار بينهما.

17 -

(ومنها): جواز التبسّم في حضور الجنازة عند وجود ما يقتضيه، وقد استحبّ أهل العلم عدم التبسّم من أجل تمام الخشوع، فيستثنى منه ما تدعو إليه الحاجة.

هكذا قالوا، وفيه نظر؛ إذ يَحْتَمل أن يكون تبسّمه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن يأتي إلى الجنازة، هذا هو الظاهر من مراجعة عمر رضي الله عنه له، فتأمّل، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة):

استُشكِلَ فهمُ التخيير من قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين، وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث، وقلّة الاطلاع على طرقه.

ص: 233

قال ابن المنيّر: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال: لا يجوز أن يُقبل هذا، ولا يصحّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله. انتهى.

ولفظ القاضي أبي بكر الباقلّانيّ في "التقريب": هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يُعلم ثبوتها.

وقال إمام الحرمين في "مختصره": هذا الحديث غير مخرّج في "الصحيح"، وقال في "البرهان": لا يصححه أهل الحديث.

وقال الغزالي في "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال الدارديّ الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.

والسبب في إنكارهم صحته ما تقرّر عندهم مما قدمناه، وهو الذي فهمه عمر رضي الله عنه من حَمْل "أو" على التسوية؛ لِمَا يقتضيه سياق القصّة، وحَمْل السبعين على المبالغة.

قال ابن المنيّر: ليس عند أهل البيان تردد أن التخصيص بالعدد في هذا السياق غير مراد. انتهى.

وأيضًا فشرط القول بمفهوم الصفة، وكذا العدد عندهم مماثلة المنطوق للمسكوت، وعدم فائدة أخرى، وهنا للمبالغة فائدة واضحة، فأشكل قوله:"سأزيد على السبعين" مع أن حُكم ما زاد عليها حُكمها.

وقد أجاب بعض المتأخرين عن ذلك بأنه إنما قال: "سأزيد على السبعين" استمالةً لقلوب عشيرته، لا أنه إن زاد على السبعين يُغفر له، ويؤيّده تردده في قوله:"لو أعلم أني إن زدت على السبعين يُغفر له لزدت"، لكن ثبتت الرواية بقوله:"سأزيد" ووعْدُهُ صادق، ولا سيما، وقد ثبت قوله:"لأزيدنّ" بصيغة المبالغة في التأكيد.

وأجاب بعضهم باحتمال أن يكون فَعَلَ ذلك استصحابًا للحال؛ لأن جواز المغفرة بالزيادة كان ثابتًا قبل مجيء الآية، فجاز أن يكون باقيًا على أصله في الجواز، وهذا جواب حسن.

وحاصله: أن العمل بالبقاء على حكم الأصل مع فهم المبالغة لا يتنافيان، فكأنه جوّز أن المغفرة تحصل بالزيادة على السبعين، لا أنه جازم بذلك، ولا يخفى ما فيه.

ص: 234

وقيل: إن الاستغفار يتنزّل منزلة الدعاء، والعبد إذا سأل ربّه حاجة، فسؤاله إياه يتنزّل منزلة الذكر، لكنه من حيث طلب تعجيل حصول المطلوب ليس عبادة، فإذا كان كذلك، والمغفرة في نفسها ممكنة، وتعلّق العلم بعدم نفعها لا بغير ذلك، فيكون طلبها لا لغرض حصولها، بل لتعظيم المدعوّ، فإذا تعذّرت المغفرة عُوّض الداعي عنها بما يليق به، من الثواب، أو دفع السوء، كما ثبت في الخبر، وقد يحصل بذلك عن المدعوّ لهم تخفيف، كما في قصّة أبي طالب، هذا معنى ما قاله ابن المنيّر.

قال الحافظ: وفيه نظر لأنه يستلزم مشروعية طلب المغفرة لمن تستحيل المغفرة له شرعًا، وقد ورد إنكار ذلك في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 113].

ووقع في أصل القصّة إشكال آخر، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أطلق أنه خُيّر بين الاستغفار لهم، وعدمه بقوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وأخذ بمفهوم العدد من السبعين، فقال:"سأزيد عليها"، مع أنه سبق قبل ذلك بمدّة طويلة نزول قوله تعالى:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]، فإن هذه الآية نزلت في قصّة أبي طالب، حين قال صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرنّ لك، ما لم أُنْهَ عنك"، فنزلت، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقًا، وقصة عبد اللَّه بن أُبيّ هذه في السنة التاسعة من الهجرة، كما تقدّم، فكيف يجوز مع ذلك الاستغفار للمنافقين مع الجزم بكفرهم في نفس الآية؟.

قال الحافظ: وقد وقفت على جواب لبعضهم عن هذا، حاصله أن المنهي عنه استغفارٌ تُرجَى إجابته حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما في قصّة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد اللَّه بن أُبيّ، فإنه استغفار لقصد تطييب قلوب من بقي منهم.

قال الحافظ: وهذا الجواب ليس بمرضي عندي، ونحوه قول الزمخشريّ، فإنه قال:

فإن قلت: كيف خفي على أفصح الخلق، وأَخبَرِهم بأساليب الكلام، وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد أن الاستغفار، ولو كثر لا يُجدي، ولا سيما

ص: 235

وقد تلاه قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الآية [التوبة: 80]، فبيَّن الصارف عن المغفرة لهم؟

قلت: لم يَخفَ عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته، ورأفته على من بُعث إليهم، وهو كقول إبراهيم عليه السلام:{وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36]، وفي إظهار النبيّ صلى الله عليه وسلم الرأفة المذكورة لُطف، بأمته، وباعث على رحمة بعضهم بعضًا. انتهى.

وقد تعقّبه ابن المنيّر وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللَّه أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان اللَّه لا يغفر لهم، فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم.

ومنهم من قال: إن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركًا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإسلام؛ لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا.

وهذا جواب جيّد، وقد رجّح الحافظ في تفسير "سورة القصص" أن نزول الآية، كان متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًّا، وأن الذي نزل في قصته:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الآية [القصص: 56].

قال: إلا أن في بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا باللَّه ورسوله ما يدلّ على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصّة، ولعلّ الذي نزل أوّلًا، وتمسّك به النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] إلى هنا خاصّة، ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذِكر السبعين، فلما وقعت القصّة المذكورة كشف اللَّه عنهم الغطاء، وفَضَحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا باللَّه، ورسوله.

قال: وإذا تأمل المنصف وجد الحامل لمن ردّ الحديث، أو تعسّف في التأويل ظَنُّهُ بأن قوله:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} نزل مع قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: نزلت الآية كاملة؛ لأنه لو فُرض نزولها كاملة لاقترن بالنهي العلة، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار، وكثيره لا يُجدي، وإلا فإذا فُرض ما حرّرته أن هذا القَدْر نزل متراخيًا عن صدر الآية ارتفع الإشكال، وإذا كان الأمر كذلك، فحجة المتمسّك من القصّة بمفهوم العدد صحيح، وكون

ص: 236

ذلك وقع من النبيّ صلى الله عليه وسلم متمسّكًا بالظاهر على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك لا إشكال فيه، فللَّه الحمد على ما ألهم، وعلّم. انتهى كلام الحافظ ملخصًا

(1)

، وهو بحث جيدٌ، وكلام مفيد، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7002]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: قَالَ: فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن يحيى الْيَشْكُريّ، أبو قدامة السَّرَخْسِيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سُنّيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) هو: يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

و"عُبَيْدُ اللَّهِ" هو: العُمريّ، ذُكر قبله.

وقوله: (وَزَادَ: قَالَ: فَتَرَكَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ) فاعل "زاد" ضمير يحيى القطّان، وفاعل "قال إلخ" ضمير ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد القطّان عن عبيد اللَّه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(5460)

- حدّثنا صَدَقة، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن عبيد اللَّه، قال: أخبرني نافع، عن عبد اللَّه، قال: لَمّا تُوُفّي عبد اللَّه بن أُبَيّ جاء ابنه إلى

(1)

"الفتح" 197 - 199، "كتاب التفسير" رقم (4670).

ص: 237

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول اللَّه أعطني قميصك، أكفنه فيه، وصَلِّ عليه، واستغفِر له، فأعطاه قميصه، وقال:"إذا فرغت منه، فآذنّا"، فلما فرغ آذنه به، فجاء ليصلي عليه، فجذبه عمر، فقال: أليس قد نهاك اللَّه أن تصلي على المنافقين؟ فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، فنزلت:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ، فترك الصلاة عليهم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7003]

(2775) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ. قُرَشِيَّانِ، وَثَقَفِيٌّ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ، وَقُرَشِيٌّ، قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ وَقَالَ الآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا، وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا، وَقَالَ الآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} الآيَةَ [فصلت: 22]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، نزيل مكة، نُسب لجدّه، ويقال: إن أبا عمر كنية يحيى، صدوقٌ، صنّف "المسند" وكان لازم ابن عيينة، لكن قال أبو حاتم: كانت فيه غفلة [10](ت 243)(م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، أبو محمد الإمام الشهير، تقدم قبل ثلاثة أحاديث.

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد اللَّه السّلميّ، أبو عَتّاب -بمثناة ثقيلة، ثم موحّدة- الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلِّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

4 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- أبو الحجاج

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2184.

ص: 238

المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ إمام في التفسير، وفي الفقه [3](ت 1 أو 2 أو 3 أو 104) وله ثلاث وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

5 -

(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد اللَّه بن سَخْبرة -بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموَحّدة- الأزديّ الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات في إمارة عبيد اللَّه بن زياد (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.

6 -

(ابْنُ مَسْعُودٍ) عبد اللَّه الصحابيّ الشهير، تقدّم رضي الله عنه قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخه، فعدنيّ، ثم مكيّ، وسفيان، وإن كان مكيًّا، إلا أنه كوفي الأصل، وأن فيه رواية ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، على قول من قال: إن منصورًا من صغار التابعين، وإلا ففيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير علماء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ)؛ أي: عند الكعبة؛ لأنه المراد عند الإطلاق؛ إذ صار عَلَمًا بالغلبة، كما قال في "الخلاصة":

وَقَدَ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "الْعَقَبَهْ"

وفي رواية ابن حبّان في "صحيحه": من طريق وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر: ثقفيّ، وختناه قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فتحدثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى اللَّه يسمع ما قلنا؟ وقال الآخر: إذا رفعنا سمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا، فإنه يسمع إذا خفضنا، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل اللَّه:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} الآية [فصلت: 22]

(1)

.

(ثَلَاثَةُ نَفَرٍ: قُرَشِيَّانِ، وَثَقَفِيٌّ) وقوله: (أَوْ) للشكّ من الراوي؛ أي: أو قال: (ثَقَفِيَّانِ، وَقُرَشِيٌّ) قال في "الفتح": هذا الشكّ من أبي معمر راويه عن ابن

(1)

"صحيح ابن حبان" 2/ 117.

ص: 239

مسعود، وهو عبد اللَّه بن سَخْبرة، وقد أخرجه عبد الرزاق من طريق وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود بلفظ:"ثقفيّ، وختناه، قرشيان"، ولم يشكّ، وأخرج مسلم من طريق وهب هذه، ولم يَسُق لفظها، وأخرجه الترمذيّ من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود:"قال: ثلاثة نفر"، ولم ينسبهم.

وذكر ابن بشكوال في "المبهمات" من طريق تفسير عبد الغني بن سعيد الثقفيّ، أحد الضعفاء، بإسناده، عن ابن عباس، قال: القرشي: الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، والثقفيان: الأخنس بن شَرِيق، والآخر لم يُسَمَّ، قال الحافظ: وراجعت التفسير المذكور، فوجدته قال في تفسير قوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]، قال: جلس رجلان عند الكعبة، أحدهما من ثقيف، وهو الأخنس بن شريق، والآخر من قريش، وهو الأسود بن عبد يغوث، فذكر الحديث، وفي تنزيل هذا على هذا ما لا يخفى.

وذكر الثعلبيّ، وتبعه البغويّ أن الثقفيّ: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، والقرشيان: صفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف، وذكر إسماعيل بن محمد التيميّ في "تفسيره" أن القرشيّ: صفوان بن أمية، والثقفيان: ربيعة وحبيب ابنا عمرو، فاللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

(قَلِيلٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، كَثِيرٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ) قال في "الفتح": كذا للأكثر بإضافة "بطون" لـ "شحم"، وإضافة "قلوب" لـ "فقه"، وتنوين "كثيرةٌ"، و"قليلةٌ"، وفي رواية سعيد بن منصور، والترمذيّ من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود:"كثيرٌ شحم بطونهم، قليلٌ فقه قلوبهم"، وذكره بعض الشراح بلفظ إضافة شحم إلى كثيرة، وبطونهم بالرفع، على أنه المبتدأ؛ أي: بطونُهم كثيرة المشحم، والآخر مثله، وهو مُحْتَمِلٌ، وقد أخرجه ابن مردويه من وجه آخر بلفظ:"عظيمةٌ بطونهم، قليل فقههم"، وفيه إشارة إلى أن الفطنة قلما تكون مع الْبِطْنة، قال الشافعيّ: ما رأيت سمينًا عاقلًا إلا محمد بن الحسن. انتهى.

وقال في "العمدة": قوله: "كثيرة شحم بطونهم" بإضافة بطونهم إلى شحم، وكذا إضافة قلوبهم إلى قوله: فقه، وكثيرة وقليلة منوّنتان، هكذا عند

(1)

"الفتح" 10/ 565، "كتاب التفسير" رقم (4816).

ص: 240

الأكثرين، ويروى: كثير، وقليل، بدون التاء، وقال الكرمانيّ: وجه التأنيث إما أن يكون الشحم مبتدأ، واكتسب التأنيث من المضاف إليه، و"كثيرة" خبره، وإما أن تكون التاء للمبالغة، نحو: رجل علّامة. انتهى

(1)

.

وقال في موضع آخر: قوله: "كثيرة شحم بطونهم" إشارة إلى وَصْفهم، فقوله:"بطونهم" مبتدأ، و"كثيرةُ شحمٍ" خبره، و"كثيرة" مضافة إلى "شحم"، هذا إذا كان "بطونهم" مرفوعًا، وإذا كان مجرورًا بالإضافة يكون "شحم" الذي هو مضاف مرفوعًا بالابتداء، و"كثيرة" خبره مقدمًا، واكتسب "شحم" التأنيث من المضاف إليه، إن كانت "كثيرة" غير مضافة، وكذلك الكلام في "قليلة فقه قلوبهم". انتهى

(2)

.

(فَقَالَ أَحَدُهُمْ)؛ أي: أحد الثلاثة المجتمعين عند البيت، (أَتَرَوْنَ) بضمّ حرف المضارعة، ويجوز فتحها؛ أي: أتظنّون، وقوله:(اللَّهَ) هو المفعول الأول، وقوله:(يَسْمَعُ) هو المفعول الثاني، (مَا نَقُولُ)"ما" موصولة مفعول "يسمع"، والعائد محذوف؛ لكونه فضلة، قال في "الخلاصة":

. . . . . . . . . . . . .

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَـ "نَرْجُو يَهَبْ"

أي: الذي نقوله.

(وَقَالَ الآخَرُ:) هكذا نُسخ مسلم: "وقال" بالواو، وهذا وقع في "صحيح ابن حبّان"، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"قال الآخر"، بدون واو، وهو الظاهر؛ لأنه جواب لِمَا قبله، فلا حاجة إلى الواو، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(يَسْمَعُ) اللَّه تعالى ما نقوله (إِنْ جَهَرْنَا، وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا) ويُروى: "إن خافتنا"، وهو نحوه؛ لأن المخافتة، والْخَفْت: إسرار النطق. (وَقَالَ الآخَرُ)؛ أي: الثالث: (إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا، فَهُوَ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا) ووجه الملازمة فيما قال: "إن كان يسمع" هو أن نسبة جميع المسموعات إلى اللَّه تعالى على السواء، قاله في "العمدة".

وفي رواية البخاريّ: "فقال بعضهم لبعض: أترون أن اللَّه يسمع حديثنا،

(1)

"عمدة القاري" 19/ 155.

(2)

"عمدة القاري" 25/ 178.

ص: 241

قال بعضهم: يسمع بعضه، وقال بعضهم: لئن كان يسمع بعضه، لقد يسمع كلّه"، قال في "الفتح"؛ أي: لأن نسبة جميع المسموعات إليه واحدة، فالتخصيص تَحَكّم، وهذا يُشعر بأن قائل ذلك كان أفطن أصحابه، وأَخْلِق به أن يكون الأخنس بن شَرِيق؛ لأنه أسلم بعد ذلك، وكذا صفوان بن أمية. انتهى

(1)

.

(فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت: 22]) هذا تقريع لهم، وتوبيخ من جهة اللَّه سبحانه وتعالى، أو من كلام الجلود؛ أي: ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرًا من شهادة الجوارح عليكم، ولمّا كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا: تَرْك المعصية. وقيل: معنى الاستتار: الاتقاء؛ أي: ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة، فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة.

وقوله: ({أَنْ يَشْهَدَ}) في محل نصب على العلّة؛ أي: لأجل أن تشهد، أو مخافةَ أن تشهد، وقيل: منصوب بنزع الخافض، وهو الباء، أو عن، أو من، وقيل: إن الاستتار مُضَمَّن معنى الظنّ؛ أي: وما كنتم تظنون أن تشهد، وهو: بعيد. ({عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} الآيَةَ).

وتمام القراءة: {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] من المعاصي، فاجترأتم على فعلها. قيل: كان الكفار يقولون: إن اللَّه لا يعلم ما في أنفسنا، ولكن يعلم ما نُظهر دون ما نُسرّ. قال قتادة: الظنّ هنا بمعنى: العلم، وقيل: أريد بالظنّ معنى مجازّيًا يعمّ معناه الحقيقي، وما هو فوقه من العلم، والإشارة بقوله:{وَذَلِكُمْ} [فصلت: 23] إلى ما ذُكر من ظنهم، وهو مبتدأ وخبره قوله:{ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} [فصلت: 23]، وقوله:{أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] خبر آخر للمبتدأ. وقيل: إن "أرداكم" في محل نصب على الحال المقدّرة. وقيل: إن {ظَنُّكُمُ} [فصلت: 23] بدل من {وَذَلِكُمْ} [فصلت: 23]، و {الَّذِي ظَنَنْتُمْ} [فصلت: 23] خبره، و {أَرْدَاكُمْ} خبر آخر، أو حال، وقيل: إن {ظَنُّكُمُ} [فصلت: 23] خبر أوّل، والموصول وَصِلته خبر ثان،

(1)

"الفتح" 10/ 565.

ص: 242

و {أَرْدَاكُمْ} خبر ثالث، والمعنى: أن ظنكم بأن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون أهلككم، وطرحكم في النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: الكاملين في الخسران، قاله الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: اختَلَف أهل التأويل في معنى قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} ، فقال بعضهم: معناه: وما كنتم تستخفون. وقال آخرون: معناه: وما كنتم تتقون. وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كنتم تظنون.

ثم قال ابن جرير: وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وما كنتم تَستَخْفُون، فتتركوا ركوب محارم اللَّه في الدنيا حَذَرًا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم اليوم.

وإنما قلنا: ذلك أَولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لأن المعروف من معاني الاستتار: الاستخفاء.

فإن قال قائل: وكيف يستخفي الإنسان عن نفسه مما يأتي؟.

قيل: قد بيَّنا أن معنى ذلك إنما هو الأماني، وفي تركه إتيانه إخفاؤه عن نفسه.

وقوله: ({وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}) يقول جلّ ثناؤه: ولكن حسبتم حين ركبتم في الدنيا من معاصي اللَّه أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون من أعمالكم الخبيثة، فلذلك لم تستتروا أن يشهد عليكم سمعكم وأبصاركم وجلودكم، فتتركوا ركوب ما حرّم اللَّه عليكم. انتهى

(2)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قوله: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} ؛ أي: تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه، بل كنتم تجاهرون اللَّه بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال: {. . . وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ

(1)

"فتح القدير" 6/ 351.

(2)

"تفسير الطبريّ" 21/ 454 - 455.

ص: 243

كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ}؛ أي: هذا الظن الفاسد -وهو اعتقادكم أن اللَّه لا يعلم كثيرًا مما تعملون- هو الذي أتلفكم، وأرداكم عند ربكم، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}؛ أي: في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم، وأهليكم. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: وجه إدراج مسلم هذا الحديث في "كتاب صفات المنافقين"، وإن كانت الآية نزلت في المشركين المجاهرين، لا في المنافقين المضمرين: الإشارة إلى أن ما يُضمره المنافقون في صدورهم من النفاق سببه أنهم يظنّون أن اللَّه لا يعلم ذلك منهم؛ ولذلك يصرّون عليه، ولا يتوبون منه، كما يفعل هؤلاء المشركون سواءً

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7003 و 7004](2775)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4816 و 4817) و"التوحيد"(7521) وفي "خلق أفعال العباد"(1/ 64،)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3248)، و (الحميديّ) في "مسنده"(87)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 381 و 408 و 426 و 443 و 444)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(390 و 391)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 112 و 113)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 130)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 177)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه أهل الشرك من الجهل والضلال، حيث إنهم لا يعلمون أن اللَّه عز وجل يعلم سرّهم، كما يعلم جهرهم سواء.

3 -

(ومنها): ما قيل: في الحديث من الفقه إثبات القياس الصحيح،

(1)

"تفسير ابن كثير" 7/ 172.

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 97.

ص: 244

وإبطال الفاسد، فالذي قال: يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا، قد أخطأ في قياسه؛ لأنه شبّه اللَّه تعالى بخلقه الذين يسمعون الجهر، ولا يسمعون السرّ، والذي قال: إن كان يسمع إن جهرنا، فإنه يسمع إذا أخفينا، أصاب في قياسه، حيث لم يشبّه اللَّه بالمخلوقين، ونزّهه عن مماثلتهم.

[فإن قلت]: الذي أصاب في قياسه كيف وُصِف بقلة الفقه؟.

[قلت]: "لأنه لم يعتقد حقيقة ما قال، ولم يقطع به، بل قال: إن كان"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7004]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ- حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (ح)، وَقَالَ

(2)

: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِنَحْوِهِ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ) هو: محمد بن خلّاد بن كثير البصريّ، ثقةٌ [10](ت 240) على الصحيح (م د س ق) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الإمام الثوريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُلَيْمَانُ) بن مهران الأعمش، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عُمَارَةُ بْنُ عُمَيْرٍ) التيميّ الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4] مات بعد المائة، وقيل: قبلها بسنتين (ع) تقدم في "الصلاة" 29/ 977.

5 -

(وَهْبُ بْنُ رَبِيعَةَ) الكوفيّ، مقبول [3].

رَوَى عن ابن مسعود حديث الباب فقط، وروى عنه عُمارة بن عُمير، ذكره ابن حبان في "الثقات".

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له عندهما إلا هذا الحديث.

(1)

"عمدة القاري" 25/ 179.

(2)

قوله: "وقال: حدّثنا"؛ يعني: أبا بكر بن خلاد الباهليّ.

ص: 245

والباقون ذُكروا قبله، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

وقوله بعد التحويل: (وَقَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى) فاعل "قال" ضمير أبي بكر بن خلّاد شيخ المصنّف، ووقع في بعض النسخ ما نصّه:"وقال: حدّثنا؛ يعني: أبا بكر بن خلاد الباهليّ".

و"يحيى" هو ابن سعيد القطان المذكور قبله، و"سفيان" هو: الثوريّ.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رواية الأعمش هذه، ودونك نصّه في "العلل"

(881)

- وسئل عن حديث وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود قال:"إني لمستتر بأستار الكعبة في ثلاثة نفر، ثقفيّ، وختناه قرشيان، كثير شحوم بطونهم، قليل فقه قلوبهم. . . " الحديث، وفيه فأنزل اللَّه عز وجل:{وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} . . . الحديث.

فقال: يرويه الأعمش، واختُلف عنه، فرواه الثوريّ عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد اللَّه، وتابعه عبد اللَّه بن بشر الرّقّيّ، عن الأعمش.

ورواه أبو معاوية الضرير، وقطبة بن عبد العزيز، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه، قال قطبة: قلت للأعمش: إن سفيان الثوريّ يقول: هو وهب بن ربيعة، قال: فأطرق، ثم هَمْهَم ساعةً، ثم رفع رأسه، فقال: صدق سفيان، هو وهب بن ربيعة.

وخالفهم أبو مريم عبد الغفار، فرواه عن الأعمش، عن عمارة، عن زيد بن وهب الجهنيّ، عن عبد اللَّه.

ورواه الحسن بن عُمارة، والمسعوديّ، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه، ووَهِمَا فيه.

ورواه شعبة عن الأعمش، عن رجل، عن عبد اللَّه.

والقول قول سفيان الثوريّ، وعبد اللَّه بن بشر.

ورواه زيد بن أبي أنيسة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد اللَّه. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 278 - 279.

ص: 246

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أنه يرى ترجيح رواية الأعمش عن عمارة بن عُمير، عن وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهي التي اختارها مسلم رحمه الله في هذا الباب، وكذا رجح أبو زرعة الرازيّ، فقد نقل ذلك عنه ابن أبي حاتم في "العلل"، وعبارته فيها:

(1791)

- سئل عن الأعمش، عن عمارة عبد اللَّه بن مسعود قال: إني لمستتر إلخ، ثم قال: ورواه أبو معاوية، وعليّ بن مسهر، وابن أبي زائدة، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد اللَّه، وذكر الحديث.

قال أبو زرعة: كان الأعمش قديمًا قال: عن وهب بن ربيعة، والثوريّ أحفظهم كلّهم. انتهى

(1)

.

والحاصل: أن رواية مسلم من طريق الأعمش صحيحة

(2)

.

[فإن قيل]: كيف أخرج مسلم لوهب بن ربيعة، وهو مجهول العين، إذ لم يرو عنه إلا عمارة بن عمير، ولم يوثّقه إلا ابن حبّان؟.

[قلت]: إنما أخرج له مسلم متابعةً لرواية أبي معمر السابقة، ومعلوم أن المتابعة يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في الأصول، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أما رواية وهب بن ربيعة، عن ابن مسعود رضي الله عنه هذه فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(391)

- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا محمد بن كثير، قال: أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن وهب هو ابن ربيعة، عن ابن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر: ثقفيّ، وخَتَناه، قرشيان، كثير شحم بطونهم، قليل فقههم، فتحدثوا الحديث بينهم، فقال أحدهم: أترى اللَّه يسمع ما قلنا؟ وقال الآخر: إذا رفعنا سمع، وإذا خفضنا لم يسمع، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا رفعنا، فإنه يسمع إذا خفضنا، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فأنزل اللَّه: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ

(1)

"علل الحديث" لابن أبي حاتم 2/ 99.

(2)

وقد أجاد الشيخ ربيع المدخلي في دراسته: "بين الإمامين" فراجعه ص 419 - 422.

ص: 247

سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت: 22]. انتهى

(1)

.

وقد ساقها الدارقطنيّ رحمه الله أيضًا في "العلل" بسند مسلم، فقال:

حدّثنا محمد بن إبراهيم بن نيروز، وأبو عليّ محمد بن سليمان بن عليّ المالكيّ بالبصرة، قالا: ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد القطّان، ثنا سفيان الثوريّ، حدّثني الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: إني لمستتر بأستار الكعبة، إذ جاء ثلاثة نفر: ثقفيّ، وختناه قرشيان، فتحدثوا بينهم بحديث، فقال أحدهم: أترى اللَّه يسمع ما قلنا؟ فقال أحدهم: أراه يسمع إذا رفعنا، ولا يسمع إذا خفضنا، قال: وقال الآخران: إن كان يسمع منه شيئًا، فإنه يسمعه كلّه، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، قال: فنزلت هذه الآية: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ} حتى بلغ: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]. لفظ ابن نيروز.

حدّثنا محمد بن سليمان المالكيّ، ومحمد بن إبراهيم بن نيروز، قالا: أنبأ أبو موسى محمد بن المثنى، ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه نحوه، تفرد به يحيى القطان، عن سفيان، عن منصور. انتهى

(2)

.

وأما رواية سفيان الثوريّ، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد اللَّه، فلم أجد من ساقها، وقد أخرجها البخاريّ في "صحيحه"، لكنه أحالها مثل مسلم، ولم يَسُق متنها، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7005]

(2776) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيٍّ -وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ- قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ، يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ، فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَكَانَ

(1)

"صحيح ابن حبان" 2/ 117.

(2)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 278 - 279.

ص: 248

أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقْتُلُهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا، فَنَزَلَتْ:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء: 88]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان الْعَنْبَريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ) بن زيد بن حُصين الأنصاريّ الْخَطْميّ -بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة- صحابيّ صغيرٌ، وَلِيَ الكوفة لابن الزبير (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 456.

6 -

(زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) بن الضحاك بن لَوْذان الأنصاريّ النجاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابي المشهور، كَتَبَ الوحيَ، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس، أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنْ عَدِيٍّ) وقوله: (وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ) من قول المصنّف، ويَحْتَمِل أن يكون ممن فوقه، وإنما أتى بـ "وهو"، ولم يقل: عديّ بن ثابت؛ لأن شيخه لم ينسبه إلى أبيه، بل قال: عديّ، فقط، فأراد توضيحه لمن يحدّثهم بأنه ابن ثابت، فزاد كلمة "وهو" فصلًا بين ما رواه عن شيخه، وبين ما زاده هو للإيضاح، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر"، فقال:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ

فَوقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

ص: 249

بِنَحْوِ "يَعْنِي" أَوْ بِـ "أَنَّ" أَوْ بـ "هُوْ"

أَمَّا إِذَا أَتَمَّهُ أَوَّلَهُ

أَجِزْهُ فِي الْبَاقِي لَدَى الْجُمْهُورِ

وَالْفَصْلُ أَوْلَى قَاصِرَ الْمَذْكُورِ

(قَالَ) زيد بن ثابت: (سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ) الْخَطْميّ، حال كونه (يُحَدِّثُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) الأنصاريّ رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى أُحُدٍ)؛ أي: إلى غزوة أُحُد، بضمّتين، وهو الجبل المعروف بالمدينة بينه وبينها أقلّ من فرسخ، وكانت عنده الوقعة المشهورة في شوَّال سنة ثلاث باتّفاق الجمهور، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم البحث في هذا مستوفًى في "كتاب الجهاد". (فَرَجَعَ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ) صلى الله عليه وسلم؛ يعني: عبد اللَّه بن أُبَيّ وأصحابه، وقد ورد ذلك صريحًا في رواية موسى بن عقبة في "المغازي"، وأن عبد اللَّه بن أُبَيّ كان وافق رأيه رأي النبيّ صلى الله عليه وسلم على الإقامة بالمدينة، فلما أشار غيره بالخروج، وأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخّرج، قال عبد اللَّه بن أُبي لأصحابه: أطاعهم، وعصاني، علامَ نقتل أنفسنا؟ فرجع بثلث الناس، قال ابن إسحاق في روايته: فاتّبعهم عبد اللَّه بن عمرو بن حَرَام، وهو والد جابر، وكان خزرجيًّا، كعبد اللَّه بن أُبَيّ، فناشدهم أن يرجعوا، فأبوا، فقال: أبعدكم اللَّه

(1)

. (فَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ فِرْقَتَيْنِ)؛ أي: طائفتين في الحُكم فيمن انصرف مع عبد اللَّه بن أُبيّ. (قَالَ بَعْضُهُمْ)؛ أي: بعض الصحابة، (نَقْتُلُهُمْ)؛ أي: لأنهم خذلوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فيستحقّون القتل، (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا)؛ أي: لا نقتلهم؛ لأنهم مسلمون ظاهرًا، (فَنَزَلَت) الآية الكريمة، وهي قوله عز وجل:({فَمَا لَكُمْ}) الآية، وهذا هو الصحيح في سبب نزولها، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم، عن أبي سعيد بن معاذ، قال: نزلت هذه الآية في الأنصار، خطب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"من لي بمن يؤذيني؟. . . "، فذكر منازعة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأُسيد بن حضير، ومحمد بن مسلمة، قال: فأنزل اللَّه هذه الآية.

وفي سبب نزولها قول آخر، أخرجه أحمد، من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه، أن قومًا أتوا المدينة، فأسلموا، فأصابهم الوباء،

(1)

"الفتح" 9/ 126، "كتاب المغازي" رقم (4050).

ص: 250

فرجعوا، واستقبلهم ناس من الصحابة، فأخبروهم، فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لا، فنزلت.

وأخرجه ابن أبي حاتم، من وجه آخر، عن أبي سلمة مرسلًا، فإن كان محفوظًا احْتَمَل أن تكون نزلت في الأمرين جميعًا

(1)

.

({فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ})"ما" استفهاميّة مبتدأ، والاستفهام فيه للإنكار، و {فِي الْمُنَافِقِينَ} خبر المبتدأ، والمعنى: أي: شيء كائن لكم في أمرهم، وشأنهم، حال كونكم {فِئَتَيْنِ} في ذلك.

وحاصله: الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين.

وقد اختلف النحويون في انتصاب {فِئَتَيْنِ} ، فقال الأخفش، والبصريون: على الحال؛ كقولك: ما لك قائمًا؟، وقال الكوفيون: انتصابه على أنه خبر لـ "كان"، وهي مضمرة، والتقدير: فما لكم في المنافقين كنتم فئتين؟

وقوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} [النساء: 88] معناه: ردّهم إلى الكفر {بِمَا كَسَبُوا} ، وحكى الفراء، والنضر بن شميل، والكسائيّ: أركسهم، وركسهم؛ أي: ردّهم إلى الكفر، ونكسهم، فالركس والنكس: قَلْب الشيء على رأسه، أو ردّ أوله إلى آخره، والمنكوس المركوس، وفي قراءة عبد اللَّه بن مسعود، وأبيّ:"واللَّه ركسهم".

والباء في قوله: {بِمَا} سببية؛ أي: أركسهم بسبب كسبهم، وهو لحوقهم بدار الكفر

(2)

.

وقال أبو جعفر الطبريّ رحمه الله: يعني جل ثناؤه بقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين؟ {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}؛ يعني بذلك: واللَّه رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم، وسَبْي ذراريهم. و"الإركاس": الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت [من الطويل]:

(1)

"الفتح" 9/ 126.

(2)

راجع: "فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 2/ 186.

ص: 251

فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ، إِنَّهُمُ

كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا

يقال منه: "أرْكَسهم" و"رَكَسَهم"، وقد ذُكر أنها في قراءة عبد اللَّه، وأُبَيّ:"واللَّه رَكَسَهُمْ"، بغير ألف. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: زاد البخاريّ في روايته لهذا الحديث في آخره: "وقال: إنها طيبة، تنفي الذنوب، كما تنفي النار خبث الحديد"، وهذه الزيادة أخرجها مسلم في "فضل المدينة" من أواخر "كتاب الحجّ"، وتقدّم شرحها هناك مستوفًى.

قال الحافظ رحمه الله: وهو من نوادر صنيع مسلم، بخلاف البخاريّ، فإنه يقطِّع الحديث كثيرًا في الأبواب. انتهى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7005 و 7006](2776)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1884) و"المغازي"(4050) و"التفسير"(4589)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3028)، و (النسائي) في "الكبرى"(6/ 325)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 372)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5/ 120)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 184 و 187 و 188)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 108)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 31)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7006]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوقٌ، من صغار [10] مات بعد (240)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

(1)

"تفسير الطبريّ" 8/ 7.

ص: 252

2 -

(غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر، ربيب شعبة البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ)؛ يعني: أن كلًّا من يحيى بن سعيد القطّان، ومحمد بن جعفر غُندر رويا هذا الحديث عن شعبة بإسناده الماضي، نحو حديث معاذ بن معاذ المذكور.

[تنبيه]: أما رواية يحيى بن سعيد القطّان عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم.

وأما رواية غندر عن شعبة، فقد ساقها البخاريّ في "صحيحه" مقرونًا بعبد الرحمن بن مهديّ، فقال:

(4313)

- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا غندر، وعبد الرحمن، قالا: حدّثنا شعبة، عن عديّ، عن عبد اللَّه بن يزيد، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} رجع ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم من أُحُد، وكان الناس فيهم فرقتين: فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ، وقال:"إنها طيبة، تنفي الخبث، كما تنفى النار خبث الفضة". انتهى

(1)

.

وساقها الترمذيّ عن غندر وحده، فقال في "جامعه":

(3028)

- حدّثنا محمد بن بشار، حدّثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، قال: سمعت عبد اللَّه بن يزيد، يحدّث عن زيد بن ثابت، في هذه الآية:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} قال: رجع ناس من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، فكان الناس فيهم فرقتين: فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت هذه الآية:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ، وقال:"إنها طيبة -وقال-: إنها تنفي الخبيث، كما تنفي النار خبث الحديد"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وعبد اللَّه بن يزيد هو الأنصاريّ الْخَطْميّ، وله صحبة. انتهى

(2)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1676.

(2)

"سنن الترمذيّ" 5/ 239.

ص: 253

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7007]

(2777) - (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، التَّمِيمِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَحَلَفُوا، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188]).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) الخلّالى، تقدّم قبل باب.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ) أبو بكر البخاريّ، نزيل بغداد، تقدّم قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ) هو: سعيد بن أبي مريم الحكم بن محمد بن سالم المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

5 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) الْعَدويّ مولاهم المدنيّ، تقدّم قريبًا.

6 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الْهِلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة رضي الله عنها، ثقةٌ فاضلٌ، صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2] (94) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

7 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا.

[تنبيه] من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من محمد بن جعفر، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه، من المكثرين السبعة.

ص: 254

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رِجَالًا) لم يُسَمّوا، (مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ)؛ أي: تأخّروا عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم؛ لنفاقهم، (وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ)؛ أي: بقعودهم، يقال: قعد قعودًا، ومقعدًا؛ أي: جلس، وأقعده غيره، ذكر معناه الجوهريّ فهو متعلق بفرحوا؛ أي: فرح المتخلفون بقعودهم (خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بنصب خلاف على أنه ظرف لمقعدهم، قال الأخفش، ويونس: الخلاف بمعنى الخَلْف؛ أي: بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان تخالفها جهة الخَلْف. وقال قطرب، والزجاج: معنى خلاف رسول اللَّه: مخالفة الرسول حين سار، وأقاموا، فانتصابه على أنه مفعول له؛ أي: قعدوا لأجل المخالفة، أو على الحال، مثل:

وَأَرْسَلَهَا الْعِرَاكَ فَلَمْ يَذُدْهَا

أي: حال كونهم مخالفين له صلى الله عليه وسلم.

(فَإِذَا قَدِمَ) بكسر الدال (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) المدينة (اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ)؛ أي: ذكروا له عذرًا مانعًا لهم من الخروج معه صلى الله عليه وسلم، (وَحَلَفُوا) على أن العذر الذي ذكروه عذر واقع لا شكّ فيه، (وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا) بالبناء للمفعول؛ أي: ليحمدهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمون (بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا)؛ أي: بما ليس فيهم من الصدق في اعتذارهم، وحَلِفهم عليه

(1)

. (فَنَزَلَتْ) قال في "الفتح": هكذا ذكر أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه سبب نزول الآية، وأن المراد: من كان يعتذر عن التخلف من المنافقين، وفي حديث ابن عباس الذي بعده أن المراد: من أجاب من اليهود بغير ما سئل عنه، وكتموا ما عندهم من ذلك.

ويمكن الجمع بأن تكون الآية نزلت في الفريقين معًا، وبهذا أجاب القرطبيّ وغيره، وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود: نحن أهل الكتاب الأَوَّل، والصلاة، والطاعة، ومع ذلك لا يُقِرّون بمحمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت:{وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188].

(1)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ" 25/ 350.

ص: 255

وروى ابن أبي حاتم من طرُق أخرى، عن جماعة من التابعين نحو ذلك، ورجّحه الطبريّ، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك، أو نزلت في أشياء خاصّة، وعمومها يتناول كل من أتى بحسنة، ففرح بها فرح إعجاب، وأحب أن يَحمده الناس، ويُثنوا عليه بما ليس فيه، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وفاعل "نزلت" قوله: "لا تحسبنّ الذين. . . إلخ"، لِقَصْد لفظه، فهو محكَيّ.

({لَا تَحْسَبَنَّ}) قرأ الكوفيون بالتاء الفوقية، والخطاب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يصلح له، وقرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو:"لا يحسبنّ" بالياء التحتية؛ أي: لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيًا لهم من العذاب، فالمفعول الأول محذوف، وهو فرحهم، والمفعول الثاني {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ}. ({الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا})؛ أي: بما فعلوا من إضلال الناس، قرأ جمهور القراء السبعة، وغيرهم:{أَتَوْا} بالقصر، وقرأ مروان بن الحكم، والأعمش، وإبراهيم النخعي:"آتوا" بالمد؛ أي: يفرحون بما أعطوا.

({وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا}) بالبناء للمفعول، ({بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}) من التمسّك بالحقّ، وهم على ضلال، ({فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ}) بالتاء الفوقيّة، والياء التحتيّة كما سبق آنفًا. ({بِمَفَازَةٍ})؛ أي: بمكان ينجون فيه ({مِنَ الْعَذَابِ}) في الآخرة، بل هم في مكان يُعذّبون فيه، وهو جهنّم.

وقد اختلف في سبب نزول الآية، كما سيأتي، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملًا بعموم اللفظ، وهو المعتبَر دون خصوص السبب، فمن فرح بما فعل، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب.

وقوله: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيد للفعل الأول على القراءتين، والمفازة: المنجاة، مفعلة من فاز يفوز إذا نجا؛ أي: ليسوا بفائزين، سمِّي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل. قاله الأصمعي. وقيل: لأنها موضع تفويز، ومظنة هلاك، تقول العرب: فوّز الرجل إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابي

(1)

"الفتح" 10/ 21 - 22 "كتاب التفسير" رقم (4567).

ص: 256

قول الأصمعي، فقال: أخطأ. قال لي أبو المكارم: إنما سمِّيت مفازة؛ لأن مَنْ قَطَعها فاز. وقال ابن الأعرابي: بل لأنه مستسلم لِمَا أصابه. وقيل: المعنى: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب؛ لأن الفوز التباعد عن المكروه

(1)

.

وقال القرطبيّ المفسّر رحمه الله: وقوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} [آل عمران: 178]"الذين" فاعل بـ {يَحْسَبَنَّ} بالياء، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وابن كثير، وأبي عمرو؛ أي: لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيًا لهم من العذاب، وقيل: المفعول الأول محذوف، وهو أنفسهم، والثاني {بِمَفَازَةٍ} ، وقرأ الكوفيون:"تحسبن" بالتاء على الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: لا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب، وقوله {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} بالتاء، وفتح الباء، إعادة تأكيد، ومفعوله الأول الهاء والميم، والمفعول الثاني محذوف؛ أي: كذلك، والفاء عاطفة، أو زائدة على بدل الفعل الثاني من الأول.

وقرأ الضحاك، وعيسى بن عمر بالتاء، وضم الباء {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} ، أراد محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

وقرأ مجاهد، وابن كثير، وأبو عمرو، ويحيى بن يعمر بالياء، وضم الباء خبرًا عن الفارحين؛ أي: فلا يحسبن أنفسهم، "بمفازة" المفعول الثاني، ويكون {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تأكيدًا.

وقيل: {الَّذِينَ} فاعل بـ {يَحْسَبَنَّ} [آل عمران: 178] ومفعولاها محذوفان؛ لدلالة {يحسبنهم} عليه، كما قال الشاعر [من الطويل]:

بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ

تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ

استغنى بذكر مفعول الواحد عن ذِكر مفعول الثاني، و"بمفازة" الثاني، وهو بدل من الفعل الأول، فأغنى لإبداله منه عن ذِكر مفعوليه، والفاء زائدة، وقيل: قد تجيء هذه الأفعال ملغاةً لا في حكم الجمل المفيدة.

وقرأ جمهور القراء السبعة، وغيرهم:{أَتَوْا} بقصر الألف؛ أي: بما جاءوا به من الكذب والكتمان.

وقرأ مروان بن الحكم، والأعمش، وإبراهيم النخعيّ:"آتوا" بالمدّ، بمعنى:

(1)

"فتح القدير" 2/ 63.

ص: 257

أعطوا، وقرأ سعيد بن جبير:"أوتوا" على ما لم يسمّ فاعله؛ أي: أُعطوا.

والمفازة: المنجاة، مَفعلة، من فاز يفوز: إذا نجا؛ أي: ليسوا بفائزين.

وسمّي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل، قاله الأصمعيّ. وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوّز الرجل: إذا مات. قال ثعلب: حكيت لابن الأعرابيّ قول الأصمعيّ، فقال: أخطأ، قال لي أبو المكارم: إنما سُمّيت مفازة؛ لأن من قطعها فاز. وقال الأصمعيّ: سُمّي اللديغ سليمًا تفاؤلًا. قال ابن الأعرابي: لأنه مستسلم لِمَا أصابه. وقيل: لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب؛ لأن الفوز: التباعد عن المكروه. واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7007](2777)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4567)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3018)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(47132)، و (الطبريّ) في "التفسير"(8335)، و (البغويّ) في "التفسير"(1/ 384)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 36) وفي "شعب الإيمان"(4/ 199)، وفوائده تأتي في شرح الحديث التالي -إن شاء اللَّه تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7008]

(2778) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ؛ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ -لِبَوَّابِهِ- إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْ: لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى، وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الآيَةِ؟ إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] هَذِهِ الآيَةَ،

(1)

"تفسير القرطبيّ" 4/ 306 - 308.

ص: 258

وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسِ: سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ، فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا قَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ، وَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال البزاز، ثقةٌ [10](ت 243) وقد ناهز الثمانين (م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيّ الأعور، أبو محمد، ترمذيّ الأصل، نزَل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه اختلط في آخر عمره لَمّا قَدِم بغداد قبل موته [9] مات ببغداد سنة (206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

3 -

(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة -بالتصغير- ابن عبد اللَّه بن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة زُهير التيميّ المدنيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

4 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3]

(1)

مات سنة خمس ومائة على الصحيح، وقيل: إن روايته عن عمر مرسلة (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

5 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد اللَّه البحر الحبر، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات سنة ثمان وستين بالطائف رضي الله عنه (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقيان ذُكرا في الباب، وابن جُريج هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُريج.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، فهو ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودعا له صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يُسَمَّى البحر، والحبر؛ لسعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحدٌ، وهو أحد المكثرين السبعة، والعبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.

(1)

هذا أَولى من قول "التقريب": من الثانية، راجع ترجمته في:"التهذيب".

ص: 259

شرح الحديث:

(عَن) عبد الملك بن عبد العزيز (بْنِ جُرَيْجٍ) الأمويّ المكيّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي ابْنُ أَيي مُلَيْكَةَ) صرّح ابن جريج بالإخبار، فزالت عنه تهمة التدليس؛ لأنه مدلّس. (أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ (أَخْبَرَهُ، أَنَّ مَرْوَانَ) بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبا عبد الملك الأمويّ المدنيّ، وُلِي الخلافة في آخر سنة أربع وستين، ومات سنة خمس في رمضان، وله ثلاث، أو إحدى وستون سنةً، ولا تثبت له صحبة، تقدّم في "الصيام" 13/ 2589، وله في "صحيح مسلم" ذِكر بلا رواية، وكان يومئذ أمير المدينة من جهة معاوية. (قَالَ: اذْهَبْ يَا رَافِعُ) وقوله: (لِبَوَّابِهِ)؛ أي: قال هذا الكلام لحارس بابه، قال الحافظ رحمه الله: رافع هذا لم أر له ذكرًا في كتب الرواة، إلا بما جاء في هذا الحديث، والذي يظهر من سياق الحديث أنه توجه إلى ابن عباس، فبلّغه الرسالة، ورجع إلى مروان بالجواب، فلولا أنه معتمَد عند مروان، ما قنع برسالته، لكن قد ألزم الإسماعيليّ البخاريّ أن يصحح حديث بُسْرة بنت صفوان في نقض الوضوء من مسّ الذكر، فإن عروة ومروان اختلفا في ذلك، فبعث مروان حَرَسِيّه إلى بُسْرة، فعاد إليه بالجواب عنها، فصار الحديث من رواية عروة عن رسول مروان، عن بُسْرة، ورسول مروان مجهول الحال، فتوقف عن القول بصحة الحديث جماعة من الأئمة لذلك، فقال الإسماعيليّ: إن القصة التي في حديث الباب شبيهة بحديث بُسْرة، فإن كان رسول مروان معتمَدًا في هذه، فليعتمَد في الأخرى، فإنه لا فرق بينهما، إلا أنه في هذه القصة سَمّى رافعًا، ولم يسمِّ الحرسيّ.

قال: ومع هذا فاختُلف على ابن جريج في شيخ شيخه، فقال عبد الرزاق، وهشام: عنه، عن ابن أبي مُليكة، عن علقمة، وقال حجاج بن محمد: عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن حميد بن عبد الرحمن، ثم ساقه من رواية محمد بن عبد الملك بن جريج، عن أبيه، عن ابن أبي مليكة، عن حميد بن عبد الرحمن، فصار لهشام متابع، وهو عبد الرزاق، ولحجاج بن محمد متابع، وهو محمد، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج، كما قال عبد الرزاق.

ص: 260

قال الحافظ: والذي يتحصل لي من الجواب عن هذا الاحتمال أن يكون علقمة بن وقاص، كان حاضرًا عند ابن عباس لمّا أجاب، فالحديث من رواية علقمة، عن ابن عباس، وإنما قَصّ علقمة سبب تحديث ابن عباس بذلك فقط، وكذا أقول في حميد بن عبد الرحمن، فكأن ابن أبي مليكة حمله عن كل منهما، وحدّث به ابنَ جريج، عن كل منهما، فحدّث به ابنُ جريج تارةً عن هذا، وتارةً عن هذا.

وقد روى ابن مردويه في حديث أبي سعيد ما يدلّ على سبب إرساله لابن عباس، فأخرج من طريق الليث، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: كان أبو سعيد، وزيد بن ثابت، ورافع بن خَدِيج عند مروان، فقال: يا أبا سعيد أرأيت قول اللَّه، فذكر الآية، فقال: إن هذا ليس من ذاك، إنما ذاك أن ناسًا من المنافقين، فذكر نحو حديث الباب، وفيه: فإن كان لهم نصرٌ وفتحٌ حلفوا لهم على سرورهم بذلك؛ ليَحمدوهم على فرحهم وسرورهم، فكأن مروان توقف في ذلك، فقال أبو سعيد: هذا يُعلم بهذا، فقال: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم، صدق.

ومن طريق مالك، عن زيد بن أسلم، عن رافع بن خَديج، أن مروان سأله عن ذلك، فأجابه بنحو ما قال أبو سعيد، فكأن مروان أراد زيادة الاستظهار، فأرسل بوابه رافعًا إلى ابن عباس، يسأله عن ذلك، واللَّه أعلم.

(إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما متعلّق بـ "اذهب"، (فَقُلْ) له:(لَئِنْ) اللام هي الموطّئة للقَسَم، و"إن" شرطيّة؛ أي: واللَّه لئن (كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا)؛ أي: المسلمين، (فَرِحَ بِمَا أَتَى) بالقصر؛ أي: بما فَعَل، ولفظ "أتى"، و"جاء" يجيئان بمعنى فعل، قال اللَّه عز وجل:{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 61]، {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} [مريم: 27]

(1)

.

ويَحْتَمِل أن يكون "آتى" بالمدّ، بمعنى أعطى، ولفظ البخاريّ:"بما أُوتي" بالبناء للمفعول، (وَأَحَبَّ) عطف على "فَرِحَ"، (أَنْ يُحْمَدَ) بالبناء للمفعول؛ أي: أن يحمده الناس، ويُثنوا عليه (بِمَا لَمْ يَفْعَلْ) من أنواع

(1)

"عمدة القاري" 18/ 157.

ص: 261

الخيرات، (مُعَذَّبًا) منصوب على أنه خبر "كان"، وقوله:(لَنُعَذَّبَنَّ) بضمّ النون، وتشديد الذال المعجمة، مبنيّ للمفعول، جواب القسم المقدّر، كما أسلفته، وقوله:(أَجْمَعُونَ) بالرفع توكيد لنائب فاعل "نعذّبنّ"، ووقع في رواية بلفظ:"أجمعين".

(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما: (مَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ الآيَةِ؟)"ما" استفهاميّة، والاستفهام هنا للإنكار؛ أي: أيُّ شيء ثبت لكم، ولهذه الآية؛ يعني: أنها ليست لكم، وإنما هي لأهل الكتاب، كما بيّنه بقوله:("إِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أهْلِ الْكِتَابِ) قال في "العمدة": هذا إنكار من ابن عباس رضي الله عنهما على السؤال بهذه المسألة على الوجه المذكور، وأن أصل هذا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا يهود إلى آخره.

وحاصل شبهة مروان أن كلًّا منّا يفرح بما يعمل من الخير، وربّما يُحبّ أن يُحمد بما لم يعمل، وإن اللَّه سبحانه وتعالى قد ذمّ هذا الصنيع، وأخبر أنه موجب للعقاب، ونتيجة ذلك أن يكون كل منّا معذّبًا.

وحاصل جواب ابن عبّاس رضي الله عنهما أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يكتمون أشياء من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويفرحون بكتمانهم، ويُظهرون له خلاف الواقع، ويحبون أن يحمدهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والمسلمون على ما أظهروه من خلاف الواقع، فالموجب للعقاب هو فرحهم بكتمان الحقيقة، وحبّهم للحمد على كذبهم، أما فرح المسلمين بما فعلوه من الحسنة، فهو عاجل بشرى المؤمن، كما جاء في الحديث

(1)

، إذا لم يكن على وجه العُجْب والكِبْر

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما قوله تعالى: ({وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ})، وقوله:(هَذِهِ الآيَةَ)؛ أي: قرأ ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه الآية بتمامها، وتمامها قوله تعالى:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].

(1)

أخرج مسلم في "صحيحه" عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير، ويحمده الناس عليه؟ قال:"تلك عاجل بشرى المؤمن".

(2)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 100.

ص: 262

قال ابن جرير رحمه الله: يعني بذلك تعالى ذكره: واذكر أيضًا من أمر هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم، يا محمد، إذ أخذ اللَّه ميثاقهم، ليبيننّ للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم، وهو التوراة، والإنجيل، وأنك للَّه رسول مرسل بالحق، ولا يكتمونه، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} ، يقول: فتركوا أمر اللَّه، وضيّعوه، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك، فكتموا أمرك، وكذبوا بك، {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} ، يقول: وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوّتك، عوضًا منه خسيسًا قليلًا من عَرَض الدنيا، ثم ذمّ جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك، فقال:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . انتهى

(1)

.

وقال في "فتح القدير": قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب، وهم: اليهود، والنصارى، أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك، والظاهر أن المراد بأهل الكتاب: كل من آتاه اللَّه علم شيء من الكتاب؛ أيُّ كتاب كان، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب، قال الحسن، وقتادة: إن الآية عامّة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب، ويدل على ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه: لولا ما أخذ اللَّه على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية، والضمير في قوله:{لَتُبَيِّنُنَّهُ} راجع إلى الكتاب، وقيل: راجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدّم له ذكر؛ لأن اللَّه أخذ على اليهود والنصارى أن يبيّنوا نبوّته للناس، ولا يكتموها، {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} . وقرأ أبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، وأهل المدينة:"ليبيننه" بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. وقرأ ابن عباس:"وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيين لتبيننه"، ويشكل على هذه القراءة قوله:{فَنَبَذُوهُ} فلا بد من أن يكون فاعله الناس. وفي قراءة ابن مسعود: "لتبينونه"، والنبذ: الطرح، وقد تقدّم في "البقرة":{وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} مبالغة في النبذ، والطرح، وقد تقدّم أيضًا معنى قوله:{وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} والضمير عائد إلى الكتاب الذي أُمروا ببيانه، ونُهوا عن كتمانه، وقوله:{ثَمَنًا قَلِيلًا} ؛ أي: حقيرًا يسيرًا من حُطام الدنيا،

(1)

"تفسير الطبريّ" 7/ 458.

ص: 263

وأعراضها، قوله:{فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} "ما" نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، ويشترون صفة، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي: بئس شيئًا يشترونه بذلك الثمن. انتهى

(1)

.

(وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما أيضًا آية أخرى، وهي قوله تعالى:({لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا}) تقدّم شرح هذه الآية في الحديث الماضي.

(وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما: (سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ) قال الكرمانيّ: قيل: هذا الشيء هو نَعْت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ)؛ أي: كتم يهود الشيء الذي سألهم النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، (وَأَخْبَرُوهُ بغَيْرِهِ)؛ أي: بغير ذلك الشيء المسؤول، (فَخَرَجُوا) من عنده صلى الله عليه وسلم، والحال أَنهم (قَدْ أَرَوْهُ) صلى الله عليه وسلم (أَنْ) مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير محذوف، وقد فُصل بينها وبين خبرها الجملة الفعليّة بـ "قد"، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ تُخَفَّفْ "أَنَّ" فَاسْمُهَا اسْتَكَنّ

وَالْخَبَرَ اجْعَلْ مِنْ بَعْدِ "أَنّ"

وَإِنْ يَكُنْ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ دُعَا

وَلَمْ يَكُنْ تَصْرِيفُهُ مُمْتَنِعَا

فَالأَحْسَنُ الْفَصْلُ بِـ "قَدْ" أَوْ نَفِيٍ أوْ

تَنْفِيسٍ أوْ "لَوْ" وَقَلِيلٌ ذِكْرُ "لَوْ"

أي: أنهم (قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ)؛ أي: بحقيقة الأمر الذي سألهم عنه، وهم كاذبون في ذلك، (وَاسْتَحْمَدُوا)؛ أي: طلبوا الحمد والثناء لهم (بِذَلكَ) الخبر الكذب (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، متعلّق بـ "استحمدوا"، (وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا) بالقصر؛ أي: بالذي فعلوه، وقوله:(مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ) صلى الله عليه وسلم بيان لـ "ما"، وقوله:(مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ)"ما" موصول مفعول ثان لـ "كتمان"؛ لأنه مصدر فعل يتعدّى إلى اثنين، يقال: كَتَمْتُ زيدًا الحديثَ كَتْمًا، من باب قَتَل، وكِتْمانًا، بالكسر، يتعدى إلى مفعولين، ويجوز زيادة "مِنْ" في المفعول الأول، فيقال: كتمت من زيد الحديثَ، مثل بعته الدارَ، وبعت منه الدارَ، ومنه عند بعضهم:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] وهو على التقديم والتأخير، والأصل يكتم من آل فرعون إيمانه، قاله الفيّوميّ رحمه الله. انتهى

(2)

.

(1)

"فتح القدير" 2/ 63.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 525.

ص: 264

فـ "كِتمانهم" مصدر مضاف إلى فاعله، ونصب مفعوليه، وهما قوله:"إياه"، و"ما" من قوله:"ما سألهم"، وإلى هذا أشار في "الخلاصة" بقوله:

وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ

كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ

واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7008](2778)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4568)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3018)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 318)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 298)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 300)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(5/ 378)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.

2 -

(ومنها): بيان فضل ابن عبّاس رضي الله عنهما حيث كان مرجعًا للأمة في فهم كتاب اللَّه عز وجل، وبيان أسباب نزوله، بسبب بركة دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم له بذلك، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وَضوءًا، قال:"من وضع هذا؟ "، فأُخبر، فقال:"اللهم فقّهه في الدين".

وأخرج ابن حبّان في "صحيحه" عن طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كنت في بيت ميمونة بنت الحارث، فوضعت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طهورًا، فقال:"من وضع هذا؟ " قالت ميمونة: عبد اللَّه، فقال صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل".

3 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف من البحث في كتاب اللَّه، وسؤال أهل العلم عنه، والمناقشة فيما بينهم حتى يتّضح الحقّ، لا لمجرّد الاختلاف، ونصرة الرأي، وإنما هو للوصول إلى الحقّ حتى يتَّبعوه، وهكذا ينبغي لطلّاب العلم أن يسلكوا مسلكهم في ذلك، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

ص: 265

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7009]

(2779) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ قَيْسٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أَمْرِ عَلِيٍّ، أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ شَيْئًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَلَكِنْ حُذَيفَةُ أَخْبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ، وَأَرْبَعَةٌ" لَمْ أَحْفَظْ مَا قَالَ شُعْبَةُ فِيهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نرْيل بغداد، يكنى أبا عبد الرحمن، ويُلَقّب شاذان، ثقةٌ [9] مات في أول سنة ثمان ومائتين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.

2 -

(قَتَادَةُ) بن دعامة السَّدُوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو نَضْرَةَ) المنذر بن مالك بن قُطَعة -بضم القاف، وفتح المهملة- العبديّ الْعَوَقيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

4 -

(قَيْسُ) بن عُبَاد -بضمّ العين المهملة، وتخفيف الموحّدة- الضبعيّ، أبو عبد اللَّه البصريّ، مخضرم، ثقة [2] مات بعد الثمانين، ووهم مَن عدّه في الصحابة (خ م د س ق) تقدم في "فضائل الصحابة" 33/ 6361.

5 -

(عَمَّارُ) بن ياسر بن عامر بن مالك الْعَنْسيّ -بنون ساكنة، ومهملة- أبو الْيَقْظَان، مولى بني مخزوم الصحابيّ الجليل المشهور، من السابقين الأولين، بَدريّ، قُتل مع عليّ رضي الله عنهما بصِفِّين سنة سبع وثلاثين (ع) تقدم في "الحيض" 27/ 824.

6 -

(حُذَيْفَةُ) بن اليمان، واسم اليمان حُسَيل -بمهملتين، مصغّرًا- ويقال: حِسْل -بكسر، ثم سكون- الْعَبسيّ -بالموحّدة- حليف الأنصار، الصحابي الجليل، من السابقين، صحّ في مسلم عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعلمه

ص: 266

بما كان، وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيّ أيضًا، استُشهِد بأُحُد، ومات حذيفة في أول خلافة عليّ رضي الله عنهم سنة ست وثلاثين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 457.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وكلاهما من السابقين إلى الإسلام، وفضلاء الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَيْس) بن عُبَاد بفتح العين المهملة، وتخفيف الموحّدة، كما قال في "ألفيّة الأثر":

وَافْتَحْ عَبَادَة أَبَا مُحَمَّدِ

وَاضْمُمْ أَبَا قَيْسٍ عُبَادًا تُرْشَدِ

أنه (قَالَ: قُلْتُ لِعَمَّار) بن ياسر رضي الله عنهما: (أَرَأَيْتُمْ)؛ أي: أخبروني (صَنِيعَكُمْ هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أَمْرِ عَلِيٍّ) رضي الله عنه من مناصرته، والقتال معه في صفّين وغيره، (أَرَأْيًا)؛ أي: اجتهادًا منكم، وهو منصوب على أنه مفعول مطلق لـ (رَأَيْتُمُوهُ)؛ أي: اجتهدتموه، زاد في الرواية التالية:"فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ"، وقوله:(أَوْ شَيْئًا) منصوب على الاشتغال؛ أي: عهد إليكم صلى الله عليه وسلم شيئًا، (عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: أوصاكم، وأمركم به أن تفعلوه معه، يقال: عهِد إليه يَعْهَد، من باب تَعِبَ: أوصاه. (فَقَالَ) عمّار رضي الله عنه: (مَا) نافية، (عَهِدَ إِلَيْنَا) معاشر المقاتلين معه، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ)؛ أي: لم يوص به، (كَافَّةً)؛ أي: جميعًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: وجاء الناس كَافَّةً، قيل: منصوب على الحال، نصبًا لازمًا، لا يُستعمل إلا كذلك، وعليه قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]؛ أي: إلا للناس جميعًا، وقال الفراء في "كتاب معاني القرآن": نُصبت؛ لأنها في مذهب المصدر، ولذلك لم تُدخل العرب فيها الألف واللام؛ لأنها آخر الكلام، مع معنى المصدر، وهي في مذهب قولك: قاموا معًا، وقاموا جميعًا، فلا يُدخلون الألف واللام على معًا، وجميعًا، إذا كانت بمعناها أيضًا، وقال الأزهريّ أيضًا: كَافّةً منصوب على الحال، وهو مصدر على فاعلة؛ كالعافية، والعاقبة،

ص: 267

ولا يُجمع، كما لو قلت: قاتلوا المشركين عامّةً، أو خاصّةً، لا يُثَنَّى ذلك، ولا يُجمع. انتهى

(1)

.

(وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ) بن اليمان رضي الله عنهما (أَخْبَرَنِي عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) تفسير لمعنى "أخبرني"، ("فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا)؛ يعني: من جملة من يُنسب إلى صحبتي في الظاهر، وإلا فالمنافق لا يُسمّى صحابيًّا، وفي الرواية التالية:"إن في أمتي اثنا عشر منافقًا"، وإنما خصّ اثني عشر في هذا الحديث مع أن المنافقين كانوا أكثر من ذلك لسبب يتعلّق بقصّة مخصوصة، أخرجها الطبرانيّ في "الأوسط"، عن حذيفة بن اليمان قال: إني لآخذ بزمام ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقوده، وعمار يسوق به، أو عمار يقوده، وأنا أسوق به، إذ استقبلنا اثنا عشر رجلًا متلثمين، قال:"هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة"، قلنا: يا رسول اللَّه ألا تبعث إلى كل رجل منهم، فتقتله؟، فقال:"أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، وعسى اللَّه أن يَكفيهم بالدبيلة". قلنا: وما الدبيلة؟ قال: "شهاب من نار، يوضع على نياط قلب أحدهم، فيقتله". انتهى

(2)

، وفي سنده عبد اللَّه بن سَلِمة، وثقه جماعة، وقال البخاريّ: لا يتابع على حديثه، قاله الهيثميّ رحمه الله

(3)

.

وأخرج الطبرانيّ أيضًا في "الكبير"، عن صِلَة بن زُفَر، قال: قلنا لحذيفة: كيف عرفت أمر المنافقين، ولم يعرفه أحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر، ولا عمر رضي الله عنهم؟ قال: إني كنت أسير خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنام على راحلته، فسمعت ناسًا منهم يقولون: لو طرحناه عن راحلته، فاندقت عنقه، فاسترحنا منه، فسِرت بينهم وبينه، وجعلت أقرأ، وأرفع صوتي، فانتبه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"من هذا؟ " فقلت: حذيفة، قال:"من هؤلاء؟ " قلت: فلان، وفلان، حتى عددتهم، قال:"وسمعت ما قالوا؟ " قلت: نعم، ولذلك سِررت بينك وبينهم، قال:"فإن هؤلاء فلانًا وفلانًا حتى عدّ أسماءهم منافقون، لا تخبرنّ أحدًا"، وفي إسناده مجالد بن سعيد، وقد اختلط، وضعّفه جماعة، قاله الهيثميّ رحمه الله

(4)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 536.

(2)

"المعجم الأوسط" 8/ 102.

(3)

"مجمع الزوائد" 1/ 109.

(4)

"مجمع الزوائد" 1/ 109.

ص: 268

(فِيهِمْ)؛ أي: في جملة الاثني عشر منافقًا، (ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَلِجَ)؛ أي: يدخل (الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)؛ أي: في ثُقب الإبرة، وهو تعليق بالمحال، والمراد أنهم لا يدخلون الجتة أبدًا، و"الخياط" بكسر الخاء المعجمة: ما يُخاط به؛ كالْمِخيط، وزانُ لِحَاف، ومِلْحف، وإزار، ومِئزر

(1)

.

و"السمّ" مثلّث السين: ثُقب الإبرة، جمعه سِمَام

(2)

.

(ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ) يا حذيفة، أو يا أيها المخاطب، (الدُّبَيْلَةُ") بضمّ الدال المهملة: تصغير دَبْلة بفتح الدال، بمعنى الطاعون، والداهية، وداء في الجوف، كما في "القاموس"، وقال ابن الأثير: الدُّبيلة: هي خُراج ودُمَّل كبير تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالبًا، وهي تصغير دَبْلة، وكل شيء جُمِع فقد دُبِلَ. انتهى

(3)

.

والمعنى: أن ثمانية من هؤلاء المنافقين يموتون بمرض الدُّبيلة، فكأن الدُّبيلة تكفي المسلمين عن شرّهم.

وحاصل جواب عمّار رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأن بعض المنافقين يبقون بعده صلى الله عليه وسلم، فيُثيرون الفتن فيما بين أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكأن عمّارًا رضي الله عنه أشار إلى أن من قام حربًا على عليّ رضي الله عنه إنما فعل ذلك بتدسيس من هؤلاء المنافقين، وكان عليّ رضي الله عنه على الحقّ، فوجب علينا نصره، ومؤازرته، واللَّه تعالى أعلم

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله صلى الله عليه وسلم: "في أصحابي"، فمعناه: الذين يُنسبون إلى صحبتي، كما قال في الرواية الثانية:"في أمتي"، و"سمّ الخياط" بفتح السين، وضمّها، وكسرها، والفتح أشهر، وبه قرأ القراء السبعة، وهو ثُقب الابرة، ومعناه: لا يدخلون الجنة أبدًا، كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدًا، وأما "الدُّبيلة" فبدال مهملة، ثم الجيم، ورُوي:"تكفيهم الدبيلة" بحذف الكاف الثانية، ورُوي:"تَكْفِتُهُم" بتاء مثناة فوقُ بعد الفاء، من الْكَفْت، وهو

(1)

"المصباح المنير" 1/ 186.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 289.

(3)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 99.

(4)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 101 - 102.

ص: 269

الجمع، والستر؛ أي: تجمعهم في قبورهم، وتسترهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَأَرْبَعَةٌ)؛ أي: من الاثني عشر (لَمْ أَحْفَظْ مَا قَالَ شُعْبَةُ فِيهِمْ) هذا كلام الأسود بن عامر، يقول: أما الثمانية فقد حفظت من شعبة ما يُعاقبون به، وهي الدُّبيلة، وأما الأربعة فلم أحفظ ما ذكره من نوع عقوبتهم، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7009 و 7010 و 7011](2779)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 319)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(2/ 465)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 102)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 190)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان اللَّه تعالى يُطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على أعيان المنافقين، فقد أعلمه اللَّه عز وجل أعيان اثني عشر منهم، وأعلمه ما يكون إليه عاقبة أمرهم.

2 -

(ومنها): بيان فضل الصحابيّ الجليل حُذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، حيث كان صلى الله عليه وسلم خصّه بمعرفة أعيان بعض المنافقين، وأمره أن يخبر بهم أحدًا، فكان لا يُخبر بهم، حتى إن عمر رضي الله عنه كان إذا مات شخص تبع حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه، وإلا تركه، وكان رضي الله عنه صاحب سرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ففي "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة.

وأخرج ابن جرير عن قتادة موقوفًا عليه، في قوله تعالى:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة 101] عذاب الدنيا، وعذاب القبر، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] ذُكر لنا أن نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم أسرّ إلى حذيفة باثني عشر رجلًا من المنافقين، فقال: ستة منهم تكفيكهم الدُّبيلة سراج من نار جهنم، يأخذ في

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 125.

ص: 270

كتف أحدهم، حتى يفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا، ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل يُرَى أنه منهم نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه صلى عليه، وإلا تركه، وذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشدك اللَّه أَمِنهم أنا؟ قال: لا، واللَّه، ولا أُؤَمِّن منها أحدًا بعدك.

وأخرج عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في قول اللَّه: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} -إلى قوله- {عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] قال: قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق، اخرج يا فلان، فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسًا منهم فضحهم، فلقيهم عمر، وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، ظنوا أنه قد عَلِم بأمرهم، فجاء عمر، فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلّوا، فقال له رجل من المسلمين: أبْشر يا عمر، فقد فضح اللَّه المنافقين اليوم، فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه بيان أن الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم كانت من الأمور الاجتهاديّة، فكان بعضهم فيها مصيبًا، وبعضهم مجتهدًا مخطئًا، مغفورًا له خطؤه، وكان عليّ رضي الله عنه هو الإمام الحقّ.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه السلف في تتبّع الأمور، وسؤال الصحابة رضي الله عنهم عن حقيقتها، حتى يتوصّلوا إلى الحقيقة، فيُعطوا كل ذي حقّ حقّه، ويعذروا، ويستغفروا لمن أخطأ في اجتهاده، وهكذا ينبغي للمسلمين أن يسلكوا مسلكهم، ولا يقعوا في بعض الصحابة رضي الله عنهم بأهوائهم، فيجرحوهم، فيقعوا في خطر عظيم، فقد أخرج البخاريّ عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مدّ أحدهم، ولا نصيفه".

وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما أدرك مدّ أحدهم، ولا نصيفه".

(1)

"تفسير الطبري" 11/ 10.

ص: 271

وأخرج الترمذيّ عن عبد اللَّه بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه"

(1)

.

اللَّهُمَّ ارزقنا التأدّب مع أصحاب رسولك صلى الله عليه وسلم، واحفظنا من عثرات اللسان، ومن سوء اعتقاد الجَنان في أولياء الرحمن، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7010]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ، قَالَ: قُلْنَا لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتَ قِتَالَكُمْ أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ، فَإِنَّ الرَّأْيَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، أَوْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي أُمَّتِي"، قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ، وَقَالَ غُنْدَرٌ: أُرَاهُ قَالَ: "فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا، لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا، حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ، سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ

(2)

، يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ، حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببُندار، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ)؛ أي: أظن قتادة، (قَالَ) عمّار:(حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه.

وقوله: (وَقَالَ غُنْدَرٌ) محمد بن جعفر: (أُرَاهُ)؛ أي: أظنّ شعبة (قَالَ) في روايته لهذا الحديث ("فِي أُمَّتِي اثْنَا عَشَرَ مُنَافِقًا) بدل قوله في الرواية السابقة: "في أصحابي اثنا عشر منافقًا"، وهؤلاء المنافقون هم الذين قصدوا الفتك

(1)

رواه الترمذيّ، وفي سنده مجهول.

(2)

وفي نسخة: "من نار".

ص: 272

بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة مرجعه من تبوك، حين أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم مع عمّار وحذيفة طريق الثنيّة، والقوم بطن الوادي، فطمِع اثنا عشر رجلًا في المكر به صلى الله عليه وسلم، فاتّبعوه ساترين وجوههم، غير أعينهم، فلما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم خشفة القوم من ورائه أمر حذيفة أن يردّهم، فخوّفهم اللَّه تعالى حين أبصروا حذيفة، فرجعوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، فأدرك حذيفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة:"هل عرفت أحدًا منهم؟ " قال: لا، فإنهم كانوا متلثّمين، ولكن أعرف رواحلهم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه أخبرني بأسمائهم، وأسماء آبائهم، وسأخبرك بهم -إن شاء اللَّه تعالى- عند الصباح"، فمن ثمّ كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، قيل: أسرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر هذه الفئة المشؤومة؛ لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم، ذكره في "المبارق"

(1)

.

وقوله: (وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا)؛ أي: يشمّونها، وهو كناية عن شدّة بُعدهم، وعدم قربهم من الجنّة، فهم محرومون منها أبدًا.

وقوله: (سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ) وفي بعض النسخ: "سراج من نار"؛ أي: التهاب من نار، وهو تفسير للدُّبيلة؛ يعني: أن دُمّلًا يظهر في أكتافهم، وفيه حمرة، وحرارة كأنها سِراج من نار، وفي رواية للطبرانيّ:"شهاب من نار".

وقوله: (يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ) بفتح الهمزة: جمع كَتِفٍ، بفتح الكاف، وكسر التاء، وبتسكينها مع فتح الكاف، وكسرها، وإنما جَمَعه نظرًا إلى أفرادهم، وإلا فلكل إنسان كتفان، والكتفان هما: العظمان الناتئان في أعلى الظهر، بينه وبين الرقبة؛ يعني: أن الدّبيلة سراج من نار؛ أي: دُمّل يظهر في أكتافهم، وفيه حمرة وحرارة، كأنها سراج، وشُعلة من نار يدخل في جوفهم.

وقوله: (حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ) بضمّ الجيم، من باب نصر؛ أي: حتى يطلع، ويخرج من صدروهم؛ يعني: يحدث في أكتافهم جراح تظهر حرارتها من صدورهم، فتقتلهم، وهذا تفسير من النبيّ صلى الله عليه وسلم للدُّبيلة، عبّر عنها بالسراج، وهو شُعلة المصباح للمبالغة، قاله في "المبارق"

(2)

.

(1)

راجع: هامش النسخة التركيّة 8/ 123.

(2)

راجع: هامش النسخة التركيّة 8/ 123.

ص: 273

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم تمام البحث فيه في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7011]

(. . .) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ، وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ

(1)

، كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟ قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ، قَالَ: كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ، فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ للَّهِ، وَلِرَسُولِهِ، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً، قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، وَقَدْ كَانَ فِي حَرَّةٍ، فَمَشَى، فَقَالَ:"إِنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ، فَلَا يَسْبِقُنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ"، فَوَجَدَ قَوْمًا قَدْ سَبَقُوهُ، فَلَعَنَهُمْ يَوْمَئِذٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن الزبير بن عُمر بن درهم الأسديّ الزبيريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 314.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ) هو: الوليد بن عبد اللَّه بن جُميع الزهريّ المكيّ، نزيل الكوفة، صدوقٌ، يَهِمُ، ورُمي بالتشيع [5](بخ م د ت س) تقدم في "الجهاد والسير" 33/ 4630.

3 -

(أَبُو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد اللَّه بن عمرو بن جَحْش الليثيّ، وربما سُمّي عمرًا، وُلد عام أُحُد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، فمن بعده وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة، قاله مسلم وغيره (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو

(1)

وفي نسخة: "أنشدك اللَّه".

ص: 274

مسلسل بالتحديث، وأن فيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن أبا الطفيل آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم على الإطلاق، كما أسلفته آنفًا.

شرح الحديث:

عن أبي الطُّفَيْلِ عامر بن واثلة رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ) اسمه وديعة بن ثابت، كما بُيّن في رواية الطبرانيّ في "الكبير"، لكنه جعل الكلام بينه وبين عمّار رضي الله عنه، ويمكن أن يتكرّر، واللَّه تعالى أعلم.

قال النوويّ رحمه الله: هذه العقبة ليست العقبة المشهورة بمنى التي كانت بها بيعة الأنصار رضي الله عنهم، وإنما هذه عَقبة على طريق تبوك، اجتمع المنافقون فيها للغدر برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، في غزوة تبوك، فعصمه اللَّه تعالى منهم. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا الحديث يُشكل على المبتدئين؛ لأن أهل العقبة إذا أُطلقوا، فإنما يشار بهم إلى الأنصار المبايعين له صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من ذاك، وإنما هذه عَقبة في طريق تبوك، وقف فيها قوم من المنافقين؛ لِيَفتكوا به صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسنده عن أبي الطفيل قال: لَمّا أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أمر مناديًا فنادى: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آخذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوقه عمار، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غَشُوا عمّارًا، وهو يسوق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحذيفة:"قُدْ قُدْ"، حتى هبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزل، ورجع عمار، فقال:"يا عمار هل عرفت القوم؟ " فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال:"هل تدري ما أرادوا؟ " قال: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"أرادوا أن يُنَفِّروا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيطرحوه. . . " الحديث

(2)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":

(23843)

- حدثنا يزيد

(3)

أنا الوليد -يعني: ابن عبد اللَّه بن جُميع- عن أبي الطفيل، قال: لمّا أقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديًا، فنادى أن

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 125 - 126.

(2)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 257.

(3)

هو: ابن هارون.

ص: 275

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَخَذ العقبة، فلا يأخذها أحد، فبينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة، ويسوق به عمّارٌ، إذ أقبل رهط متلثمون على الرواحل، غَشُوا عمارًا، وهو يسوق برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لحذيفة:"قُدْ قُدْ" حتى هبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما هبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزل، ورجع عمّارٌ، فقال:"يا عمار هل عرفت القوم؟ " فقال: قد عرفت عامة الرواحل، والقوم متلثمون، قال:"هل تدري ما أرادوا؟ " قال: اللَّه ورسوله أعلم، قال:"أرادوا أن يُنَفِّروا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيطرحوه". قال: فسأل عمار رجلًا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: نشدتك باللَّه، كم تعلم كان أصحاب العقبة؟ فقال: أربعة عشر، فقال: إن كنت فيهم، فقد كانوا خمسة عشر، فعَذَر

(1)

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثةً، قالوا: واللَّه ما سمعنا منادي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وما علمنا ما أراد القوم، فقال عمار: أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب للَّه ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

قال الوليد: وذكر أبو الطفيل في تلك الغزوة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال للناس، وذكر له أن في الماء قلةً، فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مناديًا، فنادى أن لا يَرِدَ الماء أحد قَبْل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوَرَده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوجد رهطًا قد ورَدُوه قبله، فلعنهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومئذ. انتهى

(2)

.

وقال الطبرانيّ في "الكبير":

(3016)

- حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا مصعب بن عبد اللَّه الزبيريّ، حدّثنا محمد بن عمر الواقديّ، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: كان بين عمار بن ياسر ووديعة بن ثابت كلام، فقال وديعة لعمار: إنما أنت عبد أبي حذيفة بن المغيرة ما أعتقك بعدُ، قال عمار: كم كان أصحاب العقبة؟ فقال: اللَّه أعلم، قال: أخبرني عن علمك، فسكت وديعة، فقال من حضره: أخبره عما سألك، وإنما أراد عمار أن يُخبره أنه كان فيهم، فقال: كنا نتحدث أنهم أربعة عشر رجلًا،

(1)

وقع في النسخة: "فعدد" وهو غلط.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 453، ورجال إسناده رجال الصحيح، وأخرجه أيضًا الطبرانيّ في "المعجم الكبير"، وقال الهيثميّ: رجاله ثقات.

ص: 276

فقال عمار: فإن كنت فيهم، فإنهم خمسة عشر، فقال وديعة: مهلًا يا أبا اليقظان، أنشدك اللَّه أن تفضحني، فقال عمار: واللَّه ما سميت أحدًا، ولا أسميه أبدًا، ولكني أشهد أن الخمسة عشر رجلًا اثنا عشر منهم حرب للَّه، ولرسوله في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية مسلم واضحة في أن الكلام جرى بين حذيفة ورجل من أهل العقبة، ولكن روايات أحمد والطبرانيّ متّفقة على أنه جرى بين عمار وبين الرجل، ويُمكن أن يجاب بأن القصّتين وقعتا، أو يقال: ما في "الصحيح" أصحِّ، واللَّه تعالى أعلم.

(وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما (بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ)؛ أي: من المنازعة، والمشاغبة، وقال القرطبيّ رحمه الله: وعنى أبو الطفيل بقوله: "بعض ما يكون بين القوم": الملاحاة، والمعاتبة التي تكون غالبًا بين الناس. انتهى. (فَقَالَ) الرجل الذي نازع حذيفة لحذيفة رضي الله عنه:(أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ) وفي نسخة: "أنشدك اللَّه"؛ أي: أسألك رافعًا نشيدتي؛ أي: صوتي، (كَمْ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟)؛ أي: العقبة التي في طريق تبوك. (قَالَ) أبو الطفيل (فَقَالَ لَهُ)؛ أي: لحذيفة، (الْقَوْمُ) الحاضرون تلك المنازعة لحذيفة:(أَخْبِرْهُ)؛ أي: أخبر الرجل بما سألك عنه، وقوله:(إِذْ سَأَلَكَ)"إذ" تعليليّة؛ أي: لأنه سألك، وناشدك باللَّه، ومن سأل باللَّه له حقّ في الجواب، فقد أخرج ابن حبّان في "صحيحه"، والحاكم، وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سألكم باللَّه فأعطوه، ومن استعاذكم باللَّه فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن أهدى إليكم فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى ترون أن قد كافأتموه".

(قَالَ) حذيفة رضي الله عنه: (كُنَّا نُخْبَرُ) بالبناء للمفعول، وعبّر بالمجهول؛ طلبًا للسَّتر، وإلا فحذيفة رضي الله عنه يعلمهم يقينًا؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبره بأسمائهم وأعيانهم (أَنَّهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ) رجلًا، وهمزة "أنّ" مفتوحة؛ لوقوعها في موضع المصدر، كما قال في "الخلاصة":

وَهَمْزَ "إِنَّ" افْتَحْ لِسَدِّ مَصْدَرِ

مَسَدَّهَا وَفِي سِوَى ذَاكَ اكْسِرِ

(1)

"المعجم الكبير" 3/ 165، وفي إسناده الواقديّ: ضعيف.

ص: 277

وهي في تأويل المصدر نائب الفاعل لـ "نُخْبَرُ"، (فَإِنْ كُنْتَ) أيها المناشد، وهذا الكلام لحذيفة رضي الله عنه، (مِنْهُمْ)؛ أي: من أصحاب العقبة، (فَقَدْ كَانَ الْقَوْمُ) أصحاب العقبة (خَمْسَةَ عَشَرَ)؛ أي: بزيادتك علمهم، (وَأَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ حَرْبٌ)؛ أي: محارب (للَّهِ) عز وجل (وَلِرَسُولِهِ) صلى الله عليه وسلم (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) حيث أراداوا الفتك به في تلك الليلة، (وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) حيث ينادى بهم على رؤوس الأشهاد:{هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

(وَعَذَرَ ثَلَاثَةً)؛ أي: قَبِل النبيّ صلى الله عليه وسلم عُذرهم، ورفع عنهم اللوم، يقال: عذرته فيما صَنَع عَذْرًا، من باب ضَرَبَ: إذا رفعت عنه اللوم

(1)

، وإنما عَذَرهم لأنهم لم يريدوا شرًّا، وإنما تبعوا القوم جهلًا، فإنهم (قَالُوا) معتذرين:(مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الذي نادى بأنه صلى الله عليه وسلم أخذ طريق العقبة، فلا يأخذها أحد، (وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ)؛ أي: المنافقون الذي سلكوا طريق العقبة مخالفين أمره صلى الله عليه وسلم، ومريدين الفتك به، وغَرضُهم بذلك الاعتذار بأنهم لم يريدوا شرًّا، وإنما اتّبعوا القوم لعدم عِلمهم بكيدهم.

(وَقَدْ كَانَ) صلى الله عليه وسلم في مرجعه من تبوك (فِي حَرَّةٍ)؛ أي: في أرض ذات حجارة سُود، وتُجمع على حِرَار بالكسر، مثل كلبة وكلاب

(2)

. (فَمَشَى) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ) للناس: ("إِنَّ الْمَاءَ) الذي سنأتيه (قَلِيلٌ)؛ أي: لا يكفي لجماعتنا، (فَلَا) ناهية، (يَسْبِقُنِي إِليْهِ أَحَدٌ") أراد أن لا يمسّ ذلك الماء أحد حتى يمسّه صلى الله عليه وسلم بيده المباركة، فيفيض الماء، ويكفي الجيش كلّه. (فَوَجَدَ قَوْمًا) من المنافقين (قَدْ سَبَقُوهُ) إلى ذلك الماء، ومسّوه، واغترفوا منه مخالفة له صلى الله عليه وسلم؛ لشدّة نفاقهم (فَلَعَنَهُمْ)؛ أي: دعا على هؤلاء المنافقين الذي سبقوه إلى الماء (يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم إذ وقعت تلك الواقعة، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: يستفاد من مجموع الروايات أن هذه القصّة وقعت مرّتين، مرّة في سفر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وقد مرّت القصّة في هذا الكتاب، في "باب معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم" من "كتاب الفضائل" من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال:

(1)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 398.

(2)

راجع: "المصباح المنير" 1/ 129.

ص: 278

خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك إلى أن قال: ثم قال: "إنكم ستأتون غدًا إن شاء اللَّه عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا، حتى آتي"، فجئناها، وقد سبَقَنا إليها رجلان، والعين مثل الشراك، تَبِضّ بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هل مسستما من مائها شيئًا؟ " قالا: نعم، فسبّهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال لهما ما شاء اللَّه أن يقول. . . الحديث.

والقصّة الأخرى وقعت عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك فيما ذكر الواقديّ في "مغازيه": قال: وأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قافلًا، حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له: وادي الناقة، وكان فيه وشل

(1)

-أي: ماء قليل- يخرج منه في أسفله قدر ما يُري الراكبين، أو الثلاثة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"من سبقنا إلى ذلك الوشل، فلا يستقينّ منه شيئًا حتى نأتي"، فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قُشير، والحارث بن يزيد الطائيّ، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن الليث، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ألم أنهكم"، ولعنهم، ودعا عليهم، ثم نزل، فوضع يده في الوَشْل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفّه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء اللَّه أن يدعو به، فانخرق الماء. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: ذكر الطبراني في "الكبير" أسماء أصحاب العقبة، فقال:

(3017)

- حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، ثنا الزبير بن بكار، قال:"تسمية أصحاب العقبة":

معتب بن قشير بن مُليل، من بني عمرو بن عوف، شهد بدرًا، وهو الذي قال: يَعِدنا محمد كنوز كسرى، وقيصر، وأحدنا لا يأمن على خلائه، وهو الذي قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ها هنا، قال الزبير: وهو الذي شَهِد عليه الزبير بهذا الكلام.

وَدِيعة بن ثابت بن عمرو بن عوف، وهو الذي قال: إنما كنا نخوض

(1)

"الوَشل": الماء القليل يُتحلّب من جبل أو صخرة. "ق".

(2)

"مغازي الواقديّ" 3/ 1039.

ص: 279

ونلعب، وهو الذي قال: ما لي أرى قرّاءنا هؤلاء، أرْغبنا بطونًا، وأجبننا عند اللقاء.

وجَدّ بن عبد اللَّه بن نَبِيل بن الحارث، من بني عمرو بن عوف، وهو الذي قال جبريل عليه السلام: يا محمد مَن هذا الأسود، كثير شعره، عيناه كأنهما قدران من صفر، ينظر بعيني شيطان، وكبده كبد حمار، يُخبر المنافقين بخبرك، وهو المجترّ بخرئه.

والحارث بن يزيد الطائيّ، حليف لبني عمرو بن عوف، وهو الذي سبق إلى الوَشْل الذي نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يمسه أحد، فاستقى منه.

وأوس بن قيظيّ، وهو من بني حارثة، وهو الذي قال: إن بيوتنا عورة، وهو جدّ يحيى بن سعيد بن قيس.

والْجُلاس

(1)

بن سُويد بن الصامت، وهو من بني عمرو بن عوف، وبلغنا أنه تاب بعد ذلك.

وسعد بن زُرارة، من بني مالك بن النجار، وهو المدخن على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان أصغرهم سنًّا، وأخبثهم.

وقيس بن قَهْد، من بني مالك بن النجار.

وسُويد، وداعس، وهما من بني بَلْحُبْلى، وهما ممن جهز ابن أُبَيّ في تبوك، يُخَذِّلان الناس.

وقيس بن عمرو بن سهل.

وزيد بن اللَّيث، وكان من يهود قينقاع، فأظهر الإسلام، وفيه غِشّ اليهود، ونفاق من نافق.

وسلامة بن الحمام من بني قينقاع، فأظهر الإسلام. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7012]

(2780) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

بوزن غُراب.

(2)

"المعجم الكبير" 3/ 166.

ص: 280

"مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ"، قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَهَا خَيْلُنَا خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ، ثُمَّ تَتَامَّ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ، إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ"، فَأَتَيْنَاهُ، فَقُلْنَا لَهُ: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: واللَّه لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ، قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ يَنْشُدُ ضَآلَّةً لَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ) السَّدُوسيّ البصريّ، ثقةٌ ضابطٌ [6](ت 155)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 126.

2 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدُوق، إلا أنه يُدَلِّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

والباقون ذُكروا في الباب.

من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه جابر بن عبد اللَّه الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وأحد المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ) يَحْتَمِل أن تكون موصولة، و"يصعد" صلتها مرفوع، ويَحْتَمِل أن تكون شرطيّة، و"يصعد" فِعل شرطها مجزوم بها، قال القاري رحمه الله:"من يَصعدِ الثنية" بكسر الدال على أنه مجزوم، حُرِّك لالتقاء الساكنين، وفي نسخة بالرفع، على أن "مَنْ" موصولة مبتدأ، متضمن معنى الشرط. انتهى.

وقوله: (يَصْعَدُ) بفتح أوله، وثالثه، قال المجد رحمه الله: صَعِدَ في السلّم، كسمِعَ صُعُودًا، وصَعَّد في الجبل، وعليه تصعيدًا: رَقِيَ، ولم يُسمع "صَعِدَ" فيه. انتهى.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: صَعِدَ في السلم، والدرجة يَصْعَدُ، من باب تَعِبَ صُعُودًا، وصَعِدْتُ السطحَ، وإليه، وصَعَّدْتُ في الجبل بالتثقيل: إذا علوته، وصَعِدْتُ في الجبل، من باب تَعِبَ لغة قليلةٌ. انتهى

(1)

.

(1)

"المصباح المنير" 1/ 340.

ص: 281

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أفادت عبارة الفيّوميّ هذه أن ما نفاه المجد بقوله: "ولم يُسمَع صَعِد فيه" مسموع، إلا أنه قليلٌ، وقد ذكر المرتضى في "التاج" ما يؤيّد ما قاله الفيّومي، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (الثَّنِيَّةَ) بالنصب مفعول "يصعد"، وهي الطريق الصاعد في الجبل، وقوله:(ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ) بالنصب بدل، أو عطف بيان لـ "الثنيّة"، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "من يصعد الثنية ثنية المرار" هكذا هو في الرواية الأُولى: "المرار" بضم الميم، وتخفيف الراء، وفي الثانية:"الْمَرَار"، أو "الْمُرار" بضم الميم، أو فتحها على الشكّ، وفي بعض النسخ بضمها، أو كسرها، واللَّه أعلم.

و"المرار" شجر مُرّ، وأصل الثنية: الطريق بين جبلين، وهذه الثنية عند الحديبية، قال الحازميّ: قال ابن إسحاق: هي مهبط الحديبية. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: "المرار" بضم الميم، وهو المشهور، على ما في "النهاية"، وبعضهم يكسرها، وبعضهم يقوله بالفتح، وهو موضع بين مكة والحديبية، من طريق المدينة، وإنما حثّهم على صعودها؛ لأنها عقبة شاقّة، وصلوا إليها ليلًا حين أرادوا مكة سنة الحديبية، فرغّبهم في صعودها، بقوله:(فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ) بالبناء للمفعول، وهو جواب الشرط، أو خبر المبتدأ، وقوله:(مَا حُطَّ) مبنيّ للمفعول أيضًا، و"ما" موصول هو نائب فاعل "يُحطّ"، (عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)؛ يعني: أنه يوضع عنه مثل ما وُضع عن بني إسرائيل؛ أي: لو قالوا ما أُمروا به، وفيه إيماء إلى قوله تعالى:{وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]؛ أي: قولوا: حُطّ عنّا ذنوبنا حِطّةً، لكنهم ما قالوه، فلم يُحطّ عنهم.

(قَالَ) جابر رضي الله عنه: (فَكَانَ أَوَّلَ) بالنصب على أنه خبر "كان" مقدّمًا، ويحوز العكس، لكن الأول أَولى. (مَنْ صَعِدَهَا)؛ أي: تلك الثنيّة، (خَيْلُنَا) معاشر الأنصار، وقوله:(خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ) مرفوع على أنه بدل، أو عطف بيان لـ "خيلُنا"، وبنو الخزرج هم قبيلة جابر رضي الله عنه، والمعنى أنه كان خيلُنا أولَ

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 126.

ص: 282

خيل صعدها، والمراد بالخيل هنا: الفُرسان؛ لأن الخيل يُطلق عليه، قال الفيّوميّ رحمه الله: الخَيْلُ: معروفة، وهي مؤنثة، ولا واحد لها من لفظها، والجمع خيول، قال بعضهم: وتُطلق الخَيْلُ على الْعِراب، وعلى الْبَرَاذين، وعلى الْفُرسان، وسُمِّيت خَيْلًا؛ لاختيالها، وهو إعجابها بنفسها مَرَحًا، ومنه يقال: اخْتَالَ الرجل، وبه خَيَلاءُ، وهو الكبر، والإعجاب. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ تَتَامَّ النَّاسُ) بتشديد الميم: تفاعل من التمام؛ أي: تتابعوا، وجاؤوا كلهم، وتَمُّوا؛ والمعنى: صَعِدوا الثنية كلُّهم. (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ، إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ") قال القاضي عياض: قيل: هذا الرجل هو الجدّ بن قيس المنافق

(2)

، وقال القاري: هو عبد اللَّه بن أُبَيّ رئيس المنافقين، فالاستثناء منقطع، نحو جاء القوم إلا حمارًا، قال جابر رضي الله عنه:(فَأَتَيْنَاهُ)؛ أي: ذلك الرجل، (فَقُلْنَا لَهُ: تَعَالَ) إلى مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (يَسْتَغْفِرْ لَكَ) بالجزم على جواب الأمر، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حتى يغفر لك، كما وعد بذلك فقال عز وجل:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64]. (فَقَالَ) الرجل غير مكترث بذلك: (واللَّه لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي)؛ يعني: جمله الأحمر الذي كان ينشده، والضالّة بالهاء: الحيوان الضائع، قال الفيّوميّ رحمه الله: قيل للحيوان الضائع: ضالَّةٌ، بالهاء للذكر، والأنثى، والجمع الضَّوَالُّ، مئل دابةّ ودوابّ، ويقال لغير الحيوان: ضائعٌ، ولُقَطةٌ، وضَلَّ البعير: غاب، وخفي موضعه، وأَضلَلْتُهُ بالألف: فَقَدْته. انتهى

(3)

.

(أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ)؛ يعني: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا غاية النفاق، وغاية الاستخفاف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد عبّر بقوله:"صاحبكم"؛ لأنه لا يراه صاحبًا له، كفى به شقيًّا.

وقال القاري رحمه الله: وهذا كفر صريح منه، وقد أشار إليه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 186.

(2)

"إكمال المعلم" 8/ 312.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 363.

ص: 283

مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 5، 6].

(قَالَ) جابر رضي الله عنه: (وَكَانَ رَجُلٌ يَنْشُدُ) بفتح الياء، وضم الشين، من باب نصر؛ أي: يسأل عنها، (ضَالَّةً لَهُ) وفي الرواية التالية:"وَإِذَا هُوَ أَعْرَابِيٌّ، جَاءَ يَنْشُدُ ضَالَّةً لَهُ"، فقوله:"رجلٌ" مرفوع على أنه اسم "كان"، وجملة "يشد" صفته، وخبرها محذوف؛ أي: صاحبَ الجمل الأحمر، وفي رواية أبي يعلى:"وإذ هو رجل يَنشُد ضالةً"، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7012 و 7013](2780)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 394)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 178)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 93)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(11/ 229)، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج الترمذيّ رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه هذا بلفظ: "ليدخلنّ الجنة من بايع تحت الشجرة. . . "، فقال في "جامعه":

(3863)

- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا أزهر السمان، عن سليمان التيميّ، عن خِدَاش، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليدخلنّ الجنة من بايع تحت الشجرة، إلا صاحب الجمل الأحمر"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ غريبٌ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7013]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 696، وفي إسناده خِداش بن عيّاش البصريّ ليّن الحديث، كما في "التقريب"، ولذا ضعّف الحديث الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 284

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَصْعَدُ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، أَوِ الْمَرَارِ"، بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا هُوَ أَعْرَابِيٌّ، جَاءَ يَنْشُدُ ضَالَّةً لَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ) هو: يحيى بن حبيب بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (مَنْ يَصْعَدُ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ، أَوِ الْمَرَارِ)؛ أي: بالشكّ بين الْمُرار بضمّ الميم، والْمَرار بفتحها، وفي بعض النسخ بضمّها، أو كسرها.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ)؛ يعني: خالد بن الحارث روى هذا الحديث عن قُرّة بن خالد بمثل ما رواه معاذ بن معاذ عن قرّة.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) فاعل "قال" ضمير خالد بن الحارث، وغرضه بيان اختلاف معاذ وخالد، فإن الأول رواه بلفظ:"وكان رجلٌ ينشُد ضالّة له"، ورواه الثاني بلفظ:"وإذا هو أعرابيّ ينشُد ضالّة له"، و"إذا" هي الفجائيّة.

[تنبيه]: رواية خالد بن الحارث عن قُرّة بن خالد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7014]

(2781) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ- عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ مِنَّا رَجُلٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، قَدْ قَرَأَ "الْبَقَرَةَ"، وَ"آلَ عِمْرَانَ"، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَانْطَلَقَ هَارِبًا، حَتَّى لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَرَفَعُوهُ، قَالُوا: هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ، فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا، فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ

ص: 285

الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، ثُمَّ عَادُوا، فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو النَّضْرِ) هاشم بن القاسم بن مسلم الليثيّ مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قَيْصَر، ثقةٌ ثبثٌ [9](ت 207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم البصريّ، أبو سعيد، ثقةٌ ثقةٌ، قاله يحيى بن معين [7] أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا [165](ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

والباقون ذُكروا في الباب، والبابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من سليمان، وشيخه نيسابوريّ، وأبو النضر بغداديّ، وفيه ثابت، ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة، وفيه أنس أحد المكثرين السبعة، والمشهور بالخادم؛ لأنه خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركة دعوته، فبورك في عمره، وأولاده، وأمواله، وهو آخر من مات بالبصرة من الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: كَانَ مِنَّا)؛ أي: معاشر الأنصار، (رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، لكن في رواية مسلم من طريق ثابت، عن أنس:"كان منّا رجل، من بني النجار". (مِنْ بَنِي النَّجَّارِ) بكسر النون، وتشديد الجيم قبيلة من الأنصار، وهي قبيلة أنس رضي الله عنه، قال ابن الأثير رحمه الله: اسم النجّار: تيم اللات بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، وإنما قيل له: النجّار؛ لأنه اختَتَن بقدّوم، وقيل: لأنه ضرب رجلًا بقدّوم. انتهى

(1)

.

[فإن قلت]: قوله: "منّا، من بني النجّار" يعارض ما في "صحيح البخاريّ" بلفظ: "كان رجل نصرانيًّا، فأسلم، وقرأ البقرة، وآل عمران"، فكيف الجمع بينهما؟.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 298.

ص: 286

[قلت]: يُجاب بأنه يمكن أن الرجل كان من بني النجّار، فتنصّر قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أسلم، ثم ارتدّ بعد ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

(قَدْ قرَأَ) ذلك الرجل سورة (الْبَقَرَةَ، وَ) سورة (آلَ عِمْرَانَ، وَكَانَ) الرجل (يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الوحي وغيره مما يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم كتابته، (فَانْطَلَقَ)؛ أي: ذهب من عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، حال كونه (هَارِبًا)؛ أي: فارًّا، وشاردًا من الإسلام وأهله، يقال: هَرَب يَهْرُبُ هَرَبًا، وهُرُوبًا: فَرّ، والموضع الذي يُهْرَب إليه مَهْرَبٌ، مثل جَعْفَرٍ، ويتعدّى بالتثقيل، فيقال: هرّبته

(1)

.

وقوله: (حَتَّى لَحِقَ) غاية لهروبه، و"لَحِقَ" بكسر الحاء، يقال: لَحِقْتُهُ، ولَحِقْتُ به، أَلْحَقُ، من باب تَعِب لَحَاقًا، بالفتح: أدركته، وأَلْحَقْتُهُ بالألف مثله، وأَلْحَقْتُ زيدًا بعمرو: أتبعته إياه، فَلَحِقَ هو، وأَلْحَقَ أيضًا، وفي الدعاء:"إن عذابك بالكفار مُلْحَقٌ" يجوز بالكسر، اسمَ فاعل، بمعنى لَاحِق، ويجوز بالفتح، اسمَ مفعول؛ لأن اللَّه أَلْحَقَهُ بالكفار؛ أي: يُنزله بهم، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(بِأَهْلِ الْكِتَابِ) متعلّق بـ "لحِق"، وفي رواية البخاريّ:"فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: ما يدري محمد، إلا ما كتبت له"، وفي رواية الإسماعيليّ:"وكان يقول: ما أرى يُحسن محمد إلا ما كنت أكتب له"، وروى ابن حبان من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة نحوه.

وهذا الذي قاله كذبٌ وزور، وافتراء، واجتراء على اللَّه سبحانه وتعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا عاجله اللَّه تعالى بالعقوبة. (قَالَ) أنس (فَرَفَعُوهُ)؛ أي: رفع أهل الكتاب منزلة هذا الرجل، وأعلوا قدره. (قَالُوا: هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم الوحي، (فَأُعْجِبُوا بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: استحسنوا أمره، وعظّموا قَدْره، حيث ارتدّ إلى دينهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويُستعمل التَّعَجُّبُ على وجهين: أحدهما ما يَحمده الفاعل، ومعناه: الاستحسان، والإخبار عن رضاه به، والثاني ما يكرهه، ومعناه: الإنكار، والذمّ له، ففي الاستحسان يقال: أَعْجَبَنِي بالألف، وفي الذمّ والإنكار: عَجِبْتُ وزان تَعِبْتُ. انتهى

(3)

.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 637.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 550.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 393.

ص: 287

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وما هنا من المعنى الأول، ومعناه: أن هؤلاء الكتابيين استحسنوا فعل هذا الرجل، وأحبّوه بسبب ارتداده عن الإسلام، ودخوله في دينهم، إلا أن اللَّه عز وجل عاجله بالعقوبة، كما بيّنه بقوله:(فَمَا لَبِثَ) بكسر الموحّدة؛ أي: لم يتأخر مكثه عندهم، (أَنْ قَصَمَ اللَّهُ عُنُقَهُ) من باب ضرب؛ أي: كسر اللَّه تعالى، يقال: قَصَمت العود قَصْمًا، من باب ضرب: كسرته، فأبَنْته، فانقصم، وتقصّم، وقولهم في الدعاء: قصمه اللَّه، قيل: معناه: أهانه، وأذلّه، وقيل: قرّب موته

(1)

، ومنه قوله تعالى:{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} [الأنبياء: 11]؛ أي: أهلكناها.

و"أن" مصدريّة، و"قصم اللَّه عنقه" صلتها، وهي في تأويل المصدر فاعل "لَبِتَ"؛ أي: فما تأخّر قَصْم اللَّه تعالى عنقه، وإهلاكه إياه فيهم.

وقوله: (عُنُقَهُ) بضمّتين، أو ضمّ، فسكون؛ أي: رقبته، قال الفيّومي: الْعُنُق: الرقبة، وهو مذكّر، والحجاز تؤنِّث، فيقال: هي العُنُق، والنون مضمومة للإتباع في لغة الحجاز، وساكنة في لغة تميم، والجمع أعناق. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِيهِمْ) متعلّق بـ "قَصَمَ"؛ والمعنى: عاجله اللَّه عز وجل بكسر عنقه، فمات (فَحَفَرُوا لَهُ)؛ أي: حفر أهل الكتاب لدفن هذا الرجل، كما يُفعل لغيره من الأموات، (فَوَارَوْهُ) من المواراة، وهي الستر؛ أي: ستروه، ودفنوه، (فَأَصْبَحَت)؛ أي: صارت (الأَرْضُ) التي دُفن فيها (قَدْ نَبَذَتْهُ)؛ أي: ألقته، ورمته (عَلَى وَجْهِهَا)؛ أي: على ظاهرها عبرةً للناظرين، (ثُمَّ عَادُوا) لحفر القبر (فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا) مرّةً ثانيةً، (ثُمَّ عَادُوا، فَحَفَرُوا لَهُ، فَوَارَوْهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ قَدْ نَبَذَتْهُ عَلَى وَجْهِهَا) مرّةً ثالثة، (فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذًا)؛ أي: مطروحًا على وجه الأرض، وفي رواية البخاريّ: "فأماته اللَّه، فدفنوه، فأصبح، وقد لفَظته الأرض، فقالوا: هذا فِعل محمد، وأصحابه، لَمّا هَرَب منهم نبشوا عن صاحبنا، فألقوه، فحفروا له، فأعمقوا، فأصبح، وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فِعل محمد وأصحابه، نبشوا عن

(1)

"المصباح المنير" 2/ 506.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 432.

ص: 288

صاحبنا لمّا هرب منهم، فألقوه، فحفروا له، وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه".

وقوله: "وقد لفظته الأرض"؛ أي: رمته من القبر إلى الخارج، ولَفَظَته بكسر الفاء، وبفتحها، وقال القزاز في "جامعه": كلّ ما طرحته من يدك فقد لَفَظْته، ولا يقال بكسر الفاء، وإنما يقال بالفتح. انتهى

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: لَفَظه، وبه، كضرب، وسَمِعَ: رماه. انتهى

(2)

.

وقال الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده":

(12236)

- حدّثنا يزيد بن هارون، أنا حميد، عن أنس، أن رجلًا كان يكتب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد كان قرأ البقرة، وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة، وآل عمران جَدّ فينا -يعني: عَظُم- فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يملي عليه: غفورًا رحيمًا، فيكتب: عليمًا حكيمًا، فيقول له النبيّ صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت، ويملي عليه: عليمًا حكيمًا، فيقول: اكتب سميعًا بصيرًا، فيقول: اكتب اكتب كيف شئت، فارتدّ ذلك الرجل عن الإسلام، فلَحِق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد، إن كنت لأكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الأرض لم تقبله"، وقال أنس: فحدّثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل، فوجده منبوذًا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟ قالوا: قد دفنّاه مرارًا، فلم تقبله الأرض. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: من الغريب أن صاحب "التكملة"

(4)

قال: هذا الحديث لم يُخرجه أحد من الأئمة الستّة غير المصنّف، وتبعه على ذلك الشيخ الهرريّ، وليس كما قالا، فقد أخرجه البخاريّ في "صحيحه" في "كتاب المناقب" في "باب علامات النبوّة في الإسلام"، فقال:

(1)

"عمدة القاري" 16/ 150.

(2)

"القاموس" ص 1182.

(3)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 120.

(4)

راجع شرحه 6/ 107، و"شرح الهرريّ" 25/ 367.

ص: 289

(3617)

- حدّثنا أبو معمر، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا عبد العزيز، عن أنس رضي الله عنه قال: كان رجل نصرانيّا، فأسلم، وقرأ البقرة، وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًّا فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه، فدفنوه، فأصبح، وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فِعل محمد وأصحابه لَمّا هرب منهم، نبشوا عن صاحبنا، فألقوه، فحفروا له، فأعمقوا، فأصبح، وقد لَفَظَته الأرض، فقالوا: هذا فِعل محمد، وأصحابه، نبشوا عن صاحبنا لمّا هرب منهم، فألقوه، فحفروا له، وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا، فأصبح قد لَفَظَته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه. انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7014](2781)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3617)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 222 و 245)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1278 و 1280)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 22)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أظهر اللَّه سبحانه وتعالى على هذا المرتدّ عن دينه هذه الخارقة الباهرة؛ ليكون نكالًا وعظة لمن بعده، قال في "العمدة": ظهرت معجزة النبيّ صلى الله عليه وسلم في لَفْظ الأرض إياه مرات؛ لأنه لمّا ارتدّ عاقبه اللَّه تعالى بذلك؛ لتقوم الحجة على من يراه، ويدلّ على صدق نبوّة النبيّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

2 -

(ومنها): بيان أن الهداية بيد اللَّه تعالى، فالمهديّ من هداه اللَّه، وليست الآيات والبراهين كافية إلا أن يشاء اللَّه تعالى، فإن هذا الرجل قد شاهد من الآيات، وكَتَب الوحي، واطلع على محاسن الإسلام كلّها، ومع ذلك أعرض؛ لأنه سبحانه وتعالى لم يُرِد أن يهديه للإسلام، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41]، اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت آمين.

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1325.

(2)

"عمدة القاري" 16/ 150.

ص: 290

3 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: إنما أظهر اللَّه تعالى تلك الآية في هذا المرتدّ؛ ليوضّح حجة نبيّه صلى الله عليه وسلم لليهود عيانًا، وليُقيم لهم على ضلالة من خالف دينه برهانًا، وليزداد الذين آمنوا إيمانًا ويقينًا. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7015]

(2782) - (حَدَّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ -يَعْنِي: ابْنَ غِيَاثٍ- عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ، هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ"، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ) تقدّم قبل باب.

2 -

(حَفْصُ بْنُ غِيَاثِ) بن طَلْق بن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيّر حِفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ، الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه، قد تقدّم القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ) بكسر الدال، (مِنْ سَفَرٍ) هي سفر غزوة بني المصطلق، كما سيأتي. (فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ) بنصب "قُرب" على نزع الخافض، والخبر متعلّقه؛ أي: فلما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم واصلًا بقربها (هَاجَتْ)؛ أي: ثارت، وظهرت (رِيحٌ شَدِيدَةٌ، تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ) بكسر الفاء؛ أي: تقرب أن تواري (الرَّاكِبَ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النسخ:

ص: 291

"تَدفِن" بالفاء، والنون؛ أي: تُغَيِّبه عن الناس، وتَذهب به؛ لشدتها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هاجت ريح تكاد أن تدفن الراكب"؛ أي: هبّت ريح شديدة، تَحْمِل معها التراب والرمل؛ لشدتها، حتى لو عارضها راكب على بعيره لدفنته بما تُسَفّي عليه من التراب والرمل، وكأن هذه الريح إنما هاجت عند موت ذلك المنافق العظيم؛ ليعذَّب بها، أو جعلها اللَّه علامة لنبيّه صلى الله عليه وسلم على موت ذلك المنافق، وأنه مات على النفاق -واللَّه تعالى أعلم- انتهى

(2)

.

[تنبيه]: قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تكاد أن تدفن": قال ابن مالك: وقع خبر "كاد" مقرونًا بـ "أن"، وهو صحيح، لكن وقوعه غير مقرون بها أكثر، وأشهر، ولذلك لم يقع في القرآن إلا غير مقرون بها، والسبب المانع من الاقتران في باب المقاربة هو دلالة الفعل على الشروع، كطفق، وجعل، فإنّ "أنْ" تقتضي الاستقبال، وفِعل الشروع يقتضي الحال، فتنافيا، وما لا يدلّ على الشروع؛ كعسى، وأوشك، وكرَبَ، وكاد فمقتضاه مستقبل، فاقتران خبره بـ "أن" مؤكّد لمقتضاه، فإذا انضمّ إلى هذا التعليل استعمال فصيح، ونَقْل صحيح، كما في الحديث المذكور، وغيره كقول أنس:"فما كدنا أن نصل إلى منازلنا"، وقول بعض الصحابة:"والْبُرمة بين الأثافي، قد كادت أن تنضج"، وقول جُبير بن مطعم:"كاد قلبي أن يطير" تأكّد الدليل على الجواز، ولم يوجد لمخالفته سبيل، وقد اجتمع الوجهان في قول عمر رضي الله عنه:"ما كدت أن أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب". انتهى

(3)

.

(فَزَعَمَ)؛ أي: قال، فالزعم هنا مستعمل في القول المحقّق، وإن كان أصل وَضْعها لغير المحقّق، وقد تقدّم هذا غير مرّة. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُعِثتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: أُرسلت (هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ)؛ أي: في وقت موته؛ أي: عقوبة له، وعلامةً لموته، وراحة البلاد، والعباد به

(4)

. (فَلَمَّا

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 127.

(2)

"المفهم" 7/ 413 - 414.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3779.

(4)

"شرح النوويّ" 17/ 127.

ص: 292

قَدِمَ) صلى الله عليه وسلم (الْمَدِينَةَ، فَإِذَا مُنَافِقٌ عَظِيمٌ)"إذا" هنا هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأه موته، (مِن) جملة (الْمُنَافِقِينَ) الذين كانوا بالمدينة، (قَدْ مَاتَ) قال ابن بشكوال رحمه الله: هذا المنافق هو رفاعة بن زيد بن التابوت، قاله محمد بن إسحاق، وذكر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قاله، وهو قافل من غزوة بني المصطلق

(1)

.

وأخرج عبد بن حميد في "مسنده" عن جابر رضي الله عنه: كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر، هاجت ريح تكاد تَدفِن الراكب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"بُعثت هذه الريح لموت منافق، فلما رجعنا إلى المدينة، وجدنا مات في ذلك اليوم منافق عظيم النفاق، فسمعت أصحابنا بعدُ يقولون: هو رافع بن التابوت". انتهى

(2)

.

وقال ابن الجوزيّ: قال الواقديّ: هذا القفول كان في غزوة المريسيع

(3)

، وكان بين عيينة بن حِصْن الفزاريّ وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مدّة، فخاف أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يكون عيينة قد أغار على المدينة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ليس عليكم بأس، ما بالمدينة من نَقْب، إلا عليه ملَك، وما كان ليدخلها عدوّ حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم رجل من المنافقين عظيم، ولذلك عصفت هذه الريح، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت". انتهى

(4)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف

(5)

رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7015](2782)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 135 و 341 و 346)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 315)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 79)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6500)، و (أبو يعلى) في

(1)

"غوامض الأسماء المبهمة" 1/ 201.

(2)

"مسند عبد بن حميد" 1/ 315.

(3)

لا يخالف هذا ما تقدّم من أنها غزوة بني المصطلق؛ لأن غزوة المريسيع هي غزوة بني المصطلق، فتنبّه.

(4)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 752.

(5)

فقول القاري في "المرقاة" 10/ 227: وكذا أخرجه البخاري، فمن غلطه، فتنبّه.

ص: 293

"مسنده"(4/ 201)، و (البيهقيّ) في "دلائل النبوّة"(4/ 61)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(13/ 311)، و (ابن بشكوال) في "غوامض الأسماء"(1/ 301)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7016]

(2783) - (حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْيَمَامِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ، حَدَّثَنَا إِيَاسٌ، حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: عُدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مَوْعُوكًا، قَالَ: فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: واللَّه مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رَجُلًا أَشَدَّ حَرًّا

(1)

، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، هَذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ الرَّاكِبَيْنِ الْمُقَفِّيَيْنِ"، لِرَجُلَيْنِ حِينَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيُّ) هو: عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن توبة، أبو الفضل البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [11](ت 240)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

2 -

(أَبُو مُحَمَّدٍ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى الْيَمَامِيُّ) الْجُرَشيّ، مولى بني أمية، ثقةٌ، له أفراد [9](خ م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 34/ 241.

3 -

(عِكْرِمَةُ) بن عَمّار العِجْليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوقٌ، يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل (160)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

4 -

(إِيَاسُ) بن سلمة بن الأكوع الأسلميّ، أبو سلمة، ويقال: أبو بكر المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 119) وهو ابن سبع وسبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

5 -

(أَبُوهُ) سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلميّ، أبو مسلم، وأبو إياس الصحابيّ الشهير، شَهِدَ بيعة الرضوان، ومات بالمدينة سنة أربع وسبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 44/ 288.

(1)

وفي نسخة: "بأشد حرٍّ".

ص: 294

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث من أوله إلى آخره، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ورواية الابن عن أبيه.

شرح الحديث:

عن إِيَاس بن سلمة، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَبِي) سلمة بن الأكوع رضي الله عنه (قَالَ: عُدْنَا) بضمّ العين، يقال: عُدت المريض أعوده، من باب قال عيادةً: إذا زرته، فالرجل عائد، وجَمْعه عُوّاد، وعُوّدٌ، والمرأة عائدة، وجَمْعها عُوّد، فقط، قال في "الخلاصة":

وَفُعَّلٌ لِفَاعِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَصْفَيْنِ نَحْوُ عَاذِلٍ وَعَاذِلَهْ

وَمِثْلُهُ الْفُعَّالُ فِيمَا ذُكِّرَا

وَذَانِ فِي الْمُعَلِّ لَامًا نَدَرَا

(مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا) لم يُعرف اسمه، (مَوْعُوكًا)؛ أي: مصاب بشدّة ألم الْحُمَّى، قال المرتضى ما حاصله: الوَعْكُ بفَتْحِ، فسكون، وأَجازَ بعضُهم فَتْحَ العين، قِيلَ: لمَكانِ حَرفِ الحَلْقِ، وهي لُغَةٌ مَشْهورة: سُكُونُ الريحِ، وشِدَّةُ الحرّ، هذا هو الأَصْلُ في الوَعْكِ، كما قالَهُ ابنُ دُرَيْد، والرّاغِبُ؛ كالْوَعْكَةِ، وقد سُمّيَ أَذَى الحُمَّى، وقِيل: وَجَعُها، وقِيلَ: مَغْثُها في البَدَنِ: وَعْكًا بهذا الاعْتِبارِ، وقد وَعَكَتْهُ الحُمَّى وَعْكًا، ووُعِكَ، فهو مَوْعُوكٌ، وقِيلَ: الوَعك: أَلَمٌ مِنْ شِدَّةِ التَّعَب، وقد يُرادُ بهِ المَرَضُ الخَفِيفُ مُطْلَقًا، وقالَ الحافظ أَبو عُمَرو بنُ عبد البرّ: الوَعْكُ لا يَكُونُ إِلا من الحُمَّى، دُونَ سائِرِ الأمْراضِ، ورَجُلٌ وَعْكٌ تَسمِيَةٌ بالمَصْدَرِ، ووَعِكٌ، ككَتِف، ووُعِكَ فهو مَوْعوكٌ: مَحْمُومٌ، ووَعَكَهُ، كوَعَدهُ وَعْكًا: دكَّه دَكًّا، وهو مَجازٌ. انتهى كلام المرتضى

(1)

.

(قَالَ) سلمة رضي الله عنه: (فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الموعوك (فَقُلْتُ: واللَّه مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْم رَجُلًا أَشَدَّ حَرًّا) منصوب على التمييز، (فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَلَا أُخْبِرُكُمْ) "ألا" أَداة عرض، وتحضيض؛ كقوله تعالى:{أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22](بِأَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ)؛ أي: بالشخص الذي يكون أشدّ حرارة

(1)

"تاج العروس" ص 6811.

ص: 295

من حرارة هذا الرجل، وفي بعض النسخ:"بأشدّ حرّ منه"، بإضافة "أشدّ" إلى "حرّ"، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متعلّق بـ "أشدّ"، (هَذَيْنِكَ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية بخفض "هذينك" على البدل من "أشدّ"، وهو من إبدال المعرفة من النكرة، وما بعد "هذينك" نعوت له. (الرَّجُلَيْنِ الرَّاكبَيْنِ الْمُقَفِّيَيْنِ")؛ أي: المولّيين أقفيتهما منصرفين، أو الجاعلين ظهورهما واليةً لنا؛ لاستدبارهما لنا

(1)

.

وقوله: (لِرَجُلَيْنِ) هذه اللام كاللام في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11]، وقد اختُلف فيها، فقال ابن الحاجب: هي بمعنى "عن"، وقال ابن مالك وغيره: هي لام التعليل، وقيل: هي لام التبليغ، ذكره ابن هشام رحمه الله

(2)

. (حِينَئِذٍ)؛ أي: وقت قوله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، وقوله:(مِنْ أَصْحَابِهِ) قال النوويّ رحمه الله: سمّاهما من أصحابه؛ لإظهارهما الإسلام، والصحبة، لا أنهما ممن نالته فضيلة الصحبة. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إنما نَسَبهما الراوي لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما كانا في غمارهم، ودخلا بحكم ظاهرهما في دينهم، والعليم الخبير يَعلم ما تُجنّه الصدور، وما يَختلج في الضمير، فأعلم اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بخبث بواطنهما، وبسوء عاقبتهما، فارتفع اسم الصحبة، وصِدق اسم العداوة والبغضاء. انتهى

(4)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7016](2783)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6248)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 651)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 198)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الكوكب الوهّاج" 25/ 369.

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" 1/ 419 - 420.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 128.

(4)

"المفهم" 7/ 414.

ص: 296

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7017]

(2784) - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: الثَّقَفِيَّ- حَدَّثَنَا عُبَيدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ، تَعِيرُ إِلَى هَذهِ مَرَّةً، وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرِ) الْهَمدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) عبد اللَّه بن نُمير الْهَمدانيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصَّلْت الثَّقَفِيَّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ تغير قبل موته بثلاث سنين [8](ت 184) عن نحو ثمانين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ)؛ أي: وَصْفه الذي يتميّز به من المؤمن، (كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ)؛ أي: المتردّدة، والمتحيّرة، قال التوربشتيّ: وأكثر استعماله في الناقة، وهي التي تخرج من إبل إلى أخرى؛ ليضربها الفحل، ثم اتُّسِع في المواشي. (بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ)؛ أي: القطيعين من الغنم، قال في "المفصل": قد يُثنى الجمع على تأويل الجماعتين في الفرقتين، قال: ومنه هذا الحديث، وقال الأندلسيّ في "شرحه": تثنية الجمع ليس بقياس، وقد يَعرِض في بعض المعاني ما يُحوج إلى تثنيته، كما في الحديث، كأنه لا يمكن التعبير بمجرد الجمع، فتستحق عند ذلك تثنيته. انتهى

(1)

.

(1)

"فيض القدير" 5/ 516.

ص: 297

وقال في "اللسان": العائرة: التي تخرج من الإبل إلى أخرى ليضربها الفحل. انتهى. وقال السنديّ: وهي التي تطلب الفحل، فتتردد بين قطيعين، ولا تستقرّ مع إحداهما، والمنافق مع المؤمنين بظاهره، ومع المشركين بباطنه؛ تبعًا لهواه وغرضه الفاسد، فصار بمنزلة تلك الشاة. وفيه سلب الرجوليّة عن المنافقين. والغنمة واحدة، والغنم جمع، ففي هذا الحديث تثنية للجمع بتأوله بالجماعة. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: قوله: "والغنمة واحدة إلخ" هذا غلط، فقد صرّح في "القاموس"، و"اللسان"، و"المصباح"، وغيرها من كتب اللغة أن الغنم لا واحد لها من لفظها، وإنما واحدها الشاة من غير لفظها، فتبصّر. واللَّه تعالى أعلم.

وقال السيوطيّ رحمه الله في "شرحه": قال الزمخشريّ في "المفصّل": قد يُثنّى الجمع على تأويل الجماعتين، والفرقتين، ومنه هذا الحديث. انتهى.

(تَعِيرُ) بفتح أوله، من باب ضرب يضرب؛ أي: تتردّد، وتذهب (إِلَى هَذِهِ مَرَّةً) إشارة إلى إحدى الغنمين، وأنَّث الضمير لأن الغنم اسم جنس مؤنّث، قال الفيّوميّ: الغنم اسم جنس يُطلق على الضأن، والمعز، وقد تُجمع على أغنام، على معنى قُطَعَاناتٍ من الغنم، ولا واحد للغنم من لفظها، قاله ابن الأنباريّ. وقال الأزهريّ أيضًا: الغنم الشاء، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح على فلان غَنَمان؛ أي: قَطِيعان في الغنم، كلُّ قطيع منفردٌ بمَرْعًى وراعٍ. وقال الجوهريّ: الغنم اسم مؤنّثٌ، موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور والإناث، وعليهما، ويُصغّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنيمة؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغّرت، فالتأنيث لازم لها. انتهى.

(وَ) تعير (إِلَى هَذِهِ مَرَّةً")؛ يعني: أنها تارة تذهب إلى هذه الغنم، وأخرى إلى هذه الغنم.

وفي الرواية التالية: "تكرّ في هذه مرّةً، وفي هذه مرّةً"، وهو بكسر الكاف؛ أي: تعطِف على هذه مرّة، وعلى هذه مرّة.

وزاد النسائيّ في روايته: "لَا تَدْرِي أَيَّهَا تَتْبَعُ" بفتح أوله، وسكون ثانيه،

ص: 298

مضارع تبع، وزان تعِب، ويَحْتَمِل أن يكون بتشديد الثانية، مضارع اتّبعت من باب الافتعال؛ أي: لا تعلم؛ أيّ الغنمين تتبع؛ لأنها غريبة، ليست منهما، فكذا المنافق لا يستقرّ بالمسلمين، ولا بالكافرين، بل يقول لكل منهم: أنا منكم، قال الطيبيّ: شبَّه تردده بين المؤمنين والكافرين تبعًا لهواه، وقصدًا لأغراضه الفاسدة، كتردد الشاة الطالبة للفحل، فلا تستقر على حال، ولذلك وُصفوا في التنزيل:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]

(1)

، قال المفسرون:{مُذَبْذَبِينَ} ؛ يعني: أن المنافقين متحيرون بين الإيمان والكفر، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا، ولا هم مع الكفار ظاهرًا وباطنًا، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعتريه الشكّ، فتارةً يميل إلى هؤلاء، وتارةً يميل إلى هؤلاء

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): في درجته:

حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7017 و 7018](2784)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(5039) وفي "الكبرى"(6/ 538)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 32 و 47 و 82 و 102 و 142)، و (الدارميّ) في "سننه"(320)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 285)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(6/ 341)، و (الرامَهُرْمُزيّ) في "الأمثال"(1/ 83)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7018]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "تَكِرُّ فِي هَذِهِ مَرَّةً، وَفِي هَذِهِ مَرَّةً").

(1)

"فيض القدير" 5/ 516.

(2)

"عمدة القاري" 16/ 69.

ص: 299

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْقَارِيُّ)

(1)

هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللَّه بن عبد القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

3 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عياش -بتحتانية، ومعجمة- الأسديّ مولى آل الزبير، ثقةٌ فقيهٌ إمام في المغازي، لم يصح أن ابن معين لَيَّنه [5] (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (تَكِرُّ فِي هَذِهِ مَرَّةً. . . إلخ) بكسر الكاف؛ أي: تعطف على هذه، وعلى هذه، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ضبط النوويّ "تكرّ" بكسر الكاف، وتبعه الشراح، وهذا وإن كان هو الأصل في المضاعف اللازم، إلا أن السماع بالضمّ، وهو الموجود في كتب اللغة، فقد ضبطه في "المصباح" من باب قتل، وهو ظاهر عبارة "القاموس" و"شرحه"، وكذا عدّ ابن مالك في "لاميّته" أن "كرّ" من الأفعال اللازمة التي سُمعت بضمّ عين مضارعها، فقال:

. . . . . . . واضْمُمَنَّ مَعَ الْـ

لُزُومِ فِي امْرُرْ بِهِ وَجَلَّ مِثْلُ جَلَا

هَبَّتْ وَذَرَّتْ وَأَجَّ كَرَّ هَمَّ بِهِ

وَعَمَّ زَمَّ وَسَحَّ مَلَّ أَيْ ذَمَلَا

والحاصل أن الصواب ضبطه بضمّ الكاف، لا بكسرها، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "تكرّ في هذا مرّة" كذا في بعض الروايات، وعند العذريّ:"تكرّ" بكسر الكاف، وعند الفارسيّ:"تكير" بزيادة ياء باثنتين تحتها، وعند ابن ماهان:"تكبُنُ" بسكون الكاف، وباء موحّدة

(1)

بتخفيف الراء، وتشديد الياء: نسبة إلى قارة قبيلة معروفة بجودة الرّمي.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 128.

ص: 300

مضمومة، وآخره نون، وهذا الوجه هو الصواب في هذا الحرف -إن شاء اللَّه- وهو بمعنى "تَعِير" في الحديث الأول، قال صاحب "العين": الكبن: عدوّ ليّن، كبن يكبُن كُبونًا، ولرواية العذريّ وجه بمعنى "تَعِير" أيضًا، يقال: كرّ على الشيء، وإليه: عطف عليه، وكرّ عنه: ذهب، والكسر في مستقبله أصل المضاعف غير المعدَّى، ولرواية الفارسيّ أيضًا وجه بمعناه، يقال: كار الفرس: إذ جرى، ورفع ذنبه عند جريه. انتهى كلام عياض رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية موسى بن عقبة عن نافع هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"

(2)

، إلا أنه بلفظ "تَعِير"، فقال:

(11768)

- أخبرنا قتيبة، قال: حدّثنا يعقوب، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تَعِير في هذه مرةً، وفي هذه مرةً، لا تدري أيّها تتبع". انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(2) - (بَابُ صِفَةِ الْقِيَامَةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا وقع بلفظ "باب" في النسخة الهنديّة، وهو الظاهر، ولذا قلّدته، ووقع في معظم النسخ بلفظ "كتاب"، ولا يخفى بعده، فتنبّه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7019]

(2785) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي المُغِيرَةُ -يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ

(1)

"إكمال المعلم" 7/ 313 - 314.

(2)

وأخرجه أيضًا في "المجتبى" 8/ 124.

(3)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 538.

ص: 301

عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَؤوا:{فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) محمد بن إسحاق بن جعفر الصّغانيّ، أبو بكر، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 270)(م 4) تقدم في "لإيمان" 4/ 116.

2 -

(يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) هو: يحيى بن عبد اللَّه بن بُكير المخزوميّ مولاهم المصريّ، نُسب إلى جدّه، ثقةٌ في الليث، وتكلموا في سماعه من مالك، من كبار [10](ت 231) وله سبع وسبعون سنةً (خ م ق) تقدم في "الإمارة" 13/ 4785.

3 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) هو: المغيرة بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن خالد بن حِزَام -بمهملة، وزاي- المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عسقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

4 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان القُرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

5 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من المغيرة، وأنه مما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه تقدّم القول فيه غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ "أنه (قَالَ: "إِنَّهُ) الضمير للشأن، وهو ما تفسّره الجملة بعده، كما قال في "الكافية الشافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"

أي: إن الشأن والحال، (لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ)؛ أي: جُثّةً، أو جاهًا عند الناس، وفي رواية ابن مردويه من وجه آخر، عن أبي هريرة:"الطويل، العظيم، الأَكُول، الشَّرُوب". (السَّمِينُ) صفة لـ "الرجل" بعد صفة، (يَوْمَ

ص: 302

الْقِيَامَةِ، لَا يَزِنُ)؛ أي: لا يَعْدِل في القدر والمنزلة (عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) بفتح الموحّدة: هي الْبَقّة، جمعها بَعُوض

(1)

. (اقْرَؤُوا)؛ أي: استشهادًا، واعتضادًا، وفي رواية البخاريّ:"وقال: اقرؤوا"، القائل في الظاهر هو الصحابيّ، أو مرفوع من بقية الحديث، قاله في "العمدة"

(2)

. ({فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ})؛ أي: للكفّار ({يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ") أي: قَدْرًا، وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذِكره: فلا نجعل لهم ثقلًا، وإنما عَنَى بذلك: أنهم لا تثقّل بهم موازينهم؛ لأن الموازين إنما تثقل بالأعمال الصالحة، وليس لهؤلاء شيء من الأعمال الصالحة، فتثقل به موازينهم. انتهى

(3)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله؛ أي: لا يكون لهم عندنا قدرٌ، ولا نعبأ بهم، وقيل: لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم؛ لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحّدين، وهؤلاء لا حسنات لهم، قال ابن الأعرابيّ: العرب تقول: ما لفلان عندنا وزن؛ أي: قدر، لخسّته، ويوصف الرجل بأنه لا وزن له؛ لخفته، وسرعة طيشه، وقلة تثبّته، والمعنى على هذا: أنهم لا يُعتدّ بهم، ولا يكون لهم عند اللَّه قَدْر، ولا منزلة، وقرأ مجاهد:"يقيم" بالياء التحتية؛ أي: فلا يقيم اللَّه، وقرأ الباقون بالنون

(4)

.

وقال القاري: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ} ؛ أي: للكفار {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} قيل: مقدارًا وحسابًا، واعتبارًا، وقيل: ميزانًا، فالتقدير آلة الوزن؛ إذ الكفار الْخُلَّص يدخلون النار بغير حساب، وإنما الميزان للمؤمنين الكاملين، والمرائين، والمنافقين. انتهى

(5)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: [فإن قلت]: كيف وَجْهُ صحة الاستشهاد بالآية، فإن المراد بالوزن في الحديث: وزن الْجُثّة، ومقداره؛ لقوله:"العظيم، السمين"، وفي الآية: إما وزن الأعمال؛ لقوله تعالى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [الكهف: 105]، وإما مقدارهم، والمعنى: نزدري بهم، ولا يكون لهم عندنا وزن، ومقدار؟.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1117.

(2)

"عمدة القاري" 19/ 50.

(3)

"تفسير الطبريّ" 18/ 129.

(4)

"فتح القدير" للشوكانيّ 4/ 431.

(5)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 201.

ص: 303

[قلت]: الحديث من الوجه الثاني على سبيل الكناية، وذكرُ الجثّة والعِظَم لا ينافي إرادة مقداره، وتفخيمه، قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7019](2785)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4729)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 69)، و (الطبريّ) في "التفسير"(16/ 35)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 34 و 7/ 329)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): هذا الحديث ظاهر في الدلالة على أن العباد أنفسهم يوزنون، وقد دلّت نصوص أخرى على أن الأعمال هي التي توزن، ونصوص أيضًا دلّت على أن الصحائف هي التي توزن، ويُجمع بأن كلها توزن، فيوزن العبد، وتوزن أعماله، وتوزن صحائفه، وبهذا تجتمع الأدلّة في الباب.

وقال ابن أبي العزّ رحمه الله عند قول الطحاويّ رحمه الله في "عقيدته": "والميزان"؛ أي: ونؤمن بالميزان، قال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون: 102، 103]. قال القرطبيّ: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحَسَبها. قال: وقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} يَحْتَمِل أن يكون ثَمّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويَحْتَمِل أن يكون المواد: الموزونات، فجُمع باعتبار تنوّع الأعمال الموزونة، واللَّه أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3503.

ص: 304

والذي دلت عليه السُّنَّة: أن ميزان الأعمال له كفّتان حسيّتان مشاهدتان. روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الْحُبُليّ، قال: سمعت عبد اللَّه بن عمرو يقول: قال رسول اللَّه: "إن اللَّه سيُخَلِّص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًّا، كلّ سجلّ مَدّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا، يا رب، فيقول: ألك عذر، أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنةً واحدةً، لا ظلم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تُظلَم، قال: فتوضع السجلات، في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم اللَّه الرحمن الرحيم"

(1)

، وهكذا روى الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي الدنيا، من حديث الليث، زاد الترمذيّ:"ولا يثقل مع اسم اللَّه شيء"، وفي سياق آخر:"توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة".

وفي هذا السياق فائدة جليلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما روى البخاريّ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:"إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند اللَّه جناح بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم: فلا نقيم لهم دوم القيامة وزنًا".

وروى الإمام أحمد، عن ابن مسعود: أنه كان يجني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مم تضحكون؟ " قالوا: يا نبي اللَّه، من دقة ساقية، فقال:"والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد"

(2)

.

(1)

صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبيّ، وحسّنه الترمذيّ، وصححه الألبانيّ إلا أنه قال: لفظ: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" شاذ، والصحيح لفظ:"مع اسم اللَّه". انتهى.

(2)

رواه أحمد في "مسنده" 1/ 450 بسند حسن.

ص: 305

وقد وردت الأحاديث أيضًا بوزن الأعمال أنفسها، كما في "صحيح مسلم"، عن أبي مالك الأشعريّ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطُّهور شطر الإيمان، والحمد للَّه تملأ الميزان".

وفي "الصحيح"، وهو خاتمة كتاب البخاريّ، قوله صلى الله عليه وسلم:"كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان اللَّه وبحمده، سبحان اللَّه العظيم".

وروى الحافظ أبو بكر البيهقيّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:"يؤتى بابن آدم يوم القيامة، فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثَقُل ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سَعِد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وإن خف ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شَقِي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا".

فلا يُلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن اللَّه يقلب الأعراض أجسامًا، كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"يؤتى بالموت كبشًا أغرّ، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال، يا أهل الجنة، فيشرئبّون وينظرون، ويقال: يا أهل النار، فيشرئبّون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيُذبح، ويقال: خلود لا موت"

(1)

، ورواه البخاري بمعناه.

فثبت وزن الأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان. واللَّه تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات.

فعلينا الإيمان بالغيب، كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان. ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع؛ لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقّال والفَوّال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم اللَّه لهم يوم القيامة وزنًا، ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عَدْله سبحانه لجميع عباده، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من اللَّه، من أجل ذلك أرسل الرسل

(1)

أخرجه أحمد بسند صحيح 2/ 423.

ص: 306

مبشرين ومنذرين. فكيف ووراء ذلك من الحِكَم ما لا اطلاع لنا عليه. فتأمل قول الملائكة، لمّا قال اللَّه لهم:{. . . وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)} [البقرة: 30]، وقال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، خلاصته ثبوت الميزان، كما أخبر به الكتاب والسُّنَّة، ووجوب الإيمان به، كما أوجبه اللَّه سبحانه وتعالى، وأن الوزن للأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7020]

(2786) - (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ -يَعْنِي: ابْنَ عِيَاضٍ- عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؛ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} [الزمر: 67]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ) بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ اليربوعيّ الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ) بن مسعود التميميّ، أبو عليّ الزاهد المشهور، أصله من خُراسان، وسكنَ مكة، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ [8] (ت 187) وقيل: قبلها (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

(1)

"شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 408 - 409.

ص: 307

3 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(إِبْرَاهِيمُ) بن يزيد النخعيّ الكوفيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ) هو: عَبيدة بن عمرو السّلْماني -بسكون اللام، ويقال: بفتحها- المراديّ، أبو عمرو الكوفيّ التابعي الكبير مخضرم، ثقةٌ ثبتٌ فقيه، كان شُريح إذا أشكل عليه شيء يسأله، [2] مات سنة اثنتين وسبعين، أو بعدها، والصحيح أنه مات قبل سنة سبعين (ع) تقدم في "الإيمان" 89/ 468.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، تقدّم في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، إلا فضيلاٌ، فخُراسانيّ، ثم مكيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وعلى قول من يقول: إن منصورًا تابعيّ، ففيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وأن صحابيّه من أكابر علماء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، تقدّم ذكرها.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبِيدَةَ) بفتح العين المهملة، وكسر الموحّدة، (السَّلْمَانِيِّ) بفتح السين المهملة، وسكون اللام، ويقال: بفتحها: نسبة إلى سلمان بن يشكر بن ناجية بن مراد، وهو حيّ من مراد، قال ابن الأثير: وأصحاب الحديث يفتحون اللام. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية الأعمش هنا عن إبراهيم، عن عبيدة، وفي رواية حفص بن غياث الآتية بعد حديث عن الأعمش، سمعت إبراهيم يقول: سمعت علقمة. قال في "الفتح" ما حاصله: وقد تابع سفيان الثوريّ عن منصور على قوله: "عبيدةَ" شيبانُ بن عبد الرحمن، عن منصور، كما عند البخاريّ في "التفسير"، وفضيلُ بن عياض، وجرير بن عبد الحميد عند مسلم، وخالفه عن الأعمش في قوله:"عبيدةَ" حفص بن غياث، وجرير، وأبو معاوية، وعيسى بن يونس عند مسلم، ومحمد بن فضيل عند الإسماعيليّ، فقالوا كلهم: عن الأعمش، عن

(1)

"تهذيب الأنساب" 2/ 127.

ص: 308

إبراهيم، عن علقمة، بدل عبيدة، وتصرُّف الشيخين يقتضي أنه عند الأعمش على الوجهين، وأما ابن خزيمة فقال: هو في رواية الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، وفي رواية منصور، عن إبراهيم، عن عَبيدة، وهما صحيحان. انتهى

(1)

.

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ) بفتح الحاء المهملة، وكسرها، وسكون الموحّدة، زاد في رواية:"من الأحبار"؛ أي: عالم من علماء اليهود.

قال الفيّوميّ رحمه الله: الْحِبْرُ بالكسر: العالم، والجمع أحبار، مثلُ حِمْل وأحمال، والْحَبْر بالفتح لغة فيه، وجمعه حُبُورٌ، مثلُ فَلْس وفُلُوس، واقتصر ثعلب على الفتح، وبعضهم أنكر الكسر. انتهى

(2)

.

وفي رواية: "أن يهوديًّا جاء"، وفي رواية:"جاء رجل من أهل الكتاب"، (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ؛ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُمْسِكُ) بضم أوله، من الإمساك، (السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، وفي رواية شيبان:"يَجعل" بدل "يمسك"، وفي رواية أبي معاوية عند الإسماعيليّ:"أبَلَغك يا أبا القاسم أن اللَّه يَحمل الخلائق"، (عَلَى إِصْبَعٍ) بكسر الهمزة، وفتح الموحّدة، هذه هي اللغة الفصحى؛ إذ فيها عشر لغات: تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، والعاشرة أُصبُوع، بوزن عصفور، زاد في رواية علقمة:"والثَّرَى"، وفي رواية شيبان "الماء، والثرى". (وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ)؛ أي: ممن لم يتقدّم له ذِكر، (عَلَى إِصْبَعٍ) زاد ابن خزيمة عن محمد بن خلاد، عن يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، فذكر الحديث، قال محمد: عَدَّها علينا يحيى بإصبعه، وكذا أخرجه أحمد بن حنبل في "كتاب السُّنَّة" عن يحيى بن سعيد، وقال: وجعل يحيى يشير بإصبعه يضع إصبعًا على إصبع، حتى أتى على آخرها.

ورواه أبو بكر الخلال في "كتاب السُّنَّة" عن أبي بكر المروزيّ، عن أحمد، وقال: رأيت أبا عبد اللَّه يشير بإصبع إصبع.

(1)

"الفتح" 17/ 377، "كتاب التوحيد" رقم (7414).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 117.

ص: 309

ووقع في حديث ابن عباس عند الترمذيّ: "مَرّ يهوديّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا يهوديّ حدّثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم، إذا وضع اللَّه السماوات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، وأشار أبو جعفر -يعني: أحد رواته- بخنصر أوّلًا، ثم تابع، حتى بلغ الإبهام"، قال الترمذيّ: حديث حسن، غريب، صحيح.

ووقع في مرسل مسروق عند الهرويّ مرفوعًا نحو هذه الزيادة، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ) بفتح أوله، من الهزّ؛ أي: يحرّكهنّ (فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ) مكرّرًا، (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية:"فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ضحك"، وفي رواية:"ولقد رأيت"، (تَعَجُّبًا) منصوب على التعليل؛ أي: إنما ضحك صلى الله عليه وسلم؛ لأجل تعجّبه (مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ)"ما" يَحْتمل أن تكون مصدريّة؛ أي: من قول الحبر، ويَحْتَمِل أن تكون موصولة، والعائد محذوف؛ لكونه فضلة؛ أي: من الذي قاله الحبر، وقول:(تَصْدِيقًا لَهُ) عَطْف على ما قبله؛ أي: ولأجل تصديق ذلك الحبر حيث أخبر بما هو حقّ.

وفي الرواية التالية: ("فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) جمع ناجذ، بنون، وجيم مكسورة، ثم ذال معجمة، وهو ما يظهر عند الضحك من الأسنان، وقيل: هي الأنياب، وقيل: هي الأضراس، وقيل: الدواخل من الأضراس التي في أقصى الحلق، قاله في "الفتح"

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: النَّاجِذُ: السنّ بين الضِّرْس والناب، و"ضَحِك حتى بدت نَواجِذُهُ" قال ثعلب: المراد الأنياب، وقيل: النَّاجِذُ آخر الأضراس، وهو ضِرْسُ الْحُلُم؛ لأنه يَنبُت بعد البلوغ، وكمال العقل، وقيل: الأضراس كلها نَوَاجِذُ، قال في "البارع": وتكون النَّوَاجِذُ للإنسان، والحافر، وهي من ذوات الخفّ: الأنياب. انتهى

(3)

.

(ثُمَّ قَرَأَ) صلى الله عليه وسلم، وقوله:({وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ}) مفعول به لـ "قرأ" محكيّ لِقَصْد لفظه.

(1)

"الفتح" 17/ 378، "كتاب التوحيد" رقم (7414).

(2)

"الفتح" 17/ 378.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 593.

ص: 310

وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} قال المبرد؛ أي: ما عظّموه حقّ عظمته، من قولك: فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا؛ لأنهم عبدوا غير اللَّه، وأمروا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يكون مثلهم في الشرك. وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وعيسى بن عمر:"قدّروا" بالتشديد. ({وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ}) القبضة في اللغة: ما قبضت عليه بجميع كفّك، فأخبر سبحانه وتعالى عن عظيم قدرته: بأن الأرض كلها مع عِظَمها، وكثافتها في مقدوره؛ كالشيء الذي يَقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان، وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرّف فيه، وإن لم يقبض عليه، قاله الشوكانيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "وإن لم يقبض عليه"، هذا من الشوكاني نَقْل لمذهب المؤوّلين، ولعله نقله غفلة، وإلا فالنص صريح في ثبوت القبض على حقيقته، وأنه سبحانه وتعالى يقبض قبضًا لا كقبض المخلوقين، بل على ما يليق بجلاله، فتنبَّه، فإن هذا من مزالّ الأقدام، كما سننبّه عليه قريبًا -إن شاء اللَّه تعالى-.

وقوله: ({يَوْمَ الْقِيَامَةِ}) إنما خَصّ يوم القيامة بالذكر، وإن كانت قدرته شاملة؛ لأن الدعاوي تنقطع فيه، كما قال:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الحج: 56]، وقال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 4]، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: جملة: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ} في محل نصب على الحال؛ أي: ما عظّموه حقّ تعظيمه، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع:{قَبْضَتُهُ} على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووَجَّهَه ابن خالويه بأنه على الظرفية؛ أي: في قبضته. وقرأ الجمهور: {مَطْوِيَّاتٌ} بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في محل نَصْب على الحال؛ كالتي قبلها، و {بِيَمِينِهِ} متعلق بـ {مَطْوِيَّاتٌ} ، أو حال من الضمير في {مَطْوِيَّاتٌ} ، أو خبر ثانٍ، وقرأ عيسى، والجحدري بنصب:{مَطْوِيَّاتٌ} ، ووجه ذلك: أن {وَالسَّمَاوَاتُ} معطوفة على {الْأَرْضُ} ، وتكون {قَبْضَتُهُ} خبرًا عن الأرض، والسموات، وتكون {مَطْوِيَّاتٌ} حالًا، أو تكون {مَطْوِيَّاتٌ} منصوبة بفعل مقدّر، و {بِيَمِينِهِ} الخبر.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 6/ 302.

ص: 311

وقوله: ({وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}) فيه أيضًا إثبات طيّ اللَّه تعالى السماوات بيمينه طيًّا حقيقيًّا لائقًا بجلاله سبحانه وتعالى، وقوله:({سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}) تنزيه منه سبحانه وتعالى لنفسه بنفسه، فقد تنزّه اللَّه سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له، مع هذه القدرة العظيمة، والحكمة الباهرة، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7020 و 7021 و 7022 و 7023](2786)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4811) و"التوحيد"(7513 و 7514)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3238)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 413 و 6/ 446)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 164)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 93 و 265)، و (البزّار) في "مسنده"(4/ 314 و 5/ 181)، و (الطبريّ) في "التفسير"(24/ 26)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 77 و 78)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7325 و 7326)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(541)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(706)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 319)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 334)، و (البغويّ) في "التفسير"(4/ 87)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في أقوال العلماء في تفسير هذا الحديث:

(اعلم): أن هذا الحديث دليل واضح في إثبات الأصابع للَّه سبحانه وتعالى، وأنه يقبض بها المخلوقات، كما وُصف في هذا الحديث، فنحن نؤمن بذلك، كما نؤمن بسائر صفات اللَّه عز وجل؛ كالسمع، والبصر، واليد، والعين، والتعجّب، والضحك، والرضا، والغضب، والنزول، والاستواء، وغير ذلك مما جاء في نصوص الكتاب، والسُّنَّة الصحيحة، على ظواهرها حقيقةً، لا مجازًا، على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، فلا نعطّل، ولا نشبّه، ولا نؤوّل، ولنَذْكر هنا ما قاله المؤوّلون، وما ردّ به المحقّقون عليهم، فأذكر أوّلًا ما ساقه الحافظ في "الفتح"، ثم أذكر الردّ عليه، فأقول:

ص: 312

نقل في "الفتح": وقال ابن بطال: لا يُحمل ذكر الإصبع على الجارحة، بل يُحمل على أنه صفة من صفات الذات، لا تكيّف، ولا تُحدّد، وهذا يُنسب للأشعريّ.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الكلام من ابن بطال سليم مسلّم، فيا ليته اكتفى به، ولكنه سيأتي له تأويل مرفوض، وسيأتي الردّ عليه -إن شاء اللَّه تعالى-.

وعن ابن فُورك أنه قال: يجوز أن يكون الإصبع خلقًا يخلقه اللَّه، فيُحَمِّله اللَّه ما يحمل الإصبع، ويَحتمل أن يراد به القدرة، والسلطان؛ كقول القائل: ما فلان إلا بين إصبعي، إذا أراد الإخبار عن قدرته عليه، وأيد ابن التين الأول بأنه قال: على إصبع، ولم يقل: على إصبعيه.

قال ابن بطال: وحاصل الخبر أنه ذكر المخلوقات، وأخبر عن قدرة اللَّه على جميعها، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم تصديقًا له، وتعجبًا من كونه يستعظم ذلك في قدرة اللَّه تعالى، وأن ذلك ليس في جنب ما يقدر عليه بعظيم، ولذلك قرأ قوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية؛ أي: ليس قَدْره في القدرة على ما يخلق على الحد الذي ينتهي إليه الوهم، ويحيط به الحصر؛ لأنه تعالى يقدر على إمساك مخلوقاته على غير شيء، كما هي اليوم، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 41]، وقال:{رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].

وقال الخطابيّ: لم يقع ذكر الإصبع في القرآن، ولا في حديث مقطوع به، وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة، حتى يُتوهم من ثبوتها ثبوت الأصابع، بل هو توقيف أطلقه الشارع، فلا يكيَّف، ولا يشبّه، ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهوديّ، فإن اليهود مشبّهة، وفيما يدّعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه، ولا تدخل في مذاهب المسلمين.

وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم من قول الحبر، فيَحْتَمِل الرضا، والإنكار، وأما قول الراوي:"تصديقًا له"، فظنّ منه، وحسبان، وقد جاء الحديث من عدّة طرق ليس فيها هذه الزيادة، وعلى تقدير صحتها، فقد يُستدلّ بحمرة الوجه على الخجل، وبصفرته على الوجل، ويكون الأمر بخلاف ذلك، فقد تكون الحمرة

ص: 313

لأمر حدث في البدن؛ كثوران الدم، والصفرة لثوران خُلط من مرار وغيره، وعلى تقدير أن يكون ذلك محفوظًا فهو محمول على تأويل قوله تعالى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ؛ أي: قدرته على طيّها، وسهولة الأمر عليه في جمعها، بمنزلة مَن جمع شيئًا في كفّه، واستقل بحمله من غير أن يجمع كفه عليه، بل يُقِلّه ببعض أصابعه، وقد جرى في أمثالهم: فلان يُقِلّ كذا بإصبعه، ويعمله بخنصره. انتهى ملخصًا.

قال: وقد تعقب بعضهم إنكار ورود الأصابع؛ لوروده في عدّة أحاديث؛ كالحديث الذي أخرجه مسلم: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن"، قال الحافظ: ولا يَرِد عليه؛ لأنه إنما نفى القطع.

قال الجامع: وهذا من الحافظ رضًا بتأويل الخطّابيّ، وسيأتي الردّ عليه.

قال: وقال القرطبيّ في "المفهم": قوله: "إن اللَّه يمسك" إلى آخر الحديث، هذا كله قول اليهوديّ، وهم يعتقدون التجسيم، وأن اللَّه شخص ذو جوارح، كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة، وضَحِك النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهوديّ، ولهذا قرأ عند ذلك:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ؛ أي: ما عرفوه حقّ معرفته، ولا عظّموه حق تعظيمه، فهذه الرواية هي الصحيحة المحقّقة، وأما من زاد:"وتصديقًا له" فليست بشيء، فإنها من قول الراوي، وهي باطلة؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يصدّق المحال، وهذه الأوصاف في حقّ اللَّه محال؛ إذ لو كان ذا يد، وأصابع، وجوارح كان كواحد منا، فكان يجب له من الافتقار والحدوث والنقص والعجز ما يجب لنا، ولو كان كذلك لاستحال أن يكون إلهًا؛ إذ لو جازت الإلهية لمن هذه صفته لصحّت للدجال، وهو محال، فالمفضي إليه كذب، فقول اليهوديّ كذب ومحال، ولذلك أنزل اللَّه في الردّ عليه:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، وإنما تعجب النبيّ صلى الله عليه وسلم من جهله، فظنّ الراوي أن ذلك التعجب تصديق، وليس كدلك.

قال الجامع: يا قرطبيّ: إن ظنّ ابن مسعود الصحابيّ الجليل الذي هو أعلم بكتاب اللَّه تعالى، وبسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم منك، ومن أمثالك خير من ظنّك أنت، وأمثالك، وأفضل، وأحسن، وأَولى بالاتباع، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

ص: 314

قال: فإن قيل: قد صحّ حديث: "إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن".

فالجواب: أنه إذا جاءنا مثل هذا في الكلام الصادق تأولناه، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه مع القطع باستحالة ظاهره؛ لضرورة صدق من دلّت المعجزة غلى صدقه، وأما إذا جاء على لسان من يجوز عليه الكذب، بل على لسان من أخبر الصادق عن نوعه بالكذب، والتحريف، كذّبناه، وقبّحناه، ثم لو سلّمنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صرّح بتصديقه، لم يكن ذلك تصديقًا له في المعنى، بل في اللفظ الذي نقله من كتابه عن نبيه، ونقطع بأن ظاهره غير مراد. انتهى كلام القرطبيّ ملخصًا.

قال الحافظ: وهذا الذي نحا إليه أخيرًا أَولى مما ابتدأ به؛ لِمَا فيه من الطعن على ثقات الرواة، وردّ الأخبار الثابتة، ولو كان الأمر على خلاف ما فهمه الراوي بالظنّ للزم منه تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم على الباطل، وسكوته عن الإنكار، وحاشا للَّه من ذلك.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما أحسن تعقّب الحافظ على القرطبيّ بهذا، ولكنه ليسر، بالحدّ المطلوب، وأقوى منه وأبلغ ردّ ابن خزيمة رحمه الله كما نقله في "الفتح"، فقال:

وقد اشتدّ إنكار ابن خزيمة على من ادّعى أن الضحك المذكور كان على سبيل الإنكار، فقال بعد أن أورد هذا الحديث في "كتاب التوحيد" من "صحيحه" بطريقه: قد أجلّ اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف ربه بحضرته بما ليس هو من صفاته، فيجعل بدل الإنكار والغضب على الواصف ضحكًا، بل لا يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف من يؤمن بنبوته. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ومما ينفّد قولهم: إن ضحكه صلى الله عليه وسلم كان للإنكار، لا للتصديق، ما أخرجه الشيخان -ويأتي عند مسلم بعد بابين- عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يتكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السّفّر نُزلًا لأهل الجنة"، فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم، ألا أخبرك بنُزُل أهل الجنة يوم القيامة؛ قال:"بلى"، قال: تكون الأرض خبزة

ص: 315

واحدة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنظر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلينا، ثم ضحك حتى بدت نواجذه.

فهذا نصّ صريح في أن ضكحه صلى الله عليه وسلم كان تصديقًا، لا إنكارًا؛ لأنه أخبرهم قبل مجيء اليهوديّ، وقبل إخباره، ثم لمّا أخبرهم بما أخبره صلى الله عليه وسلم به أعجبه ذلك، فضحك. واللَّه تعالى أعلم.

ثم أذكر ما كتبه بعض المحقّقين ممن له عناية بمذهب السلف، والردّ على من خالفه، وهو الشيخ البرّاك حفظه اللَّه تعالى حيث كتب في هامش "الفتح" ما خلاصته:

هذا الحديث يستدلّ به أهل السُّنَّة على إثبات الأصابع للَّه عز وجل، وأنها من صفة يديه؛ لأن هذا هو المفهوم من لفظ الإصبع في هذا لا السياق، وقد أقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهوديّ على قوله، كما فهم ابن مسعود رضي الله عنه بقوله:"فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّبًا، وتصديقًا له"، ويؤيّد ذلك قراءة النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، وقول أهل السُّنَّة في الأصابع للَّه تعالى كقولهم في اليدين، والوجه، وغير ذلك من الصفات، وهو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، ونفي العلم بالكيفيّة على حدّ قول الأئمة في الاستواء:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب".

إذا ثبت هذا فما نقله الحافظ عن ابن بطّال، وابن فُورك، وابن التين دائر بين التفويض، كما هو ظاهر قول ابن بطّال، والتأويل، كما هو ظاهر قول ابن فُورك، وابن التين.

وأهل التفويض والتأويل لا يُثبتون المعاني الظاهرة من نصوص الصفات، بل ينفونها، ثم منهم من يوجب في تلك النصوص التفويض، ومنهم من يوجب التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف، كما هو ظاهر في تأويلات ابن فورك بالإصبع المذكور في هذا الحديث، فنعوذ باللَّه من الضلال.

وكتب البرّاك أيضًا ما حاصله: من العجب إفراط الحافظ عفا اللَّه عنا وعنه في نقل أقوال المتأولين من النفاة لحقائق كثيرة من الصفات مع ما فيها من التمحّلات، والتكلّفات في صرف الكلام عن وجهه بشبهة واهية، مثل

ص: 316

التشكيك في تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "تصديقًا له"، وتخطئة ابن مسعود رضي الله عنه في خبره ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو المشاهد للقصّة، والأعلم بدلالة حال النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومقاله، هذا ولو لم يَرِد هذا التفسير عن ابن مسعود رضي الله عنه لكان ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتلاوته للآية كافيًا في تقرير ما قاله اليهوديّ من ذكر الأصابع، وجعل المخلوقات عليها، وأما الحمل في ذلك على اليهود، وأنها مشبّهة، فنَعَم اليهود مشبّهة فيما نسبوه إلى اللَّه تعالى من النقائص؛ كالفقر، والإعياء، والبكاء، وأما ما وصفوا اللَّه به مما دلّ عليه القرآن والسُّنَّة، فلا يجوز ردّه؛ لوروده على ألسنتهم، فلو لم يُقرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اليهوديّ على ما قال، لَمَا صحّ الاستدلال بقول اليهوديّ على إثبات الأصابع، بل كان الواجب التوقّف فيه كما هو الواجب في كل ما يحدّث به بنو إسرائيل فيما لم يَرِد به دليل على ثبوته، ولا نفيه.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم ما يقطع هذا التشكيك، والترديد، وهو أنه صلى الله عليه وسلم أخبر الناس أولًا، ثم جاء اليهوديّ بعده، فأخبره به، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك في حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، مرفوعًا:"تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، يكفؤها الجبار بيده. . . إلى أن قال: فأتى رجل من اليهود، فقال: تكون الأرض خبزة واحدة إلى آخره، فأخبره الخبر، كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، قال: فنظر إلينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، ثم ضحك حتى بدت نواجذه.

فهذا نصّ صريح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بالخبر قبل اليهوديّ، ثم جاء هو، فوافق خبره خبره، فأعجبه ذلك، فضحك صلى الله عليه وسلم.

قال البرّاك: وفي كلام الخطابيّ والقرطبي عفا اللَّه عنهما تخبّط، حَمَلهما عليه أصلهما الفاسد الذي استقرّ في فهمهما، وفَهْم كثير ممن يفهم حقيقة مذهب السلف الصالح، وذلك الأصل الفاسد هو نفي حقائق هذه الصفات؛ كالوجه، واليدين، والأصابع، والعين، وكالمحبّة، والرضا، والغضب، والضحك، والفرح إلى غير ذلك بشبهة أن إثباتها يستلزم التشبيه، وهي عين الشبهة التي نفت بها الجهميّة، والمعتزلة أسماء اللَّه تعالى، وصفاته، فما يردّ به الأشاعرة ونحوهم ممن يفرّق بين الصفات على الجهميّة والمعتزلة هو ما يردّ به أهل السُّنَّة عليهم فيما وافقوا فيه المعتزلة والجهميّة، فلا بدّ للأشاعرة ونحوهم

ص: 317

من الرجوع إلى المذهب الحقّ البريء من التناقض، وهو مذهب أهل السُّنَّة والجماعة، أو الخروج إلى مذهب المعطّلة من الجهميّة والمعتزلة، فلا مخلَص لهم من تناقضهم إلا بأحد الأمرين، فالواجب الاعتصام بكتاب اللَّه تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح الذين مذهبهم هو الأسلم، والأعلم، والأحكم؛ خلافًا لِمَا زعمه بعض الخلف، واللَّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

قال: وبعدُ فقد أحسن الحافظ ابن حجر: في تعقّبه على من خطّأ ابن مسعود رضي الله عنه في فَهْمه من ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم تصديق قول اليهوديّ، وأحسن كذلك في إيراد تعقّب ابن خزيمة لمن منع صفة الأصابع للَّه تعالى، ونصّ كلام ابن خزيمة كما ورد في "كتاب التوحيد"

(1)

له: "وقد أجلّ اللَّه تعالى قَدْر نبيّه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه، فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلّم به ضحكًا تبدو نواجذه تصديقًا، وتعجّبًا لقائله، لا يصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدّق برسالته".

قال: يريد ابن خزيمة رحمه الله بذلك أنه يلزم مَن ينفي صفة الأصابع للَّه عز وجل مع ثبوت ضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم تصديقًا لوصف اليهوديّ للَّه تعالى بذلك يلزم هذا النافي أن يصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بالضحك، وإقرار الباطل بدلًا من إنكار ذلك، والغضب منه، فيصف النبيّ صلى الله عليه وسلم بترك الواجب، وقد أجلّه اللَّه تعالى عن ذلك. انتهى ما كتبه الشيخ البرّاك حفظه اللَّه تعالى، وهو بحث نفيس، وتحقيقٌ أنيس.

خلاصته: الرد على المؤولين لصفات القبض، وصفات الأصابع، بأحسن ردّ، وأوضحه، وأن الحقّ إثبات ذلك على مراد اللَّه عز وجل، كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7021]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كِلَاهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى

(1)

"كتاب التوحيد" 1/ 178.

ص: 318

رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ فُضَيْلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ، وَقَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، تَعَجُّبًا لِمَا قَالَ، تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ، وَتَلَا الآيَةَ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"منصور بن المعتمر" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية جرير عن منصور هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف رحمه الله لكن بذكر: "ثم يهزّهنّ"، فقال:

(11450)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عَبِيدة، عن عبد اللَّه، قال: جاء حبر من اليهود إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إذا كان يوم القيامة جعل اللَّه السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق كلهم على إصبع، ثم يهزّهنّ، يقول: أنا الملِك، فلقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه؛ تعجبًا لِمَا قال، وتصديقًا له، ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7022]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}).

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 446.

ص: 319

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) -بكسر الغين المعجمة، وآخره مثلثة- ابن طَلْق -بفتح الطاء، وسكون اللام- الكوفيّ، ثقةٌ رُبّما وَهِم [10](ت 222)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.

2 -

(عَلْقَمَةُ) بن قيس النخعيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، ووالد عمر هو: حفص بن غياث بن طلق النخعيّ القاضي الكوفيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7023]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا: وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: وَالْخَلَائِقَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَلَكِنْ فِي حَدِيثِهِ: وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: تَصْدِيقًا لَهُ، تَعَجُّبًا لِمَا قَالَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) بوزن جعفر المروزيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257) أو بعدها، وقارب المائة (م ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 25.

3 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، أخو إسرائيل الكوفيّ، نزل الشام مرابطًا، ثقةٌ، مأمونٌ [8] (ت 187) وقيل: سنة (191)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الثلاثة: أبو معاوية،

ص: 320

وعيسى بن يونس، وجرير بن عبد الحميد رووا هذا الحديث عن الأعمش بِهَذَا الإِسْنَادِ الماضي؛ أي: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه رضي الله عنه.

[تنبيه]: أما رواية أبي معاوية، عن الأعمش، فقد ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3590)

- حدّثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه، قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم أبَلَغك أن اللَّه عز وجل يَحْمِل الخلائق على إصبع، والسموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فأنزل اللَّه عز وجل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية. انتهى

(1)

.

وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" عن أحد شيخي المصنّف، فقال:

(11452)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، قال: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن اللَّه عز وجل يَحمل السماوات على إصبع، ويَحمل الأرضين على أصبع، ويحمل الماء والثرى على إصبع، ويَحمل الشجر على إصبع، ويحمل الخلائق كلها على إصبع، ثم يقول: أنا الملك"، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. انتهى

(2)

.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5160)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللَّه قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن اللَّه يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، والخلائق كلها على إصبع، ثم قال: أنا الملك، قال: فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 378.

(2)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 447.

ص: 321

مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} الآية، فقلت لإبراهيم

(1)

: أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقال: في الدنيا. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7024]

(2787) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ اللَّهُ تبارك وتعالى الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ؟ ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران، أبو حفص التُّجِيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 244)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد اللَّه المصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروَا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي) سعيد (بْنُ الْمُسَيِّبِ) هكذا روايةَ يونس أن شيخ الزهريّ هو ابن المسيّب.

[تنبيه]: (اعلم): أنه اختُلف في هذا الإسناد على ابن شهاب في شيخه، فقال يونس: عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه،

(1)

هذا قول الأعمش، والظاهر أن هذه الزيادة لم تثبت في رواية مسلم، ولذا لم يذكرها في الاستثناء، واللَّه تعالى أعلم.

(2)

"مسند أبي يعلى" 9/ 93 - 94.

ص: 322

وخالفه في ذلك شعيب بن أبي حمزة، ومحمد بن الوليد الزُّبَيدي

(1)

، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهميّ، وإسحاق بن يحيى، فقالوا: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فأما رواية شعيب بن أبي حمزة، فقد وصلها الدارمي، قال: حدثنا الحكم بن نافع -وهو أبو اليمان- فذكره، وفيه: سمعت أبا سلمة يقول: قال أبو هريرة، وكذا أخرجه ابن خُزيمة في "كتاب التوحيد" عن محمد بن يحيى الذّهْلي، عن أبي اليمان.

وأما رواية الزُّبَيْدي، فوصلها ابن خزيمة أيضًا من طريق عبد اللَّه بن سالم عنه، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

وأما طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر فوصلها البخاريّ في "تفسير سورة الزُّمَر" من طريق الليث بن سعد عنه كذلك.

وأما رواية إسحاق بن يحيى، فوصلها الذُّهْلي في "الزهريات".

قال الإسماعيلي: وافق الجماعةَ عبيدُ اللَّه بنُ زياد الرُّصَافي في أبي سلمة.

قال الحافظ: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الصَّدَفيّ، عن الزهري كذلك، ونَقَل ابن خزيمة عن محمد بن يحيى الذُّهْلي أن الطريقين محفوظان. انتهى.

قال: وصنيع البخاري يقتضي ذلك، وإن كان الذي تقتضيه القواعد ترجيحَ رواية شعيب؛ لكثرة من تابعه، لكن يونس كان من خَوَاصِّ الزهري الملازمين له. انتهى ملخّصًا من "الفتح"

(2)

، وهو تحقيق نفيسٌ. واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقْبِضُ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب، (اللَّهُ تبارك وتعالى الأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث جاء في "الصحيح" على ثلاثة ألفاظ: القبض، والطيّ، والأخذ، وكلّها بمعنى الجمع، فإن السماوات مبسوطة، والأرض مَدْحُوّةٌ ممدودة، ثم رجع ذلك إلى معنى الرفع والإزالة

(1)

بضم الزاي، بعدها موحدة.

(2)

"الفتح" 13/ 449.

ص: 323

والتبديل، فعاد ذلك إلى ضمّ بعضها إلى بعض وإبادتها، فهو تمثيل لصفة قبض هذه المخلوقات، وجَمْعها بعد بَسْطها، وتفرّقها دلالةً على المقبوض والمبسوط، لا على البسط والقبض، وقد يَحْتَمِل أن يكون إشارةً إلى الاستيعاب. انتهى.

وقال السنديّ رحمه الله: هذا الحديث كالتفسير لقوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، والمقصود بيان عظمته تعالى، وحقارة الأفعال العظام التي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى كمال قدرته، وهذا المقصود حاصلٌ بهذا الكلام، وإن لم يُعرف كيفيّة القبض، وحقيقة اليمين، فالبحث عنهما خارجٌ عن القدر المقصود إفهامه، فلا ينبغي. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: في الحديث إثبات صفة اليمين للَّه تعالى، وأنه تعالى يقبض بها السموات والأرض، فنؤمن به كما ورد على حقيقته، لا على المجاز، كما يزعم المؤوّلون، بل على ظاهره على مراد اللَّه سبحانه وتعالى، كما يليق بجلاله، واللَّه تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ) قال البيهقي رحمه الله: الملك، والمالك: هو الخاصّ المُلكِ، ومعناه في حقّ اللَّه تعالى: القادر على الإيجاد، وهي صفة يستحقها لذاته. وقال الراغب: الملك المتصف بالأمر والنهي، وذلك يختص بالناطقين، ولهذا قال:{مَلِكِ النَّاسِ} [الناس: 2]، ولم يقل: مَلِكُ الأشياء، قال: وأما قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] فتقديره: المَلِك في يوم الدين؛ لقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]. انتهى.

وَيَحْتَمِل أن يكون خص الناس بالذكر في قوله تعالى: {مَلِكِ النَّاسِ (2)} ؛ لأن المخلوقات جمادٌ ونَامٍ، والنامي صامتٌ وناطقٌ، والناطق متكلم وغير متكلم، فأشرف الجميع المتكلم، وهم ثلاثة: الإنس والجن والملائكة، وكل مَنْ عداهم جائز دخوله تحت قبضتهم وتصرفهم، وإذا كان المراد بالناس في الآية المتكلم، فمَن مَلَكوه في مُلك مَن مَلَكهم، فكان في

(1)

"شرح السندي" 1/ 125.

ص: 324

حكم ما لو قال: ملك كل شيء، مع التنويه بذكر الأشرف، وهو المتكلم. قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَيْن مُلُوكُ الأَرْضِ؟ ") يقوله تعالى هذا إذلالًا لهم، وإظهارًا لعظمته سبحانه وتعالى. واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7024](2787)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4812) و"الرقاق"(6519) و"التوحيد"(7382)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 401 و 6/ 667)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(192)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 56)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 374)، و (الدارميّ) في "سننه"(2802)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 168)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 241 و 242)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما ترجم له المصنّف رحمه الله تعالى، وهو إثبات صفة القبض، والطيّ، واليمين، والكلام، حيث يقول اللَّه عز وجل:"أنا الملك أين ملوك الأرض؟ "، وكلّها صفات ثابتة للَّه سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، بل نثبتها له كما أثبتها هذا الحديث الصحيح المتّفقٌ عليه، ولا نعطّل، ولا نمثّل، ولا نكيّف، ولا نؤوّل.

2 -

(ومنها): بيان عظمة اللَّه تعالى، وأنه المتفرّد بالملك، وأن الخلائق كلهم يَفْنَون.

[تنبيه]: ذكر في "الفتح" عن ابن أبي حاتم رحمه الله أنه قال في "كتاب الرد على الجهمية": وجدت في كتاب أبي عمر نعيم بن حماد، قال: يقال للجهمية: أخبرونا عن قول اللَّه تعالى بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا

(1)

"الفتح" 13/ 448 - 449.

ص: 325

يجيبه أحد، فيردّ على نفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، وذلك بعد انقطاع ألفاظ خلقه بموتهم، أفهذا مخلوق؟ انتهى.

وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أن اللَّه يخلُق كلامًا، فيسمعه من شاء بأن الوقت الذي يقول فيه:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} لا يبقى حينئذ مخلوق حيًّا، فيجيب نفسه، فيقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، فثبت أنه يتكلم بذلك، وكلامه صفة من صفات ذاته مخلوق.

وعن أحمد بن سَلَمة، عن إسحاق بن راهويه قال: صَحّ أن اللَّه يقول بعد فناء خلقه: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا يجيبه أحد، فيقول لنفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} .

قال: ووجدت في كتاب عند أبي، عن هشام بن عبيد اللَّه الرازي قال: إذا مات الخلق، ولم يبق إلا اللَّه، وقال:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ، فلا يجيبه أحدٌ، فيردّ على نفسه، فيقول:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، قال: فلا يشك أحدٌ أنّ هذا كلام اللَّه، وليس بوحي إلى أحد؛ لأنه لم تَبْقَ نفس فيها روح إلا وقد ذاقت الموت، واللَّه هو القائل، وهو المجيب لنفسه.

وفي حديث الصُّور الطويل: "فإذا لم يبق إلا اللَّه كان آخرًا كما كان أولًا، طَوَى السماء والأرض، ثم دحاها، ثم تلقفهما، ثم قال: أنا الجبار ثلاثًا، ثم قال:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} ثلاثًا، ثم قال لنفسه:{لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16]؛ يعني: يقول اللَّه: {لِمَنِ الْمُلْكُ} ، فترك ذِكر ذلك استغناءً لدلالة الكلام عليه، قال: وقوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} ذكر أن الرب جل جلاله هو القائل ذلك مجيبًا لنفسه

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7025]

(2788) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،

(1)

راجع: "الفتح" 13/ 450.

(2)

راجع: "تفسير ابن جرير" 21/ 366.

ص: 326

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَطْوِي اللَّهُ عز وجل السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب الْعُمريّ المدنيّ، ضعيف [6](خت م د ت ق) تقدم في "النكاح" 22/ 3542.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لعمر بن حمزة، وهو ضعيف؟.

[قلت]: لم يُخرج له في الأصول منفردًا، وإنما أخرج له ما تابعه عليه غيره، فقد تابعه أبو حازم عن عبيد اللَّه بن مِقْسم عن ابن عمر في السند التالي، وهي متابعة ناقصة، وأخرجه أيضًا البخاريّ عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد اللَّه المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وكان ثبتًا عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّه بأبيه في الهدي والسمت، من كبار [3] مات في آخر سنة ست ومائة على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمِ بْنٍ عَبْدِ اللَّهِ)؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي) أبي (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَطْوِي)؛ أي: يجمع (اللَّهُ صلى الله عليه وسلم السَّمَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ)؛ أي: السماوات (بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثم يَقُولُ) اللَّه سبحانه وتعالى: (أَنَا الْمَلِكُ)، وفي الرواية الثالثة: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ:"يَأْخُذُ الْجَبَّارُ عز وجل سَمَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ"، قال ابن الأثير رحمه الله:"الجبّار" معناه: الذي يَقهر العباد على ما أراد من أمر ونهي، يقال: جبر الخلق، وأجبرهم، وأجبر أكثرُ، وقيل: هو العالي فوق خلقه، وفَعّالٌ من أبنية المبالغة، ومنه قولهم: نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ، وهي العظيمة التي تفوت

ص: 327

يد المتناول. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: وأجبرته على كذا بالألف: حَمَلته عليه قهرًا وغلبةً، فهو مُجْبَرٌ، هذه لغة عامّة العرب، وفي لغة لبني تميم، وكثير من أهل الحجاز يَتَكَلَّم بها جَبَرْتُهُ جَبْرًا، من باب قتل، وجُبُورًا، حكاه الأزهريّ، ولفظه: وهي لغة معروفةٌ، ولفظ ابن القَطّاع: وجبرتك لغة بني تميم، وحكاها جماعة أيضًا، ثم قال الأزهريّ: فجبرته وأجبرته لغتان جيّدتان، وقال ابن دُريد في باب ما اتَّفَقَ عليه أبو زيد وأبو عبيدة، مما تكلّمت به العرب، من فَعَلْتُ وأفعلتُ: جبرتُ الرجلَ على الشيء، وأجبرته، وقال الخطابيّ: الجبّار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال: جبره السلطان، وأجبره، بمعنًى، ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى:{وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] أن الثلاثيّ لغةٌ حكاها الفرّاءُ وغيره، واستشْهَد لصحّتها بما معناه: أنه لا يُبنى فَعّالٌ إلا من فِعْل ثلاثيّ، نحو الفتّاح، والعلّام، ولم يجئ من أفعل بالألف إلا دَرّاكٌ، فإن حُمل جَبّارٌ على هذا المعنى، فهو وجه، قال الفرّاء: وقد سمعتُ العرب تقول: جبرته على الأمر، وأجبرته، وإذا ثبت ذلك فلا يُعَوَّل على قول من ضعّفها. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تبيّن بما سبق أن "الْجَبّار" لغة فصيحة؛ لصحّة ثلاثيّها، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟)؛ أي: الذين كانوا يتسلّطون على العباد، ويتجبّرون عليهم في الدنيا ظلمًا وعدوانًا، (أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ) فيه إثبات الشمال للَّه تعالى على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى (ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ") زاد في الرواية التالية:"حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ"؛ أي: من أسفله إلى أعلاه؛ لأن بحركة الأسفل يتحرك الأعلى، ويَحْتَمل أنّ تحركه بحركة النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذه الإشارة، قاله النووي، وقال القاضي عياض: ويَحْتمل أن يكون بنفسه هيبةً لِسَمْعه، كما حَنّ الجذع، ثم قال: واللَّه أعلم بمراد نبيّه صلى الله عليه وسلم فيما ورد في هذه الأحاديث من

(1)

"النهاية" 1/ 235.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 90.

ص: 328

مشكل، ونحن نؤمن باللَّه تعالى وصفاته، ولا نُشَبِّه شيئًا به، ولا نشبّهه بشيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه فهو حقّ وصدقٌ، فما أدركنا علمه فبفضل اللَّه تعالى، وما خَفِي علينا آمنّا به، ووَكَلْنا علمه إليه سبحانه وتعالى، وحملنا لفظه على ما احتمل في لسان العرب الذي خوطبنا به، ولم نقطع على أحد معنييه بعد تنزيهه سبحانه وتعالى عن ظاهره الذي لا يليق به سبحانه وتعالى، وباللَّه التوفيق. انتهى.

قال، الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قال القاضي عياض رحمه الله وأحسنَ القول، خلاف عادته في أحاديث الصفات، وقد نقل هذا الكلام منه النوويّ، وأقرّه عليه، وهو أيضًا خلاف عادته، فإنه وإن ذكر مذهب السلف، إلا أنه يختار مذهب الخلف المؤولين، ويؤيّده، ومن الغريب أنه نقل قبل هذا عن المازريّ في شرح هذا الحديث، أن هذا الكلام استعارة، فقال: وأما إطلاق اليدين للَّه تعالى، فمتأول على القدرة إلى آخر كلامه، وارتضى هذا التأويل السخيف، فهذا تناقضٌ عجيب.

والحقّ كما بيّنا غير مرّة أن مذهب السلف هو الأعلم، والأحكم، والأسلم، فلا ينبغي العدول عنه.

ولقد أجاد السنديّ رحمه الله في حاشيته على ابن ماجه، حيث قال: والحقّ في هذا الحديث، وكذا في نظائره ما ذكره المحقّقون، قال البغويّ رحمه الله في "شرح السُّنَّة": كلُّ ما جاء في الكتاب والسُّنَّة من هذا القبيل في صفاته تعالى؛ كالنفس، والوجه، والعين، والإصبع، واليد، والرجل، والإتيان، والمجيء، والنزول إلى السماء، والاستواء على العرش، والضحك، والفرح، فهذه ونظائرها صفاتٌ للَّه عز وجل وَرَدَ بها السمع، فيجب الإيمان بها، وإمرارُها على ظاهرها، مُعرضًا فيها عن التأويل، مُجتنبًا عن التشبيه، مُعتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيءٌ من صفاته صفاتِ الخلق، كما لا تشبه ذاتُهُ ذواتِ الخلق، قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

وعلى هذا مضى سلف الأمة، وعلماءُ السُّنَّة، تلقّوها جميعًا بالإيمان والقبول، وتجنّبوا فيها عن التمثيل والتأويل، ووكلوا العلم فيها إلى اللَّه تعالى،

ص: 329

كما أخبر سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم، فقال عز وجل:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

قال سفيان بن عيينة: كلُّ ما وصف اللَّه سبحانه وتعالى به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته، والسكوت عليه، ليس لأحد أن يفسّره إلا اللَّه عز وجل ورُسله. وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله عز وجل:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا ضالًّا، وأمر به أن يُخرَج من المجلس. وقال الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ، وسفيان بن عيينة، ومالكًا عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية، فقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت بلا كيف. وقال الزهريّ: على اللَّه البيان، وعلى الرسول البلاع، وعلينا التسليم. وقال بعض السلف: قَدَمَ الإسلام لا يَثبُتُ إلا على قنطرة التسليم. انتهى.

وبنحو هذا صرّح كثير من المحقّقين، فعليك به واللَّه الموفّق. انتهى كلام السنديّ رحمه الله وهو تحقيقٌ نفيس، وبحث أنيس. واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7025 و 7026 و 7027](2788)، و (البخاريّ) في "التوحيد"(7412)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4738)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(198) و"كتاب الزهد"(4329)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 72 و 78)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(742)، و (الطبري) في "تفسيره"(24/ 27)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(73)، و (ابن حبان) في "صحيحه"(7324)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(13327)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(339 و 340)، و (ابن ابي عاصم) في "السُّنَّة"(547)، و (أبو الشيخ) في "العظمة"(139)، و (البغويّ) في "التفسير"(4/ 87) مع اختلاف في الألفاظ. واللَّه تعالى أعلم.

ص: 330

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7026]

(. . .) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْخُذُ اللَّهُ عز وجل سَموَاتِهِ، وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ

(1)

، فَيَقُولُ: أَنَا اللَّهُ -وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ، وَيَبْسُطُهَا- أَنَا الْمَلِكُ" حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شعبة، أبو عثمان الخراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ، مصنِّفٌ، وكان لا يرجع عما في كتابه؛ لشدّة وثوقه به [10] (227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج الأَفْزر

(2)

التَّمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ويقال: مولى بني شِجْع من بني ليث، ومن قال: أشجع فقد وَهِمَ، ثقة عابدٌ [5](ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مِقْسَمٍ) القرشيُّ، مولى ابن أبي نَمِر، المدنيّ، ثقة مشهور [4](خ م د س ق) تقدم في "الجنائز" 23/ 2222.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

وقوله: (وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ، وَيَبْسُطُهَا)؛ أي: يقبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده وببسطها حكايةً عن ربّه تعالى.

وقوله: (حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ: أَسَاقِطٌ) بهمزة الاستفهام، (هُوَ)؛ أي: المنبر، (بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا الاستفهام من ابن عمر رضي الله عنهما جرى بينه وبين نفسه.

(1)

وفي نسخة: "بيده".

(2)

قال في "اللسان" 5/ 53: الْفُزُور: الشُّقوق والصُّدوع، ويقال: فَزَرْتُ أنف فلان فَزْرًا؛ أي: ضربته بشيء فشققته، فهو مَفْزُورُ الأنف. انتهى.

ص: 331

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7027]

(

) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِم، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: "يَأْخذُ الْجَبَّارُ عز وجل سَمَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وهم المذكورون في السند الماضي، غير واحد، وهو:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) سلمة بن دينار المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [8] (ت 184) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 45/ 290.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ) فاعل "ذَكَر" ضمير عبد العزيز بن أبي حازم.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه" فقال:

(4275)

- حدّثنا هشام بن عمار، ومحمد بن الصباح، قالا: ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، حدّثني أبي، عن عبيد الله بن مِقْسَم، عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول:"يأخذ الجبار سماواته، وأرضيه بيده، وقبض يده، فجعل يقبضها، ويبسطها، ثم يقول. أنا الجبار، أنا الملك، أين الجبارون؛ أين المتكبرون؟ " قال: ويتمايل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يمينه، وعن شماله، حتى نظرت إلى المنبر، يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1429.

ص: 332

(3) - (بَابُ ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَخَلْقِ آدَمَ عليه السلام

-)

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الترجمة لا توجد في النسخة الهنديّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7028](2789) - (حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَا: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجِ: أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعِ مَوْلَىَ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي، فَقَالَ:"خَلَقً اللهُ عز وجل التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاَثاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السلام بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ الْخَلْقِ، وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ".

قَالَ إِبْراهيمُ: حَدَّثَنا البِسْطاميُّ (وهُوَ الحُسَيْنُ بنُ عِيسَى)، وسَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ، وإِبْراهِيمُ بْنُ بِنْتِ حَفْصٍ، وَغَيْرُهُمْ، عَنْ حَجَّاجٍ، بِهَذَا الحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث، مَرُّوذيّ الأصلِ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن مروان البغداديّ، أبو موسى الْحَمّال، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمِصِّيصيّ الأعور، أبو محمد، ترمذيّ الأصل، نزل بغداد، ثم الْمِصِّيصة، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه اختَلَط في آخر عمره، لَمّا قَدِم بغداد قبل موته [9](ت 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، تقدّم في الباب الماضي.

5 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ) بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن

ص: 333

العاص بن أمية الأمويّ المكيّ، ثقةٌ ثبتٌ [6] (144) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

6 -

(أَيُّوبُ بْنُ خَالِدِ) بن صفوان بن أوس بن جابر الأنصاريّ المدنيّ، نزيل بُرْقة، ويُعرف بأيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاريّ، وأبو أيوب جدّه لأمه عمرة، فيه لين [4].

رَوَى عن أبيه، وعبد الله بن رافع مولى أم لمملمة، وميمونة بنت سعد، وجابر، وزيد بن خالد الجهنيّ.

وروى عنه إسماعيل بن أمية، وموسى بن عُبيدة الرّبَذيّ، ويزيد بن أبي حبيب، وغيرهم.

فرّق أبو زرعة، وأبو حاتم بين أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاريّ، يروي عن أبيه، عن جدّه، وبين أيوب بن خالد بن صفوان، وجعلهما ابن يونس واحدًا.

قال الحافظ: وسبب ذلك أن خالد بن صفوان والد أيوب، وأمه عمرة بنت أبي أيوب الأنصاريّ، فهو جدّه لأمه، فالأشبه قول ابن يونس، فقد سبقه إليه البخاريّ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ورجحه الخطيب، وقال الأزديّ في ترجمة إسحاق بن مالك التنيسيّ -بعد أن روى من طريق هذا حديثًا عن جابر-: أيوبُ بنُ خالد ليس حديثه بذاك، تكلم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد، ونظراؤه لا يكتبون حديثه. انتهى.

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم المخزوميّ، أبو رافع المدنيّ، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

8 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر في الباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِي) قال القاري رحمه الله: أخْذه صلى الله عليه وسلم بيده إشارةٌ إلى كمال قربه، ودلالة على تمام حفظه،

ص: 334

ولعل في أخذ يده إيماءٌ إلى تعداد أعداد الخمسة، مع قطع النظر عن خلق آدم عليه السلام بعد الجمعة، فإنه بمنزلة العلّة الغائبّة، والفذلكة الإيمائية. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("خَلَقَ اللهُ عز وجل التُّرْبَةَ)؛ يعني: الأرض والتُّرْب، والتراب، والتُّرْبة واحد، لكنهم يُطلقون التربة على التأنيث، ذكره ابن الأثير.

[تنبيه]: قد وردت للتراب لغات، قد نظمتها بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَّ لِلتُّرَابِ سُمِعَا

مِنَ اللُّغَاتِ مَا يَلِي فَانْتَفِعَا

تُرَابٌ التُّرْبَةُ وَالتَّرْبَاءُ جَا

وَتَيْرَبٌ وَتُرَبَاءُ أُدْرِجَا

وَتَوْرَبٌ وَتَيْرَبٌ تَيْرَابُ

كَذَا تَرِيبٌ مَعَهُ تَوْرَابُ

ويُجْمَعُ التُّرَابُ بِالأَتْرِبَةِ

كَذَا بِترْبَانٍ بِغَيْرِ مِرْيَةِ

وَمِنْ لُغَاتِهِ الرَّغَامُ إِثْلِبُ

وَأَثْلَبٌ كَسْرًا وَفَتْحًا يَصْحَبُ

(2)

وَكِثْكِثٌ بِالْكَسْرِ وَافْتَحْ دِقْعَمُ

بِالْكَسْرِ وَالدَّقْعَاءُ فَتْحًا يُعْلَمُ

وَهْوَ الْبَرَا مِثْلُ الْعَصَا وَكِلْخِمُ

وَكِمْلِخٌ بِالْكَسْرِ أَيْضًا يُفْهَمُ

وَعِثْيْرٌ بِالْكَسْرِ قَدْ نَظَمْتُهَا

أَخْذًا مِنَ "الْقَامُوسِ" قَدْ حَرَّرْتُهَا

كَذَا مِنَ التَّهْذِيبِ لِلأَسْمَاءِ

لِلنَّوَوِيِّ فَاعْنَ بِالْهَنَاءِ

وقال القرطبيّ رحمه الله ما حاصله: هذا الحديث مفصّل لِمَا أجمله قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] والتربة: التراب؛ أي: الأرض، وكأنه خلق التراب يوم السبت غير مُنعَقِد، ولا متجمّد، ثم يوم الأحد جمّده، وجعل منه الجبال أرسى بها الأرض، وكمل خلق الأرض بجبالها في يومين. انتهى

(3)

.

(يَوْمَ السَّبْتِ) قال القاريّ رحمه الله: كأن المراد بيوم السبت آخر يومه المسمى بعشية الأحد، فلها حكمه، فلا ينافي قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)} [ق: 38]. انتهى

(4)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 394.

(2)

أي: كسر همزته ولامه، وفتحهما.

(3)

"المفهم" 7/ 342.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 394.

ص: 335

وقال الحراليّ: أصل السبت القطع للعمل، ونحوه. انتهى، وفيه ردّ زعم اليهود أنه ابتدأ في خلق العالم يوم الأحد، وفرغ يوم الجمعة، واستراح السبت، قالوا: ونحن نستريح فيه، كما استراح الرب تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وهذا من جملة غباوتهم، وجهلهم؛ إذ التعب لا يتصور إلا على حادث، {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)} [النحل: 40].

(1)

(وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الأَحَدِ) قال القاري: وهذا معنى قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} الآية [فصلت: 9، 10].

(وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ)؛ أي: جنسه، (يَوْمَ الثُّلَاَثاءِ) بالمدّ، قال عز وجل:{وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10]؛ أي: في بقية الأربعة، قاله القاري

(2)

.

قال القاضي عياض رحمه الله: كذا جاء في كتاب مسلم، وكذا رواه الحاكم، ورويناه في كتاب ثابت:"التِّقْن" مكان "المكروه"، وفسَّره بالأشياء التي يقوم بها المعاش، ويقوم به صلاح الأشياء، كجواهر الأرض، وغير ذلك، وقال غيره: التقن: المتقن، والأول الصواب. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "المكروه"؛ أي: ما يُكره مما يُهلك، أو يؤلم؛ كالسموم، والْخِشاش، والحيوانات المضرّة، وقد ذكر هذا الحديت ثابث في كتابه، وقال فيه:"وخلق التِّقْن يوم الثلاثاء" بدل "المكروه". قال: والتِّقْن: ما يقوم به المعاش، ويصلح به التدبير؛ كالحديد، وغيره من جواهر الأرض، وكلُّ شي يحصل به صلاح فهو تِقْن، ومنه: إتقان الشيء وإحكامه. انتهى

(4)

.

وقال المناويّ: وخَلْق المكروه يوم الثلاثاء لا ينافيه رواية مسلم: "وخلق التقن"؛ أي: ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء؛ لأن كلًّا منهما خُلق فيه

(5)

.

(1)

"فيض القدير" 3/ 447.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 394.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 340.

(4)

"المفهم" 7/ 342 - 343.

(5)

"فيض القدير" 3/ 447.

ص: 336

وقال ابن الأثير رحمه الله: أراد بالمكروه ها هنا: الشرّ؛ لقوله: "وخلق النور يوم الأربعاء"، والنور خير، وإنما سُمّي الشر مكروهًا؛ لأنه ضد المحبوب. انتهى

(1)

.

(وَخَلَقَ النُّورَ) النور بالراء، ولا ينافيه رواية "النون"؛ أي: الحوت؛ لأن كلاهما خُلق فيه، (يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ) يوم الأربعاء مثلث الباء، قال الفيّوميّ رحمه الله: ويوم الأربعاء ممدود، وهو بكسر الباء، ولا نظير له في المفردات، وإنما يأتي وزنه في الجمع، وبعض بني أسد يفتح الباء، والضمّ لغة قليلة فيه. انتهى

(2)

.

وقال النوويّ: الأربعاء بفتح الهمزة، وكسر الباء، وفتحها، وضمّها، ثلاث لغات، حكاهنّ صاحب "المحكم" وجمعه أربعاوات، وحكي أيضًا أرابيع. انتهى

(3)

.

وقال القاري رحمه الله: "وخلق النور" بالراء، وفي نسخة بالنون في آخره، قال الأكمل: هو بالراء كما لمسلم، ولغيره بالنون، وهو الحوت، ويجوز خلقهما في الأربعاء، والنور هو الظاهر بنفسه، المظهر لغيره. انتهى، والظاهر أن المراد بالنور: هو نفسه، وما فيه ظهوره، فيناسب قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} [فصلت: 11، 12]

(4)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والنور يوم الأربعاء" كذا الرواية الصحيحة المشهورة، وقد وقع في بعض نسخ مسلم:"النون" -بالنون- يعني به: الحوت، وكذا جاء في كتاب ثابت، وفي رواية أخرى:"البحور" مكان "النور"، قال القرطبيّ: وهذه الرواية ليست بشيء؛ لأنَّ الأرض خُلقت بعد الماء، وعلى الماء، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]؛ أي: قبل خلق السماوات والأرض، إلا إن أراد بالبحور: الأنهار التي خَلق الله تعالى في الأرض، فله

(1)

"النهابة في غريب الأثر" 4/ 169.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 217.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 134.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 394.

ص: 337

وجه، والصحيح رواية "النور"، ويعني به: الأجسام النيرة؛ كالشمس، والقمر، والكواكب، ويتضمّن هذا أنه تعالى خلق السموات يوم الأربعاء؛ لأنَّ هذه الكواكب في السماوات، ونورها ضوؤها الذي بين السماء والأرض، والله تعالى أعلم.

وتحقيق هذا أنه لم يذكر في هذا الحديث نصًّا على خلق السموات، مع أنه ذكر فيه أيام الأسبوع كلها، وذكر ما خلق الله تعالى فيها، فلو خلق السموات في يوم زائد على أيام الأسبوع، لكان خلق السماوات والأرض في ثمانية أيام، وذلك خلاف المنصوص عليه في القرآن، ولا صائر إليه.

وقد رُوي هذا الحديث في غير كتاب مسلم بروايات مختلفة مضطربة، وفي بعضها: أنه خلق الأرض يوم الأحد والاثنين، والجبال يوم الثلاثاء، والشجر والأنهار والعمران يوم الأربعاء، والسموات والشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة.

فهذه أخبار آحاد مضطربة فيما لا يقتضي عملًا، فلا يُعتمد على ما تضمّنته من ترتيب المخلوقات في تلك الأيام، والذي يُعتمد عليه في ذلك قوله تعالى:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، فلينظر فيها من أراد تحقيق ذلك، وفيها أبحاث طويلة، ليس هذا موضع ذكرها. انتهى

(1)

.

(وَبَثَّ) قال الحراليّ: من البثّ، وهو تفرقة آحادٍ متكثرة، في جهات مختلفة. انتهى، وقال القاري؛ أي: فرّقها في الأرض بعد خلق أصولها. انتهى. (فِيهَا الدَّوَابَّ) من الدبيب، وهو الحركة بالنفس، (يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ عليه السلام)"آدم": اسم سريانيّ، وهو عند أهل الكتاب آدام بإشباع فتحة الدال، بوزن خاتام، فوزنه فاعال، وامتنع صرفه؛ للعجمة، والعلمية، وقال الثعلبيّ: التراب بالعبرانية آدام، فسمّي آدم به، وحذفت الألف الثانية، وقيل: هو عربيّ، جزم به الجوهريّ، والجواليقيّ، وقيل: هو بوزن أفعل، من الأُدمة، وقيل: من الأديم؛ لأنه خُلق من أديم الأرض، وهذا عن ابن عباس، ووجّهوه بأنه يكون كَعْيَن، ومُنع الصرف؛ للوزن والعَلَمية، وقيل: هو من أَدَمت بين الشيئين: إذا

(1)

"المفهم" 7/ 343 - 344.

ص: 338

خلطت بينهما؛ لأنه كان ماءً وطينًا، فخُلطا جميعًا، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فِي آخِرِ الْخَلْقِ)؛ أي: لكونه الفَذْلكة الإيمائية، وبمنزلة العلة الغائية، قاله القاري:(وَفِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ") وهي الساعة المرجوّة للإجابة في يوم الجمعة عند جماعة من الأئمة، كما سبق بيانه في محلّه.

قال المناويّ: استَدَلّ بهذا الحديث في "المجموع" للمذهب الصحيح أن أول الأسبوع السبت، وعليه أكثر أصحاب الشافعيّ، بل في "الروض الأنف": لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وإنما خلقها في هذه الأيام، ولم يخلقها في لحظة، وهو قادر عليه؛ تعليمًا لخلقه الرفق، والتثبت. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هذا ملحقّ من تلميذ مسلم، وهو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان المتوفّى سنة (38 هـ) تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73. (حَدَّثَنَا الْبِسْطَامِيُّ -وَهُوَ الْحُسَيْنُ بْنُ عِيسَى) بن حُمران الطائيّ، أبو عليّ القُومسيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث [10] (ت 247) تقدّمت ترجمته في، "البيوع" 15/ 3889، وهو ليس من رجال مسلم، وإنما يروي عنه تلميذه، كما هنا.

(وَسَهْلُ بْنُ عَمَّارٍ) القاضي، العلامة، أبو يحيى العتكيّ النيسابوريّ الحنفيّ، شيخ أهل الرأي بخراسان، وقاضي هراة، ارتحل في الحديث، وسمع من: يزيد بن هارون، وشبابة بن سوار، وجعفر بن عون، وعبد الرحمن بن قيس، والواقدي، وعبيد الله بن موسى، وعدة.

حدث عنه: العباس بن حمزة، وأبو يحيى البزاز، وإبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه، ومحمد بن سليمان بن فارس، وأحمد بن شعيب الفقيه، ومحمد بن علي بن عمر المذكر، وآخرون.

قال الحاكم: قلت لمحمد بن صالح بن هانئ: لِمَ لَمْ تكتب عن سهل؟ قال: كانوا يمنعون من السماع منه، وسمعت ابن الأخرم يقول: كنا نختلف

(1)

"الفتح" 7/ 605 - 606، "كتاب أحاديث الأنبياء عليهم السلام" رقم (3326).

(2)

"فيض القدير" 3/ 447.

ص: 339

إلى إبراهيم بن عبد الله السعدي، وسهلُ بن عمار مطروح في سكته، فلا نتقدم إليه، وعن إبراهيم السعدي، أنه اتَّهَمَ سهلًا، وقال الحاكم: مختلف في عدالته، توفي سنة سبع وستين ومئتين، ذكر هذا كلّه الذهبيّ رحمه الله في "سير أعلام النبلاء"

(1)

.

وأما (وَإِبْرَاهِيمُ ابْنُ بِنْتِ حَفْصٍ) فلم أجد ترجمته، والله تعالى أعلم.

وقوله: (وَغَيْرُهُمْ)؛ أي: غير هؤلاء الثلاثة من العلماء حدّثوني (عَنْ حَجَّاجٍ) بن محمد الأعور، عن ابن جريج بسنده الماضي، (بِهَذَا الْحَدِيثِ)؛ أي: بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي".

وغرض إبراهيم بهذا بيان العلوّ في إسناد هذا الحديث على إسناد مسلم، فإنه وصل إلى حجاج الأعور بواسطة واحدة، وهم شيوخه المذكورون عن حجاج، وقد وصل إليه في طريق مسلم بواسطتين، وهما مسلم، وشيخاه: سريج، وهارون، كلاهما عن حجّاج، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [3/ 7028](2789)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 293)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 327)، و (الطبريّ) في "التفسير"(12/ 2 و 24/ 95) وفي "التاريخ"(1/ 23 و 45)، و (ابن معين) في "تاريخه"(ص 305)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(3/ 117)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6161)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 514)، و (الحاكم) في "معرفة علوم الحديث"(ص 33 - 34)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 3) وفي "الأسماء والصفات"(ص 383 - 384)، و (الخطيب البغداديّ) في "تاريخه"(5/ 188)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في كلام أهل العلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا:

(1)

"سير أعلام النبلاء" 13/ 32 - 33.

ص: 340

(اعلم): أنه قد تكلّم العلماء في هذا الحديث، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": وهذا الحديث من غرائب "صحيح مسلم"، وقد تكلم عليه عليّ ابن المدينيّ، والبخاريّ، وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة، فجعلوه مرفوعًا، وقد حرّر ذلك البيهقيّ

(1)

.

وقال في موضع آخر: فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في "مسنده"، ومسلم في "صحيحه"، والنسائيّ من غير وجه، وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال:{فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38]، ولهذا تكلم البخاريّ، وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعًا، والله أعلم

(2)

.

وقال أيضًا: قد علَّله البخاريّ في "التاريخ"، فقال: رواه بعضهم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن كعب الأحبار، وهو الأصح. انتهى

(3)

.

وقال البيهقيّ رحمه الله: قال عليّ ابن المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلا من إبراهيم بن أبي يحيى، قال البيهقيّ: وقد تابعه على ذلك موسى بن عُبيدة الرّبَذِيّ، عن أيوب بن خالد، إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف، وروي عن بكر بن الشرود، عن إبراهيم بن أبي يحيى، عن صفوان بن سُليم، عن أيوب بن خالد، وإسناده ضعيف، والله أعلم. انتهى

(4)

.

وعلّقه البخاريّ في "تاريخه" من طريق أيوب، وقال: وقال بعضهم: عن أبي هريرة، عن كعب، وهو أصحّ. انتهى

(5)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في "مجموع الفتاوى": وقد أخرج مسلم حديث أبي هريرة: "خلق الله التربة يوم السبت". قال: وهذا الحديث مخالف لِمَا تقدم، وهو أصح، ولكن هذا له نظائر، روى مسلم أحاديث، قد

(1)

"تفسير ابن كثير" 1/ 70.

(2)

"تفسير ابن كثير" 2/ 221.

(3)

"تفسير ابن كثير" 4/ 95.

(4)

"الأسماء والصفات" للبيهقيّ 2/ 352.

(5)

"التاريخ الكبير" للبخاريّ 1/ 413 - 414.

ص: 341

عُرف أنها غلط، مثل قول أبي سفيان لمّا أسلم: أريد أن أزوجك أم حبيبة، ولا خلاف بين الناس أنه تزوجها قبل إسلام أبي سفيان، ولكن هذا قليل جدًا، ومثل ما رُوي في بعض طرق حديث صلاة الكسوف أنه صلاها بثلاث ركوعات وأربع، والصواب أنه لم يصلّها إلا مرة واحدة بركوعين؛ ولهذا لم يخرج البخاري إلا هذا، وكذلك الشافعيّ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وغيرهما، والبخاريّ سَلِم من مثل هذا؛ فإنه إذا وقع في بعض الروايات غلط ذَكر الروايات المحفوظة التي تبيّن غلط الغالط، فإنه كان أعرف بالحديث وعلله، وأفقه في معانيه من مسلم ونحوه. انتهى

(1)

.

وقال أيضًا فيما نقله عنه القاسميّ في "الفضل المبين": هذا الحديث طَعَن فيه من هو أعلم من مسلم، مثل يحيى بن معين، ومثل البخاريّ، وغيرهما، وذكر البخاريّ أن هذا من كلام كعب الأحبار، وطائفة اعتبرت صحّته، مثل أبي بكر بن الأنباريّ، وأبي الفرج بن الجوزيّ، وغيرهما، والبيهقيّ وغيره وافقوا الذين ضعّفوه، وهذا هو الصواب؛ لأنه قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض، وما بينهما في ستّة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد، وهكذا عند أهل الكتاب، وعلى ذلك تدلّ أسماء الايام، وهذا المنقول الثابت في آحاديث وآثار أُخر، ولو كان أول الخلق يوم السبت وآخره يوم الجمعة لكان قد خلق في الأيام السبعة، وهو خلاف ما أخبر به القرآن، مع أن حذّاق علم الحديث يُبتّون علّة هذا الحديث من غير هذه الجهة، وأن راويه فلان غلط فيه؛ لأمور يذكرونها، وهذا الذي يسمّى معرفة علل الحديث، يكون الحديث إسناده في الظاهر جيّدًا، ولكن عُرف من طريق آخر أن راويه غَلِطَ، فرفعه، وهو موقوف، أو أسنده، وهو مرسل، أو دخل عليه الحديث في حديث، وهذا فنّ شريف، وكان يحيى بن سعيد القطّان، ثم صاحبه عليّ ابن المدينيّ، ثم البخاريّ من أعلم الناس به، وكذلك الإمام أحمد، وأبو حاتم، وكذلك النسائيّ، والدارقطنيّ، وغيرهم، وفيه مصنّفات معروفة. انتهى

(2)

.

(1)

"مجموع الفتاوى" لابن تيميّة 17/ 236 - 237.

(2)

"الفضل المبين" ص 432 - 434.

ص: 342

وقال المناويّ رحمه الله: قال الزركشيّ: أخرجه مسلم، وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المدينيّ، والبخاريّ، وغيرهما، من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه، لكن اشتبه على بعض الرواة، فجعله مرفوعًا، وقد حرّر ذلك البيهقيّ، ذكره ابن كثير في "تفسيره"، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر السماوات، وفيه ذِكر خلق الأرض، وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن؛ لأن الأربعة خُلقت في أربعة أيام، ثم خلقت السماوات في يومين. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تحرّر من كلام هؤلاء الأئمة -رحمهم الله تعالى- أن هذا الحديث مما انتُقد على مسلم رحمه الله وأن رفعه غير صحيح، وإنما هو موقوف على كعب الأحبار، والظاهر أنه هذا من راويه أيوب بن خالد، فإنه ليّن الحديث، كما سبق عن "التقريب"، وقال الأزديّ: أيوب بن خالد ليس حديثه بذاك، تكلّم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى بن سعيد، ونظراؤه لا يكتبون حديثه. انتهى

(2)

.

والظاهر أن هذا من أوهامه، ظن الموقوف مرفوعًا، فرفعه، ولكن هذا لا يغُضّ من قَدْر مسلم رحمه الله فإن هذا قليل، وهو إمام حافظ ناقد للحديث، ولكن الإنسان عرضة للنسيان، ومن الذي ينجو منه؟ إلا من عصم الله تعالى، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابٌ فِي الْبَعْثِ، وَالنُّشُورِ، وَصِفَةِ الأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7029](2790) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ، عَفرَاءَ؛ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ، لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأَحَدٍ").

(1)

"فيض القدير" 3/ 448.

(2)

"تهذيب التهذيب" 1/ 202.

ص: 343

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ) الْقَطَوانيّ، أبو الهيثم البجليّ مولاهم الكوفيّ، صدوقٌ، يتشيّع، وله أفراد، من كبار [10] (ت 213) وقيل: بعدها (خ م كد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 65/ 367.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ) الأنصاريّ مولاهم المدنيّ، أخو إسماعيل، وهو الأكبر، ثقةٌ [7](ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 219.

3 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدِ) بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ الساعديّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، و"أبو حازم" اسمه سلمة بن دينار.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وخالد، فكوفيّان، وفيه سهل رحمه الله آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُحْشَرُ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، (النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضِ بَيْضَاءَ، عَفْرَاءَ) قال الخطابيّ: الْعَفَر: بياض ليس بالناصع، وقال عياض: العَفَر بياض يضرب إلى حمرة قليلًا، ومنه سُمّي عَفَر الأرض، وهو وجهها، وقال ابن فارس: معنى عفراء: خالصة البياض، وقال الداوديّ: شديدة البياض، كذا قال، والأول هو المعتمَد

(1)

.

(كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ) بفتح النون، وكسر القاف؛ أي: الدقيق النقيّ من الغَشّ، والنُّخال، قاله الخطابيّ.

وقال النوويّ: العفراء بالعين المهملة، والمدّ: بيضاء إلى حمرة، والنقيّ بفتح النون، وكسر القاف، وتشديد الياء: هو الدقيق الْحُوَّرَى، وهو

(1)

"الفتح" 15/ 17، "كتاب الرقاق" رقم (6521).

ص: 344

الدَّرْمَك

(1)

وهو الأرض الجيّدة، قال القاضي: كأن النار غيّرت بياض وجه الأرض إلى الحمرة.

قال: وقوله: "ليس فيها عَلَم لأحد" هو بفتح العين، واللام؛ أي: ليس بها علامة سكنى، أو بناء، ولا أثر. انتهى

(2)

.

وقوله: (لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأَحَدٍ") هكذا في رواية مسلم موصولًا بالحديث، وفيه إدراج، فقد أخرج الحديث البخاريّ، ثم قال في آخره:"قال سهل، أو غيره: ليس فيها مَعْلَم لأحد"، فبيّن أنه ليس موصولًا بالحديث، وإنما هو من كلام سهل، أو غيره، فتنبّه.

وقال في "الفتح": قوله: "قال سهل، أو غيره: ليس فيها مَعْلم لأحد" هو موصول بالسند المذكور، وسهل هو راوي الخبر، وأو للشكّ، والغير المبهم لم أقف على تسميته، ووقع هذا الكلام الأخير لمسلم من طريق خالد بن مَخلد، عن محمد بن جعفر مُدرجًا بالحديث، ولفظه:"ليس فيها عَلَمٌ لأحد"، ومثله لسعيد بن منصور، عن ابن أبي حازم، عن أبيه، و"الْعَلَم"، و"الْمَعْلم" بمعنى واحد.

قال الخطابيّ: يريد أنها مستوية، والْمَعلَم بفتح الميم، واللام، بينهما مهملة ساكنة، هو الشيء الذي يُستدَلّ به على الطريق.

وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكنى، ولا بناء، ولا أثر، ولا شيء من العلامات التي يُهتدَى بها في الطرُقات؛ كالجبل، والصخرة البارزة، وفيه تعريض بأرض الدنيا، وأنها ذهبت، وانقطعت العلاقة منها، وقال الداوديّ: المراد: أنه لا يحوز أحد منها شيئًا، إلا ما أدرك منها، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد رضي الله عنهما هذا متَّفقٌ عليه.

(1)

"الدَّرْمَك" بوزن جعفر: الدقيق الحُوَّرَى.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 134.

ص: 345

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7029](2790)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6521)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(5831 و 5908)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 543)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 217)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7320)، و (البيهقيّ) في "شُعب الإيمان"(1/ 317)،. و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4305)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه دليلًا على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة؛ ليكون السامع على بصيرة، فيُخَلّص نفسه من ذلك الهول؛ لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضةَ النفس، وحَمْلها على ما فيه خلاصها، بخلاف مجيء الأمر بغتةً.

2 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جدًّا.

3 -

(ومنها): أن الحكمة في صفة الأرض المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل، وظهور حقّ، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرًا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصًا له وحده، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله

(1)

.

4 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن أرض الدنيا اضمحلّت، وأُعدمت، وأن أرض الموقف تجددت

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في اختلاف أهل العلم في معنى قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]:

(اعلم): أنه قد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بهذه الآية، هل معنى تبديلها: تغيير ذاتها وصفاتها، أو تغيير صفاتها فقط؟ وحديث الباب يؤيد

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 213 - 214.

(2)

"الفتح" 15/ 17، "كتاب الرقاق" رقم (6521).

ص: 346

الأول، وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، والطبريّ في تفاسيرهم، والبيهقيّ في "الشعب" من طريق عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} الآية [إبراهيم: 48] قال: تبدّل الأرض أرضًا كأنها فضة، لم يُسفك فيها دم حرام، ولم يُعمل عليها خطيئة، ورجاله رجال الصحيح، وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعًا، وقال: الموقوف أصحّ.

قال الجامع عفا الله عنه: لكن الموقوف في مثل هذا مرفوع حكمًا؛ لأنه مما لا يُنال بالرأي، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وأخرجه الطبريّ، والحاكم من طريق عاصم، عن زِرّ بن حُبيش، عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ:"أرض بيضاء، كأنها سبيكة فضة"، ورجاله موثقون أيضًا، ولأحمد من حديث أبي أيوب رضي الله عنه:"أرض كالفضة البيضاء، قيل: فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله، لن يعجزهم ما لديه".

وللطبريّ من طريق سنان بن سعد، عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا:"يبدلها الله بأرض من فضة، لم يُعمل عليها الخطايا".

وعن عليّ رضي الله عنه موقوفًا نحوه.

ومن طريق ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد:"أرض كأنها فضة، والسماوات كذلك".

وعن عليّ: "والسماوات من ذهب".

وعند عبد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال: "بلغنا أن هذه الأرض -يعني: أرض الدنيا- تُطْوَى، وإلى جنبها أخرى يُحشر الناس منها إليها".

وفي حديث الصُّور الطويل: "تُبَدَّل الأرض غير الأرض، والسماوات، فيبسطها، ويسطحها، ويمدّها مدَّ الأديم العكاظيّ، لا ترى فيها عوجًا، ولا أمتًا، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأُولى، ما كان في بطنها كان في بطنها، وما كان على ظهرها كان عليها". انتهى.

وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول،

ص: 347

ويؤيده قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)} [الانشقاق: 3 - 4].

وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها، فمستنَده ما أخرجه الحاكم، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال:"إذا كان يوم القيامة مُدّت الأرض مَدّ الأديم، وحُشر الخلائق".

ومن حديث جابر رضي الله عنه رفعه: "تُمَدّ الأرض مَدَّ الأديم، ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه"، ورجاله ثقات، إلا أنه اختُلف على الزهريّ في صحابيه.

ووقع في تفسير الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} قال: "يزاد فيها، وينقص منها، ويذهب آكامها، وجبالها، وأوديتها، وشجرها، وتُمَدّ مدّ الأديم العكاظيّ" وعزاه الثعلبيّ في "تفسيره" لرواية أبي هريرة، وحكاه البيهقيّ عن أبي منصور الأزهريّ، وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول، فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا، لكن أرض الموقف غيرها، ويؤيده ما وقع في الحديث الآتي في الباب التالي أن أرض الدنيا تصير خبزة، والحكمة في ذلك ما تقدّم أنها تُعَدّ لأكل المؤمنين منها في زمان الموقف، ثم تصير نُزُلًا لأهل الجنة.

وأما ما أخرجه الطبريّ من طريق المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"الأرض كلها تأتي يوم القيامة"، فالذي قبله عن ابن مسعود أصحّ سندًا، ولعل المراد بالأرض في هذه الرواية: أرض البحر، فقد أخرج الطبريّ أيضًا من طريق كعب الأحبار، قال: يصير مكان البحر نارًا.

وفي تفسير الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه: تصير السماوات جِفانًا، ويصير مكان البحر نارًا.

وأخرج البيهقيّ في "البعث" من هذا الوجه في قوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)} [الحاقة: 14] قال: يصيران غَبَرَةً في وجوه الكفار.

قال الحافظ رحمه الله: ويمكن الجمع بأن بعضها يصير نارًا، وبعضها غُبارًا، وبعضها يصير خبزة.

ص: 348

وأما ما أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} أين يكون الناس حينئذ؟ قال: "على الصراط"، وفي رواية الترمذيّ:"على جسر جهنم"، ولأحمد من طريق ابن عباس، عن عائشة:"على متن جهنم".

وأخرج مسلم أيضًا من حديث ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا: "يكونون في الظلمة دون الجسر"، فقد جمع بينها البيهقيّ بأن المراد بالجسر: الصراط، وأن في قوله:"على الصراط" مجازٌ لكونهم يجاوزونه؛ لأن في حديث ثوبان زيادة يتعيّن المصير إليها لثبوتها، وكان ذلك عند الزجرة التي تقع عند نَقْلهم من أرض الدنيا إلى أرض الموقف، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)} [الفجر: 21 - 22].

واختُلف في السماوات أيضًا فتقدم قول من قال: إنها تصير جِفانًا، وقيل: إنها إذا طويت تكوّر شمسها، وقمرها، وسائر نجومها، وتصير تارة كالمهل، وتارة كالدهان. وأخرج البيهقيّ في "البعث" من طريق السدّيّ، عن مُرّة، عن ابن مسعود قال: السماء تكون ألوانًا؛ كالمهل، وكالدهان، وواهيةً، وتشقّق، فتكون حالًا بعد حال.

وجَمَع بعضهم بأنها تنشق أوّلًا، فتصير كالوردة، وكالدهان، وواهيةً، وكالمهل، وتكوّر الشمس والقمر وسائر النجوم، ثم تطوى السماوات، وتضاف إلى الجنان.

ونقل القرطبيّ في "التذكرة" عن أبي الحسن بن حيدرة صاحب "الإفصاح" أنه جمع بين هذه الأخبار بأن تبديل السماوات والأرض يقع مرتين: إحداهما تبدل صفاتهما فقط، وذلك عند النفخة الأُولى، فتنثر الكواكب، وتخسف الشمس والقمر، وتصير السماء كالمهل، وتُكشط عن الرؤوس، وتسير الجبال، وتموج الأرض، وتنشق إلى أن تصير الهيئة غير الهيئة، ثم بين النفختين تطوى السماء والأرض، وتبدل السماء والأرض إلى آخر كلامه في ذلك، والعلم عند الله تعالى، ذكر هذا في "الفتح"، وهو بحث مفيد، والله تعالى أعلم.

ص: 349

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7030](2791) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}، فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرِ) -بضمّ الميم، وسكون المهملة، وكسر الهاء- القرشيّ الكوفيّ، قاضي الْمَوْصِل، ثقةٌ [8](189)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند القشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، كان يَهِم بأخرة [5] (ت 140) وقيل: قبلها (خ ت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

3 -

(الشَّعْبِيُّ) عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

4 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع بن مالك الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو عائشة الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ مخضرم [2] مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

5 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.

وشيخه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: داود، عن الشعبيّ، عن مسروق، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} التبديل: هو التغيير، وهو قد يكون في الذات؛ كقولك: بدّلت الدارهم بالدنانير، وقد يكون في الصفات؛ كقولك

ص: 350

بدّلت الحلقة خاتَمًا، إذا حذفتها، وسوّيتها خاتمًا، واختُلف في تبديل الأرض والسموات، فقيل: يبدل أوصافهما، فتسير عن الأرض جبالها، وتفجر بحارها، وتُجعل مستوية، لا ترى فيها عوجًا، ولا أمتًا، وتبديل السماوات بانتشار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وقيل: يُخلق بدلهما أرض أخرى، وسماوات أخرى، والصحيح أن التبديل هنا تغيّر الذات، كما يدل عليه السؤال والجواب

(1)

، وقد استوفيت البحث في هذا في المسألة الرابعة من المسائل المذكورة في الحديث الماضي، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("عَلَى الصِّرَاطِ")؛ أي: يكونون عليه، قال الأبّيّ رحمه الله

(2)

: الصراط يَحْتَمل أنه الصراط المعروف، وَيحتَمِل أنه اسم لموضع غيره يستقرّ الخلق عليه، وكأنه الأظهر للحديث الآخر، وقد سئل: أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات؟

قال: "هم في الظُّلمة دون الجسر"

(3)

، والجسر الصراط يكون، وقال ابن عطيّة: وروي حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون في وقت التبديل في ظل العرش"، وفي حديث آخر، سأله يهوديّ أين الخلق عند ذلك؟ قال:"أضياف الله، فلن يُعجزهم ما لديه"

(4)

.

وبالجملة فأحوال الآخرة لا يدرك كنهها بهذه العقول في الدنيا، والسبيل الأسلم الإيمان بما جاء في النصوص الصحيحة، وترك الخوض في تفاصيلها

(5)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7530](2791)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3121)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4279)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 35)،

(1)

راجع: "شرح سنن ابن ماجه" للسندي 1/ 316.

(2)

"شرح الأبّيّ" 7/ 194.

(3)

رواه مسلم.

(4)

"تفسير الطبريّ" 13/ 254.

(5)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 117.

ص: 351

و (الطبريّ) في "التفسير"(13/ 252 و 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7380)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 352)، و (البغويّ) في "التفسير"(3/ 41)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابُ نُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7031](2792) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً، يَكْفَؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ؛ نُزُلًا لأَهْلِ الْجَنَّةِ"، قَالَ: فَأَتَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ: بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ أَبَا الْقَاسِمِ، أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَة وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِإِدَامِهِمْ؟، قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: إِدَامُهُمْ بَالَامُ، وَنُونٌ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالَ: ثَوْرٌ، وَنُونٌ يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199) وله أربع وستون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد، أبو الحارث المصريّ الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

ص: 352

4 -

(خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ) الْجُمَحيّ، ويقال: السَّكْسَكيّ، أبو عبد الرحيم المصريّ، ثقةٌ فقيهٌ [6](ت 139)(ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلَالٍ) الليثيّ مولاهم، أبو العلاء المصريّ، قيل: مدنيُّ الأصلِ، وقال ابن يونس: بل نشأ بها، صدوقٌ، وضعّفه ابن حزم، وليس له سلفٌ إلا أن الساجيّ حكى عن أحمد أنه اختَلَط [6] مات بعد الثلاثين ومائة، وقيل: قبلها، وقيل: قبل الخمسين بسنة (ع) تقدم في "الإيمان" 87/ 462.

والباقون تقدّموا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من ثُمانيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمصريين إلى سعيد، والباقون مدنيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "تَكُونُ الأَرْضُ)؛ يعني: أرض الدنيا، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً) بضم الخاء المعجمة، وسكون الموحّدة، وفتح الزاي، قال الخطابيّ: الخبزة: الطُّلْمة، بضم الطاء المهملة، وسكون اللام، وهو عجينٌ يوضع في الْحُفْرة بعد إيقاد النار فيها، قال: والناس يُسَمُّونها الْمَلَّة، بفتح الميم، وتشديد اللام، وإنما الملّة الحفرة نفسها. انتهى

(1)

.

(يَكْفَؤُهَا) بفتح أوله وثالثه، وسكون ثانيه، يقال: كفأه، كمنعه: إذا صرفه، وكبّه، وقَلَبه

(2)

، والمناسب هنا القلب، ولفظ البخاريّ:"يتكفّؤها"، بفتح المثناة، والكاف، وتشديد الفاء المفتوحة، بعدها همزة؛ أي: يُميلها، من كفأت الإناء: إذا قلبته

(3)

. (الْجَبَّارُ) سبحانه وتعالى (بِيَدِهِ) فيه إثبات اليد لله تعالى على ما يليق بجلاله، (كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ) قال النوويّ: خبزة المسافر: هي التي

(1)

"الفتح" 15/ 14، "كتاب الرقاق" رقم (6520).

(2)

راجع: "القاموس" ص 1137.

(3)

"الفتح" 15/ 14.

ص: 353

يجعلها في الْمَلَّة

(1)

، ويتكفأها بيديه؛ أي: يُميلها من يد إلى يد، حتى تجتمع، وتستوي؛ لأنها ليست منبسطة؛ كالرُّقَاقة، ونحوها، قال: ومعنى الحديث أن الله تعالى يجعل الأرض كالطُّلمة

(2)

، والرَّغيف العظيم، ويكون ذلك طعامًا نُزُلًا لأهل الجنة، والله على كل شيء قدير. انتهى

(3)

.

(فِي السَّفَرِ) قال الخطابيّ: يعني: خُبز الْمَلّة الذي يصنعه المسافر، فإنها لا تُدْحَى كما تُدْحَى الرُّقَاقَةُ

(4)

، وإنما تُقلب، على الأيدي حتى تستوي، وهذا على أن السَّفَر بفتح السين المهملة، والفاء، ورواه بعضهم بضم أوله، جمع سُفْرة، وهو الطعام الذي يُتخذ للمسافر، ومنه سُمِّيت السُّفْرة.

(نُزُلًا لأَهْلِ الْجَنَّةِ")"النُّزُل" بضم النون، وبالزاي، وقد تسكن: ما يُقَدَّم للضيف، وللعسكر، يُطلق على الرزق، وعلى الفضل، ويقال: أصلح للقوم نُزُلهم؛ أي: ما يَصلُح أن ينزلوا عليه، من الغذاء، وعلى ما يُعَجَّل للضيف قبل الطعام، وهو اللائق هنا.

قال الداوديّ: المراد أنه يأكل منها من سيصير إلى الجنة، من أهل المحشر، لا أنهم لا يأكلونها حتى يدخلوا الجنة.

وتعقّبه الحافظ بأن ظاهر الخبر يخالفه، وكأنه بنى على ما أخرجه الطبريّ عن سعيد بن جبير، قال: تكون الأرض خبزة بيضاء، يأكل المؤمن من تحت قدميه، ومن طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب، أو محمد بن قيس، نحوه، وللبيهقيّ بسند ضعيف، عن عكرمة: تُبدَّل الأرض مثل الخبزة، يأكل منها أهل الإسلام، حتى يفرغوا من الحساب، وعن أبي جعفر الباقر نحوه.

ونقل الطيبيّ عن البيضاويّ أن هذا الحديث مشكل جدًّا، لا من جهة إنكار صنع الله، وقدرته على ما يشاء، بل لعدم التوقيف على قلب جرم الأرض من الطبع الذي عليه إلى طبع المطعوم، والمأكول، مع ما ثبت في الآثار أن

(1)

"المَلّة" بالفتح: قيل: الْحُفرة التي تحفر للخبز، وقيل: التراب الحارّ، والرماد. اهـ. "المصباح" 2/ 58.

(2)

"الطُّلْمة" بضمّ الطاء المهملة: الخبزة. اهـ. "ق".

(3)

"شرح والنوويّ" 17/ 135.

(4)

"الرُّقاق": كغُراب: الخبز الرقيق، الواحدة رُقاقة، قاله في "القاموس".

ص: 354

هذه الأرض تصير يوم القيامة نارًا، وتنضم إلى جهنم، فلعل الوجه فيه أن معنى قوله:"خبزة واحدة"؛ أي: كخبزة واحدة، مِن نَعْتها كذا وكذا، وهو نظير ما في حديث سهل؛ يعني: المذكور قبل حديث: "كقرصة النقيّ"، فضرب المثل بها؛ لاستدارتها، وبياضها، فضرب المثل في هذا الحديث بخبزة، تُشْبه الأرض في معنيين: أحدهما بيان الهيئة التي تكون الأرض عليها يومئذ، والآخر بيان الخبزة التي يهيئها الله تعالى نزلًا لأهل الجنة، وبيان عِظَم مقدارها ابتداعًا، واختراعًا.

قال الطيبيّ: وإنما دخل عليه الإشكال؛ لأنه رأى الحديثين في باب الحشر، فظنّ أنهما لشيء واحد، وليس كذلك، وإنما هذا الحديث من باب، وحديث سهل من باب، وأيضًا فالتشبيه لا يستلزم المشاركة بين المشبَّه والمشبَّه به في جميع الأوصاف، بل يكفي حصوله في البعض، وتقريره أنه شبَّه أرض الحشر بالخبزة في الاستواء، والبياض، وشبَّه أرض الجنة في كونها نزلًا لأهلها، ومهيأة لهم تكرمة بعجالة الراكب زاده يقنع به في سفره.

قال الحافظ: آخر كلامه يقرر ما قال القاضي أن كون أرض الدنيا تصير نارًا محمول على حقيقته، وأن كونها تصير خبزة يأكل منها أهل الموقف محمول على المجاز، والآثار التي أوردتها عن سعيد بن جبير وغيره تردّ عليه، والأَولى الحمل على الحقيقة، مهما أمكن، وقدرة الله تعالى صالحة لذلك، بل اعتقاد كونه حقيقة أبلغ، وكون أهل الدنيا يوم القيامة إما أهل إسلام، وإما أهل كفر.

ويستفاد منه أن المؤمنين لا يعاقَبون بالجوع في طول زمان الموقف، بل يقلب الله لهم بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله، بغير علاج، ولا كلفة، ويكون معنى قوله:"نزلًا لأهل الجنة"؛ أي: الذين يصيرون إلى الجنة، أعمّ من كون ذلك يقع بعد الدخول إليها، أو قبله، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه: (فَأَتَى رَجُلٌ) وفي رواية: "فأتاه رجل"، (مِنَ الْيَهُودِ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه. (فَقَالَ) ذلك الرجل: (بَارَكَ الرَّحْمَنُ عَلَيْكَ أَبَا الْقَاسِمِ) بحذف حرف النداء، وفي رواية البخاريّ:"يا أبا القاسم"،

(1)

"الفتح" 15/ 15.

ص: 355

(أَلَا أُخْبِرُكَ بِنُزُلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("بَلَى")؛ أي: أخبرني به، وقد تقدّم البحث في "بلى"، و"نَعَمْ" غير مرّة، فلا تغفل. (قَالَ) الرجل (تَكُونُ الأَرْضُ خُبْزَةً وَاحِدَةً، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه: (فَنَظَرَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ ضَحِكَ) يريد أنه أعجبه إخبار اليهوديّ عن كتابهم بنظير ما أخبر به من جهة الوحي، وكان يُعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يُنزَل عليه، فكيف بموافقتهم فيما أُنزل عليه. (حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ) بالنون، والجيم، والذال المعجمة: جمع ناجذ، وهو آخر الأضراس، ولكل إنسان أربع نواجذ، وتُطلق النواجذ أيضًا على الأنياب، والأضراس.

(قَالَ) الرجل أيضًا: (أَلَا أُخْبِرُكَ) وفي لفظ: "ألا أُخبركم"(بِإِدَامِهِمْ؟) بكسر الهمزة؛ أي: ما يؤكل به الخبز، قال الفيّوميّ: الإدام: ما يُؤتَدَم به، مائعًا كان، أو جامدًا، وجَمْعه أُدُمٌ، مثل كتاب وكُتب، ويسكن للتخفيف، فيعامَل معاملة المفرد، ويُجمع على آدَامٍ، مثلُ قُفْل وأقفال. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("بَلَى")؛ أي: أخبرني، (قَالَ) الرجل:(إِدَامُهُمْ بَالَامُ) بفتح الموحّدة، بغير همز، (وَنُونٌ)؛ أي: بلفظ أول السورة. (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون في ذلك المجلس: (وَمَا هَذَا؟)، وللبخاريّ:"ما هذا؟ "؛ أي: ما تفسير بالام، ونون؟ (قَالَ) الرجل:(ثَوْرٌ، وَنُونٌ) قال الخطابيّ: هكذا رووه لنا، وتأملت النسخ المسموعة من البخاريّ من طريق حماد بن شاكر، وإبراهيم بن مَعْقِل، والفِرَبريّ، فإذا كلها على نحو واحد.

قال الحافظ: وكذا عند مسلم، وكذا أخرجه الإسماعيليّ وغيره، قال الخطابيّ: فأما نون فهو الحوت، على ما فُسِّر في الحديث، وأما بالام، فدلّ التفسير من اليهوديّ على أنه اسم للثور، وهو لفظ مبهم، لم ينتظم، ولا يصح أن يكون على التفرقة اسمًا لشيء، فيُشْبه أن يكون اليهوديّ أراد أن يُعَمِّي الاسم، فقطع الهجاء، وقدم أحد الحرفين، وإنما هو في حقّ الهجاء لام ياء هجاء لَأْيٍ بوزن لَعْيٍ

(2)

، وهو الثور الوحشيّ، وجمعه آلاء، بثلاث همزات،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 9.

(2)

اللأيُ؛ كاللَّعْيِ: الثور الوحشيّ. اهـ. "ق".

ص: 356

وزن أحبال، فصحّفوه، فقالوا: بالام بالموحّدة، وإنما هو بالياء، آخر الحروف، وكتبوه بالهجاء، فأشكل الأمر، هذا أقرب ما يقع لي فيه، إلا أن يكون إنما عبّر عنه بلسانه، ويكون ذلك بلسانهم، وأكثر العبرانية فيما يقوله أهل المعرفة مقلوب على لسان العرب، بتقديم في الحروف، وتأخير، والله أعلم بصحته.

وقال عياض: أورد الحميديّ في اختصاره -يعني: "الجمع بين الصحيحين"- هذا الحديث بلفظ بِاللأَى، بكسر الموحّدة، وألف وصل، ولام ثقيلة، بعدها همزة مفتوحة، خفيفة، بوزن الرَّحَى، واللأى: الثور الوحشيّ، قال: ولم أر أحدًا رواه كذلك، فلعله من إصلاحه، وإذا كان هكذا بقيت الميم زائدة، إلا أن يُدَّعَى أنها حُرِّفت عن الياء المقصورة، قال: وكل هذا غير مسلَّم؛ لِمَا فيه من التكلف، والتعسف، قال: وأَولى ما يقال في هذا أن تبقى الكلمة على ما وقع في الرواية، ويُحْمَل على أنها عبرانية، ولذلك سأل الصحابة اليهوديّ عن تفسيرها، ولو كان اللأى لعرفوها؛ لأنها من لسانهم.

وجزم النوويّ بهذا، فقال: هي لفظة عبرانية، معناها ثور

(1)

.

(يَأْكُلُ مِنْ زَائِدَةِ كَبِدِهِمَا سَبْعُونَ أَلْفًا) قال عياض رحمه الله: زيادة الكبد، وزائدتها: هي القطعة المنفردة المتعلَّقة بها، وهي أطيبه، ولهذأ خُصّ بأكلها السبعون ألفًا، ولعلهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، فُضِّلوا بأطيب النزل، ويَحْتَمِل أن يكون عبَّر بالسبعين عن العدد الكثير، ولم يُرد الحصر فيها.

وفي مسائل عبد الله بن سلام: "أن أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت"، وفي حديث ثوبان رضي الله عنه المتقدّم لمسلم في "كتاب الحيض":"تحفة أهل الجنة زيادة كبد النون"، وفيه:"غذاؤهم على أثرها أن ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها"، وفيه:"وشرابهم عليه من عين تسمى سلسبيلًا".

وأخرج ابن المبارك في "الزهد" بسند حسن، عن كعب الأحبار: أن الله تعالى يقول لأهل الجنة، إذا دخلوها:"إن لكل ضيف جزورًا، وإني أجزركم اليوم حوتًا، وثورًا، فيجزر لأهل الجنة"، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 15/ 15 - 16.

ص: 357

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 7031](2792)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6520)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(962)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عجيب صنع الله سبحانه وتعالى، حيث يجعل الأرض التي نشاهدها خبزة يأكل أهل الجنّة منها.

2 -

(ومنها): بيان ما سيفعل الله عز وجل بالمؤمنين، حيث يُعدّ لهم نُزُلًا، كما يُعد للضيوف، وهذا غاية الإكرام والتبجيل.

3 -

(ومنها): أن مما يقوله أهل الكتاب ما هو حقّ موافق لِمَا في القرآن والسُّنَّة، فلذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 136]؛ لأنه إذا صدّقهم فربما يكون خبرهم كذبًا، فليزم تصديق الكذب، وإذا كذّبهم، فربما يكون خبرهم صدقًا، كما في هذا الحديث، فليزم تكذيب الصدق، فأرشد إلى ما هو الصواب فيه، وهو أن يقول المسلمون إذا حدّثهم أهل الكتاب: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية [البقرة: 136"].

4 -

(ومنها): أنه ينبغي للمسلم أن يأخذ الحقّ ممن قاله، ولا ينظر إلى أهليّة قائله، إذا لم يظهر منه ما يردّه، فإنه صلى الله عليه وسلم قَبِل ما قاله هذا اليهوديّ، ولم يعترض عليه؛ لكونه حقًّا موافقًا لِمَا أُوحي إليه، ولمّا أخبروه بخلاف الحقّ حين سألهم، ردّ عليهم، وكذّبهم، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لمّا فُتحت خيبر أُهديتْ للنبيّ صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا إلي من كان ها هنا من يهود"، فجُمعوا له، فقال:"إني سائلكم عن شيء، فهل أنتم صادقيّ عنه؟ "، فقالوا: نعم، قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من أبوكم؟ " قالوا: فلان، فقال:"كذبتم، بل أبوكم فلان"، قالوا: صدقت، قال:"فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألت عنه؟ "، فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كَذَبنا عرفت كَذِبنا، كما عرفته في أبينا، فقال لهم:"مَن أهل النار؟ "،

ص: 358

قالوا: نكون فيها يسيرًا، ثم تَخْلُفونا فيها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخسؤوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبدًا"، ثم قال:"هل أنتم صادقيّ عن شيء، إن سألتكم عنه؟ " فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قال:"هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ " قالوا: نعم، قال:"ما حملكم على ذلك؟ " قالوا: أردنا إن كنت كاذبًا نستريح، وإن كنت نبيًّا لم يضرّك، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7032](2793) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَابَعَنِي عَشْرةٌ مِنَ الْيَهُودِ، لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا يَهُودِيٌّ إِلَّا أَسْلَمَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ. كبير القَدْر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 308.

والباقون تقدّموا في الباب الماضي، وقبل بابين، و"قرّة" هو: ابن خالد السَّدُوسيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَيِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ تَابَعَنِي) ولفظ البخاريّ: "لو آمن بي"، (عَشْرَةٌ مِنَ الْيَهُودِ) قال صاحب "التحرير": عشرة من أحبارهم

(1)

. (لَمْ يَبْقَ عَلَى ظَهْرِهَا)؛ أي: على ظهر الأرض، ويَحْتَمل أن يكون المراد: ظهر المدينة، لكنه بعيد، والأول هو الظاهر، والله تعالى أعلم.

(يَهُودِيٌّ إِلَّا أَسْلَمَ") وفي رواية الإسماعيليّ: "لم يبق يهوديّ إلا أسلم"،

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 136.

ص: 359

وكذا أخرجه أبو سعيد في "شرف المصطفى"، وزاد في آخره قال:"قال كعب: هم الذين سمّاهم الله في سورة المائدة"، فعلى هذا فالمراد عشرة مختصة، وإلا فقد آمن به صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وقيل: المعنى لو آمن بي في الزمن الماضي؛ كالزمن الذي قبل قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة، أو حال قدومه.

قال الحافظ: والذي يظهر أنهم الذين كانوا حينئذ رؤساء في اليهود، ومن عداهم كان تبعًا لهم، فلم يُسلم منهم إلا القليل، كعبد الله بن سلام، وكان من المشهورين بالرياسة في اليهود، عند قدوم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن بني النضير أبو ياسر بن أخطب، وأخوه حُييّ بن أخطب، وكعب بن الأشرف، ورافع بن أبي الْحُقَيق، ومن بني قينقاع عبد الله بن حنيف، وفنحاص، ورفاعة بن زيد، ومن بني قريظة الزبير بن باطيا، وكعب بن أسد، وشمويل بن زيد، فهؤلاء لم يثبت إسلام أحد منهم، وكان كل منهم رئيسًا في اليهود، ولو أسلم لاتبعه جماعة منهم، فيَحْتَمِل أن يكونوا المرادَ.

وقد رَوَى أبو نعيم في "الدلائل" من وجه آخر الحديث بلفظ: "لو آمن بي الزبير بن باطيا، وذووه، من رؤساء يهود، لأسلموا كلهم".

وأغرب السهيليّ، فقال: لم يُسلم من أحبار اليهود إلا اثنان؛ يعني: عبد الله بن سلام، وعبد الله بن صُوريا، كذا قال، قال الحافظ: ولم أر لعبد الله بن صوريا إسلامًا من طريق صحيحة، وإنما نسبه السهيليّ في موضع آخر لتفسير النقاش.

ووقع عند ابن حبان قصة إسلام جماعة من الأحبار، كزيد بن سعنة مطوّلًا.

ورَوَى البيهقيّ أن يهوديًّا سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ "سورة يوسف"، فجاء، ومعه نفر من اليهود، فأسلموا كلهم، لكن يَحْتَمِل أن لا يكونوا أحبارًا.

وأخرج يحيى بن سلام في "تفسيره" من وجه آخر عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة هذا الحديث، فقال: قال كعب: إنما الحديث اثنا عشر؛ لقول الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} [المائدة: 12]، فسكت أبو هريرة، قال ابن سيرين: أبو هريرة عندنا أَولى من كعب، قال يحيى بن سلام: وكعب أيضًا صدوق؛ لأن المعنى: عشرة بعد الاثنين، وهما عبد الله بن سلام، ومخيريق، كذا قاله، وهو معنوي. انتهى، والله تعالى أعلم.

ص: 360

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 7032](2793)، و (البخاريّ) في "مناقب الأنصار"(3941)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 346 و 363 و 416)، و (تمام الرازي) في "فوائده"(2/ 140)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(53/ 173)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ سُؤَالِ الْيَهُودِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآيَةَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7033](2794) - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَاَ رَابَكُمْ إِلَيْهِ؟ لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالُوا: سَلُوهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ، فَسَأَلَهُ عَنِ الرُّوحِ، قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، قَالَ: فَقُمْتُ مَكَانِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} [الإسراء: 85].

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم سند هذا الحديث بعينه قبل بابين، فلا حاجة إلى إعادة البحث عنه، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود، كما هو القاعدة في مثل هذا؛ إذ السند كوفيّ؛ أنه (قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي) ولفظ البخاريّ: "بينا أنا"، وقد تقدّم البحث في

ص: 361

"بينما"، و"بينا" غير مرّة، وقال في "العمدة": قوله: "بينا أنا" قد مَرّ غير مرة أن أصل بينا: "بين"، فأُشبعت الفتحة بالألف، والعامل فيه جوابه وهو قوله: "فمرّ

(1)

بنفر من اليهود". لا يقال: الفاء الجزائية تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها، فلا يعمل "مَرّ" في "بينا"؛ لأنا نقول: لا نسلّم أن الفاء هنا جزائية؛ إذ ليس في "بين" معنى المجازاة الصريحة، بل فيها رائحة منها، ولئن سلّمنا، ولكن لا نسلّم ما ذكرتم من المنع؛ لأن النحاة قالوا في أمّا زيدًا فأنا ضارب: إن العامل في زيدًا هو ضارب، سلّمنا ذلك، فنقول: العامل فيه مَرّ مقدرًا، والمذكور يفسره، ولنا أن نقول بين الفاء وإذا أُخُوّة حيث استُعملت الفاء هنا موضع إذا، والغالب أن جواب "بينا" يكون بإذا، وإذ، وإن كان الأصمعي يستفصح تركهما. انتهى

(2)

.

وقوله: (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) متعلّق بحال؛ أي: مصاحبًا معه (فِي حَرْثٍ) بفتح الحاء المهملة، وسكون الراء، آخره ثاء مثلثة، وهو موضع الزرع، وهو مراده بقوله في الرواية الأخرى:"في نخل"، قال النوويّ رحمه الله: واتفقت نُسخ "صحيح مسلم" على أنه "حرث" بالثاء المثلثة، وكذا رواه البخاريّ في مواضع، ورواه في أول الكتاب، في "باب وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا":"خرب" بالباء الموحدة والخاء المعجمة: جمع خراب، قال العلماء: الأول أصوب، وللآخر وجه، ويجوز أن يكون الموضع فيه الوصفان. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "في حرث" بفتح المهملة، وسكون الراء، بعدها مثلثة، ووقع في "كتاب العلم" -أي: عند البخاريّ- من وجه آخر بخاء معجمة، وموحّدة، وضبطوه بفتح أوله، وكسر ثانيه، وبالعكس، والأول أصوب، فقد أخرجه مسلم من طريق مسروق، عن ابن مسعود بلفظ:"كان في نخل"، وزاد في رواية العلم:"بالمدينة"، ولابن مردويه من وجه آخر، عن الأعمش:"في حرث للأنصار"، وهذا يدلّ على أن نزول الآية وقع بالمدينة، لكن روى الترمذيّ من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس: "قال: قالت قريش لليهود:

(1)

هكذا رواية للبخاريّ بالفاء، ورواية مسلم:"إذ مرّ"، فتنبّه.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 200.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 136 - 137.

ص: 362

أعطونا شيئًا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] " ورجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر، عن ابن عباس نحوه.

ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا، وإلا فما في الصحيح أصحّ. انتهى

(1)

.

(وَهُوَ مُتَّكِئٌ) جملة حاليّة؛ أي: والحال أنه معتمد، ومادته واو وكاف وهمزة، ومنه يقال: رجل تُكَأَةٌ، مثالُ تُؤَدَةِ: كثير الاتكاء، وأصلها وُكأة أيضًا، والْمُتَّكأة: ما يُتكأ عليه، قال الله تعالى:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31].

(عَلَى عَسِيبٍ) بفتح العين، وكسر السين المهملتين، وسكون الياء، وفي آخره باء موحّدة، قال الصغانيّ: العسيب من السَّعَف فويق الْكَرَب

(2)

، لم ينبت عليه الخوص، وما ينبت عليه الخوص فهو السَّعَف، والجمع عُسُب، وقال غيره: العسيب جريد النخل، وهو عُود قضبان النخل، كانوا يكشطون خوصها، ويتخذونها عُصِيًّا، وكانوا يكتبون في طرفه العريض منه، ومنه قوله في الحديث:"فجعلت أتتبعه في العسيب" يريد: القرآن

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "على عسيب" بمهملتين، وآخره موحّدة، بوزن عظيم، وهي الجريدة التي لا خُوص فيها، ووقع في رواية ابن حبان:"ومعه جريدة"، قال ابن فارس: الْعُسْبان من النخل؛ كالقضبان من غيرها. انتهى

(4)

.

(إِذْ مَرَّ بِنَفَرٍ) بفتح الفاء: عدّة رجال، من ثلاثة إلى عشرة، والنفير مثله، وكذلك النّفْر والنفرة بالإسكان

(5)

. (مِنَ الْيَهُودِ) هذا اللفظ مع اللام ودون اللام معرفة، والمراد به اليهوديون، ولكنهم حذفوا ياء النسبة، كما قالوا: زنجيّ، وزنج؛ للفرق بين المفرد، والجماعة

(6)

.

(1)

"الفتح" 10/ 303، "كتاب التفسير" رقم (4721).

(2)

"الكَرَب" بفتحتين: أصول السَّعَف التي تقطع معه، الواحدة كَرَبة؛ كقصب وقصبة. اهـ. "المصباح" 2/ 529.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 200.

(4)

"الفتح" 10/ 303.

(5)

"عمدة القاري" 2/ 200.

(6)

"عمدة القاري" 2/ 200.

ص: 363

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "إذ مر اليهود"، قال في "الفتح": قوله: "إذ مر اليهودُ" كذا فيه "اليهودُ" بالرفع على الفاعلية، وفي بقية الروايات في "العلم"، و"الاعتصام"، و"التوحيد"، وكذا عند مسلم:"إذ مَرّ بنفر من اليهود"، وعند الطبريّ من وجه آخر، عن الأعمش:"إذ مررنا على يهود"، ويُحْمَل هذا الاختلاف على أن الفريقين تلاقَوا، فيصدق أن كلًّا مرّ بالآخر.

وقوله: "يهود" هذا اللفظ معرفة تدخله اللام تارةً، وتارة يتجرد، وحذفوا منه ياء النسبة، ففرَّقوا بين مفرده وجمعه، كما قالوا: زنج، وزنجيّ، قال: ولم أقف في شيء من الطرُق على تسمية أحد من هؤلاء اليهود. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصله: اسألوه، (عَنِ الرُّوحِ، فَقَالُوا: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع النسخ: "ما رابكم إليه"؛ أي: ما دعاكم إلى سؤاله، أو ما شكّكم فيه، حتى احتجتم إلى سؤاله، أو ما دعاكم إلى سؤال تخشون سوء عقباه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ما رابكم إليه" كذا للأكثر بصيغة الفعل الماضي من الريب، ويقال فيه: رابه كذا، وأرابه كذا، بمعنى، وقال أبو زيد: رابه: إذا عَلم منه الريب، وأرأبه: إذا ظَنّ ذلك به، ولأبي ذرّ عن الحمويّ وحده بهمزة، وضم الموحّدة من الرأب، وهو الإصلاح، يقال فيه: رأب بين القوم: إذا أصلح بينهم، وفي توجيهه هنا بُعْدٌ.

وقال الخطابيّ

(3)

: الصواب ما أَرَبُكُم، بتقديم الهمزة، وفتحتين، من الأَرَب، وهو الحاجة، وهذا واضح المعنى لو ساعدته الرواية، نعم رأيته في رواية المسعوديّ عن الأعمش، عند الطبريّ كذلك، وذكر ابن التين أن رواية القابسيّ كرواية الحمويّ، لكن بتحتانية بدل الموحّدة من الرأي، والله أعلم. انتهى

(4)

.

(لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ) وفي رواية البخاريِّ في "العلم": "لا يجيء فيه بشيء تكرهونه"، وفي "الاعتصام":"لا يسمعكم ما تكرهون"، وهي

(1)

"الفتح" 10/ 303 - 304.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 137.

(3)

"الأعلام" 3/ 1873.

(4)

"الفتح" 10/ 304.

ص: 364

بمعنًى، وكلّها بالرفع على الاستئناف، ويجوز السكون، وكذا النصب أيضًا، قاله في "الفتح".

وقال في "العمدة": قوله: "لا يجيء فيه" يجوز فيه ثلاثة أوجه:

الأول: الجزم على جواب النهي؛ أي: لا تسألوه لا يجئْ بمكروه.

الثاني: النصب على معنى: لا تسألوه إرادةَ أن لا يجيء فيه، و"لا" زائدة، وهذا ماشٍ على مذهب الكوفيين، وقال السهيليّ: النصب فيه بعيد؛ لأنه على معنى "أَنْ".

الثالث: الرفع على القطع؛ أي: لا يجيءُ فيه بشيء تكرهونه، قال: والمراد أنه رُفع على الاستئناف. انتهى

(1)

.

ووقع في بعض التفاسير أن الحكمة في سؤال اليهود عن الروح أن عندهم في التوراة أن روح بني آدم لا يعلمها إلا الله، فقالوا: نسأله، فإن فسَّرها فهو نبيّ، وهو معنى قولهم:"لا يجيء بشيء تكرهونه"، وروى الطبريّ من طريق، مغيرة، عن إبراهيم، في هذه القصّة، فنزلت الآية، فقالوا: هكذا نجده عندنا، ورجاله ثقات، إلا أنه سقط من الإسناد علقمة، قاله في "الفتح"

(2)

.

(فَقَالُوا: سَلُوهُ) وفي رواية للبخاريّ في "التوحيد": "فقال بعضهم: لنسألنّه"، واللام جواب قسم محذوف. (فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ)، وفي رواية للبخاريّ في "التوحيد":"فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟ "، وفي رواية العوفي عن ابن عباس، عند الطبريّ:"فقالوا: أخبرنا عن الروح".

(فَسَأَلَهُ)؛ أي: سأل ذلك البعض النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَنِ الرُّوحِ) قال ابن التين رحمه الله: اختَلَف الناس في المراد بالروح المسؤول عنه في هذا الخبر على أقوال:

الأول: روح الإنسان. الثاني: روح الحيوان. الثالث: جبريل عليه السلام. الرابع: عيسى عليه السلام. الخامس: القرآن. السادس: الوحي. السابع: ملَك يقوم وحده صفًّا يوم القيامة. الثامن: ملَك له أحد عشر ألف جناح، ووُجِّه. وقيل:

(1)

"عمدة القاري" 2/ 200.

(2)

"الفتح" 10/ 308.

ص: 365

ملك له سبعون ألف لسان. وقيل: له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان ألف لغة، يسبح الله تعالى، يخلق الله بكل تسبيحة ملكًا يطير مع الملائكة. وقيل: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش. التاسع: خَلْق كخلق بني آدم، يقال لهم: الروح، يأكلون، ويشربون، لا ينزل ملك من السماء إلا نزل معه. وقيل: بل هم صنف من الملائكة يأكلون ويشربون. انتهى كلامه ملخصًا بزيادات من كلام غيره.

قال الحافظ: وهذا إنما اجتمع من كلام أهل التفسير في معنى لفظ الروح الوارد في القرآن، لا خصوص هذه الآية، فمِنَ الذي في القرآن:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} [الشعراء: 193]، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15]، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22]، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38]، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، فالأول جبريل، والثاني القرآن، والثالث الوحي، والرابع القوّة، والخامس والسادس مُحْتَمِل لجبريل ولغيره.

ووقع إطلاق روح الله على عيسى عليه السلام، وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح، عن ابن عباس قال: الروح من الله، وخَلْق من خلق الله، وصُوَر كبني آدم، لا ينزل ملَك إلا ومعه واحد من الروح، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسِّر الروح؛ أي: لا يعيِّن المراد به في الآية.

وقال الخطابيّ: حَكَوا في المراد بالروح في الآية أقوالًا، قيل: سألوه عن جبريل، وقيل: عن ملَك له ألسنة، وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد، وقال أهل النظر: سألوه عن كيفية مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه.

وقال القرطبيّ: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملَك، وأن الملائكة أرواح.

وقال الإمام فخر الدين الرازيّ: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانُهُ أن السؤال عن الروح يَحْتَمِل عن ماهيته، وهل هي متحيزة، أم لا؟ وهل هي حالّة في متحيز، أم لا؟ وهل هي قديمة، أو حادثة؟ وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد، أو

ص: 366

تفنى؟ وما حقيقة تعذيبها، وتنعيمها؟، وغير ذلك من متعلقاتها، قال: وليس في السؤال ما يخصص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة، أو حادثة، والجواب يدلّ على أنها شيء موجود، مغاير للطبائع، والأخلاط، وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرّد، لا يحدث إلا بمُحدِث، وهو قوله تعالى:{كُنْ} [البقرة: 117] فكأنه قال: هي موجودة، مُحْدَثة بأمر الله، وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه، قال: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] الفعل؛ كقوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]؛ أي: فِعله، فيكون الجواب: الروح من فعل ربي، وإن كان السؤال هل هي قديمة، أو حادثة؟ فيكون الجواب أنها حادثة، إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء، والتعمق فيها. انتهى.

قال: وقد تنطَّع قوم، فتباينت أقوالهم، فقيل: هي النَّفَس الداخل والخارج، وقيل: الحياة، وقيل: جسم لطيف يَحُلّ في جميع البدن، وقيل: هي الدم: وقيل: هي عَرَض، حتى قيل: إن الأقوال فيها بلغت مائة، ونقل ابن منده عن بعض المتكلمين أن لكل نبي خمسة أرواح، وأن لكل مؤمن ثلاثة، ولكل حي واحدة.

قال الجامع عفا الله عنه: هذه الأقوال المتشتّتة ليست مبنيّة على أسس من الكتاب والسُّنَّة، بل هي تفكيرات من العقول البشريّة التي لا تحول حول الأمور المغيّبة إلا بمقدر ما جاء من الوحي السماويّ، فواجبنا تجاهها أن نسكت كما سكت السلف الصالح، فليسعنا ما وَسِعهم، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يُنجي في الدنيا والآخرة، فعَضّ عليه بنواجذك تَسْلَم، وتغنم، وإلا تخسر، وتندم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال ابن العربيّ: اختلفوا في الروح والنفس، فقيل: متغايران، وهو الحقّ، وقيل: هما شيء واحد، قال: وقد يعبَّر بالروح عن النفس، وبالعكس، كما يعبَّر عن الروح، وعن النفس بالقلب، وبالعكس، وقد يعبَّر عن الروح بالحياة، حتى يتعدى ذلك إلى غير العقلاء، بل إلى الجماد مجازًا.

وقال السهيليّ: يدلّ على مغايرة الروح والنفس قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ

ص: 367

وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، وقوله تعالى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فإنه لا يصح جعل أحدهما موضع الآخر، ولولا التغاير لساغ ذلك. انتهى

(1)

.

(قَالَ: فَأَسْكَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: سكت، وقيل: أطرق، وقيل: أعرض عنه، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: سَكَتَ سَكْتًا، وسُكُوتًا: صَمَتَ، ويتعدى بالألف، والتضعيف، فيقال: أَسْكَتهُ، وسَكَّنتُهُ، واستعمالُ المهموز لازمًا لغةٌ، وبعضهم يجعله بمعنى أطرق، وانقطع. انتهى

(3)

.

وفي رواية للبخاريّ: "فأمسك النبيّ صلى الله عليه وسلم"(فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا) وفي لفظ للبخاريّ: "فلم يرد عليهم"، (فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ) وفي رواية للبخاريّ في "التوحيد":"فظننت أنه يوحى إليه"، وفي "الاعتصام":"فقلت: إنه يوحى إليه"، وهي متقاربة، وإطلاق العلم على الظنّ مشهور، وكذا إطلاق القول على ما يقع في النفس، ووقع عند ابن مردويه، من طريق ابن إدريس، عن الأعمش:"فقام، وحَنَى من رأسه، فظننت أنه يوحى إليه".

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه: (فَقُمْت مَكَاني) وفي لفظ للبخاريّ: "فقمت مقامي"، وفي لفظ:"فتأخّرت عنه"؛ أي: أدبًا معه صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يتشوش بقربي منه، (فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ) وفي رواية للبخاريّ:"حتى صعد الوحي، فقال"، وفي رواية له:"فقمت، فلما انجلى". (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}) [الإسراء: 85]. قال ابن جرير الطبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح، ما هي؟ قل لهم: الروح من أمر ربىِ، وما أوتيتم أنتم، وجميع الناس من العلم إلا قليلًا، وذُكِر أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح، فنزلت هذه الآية بمسألتهم إياه عنها، كانوا قومًا من اليهود. انتهى

(4)

.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} قد اختَلف الناس في الروح

(1)

"الفتح" 10/ 304 - 306.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 137.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 281.

(4)

"تفسير الطبريّ" 17/ 541.

ص: 368

المسؤول عنه، فقيل: هو الروح المدبر للبدن الذي تكون به حياته، وبهذا قال أكثر المفسرين. قال الفراء: الروح الذي يعيش به الإنسان، لم يخبر الله سبحانه به أحدًا من خلقه، ولم يعط علمه أحدًا من عباده فقال:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ؛ أي: إنكم لا تعلمونه، وقيل: الروح المسؤول عنه: جبريل، وقيل: عيسى، وقيل القرآن، وقيل: ملك من الملائكة عظيم الخلق، وقيل: خَلْق كخلق بني آدم، وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته، ولا فائدة في إيراده، والظاهر القول الأول، قال: ثم الظاهر أن السؤال عن حقيقة الروح؛ لأن معرفة حقيقة الشيء أهمّ، وأقدم من معرفة حالٍ من أحواله، ثم أمَره سبحانه أن يجيب على السائلين له عن الروح فقال:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . "من" بيانية، والأمر: الشأن، والإضافة للاختصاص؛ أي: هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأشياء التي لم يُعلم بها عباده، وقيل: معنى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} من وحيه، وكلامه، لا من كلام البشر.

ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله سبحانه: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ؛ أي: أن علمكم الذي علّمكم الله، ليس إلّا المقدار القليل بالنسبة إلى علم الخالق سبحانه، وإن أوتي حظًا من العلم وافرًا، بل علم الأنبياء عليهم السلام ليس هو بالنسبة إلى علم الله سبحانه إلّا كما يأخذ الطائر في منقاره من البحر، كما في حديث موسى والخضر عليه السلام. انتهى

(1)

.

وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ} هكذا في هذه الرواية، وقد بيّن مسلم فيما بعدُ أن في رواية عيسى بن يونس:"وما أوتوا من العلم إلا قليلًا"، وكذلك وقع اختلاف في رواية البخاريّ، فقال في "الفتح": قوله: "وما أوتيتم من العلم" كذا للكشميهنيّ هنا -أي: في التفسير- وكذا لهم في "الاعتصام"، ولغير الكشميهنيّ هنا:"وما أوتوا" وكذا لهم في "العلم"، وزاد:"قال الأعمش: هكذا قراءتنا"، وبيّن مسلم اختلاف الرواة عن الأعمش فيها، وهي مشهورة عن الأعمش، أعني بلفظ:"وما أوتوا"، ولا مانع أن يذكرها بقراءة غيره، وقراءة الجمهور:"وما أوتيتم" والأكثر على أن المخاطب بذلك اليهود،

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 4/ 348.

ص: 369

فتتحد القراءتان، نعم وهي تتناول جميع علم الخلق بالنسبة إلى علم الله. ووقع في حديث ابن عباس:"أن اليهود لمّا سمعوها قالوا: أوتينا علمًا كثيرًا، التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، فنزلت: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية [الكهف: 109] "، قال الترمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.

وقوله: {إِلَّا قَلِيلًا} هو استثناء من العلم؛ أي: إلا علمًا قليلًا، أو من الإعطاء؛ أي: إلا إعطاء قليلًا، أو من ضمير المخاطب، أو الغائب، على القراءتين؛ أي: إلا قليلًا منهم، أو منكم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7033 و 7034 و 7035](2794)، و (البخاريّ) في "العلم"(125) و"التفسير"(4721) و"الاعتصام"(7297) و" التوحيد"(7456 و 7462)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3141)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 444 و 445)، و (الطبريّ) في "التفسير"(15/ 155 و 156)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(98)، و (الواحديّ) في "أسباب النزول"(ص 197)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(2/ 86)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز سؤال العالم في حال قيامه، ومشيه، إذا كان لا يثقل ذلك عليه.

2 -

(ومنها): أدب الصحابة رضي الله عنهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث تأدب ابن مسعود رضي الله عنه لَمّا علم بنزول الوحي، فوقف حتى لا يشوش عليه.

3 -

(ومنها): العمل بما يغلب على الظنّ، حيث توقّف ابن مسعود حيث ظنّ نزول الوحي.

4 -

(ومنها) التوقف عن الجواب بالاجتهاد لمن يتوقع النصّ.

5 -

(ومنها): أن بعض المعلومات قد استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وحقيقته؛ كالروح.

ص: 370

6 -

(ومنها): أن الأمر يَرِد لغير الطلب، والله أعلم.

7 -

(ومنها): ما قاله الشوكانيّ رحمه الله: في هذه الآية ما يزجر الخائضين في شأن الروح المتكلفين لبيان ما هَيْئتها، وإيضاح حقيقتها، أبلغ زجر، ويردعهم أعظم ردع، وقد أطالوا المقال في هذا البحث بما لا يتسع له المقام، وغالبه، بل كله من الفضول الذي لا يأتي بنفع في دين ولا دنيا.

وقد حَكَى بعض المحققين أن أقوال المختلفين في الروح بلغت إلى ثمانية عشر ومائة قول، فانظر إلى هذا الفضول الفارغ، والتعب العاطل عن النفع، بعد أن علموا أن الله سبحانه قد استأثر بعلمه، ولم يُطلع عليه أنبياءه، ولا أَذِن لهم بالسؤال عنه، ولا البحث عن حقيقته، فضلًا عن أممهم المقتدين بهم، فيالله العجب حيث تبلغ أقوال أهل الفضول إلى هذا الحدّ الذي لم تبلغه، ولا بعضه في غير هذه المسألة، مما أذن الله بالكلام فيه، ولم يستأثر بعلمه. انتهى

(1)

، وهو كلام وجيه، وتنبيه نَبِيه، خلاصته أنه لا ينبغي لعاقل فضلًا عن العالِم أن يشتغل بفضول الكلام، ولا سيّما فيما سدّ الشارع طريق البحث، فالواجب فيه السكوت، وتفويض علمه إلى عالم الغيب والشهادة، فهذا هو الحقّ، فماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟ عصمنا الله تعالى من الاشتغال بما لا ينفعنا، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم آمين.

(المسألة الرابعة): فيما قاله أهل العلم في المراد بقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} :

قال الإسماعيليّ رحمه الله: يحْتَمِل أن يكون جوابًا، وأن الروح من جملة أمر الله، وأن يكون المراد: أن الله اختص بعلمه، ولا سؤال لأحد عنه.

وقال ابن القيّم رحمه الله: ليس المراد هنا بالأمر الطلب اتفاقًا، وإنما المراد به المأمور، والأمر يُطلق على المأمور؛ كالخلق على المخلوق، ومنه:{لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101].

وقال ابن بطال رحمه الله: معرفة حقيقة الروح مما استأثر الله بعلمه، بدليل

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 4/ 348.

ص: 371

هذا الخبر، قال: والحكمة في إبهامه اختبار الخلق؛ ليُعَرّفهم عجزهم عن علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم إلى ردّ العلم إليه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء؛ لأنه إذا لم يعلم حقيقة نفسه، مع القطع بوجوده، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحقّ من باب أَولى.

وجنح ابن القيم في "كتاب الروح" إلى ترجيح أن المراد بالِروح المسؤول عنها في الآية ما وقع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] قال: وأما أرواح بني آدم، فلم يقع تسميتها في القرآن إلا نفسًا، قال الحافظ: كذا قال، ولا دلالة في ذلك لِمَا رجّحه، بل الراجح الأول، فقد أخرج الطبريّ من طريق العوفيّ، عن ابن عباس في هذه القصّة أنهم قالوا عن الروح، وكيف يعذّب الروح الذي في الجسد، وإنما الروح من الله؟ فنزلت الآية.

وقال بعضهم: ليس في الآية دلالة على أن الله لم يُطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على حقيقة الروح، بل يَحْتَمِل أن يكون أطلعه، ولم يأمره أنه يطلعهم، وقد قالوا في علم الساعة نحو هذا، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: العجب من الحافظ ينقل هذا القول، ويسكت عليه، وهو من منكر القول، فهل بعد هذه الآية بأن الروح من أمر الله، وليست من معلومات الخلق، وبعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "مفاتح الغيب خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} [لقمان: 34]، فهل يدعي عاقل بعد هذا كلّه بأن الله تعالى أطلع نبيّه صلى الله عليه وسلم على هذه المغيّبات؟ بل صرّح بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من الدنيا حتى أطلعه الله على هذا المغيّبات، فهذا هو التقوّل على الله تعالى بلا علم، نسأل الله تعالى أن يعافينا من ذلك آمين.

قال الحافظ: وممن رأى الإمساك عن الكلام في الروح أستاذ الطائفة أبو القاسم، فقال فيما نقله في "عوارف المعارف" عنه بعد أن نقل كلام الناس في الروح: وكان الأَولى الإمساك عن ذلك، والتأدب بأدب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم نقل عن الجنيد أنه قال: الروح استأثر الله تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه،

ص: 372

فلا تجوز العبارة عنه بأكثر من موجود، وعلى ذلك جرى ابن عطية، وجَمْع من أهل التفسير، وأجاب من خاض في ذلك بأن اليهود سألوا عنها سؤال تعجيز، وتغليط؛ لكونه يُطلق على أشياء، فأضمروا أنه بأيّ شيء أجاب، قالوا: ليس هذا المراد، فردّ الله كيدهم، وأجابهم جوابًا مجملًا مطابقًا لسؤالهم المجمل.

وقال السُّهْرَورديّ في "العوارف": يجوز أن يكون من خاض فيها سلك سبيل التأويل، لا التفسير؛ إذ لا يسوغ التفسير إلا نقلًا، وأما التأويل فتمتد العقول إليه بالباع الطويل، وهو ذِكر ما لا يَحْتمل إلا به من غير قطع بأنه المراد، فمن ثَمّ يكون القول فيه، قال: وظاهر الآية المنع من القول فيها؛ لختم الاية بقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ؛ أي: اجعلوا حكم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه، فلا تسألوا عنه، فإنه من الأسرار.

وقيل: المراد بقوله: {أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] كون الروح من عالم الأمر الذي هو عالم الملكوت، لا عالم الخلق الذي هو عالم الغيب والشهادة.

وقد خالف الجنيدَ ومن تبعه من الأئمة جماعةٌ من متأخري الصوفية، فأكثروا من القول في الروح، وصرّح بعضهم بمعرفة حقيقتها، وعاب من أمسك عنها.

ونقل ابن منده في "كتاب الروح" له عن محمد بن نصر المروزيّ الإمام المطلع على اختلاف الأحكام من عهد الصحابة إلى عهد فقهاء الأمصار، أنه نقل الإجماع على أن الروح مخلوقة، وإنما يُنقَل القول بقدمها عن بعض غلاة الرافضة، والمتصوفة.

واختُلف هل تفنى عند فناء العالم قبل البعث، أو تستمرّ باقية؟ على قولين، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا الاختلاف أيضًا من نوع الاختلاف السابق، فهو من الخوض فيما لا يعني، والحقّ تفويض علم ذلك إلى القائل الحكيم:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، اللَّهُمَّ رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات

(1)

"الفتح" 10/ 307 - 308.

ص: 373

والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لِمَا اختُلف فيه من الحقّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7034] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمِ قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ

(1)

، بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى بْنِ يُونُسَ:"وَمَا أُوتُوا" مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ خَشْرَمٍ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح بن مَلِيح الرُّؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، عابدٌ، من كبار [9]، مات في آخر سنة ست، أو أول سنة سبع وتسعين ومائة، وله سبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله ببابين.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ) الضمير لوكيع، وعيسى بن يونس.

وقوله: (فِي حَرْثٍ بِالْمَدِينَةِ) وفي بعض النسخ: "في حرث المدينة".

[تنبيه]: أما رواية وكيع عن الأعمش، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(7018)

- حدثنا يحيى

(2)

، حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن

(1)

وفي نسخة: "في حرث المدينة".

(2)

هو: يحيى بن جعفر بن أعين الأزديّ البخاريّ، ثقة من العاشرة، مات سنة (243) من أفراد البخاريّ.

ص: 374

علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو متكئ على عسيب، فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه عن الروح، فسألوه، فقام متوكئًا على العسيب، وأنا خلفه، فظننت أنه يوحى إليه، فقال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} ، فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم: لا تسألوه. انتهى

(1)

.

وأما رواية إسحاق بن إبراهيم، عن عيسى بن يونس عن الأعمش، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(98)

- أخبرنا عبد الله بن محمد الأزديّ، قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عيسى بن يونس، قال: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو متكئ على عسيب، فمَرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: لو سألتموه، فقال بعضهم: لا تسألوه، فيُسمعكم ما تكرهون، فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن الروح، فقام ساعةً ينتظر الوحي، فعرفت أنه يوحى عليه، فتأخرت عنه، حتى صعد الوحي، ثم قرأ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْرُّوْحِ

(2)

الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) الآية. انتهى

(3)

.

وأما رواية عليّ بن خشرم، عن عيسى بن يونس، عن الأعمش، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(11299)

- أنا عليّ بن خَشْرم، أنا عيسى، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنت أمشي مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمَرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه، وقال بعضهم: لا تسألوه، فيُسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم حدِّثنا عن الروح، فقام ساعةً، ورفع رأسه، فعرفنا أنه يوحى إليه، حتى صَعِد الوحي، ثم قال:{الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} . انتهى

(4)

.

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2713.

(2)

هكذا النسخ بحذف "قل"، فتنبّه.

(3)

"صحيح ابن حبان" 1/ 299 - 300.

(4)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 383.

ص: 375

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7035] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ إِدْرِيسَ يَقُولُ: سَمِعْتُ الأَعْمَشَ، يَرْوِيهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي نَخْلِ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ عَنِ الأَعْمَشِ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) بن يزيد بن عبد الرحمن الأَوْديّ، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [8](ت 192) وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مُرَّةَ) الْهَمْدانيّ الْخَارِفىّ -بمعجمة، وراء، وفاء-، الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات سنة مائة، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 27/ 217.

3 -

(مَسْرُوقُ) بن الأجدع، تقدّم قبل باب.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: انتقد الدارقطني على مسلم في هذا الإسناد، قال: خالف ابن إدريس جماعة من أصحاب الأعمش، فرواه عنه عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، والجماعة هم: عبد الواحد بن زياد، وعيسى بن يونس، وحفص بن غياث، ووكيع، وغيرهم، فإنهم رووه عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله رضي الله عنه، وهذا هو الصواب.

قال الجامع عفا الله عنه: حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ رحمه الله أن رواية عبد الله بن إدريس غير محفوظة؛ لمخالفته جماعة من أصحاب الأعمش، فتكون روايته شاذّة.

والجواب عن مسلم رحمه الله أنه يرى صحّة رواية ابن إدريس؛ لكونه ثقةً حافظًا متقنًا، فزيادته مقبولة، فيكون للأعمش إسنادان: أحدهما إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، والآخر عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية عبد الله بن إدريس عن الأعمش هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 376

(97)

- أخبرنا الحسين بن أحمد بن بسطام بالأُبُلّة، قال: حدّثنا عبد الله بن سعيد الْكِنْديّ، قال: حدّثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن عبد الله بن مُرّة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض حيطان المدينة، متوكئًا على عسيب، إذ جاءته اليهود، فسألته عن الروح، فنزلت:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} الآية. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} [مريم: 77])

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7036](2795) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُّ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ اللهِ- قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ خَبَّابٍ، قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِى: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ، قَالَ وَكِيعٌ: كَذَا قَالَ الأَعْمَشُ، قَالَ: فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} -إلى قوله-: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو الضُّحَى) مسلم بن صُبيح -بالتصغير- الْهَمْدانيّ الكوفيّ العطار، مشهور بكنيته، ثقةٌ فاضلٌ [4] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الطهارة" 22/ 635.

2 -

(خَبَّابُ) -بموحّدتين، الأولى مثقّلة- ابن الأرتّ التميمي، أبو عبد الله الصحابيّ الشهير، من السابقين إلى الإسلام، وكان يُعَذَّب في الله،

(1)

"صحيح ابن حبان" 1/ 299.

ص: 377

وشَهِد بدرًا، ثم نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 33/ 1407.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه ثلاثة من التابعين الكوفيين، روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي الضُّحَى) مسلم بن صُبيح، قال في "الفتح": كذا رواه بشر بن موسى، وغير واحد عن الحميديّ، وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر، عن الحميديّ بهذا الإسناد، فقال:"عن أبي وائل" بدل: "أبي الضحى"، والأول أصوب، وشذّ حماد بن شعيب، فقال أيضًا:"عن الأعمش، عن أبي وائل"، وأخرجه ابن مردويه أيضًا

(1)

. (عَنْ مَسْرُوقِ) بن الأجدع (عَنْ خَبَّاب) بن الأرتّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ) السَّهْميّ هو والد عمرو بن العاص الصحابيّ المشهور، وكان له قَدْر في الجاهلية، ولم يوفق للإسلام، قال ابن الكلبيّ: كان من حكام قريش. انتهى، وثبت أنه أجار عمر بن الخطاب حين أسلم، وقد أخرج الزبير بن بكار هذه القصة مطولةً، وفيها أن العاص بن وائل قال: رجل اختار لنفسه أمرًا، فما لكم وله؟ فردّ المشركين عنه، وكان موته بمكة قبل الهجرة، وهو أحد المستهزئين، قال عبد الله بن عمرو: سمعت أبي يقول: عاش أبي خمسًا وثمانين، وإنه ليركب حمارًا إلى الطائف، فيمشي عنه أكثر مما يركب، ويقال: إن حماره رماه على شوكة أصابت رجله، فانتفخت، فمات منها، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وإياه عَنَى البوصيريّ رحمه الله في "همزيّته" بقوله:

وَقَضَتْ شَوْكَةٌ عَلَى مُهْجَةِ الْعَا

صِ فَلِلَّهِ النَّقْعَةُ

(3)

الشَّوْكَاءُ

وقال في "العمدة": العاص بن وائل بالهمزة بعد الألف، وذكر ابن

(1)

"الفتح" 10/ 349، "كتاب التفسير" رقم (4732).

(2)

"الفتح" 10/ 349.

(3)

النقع: القتل. اهـ. "ق".

ص: 378

الكلبيّ عن جماعة في الجاهلية أنهم كانوا زنادقة، منهم العاص بن وائل، وعقبة بن أبي معيط، والوليد بن المغيرة، وأُبَيَ بن خلف. انتهى

(1)

.

(دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ)؛ أي: فأتيت العاص أطلب منه دَيني، قال مقاتل: صاغ خباب للعاصي شيئًا من الحليّ، فلما طلب منه الأجر قال: ألستم تزعمون أن في الجنة الحرير، والذهب، والفضة، والولدان؟، قال خباب: نعم، قال العاص: فميعاد ما بيننا الجنة.

وقال الواحديّ: قال الكلبيّ، ومقاتل: كان خباب قَينًا، وكان يعمل للعاص بن وائل، وكان العاصي يؤخر حقّه، فأتاه يتقاضاه، فقال: ما عندي اليوم ما أقضيك، فقال خباب: لست بمفارقك حتى تقضيني، فقال العاصي: يا خباب ما لك؟ ما كنت هكذا، وإن كنت لَحَسَن الطلب، قال: ذلك إذا كنت على دِينك، وأما اليوم فأنا على الإسلام، قال: أفلستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضةً وحريرًا؟ قال: بلى، قال: فأخّرني حتى أقضيك في الجنة -استهزاءً- فوالله إن كان ما تقول حقًّا إني لأفْضَل فيها نصيبًا منك، فأنزل الله تعالى الآية. انتهى.

والآية هي قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} [مريم: 77]

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "دعني حتى أموت، وأبعث، فسأوتى مالًا وولدًا، فأقضيك"، قال ذلك استهزاء بعقيدة البعث، وكان من المستهزئين بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من ذلك.

(فَقَالَ) العاص بن وائل (لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ) وفي رواية للبخاريّ: "فقال: لا أعطيك"؛ أي: فقال العاصي: لا أعطيك حقك (حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) خبّاب رضي الله عنه:(فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكفُرَ بِمُحَمَّدٍ) صلى الله عليه وسلم (حَتَّى تَمُوتَ، ثُمَّ تُبْعَثَ) قال في "الفتح": مفهومه أنه يكفر حينئذ، لكنه لم يُرِد ذلك؛ لأن الكفر حينئذ لا يُتصور، فكأنه قال: لا أكفر أبدًا، والنكتة في تعبيره بالبعث تعيير العاص بأنه لا يؤمن به، وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل قوله هذا، فقال: عَلَّق الكفر، ومن عَلّق الكفر كفر.

(1)

"عمدة القاري" 11/ 209.

(2)

"عمدة القاري" 11/ 209.

ص: 379

وأجاب بأنه خاطب العاص بما يعتقده، فعلّق على ما يستحيل بزعمه، والتقرير الأول يغني عن هذا الجواب. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": فإن قلت: مَن عَيَّن للكفر أجلًا فهو كافر الآن إجماعًا، فكيف يصدر هذا عن خباب، ودينه أصحّ، وعقيدته أثبت، وإيمانه أقوى وآكد؟.

قلت: لم يُرِد به خباب هذا، وإنما أراد: لا تعطيني حتى تموت وتبعث، أو أنك لا تعطيني ذلك في الدنيا فهنالك يؤخذ قسرًا منك، وقال أبو الفرج: لمّا كان اعتقاد هذا المخاطَب أنه لا يُبعث خاطبه على اعتقاده، فكأنه قال: لا أكفر أبدًا، وقيل: أراد خباب أنه إذا بُعث لا يبقى كفر؛ لأن الدار دار الآخرة. انتهى

(2)

.

(قَالَ) العاص: (وَإِنِّي) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: أوَ إني (لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟) فقال له خبّاب: نعم، فقال العاص استهزاء:(فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ)، وفي رواية الترمذيّ:"فقلت: لا حتى تموت، ثم تبعث"، قال: وإني لميت، ثمِ مبعوث؟ فقلت: نعم، فقال: إن لي هنالك مالًا وولدًا، فأقضيك، فنزلت:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ} الآية [مريم: 77].

وقوله: (قَالَ وَكِيعٌ) هو ابن الجرّاح، (كَذَا قَالَ الأَعْمَشُ، قَالَ) خبّاب: (فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ) هي قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)} -إلى قوله-: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} .

قال في "فتح القدير": {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} ؛ أي: أخبرني بقصة هذا الكافر، واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا "أرأيت" بمعنى أخبر؛ لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعمّ كل آية، ومن جُملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام؛ أي: أَنَظَرت، فرأيت.

واللام في {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتينّ في الآخرة مالًا وولدًا؛ أي: انظر إلى حال هذا الكافر، وتعجَّب من كلامه، وتألّيه على الله مع كُفره به، وتكذيبه بآياته.

(1)

"الفتح" 10/ 349.

(2)

"عمدة القاري" 11/ 209.

ص: 380

ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال:{أَطَّلَعَ} على {الْغَيْبَ} ؛ أي: أَعَلِم ما غاب عنه، حتى يعلم أنه في الجنة، {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين، وقيل: المعنى: أَنَظَر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدًا؟ وقيل: معنى {أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} : أم قال: لا إله إلا الله، فأرحمه بها. وقيل: المعنى: أم قدّم عملًا صالحًا فهو يرجوه، و"اطلع" مأخوذ من قولهم: اطلع الجبلَ: إذا ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة، والكسائيّ، ويحيى بن وثاب، والأعمش:"ووُلدا" بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان، معناهما واحد، يقال: وَلَدٌ، ووُلْدٌ، كما يقال: عَدَمٌ، وعُدْمٌ، قال الحارث بن حلزّة [من مجزوء الكامل]:

وَلَقَدْ رَأَيْتُ مَعَاشِرًا

قَدْ ثَمَّرُوا مَالًا وَوُلْدَا

وقال آخر [من الطويل]:

فَلَيْتَ فُلَانًا كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ

وَلَيتَ فَلَانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ

وقيل: الولد بالضم للجمع، وبالفتح للواحد. {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}:

"كلا" حرف ردع وزجر؛ أي: ليس الأمر على ما قال هذا الكافر، من أنه يؤتى المال والولد، سنكتب ما يقول؛ أي: سنحفظ عليه ما يقوله، فنجازي به في الآخرة، أو سنُظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كُتبت معصيته، {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا}؛ أي: نزيده عذابًا فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطوّل له من العذاب، {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ}؛ أي: نُميته، فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمى ما يقول ومصداقه. وقيل: المعنى: نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره. {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} ؛ أي: يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه؟ وقيل: المراد بما يقول: نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول ما دام حيًا، فإذا أمتناه حُلنا بينه وبين ما يقوله، ويأتينا رافضًا له، منفردًا عنه، والأوّل أَولى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 4/ 477 - 478.

ص: 381

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث خبّاب بن الأرتّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7036 و 7037](2795)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2591) و"الإجارة"(2275) و"الخصومات"(2425) و"التفسير"(4734 و 4735)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3162)، و (النسائيّ) في "الكبرى"، و (الطبريّ) في "تفسيره"(3653)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4885 و 5010)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3651 و 3652 و 3654)، و (البغويّ) في "التفسير"(3/ 207 - 208)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان جواز إجارة المسلم نفسه للكافر، وقد ترجم البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا، فقال:"باب هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب".

2 -

(ومنها): بيان أن الحدّاد لا يضره مهنة صناعته، إذا كان عدلًا، قال أبو العتاهية [من الطويل]:

أَلَا إِنَّمَا التَّقْوَى هُوَ الْعِزُّ وِالْكَرَمْ

وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا هُوَ الذُّلُّ وَالْعَدَمْ

وَلَيْس عَلَى حُرٍّ تَقِيٍّ نَقِيصَةٌ

إِذَا أَسَّسَ التَّقْوَى وَإِنْ حَاكَ أَوْ حَجَمْ

3 -

(ومنها): أن الكلمة من الاستهزاء يتكلم بها المرء، فيُكتب له بها سخطة إلى يوم القيامة، ألا ترى وعيد الله تعالى على استهزاء العاص بقوله:{كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)} [مريم: 79، 80]؛ يعني: من المال والولد بعد إهلاكنا إياه، ويأتينا فردًا؛ أي: نبعثه وحده تكذيبًا لظنه.

4 -

(ومنها): جواز الإغلاظ في اقتضاء الدَّين لمن خالف الحقّ، وظهر منه الظلم والعدوان.

5 -

(ومنها): بيان سبب نزول الآية الكريمة، والله تعالى أعلم.

ص: 382

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7037] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ وَكيعِ، وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ: قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ عَمَلًا، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو مُعَاوَيَةَ) محمد بن خازم الضرير، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(جَرِيرٌ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَديّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ أي: كلّ هؤلاء الأربعة: أبو معاوية، وعبد الله بن نُمير، وجرير بن عبد الحميد، وسفيان بن عيينة، رووا هذا الحديث عن الأعمش بسنده الماضي.

وقوله: (كُنْتُ قَيْنًا فِي الْجَاهِلِيَّةٍ) القين بفتح القاف، وسكون التحتانية بعدها نون: هو الحدَّاد.

وقوله: (فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ عَمَلًا) هو أنه عمل له سيفًا؛ لأنه كان حدّاد، وفي رواية لأحمد:"فاجتمعت لي عند العاص بن وائل دراهم".

وقوله: (فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ)، أي: أطلب منه أن يقضيني حقّي.

[تنبيه]: أما رواية أبي معاوية عن الأعمش، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:

ص: 383

(11322)

- أنا محمد بن العلاء، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب، قال: كنت رجلًا قَيْنًا، وكان لي على العاصي بن وائل دَيْن، فأتيته أتقاضاه، فقال: والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا، والله لا أكفر بمحمد حتى تموت، ثم تُبعث، قال: فإني إذا متُّ، ثم بُعثت جئتني، وَلِي ثَمّ مال، وولد، فأعطيك، فأنزل الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} -إلى قوله-: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} . انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد الله بن نُمير عن الأعمش، فقد ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(21113)

- حدّثني عبد الله بن نمير، أنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب، قال: كنت رجلًا قينًا، وكان لي على العاص بن وائل حَقٌّ، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت، ثم تُبعث، قال: فضحك، ثم قال: سيكون لي ثَمّ مال، وولد، فأعطيك حقّك، فأنزل الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} الآية. انتهى

(2)

.

وأما رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، وكذا رواية ابن عيينة عنه، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الآيَةَ [الأنفال: 33])

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7038]

(2796) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الزِّيَادِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ:

(1)

"السنن الكبرى" للنسائيّ 6/ 395.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 111.

ص: 384

اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَنَزَلَتْ:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الْحَمِيدِ الزِّيَادِيُّ) هو: عبد الحميد بن دينار، صاحب الزياديّ، ثقةٌ [4](خ م د س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1604.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ الشهير رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة بالبصرة، وهو المشهور بالخادم، خدم النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فنال بركته.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الزِّيَادِيِّ) هو عبد الحميد بن دينار تابعيّ صغيرٌ، ويقال له: ابن كُرْدِيد، بضم الكاف، وسكون الراء، وكسر الدال المهملة، ثم تحتانية ساكنة، ثم دال أخرى، والزياديّ الذي نُسب إليه من وَلَد زياد الذي يقال له: ابن أبي سفيان، قاله في "الفتح"

(1)

.

(أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ) فرعون هذه الأمة، قال في "الفتح": قوله: "قال أبو جهل: اللَّهُمَّ إن كان هذا

إلخ" ظاهر في

(1)

"الفتح" 8/ 309، "كتاب التفسير" رقم (4648).

ص: 385

أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نُسب إلى جماعة، فلعله بدأ به، ورضي الباقون، فنُسب إليهم.

وقد رَوَى الطبرانيّ من طريق ابن عباس أن القائل ذلك هو النضر بن الحارث، قال: فأنزل الله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)} [المعارج: 1]، وكذا قال مجاهد، وعطاء، والسديّ، ولا ينافي ذلك ما في الصحيح؛ لاحتمال أن يكونا قالاه، ولكن نِسبته إلى أبي جهل أَولى.

وعن قتادة قال: قال ذلك سَفَهَة هذه الأمة، وجَهَلتها.

وروى ابن جرير من طريق يزيد بن رُومان أنهم قالوا ذلك، ثم لما أمسَوا نَدِموا، فقالوا: غفرانك اللَّهُمَّ، فأنزل الله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} .

وروى ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس أن معنى قوله:{وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ؛ أي: مَنْ سَبَق له من الله أنه سيؤمن، وقيل: المراد: من كان بين أظهرهم حينئذ، من المؤمنين، قاله الضحاك، وأبو مالك، ويؤيده ما أخرجه الطبريّ من طريق بن أبزى قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ}، ثم خرج إلى المدينة، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، وكان من بقي من المسلمين بمكة يستغفرون، فلما خرجوا أنزل الله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية، فأَذِن الله في فتح مكة"، فهو العذاب الذي وعدهم الله تعالى.

ورَوَى الترمذيّ من حديث أبي موسى، رفعه:"قال: أنزل الله على أمتي أمانين"، فذكر هذه الآية، قال:"فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار"، وهو يقوي القول الأول، والحمل عليه أَولى، وأن العذاب حَلّ بهم لمّا تركوا الندم على ما وقع منهم، وبالغوا في معاندة المسلمين، ومحاربتهم، وصدِّهم عن المسجد الحرام، والله أعلم

(1)

.

(اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) بنصب "الحقَّ" على أنه خبر

(1)

"الفتح" 149 - 150.

ص: 386

"كان"، والضمير للفصل، ويجوز الرفع، قال الزجاج: ولا أعلم أحدًا قرأ بها، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها، ولكن القراءة سُنَّة، والمعنى: إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) قالوا هذه المقالة مبالغةً في الجحود، والإنكار، قال أبو عبيدة: يقال: أمطر في العذاب، ومَطَر في الرحمة، وقال في "الكشاف": قد كثر الإمطار في معنى العذاب

(1)

.

(أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) سألوا أن يعذَّبوا بالرجم بالحجارة من السماء، أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد، فأجاب الله عليهم بقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} الآية، (فَنَزَلَتْ) الآية، وهي قوله تعالى:({وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ} يا محمد موجود {فِيهِمْ} فإنك ما دُمت فيهم فهم في مُهلة من العذاب الذي هو الاستئصال، {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} رُوي أنهم كانوا يقولون في الطواف: غفرانك؛ أي: وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه. وقيل: إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم؛ أي: وما كان الله ليعذبهم، وفيهم من يستغفر من المسلمين، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذَّبهم بيوم بدر، وما بعده، وقيل: المعنى: وما كان الله معذبهم، وفي أصلابهم من يستغفر الله. ({وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ}) لَمّا بيّن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان: وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، ووقوع الاستغفار، ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار؛ أي: كفار مكة، مستحقون لعذاب الله؛ لِمَا ارتكبوا من القبائح، والمعنى: أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش: إن "أن" زائدة، قال النحاس: لو كان كما قال لرفع {يُعَذِّبْهُمُ} [التوبة: 14]

(2)

.

وجملة ({وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}) في محل نصب على الحال؛ أي: وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدّون الناس عن المسجد الحرام، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من البيت.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 3/ 175.

(2)

"فتح القدير" للشوكانيّ 3/ 176.

ص: 387

وقوله: (إِلَى آخِرِ الآيَةِ)؛ أي: اقرأ إلى نهاية الآية، وهو قوله تعالى:{وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].

فقوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} جملة في محل نصب على أنها حال من فاعل {يَصُدُّونَ} وهذا كالردّ لِمَا كانوا يقولونه من أنهم وُلاة البيت، وأن أمره مفوّض إليهم، ثم قال تعالى مبيّنًا لمن له ذلك:{إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} ؛ أي: ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشوك والمعاصي، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34] ذلك، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون، ولكنهم يعاندون، والله تعالى أعلم

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7038](2796)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4648 و 4649)، و (الترمذيّ) في "التفسير"، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه المشركون من العناد والتمرّد على الإسلام.

3 -

(ومنها): بيان كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة حيث يدفع الله عنهم العذاب بوجوده مع استحقاقهم له، وهذا مصداق قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، فكان رحمة للكفار في تأخير عذاب الاستئصال عنهم، وأما كونه رحمة للمؤمنين ففي الدنيا والآخرة.

4 -

(ومنها): أن الاستغفار سبب في دفع عقوبة الدنيا حتى من الكفّار، فقد أخَّر الله عن المشركين العذاب مع كفرهم، حيث استغفروه، فكيف بالمؤمنين، ففيه بيان عظم الاستغفار، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 3/ 176.

ص: 388

(9) - (بَابٌ فِي قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6)}

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7039](2797) - (حَدَّثَثَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالَ: فَقِيلَ: نَعَمْ، فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى، لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا"، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل، لَا نَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ شَيءٌ بَلَغَهُ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)} [العلق: 6 - 13]، -يَعْنِي: أَبَا جَهْلٍ- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ} [العلق: 14 - 19]، زَادَ عُبَيْدُ اللهِ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ: وَأَمَرَهُ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ، وَزَادَ ابْنُ عَبْدِ الأَعْلَى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)} ؛ يَعْنِي: قَوْمَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيُّ) الصنعانيّ، أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

2 -

(الْمُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطفيلَ، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نَزَل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقةٌ عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

ص: 389

4 -

(نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ) النعمان بن أشيم الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ، رُمي بالنصب [4](110)(خت م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 68/ 378.

5 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي، وقبله بباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالكوفيين، إلا الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ) اللعين، فرعون هذه الأمة، وهذا من مرسل أبي هريرة رضي الله عنه؛ لأنه لم يشهد القصّة، ويَحتَمِل أنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وعلى كونه مرسلًا، فلا يضرّ؛ لأن مراسيل الصحابة في حكم الموصولات، كما قال في "ألفيّة الأثر":

وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحِّ

كَسَامِعٍ فِي كُفْرِهِ ثُمَّ اتَّضَحْ

إِسْلَامُهُ بَعْدَ وَفَاةٍ وَالَّذِي

رَآهُ لَا مُمَيِّزًا لَا تَحْتَ ذِي

(هَلْ يُعَفِّرُ) بتشديد الفاء المكسورة، من التعفير، وهو التمريغ

(1)

.

(مُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم (وَجْهَهُ)؛ أي: يسجد، ويُلصق وجهه بالعَفَر، وهو التراب، قاله النوويّ، وقال ابن الجوزيّ: تعفير الوجه إلصاقه بالتراب، ويقال للتراب: العَفَر

(2)

. (بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟)؛ أي: فيما بينكم على أن "الأَظْهُر" مقحمة؛ للإشارة إلى وقوعه على وجه الظهور، أو الاستناد إلى ظهر أحد، وحمايته، ورعايته، قال الطيبيّ: يريد به سجوده على التراب، وإنما آثر التعفير على السجود؛ تعنتًا، وعنادًا، وإذلالًا، وتحقيرًا. (قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه؛ أي: ناقلًا عن غيره؛ لِمَا سبق آنفًا. (فَقِيلَ)؛ أي: قال لأبي جهل الحاضرون لديه: (نَعَمْ)؛ أي: يصلي، ويسجد بين أظهرنا، لا يخاف إلا الله عز وجل. (فَقَالَ) أبو جهل: (وَاللَّاتِ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 131.

(2)

"كشف المشكل" 3/ 572.

ص: 390

وَالْعُزَّى) أقسم بصنميه قائلًا: (لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ)؛ أي: يصلي، ويعفّر وجهه لله سبحانه وتعالى. (لأَطَأَنَّ)؛ أي: لأدوسنّ (عَلَى رَقَبَتِهِ) الشريفة التي أعزّها الله تعالى، وأعلاها على جميع الرقاب المنيفة صلى الله عليه وسلم، (أَوْ) إن لم أفعل هذا (لأُعَفِّرَنَّ)، أي: لأمرّغنّ (وَجْهَهُ) الشريف الذي أكرمه الله تعالى على جميع الوجوه من كلّ شريف صلى الله عليه وسلم (فِي التُّرَابِ، قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه: (فَأَتَى) أبو جهل اللعين (رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(وَهُوَ يُصَلِّي) جملة حاليّة من المفعول، والحال من الفاعل قوله:(زَعَمَ) بفتحتين، من باب نصر؛ أي: قصد أبو جهل بظنّه الباطل، قال القاري: وفي نسخة

(1)

: زَعِمَ بكسر العين، ففي "القاموس": زَعِمَ، كفَرِحَ: طَمِعَ

(2)

.

وقال الطيبيّ: "زعم" وقع حالًا من الفاعل، بعد الحال من المفعول، و"زعم" بمعنى طمع، وأراد، قال في "أساس البلاغة": ومن المجاز: زعم فلان في غير مَزعَم: طَمِع في غير مَطْمَع؛ لأن الطامع زاعم ما لم يستيقن. انتهى

(3)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: زَعَمَ زَعْمًا، من باب قَتَل، وفي الزَّعْمِ ثلاث لغات: فتح الزاي للحجاز، وضمّها لأسد، وكَسْرها لبعض قيس، ويُطلق بمعنى القول، ومنه زَعَمَتِ الحنفية، وزَعَمَ سيبويه؛ أي: قال، وعليه قوله تعالى:{أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: 92]؛ أي: كما أخبرت، ويُطلق على الظنّ، يقال: في زَعْمِي كذا، وعلى الاعتقاد، ومنه قوله تعالى:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7]. قال الأزهريّ: وأكثر ما يكون الزَّعْمُ فيما يُشكّ فيه، ولا يُتحقّق، وقال بعضهم: هو كناية عن الكذب، وقال المرزوقيّ: أكثر ما يُستعمل فيما كان باطلًا، أو فيه ارتياب، وقال ابن الْقُوطيّة: زَعَمَ زَعْمًا: قال خبرًا لا يُدرَى أحقٌّ هو، أو باطل؟ قال الخطابيّ: ولهذا قيل: زَعَمَ مَطِيَّةُ الكَذِبِ، وزَعَمَ غَيْرَ مَزْعَمٍ: قال غير مقول صالح، وادّعى ما لم يمكن. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: "زعم" هنا مستعمَل في الباطل، والظنّ الفاسد، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

(1)

أراد نسخة "المشكاة".

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 131.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3732.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 253.

ص: 391

(لِيَطَأَ)؛ أي: ليضع رجله الخبيث، واللام مكسورة، وقال ابن الملك: وفي نسخة

(1)

بفتح اللام، على أنه لام تأكيد، قال القاري: فالفعل مرفوع حينئذ

(2)

. (عَلَى رَقَبَتِهِ) الشريفة صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) أبو هريرة:(فَمَا فَجِئَهُمْ) بكسر الجيم، وتُفتح، ففي "القاموس": فجئه، كسَمِع، ومَنَع: هَجَم عليه، وأتاه بغتة؛ أي: فما أتى قومه فجاءة، (مِنْهُ)؛ أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو من إتيانه إليه، (إِلَّا) والحال (وَهُوَ)؛ أي: أبو جهل (يَنْكِصُ) بكسر الكاف، وتُضمّ، أي: يرجع، وفي "القاموس": نَكَص على عقبيه نُكُوصًا: رجع عما كان عليه من خير، خاصّ بالرجوع عن الخير، ووَهِم الجوهريّ في إطلاقه، أو في الشرّ نادر.

قال القاري: الحديث يدلّ على استعماله في الشرّ، وكذا آية:{فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48]، ثم صنيع "القاموس" يُشعر أنه بضم الكاف في المضارع، لكن اتّفق القراء على كسره، حتى لم يوجد في الشواذّ أيضًا، نعم قال الزجاج: يجوز ضم الكاف، ذكره الكرماني في قوله تعالى:{عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} [المؤمنون: 66]. انتهى

(3)

.

(عَلَى عَقِبَيْهِ)؛ أي: قهقرى، (وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ)؛ أي: يَحْذَر بهما، ويدفع شيئًا بسببهما.

قال الطيبيّ رحمه الله: المستثنى فاعل "فَجِئ"؛ أي: فما فَجِئ أصحابَ أبي جهل من أمر أبي جهل، إلا نكوص عقبيه، وقد سدّ الحال هنا مسدّ الفاعل، كما سدّت مسدّ الخبر في قوله صلى الله عليه وسلم:"أقرب ما يكون العبد من ربّه، وهو ساجدٌ"، وفيه إرخاء عنان الكلام للمعنى، لا لِلّفظ، ويَحْتَمِل أن يكون الضمير المستتر في "فجئهم" لأبي جهل، والمجرور في "منه" للأمر؛ أي: فما فَجِئ أبو جهل أصحابَهُ من الأحوال إلا هذه الحالة. انتهى

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عبارة المرتضى رحمه الله في "التاج": نَكَصَ عن الأَمْرِ يَنْكُصُ نَكْصًا، بالفَتْح، ونُكُوصًا بالضَّمّ، ومُنْكَصًا؛ كمَطْلَبٍ: تَكَأْكأَ عَنْه،

(1)

أي: من "المشكاة".

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 131.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 131.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3732.

ص: 392

وأَحْجَمَ، وانْقَدَعَ. وقال أَبو تُرَابِ: نَكَصَ عن الأَمْرِ، ونَكَفَ بمَعْنَىً وَاحِدٍ؛ أي: أَحْجَمَ. يُقَال: أَرادَ فُلانٌ أَمرًا، ثُمَّ نَكَصَ، من حَدِّ نَصرَ، وضَرَبَ: رَجَعَ، كما في "الصّحاح". وقال الأَزْهَرِيّ: قَرَأَ بعضُ القُرَّاءِ: "يَنْكُصُون" بالضَّمِّ، وأَنْكَرَه الصَّاغَانِيّ. وقال: لا أَعْرِفُ مَن قَرَأَ بهذِه القِرَاءَة. وقال الزَّجَّاج: الضَّمُّ جائِزٌ، ولكنَّه لم يُقْرأ به. وإِطْلاق المُصَنِّف

(1)

صَرِيحٌ في أَنَّ مُضارِعَه بالضَّمِّ لا غيْر، كما هو قاعِدَة كِتابِه، وهو وَهَمٌ صَرِيحٌ، وقُصُورٌ ظاهِرٌ، لا سِيَّمَا والكلمةُ قُرْآنِيَّة، وأَجْمَعَ القُرَّاءُ كُلّهُم على كَسْرِ الكافِ في قَوْله تَعالَى:{فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} . وعِبَارَةُ "الصّحاح" سالِمَةٌ من هذَا، فإِنّه ذَكَرَ الوَجْهَيْن، كما تَقَدَّمَ. وقال ابنُ دُرَيْدٍ: نَكَصَ على عَقِبَيْهِ: رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَليْه منْ خيْرٍ، قال: وهو خاصٌّ بالرّجُوعِ عن الخيْرِ، قال: وكَذَا فُسِّرَ في التَّنْزِيل، ووَهِمَ الجَوْهَرِيُّ في إِطْلاقِهِ، وقد يُقَالُ: أن لا حَصْرَ فيه، عَلَى أَنَّ التَّقيِيدَ الَّذِي نَقَلَهُ المُصَنِّف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى إِنَّمَا قالَهُ ابنُ دُرَيْدٍ، وتَبِعَهُ بَعْضُ فُقَهاءِ اللُّغَةِ، والمَعْرُوفُ عن الجُمْهُورِ أَنَّ النُّكُوصَ كالرُّجُوعِ وَزْنًا ومَعْنىً، وإِليه ذَهَبَ الجَوْهَرِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابنُ القَطَّاع، وغيْرُهم، وكَفَى بهم عُمْدَةً، ويُؤَيِّدُ الإِطْلاقَ قَولُ عَلِيٍّ رضي الله عنه في صِفِّينَ: والشَّيْطَانُ قَدَّمَ لِلوَثبَةِ يَدًا، وأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلًا، قال ابنُ أَبِي الحَدِيدِ: النُّكُوصُ: الرُّجُوعُ إِلَى وَرَاء، وهو القَهْقَرَى، فتَأَمَّل. أَو في الشَّرِّ أَيضًا، وهو قَوْلُ ابن دُرَيْدٍ أَيضًا، وهو نَادِرٌ، ونَصُّه: ورُبَّمَا قيلَ في الشَّرِّ. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو هريرة: (فَقِيلَ لَهُ)؛ أي: لأبي جهل، (مَا لَكَ؟)؛ أي: أيّ شيء حملك على الرجوع قهقرى؟، وقال القاري؛ أي: ما حصل لك من المنع، وما وقع لك من الدفع؟ (فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، (لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا) بفتحِ، فسكون؛ أي: خوفًا وأمرًا شديدًا، وقد هاله يهوله، فهو هائل

(3)

. (وَأَجْنِحَةً) جَمْع جناح الطائر، وهي هنا للملائكة الذين

(1)

يعني: صاحب "القاموس".

(2)

"تاج العروس من جواهر القاموس" ص 4550.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3732.

ص: 393

يحفظونه، ويؤيده ما ذكره الراوي بقوله:(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ دَنَا مِنِّي)؛ أي: قرب عندي، (لَاخْتَطَفَتْهُ)؛ أي: لاستلبته، والخطف: استلاب الشيء، وأخْذه بسرعة

(1)

. (الْمَلَائِكَة عُضْوًا عُضْوًا") المعنى: لأخذ كل ملك عضوًا من أعضائه.

(قَالَ) أبو هريرة رضي الله عنه آخذًا من غيره، كما أسلفته قريبًا (فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل) الآية الآتية، قال الراوي، والظاهر أنه أبو حازم، (لَا نَدْرِي)؛ أي: لا نعلم، هل قوله: "فأنزل الله عز وجل

إلخ"، (فِي) جملة (حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أي: فيما نقله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، (أَوْ شَيءٌ بَلَغَهُ) عن أحد من الصحابة الذين حضروا الواقعة.

({كَلَّا})[العلق: 6] رَدْعٌ، وزَجْرٌ لمن كفر نِعَم الله عليه بسبب طغيانه، وإن لم يتقدم له ذِكر. ({إِنَّ الْإِنْسَانَ}) المراد به: أبو الجهل، كما هو سبب نزول الآيات من هذه، فما بعدها إلى آخر السورة، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أوّل هذه السورة. ({لَيَطْغَى}) أنه ليجاوز الحدّ، ويستكبر على ربه. وقيل:{كَلَّا} هنا بمعنى: حقًا، قاله الجرجانيّ، وعلّل ذلك بأنه ليس قبله، ولا بعده شيء يكون "كلا" ردًّا له.

وقوله تعالى: {أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} علة ليطغى؛ أي: لَيطغى أن رأى نفسه مستغنيًا، والرؤية هنا بمعنى العلم، ولو كانت بصرية لامتنع الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد؛ لأن ذلك من خواص أفعال القلوب، وما أُلحق بها، كما هو معروف في محلّه من كتب النحو، قال الفرّاء: لم يقل: رأى نفسه كما قيل: قتل نفسه؛ لأن "رأى" من الأفعال التي تطلب اسمًا وخبرًا، نحو الظنّ، والحسبان، فلا يُقتصر فيه على مفعول واحد، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس، تقول: رأيتني، وحسبتني، ومتى تراك خارجًا، ومتى تظنك خارجًا، قيل: المراد هنا أنه استغنى بالعشيرة، والأنصار، والأموال، قرأ الجمهور:{أَنْ رَآهُ} بمد الهمزة، وقرأ قنبل عن ابن كثير بقَصرها، قال مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه، ومركبه، وطعامه، وشرابه، فذلك طغيانه، وكذا قال الكلبيّ

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3732.

(2)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 8/ 29.

ص: 394

ثم هدد سبحانه وتعالى وخوّف، فقال:({إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)})؛ أي: المرجع، والرجعى، والمرجع والرجوع مصادر، يقال: رجع إليه مرجعًا، ورجوعًا، ورُجْعى، وتقدّم الجار والمجرور للقصر؛ أي: الرجعى إليه سبحانه وتعالى لا إلى غيره.

({أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)}) قال المفسرون: الذي ينهى: أبو جهل، والمراد بالعبد: محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه تقبيح لصُنعه، وتشنيع لفعله، حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية. ({أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)})؛ يعني: العبد المنهيّ إذا صلى، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ({أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)})؛ أي: بالإخلاص، والتوحيد، والعمل الصالح الذي تُتَّقَى به النار، ({أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)}؛ يعني: أَبَا جَهْلٍ) فإنه كذّب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتولى عن الإيمان، والعناية يَحْتَمِل أن تكون من أبي هريرة رضي الله عنه، أو ممن دونه، والله تعالى أعلم.

وقوله: {أَرَأَيْتَ} في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني؛ لأن الرؤية لمّا كانت سببًا للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها، والخطاب لكل من يصلح له.

وقد ذكر هنا: {أَرَأَيْتَ} ثلاث مرات، وصرَّح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية، فتكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأوّل محذوف، وهو ضمير يعود على {الَّذِي يَنْهَى} الواقع مفعولًا أوّل لـ {أَرَأَيْتَ} الأولى، ومفعول {أَرَأَيْتَ} الأُولى الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية؛ كالجملة الواقعة بعد {أَرَأَيْتَ} الثانية، وأما {أَرَأَيْتَ} الثانية فلم يُذكر لها مفعول لا أوّل، ولا ثانٍ، حذف الأوّل لدلالة مفعول {أَرَأَيْتَ} الثالثة عليه فقد حذف الثاني من الأُولى، والأولى من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من "رأيت" للجملة الاستفهامية على سبيل التنازع؛ لأنه يستدعي إضمارًا، والجمل لا تُضمر، إنما تُضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة، وأما جواب الشرط المذكور مع {أَرَأَيْتَ} في الموضعين الآخرين؛ فهو محذوف تقديره: إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى:{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} ، وإنما حُذف لدلالة ذِكره في جواب الشرط الثاني.

وقيل: {أَرَأَيْتَ} الأُولى مفعولها الأوّل الموصول، ومفعولها الثاني

ص: 395

الشرطية الأولى بجوابها المحذوف المدلول عليه بالمذكور، و {أَرَأَيْتَ} في الموضعين تكرير للتأكيد. وقيل كل واحدة من {أَرَأَيْتَ} بدل من الأُولى، و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} الخبر

(1)

.

{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)} ؛ أي: يَطّلع على أحواله، فيجازيه بها، فكيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ.

({كَلَّا}) ردع للناهي، واللام في قوله:({لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ}) هي الموطئة للقسم؛ أي: والله لئن لم ينته عما هو عليه، ولم ينزجر، ({لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}) السفع: الجذب الشديد، والمعنى: لنأخذنّ بناصيته، ولنجرّنه إلى النار، وهذا كقوله تعالى:{فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41]، ويقال: سفعت الشيء: إذا قبضته، وجذبته، ويقال: سفع بناصية فرسه، قال الراغب: السفع الأخذ بسفعة الفرس؛ أي: بسواد ناصيته، وباعتبار السواد: قيل: به سفعة غضب؛ اعتبارًا بما يعلو من اللون الدخاني وجه من اشتدّ به الغضب، وقيل للصقر: أسفع؛ لِمَا فيه من لَمْع السواد، وامرأة سفعاء اللون. انتهى.

وقيل: هو مأخوذ مِن سفعت النارُ، والشمسُ: إذا غيَّرت وجهه إلى سواد، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

أَثَافيّ سُفْعًا

(2)

فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ

......................

وقوله: ({نَاصِيَةٍ} بدل من الناصية، وإنما أبدل النكرة من المعرفة؛ لوصفها بقوله: ({كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}) وهذا على مذهب الكوفيين، فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة، إلا بشرط وصفها، وأما على مذهب البصريين، فيجوز إبدال النكرة من المعرفة، وأنشدوا [من الوافر]:

فَلَا وَأَبِيكَ خَيْرٍ مِنْكَ إِنّي

لَيُؤذِينِي التَّحَمْحُمُ وَالصَّهِيلُ

وقرأ الجمهور بجرّ: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)} والوجه ما ذكرنا، وقرأ الكسائي في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ؛ أي: هي ناصية، وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عَبْلة، وزيد بن عليّ بنصبها على الذمّ.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 8/ 29.

(2)

السُّفْع بالضمّ: أُثْفيّة من حديد. اهـ. "ق".

ص: 396

قال مقاتل: أخبر عنه بأنه فاجرٌ خاطئٌ، فقال: ناصية كاذبة خاطئة، تأويلها: صاحبها كاذبٌ خاطئ.

({فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)}) {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)} ؛ أي: أهل ناديه، والنادي: المجلس الذي يجلس فيه القوم، ويجتمعون فيه من الأهل والعشيرة. والمعنى: لِيَدْع عشيرته وأهله؛ لِيُعِينُوه وينصروه، ومنه قول الشاعر [من الكامل]:

وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ الْمَجْلِسُ

أي: أهله. قيل: إن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتهدّدني، وأنا أكثر الوادي ناديًا؟ فنزلت:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 17، 18]؛ أي: الملائكة الغلاظ الشداد، كذا قال الزجاج. قال الكسائي، والأخفش، وعيسى بن عمر: واحدهم زابن. وقال أبو عبيدة: زبنية. وقيل: زباني. وقيل: هو اسم للجمع، لا واحد له من لفظه، كعباديد، وأبابيل. وقال قتادة: هم الشُّرَط في كلام العرب، وأصل الزبن: الدفع، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

وَمُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يَرَى مِنْ أَنَاتِنَا

وَلَوْ زَبَنَتْهُ الْحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ

والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتدّ بطشه، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

مَطَاعِيمُ فِي الْقُصوَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى

زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلُومُهَا

وقرأ الجمهور: {سَنَدْعُ} بالنون، ولم ترسم الواو، كما في قوله:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القمر: 6]، وقرأ ابن أبي عبلة:(سَيُدعَى) على البناء للمفعول، ورفع الزبانية على النيابة.

ثم كرّر الردع والزجر فقال: ({كَلَّا لَا تُطِعْهُ})؛ أي: لا تطعه فيما دعاك إليه من ترك الصلاة.

وقوله تعالى: {وَاسْجُدْ} ؛ أي: صلّ لله غير مكترث به، ولا مبال بنهيه:{وَاقْتَرِبْ} أي: تقرّب إليه سبحانه بالطاعة والعبادة. وقيل: المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء. وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد، واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأوّل أَولى.

والسجود هذا الظاهر أن المراد به الصلاة، وقيل: سجود التلاوة، ويدلّ على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من السجود عند تلاوة هذه الآية، والله تعالى أعلم.

ص: 397

وقوله: (زَادَ عُبَيْدُ اللهِ)؛ يعني: شيخه الأول، عبيد الله بن معاذ العنبريّ، (فِي حَدِيثِهِ)؛ أي: في روايته لهذا الحديث، (قَالَ) أبو هريرة (وَأَمَرَهُ)؛ أي: أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم (بِمَا أَمَرَهُ بِهِ)؛ أي: بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} ، وهذا تأكيد لِمَا سبق.

ويَحْتَمل أن يكون المراد توضيحًا لقوله تعالى: {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)} ؛ أي: أمر محمد صلى الله عليه وسلم أبا جهل بما أمره به من تقوى الله تعالى.

وقوله: (وَزَادَ ابْن عَبْدِ الأَعْلَى)؛ أي: شيخه الثاني محمد بن عبد الأعلى الصنعانيّ تفسيرًا لقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)} ؛ يَعْنِي: قَوْمَهُ)؛ أي: أهل ناديه، والنادي: المجلس، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: ينبغي أن نزيد على هذا تفسير الآيات الخمس التي في أول السورة؛ ليتم فهم معنى السورة، فنقول:

قال الله عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 1 - 5].

قرأ الجمهور: {اقْرَأْ} بسكون الهمزة أمرًا من القراءة. وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء، وكأنه قلب الهمزة ألفًا ثم حذفها للأمر. والأمر بالقراءة يقتضي مقروءًا، فالتقدير: اقرأ ما يوحى إليك، أو ما نزل عليك، أو ما أمرت بقراءته، وقوله:{بِاسْمِ رَبِّكَ} متعلق بمحذوف هو حال؛ أي: اقرأ ملتبسًا باسم ربك، أو مبتدئًا باسم ربك، أو مفتتِحًا، ويجوز أن تكون الباء زائدة، والتقدير: اقرأ اسم ربك كقول الشاعر [من البسيط]:

سُودُ الْمَحَاجِرِ لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ

قاله أبو عبيدة. وقال أيضًا: الاسم صلة؛ أي: اذكر ربك. وقيل: الباء بمعنى على؛ أي: اقرأ على اسم ربك، يقال: افعل كذا بسم الله، وعلى اسم الله قاله الأخفش. وقيل: الباء للاستعانة؛ أي: مستعينًا باسم ربك، ووصف الربّ بقوله:{الَّذِي خَلَقَ} لتذكير النعمة؛ لأن الخلق هو أعظم النعم، وعليه يترتب سائر النعم. قال الكلبيّ: يعني: الخلائق. {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} ؛ يعني: بني آدم. والعلقة: الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح.

وقال: {مِنْ عَلَقٍ} بجمع علق؛ لأن المراد بالإنسان الجنس. والمعنى: خلق

ص: 398

جنس الإنسان من جنس العلق، وإذا كان المراد بقوله:{الَّذِي خَلَقَ} كل المخلوقات، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفًا له؛ لِمَا فيه من بديع الخلق، وعجيب الصنع، وإذا كان المراد بالذي خلق: الذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيرًا للأول، والنكتة ما في الإبهام، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أُبهم أوّلًا، ثم فسرّ ثانيًا. ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير، فقال:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} ؛ أي: افعل ما أمرت به من القراءة، وجملة:{وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه وسلم من قوله: "ما أنا بقارئ" يريد أن القراءة شأن من يكتب، ويقرأ، وهو أميّ. فقيل له: اقرأ، وربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم. قال الكلبي: يعني: الحليم عن جهل العباد، فلم يعجل بعقوبتهم. وقيل: إنه أمره بالقراءة أوّلًا لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانيًا للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد، والأوّل أَولى.

{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} ؛ أي: علّم الإنسان الخط بالقلم، فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب. قال الزجاج: علّم الإنسان الكتابة بالقلم.

قال قتادة: القلم نعمة من الله عز وجل عظيمة، لولا ذلك لم يَقُم دين، ولم يصلح عيش. فدلّ على كمال كرمه بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضل علم الكتابة لِمَا فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلّا هو، وما دوّنت العلوم، ولا قيَّدت الحِكَم، ولا ضُبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كُتُب الله المنزلة إلّا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين، ولا أمور الدنيا، وسمِّي قلمًا لأنه يُقْلَم؛ أي: يقطع.

{عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها؛ أي: علّمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها. قيل: المراد بالإنسان هنا: آدم كما في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]. وقيل: الإنسان هنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأَولى حمل الإنسان على العموم، والمعنى: أن من علّمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علّمه ما لم يعلم

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله-8/ 29.

ص: 399

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 7039](2797)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 370)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 518)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 70)، و (الطبريّ) في "التفسير"(30/ 256)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6571)، و (الأصفهانيّ) في "دلائل النبؤة"(1/ 65 و 192)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 89)، و (البغويّ) في "التفسير"(4/ 507، 508)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول هذه الآيات.

2 -

(ومنها): بيان جراءة المشركين على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وعنادهم، وتجبّرهم، وعلى رأسهم فرعون هذه الأمة أبو جهل، حيث هدّد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونهاه أن يصلي ويسجد لله تعالى أمام بيت الله الحرام، إلا أن الله تعالى أخزاه.

3 -

(ومنها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث رأى عدوه اللدود ما هاله من آيات الله البيّنات، من خندق، ونار، وهول، وأجنحة ملائكة العذاب، فلو تجرّأ، ودنا منه صلى الله عليه وسلم لأخذته تلك الزبانية، وقطعته إربًا إربًا.

4 -

(ومنها): بيان أن الآيات لا تغني شيئًا، للكفرة المعاندين، والفجرة، والفسقة، فإن هؤلاء المشركين، أبا جهل، وأصحابه الذين شهدوا هذه الآية العظيمة ما ارتدعوا، وما انصرفوا عما هم عليه من الغيّ برؤيتها، بل زادوا عتوّا، وتجبّرًا، واستكبارًا، {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، بل الهداية بيد الله سبحانه وتعالى، لا بيد أحد سواه.

أَضَلَّ مَنْ شَاءَ وَمَنْ شَاءَ هَدَى

مَا بِيَدِ الْعَبْدِ ضَلَالٌ وَهُدَى

ولله درّ البوصيريّ رحمه الله حيث يقول.

وَإِذَا ضَلَّتِ الْعُقُولُ عَلَى عِلْمٍ

فَمَا تَقُولُهُ النُّصَحَاءُ

ويقول:

ص: 400

وَإِذَا الْبَيِّنَاتُ لَمْ تُغْنِ شَيْئًا

فَطَلَبُ الْهُدَى بِهِنَّ عَنَاءُ

رَبِّ إِنَّ الْهُدّى هُدَاكَ وَآيَا

تُكَ نُورٌ تَهْدِي بِهَا مَنْ تَشَاءُ

اللَّهُمَّ اهدنا فيمن هديت، وتولّنا فيمن تولّيت، اللهم أرنا الحقّ حقًّا، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا، وارزقنا اجتنابه، آمين.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابُ الدُّخَانِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7040](2798) - (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ جُلُوسًا، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ بَيْنَنَا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ قَاصًّا عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ، يَقُصُّ، وَيَزْعُمُ أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ تَجِيءُ، فَتَأْخُذُ بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ، وَجَلَسَ، وَهُوَ غَضْبَانُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ، مَن عَلِمَ مِنْكُئم شَيْئًا، فَلْيَقُلْ بِمَا يَعْلَمُ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلِ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ لأَحَدِكُمْ، أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا يَعْلَمُ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86] إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ إِدْبَارًا، فَقَالَ:"اللَّهُمَّ سَبْعٌ كَسَبْعِ يُوسُفَ"، قَالَ: فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ، وَالْمَيْتَةَ، مِنَ الْجُوعِ، وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ أَحَدُهُمْ، فَيَرَى كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللهِ، وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ، قَالَ اللهُ عز وجل:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} [الدخان: 10، 11] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، قَالَ: أَفَيُكْشَفُ عَذَابُ الآخِرَةِ؟ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 16]، فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ، وَالْبَطْشَةُ، وَاللِّزَامُ، وَآيَةُ الرُّومِ).

ص: 401

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلّهم ذُكروا قبل بابين، غير منصور، فتقدّم أيضًا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ مَسْرُوقِ) بن الأجدع؛ أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ لِمَا مرّ قريبًا. (جُلُوسًا) جمع جالس، وقوله:(وَهُوَ مُضْطَجِعٌ) جملة حاليّة من "عبد الله"، وهو اسم فاعل، من اضطجع، ويجوز أن يكون مضّجعًا، بضاد مشدّدة، من اضّجع، قال الفيّوميّ رحمه الله: اضْطَجَعَ، واضَّجَعَ، والأصل افْتَعَل، لكن من العرب من يَقلب التاء طاء، ويُظهرها عند الضاد، ومنهم من يقلب التاء ضادًا، ويُدغمها في الضاد؛ تغليبًا للحرف الأصليّ، وهو الضاد، ولا يقال: اطَّجَعَ بطاء مشدّدة؛ لأنّ الضاد لا تدغم في الطاء؛ فإن الضاد أقوى منها، والحرف لا يدغم في أضعف منه، وما ورد شاذّ، لا يقاس عليه. انتهى

(1)

.

وقوله: (بَيْنَنَا) ظرف متعلّق بـ "مضطجعًا"، (فَأَتَاهُ رَجُلٌ) لم يُعرف، (فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ) كنية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ (إِنَّ قَاصًّا)؛ أي: واعظًا، يعظ الناس، ويقصّ عليهم القصص (عِنْدَ أَبْوَابِ كِنْدَةَ) وفي رواية للبخاريّ:"بينما رجل يحدّث في كندة"، وباب كندة هو باب الكوفة، و"كندة" بكسر الكاف، وسكون النون: اسم قبيلة مشهورة، وأضيف إليهم الباب؛ لكونه في مكانهم.

وقال في "العمدة": قوله: "في كندة" بكسر الكاف، وسكون النون، قال الكرمانيّ: موضع بالكوفة، قال العينيّ: يَحْتَمِل أن يكون حديث الرجل بين قوم هم من كندة القبيلة. انتهى

(2)

.

(يَقُصُّ) يقال: قصصتُ الخبرَ قصصًا، من باب نصر: إذا حدّثت به على وجهه، والاسم: الْقَصَصُ بفتحتين

(3)

. (وَيَزْعُمُ)؛ أي: يدّعي (أَنَّ آيَةَ الدُّخَانِ)؛ أي: العلامة التي تأتي للإنذار بوقوع القيامة، التي ذكرها الله تعالى في قوله:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 358.

(2)

"عمدة القاري" 19/ 110.

(3)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 505.

ص: 402

{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} ، (تَجِيءُ) فيما بعدُ؛ أي: إنها لم تمض، (فَتَأْخُذُ) تلك الآية؛ يعني: الدخان، (بِأَنْفَاسِ الْكُفَّارِ) جمع نفسى، بفتحتين؛ أي: تقبض أرواحهم، وتُهلكهم، (وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك الدخان، (كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ)؛ أي: مثل صفة الزكام، بالضمّ المرض المعروف.

وفي رواية للبخاريّ في تفسير "سورة الروم": "بينما رجل يحدّث في كندة، فقال: يجيء دخان يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين، وأبصارهم، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام".

وحاصل ما قاله: أنه فسّر الدخان في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} وفذكر أن آية الدخان لم تأت بعدُ، وإنما تأتي عند قرب القيامة، فتأخذ بأنفاس الكفّار، ولا يصيب المؤمنين منها إلا مرض يسير، كهيئة الزكام

(1)

، فلما سمع ابن مسعود ما قاله أنكر عليه، كما بيّنه بقوله:

(فَقَالَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (وَ) الحال أنه قد (جَلَسَ) إذ كان متّكئًا، وقوله:(وَهُوَ غَضْبَانُ) جملة حاليّة أيضًا، كما قال في "الخلاصة":

وَالْحَالُ قَدْ يَجِيءُ ذَا تَعَدُّدِ

لِمُفْرَدٍ فَاعْلَمْ وَغَيْرِ مُفْرَدِ

وهما إما مترادفان، أو متداخلان. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللهَ) أن تقولوا ما لا علم لكم به؛ فقد حذّر الله سبحانه وتعالى منه، قال الله عز وجل:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)} [النحل: 116]، وقال:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33].

(مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ شَيْئًا) مما قال الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم (فَلْيَقُلْ)؛ أي: فليتكلم، وليخبر الناس (بِمَا يَعْلَمُ) من ذلك، (وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ) شيئًا من ذلك (فَلْيَقُلِ) بكسر اللام؛ للالتقاء الساكنين، (اللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّهُ) الضمير للشأن، كما قال في "الكافية":

وَمُضْمَرُ الشَّأْنِ ضَمِيرٌ فُسِّرَا

بِجُمْلَةٍ كَـ "إِنَّهُ زَيْدٌ سَرَى"

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 129 - 130.

ص: 403

وتفسّره هنا جملة قوله: (أَعْلَمُ لأَحَدِكُمْ) خبر مقدّم لقوله: (أَنْ يَقُولَ لِمَا)؛ أي: للشيء الذي (لَا يَعْلَمُ) حقيقته (اللَّهُ أَعْلَمُ) فجملة "أن يقول" في تأويل المصدر مبتدأ مؤخّر، والجملة خبر "إنّ"، واسمها ضمير الشأن، والتقدير: فإن قول أحدكم فيما لا يعلمه: الله أعلم أقرب إلى عِلمه، فإنه عَلِم جهل نفسه، وفوّض العلم إلى العليم الخبير، والله تعالى أعلم.

وفي الرواية الآتية: "فإن من فقه الرجل أن يقول لِمَا لا عِلْم له به: الله أعلم"، وفي رواية للبخاريّ:"فإن من العلم أن يقول لِمَا لا يعلم: لا أعلم"، قال الحافظ رحمه الله؛ أي: أن تمييز المعلوم من المجهول نوع من العلم، وهذا مناسب لِمَا اشتهر من أن "لا أدري" نصف العلم، ولأن القول فيما لا يعلم قسم من التكلّف، كما أشار إليه ابن مسعود رضي الله عنه في قوله:(فَإِنَّ اللهَ عز وجل) الفاء للتعليل؛ أي: لأن الله عز وجل (قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}) الضمير في {عَلَيْهِ} راجع إلى تبليغ الوحي، ولم يتقدّم له ذِكر، ولكنه مفهوم من السياق. وقيل: هو عائد إلى ما تقدّم من قوله: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] وقيل: راجع إلى القرآن، وقيل: إلى الدّعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن، وغيره من الوحي، ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعنى: ما أطلب منكم من جُعل تعطونيه عليه. ({وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ})؛ أي: حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدّعوة إليه، والتكلف: التصنع

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: يقول الله جلّ ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لمشركي قومك، القائلين لك:({أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}): ما أسألكم على هذا الذكر، وهو القرآن الذي أتيتكم به من عند الله أجرًا؛ يعني: ثوابًا وجزاء، ({وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)}) يقول: وما أنا ممن يتكلف تخرّصه، وافتراءه، فتقولون:({إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ})[الفرقان: 4] و ({إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}). انتهى

(2)

.

وفي ذكر ابن مسعود رضي الله عنه الآية تعريض بالرجل القائل: يجيء دخان إلخ بأنه من المتكلّفين، ثم بيّن رضي الله عنه قصّة الدخان، فقال:(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى مِنَ النَّاسِ)؛ أي: من مشركي مكة، فاللام للعهد الذهنيّ. (إِدْبَارًا)

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 6/ 265.

(2)

"تفسير الطبريّ" 21/ 243.

ص: 404

وإعراضًا عن قبول الإسلام، وفي الرواية الآتية:"إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف". (فَقَالَ: "اللَّهُمَّ سَبْعٌ كسَبْعِ يُوسُفَ") برفع "سبعٌ"، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: البلاء المطلوب عليهم سبعُ سنين؛ كالسنين السبع التي كانت في زمن يوسف عليه السلام، وهي السبع الشّداد التي أصابهم فيها القحط، وهو ما بيّنه الله عز وجل قوله:{ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} [يوسف: 48]، أو يكون المعنى: المدعوّ عليهم قحط كقحط يوسف عليه السلام، ويجوز أن يكون ارتفاعه على أنه اسم كان التامة، تقديره: ليكن سبعٌ، وفي رواية:"سبعًا" بالنصب خبرًا لـ "كان" الناقصة؛ أي: ليكن سبعًا، وجاء في رواية:"لمّا دعا قريشًا كذّبوه، واستعصوا عليه، فقال: اللَّهُمَّ أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف".

(قَالَ) ابن مسعود: (فَأَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ) بالفتح؛ أي: قحط وجدبٌ، ومنه قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف: 130]، (حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ) بحاء، وصاد مهملتين، مشددة الصاد، أي: استأصلت، وأذهبت النبات، فانكشفت الأرض، وفي "المحكم"؛ سنة حَصّاء: جدبة، قليلة النبات، وقيل: هي التي لا نبات فيها. انتهى

(1)

.

(حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ، وَالْمَيْتَةَ) زاد في رواية البخاريّ: "والْجِيَف" بكسر الجيم، وفتح الياء: جمع الجيفة، وهي جُثّة الميت، وقد أراح، فهي أخصّ من الميتة، لأنها ما لم تلحقه ذكاة

(2)

. (مِنَ الْجُوعِ)؛ أي: من الجوع الذي حصل لهم من القحط، (وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ أَحَدُهُمْ، فيَرَى كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ)؛ أي: مثل صفة الدخان، وذلك لضَعْف بصره بسبب الجوع، فيُخيّل إليه أنه رأى دخانًا، وليس بدخان، وإنما هو خيال فقط، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فهذا هو معنى الدخان الذي ذكره الله تعالى في كتابه، لا ما يزعمه القاصّ. (فَأَتَاهُ)؛ أي: أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَبُو سُفْيَانَ) صخر بن حرب والد معاوية رضي الله عنهما.

وقال في "الفتح": قوله: "فجاءه أبو سفيان"؛ يعني: الأمويّ والد معاوية، والظاهر أن مجيئه كان قبل الهجرة؛ لقول ابن مسعود: "ثم عادوا،

(1)

"عمدة القاري" 7/ 28.

(2)

"عمدة القاري" 7/ 28.

ص: 405

فذلك قوله: يوم نبطش البطشة الكبرى، يوم بدر"، ولم يُنقل أن أبا سفيان قَدِم المدينة قبل بدر، وعلى هذا فيَحْتَمِل أن يكون أبو طالب كان حاضرًا ذلك، فلذلك قال:

وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ

ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ

لكن سيأتي بعد هذا بقليل ما يدلّ على أن القصة المذكورة وقعت بالمدينة، فإن لم يُحمل على التعدد، وإلا فهو مشكل جدًا، والله المستعان. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما ذكره من حضور أبي طالب لهذه القصّة بعيد جدًّا، فتأمل. (فَقَالَ) أبو سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم:(يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ) إلى الناس، والحال أنك (تَأْمُرُ) الناس (بِطَاعَةِ اللهِ) عز وجل (وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ)؛ يعني: والذين هلكوا بدعائك من ذوي رحمك، فينبغي أن تصل رحمك بالدعاء لهم، (وَإِنَّ قَوْمَكَ) قريشًا (قَدْ هَلَكُوا) بالجوع بسبب دعائك عليهم، (فَادْعُ اللهَ لَهُمْ) بأن يكشف عنهم ما حلّ بهم، فإن كشفت عنهم آمنوا، وفي هذه الرواية اختصار، بيّنته الرواية الآتية:"قال: فدعا الله لهم، فأنزل الله عز وجل: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)}، فمُطروا، فلما أصابتهم الرفاهية قال: عادوا إلى ما كانوا عليه، قال: فأنزل الله عز وجل: {فَارْتَقِبْ} [الدخان: 59] " الآية.

وقال في "الفتح": وأخرج الجوزقيّ، والبيهقي من رواية علي بن ثابت، عن أسباط بن نصر، عن منصور، وهو ابن المعتمر، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: لمّا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس إدبارًا، فذكر نحو الحديث، وزاد: "فجاءه أبو سفيان، وناس من أهل مكة، فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بُعثت رحمةً، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُقوا الغيث

" الحديث، وقد أشاروا بقولهم: بُعثت رحمة إلى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 2/ 511.

(2)

"الفتح" 3/ 375.

ص: 406

قال ابن مسعود: (قَالَ اللهُ عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)}) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن كونهم في شكّ ولعب يقتضي ذلك؛ والمعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، وقيل: المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين

(1)

.

وقوله: {يَغْشَى النَّاسَ} صفة ثانية لـ "دخان"، أي: يشملهم، ويحيط بهم، {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي: يقولون: هذا عذاب أليم، أو قائلين ذلك، أو يقول الله لهم ذلك.

وقوله: (إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ}) وهو قوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} .

فقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} ؛ أي: يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب: الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، وشدّة الجوع، ولا ينافي ترجيحُ هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضًا ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه.

وقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} ؛ أي: كيف يتذكرون، ويتعظون بما نزل بهم، والحال أن {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} يُبَين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين، والدنيا، {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ}؛ أي: أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه، بل جاوزوه {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ}؛ أي: قالوا: إنما يعلّمه القرآن بشر، وقالوا: إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء، وأنى لهم الذكرى؟.

ثم لمّا دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا

(1)

"فتح القدير" 6/ 424.

ص: 407

أجاب سبحانه عليهم بقوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا} ؛ أي: إنا نكشفه عنهم كشفًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان، فقال:{إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} ؛ أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لمّا كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعناد، وقيل: المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث، والنشور، والأوّل أَولى

(1)

.

(قَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه: (أَفَيُكْشَفُ عَذَابُ الآخِرَةِ؟) المعنى: أن الذي يُكشف إنما هو عذاب الدنيا، وأما عذاب الآخرة إذا حلّ فلا يُكشف؛ يعني: أن ما قاله القاصّ من معنى الدخان غير صحيح؛ لأنه يدّعي أنه في الآخرة، وما يكون فيها لا يُكشف.

ثم بيّن رضي الله عنه المعنى المراد هنا ({يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى})؛ أي: الأخذة العظمى، ({إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}) منهم. قال ابن مسعود:(فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ) بالقتل والأسر، (وَقَدْ مَضَتْ آيَةُ الدُّخَانِ)؛ أي: بما كانوا يرونه في السماء حال الجوع، قال:(وَ) مضت (الْبَطْشَةُ، وَ) مضى أيضًا (اللِّزَامُ) الذي ذكره الله عز وجل في قوله: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]؛ أي: يكون عذابهم لازمًا لهم، قالوا: وهو ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر، وهي البطشة الكبرى. (وَآيَةُ الرُّوم)؛ أي: ومضى أيضًا ما دلّت عليه آية الروم، وهي قوله تعالى:{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} .

وقال الشوكانيّ رحمه الله: قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} الظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل: هو بدل من يوم تأتي السماء، وقيل: هو متعلق بـ {مُنْتَقِمُونَ} ، وقيل: بما دلّ عليه منتقمون، وهو ننتقم.

والبطشة الكبرى: هي: يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب، والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن، وعكرمة: المراد بها: عذاب النار، واختار هذا الزجاج، والأوّل أَولى. قرأ الجمهور:{نَبْطِشُ} بفتح النون، وكسر الطاء؛ أي: نبطش بهم،

(1)

"فتح القدير" 6/ 424.

ص: 408

وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة، وقرأ أبو رجاء، وطلحة بضم النون، وكسر الطاء. قال: فقد مضى البطشة، والدخان، واللزام. وقد روي عن ابن مسعود، نحو هذا من غير وجه، وروي نحوه عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت: لم؟ قال: طلع الكوكب، فخشيت أن يطرق الدخان. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطيّ، ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية، وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدّخان من آيات الساعة، وعلاماتها، وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح، وحسان، وضعاف بذلك، وليس فيها أنه سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في "الصحيحين"، وغيرهما: أن دخان قريش عند الجهد، والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في "تفسيره"، وغيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكًا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} ، فإن هذا لا يعارض ما في "الصحيحين" على تقدير صحة إسناده، مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها.

وأخرج ابن جرير، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة. قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح. وقال ابن كثير قبل هذا: فسَّر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم، وروي أيضًا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أُبيّ بن كعب، وجماعة، وهو مُحْتَمِل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضًا. انتهى.

ص: 409

قال الشوكانيّ رحمه الله: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أَولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاصٍ من الإنس والجنّ. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: قد أجاد الشوكانيّ رحمه الله حيث رجّح أن المراد بالبطشة في الآية هو يوم بدر، كما يدلّ عليه سياق الآية، وكما فهمه ابن مسعود رضي الله عنه، وكذا الدخان هو ما حصل لقريش بسبب الجوع، كما مرّ، ولا ينافي ذلك أن يكون هناك دخان آخر سيأتي، كما هو في "صحيح مسلم"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 7040 و 7041 و 7042 و 7043](2798)، و (البخاريّ) في "الاستسقاء"(1007 و 1020) و"التفسير"(4693 و 4767 و 4774 و 4809 و 4820 و 4821 و 4822 و 4823 و 4824)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3254)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 - 381 و 431 و 441)، و (الطبريّ) في "التفسير"(25/ 111 و 112)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4764)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 78)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 339)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 352) وفي "الدلائل"(2/ 326 و 327)، و "البغويّ" في "التفسير"(4/ 149)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان سبب نزول الآية الكريمة.

2 -

(ومنها): إنكار أهل العلم بعضهم على بعض، إذا ظنّ المنكر أنه على الحقّ.

3 -

(ومنها): بيان فضل ابن مسعود رضي الله عنه حيث يغضب على من أخطأ في كتاب الله تعالى، ويفسّر القرآن برأيه، ويردّ عليه أبلغ ردّ.

ص: 410

4 -

(ومنها): النهي عن التكلّف، ودعوى ما لا علم له به، كما حذّر الله عز وجل منه، بقوله:{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169]، وقال:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} الآية [النحل: 116].

5 -

(ومنها)؛ بيان ما كان عليه مشركو قريش من العناد والاستكبار حيث لا يخضعون لآيات الله الكئرى، بل يستمرون على غيّهم وضلالهم، مع علمهم بحقيقة الأمر، وأنهم على ضلال، فقد أخبر الله تعالى بذلك عنهم وعن غيرهم فقال:{فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} الآية [النمل: 13، 14].

وقال: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: 33].

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": هذا الذي أنكره ابن مسعود رضي الله عنه قد جاء عن عليّ رضي الله عنه، فأخرج عبد الرزاق، وابن أبي حاتم، من طريق الحارث، عن عليّ قال: آية الدخان لم تمض بعدُ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وينفخ الكافر، حتى ينفد، ثم أخرج عبد الرزاق من طريق ابن أبي مليكة، قال: دخلت على ابن عباس يومًا، فقال لي: لم أنم البارحة، حتى أصبحت، قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشينا الدخان قد خرج.

قال الحافظ: وهذا أخشى أن يكون تصحيفًا، وإنما هو الدجال بالجيم الثقيلة، واللام، ويؤيد كون آية الدخان لم تمض ما أخرجه مسلم، من حديث أبي شَرِيحة رفعه: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة

" الحديث.

وروى الطبريّ من حديث رِبْعيّ، عن حذيفة مرفوعًا في خروج الآيات، والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الدخان؟ فتلا هذه الآية، قال:"أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزُّكمة، وأما الكافر فيخرج من منخريه، وأذنيه، ودبره"، وإسناده ضعيف.

وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد نحوه، وإسناده ضعيف أيضًا، وأخرجه مرفوعًا بإسناد أصلح منه، وللطبريّ من حديث أبي مالك الأشعريّ

ص: 411

رفعه: "إن ربكم أنذركم ثلاثًا: الدخان، يأخذ المؤمن كالزُّكمة

" الحديث، ومن حديث ابن عمر نحوه، وإسنادهما ضعيف أيضًا، لكن تضافر هذه الأحاديث يدلّ على أن لذلك أصلًا، ولو ثبت طريق حديث حذيفة لاحتمل أن يكون هو القاصّ المراد في حديث ابن مسعود. انتهى ما قاله الحافظ رحمه الله، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7041] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، كلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالَا: حَدَّثَنَا

(1)

أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: جَاءَ إِلَى عَبْدِ اللهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: تَرَكْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَجُلًا، يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ بِرَأْيِهِ، يُفَسِّرُ هَذِهِ الآيَةَ:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] قَالَ: يَأْتِي النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دُخَانٌ، فَيَأْخُذُ بِأَنْفَاسِهِمْ، حَتَّى يَأْخُذَهُمْ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: مَنْ عَلِمَ عِلْمًا، فَلْيَقُلْ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، فَلْيَقُلِ: اللهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ: اللهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَتْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ، وَجَهْدٌ، حَتَّى جَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ، مِنَ الْجَهْدِ، وَحَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَلَكوا، فَقَالَ:"لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ"، قَالَ: فَدَعَا اللهَ لَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} [الدخان: 15]، قَالَ: فَمُطِرُوا، فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ، قَالَ: عَادُوا إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} [الدخان: 10، 11]، {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)} [الدخان: 16]، قَالَ: يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ).

(1)

وفي نسخة: "أخبرنا".

ص: 412

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

وكلهم ذُكروا في هذا الباب، وفي الأبواب الأربعة الماضية، غير اثنين، هما:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الْعَبسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْن يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم أيضًا قريبًا. وقوله:(مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ) بالضمّ، مرض معروف، وكذا الزُّكمة بالضمّ أيضًا، وأزكمه الله بالألف، فزُكم بالبناء للمفعول، على غير قياس، فهو مزكوم

(1)

.

وقوله: (فَإِنَّ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ

إلخ) إنما كان فقهًا؛ لأنه علم جهل نفسه، فهذا علم شريف، فإن من عرف جهله كفّ عن الكلام بما لا يعلمه، وطلب العلم كي يزيل جهله، ففيه خير عظيم.

وقوله: (كَسِنِي يُوسُفَ) بتخفيف الياء، مضافًا إلى يوسف.

وقوله: (وَجَهْدٌ) بفتح الجيم؛ أي: مشقّة شديدة، وحُكي ضمّها.

وقوله: (فَيَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كهَيْئَةِ الدُّخَانِ، مِنَ الْجَهْدِ) قال القرطبيّ رحمه الله: لا شكّ في أن تسمية هذا دخانًا تجوّز، وحقيقة الدخان ما ذُكر في حديث أبي سعيد، والذي حَمَل عبد الله بن مسعود على هذا الإنكار قوله:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} [الدخان: 12]، وقوله:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} ، ولذلك قال: أفيكشف عذاب الآخرة؟ وهذا لا دليل فيه على نفي ما قاله ذلك القائل؛ لأنَّ حديث أبي سعيد إنما دلّ على أن ذلك الدخان يكون من أشراط الساعة قبل أن تقوم القيامة، فيجوز انكشافه كما تنكشف فتن الدجّال، ويأجوج ومأجوج، وأما الذي لا ينكشف فعذاب الكافر بعد الموت، فلا معارضة بين الآية والحديث، والشأن في صحة الحديث. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ) هو أبو سفيان كما بُيّن في الرواية الماضي، لكن في "المعرفة" لابن منده في ترجمة كعب بن مرّة قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر، فأتيته، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصرك الله،

(1)

"المصباح" 1/ 254.

(2)

"المفهم" 7/ 396.

ص: 413

وأعطاك، واستجاب لك، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فهذا أَولى أن يفسّر به القائل بقوله: يا رسول الله، بخلاف أبي سفيان، فإنه وإن جاء أيضًا مستشفعًا، لكنه لم يكن أسلم حينئذ

(1)

.

وقوله: (اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ) هكذا وقع في جميع نُسخ مسلم: "استغفر الله لمضر"، وفي البخاريّ:"استسق الله لمضر"، قال القاضي: قال بعضهم: "استسق" هو الصواب اللائق بالحال؛ لأنهم كفار، لا يُدعَى لهم بالمغفرة.

قال النوويّ: كلاهما صحيح، فمعنى استسق: اطلب لهم المطر والسُّقْيَا، ومعنى استغفر: ادع لهم بالهداية التى يترتب عليها الاستغفار. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: فقيل: "يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت" إنما قال: لمضر؛ لأن غالبهم كان بالقرب من مياه الحجاز، وكان الدعاء بالقحط على قريش، وهم سكان مكة، فسرى القحط إلى من حولهم، فحَسُن أن يطلب الدعاء لهم، ولعل السائل عدل عن التعبير بقريش؛ لئلا يذكرهم، فيذكر بجرمهم، فقال: لمضر؛ ليندرجوا فيهم، ويشير أيضًا إلى أن غير المدعو عليهم قد هلكوا بجريرتهم، وقد وقع في الرواية الأخرى:"وإن قومك هلكوا"، ولا منافاة بينهما؛ لأن مضر أيضًا قومه، وقد تقدم في المناقب أنه صلى الله عليه وسلم كان من مضر. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "اسْتَغْفِرِ اللهَ لِمُضَرَ" كذا صحّ في كتاب مسلم من الاستغفار، ووقع في كتاب البخاريّ:"استسق الله لمضر"، من الاستسقاء، وهو مناسب للحال التي كانوا عليها من القحط، غير أن الذي يُبعده إنكار النبيّ صلى الله عليه وسلم على القائل بقوله:"لمضر؟ "، فإنَّ طلب السُّقيا لهم لا يُنكر، وإنما الذي يُنكر طلب الاستغفار لهم.

وقد فسّر البطشة بأنها يوم بدر، وأما اللزام: فهو المذكور بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]، وقد اختُلف فيه فقيل: هو العذاب الدائم، وأنشدوا [من الوافر]:

(1)

"الكوكب الوهّاج" 25/ 410.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 142.

(3)

"الفتح" 10/ 581.

ص: 414

فَإِمَّا يَنْجُوَا مِنْ خَسْفِ أَرْضٍ

فَقَدْ لَقِيَا حُتُوفَهُمَا لِزَامَا

وقال آخر:

وَلَمْ أَجْزَعْ مِنَ الْمَوْتِ اللِّزَامِ

وقيل: هو القتل بالسيف يوم بدر، وإليه نحا ابن مسعود، وهو قول أكثر الناس، وعلى هذا فتكون البطشة، واللزام شيئًا واحدًا. وقال القرطبيّ

(1)

، وأبو عبيدة: هو الهلاك والموت.

وأما الروم: فقد روى الترمذيّ من حديث نيار بن مكرم الأسلميّ قال: لما نزلت: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} الآيتين [الروم: 1، 2]، فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم على فارس؛ لأنَّهم وإياهم أهل كتاب، وكانت قريش يحبون ظهور فارس على الروم؛ لأنَّهم وإياهم ليسوا باهل كتاب، ولا إيمان ببعث، ولما نزلت هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة بالآية، فقال كبراء المشركين: ألا نُراهنك على ذلك؟ قال: بلى، وذلك قبل تحريم الرِّهان، فارتهن أبو بكر المشركون، وأقبضوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع؟ البضع ثلاث سنين إلى تسع، فَسَمِّ بيننا وبينك وسطًا ننتهي إليه، فسمّوا بينهم ست سنين، فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، ولمّا دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية سنين؛ لأن الله تعالى قال:{فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 4]، قال: وأسلم بعد ذلك ناس كثير. قال: هذا حديث حسن صحيح

(2)

.

وقال العينيّ رحمه الله في "عمدته": وقد علمت أن الأحاديث يفسّر بعضها بعضًا، وذلك أن أبا سفيان لمّا قال: ادع الله لهم قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} ، كما في رواية البخاريّ عن محمد بن كثير الذي ذكرناه، وصرّح في رواية مسلم أنه لمّا دعا الله لها أنزل الله تعالى:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15} ، فقَبِل الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فمُطروا، فلما

(1)

المقصود به هنا: بقيّ بن مخلد المتوفّى سنة (276 هـ).

(2)

"المفهم" 7/ 397 - 398.

ص: 415

أصابهم الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه، فأنزل الله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} ، والمعنى: فانتظر يا محمد عذابهم، ومفعول "ارتقب" محذوف، وهو عذابهم.

وقوله: {يَغْشَى النَّاسَ} صفة للدخان في محل الجر؛ يعني: يشملهم، ويلبسهم، وقيل:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ} مفعول {فَارْتَقِبْ} ، قوله:{هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} ؛ يعني: يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكام، وأما الكافر كمنزلة السكران، يخرج من منخريه، وأذنيه، ودبره، وقوله: {

هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)} [الدخان: 10، 11] كل ذلك منصوب المحل بفعل مضمر، وهو "يقولون"، و"يقولون" منصوب على الحال؛ أي: قائلين ذلك، قوله:{إِنَّا مُؤْمِنُونَ} موعدة بالإيمان، إن كُشف عنهم العذاب، قال الله تعالى:{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} ؛ أي: من أين لهم التذكر، والاتعاظ بعد نزول البلاء، وحلول العذاب، والحال أنه قد جاءهم رسول بما هو أعظم من ذلك، وأدخل في وجوب الادّكار من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من الآيات البينات، من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات، فلم يذكروا، وتولوا عنه، وبَهَتوه بأن عداسًا غلامًا أعجميًا لبعض ثقيف، هو الذي علّمه، ونسبوه إلى الجنون، وهو معنى قوله:{ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)} ، ثم قال:{إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} إلى كفركم، ثم قال:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} ، وهو يوم بدر، كما في متن حديث الباب، وعن الحسن: البطشة الكبرى يوم القيامة.

وقوله: "فقد مضت" إلى آخره من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يسنده إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن دحية: الذي يقتضيه النظر الصحيح حَمْل أمر الدخان على قضيتين: إحداهما وقعت، وكانت، والأخرى ستقع.

قال العينيّ: فعلى هذا هما دخانان: أحدهما الذي يملأ ما بين السماء والأرض، ولا يجد المؤمن منه إلا كالزُّكمة، وهو كهيئة الدخان، وهيئة الدخان غير الدخان الحقيقيّ، والآخر هو الدخان الذي يكون عند ظهور الآيات،

ص: 416

والعلامات، ويقال: هو من آثار جهنم يوم القيامة، ولا يمتنع إذا ظهرت تلك العلامات أن يقولوا:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} .

وقوله: واللزام اختُلف فيه، فذكر ابن أبي حاتم في "تفسيره" أنه القتل الذي أصابهم ببدر، روي ذلك عن ابن مسعود، وأبيّ بن كعب، ومحمد بن كعب، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، قال القرطبيّ: فعلى هذا تكون البطشة واللزام واحدًا، وعن الحسن: اللزام يوم القيامة، وعنه: أنه الموت، وقيل: يكون ذنبكم عذابًا لازمًا لكم، وفي "المحكم": اللزام: الحساب، وفي "الصحيح": عن مسروق، عن عبد الله قال: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والروم، والبطشة، والقمر. انتهى.

وقوله: (فَقَالَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم ("الِمُضَرَ؟)؛ أي: أتسألني أن أستغفر لمضر، مع ما هم عليه من معصية الله، والإشراك به؟.

وقال في "الفتح": قوله: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمضر؟ إنك لجريء"؛ أي: أتأمرني أن أستسقي لمضر، مع ما هم عليه من المعصية والإشراك به، ووقع في "شرح الكرمانيّ" قوله:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمضر"؛ أي: لأبي سفيان، فإنه كان كبيرهم في ذلك الوقت، وهو كان الآتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المستدعي منه الاستسقاء، تقول العرب: قتلت قريشٌ فلانًا، ويريدون شخصًا منهم، وكذا يضيفون الأمر إلى القبيلة، والأمر في الواقع مضاف إلى واحد منهم. انتهى

(1)

.

قال الحافظ: وجَعْله اللام متعلقة بـ "قال" غريب، وإنما هي متعلقة بالمحذوف، كما قررته أوّلًا. انتهى.

وقوله: (إِنَّكَ لَجَرِيءٌ")؛ أي: صاحب جراءة، والإقدام على ما لا ينبغي لك، قال الأبيّ: هذا على وجه التقرير، والتعريف بكفرهم، واستعظام ما سأل لهم؛ أي: فكيف يُستغفر، أو يُستسقى لهم، وهم عدوّ الدين؟ قال: ويصحّ هذا عندي على ما ذكر مسلم من لفظ "استغفِرْ"؛ لأن الإنكار إنما للاستغفار الذي

(1)

"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 18/ 85.

ص: 417

سأل لهم، بدليل أنه عدل عنه إلى الدعاء بالسقي، ولو كان استعظامه إنما هو لطلب السُّقْيا لم يستسق لهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ) بتخفيف الياء التحتيّة بعد الهاء المكسورة بوزن الكراهية؛ أي: السعة، والراحة.

وقوله: (قَالَ: يَعْنِي: يَوْمَ بَدْرٍ)؛ أي: فسّر ابن مسعود رضي الله عنه البطشة الكبرى بقتلهم، وأسْرهم في يوم بدر.

والحديث متّفقٌ عليه، كما مضى تحقيقه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7042] (

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ: الدُّخَانُ، وَاللِّزَامُ، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، وَالْقَمَرُ).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (خمسٌ)؛ أي: خمسة علامات (قد مضين)؛ أي: وقعن:

[الأولى]: الدخان، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10].

[الثانية]: القمر، قال الله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1].

[الثالثة]: الروم، قال الله تعالى:{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1، 2].

[الرابعة]: البطشة، قال الله تعالى:{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16]، وهو القتل الذي وقع يوم بدر.

[الخامسة]: اللزام، قال الله تعالى:{فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77] قيل: هو القحط، وقيل: هو التصاق القتلى بعضهم ببعض في بدر،

(1)

"شرح الأبيّ" 7/ 199.

ص: 418

وقيل: هو الأسر فيه، وقد أُسر سبعون قرشيًّا فيه

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7043] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلهم ذُكروا قبل حديث.

[تنبيه]: رواية وكيع عن الأعمش هذه قد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4548)

- حدّثنا يحيى

(2)

، حدّثنا وكيع، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن عبد الله، قال:"خمسٌ قد مضين: اللزام، والروم، والبطشة، والقمر، والدخان"، انتهى

(3)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7044](2799) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَزْرَةَ، عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ عز وجل:{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} [السجدة: 21]، قَالَ: مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَالرُّومُ، وَالْبَطْشَةُ، أَوِ الدُّخَانُ، شُعْبَةُ الشَّاكُّ فِي الْبَطْشَةِ، أَوِ الدُّخَانِ).

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزّمِن، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببُندار البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"عمدة القاري" 19/ 98.

(2)

هو: ابن موسى البلخيّ، كما في "الفتح".

(3)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1825.

ص: 419

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام، تقدّم قبل باب.

5 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديثين.

6 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السَّدُوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

7 -

(عَزْرَةُ) بن عبد الرحمن بن زُرارة الْخُزاعيّ الكوفيّ الأعور، ثقةٌ [6](م د ت س) تقدم في "اللعان" برقم [3746].

[تنبيه]: كون عزرة هذا هو ابن عبد الرحمن هو الظاهر، لكن رأيت في "شعب الإيمان" للبيهقيّ 7/ 155 بعد إيراد الحديث بالسند المذكور ما نصّه:

قال الحافظ

(1)

: عزرة هو ابن يحيى. انتهى، وهذا غريب، فإن عزرة بن يحيى لم يُذكر من رجال مسلم أصلًا، لا في "التهذيبين"، ولا في غيرهما، وإنما هو من رجال أبي داود، وابن ماجه، فليُحرّر، والله تعالى أعلم.

8 -

(الْحَسَنُ الْعُرَنِيُّ) هو: الحسن بن عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ، أرسل عن ابن عباس [4](خ م د س ق) تقدم في "الأطعمة" 16/ 5333.

[تنبيه]: قوله: "الْعُرَنيّ" -بضم العين المهملة، وفتح الراء، بعدها نون-: نسبة إلى عُرينة بن نذير بن قسر بن عبقر بن أنمار بن أراش، بطن من بَجِيلة، قاله في "اللباب"

(2)

.

9 -

(يَحْيَى بْنُ الْجَزَّارِ) العرنيّ الكوفيّ، قيل: اسم أبيه زَبّان -بزاي، وموحّدة-، وقيل: بل لقبه، هو صدوقٌ رُمي بالغُلُوّ في التشيع [3](م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

10 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى) الأنصاريّ المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [3]

(3)

اختُلف في سماعه من عمر رضي الله عنه، مات بوقعة الجماجم، سنة ثلاث وثمانين، قيل: إنه غَرِق (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

(1)

الظاهر أن المراد بالحافظ هو البيهقيّ، فيكون من كلام الرواة عنه، فليُتأمّل.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 336.

(3)

هذا هو الأشبه مما قال في "التقريب": من الثانية، كما يظهر من ترجمته في "التهذيب"، فتنبّه.

ص: 420

11 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجّار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، سيد القراء، ويكنى أبا الطفيل أيضًا، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، اختُلف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقمِل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من تُساعيّات المصنّف -أي: أنزل الأسانيد له، فإن أنزل الأسانيد له العُشاريّات، وهذا قريب منها- وفيه ثلاثة من التابعين الكوفيين روى بعضهم عن بعض: الحسن، ويحيى، وابن أبي ليلى، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة، ذو مناقب جمّة، فهو سيّد القرّاء، وقرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1]، أخرج البخاريّ عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب:"إن الله أمرني أن أقرئك القرآن" قال: آلله سماني لك؟ قال: "نعم"، قال: وقد ذُكرت عند رب العالمين؟ قال: "نعم"، فذَرَفتْ عيناه.

شرح الحديث:

(عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعْبٍ) رضي الله عنه (فِي) تفسير (قَوْلِهِ عز وجل: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ}، قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه: (مَصَائِبُ الدُّنْيَا) خبر لمحذوف؛ أي: هو مصائب الدنيا في النفس، والمال، والأولاد، (وَالرُّومُ)؛ يعني: التي في قوله تعالى: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} الآيتين. (وَالْبَطْشَةُ) الكبرى، يوم بدر، (أَوِ الدُّخَانُ)"أو" للشكّ، كما قال:(شُعْبَةُ الشَّاكُّ فِي الْبَطْشَةِ، أَوِ الدُّخَانِ)؛ أي: أيهما قال قتادة؟.

وقال الشوكانيّ رحمه الله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى} وهو عذاب الدنيا.

قال الحسن، وأبو العالية، والضحاك، والنخعي: هو مصائب الدنيا، وأسقامها. وقيل: الحدود. وقيل: القتل بالسيف يوم بدر. وقيل: سنين الجوع بمكة. وقيل: عذاب القبر، ولا مانع من الحمل على الجميع. {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَر} وهو عذاب الآخرة، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة، ويتوبون عما كانوا فيه.

ص: 421

وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر. انتهى

(1)

.

وقال إمام المفسّرين ابن جرير الطبريّ رحمه الله: اختَلَف أهل التأويل في معنى العذاب الأدنى الذي وعد الله أن يذيقه هؤلاء الفسقة، فقال بعضهم: ذلك مصائب الدنيا في الأنفس والأموال، ثم ذكر الأقوال.

ثم قال: وأَولى الأقوال في ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة المكذّبين بوعيده في الدنيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان في الدنيا من بلاء أصابهم، إما شدّة من مجاعة، أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولم يخصص الله تعالى ذكرُهُ، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذّبهم بكل ذلك في الدنيا بالقتل، والجوع، والشدائد، والمصائب في الأموال، فأوفى لهم بما وعدهم.

وقوله: {دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} يقول: قبل العذاب الأكبر، وذلك عذاب يوم القيامة. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 7044](2799)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 128)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 58)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 474)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 155)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ 6/ 9.

(2)

"تفسير الطبريّ" 20/ 188 - 191.

ص: 422

(11) - (بَابُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7045](2800) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِقَّتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْهَدُوا").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ)، تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(زُهَيْرُ بْن حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار المكيّ، أبو يسار الثَّقَفيّ مولاهم، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دَلّس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.

5 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر -بفتح الجيم، وسكون الموحّدة- أبو الحجاج المخزوميّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ إمام في التفسير، وفي الفقه [3] مات سنة إحدى، أو اثنتين، أو ثلاث، أو أربع ومائة، وله ثلاث وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

6 -

(أَبُو مَعْمَرٍ) عبد الله بن سَخْبَرة -بفتح السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الموَحّدة- الأزديّ الكوفيّ، ثقةٌ [2] مات في إمارة عُبيد الله بن زياد (ع) في تقدم "شرح المقدمة" جـ 2 ص 470.

7 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم قبل حديث. [تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، تقدّم ذكرها.

ص: 423

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشِقَّتَيْنِ) وفي الرواية الآتية: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى إذا انفلق القمر فلقتين"، ووقع في رواية أبي داود الطيالسيّ عن أبي عوانة، وأخرجه أبو نعيم في "الدلائل" من طريق هشيم، كلاهما عن مغيرة، عن أبي الضحى بلفظ:"انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت كفار قريش: هذا سِحْرٌ سَحَركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السُّفّار، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم، فقد صدق، قال: فما قَدِم عليهم أحدٌ إلا أخبرهم بذلك"، لفظ هشيم، وعند أبي عوانة:"انشق القمر بمكة" نحوه -وفيه: - "فإن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم".

قال الحافظ رحمه الله ما حاصله: لا تعارض بين قول ابن مسعود: "بمنى"، وبين قول أنس:"إن ذلك كان بمكة"؛ لأنه لم يصرّح بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ليلتئذ بمكة، وعلى تقدير تصريحه، فهي من جملة مكة، فلا تعارض، وقد وقع عند الطبرانيّ من طريق زِرّ بن حُبيش، عن ابن مسعود، قال:"انشق القمر بمكة، فرأيته فرقتين"، قال: وهو محمول على ما ذكرته، وكذا وقع في غير هذه الرواية، وقد وقع عند ابن مردويه بيان المراد، فأخرج من وجه آخر عن ابن مسعود قال:"انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بمكة، قبل أن نصير إلى المدينة"، فوضح أن مراده بذكر مكة الإشارة إلى أن ذلك وقع قبل الهجرة، ويجوز أن ذلك وقع، وهم ليلتئذ بمنى. انتهى

(1)

.

وقال الحافظ أيضًا: والجمع بين قول ابن مسعود تارة: "بمنى" وتارة: "بمكة" إما باعتبار التعدد إن ثبت، وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال: إنه كان بمكة لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة، من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها "بمنى" قال فيها:"ونحن بمنى"، والرواية التي فيها "بمكة" لم يقل فيها: ونحن، وإنما قال:"انشقّ القمر بمكة"؛ يعني: أن الانشقاق كان وَهُمْ بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا يندفع دعوى الداوديّ أن بين الخبرين تضادًّا، والله أعلم.

(1)

"الفتح" 8/ 598، "كتاب مناقب الأنصار".

ص: 424

ووقع عند البيهقيّ في "الدلائل" عن ابن عيينة، ومحمد بن مسلم الطائفيّ جميعًا عن ابن أبي نجيح بلفظ:"رأيت القمر منشقًّا شقتين: شقة على أبي قبيس، وشقة على السُّويداء"، والسُّويداء بالمهملة، والتصغير ناحية خارج مكة، عندها جبل، وقول ابن مسعود:"على أبي قُبيس" يَحْتَمِل أن يكون رآه كذلك، وهو بمنى، كأن يكون على مكان مرتفع، بحيث رأى طرف جبل أبي قبيس، ويَحْتَمِل أن يكون القمر استمرّ منشقًّا، حتى رجع ابن مسعود من منى إلى مكة، فرآه كذلك، وفيه بُعْدٌ.

والذي يقتضيه غالب الروايات أن الانشقاق كان قرب غروبه، ويؤيد ذلك إسنادهم الرؤية إلى جهة الجبل، ويَحْتَمِل أن يكون الانشقاق وقع أول طلوعه، فإن في بعض الروايات أن ذلك كان ليلة البدر، أو التعبير بأبي قبيس من تغيير بعض الرواة؛ لأن الغرض ثبوت رؤيته منشقًّا إحدى الشقتين على جبل، والأخرى على جبل آخر، ولا يغاير ذلك قول الراوي الآخر: رأيت الجبل بينهما؛ أي: بين الفرقتين؛ لأنه إذا ذهبت فرقة عن يمين الجبل، وفرقة عن يساره مثلًا صدق أنه بينهما، وأي جبل آخر كان من جهة يمينه، أو يساره صدق أنها عليه أيضًا. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) للصحابة الحاضرين للواقعة: ("اشْهَدُوا")؛ أي: اضبطوا هذا القدر بالمشاهدة، وفي الرواية الثالثة:"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ اشهد"، وفي حديث ابن عمر الآتي:"اشهدوا، اشهدوا" مرّتين، وعند ابن مردويه من رواية ابن جريج، عن مجاهد، بلفظ آخر، وهو قوله:"انشقّ القمر، قال الله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، يقول: كما شققت القمر كذلك أقيم الساعة"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 8/ 599 - 600.

ص: 425

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7045 و 7046 و 7047](2800)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3636 و 3869 و 3871) و"التفسير"(4864 و 4865)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3285 و 2387)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 476)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 38)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 377 و 447)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4968)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 202 و 203)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(9996)، و (الطبريّ) في "التفسير"(27/ 85)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(1/ 402)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(2/ 265 - 266)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في ذكر ما قاله أهل العلم في حادثة انشقاق القمر:

قال القاضي عياض رحمه الله: انشقاق القمر من أمهات معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد رواها عدّة من الصحابة رضي الله عنهم، مع ظاهر الآية الكريمة، وسياقها، قال الزجاج: وقد أنكرها بعض المبتدعة المضاهين لمخالفي الملة، وذلك لمّا أعمى الله قلبه، ولا إنكار للعقل فيها؛ لأن القمر مخلوق لله تعالى، يفعل فيه ما يشاء، كما يفنيه، ويُكَوِّره في آخر أمره.

وأما قول بعض الملاحدة: لو وقع هذا لنُقل متواترًا، واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته، ولم يختص بها أهل مكة. فأجاب العلماء بأن هذا الانشقاق حصل في الليل، ومعظم الناس نيام غافلون، والأبواب مغلقة، وهم متغطون بثيابهم، فقلّ من يتفكر في السماء، أو ينظر إليها إلا الشاذّ النادر.

ومما هو مشاهد معتاد أن كسوف القمر وغيره من العجائب، والأنوار الطوالع، والشهب العظام، وغير ذلك مما يحدث في السماء في الليل، يقع ولا يتحدث بها إلا الآحاد، ولا علم عند غيرهم؛ لِمَا ذكرناه، وكان هذا الانشقاق آية حصلت في الليل لقوم سألوها، واقترحوا رؤيتها، فلم يتنبه غيرهم لها.

قالوا: وقد يكون القمر كان حينئذ في بعض المجاري والمنازل التى تظهر لبعض الآفاق دون بعض، كما يكون ظاهرًا لقوم غائبًا عن قوم، كما يجد الكسوف أهل بلد دون بلد، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 143 - 144.

ص: 426

وقال في "الفتح": وقد أنكر جمهور الفلاسفة انشقاق القمر، متمسكين بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الانخراق، والالتئام، وكذا قالوا في فتح أبواب السماء ليلة الإسراء، إلى غير ذلك من إنكارهم ما يكون يوم القيامة، من تكوير الشمس، وغير ذلك.

وجواب هؤلاء إن كانوا كفّارًا أن يناظَروا أوّلًا على ثبوت دين الإسلام، تم يُشْرَكوا مع غيرهم ممن أنكر ذلك من المسلمين، ومتى سَلَّم المسلم بعض ذلك دون بعض أُلزم التناقض، ولا سبيل إلى إنكار ما ثبت في القرآن، من الانخراق، والالتئام في القيامة، فيستلزم جواز وقوع ذلك معجزة لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أجاب القدماء عن ذلك، فقال أبو إسحاق الزجاج في "معاني القران": أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه؛ لأن القمر مخلوق لله تعالى، يفعل فيه ما يشاء، كما يُكَوِّره يوم البعث، ويُفنيه.

وأما قول بعضهم: لو وقع لجاء متواترًا، واشترك أهل الأرض في معرفته، ولَمَا اختص بها أهل مكة.

فجوابه: أن ذلك وقع ليلًا، وأكثر الناس نيام، والأبواب مغلقة، وقلّ من يراصد السماء إلا النادر، وقد يقع بالمشاهدة في العادة أن ينكسف القمر، وتبدو الكواكب العظام، وغير ذلك في الليل، ولا يشاهدها إلا الآحاد، فكذلك الانشقاق كان آية وقعت في الليل لقوم سألوا، واقترحوا، فلم يتأهب غيرهم لها.

ويَحْتَمِل أن يكون القمر ليلتئذ كان في بعض المنازل التي تظهر لبعض أهل الآفاق دون بعض، كما يظهر الكسوف لقوم دون قوم.

وقال الخطابيّ: انشقاق القمر آية عظيمة، لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء، خارجًا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يُطمع في الوصول إليه بحيلة، فلذلك صار البرهان به أظهر، وقد أنكر ذلك بعضهم، فقال: لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس؛ لأنه أمر صدر عن حسّ ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب، ونقل ما لم يُعْهَد، فلو كان

ص: 427

لذلك أصل لَخُلِّد في كتب أهل التسيير، والتنجيم؛ إذ لا يجوز إطباقهم على تركه، وإغفاله، مع جلالة شأنه، ووضوح أمره.

والجواب عن ذلك أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها؛ لأنه شيء طلبه خاصّ من الناس، فوقع ليلًا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نيامًا، ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان يَحْتَمِل أنه كان في ذلك الوقت مشغولًا بما يلهيه من سَمَر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر، ناظرين إليه، لا يغفلون عنه، فقد يجوز أنه وقع، ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته، ممن اقترح وقوعه، ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر.

ثم أبدى حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه، إلا القرآن بما حاصله: إن معجزة كل نبيّ كانت إذا وقعت عامّة أعقبت هلاك من كذّب به من قومه؛ للاشتراك في إدراكها بالحسّ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة، فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية، فاختص بها القوم الذين بُعث منهم؛ لِمَا أوتوه من فضل العقول، وزيادة الأفهام، ولو كان إدراكها عامًّا لعوجل مَن كذّب به، كما عوجل من قبلهم.

وذكر أبو نعيم في "الدلائل" نحو ما ذكره الخطابيّ، وزاد: ولا سيما إذا وقعت الآية في بلدة كان عامة أهلها يومئذ الكفار الذين يعتقدون أنها سِحر، ويجتهدون في إطفاء نور الله تعالى.

قال الحافظ: وهو جيد بالنسبة إلى من سأل عن الحكمة في قلة من نَقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم، وأما من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه، فجوابه أنه لم ينقل عن أحد منهم أنه نفاه، وهذا كاف، فإن الحجة فيمن أثبت، لا فيمن يوجد عنه صريح النفي، حتى إن من وجد عنه صريح النفي يُقَدَّم عليه من وُجد منه صريح الإثبات.

وقال ابن عبد البرّ: قد روى هذا الحديث جماعة كثيرة من الصحابة، ورَوَى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجمّ الغفير، إلى ان انتهى إلينا، ويؤيَّد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبق لاستبعاد من استبعد وقوعه عذر.

ص: 428

ثم أجاب بنحو جواب الخطابيّ، وقال: وقد يَطْلُع على قوم قبل طلوعه على آخرين، وأيضًا فإن زمن الانشقاق لم يَطُل، ولم تتوفر الدواعي على الاعتناء بالنظر إليه، ومع ذلك فقد بَعَث أهل مكة إلى آفاق مكة، يسألون عن ذلك، فجاءت السفّار، وأخبروا بأنهم عاينوا ذلك، وذلك لأن المسافرين في الليل غالبًا يكونون سائرين في ضوء القمر، ولا يخفى عليهم ذلك.

وقال القرطبيّ: الموانع من مشاهدة ذلك إذا لم يحصل القصد إليه غير منحصرة، ويَحْتَمِل أن يكون الله صرف جميع أهل الأرض غير أهل مكة، وما حولها عن الالتفات إلى القمر في تلك الساعة؛ ليختص بمشاهدته أهل مكة، كما اختصوا بمشاهدة أكثر الآيات، ونقلوها إلى غيرهم. انتهى.

قال الحافظ: وفي كلامه نظر؛ لأن أحدًا لم يَنقل أن أحدًا من أهل الآفاق غير أهل مكة ذكروا أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة المعينة، فلم يشاهدوا انشقاقه، فلو نُقل ذلك لكان الجواب الذي أبداه القرطبيّ جيّدًا، ولكن لم يُنقل عن أحد من أهل الأرض شيء من ذلك، فالاقتصار حينئذ على الجواب الذي ذكره الخطابيّ، ومن تبعه أوضح، والله اعلم.

وأما الآية فالمراد بها قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} ، لكن ذهب بعض أهل العلم من القدماء أن المراد بقوله:{وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ؛ أي: سينشق، كما قال تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]؛ أي: سيأتي، والنكتة في ذلك إرادة المبالغة في تحقق وقوع ذلك، فنزل منزلة الواقع، والذي ذهب إليه الجمهور أصحّ، كما جزم به ابن مسعود، وحذيفة، وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى بعد ذلك:{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)} [القمر: 2] فإن ذلك ظاهر في أن المراد بقوله: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} وقوع انشقاقه؛ لأن الكفار لا يقولون ذلك يوم القيامة، وإذا تبيَّن أن قولهم ذلك إنما هو في الدنيا تبيَّن وقوع الإنشقاق، وأنه المراد بالآية التي زعموا أنها سِحر، ووقع ذلك صريحًا في حديث ابن مسعود، كما بيّناه قبلُ.

ونقل البيهقيّ في أوائل البعث والنشور عن الْحَلِيميّ أن من الناس من يقول: إن المراد بقوله تعالى: {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} ؛ أي: سينشق، قال الحليميّ: فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقًّا نصفين، عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع، أو خمس، ثم

ص: 429

اتصلا، فصار في شكل أترجة إلى أن غاب، قال: وأخبرني بعض من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى. انتهى.

قال الحافظ: ولقد عجبت من البيهقيّ كيف أقرّ هذا، مع إيراده حديث ابن مسعود المصرّح بأن المراد بقوله تعالى:{وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} أن ذلك وقع في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإنه ساقه هكذا من طريق ابن مسعود في هذه الآية:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} ، قال:"لقد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم ساق حديث ابن مسعود:"لقد مضت آية الدخان، والروم، والبطشة، وانشقاق القمر". انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيسٌ، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7046] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ (ح) وَحَدّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى، إِذَا انْفَلَقَ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ، فَكَانَتْ فِلْقَةٌ وَرَاءَ الْجَبَلِ، وَفِلْقَةٌ دُونَهُ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"اشْهَدُوا").

رجال هذا الإسناد: اثنا عشر:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وفي الأبواب الستّة الماضية، غير اثنين، وهما:

1 -

(مِنْجَابُ

(2)

بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) هو: منجاب بن الحارث بن عبد الرحمن، أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 231)(م فق) تقدم في "الإيمان" 41/ 273.

2 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) هو: عليّ، تقدّم قريبًا.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: أن كلّاً من أبي معاوية، وحفص بن غياث روى هذا الحديث عن الأعمش بهذا الإسناد.

(1)

"الفتح" 8/ 600 - 602.

(2)

بكسر أوله، وسكون ثانيه، ثم جيم، ثم موحّدة.

ص: 430

وقوله: (إِذَا انْفَلَقَ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ)؛ الفلقة: القطعة من الشيء المنشقّ.

وقوله: (وَرَاءَ الْجَبَلِ)؛ أي: جبل حراء، (وَفِلْقَةٌ دُونَهُ)؛ أي: دون الجبل، والمراد أنهما تباينتا، فإحداهما إلى جهة العلو، والأخرى إلى السِّفل.

والحديث متّفقٌ عليه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7047] (

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِلْقَتَيْنِ، فَسَتَرَ الْجَبَلُ فِلْقَةً، وَكَانَتْ فِلْقَةٌ فَوْقَ الْجَبَلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ اشْهَدْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

وقوله: (اللَّهُمَّ اشْهَدْ)؛ أي: على أني قد جئتهم بما طلبوا من المعجزة، حيث قالوا: إن كنت صادقًا فلينشقّ لك هذا القمر، فانشقّ لهم، فإن آمنوا، وإلا فخذهم أخذ عزيز مقتدر.

والحديث متّفقٌ عليه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7048](2801) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله ولم يسق متنه، بل أحاله على حديث ابن مسعود رضي الله عنه قبله، وقد ساقه اللالكائيّ رحمه الله في "اعتقاد أهل السُّنَّة"، فقال:

(1465)

- وأخبرنا عليّ بن عمر بن إبراهيم، قال: ثنا إسماعيل بن محمد، قال: ثنا عباس بن محمد، قال: ثنا أبو العباس وهب بن جرير بن حازم، قال: ثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر في قوله:

ص: 431

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]، قال: قد كان ذلك على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، انشق فلقتين، من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل، فقال:"اللَّهُمَّ اشهد"، انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7049] (

) - (وَحَدَّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، بإِسْنَادِ ابْنِ مُعَاذٍ، عَنْ شُعْبَةَ، نَحْوَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ: فَقَالَ: "اشْهَدُوا، اشْهَدُوا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ) العسكريّ، أبو محمد الفرائضيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ يُغْرِب [10](ت 3 أو 255)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 200.

2 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) محمد بن إبراهيبم بن أبي عديّ، وقد يُنسب لجدّه، وقيل: هو إبراهيم، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (بِإِسْنَادِ ابْنِ مُعَاذٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في عامّة النسخ: "بإسناد ابن معاذ"، وفي بعضها:"بإسنادَيْ معاذ" قال القاضي وغيره: هذا أشبه بالصحة؛ لأنه ذكر لمعاذ إسنادين قبل هذا، والأول أيضًا صحيح؛ لأن الإسنادين من رواية ابن معاذ، عن أبيه. انتهى.

[تنبيه]: أما رواية محمد بن جعفر غُندر عن شعبة، فقد ساقها الطبريّ رحمه الله في "تفسيره"، فقال:

حدّثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت قتادة يُحَدِّث عن أنس، قال:"انشق القمر فرقتين"، انتهى

(2)

.

وأما رواية ابن أبي عديّ عن شعبة، فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، إلا أنه لم يذكر "اشهدوا، اشهدوا"، فقال:

(1)

"اعتقاد أهل السُّنَّة" 4/ 795.

(2)

"تفسير الطبريّ" 27/ 84.

ص: 432

(6496)

- أخبرنا الحسين بن محمد بن أبي معشر بحرّان، قال: حدّثنا محمد بن بشار، قال: حدّثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن سليمان، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال:"انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين". انتهى

(1)

.

فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7050](2852) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْن حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً، فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم تقريبًا.

2 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم البغداديّ أبو محمد المؤدِّب، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(شَيْبَانُ) بن عبد الرحمن التميميّ، مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى نحوة بطن من الأزد، لا إلى علم النحو [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وقبله بباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل، والأداء منه، ومنهما، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَس) بن مالك رضي الله عنه، وفي رواية للبخاريّ:"أنه حدّثهم"، فصرّح قتادة بالتحديث، فزالت عنه تهمة التدليس.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قد ورد انشقاق القمر من حديث ابن مسعود،

(1)

"صحيح ابن حبان" 14/ 421.

ص: 433

وأنس، وابن عباس، وعليّ، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم، فأما أنس، وابن عباس فلم يحضرا ذلك؛ لأنه كان بمكة قبل الهجرة بنحو خمس سنين، وكان ابن عباس إذ ذاك لم يولد، وأما أنس فكان ابن أربع، أو خمس بالمدينة، وأما غيرهما فيمكن أن يكون شاهد ذلك، وممن صرح برؤية ذلك ابن مسعود رضي الله عنه. انتهى

(1)

.

(أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ) المراد المشوكون منهم، قال الحافظ في "الفتح": هذا من مراسيل الصحابة؛ لأن أنسًا لم يدرك هذه القصة، وقد جاءت هذه القصة من حديث ابن عباس، وهو أيضًا ممن لم يشاهدها، ومن حديث ابن مسعود، وجبير بن مُطعم، وحذيفة، وهؤلاء شاهدوها، ولم أر في شيء من طرقه أن ذلئط كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس، فلعله سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم وجدت في بعض طرق حديث ابن عباس بيان صورة السؤال، وهو وإن كان لم يدرك القصة، لكن في بعض طرقه ما يُشعر بأنه حمَل الحديث عن ابن مسعود، كما سأذكره، فأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من وجه ضعيف، عن ابن عباس قال:"اجتمع المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث، ونظرائهم، فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقًا، فشقّ لنا القمر فرقتين، فسأل ربه، فانشقّ"

(2)

.

(سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً)؛ أي: علامة على صدق نبوّته، وهذا منهم على سبيل التعنّت، والعناد، ولذا لم يستفيدوا من رؤيته، بل استمرّوا على غيّهم وطغيانهم، (فَأَرَاهُمُ) النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أن دعا الله تعالى (انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ) هكذا رواية مسلم بلفظ "مرّتين"، وفي رواية للبخاريّ:"شقّتين"، قال في "الفتح": قوله: "شقتين " بكسر المعجمة؛ أي: نصفين، وتقدم من طريق سعيد وشيبان، عن قتادة، بدون هذه اللفظة، وأخرجه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاريّ، من حديث شيبان

(3)

، عن قتادة، بلفظ: "فأراهم انشقاق

(1)

"الفتح" 6/ 632.

(2)

"الفتح" 8/ 596.

(3)

وقع في نسخة "الفتح" سعيد بدل شيبان، وهو غلط، فتنبّه.

ص: 434

القمر مرتين"، وأخرجه من طريق معمر، عن قتادة قال بمعنى حديث شيبان، وهو في مصنف عبد الرزاق، عن معمر، بلفظ: "مرتين" أيضًا، وكذلك أخرجه الإمامان: أحمد، وإسحاق في "مسنديهما" عن عبد الرزاق، وقد اتفق الشيخان عليه، من رواية شعبة، عن قتادة، بلفظ: "فرقتين"، قال البيهقيّ: قد حَفِظ ثلاثة من أصحاب قتادة عنه: "مرتين".

قال الحافظ: لكن اختُلف عن كل منهم في هذه اللفظة، ولم يُختلَف على شعبة، وهو أحفظهم، ولم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بلفظ:"مرتين"، إنما فيه "فرقتين"، أو "فلقتين"، بالراء، أو اللام، وكذا في حديث ابن عمر:"فلقتين"، وفي حديث جبير بن مُطعم:"فرقتين"، وفي لفظ عنه:"فانشقّ باثنتين"، وفي رواية عن ابن عباس، عند أبي نعيم في "الدلائل":"فصار قمرين"، وفي لفظ:"شقتين"، وعند الطبراني من حديثه:"حتى رأوا شقيه"، ووقع في نظم السيرة لشيخنا الحافظ أبي الفضل -العراقيّ-: وانشق مرتين بالإجماع، قال الحافظ: ولا أعرف من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرض لذلك أحد من شراح "الصحيحين".

وتكلم ابن القيِّم على هذه الرواية، فقال: المرات يراد بها الأفعال تارةً، والأعيان أخرى، والأول أكثر، ومن الثاني:"انشق القمر مرتين"، وقد خفي على بعض الناس، فادعى أن انشقاق القمر وقع مرتين، وهذا مما يعلم أهل الحديث والسير أنه غلط، فإنه لم يقع إلا مرة واحدة.

وقد قال العماد ابن كثير: في الرواية التي فيها: "مرتين" نظرٌ، ولعل قائلها أراد: فرقتين.

قال الحافظ: وهذا الذي لا يتجه غيره؛ جمعًا بين الروايات، ثم راجعت نَظْم شيخنا، فوجدته يَحْتَمِل التأويل المذكور، ولفظه:

فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَلَتْ

وَفِرْقَةٌ لِلطَّوْدِ مِنْهُ نَزَلَتْ

وَذَاكَ مَرَّتَيْنِ بِالإِجْمَاعِ

وَالنَّصِّ وَالتَّوَاتُرِ السَّمَاعِ

فجمع بين قوله: "فرقتين"، وبين قوله:"مرتين"، فيمكن أن يتعلق قوله:"بالإجماع" بأصل الانشقاق، لا بالتعدد، مع أن في نقل الإجماع في نفس

ص: 435

الانشقاق نظرًا

(1)

تقدّم بيانه، في شرح حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ في آخر الحديث قوله: "حتى رأوا حراء بينهما"؛ يعني: أن أهل مكة رأوا بين الفرقتين جبل حراء، وهو بكسر الحاء المهملة، بعدها راء، ممدودًا، منصرفًا، وغير منصرف: جبل على يسار الذاهب من مكة إلى منى، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه،

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7050 و 7051 و 7052](2802)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3637) و"التفسير"(4867 و 4868)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3282)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 207)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 424)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 11)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1463)، و (البيهقيّ) في "الاعتقاد"(1/ 269)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7051] (

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، بِمَعْنَى حَدِيثِ شَيْبَانَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ العابد، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد أبو عروة اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية معمر عن قتادة هذه ساقها الحاكم رحمه الله في "المستدرك"، فقال:

(1)

"الفتح" 8/ 596 - 597 "كتاب مناقب الأنصار" رقم (3868).

ص: 436

(3761)

- أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر الزاهد ببغداد، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدّثني أبي، حدّثنا عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آيةً، فانشق القمر بمكة مرتين، قال الله عز وجل:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} [القمر: 1]. انتهى

(1)

.

لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7052] (

) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، وَأَبُو دَاوُدَ (ح) وَحَدَّثَنَا كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطّان، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية أبي داود عن شعبة هذه ساقها أبو داود في "مسنده"، فقال:

(1960)

- حدّثنا أبو داود قال: حدّثنا شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال:"انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى

(2)

.

وأما رواية يحيى بن سعيد القطّان عن شعبة، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(4587)

- حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس، قال:"انشقّ القمر فرقتين". انتهى

(3)

.

(1)

"المستدرك على الصحيحين" 2/ 513.

(2)

"مسند الطيالسيّ" 1/ 265.

(3)

"صحيح البخاري" 4/ 1844.

ص: 437

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7053](2803) - (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ قُرَيْشٍ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ عَلَى زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُوسَى بْنُ قُرَيْشٍ التَّمِيمِيُّ) هو: موسى بن قريش بن نافع التميميّ البخاريّ، مقبول [11](ت 252)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الحيض" 13/ 766. 2 - (إِسْحَاقُ بْنُ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ) المصريّ، أبو يعقوب، صدوقٌ فقيهٌ [10] (ت 218) وله ست وسبعون سنةً (م س) تقدم في "الحيض" 13/ 766.

3 -

(أَبُوهُ) بكر بن مُضر بن محمد بن حَكِيم المصريّ، أبو محمد، أو أبو عبد الملك، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 3 أو 174) وله نيف وسبعون سنةً (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 36/ 249.

4 -

(جَعْفَرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بن شُرَحْبيل بن حَسَنَة الْكِنْديّ، أبو شُرَحْبِيل المصريّ، ثقةٌ [5](ت 136)(ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

5 -

(عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ) الْغَفّاريّ الْكِنَانيّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3] مات في خلافة يزيد بن عبد الملك، بعد المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

6 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ) الْهُذَليّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ ثبتٌ [3] مات سنة أربع وتسعين، وقيل: سنة ثمان، وقيل: غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

7 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) عبد الله البحر الحبر رضي الله عنهما، تقدّم قريبًا، وشرح الحديث واضح، يُعلم مما سبق.

مسألتان تتعلّقان بهدْا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

ص: 438

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7053](2803)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3637 و 387) و"التفسير"(4866)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 303)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(1467)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(4/ 357)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابٌ لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنَ اللهِ عز وجل

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7054](2804) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ

(1)

مِنَ اللهِ عز وجل، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ، ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ، وَيَرْزُقُهُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أُسامة الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ) الأسديّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3] وروايته عن عائشة، وأبي موسى، ونحوهما مرسلة، قُتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

3 -

(أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ السُّلَمِيُّ) هو: عبد الله بن حَبِيب بن رُبَيِّعة -بضمّ الراء، وفتح الموحّدة، وتشديد الياء- الكوفيّ المقرئ، مشهور بكنيته، ولأبيه صحبة، ثقةٌ ثبتٌ [2] مات بعد السبعين (ع) تقدم في "الرضاع" 3/ 3581.

4 -

(أَبُو مُوسَى) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار الأشعريّ الصحابي

(1)

وفي نسخة: "سمعه".

ص: 439

المشهور، أمّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الْحَكَمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، وفيه ثلاثة من التابعين الكوفيين روى بعضهم عن بعض: الأعمش، عن سعيد، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، قد أشرنا إلى بعضها فيما مضى.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مُوسَى) الأشعريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا أَحَدَ أَصْيَرُ) أفعلُ تفضيل، قيل: الصبر حبس النفس على المكروه، والله تعالى منزه عنه، وأجيب بأن المراد: لازمه، وهو ترك المعاجلة بالعقوبة، قاله في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الحقّ أن الصبر صفة من صفات الله عز وجل وردت في نصوص الكتاب السُّنَّة، فلا تفسّر بلازمها، وإنما نثبتها على معناها الحقيقيّ، دون المجازيّ على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى محذور؛ إذ تفسيرها بحبس النفس على المكروه هو معناها بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة للخالق، فلها معنى يليق بجلاله، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وعمدة العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

فقوله: "لا أحد أصبر""لا" هي النافية للجنس العاملة عمل "إن"، و"أحد" اسمها مبنيّ على الفتح، و"أصبرُ" مرفوع على أنه خبرها، ويَحْتَمل أن تكون عاملة عمل "ليس"، فـ "أحدٌ" مرفوع على أنه اسمها، و"أصبرَ" منصوب على أنه خبرها.

(عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ) وفي نسخة: "سمعه"، و"الأذى" بمعنى المؤذي، وهو المؤلم ظاهرًا أو باطنًا، وقال في "العمدة": قيل: إنه منزه عن الأذى، وأجيب بأن المراد به أذى يلحق أنبياءه؛ إذ في إثبات الولد إيذاء للنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تكذيب له، وإنكار لمقالته. انتهى، وقد عرفت ما فيه، فتنبّه، وبالله تعالى التوفيق.

(1)

"عمدة القاري" 25/ 85.

ص: 440

وقال في "الفتح": وقوله في الحديث: "أصبر" أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى:"الصبور"، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى أذى رسله، وصالحي عباده؛ لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به؛ لكونه صفة نقص، وهو منزه عن كل نقص، ولا يؤخر النقمة قهرًا، بل تفضلًا، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة، والولد عن الله أذى لهم، فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم، والاستعظِامِ لمقالتهم، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]، فإن معناه: يؤذون أولياء الله، وأولياء رسوله، فأقيم المضاف مقام المضاف إليه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت فيما سبق أنه لا يلزم في وصفه تعالى بما ثبت في النصّ محذور أبدًا، فإنا نثبت ما أثبته سبحانه وتعالى لنفسه، على مراده عز وجل، لا على ما نَصِف به المخلوق، فللَّه سبحانه وتعالى صفاته العليّة اللائقة بجلاله، وللمخلوق صفاته الدنيّة اللائقة به، فلا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تأويل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .

وقوله: (مِنَ اللهِ عز وجل)"من" صلة لـ "أصبر".

ثم بيَّن الأذى المسموع بقوله: (إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُشرك المشركون بالله سبحانه وتعالى غيره من مخلوقاته؛ كالأصنام وغيرها، فيعبدونها معه سبحانه وتعالى (وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ) بالبناء للمفعول أيضًا، (ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ)؛ أي: يعافي أنفسهم، من البلاء والأمراض، (وَيَرْزُقُهُمْ") ما يحتاجون إليه من الأموال، وغيرها.

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "لا أحد أصبر على أذى من الله"؛ أي: أشدّ حلمًا عن فاعل ذلك، وتَرْك المعاقبة عليه، وهو مفسَّر في الحديث:"يجعلون له ندًّا، وولدًا، وهو يرزقهم" وهو من معنى اسمه تعالى الصبور، والحليم، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالنقمة، بل يعفو، ويؤخر ذلك إلى أجَل معلوم عنده بمقدار، والحليم بمعناه، إلا أن في الحليم الصفح مع

(1)

"الفتح" 17/ 310 - 311.

ص: 441

القدرة، والأمن من العقوبة، والصبور تُخشى عاقبة أخْذه، وهذا الفرق بين الصبر والحلم. انتهى

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "لا أحد أصبر" من الصبر، وأصله: حبس النفس على ما تكرهه، وهو في صفة الباري تأخير العذاب عن مستحقه، فالمراد مِن أفعل نفي ذات المفضل عليه، وإذا انتفت ذاته انتفت المساواة، والنقص بالأَولى، وقوله:"على أذى" مصدر أَذَى يؤذي؛ يعني: المؤذي؛ أي: كلامٍ مؤذٍ. "سمعه من الله"؛ أي: ليس أحد أشد صبرًا من الله بإرسال العذاب إلى مستحقه، وهم الكفار على القول القبيح المذكور، قال: ولو نُسب ذلك إلى ملِك من أحقر ملوك الدنيا لاستنكف، وامتلأ غضبًا، وأهْلَكَ قائله، فسبحانه ما أحلمه، وما أرحمه، {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58]، وهو مع ذلك يحبس عقوبته عنهم، ولا يعاجلهم، بل يعافيهم؛ أي: يدفع عنهم المكاره، والمعافاة: دفع المكروه، ويرزقهم، فهو أصبر على الأذى من الخلق، فإنهم يُؤذَون بما هو فيهم، وهو يؤذَى بما ليس فيه، وهم إن صبروا صبروا تكلفًا، وضَعفًا، وصبرُه حِلم، ولطف. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7054 و 7055 و 7056](2804)، و (البخاريّ) في "الأدب"(6099) و"التوحيد"(7378)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 395)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 395 و 401 و 405)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(687)، و (تمّام الرازيّ) في "فوائده"(1/ 77)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 38.

(2)

"فيض القدير" للمناويّ 5/ 363.

ص: 442

1 -

(منها): إثبات صفة الصبر لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، وأن صبره أتمّ أنواع الصبر.

2 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن الصبر على تحمّل الأذى محمود، وتَرْك الانتقام ممدوح، ولهذا كان جزاء الصبر غير محصور؛ إذ الصبر والحلم في الأمور هو التخلق بأخلاق مالك أَزِمّة الأمور، وبالصبر يُفتح كل باب مُغلَق، ويسهل كل صعب مرتجّ، وهنا سرّ بديع، وهو أن من تعلق بصفة من صفاته تعالى أدخلته تلك الصفة عليه، وأوصلته إليه، فهو الصبور، أوحى الله إلى داود: تخلّق بأخلاقي، ومن أخلاقي أني أنا الصبور

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه إبانةً عن كرم الله عز وجل، وصفحه، وفضله، في تأخير معاجلة العذاب، وإدرار الرزق على مؤذيه، فهذا كرمه في معاملة أعدائه، فما ظنك بمعاملة أصفيائه.

4 -

(ومنها): أن فيه الحثّ على تحمل الأذى فيما يؤلم العبد؛ ليُجازَى غدًا جزاء الصابرين، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7055] (

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، إِلَّا قَوْلَهُ: "وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ"، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (بِمِثْلِهِ، إِلَّا قَوْلَهُ)؛ أي: بمثل الحديث الماضي، إلا قول

(1)

هذا من الإسرائيليّات، أورده المناويّ في "فيض القدير" بلا عزو، فليُتنبّه.

ص: 443

النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ"، فلم يذكره وكيع، ولو قال: بمثل حديثهما، إلا قولهما إلخ لكان أوفق لاصطلاحه، ويكون الضمير عائدًا على أبي معاوية، وأبي أسامة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية وكيع عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:(19545) - حدَثنا وكيعٌ، ثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن أبي عبد الرحمن، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أصبر على أذى، يسمعه من الله عز وجل أنه يُشرَك به، وهو يرزقهم"، انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7056] (

) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَةُ نِدًّا، وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ، وَيُعَافِيهِمْ، وَيُعْطِيهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) أبو قُدامة السَّرَخْسيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (نِدًّا) بكسر النون، وتشديد الدال المهملة: العِدْل والمثل، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه[من الطويل]:

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ

فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

يعني بقوله: ولست له بندّ: لست له بمثل، ولا عِدل، وكلُّ شيء كان نظيرًا لشيء، وشبيهًا، فهو له نِدٌّ، قاله الطبريّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 395.

(2)

"تفسير الطبريّ" 1/ 163.

ص: 444

وقوله: (وَيُعْطِيهِمْ) من عطف العامّ على الخاصّ، فإن الرزق، والعافية من جملة العطايا.

والحديث متّفقٌ عليه.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابُ طَلَبِ الْكَافِرِ الْفِدَاءَ بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7057](2805) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا، أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا

(1)

، وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ، أَنْ لَا تُشْرِكَ -أَحْسَبُهُ قَالَ-: وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ، فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الْكِنديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من كبار [4] (ت 128) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

والباقون ذُكروا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه أنسٌ رضي الله عنه تقدّم القول فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يَقُولُ اللهُ تبارك وتعالى لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ)؛ أي: لأسهلهم (عَذَابًا) منصوب على التمييز، وهو

(1)

وفي نسخة: "قد أردت منك ما هو أهون من هذا".

ص: 445

أبو طالب، والد عليّ رضي الله عنه. (لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا، أَكنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا؟) بالفاء من الافتداء، وهو خلاص نفسه مما وقع فيه بدفع ما يملكه، وهذا إلماح لقوله تعالى:{لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ} [الرعد: 18]. (فَيَقُولُ) الرجل الأهون عذابًا: (نَعَمْ) كنت مفتديًا به، قال في "الفتح" بعد أن أورده بلفظ:"يؤتى بالرجل من أهل النار، فيقال: يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شرّ مضجع، فيقال له: هل تفتدي بقُراب الأرض ذهبًا، فيقول: نعم يا رب، فيقال له: كذبت"، قال: ظاهر سياقه أن ذلك يقع للكافر بعد أن يدخل النار، ويَحْتَمِل أن يراد بالمضجع هنا: مضجعه في القبر، فيلتئم مع الروايات الأخرى. انتهى

(1)

.

(فَيَقُولُ) الله عز وجل: (قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا) وفي نسخة: "ما هو أهون من هذا"، وفي رواية:"فيقال: قد سئلت أيسر من ذلك"، وفي رواية:"فيقال: كذبت، قد سئلت أيسر من ذلك"، قال النوويّ: المراد بـ "أردت" في الرواية الأُولى: طلبت منك، وأمرتك، وقد أوضحه في الروايتين الأخيرتين، بقوله:"قد سئلت أيسر" فيتعيّن تأويل "أردت" على ذلك؛ جمعًا بين الروايات؛ لأنه يستحيل عند أهل الحق أن يريد الله تعالى شيئًا، فلا يقع، ومذهب أهل الحقّ أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات، خيرها، وشرّها، ومنها الإيمان والكفر، فهو سبحانه وتعالى مريد لإيمان المؤمن، ومريد لكفر الكافر؛ خلافًا للمعتزلة في قولهم: إنه أراد إيمان الكافر، ولم يُرِد كفره، تعالى الله عن قولهم الباطل، فإنه يلزم من قولهم إثبات العجز في حقه سبحانه وتعالى، وأنه وقع في ملكه مما لم يُرِده، وأما هذا الحديث فقد بيّنّا تأويله، وأما قوله:"فيقال له: كذبت"، فالظاهر أن معناه: أن يقال له: لو رددناك إلى الدنيا، وكانت لك كلها، أكنت تفتدي بها؟ فيقول: نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت أيسر من ذلك، فأبَيْت، ويكون هذا من معنى قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، ولا بدّ من هذا التأويل؛ ليُجْمَع بينه وبين قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ

(1)

"الفتح" 15/ 62.

ص: 446

جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 47]؛ أي: لو كان لهم يوم القيامة ما في الأرض جميعًا ومثله معه، وأمكنهم الافتداء لافتدوا. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك

إلخ"

(2)

؛ أي: لو فُرض الآن أن تملك "ما في الأرض من شيء". "من" زائدة؛ للاستغراق؛ أي: جميع ما فيها، وطُلب منك أن تفتدي به، وتخلص نفسك من النار، "أكنت تفتدي به؟ " وهو من الافتداء بمعنى إعطاء الفدية للإنجاء، "فيقول: نعم، فيقول" -أي: الله سبحانه-: "أردت منك أهون من هذا"؛ أي: طلبته فوضع السبب موضع المسبَّب، ولأن مراد الله تعالى لا يتخلف، كما اتفق عليه السلف والخلف بقولهم: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

وحاصله: أني أمرتك بأسهل من هذا، وأنت في صُلب آدم؛ أي: تعلق بك الأمر والحال وأنت في صُلب آدم، وفيه إيماء إلى قضية الميثاق المشتمل على قوله تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، والمراد منه: التوحيد، والعبادة على وجه التفريد، وإليه أشار بقوله:"أن لا تشرك بي شيئًا" وهو بدل، أو بيان لقوله:"أهون"، "فأبيت"؛ أي: كل شيء "إلا أن تشرك بي"؛ أي: فلا جَرَم لا أقبل منك، ولو افتديت بجميع ما في الأرض، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} [المائدة: 36]، وقال في موضع آخر:{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 47].

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 147 - 148.

(2)

شرح القاري هذا للنصّ الذي أورده البخاريّ في "الرقاق"، ولفظه:"يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم، أن لا تشركَ بي شيئًا، فأبَيْت، إلا أن تشرك بي". انتهى.

ص: 447

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله

(1)

: "لو أن لك ما في الأرض جميعًا"؛ أي: لو ثبت؛ لأن "لو" يقتضي الفعل الماضي، وإذا وقعت "أنّ" المفتوحة بعد "لو" كان حذف الفعل واجبًا؛ لأن ما في "أنّ" من معنى التحقيق والثبات منزّل منزلة ذلك الفعل المحذوف.

وقوله: "أردت منك" ظاهر هذا الحديث موافق لمذهب المعتزلة، فإن المعنى: أردت منك التوحيد، فخالفت مرادي، وأتيت بالشرك، وقال المظهر: الإرادة هنا بمعنى الأمر، والفرق بين الأمر والإرادة: أن ما يجري في العالم لا محالة كائن بإرادته سبحانه وتعالى ومشيئته، وأما الأمر فقد يكون مخالفًا لإرادته ومشيئته.

قال الطيبيّ: توضيحه: أن الأمر بالإيمان توجه على عامة المكلفين، وتعلقت مشيئة الإيمان ببعضهم، وإرادة الكفر ببعضهم، ولذا قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: 35] وقال سبحانه: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] وقال: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد: 31]، وقال:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30].

قال الطيبيّ رحمه الله: الأظهر أن تُحمل الإرادة هنا على أخذ الميثاق في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية بقرينة قوله: "وأنت في صلب آدم"، فقوله:"أبيت إلا أن تشرك بي" إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} [الأعراف: 173] ويُحمل الآباء هنا على نقض العهد، وقوله:"إلا تشرك" استثناء مفرغّ، وإنما حذف المستنثى منه مع أنه كلام موجب؛ لأن في الإباء معنى الامتناع، فيكون نفيًا؛ أي: ما اخترت إلا الشرك. انتهى.

قال القاري: وهو كلام حسنٌ، إلا أن إطلاق الإرادة، وإرادة أخذ الميثاق يحتاج إلى بيان يدفع به ما تقدم من الإيراد، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ) جملة حاليّة من قوله: "منك"، وقوله: (أَنْ لَا

(1)

هذا السياق هو الذي وقع في "المشكاة"، وليس لفظ مسلم.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 339.

ص: 448

تُشْرِكَ) بدل من "أهون"، وقوله:(أَحْسَبُهُ قَالَ) يَحْتَمل أن يكون من كلام أنس رضي الله عنه؛ أي: أظنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال إلخ، ويَحْتَمِل أن يكون ممن دونه، ومقول "قال" قوله:(وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ) فـ "أدخل" معطوف على "تشرك" منصوب، (فَأَبَيْتَ)؛ أي: امتنعت، (إِلَّا الشِّرْكَ")؛ أي: إلا أن تشرك بي ما ليس لي شريكًا، ولا يستحقّ ذلك.

وقال في "الفتح": قال عياض: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، فهذا الميثاق الذي أخذ عليهم في صُلب آدم، فمن وفى به بعد وجوده في الدنيا، فهو مؤمن، ومن لم يوفِّ به فهو الكافر، فمراد الحديث: أردت منك حين أخذت الميثاق، فأبيْت إذ أخرجتك إلى الدنيا إلا الشرك، ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالإرادة هنا: الطلب، والمعنى: أمرتك فلم تفعل؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يكون في ملكه إلا ما يريد.

واعترض بعض المعتزلة بأنه كيف يصح أن يأمر بما لا يريد؟.

والجواب أن ذلك ليس بممتنع، ولا مستحيل.

وقال المازريّ: مذهب أهل السُّنَّة أن الله تعالى أراد إيمان المؤمن، وكُفر الكافر، ولو أراد من الكافر الإيمان لآمن؛ يعني: لو قدّره عليه لوقع، وقال أهل الاعتزال: بل أراد من الجميع الإيمان، فأجاب المؤمن، وامتنع الكافر، فحملوا الغائب على الشاهد؛ لأنهم رأوا أن مريد الشرّ شرير، والكفر شرّ، فلا يصح أن يريده البارئ.

وأجاب أهل السُّنَّة عن ذلك بأن الشرّ شرّ في حقّ المخلوقين، وأما في حق الخالق فإنه يفعل ما يشاء، وإنما كانت إرادة الشر شرًّا لنهي الله عنه، والبارئ سبحانه ليس فوقه أحد يأمره، فلا يصح أن تقاس إرادته على إرادة المخلوقين، وأيضًا فالمريد لفعلٍ ما إذا لم يحصل ما أراده آذن ذلك بعجزه وضعفه، والبارئ تعالى لا يوصف بالعجز والضعف، فلو أراد الإيمان من الكافر ولم يؤمن لآذن ذلك بعجز وضعف، تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا.

وقد تمسَّك بعضهم بهذا الحديث المتفق على صحته، والجواب عنه ما تقدم، واحتجوا أيضًا بقوله تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]،

ص: 449

وأجيبوا بأنه من العامّ المخصوص بمن قضى الله له الإيمان، فعباده على هذا الملائكة، ومؤمنو الإنس والجن.

وقال آخرون: الإرادة غير الرضا، ومعنى قوله:{وَلَا يَرْضَى} ؛ أي: لا يشكره لهم، ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل.

وقيل: معنى الرضا أنه لا يرضاه دينًا مشروعًا لهم، وقيل: الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل: الإرادة تُطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا، والثانية أخصّ من الأُولى، والله أعلم. وقيل: الرضا من الله إرادة الخير، كما أن السخط إرادة الشرّ. انتهى

(1)

.

وقد علّق الشيخ البرّاك على قوله: "لا يرضى؛ أي: لا يشكر لهم

إلخ": الصواب أن الرضا ضدّ السخط، كما قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)} [محمد: 28] والرضا يتضمّن المحبّة، والسخط يتضمّن البغض، فمعنى قوله تعالى:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أنه لا يرضاه، ولا يحبّه، بل يسخطه، ويُبغضه، وتفسير نفي الرضا بعدم الشكر غير لائق، فإن ذلك لا يدلّ على قبح الكفر، ولا يقتضي عقابًا، بخلاف نفي المحبّة والرضا، والله سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بالمحبّة والرضا، وأنه يمقت الكافرين، ويسخط عليهم، وأهل السُّنَّة والجماعة يُثبتون هذه الصفات لله تعالى على الحقيقة اللائقة به سبحانه وتعالى، وتأويلها بالإرادة، أو نحوها هو طريقة أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم؛ لأن مذهبهم نفي هذه الصفات عن الله تعالى.

قال: وقول من قال: الرضا صفة وراء الإرادة؛ يعني: أنها غيرها، وهو قول صحيح.

وقول من قال: الإرادة تُطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا هو معنى قول أهل السُّنَّة: الإرادة من الله نوعان: إرادة كونيّة، وهي المتعلّقة بجميع الكائنات، وهي بمعنى المشيئة؛ كقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج: 16] وإرادة شرعيّة، وهي المتعلّقة بما يحبّه ويرضاه؛ كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ

(1)

"الفتح" 15/ 62 - 64، "كتاب الرقاق" رقم (6538).

ص: 450

بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. انتهى كلام البرّاك، وهو بحث نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7057 و 7058 و 7059 و 7060](2805)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3334) و"الرقاق"(6538 و 6557)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 129)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 199)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(1/ 47)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 315)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات صفة الكلام لله تعالى، يكلّم من يشاء بما يشاء، كما يقول لأهون أهل النار الكلام المذكور في الحديث.

2 -

(ومنها): إثبات أن الله عز وجل أخذ العهد والميثاق على بني آدم كلهم، وهم في صلب آدم عليه السلام، فمنهم من وفى بعهده، فسعد السعادة الأبديّة، ومنهم من امتنع من الوفاء، بل غدر، وعصى، وتمرّد، فشقي الشقاء الأبديّ، ونعوذ بالله تعالى من ذلك، وهذا هو الذي أشارت إليه الآية:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172].

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يقول الإنسان: الله يقول، وقد أنكره بعض السلف، وقال: يكره أن يقول: الله يقول، وإنما يقال: قال الله، وقد قدمنا فساد هذا المذهب، وبينّا أن الصواب جوازه، وبه قال عامة العلماء، من السلف، والخلف، وبه جاء القرآن العزيز في قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} [الأحزاب: 4]، وفي "الصحيحين" أحاديث كثيرة مثل هذا، والله أعلم. انتهى.

ص: 451

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7058] (

) - (حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي: ابْنَ جَعْفَرٍ- حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، إِلَّا قَوْلَهُ: "وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ"، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(6189)

- حدّثني محمد بن بشار، حدّثنا غُندر، حدّثنا شعبة، عن أبي عِمران، قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صُلب آدم، أن لا تشركَ بي شيئًا، فأبَيْت، إلا أن تشرك بي"، انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7059] (

) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ

(2)

صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُقَالُ لِلْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا، أَكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ سُئِلْتَ أَيْسَرَ مِنْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبت [10](235) على الأصحّ، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم "المقدمة" 6/ 75.

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2399.

(2)

وفي نسخة: "أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم".

ص: 452

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد الله الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ، رُبّما وَهِمَ [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر لوزن جعفر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ، ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7060] (

) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: ابْنَ عَطَاءٍ- كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غيْرَ أَنَّهُ قَالَ:"فَيُقَالُ لَهُ: كَذَبْتَ، قَدْ سُئِلْتَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) بن العلاء بن حسان القَيْسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

2 -

(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكِلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 188)(خ م س) تقدم في "القسامة" 4/ 4365.

3 -

(عَبْدُ الْوهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ) الْخَفّاف، أبو نصر العجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربّما أخطأ، أنكروا عليه حديثًا في العباس، يقال: دلّسه عن ثور [9](ت 4 أو 206)(عخ م 4) تقدم في "الجهاد والسير" 27/ 4601.

4 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ) مهْران اليشكريّ مولاهم، أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختَلَط، وكان من أثبت الناس في قنادة [6](ت 6 أو 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ) ضمير التثنية لروح بن عبادة، وعبد الوهّاب بن

ص: 453

عطاء، فكلاهما رويا هذا الحديث عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه.

وقوله: (بِمِثْلِةِ)؛ أي: بمثل حديث هشام الدستوائيّ.

(غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير في "أنه" وفي "قال " لسعيد بن أبي عروبة.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها عبد بن حميد في "مسنده"، فقال:

(1179)

- حدّثنا رَوْح بن عُبادة الْقَيْسيّ، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"يُجاء بالكافر يوم القيامة، فقيل له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم، فيقال له: كذبت، قد سئلت ما هو أيسر من ذلك". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابٌ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7061](2806) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَاَنُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ "، قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنَا).

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل باب، فلا حاجة إلى إعادته، و"يونس بن محمد" هو: المؤدّب البغداديّ، و"شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحويّ.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدُوسي؛ أنه قال: (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه،

(1)

"مسند عبد بن حميد" 1/ 355.

ص: 454

(أَنَّ رَجُلًا) لم يُعرف اسمه، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يُحْشَرُ) بالبناء للمجهول، (الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) هو إشارة إلى قوله عز وجل:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء: 97]

(1)

.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "قال: يا نبي الله يُحشر الكافر على وجهه" بإسقاط لفظة: "كيف"، فقال في "الفتح": كأنه استفهام حُذف أداته، ووقع في عدة نسخ:"كيف يُحشر"، وكذا هو عند مسلم وغيره.

والكافر اسم جنس يشمل الجميع، ويؤيده قوله تعالى:{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} الآية [الفرقان: 34]، وقوله تعالى:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا} الآية، وفي رواية الحاكم من وجه آخر عن أنس رضي الله عنه:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحشر أهل النار على وجوههم"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار: "يحشر الناس على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، وصنف على أقدامهم، وصنف على وجوههم، فقيل: فكيف يمشون على وجوههم

" الحديث.

ويؤخذ من مجموع الأحاديث أن المقربين يُحشرون ركبانًا، ومَن دونهم من المسلمين على أقدامهم، وأما الكفار فيُحشرون على وجوههم

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم مجيبًا على هذا السؤال: ("أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ) بضمّ أوله من الإمشاء، (عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ ") هذا ظاهر في أن المراد بالمشي حقيقته، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته، وزعم بعض المفسرين أنه مَثَلٌ، وأنه كقوله:{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] قال مجاهد: هذا مَثَلُ المؤمن والكافر، قال الحافظ: ولا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسّر به الآية الأخرى، فالجواب الصادر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهر في تقرير المشي على حقيقته. انتهى

(3)

.

(قَالَ قَتَادَةُ) بن دعامة، وهو موصول بالسند المذكور:(بَلَى)؛ أي: هو

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 33/ 326.

(2)

"الفتح" 10/ 450.

(3)

"الفتح" 15/ 29، "كتاب الرقاق" رقم (6523).

ص: 455

قادر على ذلك، قال الفيّوميّ رحمه الله: بَلَى حرف إيجاب، فإذا قيل: ما قام زيد، وقلت في الجواب: بَلَى، فمعناه: إثبات القيام، وإذا قيل: أليس كان كذا؟ وقلت: بَلَى، فمعناه: التقرير، والإثبات، ولا تكون إلا بعد نفي، إما في أول الكلام كما تقدم، وإما في أثنائه؛ كقوله تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى} [القيامة: 3 - 4] والتقدير: بلى نجمعها، وقد يكون مع النفي استفهام، وقد لا يكون، كما تقدم، فهو أبدًا يرفع حكم النفي، ويوجب نقيضه، وهو الإثبات. انتهى

(1)

.

(وَعِزَّةِ رَبِّنَا)؛ أي: وأقسم بعزّة الله سبحانه وتعالى.

قال في "الفتح": والحكمة في حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله تعالى في الدنيا بأن يُسحب على وجهه في القيامة؛ إظهارًا لهوانه، بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7061](2806)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4760) و"الرقاق"(6523)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(11367)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 229)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3046)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 356)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7323)، و (الطبريّ) في "التفسير"(19/ 12)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 402)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 343)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المصباح المنير" 1/ 62.

(2)

"الفتح" 15/ 29.

ص: 456

(15) - (بَابُ صَبْغِ أَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي النَّارِ، وَصَبْغِ أَشَدِّهِمْ بُؤْسًا فِي الْجَنَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7062](2807) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟، هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا والله يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا والله يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بكير، أبو عثمان البغداديّ، نَزَل الرَّقَّة، ثقةٌ، حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار البصريّ، أبو سلمة، ثقةٌ، عابدٌ، أثبت الناس في ثابت، وتغيَّر حفظه بأخرة، من كبار [8](ت 167)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

4 -

(ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ) -بضمّ الموحّدة، ونونين- ابن أسلم، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ عابدٌ [4] مات سنة بضع و (220) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه المذكور قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من حمّاد، وفيه حماد بن سلمة من أثبت الناس في ثابت،

ص: 457

وثابت ألزم الناس لأنس رضي الله عنه، لزمه أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه أخدم الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المكثرين السبعة، وآخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم بالبصرة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يُحضر (بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا) الباء للتعدية؛ أي: بأشدّهم تنعمًا، وأكثرهم ظلمًا؛ لقوله:(مِنْ أَهْلِ النَّارِ)"من" بيانية، والجارّ والمجرور في محل حال. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ظرف لـ "يؤتى"، (فَيُصْبَغُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُغمس (فِي النَّارِ صَبْغَةً) بالفتح؛ أي: غمسة؛ إطلاقًا للملزوم على اللازم، فإن الصبغ إنما يكون بالغمس غالبًا، وفي "النهاية"؛ أي: يُغمس في النار غمسة كما يُغمس الثوب في الصبغ، (ثُمَّ يُقَالُ) له:(يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا)؛ أي: نعمةً (قَطُّ؟)؛ أي: فيما مضى من زمانك، (هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟)؛ أي: في زمان من الأزمنة، وفي رواية عبد بن حميد:"فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط، أو قرة عين قط؟ فيقول: لا وعزتك"، وفي الكلام مبالغة لا تخفى، حيث أوقع الاستفهام على مجرد الرؤية، والمرور، دون الذوق، والتمتع، والسرور

(1)

. (فَيَقُولُ: لَا)؛ أي: ما رأيت قط (والله يَا رَبِّ) نفيٌ مؤكدٌ بالقسم، والنداء في الجواب؛ لِما أنْسَتْه شدّة العذاب ما مضى عليه من نعيم الدنيا، أو ما بعده من النعيم نظرًا إلى مآله، وسوء حاله، فأيّ نعيم آخره الجحيم، وأيّ شدّة مآلها الجنة، كما قال:(وَيُؤْتَى) بالبناء للمفعول أيضًا، (بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا) بضمّ الموحّدة؛ أي: شدةً، ومشقّةً، ومحنةً؛ لِمَا كان فيه من فاقة، وحاجة، وبليّة، وقال في "المشارق": قوله: "هل رأيت بؤسًا قط"، ينوّن، ولا ينوّن، والرواية بالتنوين. انتهى

(2)

. (فِي الدُّنْيَا)؛ أي: أوّلًا، (مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)؛ أي: مآلًا، (فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ)؛ أي: في أنهارها، أو الكوثر منها، (فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟، فَيَقُولُ: لَا والله يَا رَبِّ،

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 338.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 75.

ص: 458

مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ") وكأنه أطنب في الجواب؛ تلذذًا بالخطاب، وقَلَب الكلام للفرح التام، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هذا الحديث يحثّ على مراعاة العواقب، فإن التعب إذا أعقب الراحةَ هان، والراحة إذا أثمرت النصب، فليست راحة، فالعاقل من نظر في المآل، لا في عاجل الحال، وقد كشف هذا المعنى حديث أنس عز وجل الآتي عند مسلم

(2)

: "حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات"، وقد قالت الحكماء: لا تُنال الراحة بالراحة، وقيل: إن يَلْمَع برق لذّة، إلا وتقع صاعقة ندم. انتهى

(3)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7062](2857)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 87)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 203 و 253)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1313)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(6/ 231)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(16) - (بَابُ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَعْجِيلِ حَسَنَاتِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7063](2808) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً،

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 338.

(2)

"صحيح مسلم" 4/ 2174.

(3)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 872.

ص: 459

يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى) بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبله ببابين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً)؛ يعني: أنه لا ينقصه، ولا يمنعه ثوابها في الدار الآخرة والأولى

(1)

.

وقال النووي: معناه: لا يترك مجازاته بشيء من حسناته، والظلم يُطلق بمعنى النقص، وحقيقة الظلم مستحيلة من الله تعالى، كما سبق بيانه، ومعنى "أفضى إلى الآخرة": صار إليها، وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات، ثم أسلم، فإنه يثاب عليها في الآخرة، على المذهب الصحيح، وقد سبقت المسألة في "كتاب الإيمان". انتهى

(2)

.

وقال القاري: قال بعض الشرّاح: "إن الله لا يظلم مؤمنًا"؛ أي: لا يُضيع أجر حسنة المؤمن، ولا يخفى أنه حاصل المعنى، وأما بحسب التركيب والمعنى، فالظلم يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]، وفي "القاموس": ظلمه حقّه؛ أي: منعه إياه، فالحديث تفسير لِمَا في القرآن، وتبيين لِمَا فيه من نوعي جنس الإنسان، وبيان أن الله يجازي عباده المؤمن والكافر على النقير، والقطمير، والقليل، والكثير، من الخير والشرّ، إما في الدنيا، وإما في العقبى، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ

(1)

"المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 3/ 86.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 149 - 150.

ص: 460

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 8]، وقال عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [النساء: 40]، ولذا قال عمر رضي الله عنه:"لو كانت لي حسنة واحدة لكفتني" بناءً على المضاعفة المذكورة، والمثوبة العظيمة المسطورة. انتهى

(1)

.

(يُعْطَى) بالبناء للمفعول، (بِهَا)؛ أي: بسبب تلك الحسنة (فِي الدُّنْيَا)؛ أي: بحسنات الدنيا، من الأهل، والأموال، وغير ذلك.

وقال القاري: قوله: "يُعطى" بصيغة المجهول، استئناف بيانيّ؛ أي: يعطى المؤمن كل خير "بها"؛ أي: بسبب تلك الحسنة "في الدنيا" من رفع البلاء، وتوسعة الرزق، وغير ذلك من النَّعماء، وفي نسخة بصيغة الفاعل؛ أي: يعطي الله إياه بتلك الحسنة أجرًا في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة على بناء المفعول، أو الفاعل طبق ما قبله. انتهى

(2)

.

(وَيُجْزَى) بالبناء للمفعول أيضًا، (بِهَا فِي الآخِرَةِ) بأحسن ما عمله، كما قال عز وجل:{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16]. (وَأمّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ) ببناء الفعل للمفعول، قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فيُطعم بِحَسَنَاتِ" هكذا رواه الجماعة، ورواه ابن ماهان:"فيعطى بحساب"، وكلاهما صحيح المعنى، وتسمية ما يصدر عن الكافر حسنة إنما كان بحسب ظنّ الكافر، وإلا، فلا تصح منه قربة؛ لعدم شرطها الذي هو الإيمان، أو سميت حسنة؛ لأنها تُشبه صورة حسنة المؤمن ظاهرًا. ثمّ هل يعطى الكافر بحسناته في الدنيا، ولا بدّ بحكم هذا الوعد الصادق، أو ذلك مقيَّد بمشيئة الله المذكورة في قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18]، وهذا هو الصحيح، وأمّا المؤمن، فلا بدّ له من الجزاء الأخرويّ، كما قد عُلم من الشريعة. انتهى

(3)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "وأما الكافر فيُطْعَم " بصيغة المجهول لا غير؛ أي: يعطى، وفي العدول إشارة إلى أن مطمح نظر الكافر في العطاء إنما هو

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 9.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 9.

(3)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 3/ 86.

ص: 461

بطنه، والمعنى أنه يجزى بحسنات ما عمل بها لله؛ أي: من إطعام فقير، وإحسان ليتيم، وإغاثة ملهوف، ونحوها من طاعات، لا يشترط في صحتها الإسلام.

(مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا) ظرف ليطعم؛ أي: يجزى في الدنيا بحسناته، فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، (حَتَّى إِذَا أَفْضَى)؛ أي: وصل (إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ) بالتأنيث، وتُذَكَّر؛ أي: لم يبق، ولم يوجد (لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا") قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: لا يتخلّص من العذاب بسببها، وأمّا التخفيف عنه بسببها، فقد يكون على ما قرّرناه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 7063 و 7064 و 7065](2808)، و (البخاريّ) في "خلق أفعال العباد"(ص 56)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 123 و 125 و 283)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1178)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 231)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضل الله عز وجل، حيث لا يظلم أحدًا من حسناته التي عملها، فأما المؤمن فيجازيه بها في الدنيا، والآخرة، وأما الكافر فيعطى بها في الدنيا من التوسعة في الرزق، وتسهيل الأمور، ونحو ذلك.

2 -

(ومنها): ما قاله في "شرح السُّنَّة": معنى الحديث: أن المؤمن إذا اكتسب حسنة، يكافئه الله تعالى، بأن يوسّع عليه رزقه، ويرغد عيشه في الدنيا، وبأن يجزى، ويثاب في الآخرة، والكافر إذا اكتسب حسنة في الدنيا، بأن يفُكّ أسيرًا، أو يُنقذ غريقًا، يكافئه الله تعالى في الدنيا، ولا يجزى بها في الآخرة. انتهى.

(1)

"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" 3/ 86.

ص: 462

قال القاري: وحاصل ما قاله: أن الله يقابل عبده المؤمن بالفضل، والكافر بالعدل، ولا يُسأل عما يفعل، ولعل الحديث مقتبس من قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)} [الشورى: 20]. انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره لا ثواب له في الآخرة، ولا يجازى فيها بشيء من عمله في الدنيا، متقربًا إلى الله تعالى، وصرَّح في هذا الحديث بأن يُطْعَم في الدنيا بما عمله من الحسنات؛ أي: بما فعله متقربًا به إلى الله تعالى، مما لا يفتقر صحته إلى النية، كصلة الرحم، والصدقة، والعتق، والضيافة، وتسهيل الخيرات، ونحوها، وأما المؤمن فيُدَّخر له حسناته، وثواب أعماله إلى الآخرة، ويجزى بها مع ذلك أيضًا في الدنيا، ولا مانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة، وقد ورد الشرع به، فيجب اعتقاده. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7064] (

) - (حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً أُطعِمَ بِهَا طُعْمَةً مِنَ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَإِنَّ اللهَ يَدَّخِرُ لَهُ حَسَنَاتِهِ فِي الآخِرَةِ، وَيُعْقِبُهُ رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَاصِمُ بْنُ النَّضْرِ التَّيْمِيُّ) هو: عاصم بن النضر بن المنتشر الأحول، أبو عُمَر البصريّ، وقيل: هو عاصم بن محمد بن النضر، صدوقٌ [10](م د س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 26/ 1350.

2 -

(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) سليمان بن طرْخان التيميّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 10.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 150.

ص: 463

وقوله: (أُطْعِمَ بِهَا طُعْمَةً منَ الدُّنْيَا)؛ أي: أُعطي جزاءه من حسنات الدنيا؛ كطول العمر، والعافية، وسعة الرزق، وكثرة الأولاد.

وقوله: (وَيُعْقِبُة رِزْقًا فِي الدُّنْيَا عَلَى طَاعَتِهِ)؛ أي: جازاه الله عز وجل بطاعته ببسط رزقه، وسعة عيشه.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدّم البحث فيه مستوفًى في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7065] (

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) -براء مضمومة، ثم زاي ثقيلة- أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ يَهِم [10](ت 231)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الجهاد والسِّير" 27/ 4601.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(17) - (بَابُ مَثَلِ الْمُؤْمِنِ كَالزَّرْعِ، وَمَثَلِ الْكَافِرِ كشَجَرِ الأَرْزِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7066](2809) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الزَّرْعِ

(1)

، لَا تَزَالُ الرِّيحُ تُمِيلُهُ، وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ

(2)

كَمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ، لَا تَهْتَزُّ حَتَّى تَسْتَحْصِدَ").

(1)

وفي نسخة: "مثلُ الزرع".

(2)

وفي نسخة: "ومثل الكافر".

ص: 464

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى البصري السامي بالمهملة أبو محمد وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقة من الثامنة مات سنة تسع وثمانين (ع)، تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم قريبًا.

4 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم بن شهاب، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(سَعِيدُ) بن الْمُسيِّب المخزوميّ المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكره السيوطيّ في "ألفيّة الأثر" حيث قال:

وَلأَبِي هُرَيْرَةَ الزُّهْرِيُّ عَنْ

سَعِيدٍ أَوْ أَبُو الزِّنَادِ حَيْثُ عَنّ

عَنْ أَعْرَجِ وَقِيلَ حَمَّادٌ بِمَا

أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ نَمَى

وفيه روَاية تابعيّ عن تابعىّ، وفيه ابن المسيِّب أحد الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ)؛ أي: صفته، قيل: المراد: المؤمن الكامل، والأَولى إطلاقه. (كَمَثَلِ الزَّرْعِ) وفي نسخة:"مثلُ الزرع"، وفي حديث كعب الآتي:"كمثل الخامة: من الزرع" بالخاء المعجمة، وتخفيف الميم، وفي "النهاية": الحنامة: الغصنة اللينة من الزرع، وألفها منقلبة عن الواو، وقيل: الخامة: الغصنة الرطبة من النبات، لم يشتدّ بعدُ، وقيل: ما لها ساق واحد، وقال القاضي؛ أي: طاقة من الزرع، فهو صفة لخامة

(1)

. (لَا تَزَالُ الرِّيحُ) اللام للجنس، (تُمِيلُهُ) بضمّ أولى، من الإمالة، وضَبَطه القاري بالتشديد أيضًا، من التمييل؛ أي: تُميل الريح ذلك

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 5/ 265.

ص: 465

الزرع إلى جهة اليمين، أو الشمال. (وَلَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ يُصِيبُهُ الْبَلَاءُ) من أنواع المشقة، من الخوف، والجوع، والمرض، وغيرها. (وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ)؛ أي: الحقيقيّ، أو الحكميّ، (كمَثَلِ شَجَرَةِ الأَرْزِ) قال النوويّ رحمه الله: هي بفتح الهمزة، وراء ساكنة، ثم زاي، هذا هو المشهور في ضبطها، وهو المعروف في الروايات، وكُتُب الغريب، وذكر الجوهريّ، وصاحب "نهاية الغريب" أنها تقال أيضًا بفتح الراء، قال في "النهاية": وقال بعضهم: هي الآرزة بالمدّ، وكسر الراء، على وزن فاعلة، وأنكرها أبو عبيد، وقد قال أهل اللغة: الآرزة بالمدّ هي الثابتة، وهذا المعنى صحيح هنا، فإنكار أبي عبيد محمول على إنكار روايتها كذلك، لا إنكار لصحة معناها، قال أهل اللغة، والغريب: شجر معروف، يقال له: الأرزن، يشبه شجر الصنوبر، بفتح الصاد، يكون بالشام، وبلاد الأرمن، وقيل: هو الصنوبر. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله "كالأرزة" بفتح الهمزة، وقيل: بكسرها، وسكون الراء، بعدها زاي، كذا للأكثر، وقال أبو عبيدة: هو بوزن فاعلة، وهي الثابتة في الأرض، وردّه أبو عبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المدّ، وإنما اختلفوا في سكون الراء، وتحريكها، والأكثر على السكون، وقال أبو حنيفة الدِّينَوَريّ: الراء ساكنة، وليس هو من نبات أرض العرب، ولا ينبت في السباخ، بل يطول طولًا شديدًا، ويغلُظ، قال: وأخبرني الخبير أنه ذَكَرُ الصنوبر، وأنه لا يَحمل شيئًا، وإنما يُستخرج من أعجازه وعروقه الزفت، وقال ابن سِيدَه: الأرز: الْعَرْعَر، وقيل: شجر بالشام، يقال لثمره: الصنوبر، وقال الخطابيّ: الأرزة مفتوحة الراء، واحدة الأرز، وهو شجر الصنوبر فيما يقال، وقال القزاز: قاله قوم بالتحريك، وقالوا: هو شجر معتدل صَلْبٌ، لا يحركه هبوب الريح، ويقال له: الأرزن. انتهى

(2)

.

وقال في "القاموس": الأرزن، ويُضم: شجر الصنوبر؛ كالأرزة، أو العرعر، وبالتحريك: شجر الأرزن، وهو شجر صلب. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 152 - 153.

(2)

"الفتح" 13/ 11.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 5/ 265.

ص: 466

(لَا تَهْتَزُّ)؛ أي: لا تتحرّك تلك الشجرة بتحريك الرياح بل ثابتة دائمًا، (حَتَّى تَسْتَحْصِدَ") بفتح أوله، مبنيًّا للفاعل؛ أي: إلى أن يأتي وقت حَصادها، وقطعها، وهذا الضبط هو الموافق لِمَا في كتب اللغة، وأما ضبط القاري

(1)

بالبناء للمفعول، فمخالف لِمَا في كتبهم، ولأن "استحصد" لازم غير متعدّ، فلا يُبنى للمفعول، قال الفيّوميّ رحمه الله: أحصد الزرعُ بالألف، واستَحْصَدَ: إذا حان حَصادَهُ، فهو مُحْصِدٌ، ومُستحْصِدٌ بالكسر، اسم فاعل. انتهى

(2)

، ونحوه عبارة "القاموس".

وقال النوويّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تستحصد" بفتح أوله، وكسرالصاد، كذا ضبطناه، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وعن بعضهم بضم أوله، وفتح الصاد، على ما لم يُسَمَّ فاعله، والأول أجود؛ أي: لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة؛ كالزرع الذى انتهى يُبْسه. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد علمت أن الضبط الثاني غير صحيح؛ لأن "استحصد" فعلٌ لازم، لا يُبنى للمفعول، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 7066 و 7067](2809)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5644) و"التوحيد"(7466)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(287)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7480)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 234 و 283 - 284 و 523)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 163)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(2915)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 143)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1437)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

أي: في "المرقاة"، ونحوه للشيخ الهرريّ، راجع: شرحه 25/ 434.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 138.

(3)

"شرح النوويّ" 17151 - 152.

ص: 467

1 -

(منها): بيان استحباب استعمال التشبيه في التعليم لمزيد الإيضاح.

2 -

(ومنها): بيان شرف المؤمن عند الله عز وجل، حيث جعل له أنواع البلاء مطهّرة لذنوبه، حتى يأتي يوم القيامة نقيًّا من الذنوب.

3 -

(ومنها): بيان هوان المنافق على الله تعالى، حيث إنه يعافى، ويمتّع، ولا يناله كثير من مصائب الدنيا حتى يوافي يوم القيامة كامل الأوزار.

4 -

(ومنها): ما قاله الطيبيّ رحمه الله: هذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقًا، فيقدَّر للمشبَّه مَعانٍ مقابلة للمشبه به، وأن يكون تمثيليًّا، فيتوهّم للمشبّه ما للمشبّه به، وأن يكون قولًا بأن تؤخذ الزبدة من المجموع.

قال: وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات، والشهوات، معروضة للحوادث والمصيبات، مخلوقةً للآخرة؛ لأنها جنته، ودار خلوده وثباته.

قال: وقوله: "حتى تستحصد": الحصاد إنما يُستعمل في الزرع والكلأ، واستعماله في الشجر إما استعارة لفظيّة؛ كالْمِشفر للشفة، أو معنويّة، شُبّه قلع شجر الصنوبر، أو الأرزن في سُهولته بحصاد الزرع، فدلّ على سوء خاتمة الكافر. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7067] (

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ مَكَانَ قَوْلِهِ: "تُمِيلُهُ": "تُفِيئُهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2866)

- حدّثنا الحسن بن عليّ الخلال، وغير واحد، قالوا: حدّثنا

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1340 - 1341.

ص: 468

عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن كمثل الزرع، لا تزال الرياح تفيئه، ولا يزال المؤمن يصيبه بلاء، ومثل المنافق مثل الشجرة الأرز، لا تهتزّ حتى تَسْتَحْصِد"، قال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7068](2810) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّد بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنِي ابْنُ كعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، وَتَصْرَعُهَا مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا، لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر قبل حديث.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبْديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

4 -

(زَكَرِيَّاءُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ) خالد، ويقال: هُبيرة بن ميمون بن فَيْروز الْهَمْدانيّ الوادعيّ، أبو يحيى الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يدلِّس [6](ت 7 أو 8 أو 149)(ع) تقدم في "الإيمان" 83/ 449.

5 -

(سَعْدُ بْن إِبْرَاهِيمَ) بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ قاضيها، ثقةٌ فاضلٌ، عابدٌ [5] (ت 125) وقيل: بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

6 -

(ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) هو: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْب بْنِ مَالِكٍ، الأنصاريّ،

أبو الخطاب المدنيّ، ثقةُ، من كبار التابعين، ويقال: وُلَد في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم[2]

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 150.

ص: 469

مات في خلافة سليمان بن عبد الملك (ع) تقدم في "الأطعمة" 6/ 5285.

[تنبيه]: كون ابن كعب بن مالك المبهم هنا هو عبد الرحمن هو الذي صرّح به في رواية الثوريّ من طريق بشر بن السريّ، وعبد الرحمن بن مهديّ المذكورة بعد هذا، ووقع في رواية بشر بن السريّ وحده عن الثوريّ التي تليها أنه عبد الله بن كعب بن مالك أخوه، وهو الذي عند البخاريّ من طريق يحيى القطّان عن الثوريّ، ثم علّق البخاريّ بعده، فقال: وقال زكريّا: حدّثني سعد، حدّثني ابن كعب، عن أبيه كعب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأبهمه مثل رواية مسلم هذه.

قال الحافظ رحمه الله في "الفتح": قوله: حدّثني ابن كعب، يريد أنه مغاير لرواية سفيان، عن سعد في شيئين: أحدهما إبهامه اسم ابن كعب، والثاني تصريحه بالتحديث، فيستفاد من رواية سفيان تسميته، ومن رواية زكريا التصريح باتصاله، وقد وقع في رواية لمسلم عند سفيان تسميته عبد الرحمن بن كعب، ولعل هذا هو السرّ في إبهامه في رواية زكريا، ويستفاد من صنيع مسلم في تخريج الروايتين عن سفيان أن الاختلاف إذا دار على ثقة لا يضرّ. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة المسألة أن الحديث ثابت عن الأخوين: عبد الرحمن، وعبد الله ابني كعب بن مالك عن أبيهما، فتفسير قوله: حدّثني ابن كعب بن مالك بأحدهما صحيح؛ لثبوته عنهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

7 -

(أَبُوهُ كَعْبُ) بن أبي كعب الأنصاريّ السَّلَمىّ -بالفتح- المدنيّ الصحابي المشهور، وهو أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا، وقد سبق قريبًا حديث توبته وصاحبيه مطوّلًا، مات في خلافة عليّ رضي الله عنهما، (ع) تقدّمت ترجمته في "صلاة المسافرين وقصرها" 13/ 1659.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالكوفيين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

(1)

"الفتح" 13/ 12.

ص: 470

شرح الحديث:

عن (كَعْب) بن مالك رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ) بالخاء المعجمة، وتخفيف الميم: هي الطاقة الطرية اللينة، أو الغَضّة، أو القضبة، قال الخليل: الخامة: الزرع أول ما ينبت على ساق واحد، والألف منها منقلبة عن واو، ونقل ابن التين عن القزاز، أنه ذكرها بالمهملة، والفاء، وفسَّرها بالطاقة من الزرع، ووقع عند أحمد في حديث جابر:"مَثَل المؤمن مَثَل السُّنبلة، تستقيم مرّةً، وتخرّ أخرى"، وله في حديث لأُبيّ بن كعب:"مَثَل المؤمن مَثَل الخامة تحمرّ مرةً، وتصفرّ أخرى".

(تُفِيئُهَا الرِّيحُ) بفاء، وتحتانية، مهموزًا: كتُميلها وزنًا ومعنًى، ونقل ابن التين عن أبي عبد الملك أن معنى تُفيئها: ترقدها، وتعقبه بأنه ليس في اللغة فاء: إذا رقد، قال الحافظ: لعله تفسير معنى؛ لأن الرقود رجوع عن القيام، و"فاء" يجيء بمعنى رجع.

(وَتَصْرَعُهَا مَرَّةً)؛ أي: تخفضها (وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى) بفتح أوله، وسكون العين المهملة، وكسر الدال، وبضم أوله أيضًا، وفتح ثانيه، والتشديد، من التعديل، ووقع عند مسلم: تفيئها الريح تصرعها مرة وتعدلها أخرى، وكأن ذلك باختلاف حال الريح: فإن كانت شديدة حرّكتها فمالت يمينًا وشمالًا حتى تقارب السقوط، وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقرب أقامتها. ووقع في رواية زكريا عند مسلم: حتى تهيج، ولأحمد من حديث جابر مثله.

(حَتَّى تَهِيجَ)؛ أي: تَيْبَس، قاله النوويّ، وقال في "الفتح"؛ أي: تستوي، ويكمل نضجها.

(وَمَثَلُ الْكَافِرِ) وفي روا ية "المنافق"، وفي أخرى:"الفاجر"، (كمَثَلِ الأَرْزَةِ) تقدّم الاختلاف في ضبطها، ومعناها في الحديث الماضي، وقوله:(الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا) بضم الميم، وسكون الجيم، وكسر الذال المعجمة، ونصب الياء باثنتين تحتها؛ أي: المنتصبة الثابتة، يقال منه: جذى، وأجذى: إذا انتصب، واستقام، قاله القاضي عياض

(1)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 143.

ص: 471

وقال في "اللسان"

(1)

: قال الأزهريّ: الإجذاء في هذا الحديث لازم، يقال: أجذى الشيءُ يُجذي، وجذا يجذو جَذْوًا: إذا انتصب، واستقام، واجْذَوْذَى اجذيذاء مثله، والْمُجْذَوْذِي الذي يلازم الرحل والمنزل، لا يفارقه، وأنشد لأبي الغريب النصريّ:

أَلَسْتَ بِمجْذُوذٍ عَلَى الرَّحْلِ دَائِبٍ

فَمَا لَكَ إِلَّا مَا رُزِقْتَ نَصِيبُ

(لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ) قال النوويّ: وأما "تميلها"، و"تفيئها" فمعنى واحد، ومعناه: تقلبها الريح يمينًا وشمالًا

(2)

. (حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا) بجيم، وعين مهملة، ثم فاء؛ أي: انقلاعها، تقول: جعفته فانجعف، مثل قَلَعته فانقلع، ونقل ابن التين عن الداوديّ أن معناه: انكسارها من وسطها، أو أسفلها. (مَرَّةً وَاحِدَةً") قال النوويّ: قال العلماء: معنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه، أو أهله، أو ماله، وذلك مكفِّر لسيئاته، ورافع لدرجاته، وأما الكافر فقليلها، وإن وقع به شيء لم يكفِّر شيئًا من سيئاته، بل يأتي بها يوم القيامة كاملة. انتهى

(3)

.

وقال المهلَّب: معنى الحديث: أن المؤمن حيث جاءه أمر الله انطاع له، فإن وقع له خير فَرِح به وشَكَر، وإن وقع له مكروه صبر، ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكرًا، والكافر لا يتفقده الله باختياره، بل يحصل له التيسير في الدنيا؛ ليتعسر عليه الحال في المعاد، حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمه، فيكون موته أشدّ عذابًا عليه، وأكثر أَلَمًا في خروج نفسه.

وقال غيره: المعنى: أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه؛ لِضَعف حظه من الدنيا، فهو كأوائل الزرع شديد الميلان؛ لِضَعف ساقه، والكافر بخلاف ذلك، وهذا في الغالب من حال الاثنين

(4)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث كعب بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"لسان العرب" 14/ 137.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 151.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 151.

(4)

"الفتح" 13/ 11 - 12، "كتاب المرضى" رقم (5643).

ص: 472

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 7068 و 7069 و 7070 و 7071](2810)، و (البخاريّ) في "المرضى"(5643)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(7479)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 89)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 386)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(373)، و (الدارميّ" في "سننه" (2/ 400)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 436)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 436)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(3/ 173)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(7/ 143)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7069] (

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْب بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ

(1)

مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيَاحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا، حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ الَّتِي لَا يُصِيبُهَا شَيْءٌ

(2)

، حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ) أبو عمرو الأفوه البصريّ، سكن مكة، وكان واعظًا، ثقةً متقنًا طُعن فيه برأي جهم، ثم اعتذر، وتاب [9](ت 5 أو 196) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ) بن حسان الْعَنْبَريّ مولاهم، أبو سعيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حافظٌ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المدينيّ: ما رأيت أعلم منه [9](198) وهو ابن ثلاث وسبعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 388.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد بن مسروق الثورىّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ

(1)

وفي نسخة: "مثلُ الخامة".

(2)

وفي نسخة: "لا يفيئها شيء".

ص: 473

حافظٌ فقيهٌ عابدٌ إمامٌ حجةٌ، ربّما دلّس، من رؤوس الطبقة [7](ت 161) وله أربع وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7070] (

) - (وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، قَالَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، غَيْرَ أَنَّ مَحْمُودًا قَالَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بِشْرٍ: "وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأَرْزَةِ"، وَأَمَّا ابْنُ حَاتِمٍ، فَقَالَ: "مَثَلُ الْمُنَافِقِ"، كمَا قَالَ زُهَيْرٌ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ السَّمِين، صدوقٌ رُبّما وَهِم، وكان فاضلًا [10](ت 5 أو 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) الْعَدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10] (ت 239) وقيل: بعد ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) الأنصاريّ المدنيّ، أخو عبد الرحمن، ثقةٌ، يقال: له رؤية [2] مات سنة سبع، أو ثمان وتسعين (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 64/ 360.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن سعد بن إبراهيم ساقها الدارميّ

(1)

، فقال:(2749) حدثنا محمد بن يوسف

(2)

، ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

لكنها ليست عن شَيْخَي مسلم، فليُتنبّه.

(2)

هو: الفريابيّ.

ص: 474

"مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تَعْدِلها مرةً، وتضجعها أخرى، حتى يأتيه الموت، ومثل الكافر كمثل الأرزة الْمُجْذِية على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرةً واحدةً"، قال أبو محمد

(1)

: الخامة: الضعيف. انتهى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7071] (

) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ ابْنُ هَاشِمٍ: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَقَالَ ابْنُ بَشَّارٍ: عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَقَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا، عَنْ يَحْيَى: "وَمَثَلُ الْكَافِرِ مَثَلُ الأَرْزَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْن هَاشِمِ) بن حَيّان -بتحتانية- الْعَبْديّ، أبو عبد الرحمن الطُّوسيّ، سكن نيسابور، ثقةٌ صاحب حديث، من صغار [10] مات سنة بضع وخمسين ومائتين (م) من أفراد المصنّف تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

3 -

(يَحْيَى الْقَطَّانُ) تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ)؛ يعني: أن محمد بن بشّار، وعبد الله بن هاشم رويا هذا الحديث عن يحيى القطان، عن سفيان الثوريّ بنحو ما حدّث به زهير بن حرب، ومحمد بن حاتم، ومحمود بن غيلان، الأول عن بشر بن السريّ، وعبد الرحمن بن مهديّ كلاهما عن سفيان، والآخران عن بشر، عن سفيان.

وقوله: (وَقَالَا جَمِيعًا فِي حَدِيثِهِمَا، عَنْ يَحْيَى)؛ أي: قال محمد بن حاتم، ومحمود كلاهما عن يحيى القطّان.

(1)

هو: الدارميّ، صاحب "السنن".

ص: 475

[تنبيه]: رواية يحيى القطان عن سفيان هذه ساقها الطبرانيّ في "الكبير"، فقال:

(183)

- وحدّثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان الثوريّ، حدّثني سعد بن إبراهيم، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع، تفيئها الرياح، تعدلها مرةً، وتصرعها أخرى، ومثل الكافر مثل الأرزة المجذية على أصلها، حتى يكون انجعافها مرةً واحدةً". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابٌ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7072](2811) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ -وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى- قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ- أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً، لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُوني مَا هِيَ؟ "، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: فَقَالَ: "هِيَ النَّخْلَةُ"، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ، قَالَ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِيَ النَّخْلَةُ، أَحَبٌّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكرياء البغداديّ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل ستّة أبواب.

(1)

"المعجم الكبير" 19/ 94.

ص: 476

3 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ، حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرِ) بن أبي كثير الأنصاريّ الزُّرَقيّ، أبو إسحاق القارئ المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ دِينَارٍ) الْعَدويّ مولاهم، أبو عبد الرحمن المدنيّ، مولى ابن عمر، ثقةٌ [4](ت 227)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطاب رضي الله عنها، تقدّم قبل خمسة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (430) من رباعيّات الكتاب، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة التحمّل والأداء منه ومنهم، كما أسلفناه غير مرّة، وفيه قوله:"يعنون ابن جعفر"، ولم يقل: إسماعيل بن جعفر؛ لأن شيوخه لم ينسبوه إلى أبيه، وأراد هو أن ينسبه إيضاحًا للآخذين عنه، فزاد كلمة "يعني" فصلًا بين ما رواه عن شيوخه، وبين ما زاده هو، وإلى هذا أشار السيوطيّ رحمه الله في "ألفيّة الأثر" حيث قال:

وَلَا تَزِدْ فِي نَسَبٍ أَوْ وَصْفِ مَنْ

فَوْقَ شُيُوخٍ عَنْهُمُ مَا لَمْ يُبَنْ

بَنَحْوِ "يَعْنِي" وَبِـ "أَنَّ" وَبِـ "هُو"

.............................

وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، وأبرز من عُرف باتباع الآثار.

شرح الحديث:

عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ؛ (أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةَ) زاد في رواية مجاهد الآتية: "قال: صَحِبت ابنَ عمر إلى المدينة، فما سمعته يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ

"، وفي رواية للبخاريّ: "كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يأكل جُمّارًا

".

ص: 477

وانتصاب "شجرةً" على أنه اسم "إنّ" مؤخّرًا، وخبرها:"من الشجرة".

قال في "العمدة": وقوله: "إن من الشجر شجرةً" مُخَرّج على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن المخاطَبين فيه كانوا مستشرفين، كاستشراف الطالب المتردد، فلذلك حَسُن تأكيده بـ "أنّ"، وصَوْغه بالجملة الاسمية. انتهى

(1)

.

[فائدة]: قال المجد رحمه الله: الشَّجَرُ، والشِّجَرُ، والشَّجْراءُ؛ كجَبَلٍ، وعِنَبٍ، وصَحْراءَ، والشِّيَرُ بالياءِ، كعِنَبٍ، من النباتِ: ما قامَ على ساقٍ، أو ما سَما بنَفْسِه، دَقَّ، أو جَلَّ، قاوَمَ الشِّتاءَ، أو عَجَزَ عنه، الواحِدةُ: بِهاءٍ. انتهى

(2)

.

وقال الصغانيّ في "العباب": الشجر، والشجرة: ما كان على ساق من نبات الأرض، وقال الدِّينوريّ: من العرب من يقول: شَجَرةٌ، وشِجَرة، فيكسر الشين، ويفتح الجيم، وهي لغة لبني سليم، وأرض شجراء كثيرة الأشجار، ولا يقال: وادٍ شجر، وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت على هذا المثال إلا أحرف يسيرة، وهي شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء، وقال سيبوبه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء، والطرفاء، والحلفاء، وقال الزمخشريّ: الشِّجرة بكسر الشين، والشِّيَرة بكسر الشين، وبالياء، وعن أبي عمرو أنه كرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة، وسودانها. انتهى

(3)

.

وقوله: (لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا) صفة سلبية تبيّن أن موصوفها مختص بها دون غيره، (وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ) بكسر ميم "مثل" وإسكان الثاء، أو بفتحتين، قال في "الفتح": كذا في رواية أبي ذر بكسر ميم "مثل"، وإسكان المثلثة، وفي رواية الأصيليّ، وكريمة بفتحهما، وهما بمعنًى، قال الجوهريّ: مِثْلُه، ومَثَله: كلمة تسوية، كما يقال: شِبْهه وشَبَهه بمعنًى، قال: والْمَثَل بالتحريك أيضًا: ما يُضرب من الأمثال. انتهى.

ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق: ما رواه الحارث بن أبي أُسامة في هذا الحديث، من وجه آخر، عن ابن عمر، ولفظه:

(1)

"عمدة القاري" 2/ 14.

(2)

"القاموس المحيط" ص 530.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 13 - 14.

ص: 478

"قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: إن مثل المؤمن كمثل شجرة، لا تسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ قالوا: لا، قال: هى النخلة، لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة".

ووقع عند البخاريّ في "الأطعمة" من طريق الأعمش، قال: حدّثني مجاهد، عن ابن عمر:"قال: بينا نحن عند النبيّ صلى الله عليه وسلم إذ أُتي بجمّار، فقال: إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم"، وهذا أعمّ من الذي قبله، وبَرَكة النخلة موجودة في جميع أجزائها، مستمرّة في جميع أحوالها، فمن حين تطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك يُنتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب، والليف في الحبال، وغير ذلك، مما لا يخفى، وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمرّ له ولغيره، حتى بعد موته. (فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ ")؛ أيّ شيء هذه الشجرة؟، قال ابن عمر:(فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي) قال النوويّ رحمه الله: وقع في بعض النسخ: "البوادي"، وفي بعضها:"البواد" بحذف الياء، وهي لغة. انتهى.

والمعنى: ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كلّ منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذَهِلوا عن النخلة، يقال: وقع الطائر على الشجرة: إذا نزل عليها. (قَالَ عَبْدُ اللهِ) بن عمر رضي الله عنهما (وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا)؛ أي: الشجرة المسؤول عنها، (النَّخْلَةُ) بيَّن أبو عوانة في "صحيحه" من طريق مجاهد، عن ابن عمر وجه ذلك، قال:"فظننت أنها النخلة، من أجل الْجُمّار الذي أُتى به"، وفيه إشارة إلى أن الْمُلْغَزَ له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن الْمُلْغِز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية، بحيث لا يجعل للمُلْغَز له بابًا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه

(1)

. (فَاسْتَحْيَيْتُ) زاد في رواية مجاهد التالية: "قال ابن عمر: وأُلقي في نفسي، أو رُوعي أنها النخلة، فجعلت أريد أن أقولها، فإذا أسنان القوم، فأهاب أن أتكلّم"، وفي رواية نافع الأخيرة: "قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ

(1)

"الفتح" 1/ 260 - 261، "كتاب العلم" رقم (61).

ص: 479

قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا"، وفي رواية عند البخاريّ: "فإذا أنا عاشر عشرة، أنا أحْدَثُهم"، وفي رواية له: "قال عبد الله: فحدّثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتَها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا"، زاد ابن حبان في "صحيحه": "أحسبه قال: حُمْر النَّعَم"

(1)

.

(ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا) قال في "العمدة": هذا صورته صورة أمر، ولكن المراد منه الطلب، والسؤال، وقد عُلِم أن الأمر إذا كان بالعلوّ والاستعلاء يكون حقيقةً في بابه، وإذا كان لمساويه يكون التماسًا، وإذا كان لأعلى منه يكون طلبًا وسؤالًا، فافهم. انتهى

(2)

.

(مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) ابن عمر: (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("هِيَ النَّخْلَةُ"، قَالَ) ابن عمر: (فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه، (قَالَ) عمر (لأَنْ تَكُونَ) بفتح اللام (قُلْتَ: هِيَ النَّخْلَةُ، أَحَبّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكذَا) تقدّم أن ابن حبان زاد في "صحيحه":"أحسبه قال: حُمْر النعم"؛ وإنما أحبّ عمر ذلك؛ لأنه لو تكلّم بذلك ابنه لظهر ذكاؤه، ووقع جوابه موقع الثناء من النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، ولدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه لا مانع من أن يتمنّى الوالد لولده ما يوجب الثناء له من الكبار، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7072 و 7073 و 7074 و 7075 و 7076](2811)، و (البخاريّ) في "العلم"(61 و 62 و 72 و 131) و"البيوع"(2209) و"التفسير"(4698) و"الأطعمة"(5444) و"الأدب"(6122 و 6144 و 5448)، و (الترمذيّ) في "الأمثال"(2867)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 371)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 31 و 61 و 157)، و (الحميديّ) في "مسنده"(677)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(243 و 246)، و (عبد بن حميد) في

(1)

"الفتح" 1/ 260 - 261.

(2)

"عمدة القاري" 2/- 14.

ص: 480

"مسنده"(1/ 253)، و (ابن منده) في "الإيمان"(187 و 188 و 190)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(143)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): مشروعيّة امتحان العالم أذهان الطلبة بما يخفى، مع بيانه لهم إن لم يفهموه، وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه نَهَى عن الأغلوطات": قال الأوزاعيّ أحد رواته: هي صعاب المسائل، فإن ذلك محمول على ما لا نَفْع فيه، أو ما خرج على سبيل تعنّت المسؤول، أو تعجيزه.

2 -

(ومنها): التحريض على الفهم في العلم، وقد بوّب عليه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" فقال:"باب الفهم في العلم".

3 -

(ومنها): أن فيه استحبابَ الحياء ما لم يؤدّ إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر رضي الله عنه أن يكون ابنه لم يسكت، وقد بوَّب عليه البخاريّ أيضًا في "العلم"، وفي "الأدب".

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على بركة النخلة، وما تثمره، وقد بوَّب عليه البخاريّ أيضًا.

5 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على أن بيع الْجُمّار جائز؛ لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوّب عليه البخاريّ في "البيوع"، وتعقبه ابن بطال؛ لكونه من المجمَع عليه، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه؛ لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فكأنه يقول: لعل متخيلًا يتخيل أن هذا من ذاك، وليس كذلك.

6 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على جواز تجمير النخل، وقد بوَّب عليه البخاريّ في "الأطعمة"؛ لئلا يُظَنّ أن ذلك من باب إضاعة المال، وأورده في تفسير قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] إشارةً منه إلى أن المراد بالشجرة: النخلة، وقد ورد صريحًا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر هذه الآية، فقال:"أتدرون ما هي؟ " قال ابن عمر: لم يَخْفَ عليّ أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكانُ سني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هي النخلة".

ص: 481

وُيجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم أُتِي بالْجُمّار، فشرع في أكله تاليًا للآية، قائلًا: "إن من الشجر شجرة

" إلى آخره، ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "من يخبرني عن شجرة مَثَلها مثل المؤمن، أصلها ثابت، وفرعها في السماء

" فذكر الحديث، وهو يؤيد رواية البزار.

قال القرطبيّ: فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح، مستطاب، وأنه لا يزال مستورًا بدينه، وأنه يُنتفَع بكل ما يصدر عنه حيًّا وميتًا. انتهى.

وقال غيره: والمراد بكون فرع المؤمن في السماء: رَفْع عمله، وقبوله.

وروى البزار أيضًا من طريق سفيان بن حسين، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل النخلة، ما أتاك منها نفعك"، هكذا أورده مختصرًا، وإسناده صحيح، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة.

وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قُطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تُلَقَّح، أو لأنها تموت إذا غَرِقت، أو لأن لِطَلعها رائحة مَنِيّ الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة؛ لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين، لا يختص بالمسلم، وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خُلقت من فضلة طين آدم، فإن الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم.

7 -

(ومنها): أن فيه ضربَ الأمثال والأشباه؛ لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني؛ لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة.

8 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات، ولا يعادله.

9 -

(ومنها): أن فيه توقيرَ الكبير، وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه، وإن ظنّ أنه الصواب.

ص: 482

10 -

(ومنها): أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه؛ لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء.

11 -

(ومنها): أنه استَدَلّ به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير، لا يقدح فيها، إذا كان أصلها لله، وذلك مستفاد من تمنّي عمر رضي الله عنه المذكور، ووجه تمنّي عمر رضي الله عنه ما طُبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه، ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبيّ صلى الله عليه وسلم حظوةً، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم.

12 -

(ومنها): أن فيه الإشارةَ إلى حقارة الدنيا في عين عمر رضي الله عنه؛ لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحُمْر النَّعَم، مع عِظَم مقدارها، وغلاء ثمنها.

[فائدة]: قال البزار في "مسنده": ولم يرو هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولمّا ذكره الترمذيّ قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة رضي الله عنه، أورده عبد بن حميد في "تفسيره"، لفظُهُ:"مثل المؤمن مثل النخلة"، وعند الترمذيّ أيضًا، والنسائيّ، وابن حبان، من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة"، قال: هي النخلة، تفرَّد برفعه حماد بن سلمة، وقد تقدّم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشر عشرة، فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه، أن منهم أبا بكر، وعمر، وابن عمر، وأبا هريرة، وأنس بن مالك، إن كانا سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس، ذكر هذا الحافظ رحمه الله في "الفتح"

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيس، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7073] (

) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الخَلِيلِ الضُّبَعِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا لأَصْحَابِهِ: "أَخْبِرُونِي عَنْ شَجَرَةٍ، مَثَلُهَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِ"، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَذْكُرُونَ شَجَرًا مِنْ شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي، أَوْ

(1)

"الفتح" 1/ 261 - 263، "كتاب العلم" رقم (61).

ص: 483

رُوعِي، أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَجَعَلْتُ أُرِيدُ أَنْ أَقُولَهَا، فَإِذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ، فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، فَلَمَّا سَكَتُوا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ النَّخْلَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْن عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب -بكسر الحاء، وتخفيف السين المهملتين- البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: قوله: "الغُبَريّ" -بضم الغين المعجمة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة-: نسبة إلى غُبَر بن غنم بن حُبَيِّب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، بطن من يشكر، قاله في "اللباب"

(1)

.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ) بن درهم الأزديّ الْجَهْضميّ، أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ، من كبار [8](ت 179) وله إحدى وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

3 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتِيانيّ، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ حجةٌ، من كبار الفقهاء العُبّاد [5](ت 131) وله خمس وستون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 305.

4 -

(أَبُو الْخَلِيلِ الضُّبَعِيُّ) صالح بن أبي مريم الضُّبَعيّ مولاهم البصريّ، وثّقه، ابن معين، وأبو داود، والنسائيّ، وأغرب ابن عبد البرّ، فقال: لا يُحتج به [6](ع) تقدم في "الرضاع" 5/ 3591.

[تنبيه]: قوله: "الضُّبَعيّ" بضمّ الضاد المعجمة، وفتح الموحّدة، آخره عين مهملة: نسبة إلى ضُبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل، نزلوا البصرة، قاله في "اللباب"

(2)

.

5 -

(مُجَاهِدُ) بن جَبْر، أبو الحجاج المخزوميّ المكيّ الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 374.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 260.

ص: 484

و"ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

وقوله: (وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِي، أَوْ رُوعِي) بضمّ الراء، وهو النفس، والقلب، والْخَلَد، و"أو" هنا للشكّ من الراوي، مجاهد، أو من دونه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (فَإذَا أَسْنَانُ الْقَوْمِ)؛ يعني: كبارهم، وشيوخهم.

وقوله: (فَأَهَابُ أَنْ أَتَكَلَّمَ)؛ أي: أخاف من أن أتقدّمٍ بالكلام أمام كبار القوم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7074] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ) هو: عبد الله بن أبي نَجِيح يسار المكيّ، أبو يسار الثقفيّ مولاهم، ثقةٌ رُمي بالقدر، وربّما دلس [6](ت 131) أو بعدها (ع) تقدم في "الجنائز" 6/ 2134.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ) اللام فيها للعهد؛ أي: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر مبتدأ الصحبة قال الكرمانيّ: والظاهر أنه من مكة

(1)

.

وقوله: (إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا) قال في "الفتح": فيه ما كان بعض الصحابة

(1)

"عمدة القاري" 2/ 54.

ص: 485

عليا، من توقي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة؛ خشيةَ الزيادة والنقصان، وهذه كانت طريقة ابن عمر، ووالده عمر رضي الله عنهما، وجماعة، وإنما كثرت أحاديث ابن عمر مع ذلك؛ لكثرة من كان يسأله، ويستفتيه. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": فيه دلالة على أن ابن عمر رضي الله عنهما كان متوقيًا للحديث، وقد كان على قول أبيه:"أقلّوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قاله ابن بطال، وقال الشيخ قطب الدين: قد يكون تَرْكه لغير هذا الوجه، إما لعدم نشاطه؛ للاشتغال بمؤونة السفر وتعبه، أو لعدم السؤال، قال العينيّ: يمكن التوفيق بينهما بأنه كان يتوقى الحديث ما لم يُسأل، فإذا سئل أجاب، وأكثر الجواب عند كثرة السؤال، فإنه كان من المكثرين في الحديث. انتهى

(2)

.

وقوله: (فَأُتِيَ) بالبناء للمفعول، (بِجُمَّارٍ) -بضم الجيم، وتشديد الميم-، وهو الذي يؤكل من قلب النخل يكون لَيّنًا، قاله النوويّ

(3)

.

وقال في "العمدة": قوله: "بجمار" بضم الجيم، وتشديد الميم، وهو شحم النخيل، وهو الذي يؤكل منه، وفي "العباب": ويقال له: الجامور أيضًا. انتهي

(4)

.

وقوله: (فَذَكرَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمَا) فاعل "ذَكَرَ" ضمير ابن أبي نَجِيح.

وقوله: (حديثهما) هكذا النُّسخ بضمير التثنية، والظاهر أنه "حديث" بالإفراد؛ لأنه يرجع إلى أبي الخليل الضبعيّ؛ أي: حدّث ابن أبي نجيح عن مجاهد بنحو حديث أبي الخليل عنه في السند الماضي.

[تنبيه]: رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(72)

- حدّثنا عليّ

(5)

، حدّثنا سفيان، قال: قال لي ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة، فلم أسمعه يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثًا واحدًا، قال: كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأُتي بِجُمَّار، فقال:

(1)

"الفتح" 1/ 291 رقم (72).

(2)

"عمدة القاري" 2/ 54.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 155.

(4)

"عمدة القاري" 2/ 54.

(5)

هو: ابن المدينيّ، وسفيان هو: ابن عيينة.

ص: 486

"إن من الشجر شجرةً، مَثَلُها كمَثَل المسلم"، فأردت أن أقول: هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم، فسكتُّ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"هي النخلة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7075] (

) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِجُمَّارٍ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير الْهَمْدانيّ الكوفي، تقدّم قبل خمسة أبواب.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(سَيْفُ) بن سليمان، أو ابن أبي سليمان المخزوميّ المكيّ، ثقةٌ ثبتُ رُمي بالقدر، سكن البصرة أخيرًا [6] مات بعد سنة (150)(خ م د س ق) تقدم في "الصلاة" 16/ 906.

[تنبيه]: قوله: "سيف" قال النوويّ رحمه الله: هكذا صوابه "سيف"، قال القاضي: ووقع في نسخة: "سفيان"، وهو غلط، بل هو سيف، قال البخاريّ: وكيع يقول: هو سيف أبو سليمان، وابن المبارك يقول: سيف بن أبي سليمان، ويحيى بن القطان يقول: سيف بن سليمان. انتهى

(2)

.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سيف، وقوله:"نحو حديثهم" هكذا النُّسخ بضمير الجماعة، مع أن المحلّ محلّ تثنية؛ لأنه يرجع إلى أبي الخليل، وابن أبي نجيح، إلا أنه استعمل ضمير الجماعة للاثنين، وهو استعمال صحيح، كما أسلفناه غير مرّة؛ لأن أقلّ الجمع اثنان، كما في قوله تعالى:{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)} [الأنبياء: 78]، فالضمير في:"لحكمهم" ضمير جماعة

(1)

"صحيح البخاريّ" 1/ 39.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 155.

ص: 487

أعاده إلى داود، وسليمان، وهما اثنان، وغير ذلك من الأدلة التي أوردتها في "التحفة المرضيّة" و"شرحها"، فتنبّه.

[تنبيه]: رواية سيف بن سليمان عن مجاهد هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7076] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ شِبْهِ، أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ، لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا"، قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَعَلَّ مُسْلِمًا قَالَ: وَتُؤْتِي أُكُلَهَا، وَكَذَا وَجَدْتُ عِنْدَ غَيْرِي أَيْضًا: وَلَا تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، لَا يَتَكَلَّمَانِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، أَوْ أَقُولَ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: لأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حمّاد بن أسامة الكوفيّ، تقدّم قبل خمسة أبواب.

2 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ) الْعُمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (شِبْهِ) بفتحتين، أو بكسر، فسكون، وهو غير منوّن؛ لكونه مضافًا إلى "المسلم" مقدّرًا، بدليل المعطوف، وهذا كقولهم:"قطع الله يدَ ورجلَ من قالها"؛ أي: يد من قالها، ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

سَقَى الأَرَضِينَ الْغَيْثُ سَهْلَ وَحَزْنَهَا

فِنِيطَتْ غرَى الآمَالِ بِالزَّرْعِ وَالضَّرْعِ

وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَيُحْذَفُ الثَّانِي فَيَبْقَى الأَوَّلُ

كَحَالِهِ إِذَا بِهِ يَتَّصِلُ

بِشَرْطِ عَطْفٍ وَإِضَافَةٍ إِلَى

مِثْلِ الَّذِي لَهُ أَضَفْتَ الأَوَّلَا

وقوله: (أَوْ كَالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ) الكاف اسم بمعنى "مثل"، معطوف على "شبه".

ص: 488

وقوله: (لَا يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا")؛ أي: لا يتناثر، ولا يتساقط.

وقوله: (قَالَ إِبْرَاهِيمُ) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوريّ الفقيه، تلميذ مسلم. (لَعَلَّ مُسْلِمًا قَالَ: وَتُؤْتِي أُكُلَهَا، وَكَذَا وَجَدْتُ عِنْدَ غَيْرِي أَيْضًا: وَلَا تُؤتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) معنى كلامه هذا: أنه وقع في روايته، ورواية غيره أيضًا من مسلم: قوله: "لا يتحاتّ ورقها، ولا تؤتي أكلها كلّ حين"، فاستشكل إبراهيم بن سفيان من هذا قوله:"ولا تؤتي أكلها" خلاف باقي الروايات، فإنها تفيد أن النصّ:"تؤتي أكلها" بدون لفظة "لا"، وهو المعنى الصحيح، فقال إبراهيم: لعل مسلمًا رواه: "وتؤتي" بإسقاط "لا"، وأكون أنا وغيري ممن رواه عن مسلم غَلِطنا في إثبات "لا".

قال القاضي عياض، وغيره من الأئمة: وليس هو بغلط، كما توهّمه إبراهيم، بل الذي في مسلم صحيح بإثبات "لا"، وكذا رواه البخاريّ بإثبات "لا"، ووجهه: أن لفظة "لا" ليست متعلقة بـ "تؤتي"، بل متعلقة بمحذوف، تقديره: لا يتحات ورقها، ولا، مكررًا؛ أي: ولا يصيبها كذا، ولا كذا، لكن لم يذكر الراوي تلك الأشياء المعطوفة، ثم ابتدأ، فقال:"تؤتي أكلها كلَّ حين"، هذا كلام النوويّ رحمه الله

(1)

مع الزيادة للإيضاح.

وعبارة الحافظ في "الفتح": ووقع عند البخاريّ في "التفسير" من طريق نافع، عن ابن عمر:"قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبروني بشجرة كالرجل المسلم، لا يتحاتّ ورقها، ولا، ولا، ولا" كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء، فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها، ولا يُعدَم فيؤها، ولا يبطل نفعها.

قال: ووقع في رواية مسلم ذِكر النفي مرّة واحدةً، فظن إبراهيم بن سفيان الراوي عنه أنه متعلّق بما بعده، وهو قوله:"تؤتي أكلها"، فاستشكله، وقال: لعل "لا" زائدة، ولعله: وتؤتي أكلها، وليس كما ظنّ، بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء، كما بيّناه، وقوله:"تؤتي" ابتداء كلام على سبيل التفسير لِمَا تقدّم، ووقع عند الإسماعيليّ بتقديم "تؤتي أكلها كلّ حين" على

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 155 - 156.

ص: 489

قوله: "لا يتحاتّ ورقها"، فسَلِم من الإشكال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حقّقه الحافظ، وسبقه القاضي عياض وغيره إليه، تحقيق نفيسٌ جدًّا، خلاصته أن سياق مسلم رحمه الله صحيح، لا إشكال فيه، غايته أنه التبس على تلميذه، حيث إنه لم يكرّر لفظة "لا" كما كُرّرت في رواية البخاريّ ثلاث مرّات، فظنّ إبراهيم أنها من جملة ما بعدها، فيكون المعنى أنها لا تؤتي أكلها كلّ حين، وهذا خلاف ما أفادته الروايات الأُخَرُ، فإنها صريحة في أنها تؤتي أكلها كلّ حين.

والجواب: أن إبراهيم أخطأ في الفهم، فإن "لا" ليست من جملة ما بعدها، بل هي معطوفة على ما قبلها، وهو:"لا يتحاتّ ورقها"، ويقدّر مدخولها، فيكون التقدير: ولا ينقطع ثمرها، أو نحو ذلك مما سبق بيانه، ولذا يستحسن الوقف على لفظة "لا"؛ ثم الابتداء بقوله:"تؤتي أكلها"؛ ليتبيّن الحال، والله تعالى أعلم.

وقوله: (أَوْ أَقُولَ شَيْئًا)"أو" للشك من الراوي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فية مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ، وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ، وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7077](2812) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ").

(1)

"الفتح" 1/ 260 رقم (61).

ص: 490

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع الواسطيّ الإسكاف، نزيل مكة، صدوقٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(جَابِرُ) بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَمي -بفتحتين- الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع)، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ) يَحْتَمل الجنس، والأظهر أن المراد به: إبليس رئيسهم. (قَدْ أَيِسَ)؛ أي: صار قانطًا، قال المجد رحمه الله: أَيِسَ منه؛ كسمع إياسًا: قَنِطَ. انتهى

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: أَيِسَ أَيَسًا، من باب تَعِبَ، وكسرُ المضارع لغةٌ، واسم الفاعل: أَيِسٌ، على فَعِلٍ، وفاعلٍ، وبعضهم يقول: هو مقلوب يَئِسَ. انتهى

(2)

.

(أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ)؛ أي: مِن أن يعبده المصلون؛ أي: المؤمنون، قيل: المراد بعبادة الشيطان: عبادة الصنم؛ لأنه الآمر به، والداعي إليه، بدليل قوله:{يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم: 44] إذ المراد: الأصنام، والمراد بالمصلين: المؤمنون، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"نُهيتُ عن قتل المصلين"، سُمُّوا

(1)

"القاموس المحيط" ص 71.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 33.

ص: 491

بذلك؛ لأنها أشهر الأعمال، وأظهر الأفعال الدالة على الإيمان؛ ولأن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإيمان

(1)

.

(فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ)"الْجَزيرة" بفتح الجيم، وكسر الزاي: هي كل أرض حولها الماء، فَعِيلة بمعنى مفعولة، قال الفيّوميّ رحمه الله: جَزَرَ الماءُ جَزْرًا، من بابي، ضرب، وقتل: انحسر، وهو رجوعه إلى خلفُ، ومنه الجزيرة، سُمّيت بذلك؛ لانحسار الماء عنها، وأما جَزِيرَةُ العَرَب، فقال الأصمعيّ: هي ما بين عَدَنِ أَبْيَن إلى أطراف الشام طولًا، وأما العَرْض: فمن جُدّة وما والاها من شاطئ البحر إلى رِيف العراق، وقال أبو عبيدة: هي ما بين حَفَر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولًا، أما العرض: فما بين يَبْرين إلى مُنقَطع السماوة، والعالية: ما فوق نَجْد إلى أرض تهامة، إلى ما وراء مكة، وما كان دون ذلك إلى أرض العراق فهو نَجْد، ونقل البكريّ أن جزيرة العرب: مكة، والمدينة، واليمن، واليمامة، وقال بعضهم: جَزِيرَةُ العَرَبِ خمسة أقسام: تهامة، ونجدُ حِجَازٍ، وعروض، ويمن، فأما تِهَامَةُ فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نَجْدٌ فهي الناحية التي بين الحجاز والعراق، وأما الحِجَازُ فهو جبل يُقبل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة، وعُمان، وسُمِّي حجازًا؛ لأنه حجز بين نجد وتهامة، وأما العروض فهو اليمامة إلى البحرين، وأما اليمن فهو أعلى من تهامة، هذا قريب من قول الأصمعيّ. انتهى

(2)

.

وقال القاريّ: الجزيرة هي كل أرض حولها الماء، فَعِيلة بمعنى مفعولة، مِن جَزَر عنها الماء؛ أي: ذهب، وقد اكتنفت تلك الجزيرةَ البحار، والأنهار، كبحر البصرة، وعُمان، وعدن، إلى بركة بني إسرائيل التي أهلك الله فرعون بها، وبحر الشام، والنيل، ودجلة، والفرات، أضيفت إلى العرب؛ لأنها مسكنهم، ونُقِل عن الإمام مالك رحمه الله أن جزيرة العرب: مكة، والمدينة، واليمن، قيل: إنما خص جزيرة العرب؛ لأن الدين يومئذ لم يتعدّ عنها، وقيل: لأنها معدن العبادة، ومهبط الوحي. انتهى

(3)

.

(1)

"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 383.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 98 - 99.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 1/ 233.

ص: 492

وفي "القاموس": جزيرة العرب ما أحاط به بحر الهند، وبحر الشام، ثم دجلة، والفرات، وما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولًا، ومن جُدّة إلى ريف العراق عرضًا. انتهى

(1)

. وعلى هذا هي شبه الجزيرة، لا الجزيرة، فتسميتها بالجزيرة مجاز، قاله في "المرعاة"

(2)

.

وقال أيضًا: معنى الحديث: أن الشيطان قد أيس من أن يعود أحد من المؤمنين إلى عبادة الصنم، ويرتد إلى شِركه في جزيرة العرب، والمراد: الإخبار بأنه تعالى حفظ هذا المكان عن وقوع عبادة الصنم فيه، ولا يَرِدُ على ذلك ارتداد أصحاب مسيلمة، والعنسيّ، وغيرهما ممن ارتد بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم في العرب؛ لأنهم لم يعبدوا الصنم.

قال القاري: وفيه أن دعوة الشيطان عامة إلى أنواع الكفر غير مختص بعبادة الصنم، فالأَولى أن يقال: إن المراد: أن المصلّين لا يجمعون بين الصلاة وعبادة الشيطان، كما فعلته اليهود والنصارى. انتهى.

وقال التوربشتيّ في الجواب: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يخبر عنهم أنهم لا يفعلون ذلك، وإنما أخبر عن اليأس الذي استشعر الشيطان عنهم أن يعودوا في طاعته لما رآى من كثرتهم وعزتهم واجتماعهم وقوتهم، لكنه وقع ذلك مع يأسه منه، فلا تضادّ بين هذا الحديث وبين القضية التي ذُكرت؛ يعني: أن قصده بسياق هذا الحديث هو الإخبار عن بلوغ أمر المسلمين ودولتهم حدًا أيس الشيطان أن يقع الارتداد بعده، وليس غرضه صلى الله عليه وسلم الإخبارَ من عدم وقوع الارتداد البتة.

قال صاحب "اللمعات": وفيه بُعْدٌ أيضًا؛ لأن الظاهر من يأسه هو عدم الوقوع، فهو كناية عنه، قال: ويمكن أن يقال: إن معنى الحديث: أن الشيطان أيس من أن يُستبدل دين الإسلام، وينهدم أساس الدين، ويظهر الإشراك ويستمرّ، ويسير الأمر كما كان من قبل، ولا ينافيه ارتداد من ارتد، بل لو عَبَد الأصنام أيضًا لم يضرّ في المقصود. انتهى

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 213.

(2)

"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 383.

(3)

"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 383.

ص: 493

قال الجامع عفا الله عنه: من تأمل وجد أن ما قاله التوربشتيّ هو معنى ما قاله في "اللمعات"، فلا اختلاف بينهما.

وخلاصته: أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن جزيرة العرب، لا تعود دار شرك، وعبادة أصنام، بل يبقى عموم أهلها على التوحيد، ولا ينافي ذلك ما يقع من بعض أهلها؛ لأن العبرة بالأغلبية، لا بالأفراد الشخصيّة، فالجزيرة العربيّة ما زالت -بحمد الله تعالى- على التوحيد، وإظهار الإسلام، ولن تزال -بإذن الله تعالى- إلى أن يأتي الموعد بانصرام الإسلام، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العزيز الحكيم.

وقوله: (وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ") خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ولكن هو في التحريش، أو ظرف لمقدّر؛ أي: يسعى في التحريش؛ أي: في إغراء بعضهم على بعض، وحَمْلهم على الفتن، والحروب، والشحناء، قال القاضي: والتحريش: الإغراء على الشيء بنوع من الخداع، من حَرَشَ

(1)

الصيادُ الصيدَ: خَدَعه، وله من دقائق الوسواس ما لا يفهمه إلا البُصَراء بالمعارف الإلهية. انتهى

(2)

.

وفي "المرعاة": قيل: ولعله صلى الله عليه وسلم أخبر عما جرى فيما بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه؛ أي: لكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين الساكنين فيها، وحَمْلهم على الفتن، بل له مطمَع في ذلك، وكان كما أخبر فكان معجزة له صلى الله عليه وسلم. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: لعل النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبر بما يكون بعده من التحريش الواقع بين صحبه رضي الله عنهم؛ أي: أيس الشيطان أن يُعبد فيها، لكن طمع في التحريش بين ساكنيها، وكان كما أخبر فكان معجزة له صلى الله عليه وسلم.

قال: ولَمّا ذكر العبادة سمّاهم المصلّين؛ تعظيمًا لهم، وحيث ذكر الفتنة أخرجه مخرج التحريش، وهو الإغراء بين البهائم؛ توهينًا، وتحقيرًا لهم. انتهى

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

من باب ضرب.

(2)

"فيض القدير" 2/ 356.

(3)

"مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 383.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 525.

ص: 494

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7077 و 7078](2812)، و (الترمذيّ) في "البرّ والصلة"(1937)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 313 و 354 و 366 و 384)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2294)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5941)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(8)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3525)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضيلة جزيرة العرب، حيث أيس الشيطان أن يعبده المؤمنون فيها بعبادة الأصنام، والأوثان، بل يستمرّون على الإسلام، ولا ينافي ذلك ما وقع فيها من ارتداد بعضهم، فإن الحكم على الغالب.

2 -

(ومنها): بيان تسلّط الشيطان على المؤمنين، فهو وإن أيس من ارتدادهم بعبادة الأصنام، إلا أنه يسعى، ويبذل جهده في التخذيل بينهم، وإلقاء العداوة والبغضاء فيهم.

3 -

(ومنها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع بعده، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: يعني -والله أعلم-: أن المسلمين في جزيرة العرب ما أقاموا الصلاة فيها وأظهروها لم يظهر فيها طائفة يرتدون عن الإسلام إلى عبادة الطواغيت والأوثان، فإذا تركوا الصلاة، وذهب عنهم اسم المصلّين، فإذ أولئك يكونون شرار الخلق، وهذا إنما يتمّ إذا قَبَض اللهُ تعالى المؤمنين بالريح الباردة المذكورة في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحينئذ يتمثل لهم الشيطان، فيقول لهم: ألا تستحيون؟ فيقولون: فإذا تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وحينئذ تضطرب أليات دَوْس حول ذي الخلصة، وتُعبد اللات والعزى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 7/ 310.

ص: 495

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7078] (

) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوَيَةَ، كِلَاهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(1937)

- حدثنا هنّاد، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وأبو سفيان اسمه طلحة بن نافع. انتهى

(1)

.

وأما رواية وكيع عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7079](2813) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، فَيَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً").

قال الجامع عفا الله عنة: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبل حديث، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ عَرْشَ إِبْلِيسَ)؛ أي: سريره، وإنما يفعل ذلك تكبّرًا على جنوده، وأحزابه. (عَلَى الْبَحْرِ) وفي لفظ:"على الماء"، وهذا هو العرش الذي رآه ابن صيّاد، كما تقدَّم، وأصل

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 330.

ص: 496

العرش: الرفع، ومنه قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]؛ أي: منها ما هو مرفوع على ساق، وهي الشجر، ومنها ما ليس كذلك، وهو النجم

(1)

.

والصحيح حَمْله على ظاهره، وأنه يضع عرشه على البحر حقيقةً، ويكون من جملة تمرّده وطغيانه وَضْع عرشه على الماء؛ يعني: جعله الله تعالى قادرًا عليه؛ استدراجًا ليغتر بأن له عرشًا على هيئة عرش الرحمن، كما قال تعالى:{وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] ويَغُرّ بعض السالكين الجاهلين بالله أنه الرحمن، كما وقع لبعض الصوفية، ويؤيده قصة ابن صياد حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرى عرشًا على الماء، فقال له صلى الله عليه وسلم:"ترى عرش إبليس على البحر"، وقيل: عَبّر عن استيلائه على الخلق، وتسلّطه على إضلالهم بهذه العبارة، ذكره القاري

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا القول الأخير ليس بشيء، والصحيح أنه على ظاهره، فيضع عرشه على البحر حقيقةً، كما مرّ آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَيَبْعَثُ)، أي: يُرسل إبليس (سَرَايَاهُ) بالفتح: جمع سريّة؛ كعطيّة وعطايا، وهي قطعة من الجيش، تُوَجَّه نحو العدوّ؛ لتنال منه، وفي "النهاية": هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعَث إلى العدوّ، وسُمّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خلاصة العسكر، وخيارهم، من الشيء السّريّ، وهو النفيس، وقيل: لأنهم يُبعَثون سِرًّا، ورُدّ بأن لامه راء، ولامها ياء. انتهى

(3)

.

(فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ) بفتح حرف المضارعة، وكسر التاء؛ أي: يضلّونهم، أو يمتحنونهم بتزيين المعاصي إليهم، حتى يقعوا فيها. (فَأَعْظَمُهُمْ) وفي رواية:"فأدناهم"(عِنْدَهُ)؛ أي: أعلاهم عند إبليس رُتبةً، وأقربهم منزلةً (أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً")؛ أي: أكبرهم إضلالًا، أو أشدهم ابتلاء، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 7/ 310 - 311.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 329.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 329.

ص: 497

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله وستأتي مسائله في الحديث التالي -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7080] (

) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَا: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً، أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"، قَالَ الأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ: "فَيَلْتَزِمُهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذكروا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابرٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ إِبْلِيسَ)؛ أي: الشيطان، من أبلس: إذا أيس، قال تعالى:{فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، قال الفيّوميّ: وإِبْلِيسُ أعجميّ، ولهذا لا ينصرف؛ للعُجمة والعلمية، وقيل: عربيّ مشتق من الإبلاس، وهو اليأس، ورُدّ بأنه لو كان عربيًّا لانصرف، كما ينصرف نظائره، نحو إِجْفيلٍ، وإِخْريطٍ. انتهى

(1)

.

(يَضَعُ عَرْشَهُ)؛ أي: سرير ملكه (عَلَى الْمَاءِ) معناه: أن مركزه الماء، ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض، قاله النوويّ

(2)

.

وقال المناويّ: يَحْتَمِل أن يكون سريرًا حقيقةً، يضعه على الماء، ويجلس عليه، وهذا هو الصحيح، ويَحْتَمِل كونه تمثيلًا لتَفَرْعُنه، وشدة عُتُوّه، ونفوذ أمره بين سراياه، وجيوشه، وأيًا ما كان فيظهر أن استعمال هذه العبارة الهائلة،

(1)

"المصباح المنير" 1/ 60.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 157.

ص: 498

وهي قوله: "عرشه" تهكّمًا، وسخريةً، فإنها استُعملت في الجبار الذي لا يُغالَب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، والقصد أن إبليس مسكنه البحر

(1)

. (ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ) جمع سرية: وهي القطعة من الجيش، (فَأَدْنَاهُمْ)؛ أي: أقربهم (مِنْهُ)؛ أي: من إبليس (مَنْزِلَةً)؛ أي: درجةً، ورفعة، فقوله:"أدناهم" مبتدأ خبره قوله: (أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً)؛ أي: أشدّهم في امتحان الناس، وقوله:(يَجِيءُ أَحَدُهُمْ) بيان لمن هو أدنى منه، ولمن هو أبعد منه، (فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا)؛ أي: وَسْوَسْت بنحو قتل، أو سرقة، أو شرب مسكر، (فَيَقُولُ) إبليس:(مَا صَنَعْتَ شَيْئًا)؛ أي: أمرًا كبيرًا، أو شيئًا معتدًّا به، وهذا قاله استخفافًا بما فعله، ولهذا نكّره في سياق النفي. (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم:(ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ)؛ يعني: الرجل، (حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ)؛ يعني: أنه طلّقها، قال القاري: هذا وإن كان بحَسَب الظاهر أمرًا مباحًا، وظاهره خيرٌ، ولذا قال تعالى:{وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]، ولكنه من حيث إنه قد يجرّ إلى المفاسد يصير مذمومًا، ويحثّ عليه الشياطين، ويفرح به كبيرهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"أبغض الحلال إلى الله الطلاق"

(2)

، وقال تعالى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]. انتهى

(3)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيُدْنِيهِ مِنْهُ) بضم حرف المضارعة، من الإدناء؛ أي: يقرّبه منه، قال المناويّ: قوله: "فيدنيه منه"؛ أي: يقرّبه منه، وأوقعه مخبرًا عنه، وحذف الخبر، وهو: صنعت شيئًا؛ لادعاء أنه هو المتعيّن لإسناد الصنع العظيم المدلول بالتنوين عليه أيضًا. انتهى

(4)

.

(وَيَقُولُ) إبليس مادحًا لهذا، وشاكرًا له:(نِعْمَ أَنْتَ")؛ أي: نِعْم الولد، أو العون أنت، قال النوويّ: هو بكسر النون، وإسكان العين، وهي نِعْم الموضوعة للمدح، فيمدحه لإعجابه بصنعه، وبلوغه الغاية التي أرادها. انتهى

(5)

.

(1)

"فيض القدير" 2/ 408.

(2)

هذا حديث ضعيف.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 329.

(4)

"فيض القدير" 2/ 408.

(5)

"شرح النوويّ" 17/ 157.

ص: 499

وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "نِعْم أنت" هو من الحذف لدلالة الكلام على المحذوف؛ أي: نِعْم أنت الذي جاء بالطامّة، والأمر العظيم، أو نِعْم أنت الذي أغنى، وفعلت رغبتي، أو نِعْم أنت الذي فعل اختياري، أو نِعْم أنت الحظيّ عندي، المقدّم من رسلي، كما قال:"فيدنيه منه، ويلتزمه". انتهى

(1)

.

وقال المناويّ: قوله: "نعم أنت": بكسر النون، وسكون الحين، على أنه من أفعال المدح، كذا جرى عليه جَمْع، قال بعض المحققين: ولعله خطأٌ؛ لأن الفاعل لا يُحذف، وإضماره في أفعال المدح لا ينفصل عن نكرة منصوبة، مفسِّرة، وإنما صوابه بفتح النون، على أنه حرف إيجاب. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الصواب أنه نِعْم التي للمدح، على ما وجّهه القاضي عياض رحمه الله آنفًا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران الراوي هنا عن أبي سفيان (أُرَاهُ) بضم الهمزة، ويجوز فتحها؛ أي: أظنّ أبا سفيان زاد في الحديث، فـ (قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ)؛ أي: يضمّمه إلى نفسه، ويعانقه فرحًا وسرورا بما صنعه من التفريق بين الزوجين.

وقال القاريّ رحمه الله: "قال الأعمش" وهو أحد رواة هذا الحديث، "أراه" بضم أوله؛ أي: أظنّ أبا سفيان طلحة بن نافع المكيّ، وهو الراوي عن جابر، كذا في "الأزهار" نقله السيد جمال الدين، وقال الطيبيّ: ضمير الفاعل للأعمش، وضمير المفعول لجابر، وقيل: أظن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر من قوله:"قال: فيلتزمه"، فإنه إما عَطْف على "فيدنيه"، أو بدل منه، كذا قيل، والأقرب أنه عطف على "فيقول"، والله أعلم.

والمعنى: فيعانقه من غاية حبه التفريق بين الزوجين، وذلك لأنه يحب كثرة الزنا، وغلبة أولاد الزنا؛ ليفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع، ومن ثم ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة ولد زنية"

(2)

، رواه الدارميّ في

(1)

"إكمال المعلم" 8/ 349.

(2)

المراد: إذا كان الولد سالكًا مسلك أبويه، من الزنا، وإلا فلا، فتنبّه.

ص: 500

"سننه"؛ لأن ولد الزنا يعسر عليه اكتساب الفضائل، ويتيسر له أخلاق الرذائل. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7080 و 7081](2813)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 314 و 332 و 354 و 366)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 316)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6187)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4/ 114)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(3/ 66)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(6/ 415)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تمكن إبليس من بلوغ مقصوده من إغواء بني آدم، كما أخبر الله عز وجل عنه {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 62]، فيضع عرشه على البحر، ثم يبعث بعوثه منه إلى أطراف الأرض، فلا ينجو منه إلا من قال الله سبحانه وتعالى فيهم:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].

2 -

(ومنها): بيان تعظيم أمر الطلاق، وكثرة ضرره، وعظيم الإثم في السعي فيه؛ لِمَا فيه من قَطْع ما أمر الله به أن يوصل، قال الأبيّ: من سعى في فراق امرأة من زوجها؛ ليتزوّجها، هل يمكّن من زواجها، إذا ثبت أنه سعى في ذلك؟ فأفتى بعض أصحابنا بأنه لا يمكّن من زواجها، قال: وهو الصواب؛ لما فيه من تقرير الفساد، قال: والأظهر إذا وقع أن يكون الفساد في انعقاده، فيفسخ قبل العقد وبعده. انتهى بتصرّف

(2)

.

3 -

(ومنها): أن فيه تهويلًا عظيمًا في ذم التفريق بين الزوجين، حيث كان أعظم مقاصد اللعين؛ لِمَا فيه من انقطاع النسل، وانصرام بني آدم، وتوقّع

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 1/ 329.

(2)

"شرح الأبيّ" 7/ 206.

ص: 501

وقوع الزنا الذي هو أعظم الكبائر فسادًا، وأكثرها مَعَرّةً، كيف؟ وقد استعظمه الله سبحانه وتعالى في التنزيل بقوله تعالى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102]، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7081] (

) - (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَبْعَثُ الشَّيْطَانُ سَرَايَاهُ، فَيَفْتِنُونَ النَّاسَ، فَأَعْظَمُهُمْ عِنْدَهُ مَنْزِلَةً، أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع و (140)(م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

2 -

(الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ) هو: الحسن بن محمد بن أعين الحرانيّ، أبو عليّ، نُسب إلى جدّه، صدوق [9](ت 210)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

3 -

(مَعْقِلُ) بن عُبيد الله الجزريّ، أبو عبد الله الْعَبْسيّ -بالموحّدة- مولاهم، صدوقٌ يخطئ [8](ت 166)(م د س) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس الأسديّ مولاهم المكيّ، صدوقٌ، إلا أنه يدلِّس [4](ت 126)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

و"جابر رضي الله عنه" ذُكر قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7082](2814) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجعْدِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ

(1)

بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ"، قَالُوا: وَإيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "إلا وكَّل الله به قرينه".

ص: 502

"وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر السلميّ، أبو عتّاب الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ) الْغَطفانيّ الأشجعيّ مولاهم الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يرسل كثيرًا [3] (ت 7 أو 98) وقيل: مائة، أو بعد ذلك، ولم يثبت أنه جاوز المائة (ع) تقدم في "الحيض" 8/ 728.

3 -

(أَبُوهُ) رافع أبو الجعد الْغَطَفانيّ الكوفيّ، والد سالم، مخضرمٌ، وثقه ابن حبان، وقيل: له صحبة.

وقال في "التهذيب": رَوَى عن عليّ، وابن مسعود، وروى عنه ابنه سالم، والشعبيّ، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال أبو القاسم البغويّ: يقال: إنه أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم. ذكره أبو نعيم، وابن عبد البرّ، وغيرهما في الصحابة. انتهى

(1)

.

تفرّد به المصنّف، وليس له عنده في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبل حديثين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا) نافية، (مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ)"من" زائدة، و"أحد" مبتدأ خبره، قوله:(إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ) وفي بعض النسخ: "وكّل الله به"، (قَرِينُهُ) فعيل بمعنى فاعل؛ أي: صاحبه الذي يقترن به، وقوله:(مِنَ الْجِنِّ") بيان لـ "قرينه". (قَالُوا: وَإِيَّاكَ)؛ أي: وكّل الله بك قرينًا (يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَإِيَّايَ، إِلَّا أَنَّ اللهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ، فَلَا

(1)

"تهذيب التهذيب" 1/ 586.

ص: 503

يَأُمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ") قال النوويّ: "فأسلم" برفع الميم، وفتحها، وهما روايتان مشهورتان، فمن رفع قال: معناه أسلمُ أنا من شرّه، وفتنته، ومن فتح قال: إن القرين أسلمَ، من الإسلام، وصار مؤمنًا، لا يأمرني إلا بخير، واختلفوا في الأرجح منهما، فقال الخطابيّ: الصحيح المختار الرفع، ورجح القاضي عياض الفتح، وهو المختار؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فلا يأمرني إلا بخير"، واختلفوا على رواية الفتح، قيل: أسلم بمعنى استسلم، وانقاد، وقد جاء هكذا في غير "صحيح مسلم": "فاستسلم"، وقيل: معناه: صار مسلمًا مؤمنًا، وهذا هو الظاهر. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال أبو البقاء في "إعرابه": يُروى بالفتح؛ لأنه فعل ماض، قال: فأسلمَ شيطاني؛ أي: انقاد لأمر الله تعالى، وبالرفع؛ أي: فأنا أسلمُ منه، وهو فعلٌ مستقبلٌ يحكى به الحال. قاله السيوطيّ

(2)

.

وقال الكلاباذيّ رحمه الله: واختُلف في معنى قوله: "أسلم" فقيل: استسلم، وقيل: أسلمُ أنا منه، وقيل: صار مسلمًا، فإن كان استسلم، فهذا غاية حسن المعاملة، حتى انقاد له العدوّ، واستسلم، وإن سَلِم صلى الله عليه وسلم منه، فبحسن معاملته بعد عصمة ربه عز وجل، فسَلِم منه؛ لأنه غاية الرفق والتوقي، وإن أسلم، ودخل في الإسلام، فلا يستنكر إسلام قرين من بين الجميع، كما لم يستنكر كفر واحد من بين جميع الملائكة، وهو إبليس لعنه الله مع قوله عز وجل:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وعصيان اثنين هاروت وماروت، ويكَون الواحد مستثنى من بين الجميع، وإن لم يُعلم وجه الاستثناء، فهذا من حسن المعاملة منه إياه أن أسلم الشيطان. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: ومال إلى ترجيح النصب ابن خزيمة، واستدلّ بقوله:"فلا يأمرني إلا بخير"، قال: ولو كان على الكفر لم يأمر بخير، وكذا رجّح هذا ابن حبّان

(4)

، فقال: في هذا الخبر دليل على أن شيطان

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 157 - 158.

(2)

"زهر الربى على المجتبى" 7/ 72.

(3)

"بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخبار" للكلاباذيّ ص 14.

(4)

راجع: "صحيح ابن حبّان" 14/ 328.

ص: 504

المصطفى صلى الله عليه وسلم أسلم، حتى لم يأمره إلا بخير، لا أنه كان يَسلم منه، وإن كان كافرًا. انتهى.

والحاصل: أن قرينه صلى الله عليه وسلم أسلم؛ معجزة له صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون صاحبه إلا مسلمًا، وإن كان طبيعة الشيطان الكفر، إلا أن هذا من خوارق العادة؛ إكرامًا من الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وتبجيلًا له، وتفضيلًا، قال الله عز وجل:{وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقال تعالى:{إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} [الإسراء: 87]، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7082 و 7083](2814)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 385 و 397 و 401 و 460)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 306)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(109)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10522 و 10523 و 10524)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6417)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(7/ 100 و 101)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4211)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان شدّة تسلّط الشياطين على عموم بني آدم، طالحيهم، وصالحيهم، فلا ينجو منهم إلا من توكّل على الله تعالى، فيحفظه من كيدهم، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99].

2 -

(ومنها): بيان كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه، وعنايته به، حيث أسلم قرينه، أو سلّمه الله تعالى من أذاه، فلا يأمره إلا بخير.

3 -

(ومنها): ما قال القاضي عياض رحمه الله: واعلم أن الأمة مجتمعة على عصمة النبيّ صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره

ص: 505

بضروب الوساوس، ولسانه بما لم يقل

(1)

، فلا يمكنه أن يتسلط عليه بأيّ حيلة، وبأيّ وسيلة؛ لأن الله تعالى عصمه منه، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3].

4 -

(ومنها): أن في الحديث إشارةً إلى التحذير من فتنة القرين، ووسوسته، وإغوائه، فأعلمنا بأنه معنا؛ لنحترز منه بحسب الإمكان، ولا يكون الحذر إلا بالالتجاء إلى الله عز وجل، فإنه عدوّ لدود لا نراه، كما قال تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، فلا يمكن التحرّز من عدوّ لا يُرى إلا بمن يراه، ولا يراه هو، والله القويّ العزيز، كما قال عز وجل:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)} [الإسراء: 65].

5 -

(ومنها): أن الحديث يدلّ على إكرام الله تعالى بني آدم، حيث لم يتركهم مع الشياطين، بل جعل لهم قرناء من الملائكة، كما في رواية سفيان الآتية، فهم يحفظونهم من أمر الله، ويُعينونهم على طاعته، وذلك من الفضل العظيم، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7083] (

) - (حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنِيَانِ: ابْنَ مَهْدِيٍّ- عَنْ سُفْيَانَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ، كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ، مِثْلَ حَدِيثِهِ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ:"وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(ابْنُ الْمُثَنَّى) هو: محمد بن المثنّى، أبو موسى العنزيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ) بن سليمان الكوفيّ، أبو زكريا، مولى بني أمية، ثقةٌ حافظٌ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

3 -

(عَمَّارُ بْنُ رُزَيْقٍ) -بتقديم الراء، مصغرًا- الضبيّ، أو التميميّ، أبو

(1)

"إكمال المعلم" 8/ 350 - 351.

ص: 506

الأحوص الكوفيّ، ثقةٌ

(1)

[7]

(2)

(159)(م د س ق) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين الماضيين.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ)؛ يعني: سفيان الثوريّ، وعمّار بن رُزيق.

[تنبيه]: أما رواية سفيان الثوريّ عن منصور، فساقها ابن خزيمة رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(658)

- حدّثنا محمد بن بشار، نا عبد الرحمن -يعني: ابن مهدي- نا سفيان، عن منصور، عن سالم -وهو ابن أبي الجعد- عن أبيه، عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم أحد، إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنّ، وقرينه من الملائكة"، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، ولكن الله أعانني عليه، حتى أسلمَ، فلا يأمرني إلا بخير"، انتهى

(3)

.

وأما رواية عمّار بن رُزيق، عن منصور، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7084](2815) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ، فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟ "، فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟ "، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: وَمَعَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ، حَتَّى أَسْلَمَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) السعديّ مولاهم، أبو جعفر، نزيل مصر،

(1)

هذا أَولى من قوله في "التقريب": لا بأس به؛ لِمَا يظهر من ترجمته في "تت".

(2)

هذا أشبه من قوله في "التقريب": من الثامنة، فتأمّل.

(3)

"صحيح ابن خزيمة" 1/ 330.

ص: 507

ثقةٌ فاضلٌ [10](253) وله ثلاث وثمانون سنةً (م د س ق) تقدم في "الإيمان" 29/ 225.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله المصريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُو صَخْرٍ) ابن أبي المخارق، حُميد بن زياد، الخرّاط، صاحب العباء، مدنيّ، سكنَ مصر، ويقال: هو حميد بن صخر، أبو مودود الخرّاط، وقيل: إنهما اثنان، صدوقٌ يَهِم [6](ت 189)(بخ م د ت عس ق) تقدم في "الطهارة" 5/ 558.

4 -

(ابْنُ قُسَيْطٍ) -بقاف، ومهملتين، مصغرًا- يزيد بن عبد الله بن قُسيط بن أسامة الليثيّ أبو عبد الله المدنيّ، الأعرج، ثقةٌ [4](ت 122) وله تسعون سنةً (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 20/ 1301.

5 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير بن العوّام بن خُويلد الأسديّ، أبو عبد الله المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ مشهورٌ [3] مات سنة أربع وتسعين، على الصحيح، ومولده في أوائل خلافة عثمان رضي الله عنه (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 407.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها تقدّمت قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة من الفقهاء السبعة، وعائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَن) يزيد بن عبد الله (بْنِ قُسَيْطٍ) بالتصغير؛ أنه (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث أبا صخر، (أَنَّ عُرْوَةَ) بن الزبير (حَدَّثَهُ)؛ أي: حدّث ابن قُسيط، (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنها (حَدَّثَتْهُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا)؛ أي: في ساعة من ساعات الليل. (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (فَغِرْتُ عَلَيْهِ) بكسر الغين المعجمة، من الغَيرة، بفتح الغين المعجمة، وسكون الياء التحتيّة، بعدها راءٌ، وهي الحميّة، والأَنَفَة، يقال: رجل غَيُور، وامرأة غيورٌ، بلا هاء؛ لأن فعولًا يشترك فيه الذكر والأنثى، قاله ابن الأثير رحمه الله

(1)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" ص 685.

ص: 508

وقال الفيّوميّ رحمه الله: غار الرجل على امرأته، والمرأة على زوجها يَغار، من باب تَعِبَ غَيْرًا، وغَيْرَةً بالفتح، وغَارًا. قال ابن السكّيت: ولا يقال: غِيرًا وغِيرةً بالكسر. فالرجل غيورٌ، والمرأة غيورٌ أيضًا، وغيرَى، وجمع غَيُور: غُيُرٌ، مثلُ رَسُول ورُسُلٍ، وجمع غَيْرَان، وغَيْرَى: غُيارَى، بالضمّ والفتح. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض، وغيره: هي مشتقّةٌ من تغيّر القلب، وهيجان الغضب بسبب المشاركة فيما به الاختصاص، وأشدّ ما يكون ذلك بين الزوجين. انتهى

(2)

. والمعنى: أي: فجاءتني الغيرة على خروجه صلى الله عليه وسلم من عندي ليلًا، فاضطربت أفعالي، وتغيرت أحوالي، (فَجَاءَ) صلى الله عليه وسلم (فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ)؛ أي: أيّ شيء أزعجك، وغيّر أحوالك؟ (أَغِرْتِ؟ ") قالت:(فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟)؛ أي: كيف لا يغار من هو على صفتي، من المحبة، ولها ضرائر، على من هو على صفتك من النبوة، والمنزلة من الله تعالى، وقد خرج في مثل هذا الوقت من عندها، قال الطيبيّ:"لا يَغار" حال من المجرور، و"مثل" وُضع موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال، وهو كقولهم: مثلك يجود؛ أي: أنت تجود

(3)

.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ؟ ")؛ أي: فحَمَلك على الغَيْرة، فأوقع عليك أني ذهبت إلى بعض أزواجي، فأنت لذلك متحيّرةٌ، مفتّشةٌ عنّي؟.

وقال الطيبيّ رحمه الله: هذا إشارة إلى ما في حديث جابر بن عتيك من قوله: "أما التي يبغضها الله، فالغيرة من غير ريبة"؛ يعني: كيف تغارين عليّ، وترين أني أَحِيف عليك؟ أي: ليس هذا موضع رِيبة

(4)

. (قَالَتْ) عائشة رضي الله عنها: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ") معك شيطان، وهو الذي حملك على الغيرة في غير محلّها. (قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟)؛ أي: ومع كلّ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 458.

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 401، "كتاب النكاح".

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 3366.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 3366.

ص: 509

إنسان أيضًا شيطان؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ") مع كلّ إنسان شيطانه. (قُلْتُ: وَمَعَكَ)؛ أي: ومعك أيضًا شيطان؟ (يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ) معي شيطان، (وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ)؛ أي: بالعصمة، حيث قال:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42](حَتَّى أَسْلَمَ") مضارع مسنَد إلى المتكلم؛ أي: أسلم أنا من وسوسته، أو هو ماض، والضمير للشيطان؛ أي: أسلم الشيطان، وانقاد للإسلام، فلا يتعرض لي بالأذى، وقد تقدّم اختلاف العلماء في "أسلم" هذا، وترجيح كونه من الإسلام في الحديث الماضي، فلا تغفل، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7084](2815)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(3411) وفي "الكبرى"(8908)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 115)، و (الطحاويّ) في "مشكل الآثار"(111)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(2/ 116) وفي "الدلائل"(7/ 102)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان غيرة النساء، وأنها لا تضرّ بها، إلا إذا تعدّت الحدود بسببها.

2 -

(ومنها): أن الغيرة سببها إغراء الشيطان، وتسلّطه على المرأة، وحَمْله لها على أن تتخيّل غير الواقع واقعًا، فتعادي بسببه زوجها، أو ضرّتها.

3 -

(ومنها): كرامة النبيّ صلى الله عليه وسلم على ربّه، وعنايته به، حيث سلّمه من أذى الشيطان، فلا يأمره إلا بخير.

4 -

(ومنها): شدّة تسلّط الشياطين على عموم بني آدم، طالحيهم، وصالحيهم، فلا ينجو عنهم إلا من توكّل على الله تعالى، فيحفظه من كيدهم، كما قال تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99]، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

ص: 510

(20) - (بَابٌ لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، بَلْ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَفَضْلِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7085](2816) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ"، قَالَ رَجُلٌ: وَلَا إِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا إِيَّايَ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] مات في شعبان سنة (175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(بُكَيْرُ) بن عبد الله بن الأشجّ، مولى بني مخزوم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدنيّ، نزيل مصر، ثقةٌ [5] (ت 120) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 4/ 554.

4 -

(بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ) المدنيّ العابد، مولى ابن الحضرميّ، ثقةٌ جليلٌ [2] مات سنة مائة (ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 1001.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يُنْجِيَ) من الإنجاء، أو من التنجية، ومعناه: لن يُخَلّص، والنجاة من الشيء: التخلُّص منه.

وقال القاريّ: "لن ينجي"؛ أي: من النار، و"لن" لمجرد النفي، وقيل:

ص: 511

لتوكيده، ومذهب المعتزلة أنها لتأييده، والمعاني الثلاثة كلها صحيحة هنا. انتهى

(1)

.

(أَحَدًا) منصوب على المفعولية، (مِنْكُمْ) متعلّق بصفة "أحدًا"، وقوله:(عَمَلُهُ) بالرفع فاعل "ينجي"، وفي الرواية الآتية من طريق ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة:"ليس أحد منكم يُنجيه عمله"، ومن طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة:"واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله"، وفي حديث جابر:"لا يُدخل أحدًا منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار"، وفي رواية أبي داود الطيالسيّ، عن ابن أبي ذئب:"ما منكم من أحد ينجيه عمله"، وأخرجه أبو نعيم من طريقه، وفي رواية للبخاريّ من طريق أبي عبيد، عن أبي هريرة:"لن يُدخل أحدًا عمله الجنة".

والمعنى: أن العمل لا ينجي صاحبه من النار، وإنما يُنجيه فضل الله تعالى ورحمته، فإن له تعالى أن يعذب الطائع، ويثيب العاصي، وأيضًا فالعمل وإن بلغ ما بلغ لا يخلو عن نوع من التقصير المقتضي لردّه، لولا تفضل الله بقبوله، وليس المراد توهين أمر العمل ونفيه، بل توقيف العباد على أن العمل إنما يتم بفضل الله وبرحمته؛ كيلا يتكلوا على أعمالهم اغترارًا بها، وقال زين العرب: يعني: أن النجاة والفوز بفضله تعالى ورحمته، والعمل فيها غير مؤثر فيهما إيجابًا، والخطاب للصحابة رضي الله عنهم، والمراد: معشر بني آدم، أو المكلفين تغليبًا. انتهى

(2)

.

(قَالَ رَجُلٌ) قال الحافظ: لم أقف على تعيين هذا القائل

(3)

. (وَلَا إِيَّاكَ)؛ أي: ولا ينجي العمل إياك (يَا رَسُولَ اللهِ؟، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَلَا إِيَّايَ)؛ أي: ولا ينجي العمل إياي، قال الكرمانيّ: إذا كان كل الناس لا يدخلون الجنة إلا برحمة الله، فوجه تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أنه إذا كان مقطوعًا له بأنه يدخل الجنة، ثم لا يدخلها إلا برحمة الله فغيره يكون في ذلك بطريق أَولى،

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 227.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 8/ 227.

(3)

"الفتح" 14/ 599.

ص: 512

قال الحافظ: وسبق إلى تقرير هذا المعنى الرافعي في "أماليه" فقال: لما كان أجر النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطاعة أعظم، وعمله في العبادة أقوم، قيل له: ولا أنت؟ أي: لا ينجيك عملك مع عِظَم قَدْره، فقال: لا إلا برحمة الله، وقد ورد جواب هذا السؤال بعينه من لفظ النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الآتي عند مسلم في هذا الباب، بلفظ:"لا يُدخل أحدًا منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا برحمة من الله تعالى".

(إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ)؛ أي: إلا أن يسترني الله برحمته، يقال: تغمده الله برحمته: إذا ستره بها، ويقال: تغمدت فلانًا؛ أي: سترت ما كان منه، وغطيته، ومنه: غمد السيف؛ لأنك إذا غمدته فقد سترته في غلافه، وفي رواية سهيل:"إلا أن يتداركني"، والاستثناء منقطع، ويَحْتَمِل أن يكون متصلًا، من قبيل قوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]

(1)

.

(بِرَحْمَةٍ) وفي رواية أبي عبيد: "بفضل، ورحمة"، وفي رواية الكشميهنيّ من طريقه:"بفضل رحمته"، وفي رواية الأعمش:"برحمة، وفضل"، وفي رواية ابن عون:"بمغفرة، ورحمة"، وقال ابن عون بيده هكذا، وأشار على رأسه، وكأنه أراد تفسير معنى "يتغمدني"، قال أبو عبيد: المراد بالتغمد: الستر، وما أظنه إلا مأخوذًا من غَمْد السيف؛ لأنك إذا أغمدت السيف، فقد ألبسته الغمد، وسترته به، قال الرافعيّ: في الحديث أن العامل لا ينبغي أن يتكل على عمله في طلب النجاة، ونيل الدرجات؛ لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله، ورحمته. انتهى

(2)

.

وقال القاري رحمه الله: "إلا أن يتغمدني الله"؛ أي: يسترني منه برحمته، والاستثناء منقطع؛ أي: إلا أن يُلبسني لباس رحمته، فأدخل الجنة برحمته، والتغميد: الستر؛ أي: يسترني برحمته، ويحفظني كما يُحفظ السيفُ بالغمد، بكسر الغين، وهو الغلاف، ويجعل رحمته محيطة بي إحاطة الغلاف للسيف.

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 33/ 237.

(2)

"الفتح" 14/ 600.

ص: 513

وحاصل معنى الحديث: أن العمل المجرد لا ينفع، وإنما يفيد إذا كان مقرونًا بالفضل والرحمة.

وقال الطيبيّ: أي: النجاة من العذاب، والفوز بالثواب، بفضل الله تعالى ورحمته، والعمل غير مؤثر فيهما على سبيل الإيجاب، غايته أنه يُعِدّ العاملَ لأن يتفضل عليه، ويقرب الرحمة إليه، ولذا قال:"فسددوا"؛ أي: بالغوا في التسديد، وإصابة الصواب، وفعل السَّدَاد، وقولوا قولًا سديدًا؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)} [الأحزاب: 70]؛ أي: صوابًا، وعدلًا، "وقاربوا"؛ أي: حافظوا القصد في الأمور بلا غلوّ، ولا تقصير، وتقربوا إلى الله بكثرة القربات، لكن بحيث لا يحصل لكم الملالة في الطاعات والعبادات، واغدوا، وروحوا؛ أي: اعبدوا الله، واذكروه طرفي النهار وزلفًا من الليل؛ كقوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، وهو معنى قوله:"وشيء من الدلجة" بضم الدال، وسكون اللام، كذا في النُّسخ، وفي "النهاية": الدلجة بالفتح، والضم: سير الليل، وفي "القاموس": الدلجة بالضم والفتح: السير من أول الليل، وقد أدلجوا، فإن ساروا من آخره فادَّلجوا بالتشديد، و"شيء" مرفوع على الإبتداء، وخبره مقدر؛ أي: اعملوا فيه، أو مطلوب عملكم فيه، وقيل: التقدير: وليكن شيء من الدلجة، وقيل: إنه مجرور لعطفه على مقدَّر؛ أي: اعملوا بالغدوة والروحة، وشيءٍ من الدلجة.

وقال الحافظ: "شيئًا" منصوب بمحذوف؛ أي: افعلوا. انتهى، وهذا على رواية النصب، فتنبّه.

وقال الطيبيّ: شَبّه هذه الأوقات من حيث إنها تَوَجّه إلى مقصد، وسعيٌ للوصول إليه بالسلوك والسير، وقطع المسافة في هذه الأوقات.

"والقصدَ، القصدَ"؛ أي: الزموا التوسط في العبادة، والتكريرُ للتأكيد، أو باعتبار الأعمال والأخلاق، وقيل؛ أي: الزموا القصد في العمل، وهو استقامة الطريق، والأمرُ الذي لا غُلُوّ فيه، ولا تقصير. "تبلغوا"؛ أي: المنزل، مجزوم على جواب الأمر.

قال الطيبيّ: بيَّن أولًا أن العمل لا ينجي إيجابًا؛ لئلا يتكلوا عليه، وحَثّ آخرًا على العمل؛ لئلا يُفَرِّطوا فيه؛ بناءً على أن وجوده وعدمه سواء، بل

ص: 514

العمل أدنى إلى النجاة، فكأنه مُعِدّ للعامل لأن يتفضّل الله عليه، وتقرب منه الرحمة، وإن لم يكن موجبًا لذلك. انتهى

(1)

.

(وَلَكِنْ سَدِّدُوا")، معناه: اقصدوا السَّداد؛ أي: الصواب، ومعنى هذا الاستدراك أنه قد يُفهم من النفي المذكور نفي فائدة العمل، فكأنه قيل: بل له فائدة، وهو أن العمل علامة على وجود الرحمة التي تُدخل العامل الجنة، فاعملوا، واقصدوا بعملكم الصواب؛ أي: اتباع السُّنَّة، من الإخلاص، وغيره؛ ليقبل عملكم، فتنزل عليكم الرحمة.

زاد في رواية البخاريّ من رواية سعيد المقبريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه: "وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيئًا من الدلجة، والقصدَ، القصدَ، تبلغوا".

فقوله: "وقاربوا"؛ أي: لا تُفْرِطوا، فتُجهِدوا أنفسَكم في العبادة؛ لئلا يُفضي بكم ذلك إلى الملال، فتتركوا العمل، فتُفَرِّطوا.

وقد أخرج البزار من طريق محمد بن سُوقة، عن ابن المنكدر، عن جابر، ولكن صوّب إرساله، وله شاهد في "الزهد" لابن المبارك، من حديث عبد الله بن عمرو، موقوف:"إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تُبَغِّضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المُنْبَتّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى"، والْمُنْبَتُّ بنون، ثم موحّدة، ثم مثناة ثقيلة؛ أي: الذي عَطِب مركوبه من شدّة السَّيْر، مأخوذ من البتّ، وهو القطعِ؛ أي: صار منقطعًا لم يصل إلى مقصوده، وفَقَد مركوبه الذي كان يوصله لو رَفق به.

وقوله: "أوغلوا" بكسر المعجمة من الوغول، وهو الدخول في الشيء.

وقوله: "واغدوا، وروحوا، وشيئًا من الدلجة"، وفي رواية الطيالسيّ عن ابن أبي ذئب:"وخُطًا من الدلجة"، والمراد بالغدوّ: السير من أول النهار، وبالرواح: السير من أول النصف الثاني من النهار، والدلجة بضم المهملة، وسكون اللام، ويجوز فتحها، وبعد اللام جيم: سَيْر الليل، يقال: سار دلجة من الليل؛ أي: ساعة، فلذلك قال:"شيئًا من الدلجة"؛ لِعُسر سَيْر جميع الليل، فكأن فيه إشارةً إلى صيام جميع النهار، وقيام بعض الليل، وإلى أعمّ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1865، و"مرقاة المفاتيح" 8/ 227.

ص: 515

من ذلك من سائر أوجه العبادة، وفيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة، وعبّر بما يدل على السير؛ لأن العابد كالسائر إلى محل إقامته، وهو الجنة، فـ "شيئًا" منصوب بفعل محذوف؛ أي: افعلوا، وقد تقدم بأبسط من هذا في كتاب الإيمان في باب: الدين يسر.

وقوله: "والقصد، القصد" بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل، ومنه قوله في حديث جابر بن سمرة عند مسلم:"كانت خطبته قصدًا"؛ أي: لا طويلةً، ولا قصيرةً، واللفظ الثاني للتأكيد.

وقال في "العمدة": قوله: "والقصد، القصد" بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا الطريق الوسط المعتدل، تبلغوا المنزل الذي هو مقصدكم، شبّه المتعبدين بالمسافرين، فقال: لا تستوعبوا الأوقات كلها بالسير، بل اغتنموا أوقات نشاطكم، وهو أول النهار، وآخره، وبعض الليل، وارحموا أنفسكم فيما بينهما؛ لئلا ينقطع بكم، قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: ووقفت على سبب لهذا الحديث، فأخرج ابن ماجه من حديث جابر، قال:"مَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل، يصلي على صخرة، فأتى ناحية، فمكث، ثم انصرف، فوجده على حاله، فقام، فجمع يديه، ثم قال: أيها الناس عليكم القصدَ عليكم القصدَ"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7085 و 7086 و 7087 و 7088 و 7089 و 7090 و 7091](2816)، و (البخاريّ) في "المرض"(5673) وفي "الرقاق"(6463)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4201)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 289)، و (أحمد) في "مسنده" (2/ 514 و 235 و 326 و 390 و 509

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 33/ 237.

ص: 516

و 514 و 524 و 537)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(348 و 3446)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 5)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 115)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 18)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4192)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن دخول الجنّة برحمة من الله سبحانه وتعالى، وفضل، لا بالعمل الصالح، وسيأتي التوفيق بين هذا الحديث وبين آية:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقوله:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وغيرها من الآيات في المسألة التالية -إن شاء الله تعالى-.

2 -

(ومنها): أنه لا ينبغي للعبد أن يعتمد على أعماله الصالحة، بل الواجب أن يعتمد على ربه سبحانه وتعالى، مع اجتهاده في الأعمال.

3 -

(ومنها): أن فيه حجةً لمذهب أهل السُّنَّة أن الله تعالى لا يجب عليه شيء من الأشياء، لا ثواب، ولا غيره، بل العالم مُلكه، والدنيا والآخرة في سلطانه، يفعل فيهما ما يشاء، فلو عذّب المطيعين والصالحين أجمعين، وأدخَلَهم النار كان عدلًا منه، وإذا أكرمهم، ونعَّمهم، وأدخلهم الجنة، فهو بفضل منه، ولو نَعَّم الكافرين، وأدخلهم الجنة، كان له ذلك، لكنه أخبر، وخبره صِدق، أنه لا يفعل هذا، بل يغفر للمؤمنين، ويُدخلهم الجنة برحمته، ويعذِّب الكافرين، ويُدخلهم النار عدلًا منه، فمن نجا، ودخل الجنة، فليس بعمله؛ لأنه لا يستحقّ على الله تعالى بعمله شيئًا، وإنما هو برحمة الله تعالى وفضله، وذهبت المعتزلة إلى إيجاب ثواب الأعمال على الله تعالى، وحَكَّموا العقل، وأوجبوا مراعاة الأصلح، ولهم في ذلك خبط عريض، تعالى الله عز وجل عن اختراعاتهم الباطلة المنابذة لنصوص الشرع، قاله وليّ الدين العراقيّ رحمه الله

(1)

.

(المسألة الثالثة): في أقوال أهل العلم في الجمع بين حديث الباب، وبين الآيات التي تدلّ على أن دخول الجنة بالأعمال؛ كقوله تعالى: {ادْخُلُوا

(1)

"طرح التثريب" 9/ 172.

ص: 517

الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، وقوله:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وقوله:{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} [الزخرف: 72].

قال ابن بطال رحمه الله ما مُحَصَّله: أن تُحمل الآية على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يُحمل الحديث على دخول الجنة، والخلود فيها.

ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال.

وأجاب بأنه لفظ مجمل بيَّنه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول، ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسِّرًا للآية، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون، مع رحمة الله لكم، وتفضّله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضّل عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.

وقال القاضي عياض رحمه الله: طريق الجمع أن الحديث فَسَّر ما أُجمل في الآية، فذكر نحوًا من كلام ابن بطال الأخير، وأن من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله وبرحمته.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة:

الأول: أن التوفيق للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان، ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة.

الثاني: أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحَقٌّ لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء، فهو من فضله.

الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.

الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا ينفد، فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفد بالفضل، لا بمقابلة الأعمال.

ص: 518

وقال الكرمانيّ: الباء في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ليست للسببية، بل للإلصاق، أو المصاحبة؛ أي: أورثتموها ملابسة، أو مصاحبة، أو للمقابلة نحو: أعطيت الشاة بالدرهم، وبهذا الأخير جزم الشيخ جمال الدين بن هشام في "المغني" فسبق إليه، فقال: تَرِدُ الباء للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف، ومنه:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وإنما لم تقدَّر هنا للسببية، كما قالت المعتزلة، وكما قال الجميع في:"لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"؛ لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانًا، بخلاف المسبب، فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث.

قال الحافظ: سبقه إلى ذلك ابن القيم، فقال في "كتاب مفتاح دار السعادة": الباء المقتضية للدخول غير الباء الماضية، فالأُولى السببية الدالة على أن الأعمال سبب الدخول المقتضية له، كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، والثانية بالمعاوضة، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لَمَا أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده، ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا أن يكون عوضًا لها؛ لأنه ولو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فتبقى سائر نعمه مقتضية لشكرها، وهو لم يوفها حقّ شكرها، فلو عذّبه في هذه الحالة لعذّبه، وهو غير ظالم، وإذا رَحِمه في هذه الحالة كانت رحمته خيرًا من عمله، كما في حديث أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه الذي أخرجه أبو داود، وابن ماجه في ذِكر القَدَر، ففيه: "لو أن الله عذّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم، وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرًا لهم

" الحديث، قال: وهذا فصل الخطاب مع الجبرية الذين أنكروا أن تكون الأعمال سببًا في دخول الجنة من كل وجه، والقدرية الذين زعموا أن الجنة عوض العمل، وأنها ثمنه، وأن دخولها بمحض الأعمال، والحديث يبطل دعوى الطائفتين، والله أعلم.

وجوَّز الكرمانيّ أيضًا أن يكون المراد: أن الدخول ليس بالعمل، والإدخال المستفاد من الإرث بالعمل، وهذا إن مشى في الجواب عن قوله تعالى:{أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] لم يمش في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

ص: 519

قال الحافظ: ويظهر لي في الجمع بين الآية والحديث جواب آخر، وهو أن يُحْمَل الحديث على أن العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة، ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك، فأمْر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضرّ بعد هذا أن تكون الباء للمصاحبة، أو للإلصاق، أو المقابلة، ولا يلزم من ذلك أن تكون سببية.

قال: ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أن التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها، وقبولها، إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى.

وردّ الكرمانيّ الأخير بأنه خلاف صريح الحديث.

وقال المازريّ: ذهب أهل السُّنَّة إلى أن إثابة الله تعالى من أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه، ولا يثبت واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يعذب الطائع، وينعِّم العاصي، ولكنه أخبر أنه لا يفعل ذلك، وخبره صدقٌ، لا خُلف فيه، وهذا الحديث يقوِّي مقالتهم، ويردّ على المعتزلة حيت أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خبط كثير، وتفصيل طويل. انتهى ما في "الفتح".

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة القول في هذه المسألة، وأرجح الآراء عندي فيها أنه لا تعارض بين الآيات المذكورة، وبين حديث الباب، وذلك أن دخول الجنّة برحمة الله سبحانه وتعالى وفضله، ومن رحمته وفضله توفيقه للأعمال الصالحة، وقبوله إياها، ثم وَعْده عليها بدخول الجنة، فيقول الله سبحانه وتعالى لهم:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛ أي: أن هذه الأعمال بتوفيق الله عز وجل سبب في دخول الجنّة، واقتسام منازلها المتفاوتة على حسب تفاوت الأعمال، وذلك كله فضل من الله تعالى، ورحمة، لا دخل للعبد في شيء منه، فبهذا تتفق الآيات وحديث الباب، والله تعالى أعلم.

ص: 520

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7086] (

) - (وَحَدَّثَنِيهِ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْن وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ"، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَلَكِنْ سَدِّدُوا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّدَفِيُّ) أبو موسى المصريّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 264) وله ست وتسعون سنةً (م س ق) تقدم في "الإيمان" 75/ 393.

[تنبيه]: قوله: "الصَّدَفِيُّ" بفتح الصاد، والدال، آخره فاء: نسبة إلى الصَّدِفِ بكسر الدال، وهي قبيلة من حِمْير نزلت مصر، قاله في "اللباب"

(1)

.

2 -

(عَمْرُو بْن الْحَارِثِ) بن يعقوب الأنصاريّ مولاهم المصريّ، أبو أيوب، ثقةٌ فقيهٌ حافظٌ [7] مات قديمًا قبل الخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 169.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله، و"بُكير" هو: ابن عبد الله بن الأشجّ.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) فاعل "قال" ضمير عمرو بن الحارث.

[تنبيه]: رواية عمرو بن الحارث عن بُكير هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7087] (

) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ زَيْدٍ- عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُدْخِلُهُ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ"، فَقِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي رَبِّي بِرَحْمَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين أبو بكر البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب، و"أيوب" هو السَّخْتيانيّ.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 236.

ص: 521

وقوله: (ولا أنت يا رسول الله) قال الطيبيّ رحمه الله: الظاهر: ولا إياك؛ أي: للعطف على "أحد"، فعَدَل إلى الجملة الاسمية؛ أي: من الفعلية المقدرة مبالغةً؛ أي: ولا أنت ممن ينجيه عمله؛ استبعادًا عن هذه النسبة إليه، ويَحْتَمِل أنهم فَهِموا قوله:"لن ينجي"، وإنما أرادوا التثبيت فيما فهموه، وحيث يتأيد به أن المتكلم يدخل في عموم كلامه، وأن خطاب الأمة يشمله، وهمها مسألتان مذكورتان في الأصول، وقوله:"ولا أنا" مطابق "ولا أنت"؛ أي: ولا أنا ممن ينجيه عمله. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7088] (

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِمَغْفِرَةٍ، وَرَحْمَةٍ"، وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ عَلَى رَأْسِهِ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِمَغْفِرَةٍ، وَرَحْمَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو: محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أَرْطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من أقران أيوب في العلم، والعمل، والسنّ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ عَلَى رَأْسِهِ) مقول "قال ابن عون" قوله: "ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله إلخ"، وقوله:"بيده هكذا" متعلّق

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 6/ 1965.

ص: 522

بـ "أشار"، ووقع في "مسند الحارث بن أبي أسامة" بلفظ:"ووضع ابن عون يده على رأسه"، ووقع في "شعب "الإيمان" للبيهقيّ بلفظ:"ووضع يده على رأسه هكذا، يصف فعله".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى قبل حديثين، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7089] (

) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح السّمّان، أبو يزيد المدنيّ، صدوقٌ، تغيّر حفظه بأخرة، روى له البخاري مقرونًا، وتعليقًا [6] مات في خلافة المنصور (138)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 161.

2 -

(أَبُوهُ) ذكوان السّمّان الزّيّات المدنيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان يجلُب الزيت إلى الكوفة [3](ت 101)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي، وقبله بباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَتَدَارَكَنِيَ اللهُ) أصل التدارك: اللحوق، والمراد هنا: أن تدركه الرحمة، فهو بمعنى قوله السابق:"إلا أن يتغمّدني الله منه بمغفرة، ورحمة".

وقال في "العمدة": قوله: "إلا أن يتداركني" الاستثناء منقطع، ويَحْتَمِل أن يكون متصلًا، من قبيل قوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"عمدة القاري" 23/ 63.

ص: 523

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7090] (

) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبَّادٍ يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون البغداديّ المعروف بالسمين، تقدّم قبل بابين.

2 -

(أَبُو عَبَّادٍ يَحْيَى بْنُ عَبَّادٍ) الضُّبَعيّ -بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة، بعدها مهملة- البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ [9].

رَوَى عن مالك، وعبد العزيز الماجشون، والحمادين وإبراهيم بن سعد، وغيرهم.

وروى عنه أحمد بن حنبل، ومحمد بن حاتم بن ميمون، ومحمد بن سعد الكاتب، وغيرهم.

قال صالح بن أحمد عن أبيه: أول ما رأيته في مجلس أسباط، كَيِّسٌ، يذاكر الحديث، قلت: ما حاله؟ قال: لا أعلم عليه حجة، وقال حسين بن حبان عن ابن معين: لم يكن بذاك، قد سمع، وكان صدوقًا، وقد أتيناه، فأخرج كتابًا، فإذا هو لا يُحسن يقرأ، قلت: فيحيى بن السكن أثبت منه عندك؟ قال: نعم، هذا أيقظهما، وأكيسهما، وقال عبد الله ابن المديني: يحيى بن عباد ليس ممن أحدث عنه، وبشار الخفاف أمثل منه، وقال أبو حاتم: ليس به بأسٌ، وقال الدارقطنيّ: يُحتج به، وقال الساجيّ: بصري ضعيف، حدَّث عنه أهل بغداد، ولم يحدِّث عنه أحد من أصحابنا بالبصرة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال هو وابن قانع: مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وقال الخطيب أحاديثه مستقيمة، لا نعلمه روى منكرًا.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 524

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ) بن إبراهييم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تكلم فيه بلا قادح [8](ت 185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام المشهور، تقدّم قبل بابين.

5 -

(أَبُو عُبَيْدٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) هو: سعد بن عُبيد الزهريّ، مولى عبد الرحمن بن أزهر المدنيّ، ثقة [21] وقيل: له إدراك (ت 98)(ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 390.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7091] (

) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "قَارِبُوا، وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَن يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا أَنْتَ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: ("قَارِبُوا)؛ أي: اقتصدوا، فلا تَغْلُوا، ولا تُقَصِّروا، بل توسطوا، قاله النوويّ

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وقاربوا" بالباء الموحّدة، لا بالنون، معناه: لا تبلغوا النهاية، بل تقربوا منها، يقال: رجل مقارِبٌ بكسر الراء: وسط بين الطرفين، وقال التيميّ: قاربوا: إما أن يكون معناه: قاربوا في العبادة، ولا تباعدوا فيها، فإنكم إن باعدتم في ذلك لم تبلغوه، وإما أن يكون معناه: ساعدوا، يقال: قاربت فلانًا: إذا ساعدته؛ أي: ليساعد بعضكم بعضًا في

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 162.

ص: 525

الأمور، ويقال: معناه: إن لم تستطيعوا الأخذ بالكل، فاعملوا ما يقرب منه، وفي "العباب": قارب فلان فلانًا: إذا ناغاه بكلام حسن، وفي حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"قاربوا، وسددوا"؛ أي: لا تغلوا، واقصدوا السداد، وهو الصواب، وشيء مقارِبٌ بكسر الراء؛ أي: وسط بين الجيد والرديء، ولا يقال مقارَبٌ؛ يعني: بالفتح، وكذلك إذا كان رخيصًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَسَدِّدُوا)؛ أي: اقصدوا السَّداد، وهو الصواب، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وسددوا" من التسديد، بالسين المهملة، وهو التوفيق للصواب، وهو السداد، والقصد من القول والعمل، ورجل مسدَّد: إذا كان يعمل بالصواب، والقصدِ، ويقال: معنى سددوا: الزموا السَّدادَ؛ أي: الصواب من غير تفريط، ولا إفراط. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7092](2817) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وفي البابين السابقين، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نمير، و"أبو سفيان" هو: طلحة بن نافع.

[تنبيه]: رواية الأعمش عن أبي سفيان هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، مقرونةً بروايته عن أبي صالح، عن أبي هريرة الماضية، فقال:

(350)

- أخبرنا أبو يعلى، حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الساميّ، حدّثنا عبد العزيز بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وأبي سفيان، عن جابر، قا لا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سدّدوا، وقاربوا، ولا ينجي

(1)

"عمدة القاري" 1/ 237.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 162.

(3)

"عمدة القاري" 1/ 237.

ص: 526

أحدًا منكم عمله"، قلنا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه برحمة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7093] (

) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، كَرِوَايَةِ ابْنِ نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: رواية جرير عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7094](2816)

(2)

- (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَزَادَ: "وَأَبْشِرُوا").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَزَادَ) الفاعل ضمير أبي معاوية، وهو محمد بن خازم الضرير.

وقوله: ("وَأَبْشِرُوا")؛ أي: بدخول الجنّة، قال ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" مفسّرًا لهذا الحديث:"سدّدوا" يريد به: كونوا مسدِّدين، والتسديد: لزوم طريقة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واتباع سُنَّته، وقوله:"وقاربوا" يريد به: لا تحملوا على الأنفس من التشديد ما لا تطيقون، "وأبشروا" فإن لكم الجنة، إذا لزمتم طريقتي في التسديد، وقاربتم في الأعمال. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

(1)

"صحيح ابن حبان" 2/ 62.

(2)

مكرر.

(3)

"صحيح ابن حبان" 1/ 319.

ص: 527

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7095](2817)

(1)

- (حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَلَا يُجِيرُهُ مِنَ النَّارِ، وَلَا أَنَا إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ

(2)

".

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادة الكلام عليه، فتنبّه.

وقوله: (لَا يُدْخِلُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ)"يُدخل" بضمّ أوله من الإدخال، "وَلَا يُجِيرُهُ" بضمّ أوله أيضًا من الإيجار.

وقوله: (إِلَّا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) وفي بعض النسخ: "إلا برحمة الله" بالإضافة، والحديث قد سبق البحث فيه مستوفًى، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7096](2818) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنٌ عُقْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ"، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدِ) بن عُبيد الدّرَاوَرْديّ، أبو محمد الْجُهَنيّ مولاهم المدنيّ، صدوقٌ، كان يحدّث من كُتُب غيره، فيخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد الله العمريّ منكر [8](6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

(1)

مكرر.

(2)

وفي نسخة: "إلا برحمة الله".

ص: 528

2 -

(مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش الأسديّ، مولى آل الزبير المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ إمامٌ في المغازي [5] لم يصحّ أن ابن معين ليّنه (ت 141) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

3 -

(بَهْزُ) بن أسد الْعَمِّيّ، أبو الأسود البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9] مات بعد المائتين، وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 112.

4 -

(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عجلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغيّر قليلًا بأَخَرَة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) الزهريّ المدنيّ، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل، ثقةٌ مكثرٌ [3](ت 94 أو 104)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 423.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف بالنسبة لِمَا قبل التحويل، ومن سداسيّاته بالنسبة لما بعده، وأنه مسلسلٌ بالتحديث والإخبار، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها من المكثرين السبعة، وأفقه نساء الأمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها، وقوله:(زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) بالجرّ بدلًا، أو عطف بيان لـ "عائشة"، (أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَدِّدُوا)؛ أى: اقصدوا السّداد؛ أي: الصواب، أو بالغوا في التصويب، مِن سدَّد الرجل: إذا صار ذا سَداد، وسدّد في رميته: إذا بالغ في تصويبها، وإصابتها

(1)

.

(وَقَارِبُوا)؛ أي: لا تغلوا، والمقاربة: القصد في الأمور التى لا غُلُوّ فيها، ولا تقصير، (وَأَبْشِرُوا) بالثواب الجزيل.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا، وقاربوا، وأبشروا"؛

(1)

"فيض القدير" 4/ 103.

ص: 529

التسديد: هو إصابة الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم: إذا أصاب الغرض المرمِيّ إليه، ولم يخطئه، والمقاربة: أن يقارب الغرض، وإن لم يصبه؛ لكن يكون مجتهدًا على الإصابة، فيصيب تارةً، ويقارب تارة أخرى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة، كما قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

وفي "المسند" و"سنن أبي داود"، عن الحكم بن حزن الكلفي أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة:"أيها الناس إنكم لن تطيقوا -أو لن تفعلوا- كل ما أمرتكم؛ ولكن سددوا، وأبشروا".

وقيل: أراد بالتسديد: العمل بالسداد -وهو القصد، والتوسط في العبادة-، فلا يُقَصِّر فيما أُمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.

قال النضر بن شُميل: السداد: القصد في الدِّين والسبيل، وكذلك المقاربة المراد بها: التوسط بين التفريط والإفراط، فهما كلمتان بمعنى واحد، وقيل: بل المراد بالتسديد: التوسط في الطاعات بالنسبة إلى الواجبات، والمندوبات، وبالمقاربة: الاقتصار على الواجبات، وقيل فيهما غير ذلك.

وقوله: (أبشروا)؛ يعني: أن من قَصَد المراد، فليُبْشِر. انتهى

(1)

.

(فَإِنَّهُ) الفاء للتعليل، والضمير للشأن، أي: لأن الشأن والأمر (لَنْ يُدْخِلَ) بضمّ أوله، من الإدخال، مبنيًّا للفاعل، (الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ) مرفوع على الفاعليّة، (قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ) قد تقدّم شرح هذه الجملة، فلا حاجة إلى إعادته. (وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ") قال النوويّ رحمه الله: لأن بدوام القليل تستمرّ الطاعة بالذكر، والمراقبة، والإخلاص، والإقبال على الله، بخلاف الكثير الشاقّ حتى ينمو القليل الدائم، بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرةً.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: إنما أحب الدائم لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه؛ كالمُعْرِض بعد الوصول،

(1)

"فتح الباري" لابن رجب 1/ 77.

ص: 530

فهو متعرض لهذا، ولهذا أورد الوعيد في حقّ من حَفِظ آية، ثم نسيها، وإن كان قبل حفظها لا تتعين عليه.

والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لَازَم الباب في كل يوم وقتًا ما كمن لازم يومًا كاملًا ثم انقطع. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7096 و 7097](2818) وقد تقدّم آخره للمصنّف برقم [1827 و 1828](782)، وتقدّم شرحه مستوفًى هناك، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6464 و 6467)، و (أبو داود) في "قيام الليل"(1642)، و (النسائيّ) في "الكبرى" في "كتاب الرقائق"

(2)

، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 125 و 273)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(1/ 366) وفوائد الحديث تقدّمت، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال: [7097] (

) - (وَحَدَّثَنَاهُ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَأَبْشِرُوا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حَسَنٌ الْحُلْوَانِيُّ) -بضم الحاء المهملة- هو: الحسن بن عليّ بن محمد الْهُذليّ، أبو عليّ الخلال، نزيل مكة، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف [11](ت 242)(خ م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(يَعْقوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف

(1)

راجع: "شرح السيوطيّ لسنن النسائيّ" 2/ 71 - 72.

(2)

قال في "تحفة الأشراف" 11/ 801: أخرجه في "كتاب الرقائق"، وكتب في الحاشية: أن "كتاب الرقائق" ليس في المطبوع من الكبرى، فتنبّه.

ص: 531

الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ) بن عبد الله بن حنطب المخزوميّ، أبو طالب المدنيّ، صدوقٌ [7] مات في خلافة المنصور (خت م ت ق) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

و"موسى بن عقبة" ذُكر قبله.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ: "وَأَبْشِرُوا") فاعل "يذكر" ضمير عبد العزيز بن المطّلب.

[تنبيه]: رواية عبد العزيز بن المطّلب عن موسى بن عقبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(26386)

- حدّثنا يعقوب، قال: ثنا عبد العزيز بن المطّلب، عن موسى بن عقبة، عن أبى سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قال: سدِّدوا، وقاربوا، واعلموا أن لن يُدخِل أحدَكُم عملُه الجنةَ، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها، وإن قلّ". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ إِكْثَارِ الأَعْمَالِ، وَالِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7098]

(2819) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَكَلَّفُ هَذَا، وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ

(2)

مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ:"أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا").

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 273.

(2)

وفي نسخة: "وقد غُفِر لك".

ص: 532

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ أبو رجاء البغلانيّ، تقدّم في الباب الماضي. 2 - (أَبُو عَوَانَةَ) وضاح اليشكريّ الواسطيّ البزاز، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [7](ت 5 أو 176)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

3 -

(زِيادُ بْنُ عِلَاقَةَ) -بكسر العين المهملة، وبالقاف- الثّعْلبيّ -بالمثلثة، والمهملة- أبو مالك الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [3](ت 135) وقد جاز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 208.

4 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابي المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إِمْرة البصرة، ثم الكوفة، مات سنة خمسين، على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (431) من رباعيّات الكتاب، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ) بكسر العين المهملة، (عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ) رضي الله عنه، وفي رواية سفيان التالية:"سمع المغيرة بن شعبة يقول: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم". (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ)، وفي الرواية التالية:"حتى ورمت قدماه"، وفي رواية للبخاريّ:"إن كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لَيقوم -أو ليصلي- حتى تَرِمَ قدماه، أو ساقاه". قال في "الفتح": قوله: "إن كان ليقوم، أو ليصلي": "إنْ" مخففة من الثقيلة، و"ليقوم" بفتح اللام، وفي رواية كريمة:"لَيقوم، يصلي"، وفي حديث عائشة:"كان يقوم من الليل"، قوله:"حتى تَرِم" بفتح المثناة، وكسر الراء، وتخفيف الميم، بلفظ المضارع، من الْوَرَم، هكذا سُمِع، وهو نادر، وفي رواية خلاد بن يحيى:"حتى ترم، أو تنتفخ قدماه"، وللنسائي من حديث أبي هريرة:"حتى تَزْلع قدماه" بزاي، وعين مهملة، ولا اختلاف بين هذه الروايات، فإنه إذا حصل الانتفاخ، أو الورم حصل الزلع، والتشقق، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 3/ 524 رقم (1130).

ص: 533

(فَقِيلَ لَهُ) لم يسمّ القائل، ويَحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها، كما سيأتي في حديثها. (أَتَكَلَّفُ هَذَا) هكذا بحذف التاء، أصله أتتكلّف، فحُذفت إحداهما؛ تخفيفًا، كما في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

(وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ) وفي بعض النسخ: "وقد غُفر لك"، بالبناء للمفعول، (مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ) وفي حديث عائشة الآتي: "فقالت له عائشة: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك؟ "، وفي حديث أبي هريرة عند البزار:"فقيل له: تفعل هذا، وقد جاءك من الله أن قد غفر لك؟ ".

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا") قال القاضي رحمه الله: الشكر معرفة إحسان المحسن، والتحدث به، وسمّيت المجازاة على فعل الجميل شكرًا؛ لأنها تتضمن الثناء عليه، وشكر العبد لله تعالى: اعترافه بنعمه، وثناؤه عليه، وتمام مواظبته على طاعته، وأما شكر الله تعالى أفعال عباده: فمجازاته إياهم عليها، وتضعيف ثوابها، وثناؤه بما أنعم به عليهم، فهو المعطي، والمثني سبحانه وتعالى، والشكور من أسمائه سبحانه وتعالى بهذا المعنى. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي ذكره القاضي في معنى شكر الله عباده ليس هو معنى الشكر، وإنما هو ثمراته، وإلا فمعناه: أن يشكر الله تعالى عبده بالقول في الملأ الأعلى، كما ثبت في الحديث الآخر:"وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه"، وكما يقول الله تعالى للواقفين في عرفة، ففي "صحيح ابن خزيمة" من حديث جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم عرفة إن الله ينزل إلى السماء، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعْثًا غُبْرًا ضاحين، من كل فج عميق، أُشهدكم أني قد غفرت لهم. . ." الحديث

(1)

.

والحاصل: أن شُكر الله عز وجل لعباده شُكر بالقول وغيره، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال في "الفتح": والفاء في قوله: "أفلا أكون" للسببية، وهي عن

(1)

"صحيح ابن خزيمة" 4/ 263.

ص: 534

محذوف، تقديره: أأترك تهجدي، فلا أكون عبدًا شكورًا، والمعنى أن المغفرة سبب لكون التهجد شكرًا، فكيف أتركه؟.

قال القرطبيّ رحمه الله: ظنّ من سأله عن سبب تحمّله المشقّة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفًا من الذنوب، وطلبًا للمغفرة والرحمة، فمن تحقق أنه غُفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقًا آخر للعبادة، وهو الشكر على المغفرة، وإيصال النعمة لمن لا يستحقّ عليه فيها شيئًا، فيتعيّن كثرة الشكر على ذلك، والشكر: الاعتراف بالنعمة، والقيام بالخدمة، فمن كَثُر ذلك منه سُمّي شَكُورًا، ومن ثَمّ قال سبحانه وتعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلق بهذا الحديث:

(المسأله الأولى): حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 7098 و 7099](2819)، و (البخاريّ) في "التهجّد"(1130) و"التفسير"(4836) و"الرقاق"(6471)، و (الترمذيّ) في "الصلاة"(412) وفي "الشمائل"(261)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(1644) وفي "الكبرى"(1325)، و (ابن ماجه) في "إقامة الصلاة"(1417)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(4746)، و (الحميدي) في "مسنده"(759)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 251 و 255)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(1182 و 1183)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(311)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 16 و 7/ 39)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(931)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كثرة العبادة، والاجتهاد فيها، والخشية من ربّه عز وجل، مع أنه غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وما تأخّر؛ ليكون عبدًا شكورًا.

(1)

"المفهم" 7/ 139.

ص: 535

قال العلماء رحمهم الله: إنما ألزم الأنبياءُ -عليهم الصلاة والسلام- أنفسَهم بشدّة الخوف، لعلمهم بعظيم نعمة الله تعالى عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم في عبادته، ليؤدوا بعض شكره، مع أن حقوق الله تعالى أعظم من أن يقوم بها العباد. والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): أن فيه مشروعيةَ الصلاة للشكر، وأن الشكر يكون بالعمل، كما يكون باللسان، كما قال الله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} الآية [سبأ: 13].

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث: أخْذ الإنسان على نفسه بالشدّة في العبادة، وإن أضرّ ذلك ببدنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا فعل ذلك مع علمه بما سبق له، فكيف بمن لم يعلم بذلك، فضلًا عمن لم يأمن أنه استحق النار. انتهى.

قال الحافظ: ومحل ذلك ما إذا لم يُفض إلى الملال؛ لأن حال النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت أكمل الأحوال، فكان لا يَمَلّ من عبادة ربه، وإن أضرّ ذلك ببدنه، بل صحّ أنه قال:"وجُعلت قرة عيني في الصلاة"، كما أخرجه النسائيّ من حديث أنس رضي الله عنه، فأما غيره صلى الله عليه وسلم، فإذا خشي الملل لا ينبغي له أن يُكره نفسه، وعليه يُحْمَل قوله صلى الله عليه وسلم:"خُذُوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا". انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله بعض العلماء: ما ورد في القرآن والسُّنَّة منِ ذكر ذنب لبعض الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، ونحو ذلك فليس لنا أن نقول ذلك في غير القرآن والسُّنَّة، حيث ورد، ويُؤَوَّل ذلك على ترك الأَولى، وسُمّيت ذنوبًا لِعِظَم مقدارهم، كما قال بعضهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وعلى هذا فما وجه قول من سأله من الصحابة رضي الله عنهم بقوله:"أتتكلف هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر"؟.

والجواب: أن من سأله عن ذلك إنما أراد به ما وقع في "سورة الفتح"، ولعل بعض الرواة اختصر عزو ذلك إلى الله؛ لِمَا جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "تفعل ذلك، وقد جاءك من الله أن قد غفر لك ما تقدم من ذنبك

(1)

"الفتح" 3/ 524 رقم (1130).

ص: 536

وما تأخر"، ولك أن تقول: دلّ قوله: "وما تأخر" على انتفاء الذنب؛ لأن ما لم يقع إلى الآن لا يسمى ذنبًا في الخارج، وأراد الله تأمينه بذلك؛ لشدة خوفه حيث قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله، وأشدكم له خشية"، فأراد: لو وقع منك ذنب لكان مغفورًا، ولا يلزم من فرض ذلك وقوعه، والله تعالى أعلم

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7099]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ، سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَقُولُ: قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهُ، قَالُوا: قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب وقبله، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير، و"سفيان" هو ابن عيينة، ومن لطائف الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (432) من رباعيّات الكتاب.

وقوله: (حَتَّى وَرِمَتْ قَدَمَاهُ) قال ابن الأثير رحمه الله؛ أي: انتفخت من طول قيامه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، يقال: وَرِمَ يَرِمُ، والقياس يَورَمُ، وهو أحد ما جاء على هذا البناء. انتهى

(2)

.

وفي رواية: "حتى تفطَّرت رجلاه" معنى تفطرت: تشققت، قالوا: ومنه فطَّر الصائم، وأفطره؛ لأنه خَرَق صومه، وشقه.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7100]

(2820) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ، حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلَاهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟

(1)

"عمدة القاري" 7/ 180.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 5/ 176.

ص: 537

فَقَالَ: "يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ

(1)

عَبْدًا شَكُورًا").

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل باب، غير واحد، وهو:

1 -

(هَارُون بْنُ مَعْرُوفٍ) المروزيّ، أبو عليّ الخزاز الضرير، نزيل بغداد، ثقةٌ [10](ت 231) وله أربع وسبعون سنةً (خ م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 350.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى قَامَ، حَتَّى تَفَطَّرَ) على وزن تفعّل بالتشديد بتاء واحدة، وهو على صيغة الماضي، فتكون الراء مفتوحة، وفي رواية الأصيليّ:"تتفطر" بتاءين، وقد يأتي فيما كان بتاءين حُذف إحداهما، كما في قوله:{نَارًا تَلَظَّى} أصله تتلظى، بتاءين، فلم تُحذف ههنا فعلى هذا تكون الراء مضمومة، وعلى الأصل رواية الأصيليّ، وقوله:(رِجْلَاهُ) مرفوع؛ لأنه فاعل "تفطر". (قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَصْنَعُ هَذَا)؛ أي: التكلّف في العبادة حتى تفطّر رجلاك، (وَ) الحال أنه (قَدْ غُفِرَ) بالبناء للمفعول؛ أي: غفر الله تعالى (لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ؟) معناه: أنه لو وقع لوقع مغفورًا، ففيه بشرى على أنه سبحانه وتعالى يعصمه من اقتراف الذنوب، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("يَا عَائِشَةُ، أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا") قال في "العمدة": الفاء فيه للسببية، ففيه بيان أن الشكر سبب للمغفرة، والتهجد هو الشكر، فلا يتركه. انتهى

(2)

.

وفي رواية للبخاريّ: "أفلا أُحِبّ أن أكون عبدًا شكورًا"، وزادت فيه:"فلما كثر لحمه صلى جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام، فقرأ، ثمّ ركع".

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "أفلا أكون عبدًا شكورًا" هذا استفهام على طريق الإشفاق، قيل: وهو أَولى مِن جَعْله للإنكار بلا شقاق؛ أي: إذا أكرمني مولاي بغفرانه، أفلا أكون شكورًا لإحسانه، أو أنه عطف على محذوف؛ أي:

(1)

وفي نسخة: "قال: أفلا أكون".

(2)

"عمدة القاري" 7/ 180.

ص: 538

أأترك صلاتي لأجل تلك المغفرة، فلا أكون عبدًا شكورًا، وكيف لا أشكره، وقد أنعم عليّ، وخصني بخير الدارين، فإن الشكور من أبنية المبالغة، تستدعي نعمة خطيرة، وذِكر العبد أدعى إلى الشكر؛ لأنه إذا لاحظ كونه عبدًا أنعم عليه مالكه بمثل هذه النعمة، ظهر وجوب الشكر كمال الظهور. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [21/ 7100](2820)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(43) و"التهجّد"(1151) و"الرقاق"(6464)، و (أبو داود) في "قيام الليل"(1642)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 97)، و (محمد بن نصر) في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 241)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(7/ 39) وفوائده تقدّمت، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(22) - (بَابُ الِاقْتِصَادِ فِي الْمَوْعِظَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7101]

(2821) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللهِ، نَنْتَظِرُهُ، فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيُّ، فَفُلْنَا: أَعْلِمْهُ بِمَكَانِنَا، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ خَرَجَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللهِ، فَقَالَ: إِنِّي أُخْبَرُ بِمَكَانِكُمْ، فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ، إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا).

(1)

"فيض القدير" 5/ 239.

ص: 539

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلّهم ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية، غير:

1 -

(شَقِيق) وهو ابن سلمة، أبو وائل الأسديّ الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ شَقِيقِ) بن سلمة؛ أنه (قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا) بالضمّ جمع جالس، (عِنْدَ بَابِ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، حال كوننا (نَنْتَظِرُهُ)؛ أي: ننتظر خروجه من بيته حتى يعظنا، ويُعلّمنا، (فَمَرَّ بِنَا يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيةَ) الكوفيّ العابد ثقة من الثالثة، حَكَى ابنُ أبي خيثمة أنه معدود من العبّاد، ثم رَوَى عن عبد الرحمن بن يزيد النحعيّ قال: خرجنا في جيش نحو فارس، وفينا علقمة بن قيس، ويزيد بن معاوية النخعيّ، فقُتل بها، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: قُتل غازيًا بفارس، وقال العجليّ: كان من أصحاب عبد الله، وروى البخاري في "تاريخه" قصة مقتله، له ذِكرٌ في الدعاء من "صحيح البخاري"، وعند مسلم في هذا الباب، وليست له رواية عندهما، فتنبه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (النَّخَعِيُّ) بفتح النون والخاء، بعدها عين مهملة: نسبة إلى النخع، قبيلة كبيرة من مَذْحِج، واسم النخع: جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مالك بن أدد، وقيل له: النخع؛ لأنه انتخع من قومه؛ أي: بَعُد عنهم، فنزل بيشة، ونزلوا في الإسلام الكوفة، قاله في "اللباب"

(1)

.

(فَقُلْنَا) ليزيد: (أَعْلِمْهُ) بقطع الهمزة، من الإعلام، (بِمَكَانِنَا) الذي نحن فيه منتظرين خروجه. (فَدَخَلَ) يزيد (عَلَيْهِ)؛ أي: على ابن مسعود رضي الله عنه، (فَلَمْ يَلْبَثْ) من باب تَعِبَ؛ أي: لم يتأخّر (أَنْ خَرَجَ)"أن" بالفتح مصدريّة، (عَلَيْنَا)

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 304.

ص: 540

وقوله: (عَبْدُ اللهِ) مرفوع على الفاعليّة؛ أي: لم يتأخّر خروج عبد بن مسعود علينا. (فَقَالَ) عبد الله: (إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في الابتداء، (أُخْبَرُ) بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُخبرني مخبر، وفي رواية أحمد:"فقال: إنه ليُذْكَرُ لي مكانكم". (بِمَكَانِكُمْ) الذي أنتم فيه، وهو بابه. (فَمَا) نافية، (يَمْنَعُنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ) "أن" مصدريّة أيضًا؛ أي: من الخروج إليكم، (إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ) الاستثناء مفرّغ، و"كراهية" فاعل لـ"يمنعني"، ثم قال ابن مسعود مبيّنًا كونه في ذلك متّبعًا للنبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم) بكسر الهمزة أيضًا؛ لِمَا أسلفته آنفًا. (كَانَ يَتَخَوَّلُنَا) بالخاء المعجمة، وباللام، من التخول، وهو التعهد، من خال المال، وخال على الشيء خَوَلًا: إذا تعهد، ويقال: خال المالَ يخوله خَوْلًا: إذا ساسه، وأحسن القيام عليه، والخائل: المتعاهد للشيء المصلح له، وخوّل الله الشيءَ؛ أي: ملَّكه إياه، وخَوَلُ الرجلِ: حَشَمُه، الواحد خائل، وقال أبو عمرو الشيبانيّ: الصواب: "يتحولهم" بالحاء المهملة؛ أي: يطلب أحوالهم التي يَنشطون فيها للموعظة، فيعظهم، ولا يُكثر عليهم، فيملّوا، وكان الأصمعي يرويه:"يتخوننا" بالنون، والخاء المعجمة؛ أي: يتعهدنا، حكاه عنهما صاحب "نهاية الغريب"، وفي "مجمع الغرائب": قال الأصمعيّ: أظنه: يتخوّنهم بالنون، وهو بمعنى التعهد، وقيل: إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدّث هذا الحديث، فقال:"يتخولنا" باللام، فردّه عليه بالنون، فلم يرجع؛ لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز، والصواب بالخاء المعجمة، وباللام، وقال ابن الأعرابيّ: معناه: يتخذنا خَوَلًا، ويقال: يناجينا بها، وقيل: يصلحنا، وقال أبو عبيدة: يُذَلِّلنا بها، يقال: خوّل الله لك؛ أي: ذلّله لك، وسخّره، وقيل: يحبسهم عليها كما يُحبَس الخَوَل، ذكره في "العمدة"

(1)

.

(بِالْمَوْعِظَةِ) متعلّق بـ"يتخوّلنا"، قال الصغاني: الوعظ، والعِظَة، والموعظة مصادر قولك: وعظته أَعِظه، والوعظ هو النصح، والتذكير بالعواقب. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "كان يتخولنا" بالخاء المعجمة، وتشديد الواو،

(1)

"عمدة القاري" 2/ 45.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 44.

ص: 541

قال الخطابيّ: الخائل بالمعجمة: هو القائم المتعهد للمال، يقال: خال المال يخوله: إذا تعهده، وأصلحه، والمعنى: كان يراعي الأوقات في تذكيرنا، ولا يفعل، ذلك كل يوم؛ لئلا نملّ، والتخون بالنون أيضًا، يقال: تخوّن الشيءَ: إذا تعهّده، وحَفِظه؛ أي: اجتنب الخيانة فيه، كما قيل: في تحنّث، وتأثّم، ونظائرهما، وقد قيل: إن أبا عمرو بن العلاء سمع الأعمش يحدّث هذا الحديث، فقال:"يتخولنا" باللام، فردّه عليه بالنون، فلم يرجع؛ لأجل الرواية، وكلا اللفظين جائز، وحَكَى أبو عبيد الهرويّ في "الغريبين" عن أبي عمرو الشيباني أنه كان يقول: الصواب: يتحوّلنا بالحاء المهملة؛ أي: يتطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة.

قال الحافظ: والصواب من حيث الرواية الأُولى، فقد رواه منصور، عن أبي وائل، كرواية الأعمش، وإذا ثبتت الرواية، وصح المعنى بطل الاعتراض. انتهى

(1)

.

(في الأَيَّامِ) متعلّق بحال من "الموعظة"؛ أي: حال كون الموعظة كائنة في الأيام، أو بصفة منه؛ أي: بالموعظة الكائنة في الأيام، (مَخَافَةَ السَّآمَةِ) منصوب على أنه مفعول له؛ أي: لأجل مخافة السآمة، وصلة السآمة محذوفة؛ لأنه يقال: سأمت من الشيء، والتقدير: مخافة السآمة من الموعظة، و"السآمة" مثل الملالة وزنًا ومعنى، وقال أبو زيد: سَئِمت من الشيء أسأم، سأمًا، وسآمة، وسآمًا: إذا مَلِلته. انتهى

(2)

.

وقوله: (عَلَيْنَا) إما يتعلق بالسآمة على تضمين السآمة معنى المشقة؛ أي: مخافة المشقة علينا؛ إذ المقصود بيان رفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأمة، وشفقته عليهم؛ ليأخذوا منه بنشاط، وحرص، لا عن ضجر وملل، وإما يجعل صفة، والتقدير: مخافة السآمة الطارئة علينا، وإما يجعل حالًا، والتقدير: مخافة السآمة حال كونها طارئة علينا، وإما يتعلق بالمحذوف، والتقدير: مخافة السآمة شفقةً علينا، فافهم

(3)

.

(1)

"الفتح" 1/ 287، "كتاب العلم" رقم (68).

(2)

"عمدة القاري" 2/ 44.

(3)

"عمدة القاري" 2/ 44.

ص: 542

والمعنى: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعظ الصحابة في أوقات معلومة، ولم يكن يستغرق الأوقات خوفًا عليهم من الملل والضجر، وقد وصفه الله تعالى بالرفق بأمته، فقال:{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [22/ 7101 و 7102 و 7103](2821)، و (البخاريّ) في "العلم"(68 و 70) و"الدعوات"(6411)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 377 و 378 و 425 و 427 و 440 و 443 و 462 و 465 - 466)، و (الترمذيّ) في "الأدب"(2855)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(3/ 449)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4524)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 321)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 259 و 6/ 88) و"الكبير"(10/ 192)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(8/ 445 و 9/ 70 و 146)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 94 و 114)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 81 و 82)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 34)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه الاقتصاد في الموعظة؛ لئلا تملّها القلوب، فيفوت مقصودها.

2 -

(ومنها): بيان ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من الرفق بأصحابه، وحُسْن التوصل إلى تعليمهم، وتفهيمهم؛ ليأخذوا عنه بنشاط، لا عن ضجر، ولا ملل.

3 -

(ومنها): أنه ينبغي للواعظ والمعلّم أن يقتدي بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الهدي؛ فإن التعليم بالتدريج أخفّ مؤنةً، وأدعى إلى الثبات من أخذه بالكدّ، والمغالبة.

4 -

(ومنها): أن فيه منقبةً لابن مسعود رضي الله عنه؛ لمتابعته للنبيّ صلى الله عليه وسلم في القول، والعمل، ومحافظته على ذلك.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": يستفاد من الحديث استحباب ترك

ص: 543

المداومة في الجدّ في العمل الصالح؛ خشيةَ الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة، لكنها على قسمين: إما كلَّ يوم مع عدم التكلف، وإما يومًا بعد يوم، فيكون يوم الترك لأجل الراحة ليُقبل على الثاني بنشاط، وإما يومًا في الجمعة، ويختلف باختلاف الأحوال، والأشخاص، والضابطُ: الحاجة مع مراعاة وجود النشاط.

قال: واحتَمَلَ عمل ابن مسعود رضي الله عنه مع استدلاله أن يكون اقتدى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم حتى في اليوم الذي عيّنه، واحتَمَل أن يكون اقتدى بمجرد التخلل بين العمل والترك الذي عبّر عنه بالتخوّل، والثاني أظهر.

6 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح" أيضًا: إنه أخذ بعض العلماء من حديث البارب كراهة تشبيه غير الرواتب بالرواتب بالمواظبة عليها، في وقت معيَّن، دائمًا، وجاء عن مالك ما يُشبه ذلك. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7102]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ (ح) وَحَدَّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَا: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، وَزَادَ مِنْجَابٌ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ: قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد الكوفيّ، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ إِدْرِيسَ) عبد الله الأوديّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التَّمِيمِيُّ) الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(ابْنُ مُسْهِرٍ) عليّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

(1)

"الفتح" 1/ 287، "كتاب العلم" رقم (68).

ص: 544

6 -

(عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ) المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السَّبِيعيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

9 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

و"الأعمش" ذُكر قبله.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ)؛ يعني: كلّ هؤلاء الأربعة: ابن إدريس، وابن مسهر، وعيسى بن يونس، وسفيان بن عيينة رووا هذا الحديث عن الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود رضي الله عنه.

وقوله: (قَالَ الأَعْمَشُ. . . إلخ) موصول بالإسناد السابق، وليس معلّقًا، فتنبّه. وقوله أيضًا:(قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ مِثْلَهُ) غرضه بيان أن للأعمش في هذا الحديث طريقًا آخر غير طريق شقيق، وهو أنه أخذه عن عمرو بن مرّة بن عبد الله بن طارق الْجَمليّ الكوفي المتوفّى سنة (118) تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 85/ 452، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما حدّثه به شقيق دون واسطة.

والحاصل: أن الأعمش سمع الحديث عن عمرو بن مرّة، عن شقيق بن سلمة، ثم سمعه عن شقيق دون واسطة، فحدّث بالإسنادين جميعًا.

[تنبيه]: أما رواية عبد الله بن إدريس عن الأعمش، فقد ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(5226)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا ابن إدريس، قال: سمعت الأعمش، يذكر عن شقيق، قال: كان عبد الله يخرج إلينا، فيقول: إني لأُخْبَر بمكانكم، فما يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهية أن أُمِلَّكم، "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ كراهية السآمة علينا". انتهى

(1)

.

(1)

"مسند أبي يعلى" 9/ 146.

ص: 545

وأما رواية سفيان بن عيينة عن الأعمش، فقد ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(107)

- حدّثنا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الأعمش، قال: سمعت أبا وائل شقيق بن سلمة يقول: كنا جلوسًا ننتظر عبد الله بن مسعود، فأتانا يزيد بن معاوية النخعيّ، فقال: ما لكم؟ قلنا: ننتظر عبد الله بن مسعود، فقال: أين ترونه؟ قلنا: في الدار، قال. أفلا أذهب، فأُخرجه إليكم؟ فذهب، فلم يلبث أن خرج عبد الله، حتى قام علينا، ومعه يزيد بن معاوية، فقال عبد الله: إني لأُخبر بمجلسكم، فما يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهية أن أُمِلَّكم، و"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخوّلنا بالموعظة في الأيام؛ كراهة السآمة علينا". انتهى

(1)

.

وأما رواية عليّ بن مسهر عن الأعمش، فقد ساقها الطبرانيّ رحمه الله في "الكبير"، فقال:

(10430)

- حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن المسروقيّ الكوفيّ، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا عليّ بن مُسهر، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إني لأُخبر بموضعكم، فما يمنعني أن أخرج إليكم، إلا كراهية أن أملكم، "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة، في الأيام، كراهية السآمة علينا". انتهى

(2)

.

وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، وكذلك رواية الأعمش عن عمرو بن مُرّة، عن شقيق، لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: ذكر الدارقطنيّ رحمه الله في "العلل" الاختلاف في هذا الحديث، ونصّه:

(767)

- وسئل عن حديث علقمة، عن عبد الله:"كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا"، فقال: يرويه الأعمش، واختُلف عنه،

(1)

"مسند الحميديّ" 1/ 60.

(2)

"المعجم الكبير" للطبرانيّ 10/ 192.

ص: 546

فرواه المخرميّ محمد بن عبد الله، عن شاذان، عن الثوريّ، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن علقمة، عن عبد الله، تفرد بهذا القول، والمحفوظ: عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، ليس فيه علقمة، ورواه عليّ بن مسهر، عن الأعمش، فقال: عن عمرو بن مرة، عن أبي وائل، عن عبد الله، وقال أبو عوانة: عن الأعمش، عن مالك بن الحارث، عن أبي وائل، وقد سمعه الأعمش عن أبي وائل، عن عبد الله، وهو صحيح عنه، ورُوي أيضًا عن أبي عوانة، وعليّ بن مسهر جميعًا، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله، وهو الصحيح. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما يُفهم مما قاله الدارقطنيّ رحمه الله أن المحفوظ هو رواية الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله رضي الله عنه، وبقيّة الروايات ليست صحيحة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7103]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ يُذَكِّرُنَا كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ، وَنَشْتَهِيهِ، وَلَوَدِدْنَا أَنَّكَ حَدَّثْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: مَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ كَرَاهِيَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضِ) بن مسعود التميميّ، أبو عليّ الزاهد المشهور، أصله من خُرَاسان، وسكن مكة، ثقةٌ عابدٌ إمامٌ [8] (187) وقيل: قبلها (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 128.

ص: 547

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير شيخيه، فالأول مروزيّ، والثاني عدنيّ، ثم مكيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ شَقِيقٍ)، وقوله:(أَبِي وَائِلٍ) بالجرّ بدلٌ، أو عطف بيان لـ"شقيق"؛ أنه (قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه (يُذَكِّرُنَا) بتشديد الكاف، من التذكير؛ أي: يعظنا، والجملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب؛ لأنها خبر "كان". (كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ) بنصب "كلَّ" على الظرفيّة، (فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ:) قال في "الفتح": هذا المبهَم يُشبه أن يكون هو يزيد بن معاوية النخعيّ. (يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ) كنية عبد الله بن مسعود، (إِنَّا نُحِبُّ حَدِيثَكَ، وَنَشْتَهِيهِ)؛ أي: نريده، (وَلَوَدِدْنَا) اللام فيه جواب قسم محذوف؛ أي: والله لوددنا؛ أي: لأحببنا، و"وددنا" بفتح الواو، وكسر الدال الأُولى، من باب تَعِب، قال الفيّوميّ رحمه الله: وَدِدْتُهُ أَوَدُّهُ، من باب تَعِبَ وُدًّا، بفتح الواو، وضمّها: أحببته، والاسم: المَوَدَّةُ، ووَدِدْتُ لو كان كذا أَوَدُّ أيضًا وُدًّا، ووَدَادَةً بالفتح: تمنَّيته، وفي لغة: وَدَدْتُ أَوَدُّ بفتحتين، حكاها الكسائيُّ، وهو غلط عند البصريين، وقال الزجاج: لم يقل الكسائيُّ إلا ما سمع، ولكنه سمعه ممن لا يوثق بفصاحته. انتهى

(1)

.

(أَنَّكَ) بفتح الهمزة؛ لأنه مفعول "وددنا"، (حَدَّثْتَنَا) وللبخاريّ:"ذكّرتنا"، (كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ) ابن مسعود: (مَا) نافية، (يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِلَّا كَرَاهِيَةُ أَنْ أُمِلَّكمْ)"أن" هذه مصدرية، و"أملكم" بضم الهمزة، وكسر الميم، وتشديد اللام، والاستثناء مفرّغ، فـ"كراهية" فاعل "يمنعني"، والتقدير: إلا كراهية إملالكم، وضجَركم

(2)

.

(إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَخَوَّلُنَا)؛ أي: يتعاهدنا (بِالْمَوْعِظَةِ)؛ أي: بالنصح، والتذكير (فِي الأَيَّامِ) صفة للموعظة؛ أي: بالموعظة الكائنة في الأيام، (كَرَاهِيَةَ السَّآمةِ) كلام إضافيّ، منصوب على أنه مفعول له؛ أي: لأجل كراهة السآمة، والسآمة مثل الملالة لفظًا ومعنى، وصلة "السآمة" محذوفة؛ لأنه يقال:

(1)

"المصباح المنير" 2/ 653.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 48.

ص: 548

سئمتُ من الشيء، والتقدير: كراهة السآمة من الموعظة، وقوله:(عَلَيْنَا) إما يتعلق بالسآمة، على تضمين السآمة معنى المشقة؛ أي: كراهة المشقة علينا، إذ المقصود بيان رِفق النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأمة، وشفقته عليهم، وإما يُجعل صفة لـ"السآمة"، والتقدير. مخافة السآمة الطارئة علينا، وإما يُجعل حالًا، وقد سبق البحث فيه.

قال ابن بطال رحمه الله: فيه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، والمحافظة على سُنَّته على حسب معاينتهم لها منه، وتجنّب مخالفته؛ لِعلمهم بما في موافقته من عِظَم الأجر، وما في مخالفته بعكس ذلك. انتهى.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد سبق تمام شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

ص: 549

(54) - (كِتَابُ الْجَنَّةِ، وَصِفَةِ نَعِيمِهَا، وَأَهْلِهَا)

" الجنة": البستان من الشجر المتكاثف المظلّل بالتفاف أغصانه، والتركيبُ دائر على معنى الستر في الجنة، والجنة، والجنة، والجنون، ونحوها، فكأن الجنة لتكاثفها، وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرّة من مصدر جنَّه: إذا سَتَره، كأنها سترة واحدة؛ لفرط التفافها، وسُميت دار الثواب جنةً؛ لِمَا فيها من الجِنان، أو لكونها مستورة عن أعين الناس، ليكون الإيمان بالغيب، لا بالعيان، أو لأن الله تعالى أخفى من قرة الأعين لأهلها الأعيان، والله سبحانه وتعالى أعلم، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

(1) - (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَالنَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"، وَقَوْلَهِ: "قَالَ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ. . ." الحديث)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7104]

(2822) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَحُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ) القعنبيّ الحارثيّ، أبو عبد الرحمن البصريّ، أصله من المدينة، وسكنها مدّةً، ثقةٌ عابدٌ، كان ابن معين، وابن

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 214.

ص: 550

المدينيّ لا يقدمان عليه في "الموطأ" أحدًا، من صغار [9](ت 221) بمكة (خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 17/ 617.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البُنانيّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(حُمَيْدُ) بن أبي حميد الطويل، أبو عبيدة البصريّ، اختلف في اسم أبيه على نحو عشرة أقوال، ثقةٌ، وعابه زائدة؛ لدخوله في شيء من أمر الأمراء [5](ت 2 أو 143) وهو قائم يصلّي، وله خمس وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الطهارة" 23/ 639.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، وفيه أنس رضي الله عنه تقدّم القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ) بضمّ أوله مبنيًّا للمفعول، من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء، حتى لا يتوصل إليه إلا بتخطيه، ووقع في "صحيح البخاريّ" بلفظ:"حُجِبت"؛ أي: أحيطت (الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ)؛ أي: بما أُمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا، وتركًا، وأطلق عليها المكاره؛ لمشقتها على العامل، وصعوبتها عليه. (وَحُفَّتِ)؛ أي: أحيطت (النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ")؛ أي: بما يُستلذّ من أمور الدنيا، مما مَنع الشرع من تعاطيه، إما بالأصالة، وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "حُفّت" بالحاء المهملة، وتشديد الفاء، من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء، حتى لا يُتوصل إليه إلا بتخطيه، فالجنة لا يُتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا من التمثيل الواقع موقعه، ومن الكلام البليغ الذي انتهى نهايته، وذلك أنه مَثَّل المكاره بالحفاف، وهو الدائر بالشيء

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 236.

(2)

"عمدة القاري" 23/ 78.

ص: 551

المحيط به الذي لا يتوصّل إلى ذلك الشيء إلا بعد أن يُتَخَطَّى، وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تُنال إلا بقطع مفاوز المكاره، وبالصبر عليها، وأن النار لا يُنجى منها إلا بترك الشهوات، وفطام النفس عنها، وقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه مثّل طريق الجنة، وطريق النار بتمثيل آخر، فقال:"طريق الجنة حَزَنٌ بربوة، وطريق النار سهل بسهوة"

(1)

، والحَزَن: هو الطريق الوعر المسلك، والربوة: المكان المرتفع، وأراد به أعلى ما يكون من الروابي، والسهوة: بالسين المهملة، وهي الموضع السهل الذي لا غِلَظ فيه، ولا وعورة، وهذا أيضًا تمثيل حَسَن واقع موقعه. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع بلاغته في ذمّ الشهوات، وإن مالت إليها النفوس، والحضّ على الطاعات، وإن كرهتها النفوس، وشقّ عليها.

وقد ورد إيضاح ذلك من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، فأخرج أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن حبان، والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"لمّا خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها، قال: فرجع إليه، فقال: وعزّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأَمر بها، فحُفَّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خِفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار، فانظر إليها، فرجع، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد، فيدخلها، فأَمر بها، فحُفّت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد"، فهذا يفسِّر حديث الباب، فإن المراد بالمكاره هنا ما أُمر المكلف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا، وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيات قولًا وفعلًا، وأطلق عليها المكاره؛ لمشقتها على العامل، وصعوبتها عليه، ومن جملتها الصبر على المصيبة، والتسليم لأمر الله فيها، والمراد بالشهوات:

(1)

حديث ضعيفٌ، رواه أحمد في "مسنده" 1/ 327 بلفظ:"ألا إن عمل الجنة حزن بربوة ثلاثًا، ألا إن عمل النار سهل بسهوة. . ." الحديث.

(2)

"المفهم" 7/ 161.

ص: 552

ما يُستلذّ من أمور الدنيا، مما مَنع الشرع من تعاطيه، إما بالأصالة، وإما لكون فعله يستلزم ترك شيء من المأمورات، ويلتحق بذلك الشبهات، والإكثار مما أبيح خشية أن يوقع في المحرم، فكأنه قال: لا يوصل إلى الجنة إلا بارتكاب المشقات المعبَّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وهما محجوبتان، فمن هتك الحجاب اقتحم.

ويَحْتَمِل أن يكون هذا الخبر، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النهي. وقوله:"حُفَّت" بالمهملة، والفاء، من الحفاف، وهو ما يحيط بالشيء، حتى لا يُتوصل إليه إلا بتخطيه، فالجنة لا يُتوصل إليها إلا بقطع مفاوز المكاره، والنار لا يُنجَى منها إلا بترك الشهوات.

وقال ابن العربيّ: معنى الحديث: أن الشهوات جُعلت على حفافي النار، وهي جوانبها، وتوهّم بعضهم أنها ضَرَب بها المثلَ، فجعلها في جوانبها من خارج، ولو كان ذلك ما كان مَثَلًا صحيحًا، وإنما هي من داخل، وهذه صورتها المكاره، الشهوات

(1)

، فمن اطلع الحجاب، فقد واقع ما وراءه، وكل من تصورها من خارج، فقد ضلّ عن معنى الحديث، ثم قال: فإن قيل: فقد جاء في البخاريّ: "حُجِبت النار بالشهوات"، فالجواب: أن المعنى واحد؛ لأن الأعمى عن التقوى الذي قد أخذت الشهوات سمعه وبصره يراها، ولا يرى النار التي هي فيها، وذلك لاستيلاء الجهالة، والغفلة على قلبه، فهو كالطائر يرى الحبة في داخل الفخ، وهي محجوبة به، ولا يرى الفخ؛ لغلبة شهوة الحبة على قلبه، وتعلق باله بها.

قال الحافظ: قلت: بالَغَ كعادته في تضليل من حَمَل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيره ببعيد، وأن الشهوات على جانب النار، مِن خارج، فمن واقعها وخرق الحجاب دخل النار، كما أن الذي قاله القاضي مُحْتَمِلٌ

(2)

، والله تعالى أعلم.

(1)

كتب دائرة مربعة، وجعل داخلها لفظ: المكاره، ودائرة ثانية مربعة جعل داخلها لفظ: الشهوات.

(2)

"الفتح" 14/ 638 - 639، "كتاب الرقاق" رقم (6487).

ص: 553

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7104](2822)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2559)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 153 و 254 و 284)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 339)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(716 و 718)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4114)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وبديع بلاغته في ذمّ الشهوات، وإن مالت إليها النفوس، والحضّ على الطاعات، وإن كرهتها النفوس، وشقّ عليها، فينبغي للعبد مجاهدة نفسه، والمبادرة إلى طاعة ربّه، حتى يصل إلى الجنّة.

2 -

(ومنها): بيان أن الجنّة والنار مخلوقتان اليوم، وقد دلّت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على ذلك، وزعمت المعتزلة أنهما يُخلَقان يوم الجزاء، وهو مذهب باطلٌ، منابذ للنصوص الصحيحة الصريحة.

3 -

(ومنها): بيان صعوبة الوصول إلى الجنّة، حيث إنها محفوفة بالمكاره، فلا يصل إليها إلا من أزال تلك الحجب، ولن يكون ذلك إلا ممن وفّقه الله تعالى للطاعات، وجنّبه المعاصي والزّلات، فالسعيد هو الموفّق، وفّقنا الله تعالى لكلّ خير، وجنّبنا كلّ ضير.

4 -

(ومنها): بيان قرب النار، وأن الوصول إليها أمر لا عُسر فيه، حيث إنها محفوفةٌ بشهوات النفس، قال الله عز وجل:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]، اللَّهمَّ أجِرْنا من النار، اللَّهُمَّ إنا نسألك الجنّة، وما قرّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار، وما قرّب إليها، من قول وعمل، برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.

ص: 554

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7105]

(2823) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَبَابَةُ) بن سوّار المدائنيّ، أصله من خُراسان، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فزارة، ثقةٌ حافظٌ، رُمي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

2 -

(وَرْقَاءُ) بن عمر اليشكريّ، أبو بِشْر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ، في حديثه عن منصور لِينٌ [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

3 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشيّ، أبو عبد الرحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

4 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقيان ذُكرا قبل بابين.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7105](2823) ولم يسق متنه، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6487)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4744)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2560)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(7/ 3)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 260 و 380)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(719)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(567)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4115)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): لم يسق المصنّف متن حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، بل أحاله على حديث أنس رضي الله عنه المذكور قبله، وأخرجه البخاريّ في "صحيحه"، لكن بلفظ:"حُجبت" في الموضعين، فقال:

(6122)

- حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثني مالك، عن أبي الزناد، عن

ص: 555

الأعرج، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنة بالمكاره". انتهى

(1)

.

وأخرجه ابن حبّان في "صحيحه" بسند المصنّف، وبلفظ:"حُفّت"، فقال:

(719)

- أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد المروزيّ بالبصرة، قال: أخبرنا أحمد بن منيع، قال: حدّثنا شبابة، قال: حدّثنا ورقاء، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُفّت النار بالشهوات، وحفّت الجنة بالمكاره". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7106]

(2824) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، مِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17]).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) هو: سعيد بن عمرو بن سهل الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"سفيان" هو: ابن عيينة.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه شيخين قرن بينهما، ثم فصل؛ لِمَا أسلفناه غير مرّة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعي، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه غير مرّة، وأنه أحد ما قيل فيه: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل:

(1)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2379.

(2)

"صحيح ابن حبان" 2/ 494.

ص: 556

أَعْدَدْتُ)؛ أي: هيّأت (لِعِبَادِي) بسكون ياء المتكلّم، وتُفتح. (الصَّالِحِينَ)؛ أي: القائمين بما وجب عليهم من حقّ الحقّ والخلق، (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ)؛ أي: ما لا رأت العيون كلّها، لا عين واحدة، فإن العين في سياق النفي تفيد الاستغراق، قال الطيبيّ رحمه الله:"ما" هنا إما موصولة، أو موصوفة، و"عين" وقعت في سياق النفي، فأفاد الاستغراق، والمعنى: ما رأت العيون كلها، ولا عين واحدة منها، والأسلوب من باب قوله تعالى:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، فيَحْتَمِل نفي الرؤية والعين معًا، أو نفي الرؤية، فحسبُ؛ أي: لا رؤية، ولا عين، أو لا رؤية، وعلى الأول الغرض منه العين، وإنما ضُمّت إليه الرؤية؛ ليؤذن بأن انتفاء الموصوف أمر محقّق، لا نزاع فيه، وبلغ في تحققه إلى أن صار كالشاهد على نفي الصفة وعكسه. انتهى

(1)

.

(وَلَا أُذُنٌ) بضمّتين، وبتسكين الذال المعجمة، (سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ)؛ أي: وقع (عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ") قال الطيبيّ رحمه الله: هو من باب قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52]؛ أي: لا قلب، ولا خطور، أو لا خطور، فعلى الأول لهم قلب مخطر، فجعل انتفاء الصفة دليلًا على انتفاء الذات؛ أي: إذا لم يحصل ثمرة القلب، وهو الإخطار، فلا قلب؛ كقوله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37].

قال: والحديث كالتفصيل للآية، فإنها نفت العلم، والحديث نفى طريق حصوله. انتهى

(2)

.

وقال المناويّ رحمه الله: معناه: أنه تعالى ادّخر في الجنة من النعيم، والخيرات، واللذات ما لم يَطّلع عليه أحد من الخلق، بطريق من الطرق، فذكر الرؤية، والسمع؛ لأن أكثر المحسوسات تُدرَك بهما، والإدراك ببقية الحواس أقلّ، ولا يكون غالبًا إلا بعد تقدّم رؤية، أو سماع، ثم زاد أنه لم يجعل لأحد طريقًا إلى توهّمها بذكر، وخطور على قلب، فقد جَلّت عن أن يدركها فكر، وخاطر.

واستُشكل بأن جبريل عليه السلام رآها في عدّة أخبار.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3551 - 3552.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3551 - 3552.

ص: 557

وأجيب بأنه تعالى خلق ذلك فيها بعد رؤيتها، وبأن المراد: عين البشر، وآذانهم، وبأن ذلك يتجدد لهم في الجنة كل وقت، وبأن جبريل إنما ينظر ما أُعدّ لعامتهم، ولهذا قال بعضهم: المراد هنا: التجليات الإلهية التي يتفضل بها الحقّ في الآخرة على خواصه؛ لأنها نِعم خالقيات، وأما النعم الخلقيات التي أخبر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنة النعيم فقد رأتها الأعين، وسمعتها الآذان، وخطرت على قلوب البشر، وإلا لَمَا أخبرها أحدٌ، وأما التجليات الإلهية التي يتفضل بها الحقّ في الآخرة على خواصه، فما رأتها عين، ولا سمعت حقيقتها أذن، ولا خطرت على قلب بشر؛ إذ كل ما يخطر بالبال، أو يمر بالخيال، فالله بخلافه بكل حال. انتهى كلام المناويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: إنما خَصّ البشر؛ لأنهم الذين ينتفعون بما أُعدّ لهم، ويهتمون بشأنه، بخلاف الملائكة.

وتُعُقّب بما زاده ابن مسعود رضي الله عنه في حديثه الذي رواه ابن أبي حاتم: "ولا يعلمه ملَك مقرّب، ولا نبيّ مرسل".

وقال في "الفتح": قوله: "ولا خطر على قلب بشر": زاد ابن مسعود في حديثه: "ولا يعلمه ملَك مقرّب، ولا نبيّ مرسلٌ"، أخرجه ابن أبي حاتم، وهو يدفع قول من قال: إنما قيل البشر؛ لأنه يخطر بقلوب الملائكة، والأَولى حَمْل النفي فيه على عمومه، فإنه أعظم في النفس. انتهى

(2)

.

(مِصْدَاقُ ذَلِكَ) بكسر الميم، وسكون الصاد المهملة؛ أي: ما يُصدّقه، أفاده المجد

(3)

، فـ"مِصداق" مبتدأ، خبره قوله:"فلا تعلم نفس إلخ"؛ لقصد لفظه، و (فِي كِتَابِ اللهِ) عز وجل متعلّق بـ"مصداق"، ({فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ})؛ أيُّ نفس كانت؛ لأن النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا تعلم نفس من النفوس؛ أيّ نفس كانت، ما أخفاه الله سبحانه وتعالى لأولئك الذين تقدّم ذكرهم، مما تقرّ به أعينهم.

(1)

"فيض القدير" 4/ 473.

(2)

"الفتح" 10/ 490، "كتاب التفسير" رقم (4779).

(3)

"القاموس المحيط" ص 733.

ص: 558

({مَا أُخْفِيَ لَهُمْ}) قرأ الجمهور: "أخفي" بالتحريك، على البناء للمفعول، وقرأ حمزة بالإسكان، فعلًا مضارعًا مسندًا للمتكلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود:"نُخفي" بنون العظمة، وقرأها محمد بن كعب:"أَخْفَى" بفتح أوله، وفتح الفاء، على البناء للفاعل، وهو الله تعالى، ونحوها قراءة الأعمش:"أخفيت". وذكر البخاريّ في آخر الباب أن أبا هريرة رضي الله عنه قرأ: "قرّات أعين" بصيغة الجمع، وبها قرأ ابن مسعود أيضًا، وأبو الدرداء، قال أبو عبيدة: ورأيتها في المصحف الذي يقال له "الإمام": "قُرّة" بالهاء، على الوحدة، وهي قراءة أهل الأمصار. انتهى

(1)

.

({مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ})؛ أي: مما تقرّ به أعينهم، قال في "الكشّاف"

(2)

: لا تعلم النفوس كلهنّ، ولا نفس واحدة منهنّ، ولا ملَك مقرب، ولا نبيّ مرسل، أيّ نوع عظيم من الثواب ادّخر الله تعالى لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلا هو، مما تَقَرّ به عيونهم، ولا مزيد على هذه الْعِدَةِ، ولا مطمح وراءها.

وفي "شرح السُّنَّة": يقال: أقرّ الله عينك، ومعناه: بَرّد الله دمعتها؛ لأن دمعة الفرح باردة، حكاه الأصمعيّ، وقال غيره: معناه: بَلّغك الله أمنيتك، حتى ترضى به نفسك، وتَقَرّ عينك، فلا تستشرف إلى غيره، قال الطيبيّ رحمه الله: فعلى هذا: الأولُ من القرّة، بمعنى البَرْد، والثاني من القرار. انتهى

(3)

.

وقوله: ({جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}) منصوب على أنه مفعول مطلق لعامل محذوف؛ أي: جُوْزوا ذلك جزاءً، أو مفعول لأجله، معمول لـ"أخفي"؛ أي: أُخفي لهم لأجل جزائهم بما كانوا يعملونه في الدنيا.

[تنبيه]: زعم بعضهم أن قراءة الآية من قول أبي هريرة رضي الله عنه، لا المرفوع، وسياق مسلم يرُدّه

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 10/ 490.

(2)

"الكشّاف" 3/ 221.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3552.

(4)

"فيض القدير" 4/ 474.

ص: 559

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7106 و 7107 و 7108](2824)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3244) و"التفسير"(4779) و"التوحيد"(7498)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3197)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 317)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4328)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 73)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 416)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 466)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(13/ 109)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 335)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1133)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 93 و 4/ 290) وفي "الصغير"(1/ 53)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 159)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(369)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 262)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4370 و 4371 و 4372)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عظيم إكرام الله عز وجل لعباده الصالحين، حيث أعدّ لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

2 -

(ومنها): أن في قوله: "أعددت" دليلًا على أن الجنة مخلوقة، ويعضده سكنى آدم وحواء الجنة، ولمجيئها في القرآن على نهج الأسماء الغالبة اللاحقة بالأعلام؛ كالنجم، والثرياء، والكتاب، ونحوها، وذلك أن الجنة كانت تُطلق على كل بستان متكاثف أغصان أشجارها، ثم غلبت على دار الثواب، وإنما قلنا: اللاحقة للأعلام؛ لكونها غير لازمة للّام، وتحقيق القول أنها منقولة شرعية على سبيل التغليب، وإنما تغلب إذا كانت موجودة معهودة، وكذلك اسم النار منقولة لدار العقاب، على سبيل الغلبة، وإن اشتملت على الزمهرير، والمهل، والضريع، وغير ذلك، ولولا ذلك لَمَا كان يغني عن طلب

ص: 560

القصور والحور والولدان بالجنة، ولا عن طلب الوقاية من الزمهرير، والمهل، والضريع عن مطلق النار، قاله الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

3 -

(ومنها): أن سبب هذا الحديث هو ما أخرجه مسلم

(2)

، من طريق الشعبيّ يقول: سمعت المغيرة بن شعبة، يخبر به الناس على المنبر، قال:"سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أيّ رب كيف، وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك ملِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذّت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: رب فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر"، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ذكر الحافظ في "الفتح" أن قصّة موسى عليه السلام هذه سبب حديث الباب، وهو محلّ تأمل، والله تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): بيان أن السُّنَّة شارحة للكتاب، فهذا الحديث أوضح وبيّن معنى هذه الآية الكريمة، فإن الآية نصّ على أن لهم {قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، وهو مجمل، فأوضحته السُّنَّة بأنه "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، وهذا معنى قوله عز وجل:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44].

5 -

(ومنها): ما قاله وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: إن قلت: رَوَى أبو داود، والترمذيّ، وصححه، وغيرهما، من حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لمّا خلق الله الجنة أرسل جبريل إليها، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها فنظر إليها،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 7/ 3552.

(2)

تقدّم في "كتاب الإيمان" برقم [90/ 472](189).

ص: 561

وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها، فحُفّت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليها، فإذا هي قد حُفّت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزّتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد".

فقد دلَّ هذا الحديث على أن الله تعالى قد أطلع جبريل عليه السلام على ما أعد لعباده فيها، فقد رأته عين.

قلت

(1)

: الجواب عنه من أوجه:

أحدها: أنه تعالى خلق فيها بعد رؤية جبريل عليه السلام أمورًا كثيرة، لم يطّلع عليها جبريل، ولا غيره، فتلك الأمور هي المشار إليها في هذا الحديث.

ثانيها: أن المراد بالأعين والآذان، أعين البشر وآذانها، بدليل قوله:"ولا خطر على قلب بشر"، فأما الملائكة فلا مانع من اطلاع بعضهم على ذلك.

قال الجامع عفا الله عنه: وهذا يردّه ما أخرجه ابن أبي حاتم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه:"ولا يعلمه ملَك مقرّبٌ، ولا نبيّ مرسل"، فقد نفى العلم عن الملائكة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ثالثها: أن ذلك يتجدد لهم في الجنة في كل وقت، ويدل له ما رواه الترمذيّ، وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديثًا في أثنائه:"ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي سوقًا قد حَفّت به الملائكة، ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان، ولم يخطر على القلوب، فنحمل لنا ما اشتهينا. . ." الحديث، ولا يمنع من ذلك قوله:"أعددت" لأن هذا لمّا كان محقق الوقوع نُزِّل منزلة الواقع. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أقرب الأجوبة هو الأول، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(1)

القائل هو العراقيّ.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 262.

ص: 562

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7107]

(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ) تقدّم قبل باب.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد الله المصريّ الحافظ تقدّم أيضًا قبل باب.

3 -

(مَالِكُ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحيّ، أبو عبد الله المدنيّ الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاريّ: أصح الأسانيد كلِّها مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما[7](ت 179) وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقال الواقديّ: بلغ تسعين سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 378.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: ("ذُخْرًا) بضم الدال المهملة، وسكون المعجمة، منصوب متعلّق بـ"أعددت"؛ أي: جعلت ذلك لهم مذخورًا

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": قوله: "ذُخرًا بله ما اطلعتم عليه" كذا لكافة رواة مسلم؛ أي: مُدّخرًا لهم عندي، أو ذخرًا مني لهم، قال: وعند الفارسيّ: "ذكر"، والأول الصحيح، وكذا جاء في الحديث الآخر، وجاء في البخاري في "باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} ":"ذخرًا من بله ما اطلعتم عليه"، ولا وجه لزيادة "من" هنا، إلا أن يكون "من" مغيرًا من "منّي"؛ أي: ذخرًا مني. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "ذخرًا" الرواية المشهورة بالذال المعجمة المضمومة، أي: مدّخرًا، وهو مصدر، يقال: ذخرت الشيءَ أذخره ذخرًا، من

(1)

"الفتح" 10/ 490.

(2)

"مشارق الأنوار" 1/ 275.

ص: 563

باب نفع، واذخرته أَذّخِره اذّخارًا بالادغام، هو افتعلت، ووقع في طريق الفارسي:"ذكرًا" بالكاف، ولبعضهم:"دخر" بغير تنوين، وليسا بشيء، ومعنى هذا الكلام: أن الله تعالى ادّخر في الجنة من النعيم، والخيرات، واللذات ما لم يَطّلع عليه أحدٌ من الخلق، لا بالإخبار عنه، ولا بالفكرة فيه، وقد تعرّض بعض الناس لتعيينه، وهو تكلّف ينفيه الخبر نفسه؛ إذ قد نفى علمه، والشعور به، عن كل أحد، ويشهد له، ويُحقّقه قوله:"بله ما أطلعكم الله عليه"؛ أي: دَعْ ما أطلعكم عليه؛ يعني: أن المعدّ المذكور غير الذي أطلع عليه أحدًا من الخلق، و"بله": اسم من أسماء الأفعال، بمعنى: دَعْ، هذا هو المشهور فيها، وقيل: هي بمعنى: غير، وهذا تفسير معنى. انتهى

(1)

.

وقوله: (بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ") قال في "العمدة": قوله: "بَلْهَ" بفتح الباء الموحّدة، وسكون اللام، وفتح الهاء، معناه: دَعْ الذي أُطلعتم عليه، وقيل: معناه: سوى؛ أي: سوى ما أُطلعتم عليه الذي ذكره الله في القرآن، وقال الخطابيّ: كأنه يريد به: دع ما أطلعتم عليه، وأنه سهل يسير في جنب ما ادخرته لهم، ويقال أيضًا: بمعنى: أَجْل، وحَكَى الليث أنه يقال: بمعنى: فضل، كأنه يقول: هذا الذي غيّبته عنكم فضل ما أطلعتم عليه منها.

وقال الصغانيّ: اتفق جميع نُسخ الصحيح على "من بله"، والصواب إسقاط كلمة "من" منه، واعتُرض عليه بأنه لا يتعين إسقاط "من" إلا إذا فُسرت بمعنى: دَعْ، وأما إذا فسرت بمعنى: من أجل، أو من غير، أو سوى فلا.

وقال ابن مالك: المعروف من بله اسم فعل، بمعنى اترك، ناصب لِمَا يليه بمعنى المفعولية، واستعماله مصدرًا بمعنى الترك مضافًا إلى ما يليه، والفتحة في الأُولى بنائية، وفي الثانية إعرابية، وهو مصدرٌ مُهْمَل الفعل، ممنوع الصرف.

وقال الأخفش: بله هنا مصدر، كما يقول: ضَرْبَ زيدٍ، وندر دخول "من" عليه زائدةً. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "من بله ما أُطلعتم عليه": قال الخطابيّ: كأنه

(1)

"المفهم" 7/ 172.

(2)

"عمدة القاري" 19/ 114.

ص: 564

يقول: دع ما أطلعتم عليه، فإنه سهل في جنب ما ادُّخِر لهم، قلت

(1)

: وهذا لائق بشرح "بله" بغير تقدم "مِنْ" عليها، وأما إذا تقدمت "من" عليها، فقد قيل: هي بمعنى: كيف، ويقال: بمعنى: أجل، ويقال: بمعنى: غير، أو سوى، وقيل: بمعنى: فضل، لكن قال الصغانيّ: اتفقت نُسخ الصحيح على "من بله"، والصواب إسقاط كلمة "من".

وتُعُقّب بأنه لا يتعين إسقاطها إلا إذا فُسّرت بمعنى: دع، وأما إذا فسرت بمعنى: من أجل، أو من غير، أو سوى، فلا، وقد ثبت في عدة مصنفات خارج الصحيح بإثبات "من"، وأخرجه سعيد بن منصور، ومن طريقه ابن مردويه من رواية أبي معاوية، عن الأعمش كذلك.

وقال ابن مالك: المعروف "بله" اسم فعل، بمعنى: اترك، ناصبًا لِمَا يليها، بمقتضى المفعولية، واستعماله مصدرًا بمعنى الترك، مضافًا إلى ما يليه، والفتحة في الأُولى بنائية، وفي الثانية إعرابية، وهو مصدر مهمل الفعل، ممنوع الصرف.

وقال الأخفش: "بله" هنا مصدر، كما تقول: ضَرْبَ زيدٍ، وندر دخول "من" عليها زائدةً.

ووقع في "المغني" لابن هشام أن "بله" استُعملت معربةً مجرورة بـ"من"، وإنها بمعنى: غير، ولم يذكر سواه، وفيه نظر؛ لأن ابن التين حكى رواية "من بله" بفتح الهاء، مع وجود "من"، فعلى هذا فهي مبنية، و"ما" مصدرية، وهي وَصِلتها في موضع رفع على الابتداء، والخبرُ هو الجار والمجرور المتقدم، ويكون المراد ببله:"كيف" التي يقصد بها الاستبعاد، والمعنى: من أين اطلاعكم على هذا القدر الذي تقصر عقول البشر عن الإحاطة به، ودخول "من" على "بله" إذا كانت بهذا المعنى جائز، كما أشار إليه الشريف في "شرح الحاجبية".

قال الحافظ رحمه الله: وأصح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب حيث وقع فيه: "ولا خطر على قلب بشر ذُخرًا من بله ما أطلعتم" أنها بمعنى: "غير"، وذلك بَيِّنٌ لمن تأمله. انتهى

(2)

، وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

(1)

القائل هو الحافظ.

(2)

"الفتح" 10/ 490 - 491.

ص: 565

وقال وليّ الدين العراقيّ رحمه الله: معنى هذا الحديث: أن الله تعالى ادّخر في الجنة من النعيم، والخيرات، واللذات ما لم يُطلع عليه أحدًا من الخلق بطريق من الطرق، فذكر الرؤية، والسمع؛ لأنه يدرَك بهما أكثر المحسوسات، والإدراك بالذوق، والشم واللمس أقلّ من ذلك، ثم زاد على ذلك أنه لم يجعل لأحد طريقًا إلا توهّمها بفكر وخطور على قلب، فقد جلّت وعظمت عن أن يدركها فكر وخاطر، ولا غاية فوق هذا في إخفائها، والإخبار عن عظم شأنها، على طريق الإجمال دون التفصيل، قال أبو العباس القرطبيّ: وقد تعرض بعض الناس لتعيينه، وهو تكلف ينفيه الخبر نفسه؛ إذ قد نفى علمه والشعور به عن كل أحد، قال: ويشهد له، ويحققه قوله في رواية "الصحيحين":"بله ما أطلعكم عليه"؛ أي: غير ما أطلعكم عليه؛ يعني: أن المعدّ المذكور غير الذي أطلع عليه أحدًا من الخلق، و"بله" اسم من أسماء الأفعال، بمعنى: دَعْ، هذا هو المشهور فيها، وقيل: هي بمعنى: غير، وهذا تفسير معنى، قال النوويّ: ومعناه: دع ما أطلعكم عليه، فالذي لم يطلعكم عليه أعظم، فكأنه أضرب عنه استقلالًا، في جنب ما لم يطلع عليه، وقيل: معنى"بله": كيف. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7108]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوَيةَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الَصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ذُخْرًا بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمُ اللهُ عَلَيْهِ"، ثُمَّ قَرَأَ:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ).

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 263.

ص: 566

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الأبواب القريبة الماضية.

وقوله: (ثُمَّ قَرَأَ) فاعله ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع، وقيل: ضمير أبي هريرة رضي الله عنه، فهو موقوف، وهو خلاف الظاهر، بل حديث سهل رضي الله عنه التالي صريح في ردّه، فتنبّه.

والحديث متّفقٌ عليه، كما سبق بيانه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7109]

(2825) - (حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، أَنَّ أَبَا حَازِمٍ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا، وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ، حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 16، 17]).

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار الأعرج الأفزر التمّار المدنيّ القاصّ، مولى الأسود بن سفيان، ثقةٌ عابدٌ [5] مات في خلافة المنصور سنة (140) أو قبلها، أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

2 -

(سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو العباس الصحابيّ ابن الصحابيّ، مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: بعدها، وقد جاز المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 313.

والباقون ذُكروا قبل باب، و"أبو صخر" هو: حميد بن زياد الخرّاط.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث والسماع، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما، وهو آخر من مات بالمدينة النبويّة على بعض الأقوال.

ص: 567

شرح الحديث:

عن أبي حازم؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: شَهِدْتُ) بكسر الهاء؛ أي: حضرت (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا) منصوب على المفعوليّة لـ"شهِدت"، (وَصَفَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (فِيهِ)؛ أي: في ذلك المجلس، (الْجَنَّةَ، حَتَّى انْتَهَى) صلى الله عليه وسلم من وصفها، (ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَدِيثِهِ:"فِيهَا)؛ أي: في الجنّة، (مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ"، ثُمَّ اقْتَرَأَ) افتعال من القراءة؛ أي: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا صريح في أن القراءة منه صلى الله عليه وسلم، فيُحمل عليه حديث أبي هريرة الماضي عليه، فتنبّه. (هَذِهِ الآيَةَ:) الآتية، فقوله:({تَتَجَافَى})[السجدة: 16] إلخ بدل، أو عطف بيان لـ"الآية" محكيّ؛ لقصد لفظه. ({تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ})؛ أي: ترتفع، وتنبو، يقال: جفى الشيء عن الشيء، وتجافى عنه: إذا لم يلزمه ونبا عنه، والجُنوب جمع جَنْب، والجملة في محل نصب على الحال؛ أي: متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش. ({عَنِ الْمَضَاجِعِ}) جمع: المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه، ({يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}) هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضًا من الضمير الذي في جنوبهم، فهي حال بعد حال، ويجوز أن تكون الجملة الأُولى مستأنَفة؛ لبيان نوع من أنواع طاعاتهم، والمعنى: تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم ({خَوْفًا}) من عذابه، ({وَطَمَعًا}) في رحمته، وانتصاب {خَوْفًا وَطَمَعًا} على العلة، ويجوز أن يكونا مصدرين منتصبين بمقدّر.

({وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ})؛ أي: من الذي رزقناهم، أو مِن رزقهم، وذلك الصدقة الواجبة، وقيل: صدقة النفل، والأَولى الحمل على العموم.

({فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}) النكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا تعلم نفس من النفوس؛ أيُّ نفس كانت، ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين تقدّم ذكرهم، مما تقرّ به أعينهم، ({جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ})؛ أي: لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا، أو جُوْزوا جزاء بذلك

(1)

.

وقال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذِكره: تتنحَّى جُنوب

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 6/ 8.

ص: 568

هؤلاء الذين يؤمنون بآيات الله، الذين وصفت صفتهم، وترتفع من مضاجعهم التي يضطجعون لمنامهم، ولا ينامون {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} في عفوه عنهم، وتفضُّله عليهم برحمته ومغفرته. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} في سبيل الله، ويؤدّون منه حقوق الله التي أوجبها عليهم فيه. وتتجافى: تتفاعل من الجفاء، والجفاء: النَّبو، كما قال الراجز:

وَصَاحِبي ذَاتُ هِباب دَمْشَقُ

وَابنُ مِلاطٍ مُتجاف أرْفَقُ

وإنما وصفهم تعالى ذِكره بتجافي جنوبهم عن المضاجع؛ لِتركهم الاضطجاع للنوم شغلًا بالصلاة.

واختَلف أهل التأويل في الصلاة التي وصفهم جلّ ثناؤه، أن جُنوبهم تتجافى لها عن المضطجع، فقال بعضهم: هي الصلاة بين المغرب والعشاء، وقال: نزلت هذه الآية في قوم كانوا يصلّون في ذلك الوقت، وقال آخرون: عنى بها صلاة المغرب، وقال آخرون: لانتظار صلاة العتمة.

وقال آخرون: عنى بها قيام الليل، وقال آخرون: إنما هذه صفة قوم لا تخلو ألسنتهم من ذكر الله.

ثم قال ابن جرير: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جُنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلًا منهم بدعاء ربهم وعبادته خوفًا وطمعًا، وذلك نبوّ جنوبهم عن المضاجع ليلًا؛ لأن المعروف مِن وَصْف الواصف رجلًا بأن جنبه نبا عن مضجعه، إنما هو وَصْف منه له بأنه جفا عن النوم في وقت منام الناس المعروف، وذلك الليل دون النهار، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك، يدلّ على ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاريّ رضي الله عنه في صفة نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:

يَبِيتُ يُجافِي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ

إذا اسْتَثْقَلَت بالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ

فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى ذكره لم يخصص في وصفه هؤلاء القوم بالذي وصفهم به من جفاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال الليل وأوقاته حالًا ووقتًا دون حال ووقت، كان واجبًا أن يكون ذلك على كلّ آناء الليل، وأوقاته، وإذا كان كذلك كان من صلى ما بين المغرب والعشاء، أو انتظر العشاء الآخرة، أو قام الليل أو بعضه، أو ذكر الله في ساعات الليل، أو

ص: 569

صلى العتمة ممن دخل في ظاهر قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ؛ لأن جنبه قد جفا عن مضجعه في الحال التي دام فيها للصلاة قائمًا صلى أو ذكر الله، أو قاعدًا بعد أن لا يكون مضطجعًا، وهو على القيام أو القعود قادر، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن توجيه الكلام إلى أنه معني به قيام الليل أعجب إليّ؛ لأن ذلك أظهر معانيه، والأغلب على ظاهر الكلام، وبه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخرج بسنده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:"ألا أدلُّكَ عَلى أبْواب الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الخَطِيئَةَ، وَقِيامُ العَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ، وتلا هذه الآية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)} ". انتهى كلام ابن جرير رحمه الله

(1)

وهو بحثٌ نفيسٌ، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ رحمه الله هذا الحديث على مسلم رحمه الله فقال في "التتبّع": وأخرج مسلم حديث ابن وهب، عن أبي صخر، عن أبي حازم، عن سهل: وصف الجنّة، ولم يتابَع عليه، وغيره أثبت منه. انتهى كلامه.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا وجدت كلام الدارقطنيّ نقله بعضهم مجملًا غير مفصّل، ولم يظهر لي وجه انتقاده، فالله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنف) هنا [1/ 7109](2825)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 334)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(463)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 30)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(6/ 122 و 154 و 201)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 512 و 526)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 354)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تفسير الطبري" 20/ 181.

ص: 570

(2) - (بَابٌ إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً، يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لَا يَقْطَعُهَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7110]

(2826) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ) بن جَمِيل بن طَرِيف الثقفيّ، أبو رَجَاء الْبَغْلانيّ، يقال: اسمه يحيى، وقيل: عليّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](240) عن تسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

2 -

(لَيْثُ) بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] توفي في شعبان سنة (175)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ) أبو سَعْد المدنيّ، ثقةٌ [3] مات في حدود (120) وقيل: قبلها، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(أَبُوهُ) كيسان أبو سعيد المقبريّ المدنيّ، مولى أم شريك، ويقال: هو الذي يقال له: صاحب العباءة، ثقةٌ ثبتٌ [2](ت 100)(ع) تقدم في "الإيمان" 73/ 392.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، تقدّم القول فيه غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً

ص: 571

يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا) هو ظلّ على حقيقته، كما دلّ عليه ظاهر النصّ، ولا يُستبعد ذلك، وقال القاري:"في ظلها"؛ أي: في ناحيتها، وإلا فالظل في عُرف أهل الدنيا ما يقي من حرّ الشمس، وأذاها، وقد قال تعالى:{لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13]، وقد يقال: المراد بالظل هنا: ما يقابل شعاع الشمس، ومنه ما بينه ظهور الصبح إلى طلوع الشمس، ولذا قال تعالى:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} [الواقعة: 30]، ويمكن أن يكون للشجرة من النور الباهر ما يكون لِمَا تحته كالحجاب الساتر. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "يسير الراكب"؛ أي: أَيّ راكب فُرِض، ومنهم من حمله على الوسط المعتدل، وقوله:"في ظلها"؛ أي: في نعيمها، وراحتها، ومنه قولهم: عيش ظليل، وقيل: معنى ظلها: ناحيتها، وأشار بذلك إلى امتدادها، ومنه قولهم: أنا في ظلك؛ أي: ناحيتك، قال القرطبيّ: والمحوج إلى هذا التأويل أن الظل في عُرف أهل الدنيا ما يقي من حرّ الشمس، وأذاها، وليس في الجنة شمس، ولا أذى، وروى ابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة، عن ابن عباس قال: الظل الممدود شجرة في الجنة، على ساق، قدر ما يسير الراكب المجدّ في ظلها مائة عام، من كل نواحيها، فيخرج أهل الجنة يتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم اللهو، فيرسل الله ريحًا، فيحرك تلك الشجرة بكل لهو، كان في الدنيا. انتهى

(2)

.

وقال في موضع آخر: المراد بالظل: الراحة، والنعيم، والجهة، كما يقال: عِزّ ظَلِيل، وأنا في ظلك؛ أي: كنفك، وقال الراغب: الظل أعمّ من الفيء، فإنه يقال: ظل الليل، وظل الجنة، ولكل موضع لا تصل إليه الشمس، ولا يقال: الفيء إلا لِمَا زالت عنه الشمس، قال: ويعبَّر بالظل عن العزّ، والمنعة، والرفاهية، والحراسة، ويقال عن غضارة العيش: ظل ظليل.

قال الحافظ: وقع التعبير في هذا الحديث بلفظ الفيء في حديث أسماء بنت يزيد، عند الترمذيّ، ولفظها:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -وذكر سدرة المنتهى-: يسير الراكب في ظل الفيء منها مائة سنة، أو يستظل بظلها الراكب مائة سنة".

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 219.

(2)

"الفتح" 7/ 547.

ص: 572

ويستفاد منه تعيين الشجرة المذكورة في حديث الباب، وأخرج أحمد، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد، رفعه:"شجرة طوبى مائة سنة"، وفي حديث عقبة بن عبد السُّلميّ في عِظَم أصل شجرة طوبى:"لو ارتحلت جذعة ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هَرَمًا"، أخرجه ابن حبان في "صحيحه".

والترقوة بفتح المثناة، وسكون الراء، بعدها قاف مضمومة، وواو مفتوحة: هي العظم الذي بين ثَغْرة النحر والعاتق، والجمع تَرَاقٍ، ولكل شخص ترقوتان. انتهى

(1)

.

وقوله: (مِائَةَ سَنَةٍ") وفي لفظ: "مائة عام"، ظرف لـ"يسير"، زاد في الرواية التالية:"لا يقطعها"؛ أي: لا ينتهي الراكب إلى انقطاع ظلها، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7110 و 7111](2826)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3252) و"التفسير"(4881)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(5/ 400)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 317)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4335)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1131)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 418 و 452 و 438 و 469 و 482)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2547)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20878)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(113)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(27/ 183 و 184)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 235)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7411)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 338)، و (البيهقيّ) في "البعث"(268)، و (أبو الشيخ) في "العظمة"(578)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 11/ 424.

ص: 573

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7111]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، وَزَادَ: "لَا يَقْطَعُهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيُّ) المدنيّ، لقبه قُصَيّ، ثقةٌ له غرائب [7] قال أبو داود: كان قد نزل عسقلان (ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (وَزَادَ) فاعله ضمير الأعرج.

[تنبيه]: رواية الأعرج عن أبي هريرة هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7489)

- حدّثنا يزيد، أنا محمد، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، لا يقطعها". انتهى

(1)

.

وساقها البخاريّ أيضًا إلا أنه زاد تلاوة الآية، فقال:

(4599)

- حدّثنا عليّ بن عبد الله، حدّثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، يبلغ به النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها"، واقرؤوا إن شئتم:{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)} . انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7112]

(2827 و 2828) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، لَا

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 257.

(2)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1851.

ص: 574

يَقْطَعُهَا"، قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَقِيَّ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ مِائَةَ عَامٍ، مَا يَقْطَعُهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْمَخْزُومِيُّ) المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](200)(خت م د س ق) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

[تنبيه]: كون المخزوميّ هنا هو المغيرة بن سلمة هو الصواب، وقد نصّ عليه البخاريّ في "صحيحه"

(1)

، وقد أخرجه بنفس سند مسلم، فما وقع في شرح الشيخ الهرريّ من قوله: عبد الله بن الحارث بن عبد الملك، أبو محمد المكيّ إلى آخر كلامه

(2)

، فغلط ينبغي التنبّه له، وبالله تعالى التوفيق.

2 -

(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأَخَرِةٍ [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً) قال ابن الجوزيّ: يقال: إنها طوبى، قال الحافظ: وشاهد ذلك في حديث عُتبة بن عبد السلميّ عند أحمد، والطبرانيّ، وابن حبان، فهذا هو المعتمَد، خلافًا لمن قال: إنما نُكّرت للتنبيه على اختلاف جنسها بحسب

(1)

قال البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" 5/ 2398:

(6186)

- وقال إسحاق بن إبراهيم: أخبرنا المغيرة بن سلمة، حدّثنا وهيب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام، لا يقطعها". قال أبو حازم: فحدثت به النعمان بن أبي عياش، فقال: حدّثني أبو سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن في الجنة لشجرةً يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام، ما يقطعها". انتهى.

(2)

راجع: شرحه 25/ 479.

ص: 575

شهوات أهل الجنة. انتهى

(1)

.

(يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا) تقدّم الخلاف في المراد به. (مِائَةَ عَامٍ، لَا يَقْطَعُهَا")؛ أي: لا ينتهي إلى آخر ما يميل من أغصانها.

(قَالَ أَبُو حَازِمٍ) سلمة بن دينار بالسند الماضي، فهو موصول، وليس معلّقًا. (فَحَدَّثْتُ بِهِ)؛ أي: بهذا الحديث، (النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ) بتحتانيّة، وشين معجمة، أبا سلمة المدنيّ، تقدّمت ترجمته في "شرح المَقدّمة" جـ 2 ص 484، وقوله:(الزُّرَقِيَّ) بضمّ الزاي، وفتح الراء: نسبة إلى زُريق، بطن من الأنصار، من الخزرج

(2)

. (فَقَالَ) النعمان: (حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكبُ الْجَوَادَ) بالنصب على المفعوليّة لـ"الراكب"، وكذا ما بعده، ووقع في رواية البخاريّ بالرفع صفة لـ"الراكب".

و"الجواد" بفتح الجيم، وتخفيف الواو: هو الفرس، يقال: جاد الفرس: إذا صار فائقًا، والجمع: جياد، وأجواد، وجمع الجمع: أجاويد.

(الْمُضَمَّرَ) بفتح الضاد المعجمة، وتشديد الميم، من التضمير، ويجوز أن يكون بضمّ الميم، وسكون الضاد، من الإضمار، وكيفيّة تضميرها أن تُعْلف الخيل، حتى تَسْمَن، وتَقْوَى، ثم يُقَلَّل علفها بقدر القوت، وتُدخَل بيتًا، وتُغْشَى بالْجِلال، حتى تَحْمَى، فتَعْرَق، فإذا جَفّ عرقها خَفّ لحمها، وقَوِيت على الجري، قاله في "الفتح"

(3)

.

(السَّرِيعَ) في جريه، (مِائَةَ عَامٍ) ظرف لـ"تيسير"، (مَا) نافية، (يَقْطَعُهَا")؛ أي: تلك الشجرة؛ أي: ما يصل إلى نهاية ما يصل إليه أغصانها، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديثا سهل بن سعد، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهم هذا متّفقٌ عليهما.

(1)

"الفتح" 6/ 326.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 65.

(3)

"الفتح" 7/ 148، "كتاب الجهاد" رقم (2870).

ص: 576

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجهما (المصنّف) هنا [2/ 7112](2827 و 2828)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6552 و 6553). وأخرج (الترمذيّ) حديث أبي سعيد في "صفة الجنة"(2524)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ إِحْلَالِ اللهِ عز وجل رِضْوَانَهُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَا يَسْخَطُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7113]

(2829) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيَدٍ الأَيْلِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا، وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبِّ، وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أفضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ) هو: محمد بن عبد الرحمن بن حكيم بن سهم الأنطاكيّ، ثقةٌ [10](ت 243)(م) من أفراد مسلم تقدم في "الصلاة" 40/ 1069.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ) المروزيّ مولى بني حنظلة، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ عالمٌ جوادٌ مجاهدٌ، جُمعت فيه خصال الخير [8](ت 181) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

3 -

(زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ) العدويّ، مولى عمر رضي الله عنه، أبو عبد الله، وأبو أسامة

ص: 577

المدنيّ، ثقةٌ عالمٌ، وكان يرسل [3](136)(ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 250.

4 -

(عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ، أبو محمد المدنيّ، مولى ميمونة رضي الله عنها، ثقةٌ فاضلٌ صاحب مواعظ وعبادة، من صغار [2] مات سنة أربع وتسعين، وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فرّق بينهما بالتحويل، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من مالك، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ) وفي رواية عند الإسماعيليّ: "يَطّلع الله على أهل الجنة، فيقول"، (يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا، وَسَعْدَيْكَ) قال العلماء: معناه: نحن مقيمون على طاعتك إقامة بعد إقامة، يقال: لَبّ بالمكان لَبًّا، وألبّ إلبابًا؛ أي: أقام به، وأصل لبيك: لبين، حُذفت النون للإضافة، و"سعديك" قال الأزهريِّ وغيره: معناه: مساعدةً لأمرك بعد مساعدة، ومتابعةً لدينك بعد متابعة

(1)

.

(وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ) فيه إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى على ظاهره، مع تنزيهه عن مشابهة الخلق، ولم يذكر الشرّ؛ لأن الأدب عدم نسبته إليه صريحًا، بل جاء صريحًا:"والشرّ ليس إليك". (فَيَقُولُ) سبحانه وتعالى لهم: (هَلْ رَضِيتُمْ؟) بما صرتم إليه من النعيم المقيم، (فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا)؛ أي: أيُّ شيء (لَا نَرْضَى يَا رَبِّ) جملة "لا نرضى" حال من الضمير في الظرف، والاستفهام لتقرير رضاه، (وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ)؛ يعنون: الذين لم يدخلهم الجنة، وفي رواية:"وهل شيء أفضل مما أعطيتنا"، (فَيَقُولُ: أَلَا) بالتخفيف أداة تحضيض، (أُعْطِيكُمْ) بضمّ الهمزة، (أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟) الذي أنتم فيه من النعيم، (فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ) إنما قال: "يا رب" في الموضعين، ولم يقل:"يا ربنا" مع

(1)

"عون المعبود" 2/ 329.

ص: 578

كون الجمع مذكورًا قبله؛ إشعارًا بأن ذلك قول كل واحد منهم، لا أن طائفة تكلموا، وطائفة سكتوا؛ إذ الكلام من كل واحد أدلّ على حصول الرضى

(1)

.

(وَأَيُّ شَيءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟) الذي أعطيتنا، (فَيَقُولُ) عز وجل:(أُحِلُّ) بضم أوله، وكسر الحاء المهملة؛ أي: أُنزل (عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي) بكسر أوله، وضمه؛ أي: رضاي، ورضاه سبب كل سعادة، وقال القاضي عياض في "المشارق":"أُحلّ عليكم" أُنزل بكم، والرضوان بكسر الراء وضمها، قُرئ بهما في السبع.

وفيه أن النعيم الحاصل لأهل الجنة لا يزيد على رضى الله سبحانه وتعالى.

وفي حديث جابر "قال: رضواني أكبر"، وفيه تلميح بقوله تعالى:{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]؛ لأن رضاه سبب كل فوز وسعادة، وكل من عَلِم أن سيده راضٍ عنه كان أقرّ لعينه، وأطيب لقلبه من كل نعيم؛ لِمَا في ذلك من التعظيم والتكريم. (فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ)؛ أي: بعد إحلال الرضوان (أَبَدًا") مفهومه أن الله تعالى لا يسخط على أهل الجنة؛ لأنه متفضل عليهم بالإنعام كلها دنيوية وأخروية، فظاهر الحديث أن الرضى أفضل من اللقاء.

وأجيب بأنه لم يقل: أفضل من كلّ، بل أفضل من الإعطاء، واللقاء يستلزم الرضا، فهو من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، وفيه أن السعادة الروحانية أفضل من الجسمانية، ونِعْمة للمؤمنين عظيمة، وهي سماع كلام رب العالمين، وأعظم منه خطابهم إياه بتقريره نِعَمه عليهم، وتعريفه إياهم فَضله لديهم، وأن رضا الله تعالى أفضل نعيم الجنة، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7113](2829)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6549) و"التوحيد"(7518)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2555)،

(1)

"فيض القدير" 2/ 311.

ص: 579

و (النسائيّ) في "النعوت والأسماء"(1/ 367)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(430)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 88)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7440)، و (ابن منده) في "الإيمان"(820)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 342)، و (البيهقيّ) في "البعث"(445)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4394)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن النعيم الذي حصل لأهل الجنة لا مزيد عليه.

2 -

(ومنها): أن فيه إثباتَ كلام الله تعالى، ونداءه لأهل الجنة بقرينة جوابهم بـ"لبيك، وسعديك"، والمراجعة بقوله:"هل رضيتم؟ " وقولهم: "وما لنا لا نرضى"، وقوله:"ألا أعطيكم أفضل"، وقولهم:"يا ربنا وأيّ شيء أفضل؟ " وقوله: "أحلّ عليكم رضواني"، فإن ذلك كله يدلّ على أنه سبحانه وتعالى هو الذي كلّمهم بكلامه بلغة العرب، والنظر في كيفيته ممنوع، بل نؤمن به كما أخبرنا الله عز وجل، وننزه الله تعالى عن التشبيه بخلقه، وبالله التوفيق.

3 -

(ومنها): ما قاله الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله

(1)

: في هذا الحديث جواز إضافة المنزل لساكنه، وإن لم يكن في الأصل له، فإن الجنة مُلك الله عز وجل، وقد أضافها لساكنها بقوله:"يا أهل الجنة". قال: والحكمة في ذكر دوام رضاه بعد الاستقرار: أنه لو أخبر به قبل الاستقرار لكان خبرًا من باب علم اليقين، فأخبر به بعد الاستقرار؛ ليكون من باب عين اليقين، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

4 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: إنه يستفاد من هذا الحديث أنه لا ينبغي أن يخاطب أحد بشيء حتى يكون عنده ما يستدلّ به عليه، ولو على بعضه، وكذا ينبغي للمرء أن لا يأخذ من الأمور إلا قَدْر ما يحمله.

5 -

(ومنها): الأدب في السؤال؛ لقولهم: "وأيّ شيء أفضل من ذلك؟ "؛ لأنهم لم يعلموا شيئًا أفضل مما هم فيه، فاستفهموا عما لا عِلم لهم به.

6 -

(ومنها): بيان أن الخير كله، والفضل، والاغتباط إنما هو في

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 289.

ص: 580

رضا الله سبحانه وتعالى، وكل شيء سواه، وإن اختلفت أنواعه فهو من أثره.

7 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على رضا كل أهل الجنة بحاله، مع اختلاف منازلهم، وتنويع درجاتهم؛ لأن الكل أجابوا بلفظ واحد، وهو: أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك، وبالله التوفيق.

8 -

(ومنها): ما قاله الحافظ رحمه الله: حديث أبي سعيد رضي الله عنه هذا كأنه مختصر من الحديث الطويل الماضي في "تفسير سورة النساء" من طريق حفص بن ميسرة، والآتي في "التوحيد" من طريق سعيد بن أبي هلال كلاهما عن زيد بن أسلم بهذا السند، في صفة الجواز على الصراط، وفيه قصة الذين يخرجون من النار، وفي آخره أنه يقال لهم نحو هذا الكلام، لكن إذا ثبت أن ذلك يقال لهؤلاء؛ لكونهم من أهل الجنة، فهو للسابقين بطريق الأَولى.

9 -

(ومنها): ما قاله أيضًا: هذا الخطاب غير الخطاب الذي لأهل الجنة كلهم، وهو فيما أخرجه مسلم، وأحمد، من حديث صهيب رضي الله عنه رفعه:"إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم موعدًا عند الله، يريد أن ينجزكموه. . ." الحديث، وفيه:"فيكشف الحجاب، فينظرون إليه -وفيه- فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه". وله شاهد عند ابن المبارك في "الزهد" من حديث أبي موسى رضي الله عنه من قوله، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديثه مرفوعًا باختصار. انتهى

(1)

.

10 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: استَشكل بعضهم هذا الحديث؛ لأنه يوهم أن له أن يسخط على أهل الجنة، وهو خلاف ظواهر القرآن؛ كقوله:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البيّنة: 8]، {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وأجاب بأن إخراج العباد من العدم إلى الوجود من تفضله، وإحسانه، وكذلك تنجيز ما وعدهم به من الجنة، والنعيم من تفضله وإحسانه، وأما دوام ذلك فزيادة من فضله على المجازاة لو كانت لازمةً، ومعاذ الله أن يجب عليه شيء، فلما كانت المجازاة لا تزيد في العادة على المدة، ومدة الدنيا متناهية،

(1)

"الفتح" 15/ 92، "كتاب الرقاق" رقم (6549).

ص: 581

جاز أن تتناهى مدة المجازاة، فتفضَّل عليهم بالدوام، فارتفع الإشكال جملةً. انتهى مُلَخَّصًا.

وقال غيره: ظاهر الحديث أن الرضا أفضل من اللقاء، وهو مشكل، وأجيب بأنه ليس في الخبر أن الرضا أفضل من كل شيء، وإنما فيه أن الرضا أفضل من العطاء، وعلى تقدير التسليم، فاللقاء مستلزم للرضا، فهو من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم، كذا نقل الكرمانيّ

(1)

. قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يقال: المراد حصول أنواع الرضوان، ومن جملتها اللقاء، فلا إشكال. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(4) - (بَابُ تَرَائِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ الْغُرَفِ، كَمَا يُرَى الْكَوْكَبُ فِي السَّمَاءِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7114]

(2830) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ الْغُرْفَةَ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ فِي السَّمَاءِ"، قَالَ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ، فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، أَوِ الْغَرْبِيِّ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ) -بتشديد التحتانية- هو: يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](ت 181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون ذُكروا قبل باب.

(1)

"شرح صحيح البخاريّ" للكرمانيّ 25/ 209.

(2)

"الفتح" 17/ 540 - 541 رقم (7518).

ص: 582

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (434) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخل المدينة للأخذ عن أهلها، وفيه سهل رضي الله عنه آخر من مات بالمدينة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ) الساعديّ رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ)؛ أي: ينظرون، واللام فيه للتأكيد. (الْغُرْفَةَ) وفي الرواية التالية:"أهل الغُرف" بضم الغين المعجمة، وفتح الراء: جمع غرفة، (فِي الْجَنَّةِ) متعلّق بـ"يتراءون"، (كَمَا تَرَاءَوْنَ) أصله: تتراءون، فحُذفت منه إحدى التاءين؛ تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ"تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

(الْكَوْكَبَ) منصوب على المفعوليّة، (فِي السَّمَاءِ") متعلّق بحال مقدّر؛ أي: حال كونه كائنًا في السماء. (قَالَ) أبو حازم: (فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ) الحديث (النُّعْمَانَ بْنَ أَبِي عَيَّاشٍ) الزُّرَقيّ (فَقَالَ) النعمان: (سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك بن سنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما (يَقُولُ: كَمَا تَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ)؛ أي: الشديد الإنارة، فكأنه نُسب إلى الدُّرِّ؛ تشبيهًا بصفائه، وقال الفراء: الكوكب الدريّ عند العرب هو العظيم المقدار، وقيل: هو أحد الكواكب الخمسة السيارة، قاله ابن الأثير

(1)

.

وقال النوويّ: الكوكب الدريّ فيه ثلاث لغات، قُرئ بهنّ في السبع، الأكثرون دُرّيّ، بضم الدال، وتشديد الياء، بلا همز، والثانية: بضمّ الدال، مهموزًا، ممدودًا، والثالثة: بكسر الدال، مهموزًا ممدودًا، وهو الكوكب العظيم، قيل: سُمّي دُرّيًّا؛ لبياضه كالدرّ، وقيل: لإضاءته، وقيل: لِشَبَهه بالدرّ في كونه أرفع من باقي النجوم؛ كالدرّ أرفع الجواهر. انتهى

(2)

.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 2/ 113.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 168.

ص: 583

(فِي الأُفُقِ) بضمتين: الناحية من الأرض، ومن السماء، والجمع آفاقٌ، والنسبة إليه أفُقيٌّ ردًّا إلى الواحد، وربما قيل: أَفَقِيٌّ بفتحتين؛ تخفيفًا على غير قياس، حكاهما ابن السّكّيتِ وغيره، قاله الفيّوميّ

(1)

، وقوله:(الشَّرْقِيِّ) بالجرّ صفة لـ"الأفق"، وقوله:(أَوِ الْغَرْبِيِّ)"أو" هنا للتنويع، لا للشكّ.

وقد استشكل ابن التين هذا، وقال: إنما تغور الكواكب في المغرب خاصّة، فكيف وقع ذكر المشرق، وهذا مشكل على رواية "الغاير" بالتحتانية، كما هو في "الموطّأ"، وأما بالموحّدة، كما هنا فالغابر يُطلق على الماضي، والباقي، فلا إشكال، ذكره في "الفتح"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن أهل الجنة ليتراءون إلخ"؛ يعني: أن أهل السفل من الجنة ينظرون إلى من فوقهم، على تفاوت منازلهم، كما ينظر مَن على الأرض دراريّ السماء، على تفاوت منازلها، فيقال: هذا منزل فلان، كما يقال: هذا المشتري مثلًا، أو الزهرة، أو الْمِرِّيخ، وقد بَيَّن ذلك بقوله: لِتفاوت ما بينهما، وسمّي الكوكب دُرّيًّا؛ لبياضه، وصفائه، وقيل: لأنه شُبّه بالدرّ في صفائه. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: زاد في رواية البخاريّ من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه ما نصّه: "قال أبي: فحدثت به النعمان بن أبي عياش، فقال: أشهد لسمعت أبا سعيد يحدِّث، ويزيد فيه: كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق الشرقيّ، والغربيّ".

وقوله: "قال أبي" القائل هو عبد العزيز، وقوله:"أشهد لسمعت" اللام جواب قسم محذوف، وأبو سعيد هو الخدريّ، وقوله:"يحدّث" وفي رواية الكشميهنيّ: "يحدثه"؛ أي: يحدث الحديث، يقال: حدثت كذا، وحدثت بكذا.

وقوله: "الغارب" في رواية الكشميهنيّ: "الغابر" بتقديم الموحّدة على الراء، وضبطه بعضهم بتحتانية مهموزة قبل الراء، قال الطيبيّ: شبّه رؤية الرائي في الجنة صاحب الغرفة برؤية الرائي الكوكب المضيء النائي في جانب

(1)

"المصباح المنير" 1/ 16 - 17.

(2)

"الفتح" 7/ 548.

(3)

"المفهم" 7/ 175.

ص: 584

المشرق والمغرب في الاستضاءة مع البعد، ومن رواه "الغائر" من الغور لم يصحّ؛ لأن الإشراق يفوت إلا إن قَدَر المشرف على الغور، والمعنى: إذا كان طالعًا في الأفق من المشرق، وغائرًا في المغرب، وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان الرفعة، وشدة البعد، واستُدل به على تفاوت درجات أهل الجنة، وقد قُسِموا في "سورة الواقعة" إلى السابقين، وأصحاب اليمين، فالقسم الأول هم من ذُكر في قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]، ومَن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خص المقربين بالأنبياء والشهداء؛ لقوله في آخر الحديث: رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، قاله في "الفتح"

(1)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سهل بن سعد الساعديّ، وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجهما:

أخرجهما (المصنّف) هنا [4/ 7114 و 7115](2830)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3256) و"الرقاق"(6555)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 340)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 336)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(209 و 7392)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(18/ 808)، و (ابن أبي داود) في "البعث"(249)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(2/ 196)

(2)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7115]

(

) - (وَحَدَّثَنَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا الْمَخْزُومِيُّ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا، نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ).

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم قبل باب، فلا حاجة إلى

(1)

"الفتح" 15/ 97 - 98، "كتاب الرقاق" رقم (6555).

(2)

[تنبيه]: معظم الذين ذُكروا في التخريج، إنما أخرجوا حديث سهل رضي الله عنه بمفرده، فليُتنبّه.

ص: 585

إعادته، فتنبّه، و"المخزوميّ" هو: المغيرة بن سلمة، أبو هشام البصريّ

(1)

، و"وُهيب" هو: ابن خالد الباهليّ البصريّ.

وقوله: (بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعًا)؛ يعني: أن وُهيبًا أخرجه بالإسنادين؛ أي: إسناد أبي حازم، عن سهل رضي الله عنه، وإسناد أبي حازم عن النعمان بن أبي عيّاش، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية وهيب عن أبي حازم هذه لم أجد من ساقها، ولكن البخاريّ ساقها من رواية عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه، فقال:

(6188)

- حدّثنا عبد الله بن مسلمة، حدّثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن أهل الجنة ليتراءون الغرف في الجنة، كما تتراءون الكوكب في السماء"، قال أبي: فحدثت به النعمان بن أبي عيّاش، فقال: أشهد لسمعت أبا سعيد يحدّث، ويزيد فيه:"كما تراءون الكوكب الغارب في الأفق الشرقيّ والغربيّ". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7116]

(2831) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مَعْنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ، لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ:"بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ").

(1)

وقع في شرح الشيخ الهرريّ أنه عبد الله بن الحارث المكيّ، وهو غلط، كما نبّهت عليه قبل باب، فلا تغفل.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2399.

ص: 586

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى بْنِ خَالِدِ) بن برمك الْبَرْمكيّ، أبو محمد، نشأ بالبصرة، ثم سكن بغداد، ثقةٌ [11](م د) تقدم في "قتل الحيّات" 4/ 5840.

2 -

(مَعْنُ) بن عيسى بن يحيى الأشجعيّ مولاهم، أبو يحيى المدنيّ القزّاز، ثقةٌ ثبتٌ، قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك، من كبار [10](ت 198)(ع) تقدم في "الطهارة" 7/ 563.

3 -

(صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ) المدنيّ، أبو عبد الله الزهريّ مولاهم، ثقةٌ مُفْتٍ، عابدٌ، رُمي بالقدر [4](ت 132) وله اثنتان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 36/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه، سبق القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ) قال في "الفتح": وقع عند مسلم في رواية ابن وهب، عن مالك: أخبرني صفوان. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال الحافظ

(1)

عند مسلم: "أخبرني صفوان"، ولكن نُسخ "صحيح مسلم" التي بين يديّ ليس فيها إلا "عن صفوان" معنعنًا، ولعله وقعت له نسخة فيها التصريح بالإخبار، فليُتأمّل.

قال الحافظ: وهذا من صحيح أحاديث مالك التي ليست في "الموطأ"، ووهم أيوب بن سُويد، فرواه عن مالك، عن زيد بن أسلم، بدل صفوان، ذكره الدارقطنيّ في "الغرائب"، وكأنه دخل له إسناد حديث في إسناد حديث. انتهى

(2)

.

(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه، وفي رواية فُليح عن

(1)

وكذا قال العينيّ.

(2)

"الفتح" 7/ 548، "كتاب بدء الخلق" رقم (3256).

ص: 587

هلال بن عليّ، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، أخرجه الترمذيّ، وصححه، وابن خزيمة، ونقل الدارقطنيّ في "الغرائب" عن الذُّهليّ أنه قال: لست أدفع حديث فليح، يجوز أن يكون عطاء بن يسار حدّث به عن أبي سعيد، وعن أبي هريرة. انتهى، وقد رواه أيوب بن سويد عن مالك، فقال: عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، ذكره الدارقطنيّ في "الغرائب"، وقال: إنه وَهِم فيه أيضًا، قال الحافظ: ولكنه له أصل من حديث سهل بن سعد عند الشيخين، لكنه مختصر. انتهى

(1)

.

(أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ) وفي رواية البخاريّ: "يتراءون"، دون لام، هي هنا لام الابتداء للتوكيد، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصحَبُ الْخَبَرْ

لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ "إِنِّي لَوَزَرْ"

وهو على وزن يتفاعلون، من باب التفاعل؛ أي: يرون، وينظرون، وفيه معنى التكلف، كما في قول أبي البختريّ: تراءينا الهلال؛ أي: تكلفنا النظر إليه، هل نراه، أم لا؟ قاله في "العمدة"

(2)

.

والمعنى: أن أهل الجنة تتفاوت منازلهم بحسب درجاتهم في الفضل، حتى إن أهل الدرجات العلا ليراهم من هو أسفل منهم؛ كالنجوم، وقد بَيَّن ذلك في الحديث بقوله:"لتفاضل ما بينهم". وقوله: (أَهْلَ الْغُرَفِ) بنصب "أهلَ" على المفعوليّة لـ"يتراءون"، و"الغُرَف" بضم الغين المعجمة، وفتح الراء: جمع غُرْفة، وهي العُلِيّة، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال في "الفتح": الغرف بضم المعجمة، وفتح الراء: جمع غرفة، بضم أوله، وبفتحه جاء في صفتها من حديث أبي مالك الأشعريّ مرفوعًا:"إن في الجنة غُرَفًا يُرَى ظاهرها من باطنها"، أخرجه الترمذيّ، وابن حبان، وللطبرانيّ، وصححه الحاكم، من حديث ابن عمر نحوه. انتهى

(4)

.

وقوله: (مِنْ فَوْقِهِمْ) متعلّق بحال محذوف؛ أي: كأنها كائنة من فوقهم،

(1)

"الفتح" 7/ 548.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 159.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 159.

(4)

"الفتح" 15/ 97، "كتاب الرقاق" رقم (6555).

ص: 588

(كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ) هو النجم الشديد الإضاءةِ، وقال الفرّاء: هو النجم العظيم المقدار، وهو بضم الدال المهملة، وكسر الراء المشدّدة، بعدها تحتانية ثقيلة، وقد تسكن، وبعدها همزة، ومَدّ، وقد يكسر أوله على الحالين، فتلك أربع لغات، ثم قيل: إن المعنى مختلف، فبالتشديد كأنه منسوب إلى الدُّرّ؛ لبياضه وضيائه، وبالهمز كأنه مأخوذ من درأ؛ أي: دَفَعَ؛ لاندفاعه عند طلوعه، ونقل ابن الجوزيّ عن الكسائيّ تثليث الدال، قال: فبالضم نسبة إلى الدرّ، وبالكسر: الجاري، وبالفتح: اللامع. انتهى

(1)

.

(الْغَابِرَ) قال القرطبيّ رحمه الله: الرواية المشهورة الغابر بموحّدة، ومعناه: الذاهب، والباقي على اختلاف المفسرين، وغبر من الأضداد، يقال: غبر: إذا ذهب، وغبر إذا بقي، ويعني به: أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيدٌ عن الأبصار، فيظهر صغيرًا لِبُعده، وقد بيّنه بقوله:"في الأفق، من المشرق، أو المغرب"، والأفق: ناحية السماء، وهو بضم الهمزة، والفاء، وبسكونها، كما يقال: عشُرٌ وعُشْرٌ، وجمعه: آفاق، وقد قيّدنا تلك اللفظة على من يوثق به:"الغائر" بالهمز، اسم فاعل من غار، وقد رُوي في غير مسلم:"الغارب" بتقديم الراء، ويُروى:"العازب" بالعين المهملة، والزاي؛ أي: البعيد، ومعانيها كلها متقاربة. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح" قوله: "الغابر" كذا للأكثر، وفي رواية "الموطأ":"الغاير" بالتحتانية بدل الموحّدة، قال عياض: كأنه الداخل في الغروب، وفي رواية الترمذيّ:"الغارب"، وفي رواية الأصيليّ بِالْعين المهملة، والزاي، قال عياض: معناه: الذي يبعد للغروب، وقيل: معناه: الغائب، ولكن لا يحسن هنا؛ لأن المراد: أن بُعده عن الأرض كبُعد غرف الجنة عن رَبَضِها في رأي العين، والرواية الأُولى هي المشهورة، ومعنى الغابر هنا: الذاهب، وقد فسره في الحديث بقوله:"من المشرق إلى المغرب"، والمراد بالأفق: ناحية السماء

(3)

. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 7/ 548.

(2)

"المفهم" 7/ 175 - 176.

(3)

وقع في "الفتح" تفسير الأفق بالسماء، والصواب تفسيره بناحية السماء، ولذا اعترض عليه العينيّ، فتنبّه.

(4)

"الفتح" 7/ 549.

ص: 589

وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: ما فائدة تقييد الكواكب بالدريّ، ثم بالغابر في الأفق؟.

قلت: للإيذان بأنه من باب التمثيل الذي وَجْهُهُ مُنْتَزَعٌ من عدة أمور متوهمة في المشبه، شُبّه رؤية الرائي في الجنة صاحبَ الغرفة برؤية الرائي الكوكبَ المستضيءَ الباقي في جانب الشرق، أو الغرب في الاستضاءة مع البعد، فلو قيل: الغابر لم يصحّ؛ لأن الإشراق يفوت عند الغروب، اللَّهُمَّ إلا أن يُقَدَّر المستشرف على الغروب؛ كقوله تعالى:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 234]؛ أي: شارفن بلوغ أجلهنّ، لكن لا يصحّ هذا المعنى في الجانب الشرقيّ، نعم على التقدير كقوله:

مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا

وقوله:

عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا

أي: طالعًا في الأفق من المشرق، وغابرًا في المغرب.

فإن قلت: ما فائدة ذكر الشرق والغرب؟، وهلّا قيل: في السماء؛ أي: في كبدها؟.

قلت: لو قيل: في السماء لكان القصد الأول بيانَ الرفعة، ويلزم منه البعد، وفي ذكر المشرق أو المغرب القصد الأول البعد، ويلزم منه الرفعة، وفيه شبهة من التقصير، بخلاف الأولى، فإن فيه نوع اعتذار، وقريبٌ منه قول الشاعر [من المتقارب]:

هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُهَا فِي السَّمَاءِ

فَعَزَّ الْفُؤَادُ عَزَاءً جَمِيلَا

فَلَنْ تَسْتَطِيعَ إِلَيْهَا الصُّعُودَا

وَلَنْ تَسْتَطِيعَ إِلَيْكَ النُّزُولَا

انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

(مِنَ الأُفُقِ، مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوِ الْمَغْرِبِ) قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من الأفق": رويناه بـ"مِنْ" التي لابتداء الغاية، وهي الظرفية، وأما "من المشرق"، فلم يُروَ في كتاب مسلم إلا بـ"مِنْ"، وقد رواه البخاريّ:"في المشرق" بـ "في"،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3558 - 3559.

ص: 590

وهي أوضح، فأمَّا من رواهما بـ"مِن" في الموضعين، فأوجَهُ ما فيهما أن تكون الأولى لابتداء الغاية، والثانية بدل منها مبيّنة لها، وقيل: إنها في قوله: "من المشرق" لانتهاء الغاية، وهو خروجٌ عن أصلها، وليس معروفًا عند أكثر النحويين. انتهى

(1)

.

وقوله: (لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ") متعلّق بمحذوف خبر لمقدّر؛ أي: ذلك كائن لتفاوت ما بينهم من الدرجات.

قال في "الفتح": واستُدلّ به على تفاوت درجات أهل الجنة، وقد قُسِموا في "سورة الواقعة" إلى السابقين، وأصحاب اليمين، فالقسم الأول هم من ذُكر في قوله تعالى:{فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} الآية [النساء: 69]، ومن عداهم أصحاب اليمين، وكل من الصنفين متفاوتون في الدرجات، وفيه تعقب على من خَصَّ المقربين بالأنبياء، والشهداء؛ لقوله في آخر الحديث:"رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين". انتهى

(2)

.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث، (يَا رَسُولَ اللهِ تِلْكَ)؛ أي: المنازل التي ذكرتها آنفًا، (مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ) عليهم السلام (لَا يَبْلُغُهَا)؛ أي: لا يصل إليها، ولا ينالها (غَيْرُهُمْ) من أممهم. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("بَلَى) قال في "العمدة": وفي رواية أبي ذرّ: "بل" التي للإضراب، وقال القرطبيّ: هكذا وقع هذا الحرف "بلى" التي أصلها حرف جواب وتصديق، وليس هذا موضعها؛ لأنهم لم يستفهموا، وإنما أخبروا أن تلك المنازل للأنبياء عليهم السلام، لا لغيرهم، فجواب هذا يقتضي أن تكون بـ"بل" التي للإضراب، عن الأول، وإيجاب المعنى للثاني، فكأنه تسومح فيها، فوضعت "بلى" موضع "بل". انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": حكى ابن التين أن في رواية أبي ذرّ: "بل" بدل "بلى"، ويمكن توجيه "بلى" بأن التقدير: نَعَم، هي منازل الأنبياء عليهم السلام بإيجاب الله تعالى لهم ذلك، ولكن قد يتفضل الله تعالى على غيرهم بالوصول

(1)

"المفهم" 7/ 175 - 176.

(2)

"الفتح" 15/ 98.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 159.

ص: 591

إلى تلك المنازل، وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن تكون "بلى" جواب النفي في قولهم: "لا يبلغها غيرهم"، وكأنه قال: بلى يبلغها رجال غيرهم. انتهى

(1)

.

(وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا قَسَم أقسم به النبيّ صلى الله عليه وسلم تأكيدًا لحديثه، وفيه إثبات اليد لله عز وجل على ما يليق بجلاله. (رِجَالٌ) مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: تلك المنازل منازل رجال آمنوا، (آمَنُوا باللهِ)؛ أي: حقّ إيمانه (وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ")؛ أي: حقّ تصديقهم، وإلا فكلُّ من يدخل الجنة آمَنَ بالله، وصَدَّق رسله، قاله في "العمدة".

وقال في "الفتح": قوله: "وصدّقوا المرسلين"؛ أي: حقّ تصديقهم وإلا لكان كلّ من آمن بالله، وصدّق رسله، وصل إلى تلك الدرجة، وليس كذلك، ويَحْتَمِل أن يكون التنكير في قوله:"رجال" يشير إلى ناس مخصوصين، موصوفين بالصفة المذكورة، ولا يلزم أن يكون كل من وُصف بها كذلك؛ لاحتمال أن يكون لمن بلغ تلك المنازل صفة أخرى، وكأنه سكت عن الصفة التي اقتضت لهم ذلك، والسرّ فيه أنه قد يبلغها من له عمل مخصوص، ومن لا عمل له كان بلوغها إنما هو برحمة الله تعالى.

وقد وقع في رواية الترمذيّ من وجه آخر، عن أبي سعيد:"وإن أبا بكر وعمر لمنهم، وأنْعِما". ورَوى الترمذيّ أيضًا عن عليّ، مرفوعًا:"إن في الجنة لغرفًا تُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابيّ: لمن هي يا رسول الله؟ قال: هي لمن ألان الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".

وقال ابن التين: قيل: إن المعنى أنهم يبلغون درجات الأنبياء.

وقال الداوديّ: يعني: أنهم يبلغون هذه المنازل التي وُصفت، وأما منازل الأنبياء، فإنها فوق ذلك.

وقع في حديث أبي هريرة، عند أحمد، والترمذيّ:"قال: بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله، ورسوله". هكذا فيه بزيادة الواو العاطفة، ففسد تأويل الداوديّ، والله المستعان. ويَحْتَمِل أن يقال: إن الغرف المذكورة لهذه

(1)

"الفتح" 7/ 549.

ص: 592

الأمة، وأما من دونهم فهم الموحّدون من غيرهم، أو أصحاب الغرف الذين دخلوا الجنة من أول وهلة، ومَن دونهم من دخل بالشفاعة، ويؤيد الذي قبله قوله في صفتهم:"هم الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين"، وتصديق جميع المرسلين إنما يتحقق لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف من قبلهم من الأمم، فإنهم وإن كان فيهم من صدّق بمن سيجيء من بعده من الرسل، فهو بطريق التوقع، لا بطريق الواقع، والله أعلم. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7116](2831)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3256) و"الرقاق"(6556)، و (أبو داود) في "الحروف والقراءات"(3987)، و (الترمذيّ) في "المناقب"(3658)، و (ابن ماجه) في "المقدّمة"(96)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 26 و 27 و 50 و 61 و 72 و 93 و 98 و 5/ 340)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 336)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1130 و 1299)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7393)، و (البيهقيّ) في "البعث"(249 و 250)، و (الطيب) في "تاريخه"(3/ 195 و 11/ 58 و 12/ 124)، وفوائده تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَابٌ فِيمَنْ يَوَدُّ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7117]

(2832) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ").

(1)

"الفتح" 7/ 549 - 550.

ص: 593

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح ذكوان السمّان المدنيِّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الأبواب الأربعة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، سوى شيخه، فبغلانيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي) جارّ ومجرور خبر مقدّم لـ"ناس"، وقوله:(لِي) متعلّق بـ (حُبًّا) منصوب على التمييز لنسبة "أشدّ"؛ أي: أشدّ حبًّا بالنسبة إلى غيرهم في زمانهم. (نَاسٌ) بالرفع، على أنه مبتدأ موصوف بقوله:(يَكُونُونَ بَعْدِي)؛ أي: يوجدون بعد موتي، (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي)؛ أي: يتمنى رؤيتي مفتديًا (بأَهْلِهِ وَمَالِهِ") قال المظهر: الباء في "بأهله" باء التعدية، كما في قوله:"بأبي أَنت"؛ يعني: يتمنى أحدهم أن يكون يفدي بأهله وماله لو اتّفق رؤيتهم، ووصولهم إليِّ.

وقال الطيبيّ: "لو" هنا كما في قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)} [الحجر: 2]، فلا بدّ لقوله:"يودّ" من مفعول، فـ"لَوْ" مع ما بعده نُزّل منزلته، كأنه قيل: يودّ أحدهم، ويُحبّ أحدهم لو رآني بأهله؛ أي: يفدي أهله وماله ليراني

(1)

.

قال القاري: الأظهر كلام المظهر، على ما أشار إليه أن "لو" هنا حرف مصدريّ بمنزلة "أن"، إلا أنها لا تنصب، وأكثر وقوع هذه بعد وَدّ، أو يودّ، نحو:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [النساء: 89]، و {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، و {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96]، قال في "المغني"

(2)

: وأكثرهم لم يُثبت ورود "لو" المصدرية، والذي أثبته الفراء، وأبو عليّ، وأبو البقاء،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3966 - 3967.

(2)

راجع: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام الأنصاريّ 1/ 502 - 504.

ص: 594

والتبريزيّ، وابن مالك، ويقول المانعون في نحو:{يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : أنها شرطية، وأن مفعول {يَوَدُّ} وجواب {لَوْ} محذوفان، والتقدير: يود أحدهم التعمير لو يعمّر ألف سنة لسرّه ذلك، ولا خفاء فيما في ذلك من التكلف. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف بنحوه في "الفضائل"[39/ 6111](2364) وتقدّم تخريجه، وفوائده هناك، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابٌ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، وَمَا يَنَالُونَ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ، وَالْجَمَالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7118]

(2833) - (حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا، يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو فِي وُجُوهِهِمْ، وَثِيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: والله لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ والله لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْبَصْرِيُّ) هو: سعيد بن عبد الجبار بن يزيد القرشيّ الكرابيسيّ، نزيل مكة، صدوقٌ [10].

رَوَى عن حماد بن سلمة، ومالك، وفضيل بن عياض، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وابن أبي عاصم، وموسى بن هارون، وغيرهم.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 11/ 415.

ص: 595

قال أبو حاتم: صدوقٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو بكر الخطيب: كان ثقةً، وقال البغويّ: مات في آخر ذي الحجة سنة (236)، زاد غيره: بالبصرة.

تفرّد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون تقدّموا قبل أربعة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَسُوقًا) قال النوويّ رحمه الله: السوق يُذكّر ويؤنث، وهو أفصح، والمراد بالسوق: مَجْمَع لهم يجتمعون، كما يجتمع الناس في الدنيا في السوق. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: السوق يذكّر ويؤنث، "وسُمّي سوقًا"؛ لقيام الناس فيها على ساق، وقيل: لِسَوق الناس بضائعهم إليها، فيَحْتَمِل أن يكون سُوق الجنة عبارة عن مجتمع أهل الجنة، ومحل تزاورهم، وسُمّي سُوقًا بالمعنى الأول، ويؤيّد هذا أن أهل الجنة لا يَفقِدون شيئًا حتى يحتاجوا إلى شرائه من السوق، ويَحْتَمِل أن يكون سُوقًا مشتملًا على محاسن مشتهيات مستلذات تُجمع هنالك مرتَّبة محسّنة، كما تُجمع في الأسواق، حتى إذا جاء أهل الجنة فرأوها، فمن اشتهى شيئًا وصل إليه من غير مبايعة، ولا معاوضة، ونعيم الجنة وخيرها أعظم، وأوسع من ذلك كله. انتهى

(2)

.

(يَأْتُونَهَا)؛ أي: يحضر أهل الجنة تلك السوق (كُلَّ جُمُعَةٍ) بضمّتين، ويسكّن الثاني، قال النوويّ رحمه الله: معناه: يأتونها في مقدار كل جمعة؛ أي أسبوع، وليس هناك حقيقة أسبوع؛ لفقد الشمس، والليل، والنهار. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وخصّ يوم الجمعة بذلك؛ لفضيلته، ولِمَا خصّه الله تعالى به من الأمور التي تقدَّم ذكرها، ولأنه يوم المزيد؛ أي: اليوم الذي يُوَفَّى

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 170.

(2)

"المفهم" 7/ 177 - 178.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 170.

ص: 596

لهم ما وُعِدوا به من الزيادة، وأيام الجنة تقديرية؛ إذ لا ليل هناك، ولا نهار، وإنما هناك أنوار متوالية، لا ظُلمة معها، على ما يأتي -إن شاء الله تعالى-

(1)

.

وقال القاري رحمه الله بعد نقل كلام النوويّ السابق: قلت: وإنما يُعرف وقت الليل والنهار بإرخاء أستار الأنوار، ورَفْعها، على ما ورد في بعض الأخبار، فبهذا يُعرف يوم الجمعة، وأيام الأعياد، وما يترتب عليهما من الزيارة، والرؤية، وسائر الإمداد والإسعاد، ففي "الجامع"

(2)

: أن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء في الجنة، وذلك أنهم يزورون الله تعالى في كل جمعة، فيقول لهم: تَمَنَّوا عليّ ما شئتم، فيلتفتون إلى العلماء، فيقولون: ماذا نتمنى؟ فيقولون: تمنوا عليه كذا وكذا، فهم يحتاجون إليهم في الجنة، كما يحتاجون إليهم في الدنيا، رواه ابن عساكر عن جابر، هذا وتسمية يوم الجمعة بيوم المزيد في الجنة يدلّ على تميّزه عن سائر الأيام، والله تعالى أعلم. انتهى

(3)

.

(فَتَهُبُّ) بضم الهاء وتشديد الموحّدة؛ أي: فتأتي (رِيحُ الشَّمَالِ) بفتح أوله، من غير همز، وخُصّت بالذكر؛ لأنها من ريح المطر عند العرب، قاله القاري

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: "الشَّمال" بفتح الشين، والميم، بغير همزة، هكذا الرواية، قال صاحب "العين": هي الشَّمَال، والشَّمْأل، بإسكان الميم، مهموزًا، والشأملة، بهمزة قبل الميم، والشَّمَل بفتح الميم، بغير ألف، والشَّمُول، بفتح الشين، وضم الميم، وهي التي تأتي من دُبُر القبلة، قال القاضي: وخص ريح الجنة بالشمال؛ لأنها ريح المطر عند العرب، كانت تَهُبّ من جهة الشام، وبها يأتي سحاب المطر، وكانوا يرجون السحابة الشامية، وجاءت في الحديث تسمية هذه الريح المثيرة؛ أي: المحرِّكة؛ لأنها تُثير في وجوههم ما تثيره من مسك أرض الجنة، وغيره من نعيمها. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ريح الشّمال في الدنيا: هي التي تأتي من دُبُر

(1)

"المفهم" 7/ 177 - 178.

(2)

هذا الذي نقله عن "الجامع" يحتاج إلى صحة ثبوته، ومن أين؟.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 289.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 289.

ص: 597

القبلة، من ناحية الشام، وهي التي تأتي بلاد العرب بالأمطار، فهي عندهم أحسن الأرياح، فلذلك سُمّي ريح الجنة بالشَّمال، وفي الشمال لغات، يقال: شَمَالٌ، وشَمْألٌ، وشَأْملٌ، وشَمَلٌ، وشَمُول، حكاها صاحب "العين"، ويقابلها: الجنوب، وقد سمِّيت هذه الريح في حديث آخر بالمثيرة؛ لأنَّها تثير النعيم، والطيب على أهل الجنة. انتهى

(1)

.

(فَتَحْثُو)؛ أي: تنثر تلك الريح، والمفعول محذوف؛ أي: المسك، وأنواع الطيب (فِي وُجُوهِهِمْ)؛ أي: أبدانهم، وخُصّت الوجوه؛ لِشَرِفها، (وَثيَابِهِمْ، فَيَزْدَادُونَ حُسْنًا وَجَمَالًا) جَمع بينهما للتأكيد، أو المراد بأحدهما الزينة، وبالآخر حُسْن الصورة. (فَيَرْجِعُونَ)؛ أي: من السوق (إِلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَدِ ازْدَادُوا حُسْنًا وَجَمَالًا) قيل: يكون زيادة حسنهم بقدر حسناتهم، (فَيَقُول لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: والله لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْنًا وَجَمَالًا، فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ) فيه تغليب؛ لكون الأهل أعم من النساء، والولدان، أو أريد به التعظيم والتكريم، أو روعي المشاكلة والمقابلة. (والله لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا)؛ أي: بعد مفارقتكم لنا، (حُسْنًا وَجَمَالًا") ذلك إما لإصابتهم من تلك الريح، أو بسبب انعكاس جمالهم، أو لأجل تأثير حالهم، وترقي مآلهم، والله تعالى أعلم

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7118](2833)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 284)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 436)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 253)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(41/ 3127)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 7/ 178.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 289.

ص: 598

(7) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ")

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7119]

(2834) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ -وَاللَّفْظُ لِيَعْقُوبَ- قَالَا: حَدَّثَنَا إِسمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: إِمَّا تَفَاخَرُوا، وَإِمَّا تَذَاكَرُوا، الرِّجَالُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ، أَمِ النِّسَاءُ؟

(1)

فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَوَ لَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) بن محمد بن بُكير أبو عثمان البغداديّ، نزل الرَّقَّة، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 232)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 4/ 23.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) العبديّ مولاهم، أبو يوسف البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](252) وله ست وثمانون سنةً (ع) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مِقْسم الأسديّ مولاهم، أبو بِشر البصريّ ثقةٌ حافظٌ [8](ت 193) وهو ابن ثلاث وثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان البصريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين أبو بكر الأنصاريّ مولاهم، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبل باب.

(1)

وفي نسخة: "الرجال أكثر في الجنة، أم النساء؟ ".

ص: 599

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وأن شيخه يعقوب أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وأنه مسلسل بالبصريين غير شيخيه، فبغداديّان، والصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ) بن سيرين؛ أنه (قَالَ: إِمَّا تَفَاخَرُوا، وَإِمَّا تَذَاكَرُوا) معنى هذا الكلام أن جماعة من الناس اختلفوا فيما بينهم هل (الرِّجَالُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ، أَمِ النِّسَاءُ؟) وفي بعض النسخ: "الرجال أكثر في الجنّة أم النساء؟ "، وهذا الاختلاف، إما مذاكرة فيما بينهم، وإما مفاخرة للرجال على النساء، أو العكس

(1)

، وهذا تؤيّده رواية ابن عيينة التالية بلفظ:"اختصم الرجال والنساء، أيُّهم في الجنّة أكثر؟ ".

(فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه: (أَ) تختلفون في هذا (وَلَمْ يَقُلْ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ) بضم الزاي؛ أي: أول جماعة (تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ)؛ أي: في الإضاءة، وفي رواية عند البخاريّ في "الرقاق" بلفظ:"يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "على صورة القمر"؛ أي: على صفته؛ أي: إنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه، وكماله، وهي ليلة أربع عشرة، وبذلك سُمّي القمر بدرًا في تلك الليلة، وقد ورد في هذا المعنى ما يقتضي ما هو أبلغ من ذلك، فروى الترمذيّ من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مرفوعًا:"لو أن رجلًا من أهل الجنة اطلع، فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس، كما تطمس الشمس ضوء النجوم".

وفي "صحيح البخاريّ" من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "ليدخلنّ من أمتي سبعون ألفًا الجنة، أو سبعمائة ألف، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم،

(1)

راجع: "الكوكب الوهّاج" 25/ 490.

ص: 600

وجوههم على صورة القمر ليلة البدر، فبيّن بهذه الرواية عدد هذه الزمرة. انتهى

(1)

.

(وَالَّتِي تَلِيهَا)؛ أي: والزمرة التي تلي هذه الزمرة الأولى، (عَلَى أَضْوَإِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ)؛ أي: كل واحد منهم كأضوء كوكب دُريّ في السماء، وهو بضم الدال، وتشديد الراء، والياء؛ أي: شديد الإنارة، منسوب إلى الدرّ، وتقدمت له لغات أُخَر، مع بيان مبانيها، ومعانيها.

وزاد في الرواية الرابعة: "ثم هم بعد ذلك منازل"؛ أي: إن درجاتهم في إشراق اللون متفاوتة بحسب علوّ درجاتهم، وتفاوت فضلهم

(2)

.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ)؛ أي: من نساء الدنيا، فقد روى أحمد من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا في صفة أدنى أهل الجنة منزلةً، و"أن له من الحور العين لاثنتين وسبعين زوجةً سوى أزواجه من الدنيا"، وفي سنده شهر بن حوشب، وفيه مقال

(3)

.

ولأبي يعلى في حديث الصُّور الطويل من وجه آخر، عن أبي هريرة، في حديث مرفوع:"فيدخل الرجل على ثنتين وسبعين زوجة، مما ينشئ الله، وزوجتين من ولد آدم"، وأخرجه الترمذيّ من حديث أبي سعيد، رفعه:"إن أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم، وثنتان وسبعون زوجة"، وقال: غريب، ومن حديث المقدام بن معد يكرب عنده:"للشهيد ست خصال. . ." الحديث، وفيه:"ويتزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين"، وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه، والدارميّ، رفعه:"ما أحد يدخل الجنة إلا زوّجه الله ثنتين وسبعين من الحور العين، وسبعين وثنتين من أهل الدنيا"، وسنده ضعيف جدًا.

قال الحافظ: وأكثر ما وقفت عليه من ذلك ما أخرج أبو الشيخ في

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 256.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 256.

(3)

هكذا قال في "الفتح"، والأصحّ أنه ثقةٌ، ولا ينقص حديثه عن درجة الحسن، كما حقّقت ذلك في شرح النسائيّ، وفي شرح مقدّمة صحيح مسلم.

ص: 601

"العظمة"، والبيهقيّ في "البعث" من حديث عبد الله بن أبي أوفى، رفعه:"إن الرجل من أهل الجنة ليُزَوَّج خمسمائة حوراء، أو أنه ليُفضي إلى أربعة آلاف بكر، وثمانية آلاف ثيّب"، وفيه راو لم يُسَمَّ، وفي الطبرانيّ من حديث ابن عباس:"إن الرجل من أهل الجنة ليفضي إلى مائة عذراء".

وقال ابن القيّم رحمه الله: ليس في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين، سوى ما في حديث أبي موسى:"إن في الجنة للمؤمن لخيمةً من لؤلؤة، له فيها أهلون، يطوف عليهم".

قال الحافظ: الحديث الأخير صححه الضياء، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم، في صفة أدنى أهل الجنة:"ثم يدخل عليه زوجتاه"، والذي يظهر أن المراد: أن أقل ما لكل واحد منهم زوجتان.

وقد أجاب بعضهم باحتمال أن تكون التثنية تنظيرًا لقوله: جنتان، وعينان، ونحو ذلك، أو المراد: تثنية التكثير والتعظيم، نحو: لبيك، وسعديك، ولا يخفى ما فيه.

واستدلّ أبو هريرة رضي الله عنه بهذا الحديث على أن النساء في الجنة أكثر من الرجال، كما بُيّن في هذه الرواية، وهو واضح، لكن يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الكسوف المتقدم:"رأيتكنّ أكثر أهل النار"، ويجاب بأنه لا يلزم من أكثريتهنّ في النار نفي أكثريتهن في الجنة، لكن يُشكل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"اطّلعت في الجنة، فرأيت أقلّ ساكنها النساء".

ويَحْتَمِل أن يكون الراوي رواه بالمعنى الذي فهمه، من أن كونهنّ أكثر ساكني النار يلزم منه أن يكن أقل ساكني الجنة، وليس ذلك بلازم؛ لِمَا سبق. ويَحْتَمِل أن يكون ذلك في أول الأمر قبل خروج العصاة من النار بالشفاعة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: كذا وقع "زوجتان" بتاء التأنيث، وهي لغة تكررت في الحديث، والأكثر خلافها، وبه جاء القرآن، وذكر أبو حاتم السجستانيّ أن الأصمعيّ كان ينكر زوجة، ويقول: إنما هي زوج، قال: فأنشدناه قول الفرزدق:

وَأَنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي

لَسَاعٍ إِلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَنِيلُهَا

ص: 602

قال: فسكت. ثم ذكر له شواهد أخرى

(1)

.

(يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ) وفي رواية للبخاريّ: "من وراء العظم واللحم"، والْمُخّ بضم الميم، وتشديد المعجمة: ما في داخل العظم، والمراد به: وَصْفها بالصفاء البالغ، وأن ما في داخل العظم لا يستتر بالعظم واللحم والجِلد، ووقع عند الترمذيّ:"لَيُرى بياض ساقها من وراء سبعين حُلَّةً، حتى يُرَى مُخُّها"، ونحوه لأحمد من حديث أبي سعيد، وزاد:"يُنظر وجهه في خدّها أصفى من المرآة".

وقوله: (وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَعْزَبُ") قال النوويّ رحمه الله: هكذا في جميع نُسخ بلادنا: "أعزب" بالألف، وهي لغة، والمشهور في اللغة:"عَزَب" بغير ألف، ونقل القاضي أن جميع رواتهم رووه:"وما في الجنة عَزَب" بغير ألف، إلا العذري، فرواه بالألف، قال القاضي: وليس بشيء، والعَزَب: من لا زوجة له، والعُزُوب: البُعد، وسُمّي عزبًا لبُعده عن النساء. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: عَزَبَ الرجلُ يَعْزُبُ، من باب قتل عُزْبَةً، وزانُ غُرْفَة، وعُزُوبَةً: إذا لم يكن له أهل، فهو عَزَبٌ بفتحتين، وامرأة عَزَبٌ أيضًا كذلك، قال الشاعر [من الرجز]:

يَا مَنْ يَدُلُّ عَزَبًا عَلَى عَزَبْ

عَلَى ابْنَةِ الحُمَارِسِ الشَّيْخِ الأَزَبْ

(3)

وجَمْع الرجل عُزَّابٌ، باعتبار بنائه الأصليّ، وهو عَازِبٌ، مثلُ كافر وكُفّار، قال أبو حاتم: ولا يقال: رجل أَعْزَبُ، قال الأزهريّ: وأجازه غيره، وقياس قول الأزهريّ أن يقال: امرأة عَزْبَاءُ، مثل أحمر وحمراء. انتهى

(4)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: ظاهر هذا الحديث أن النساء أكثر أهل الجنة، وفي الحديث الآخر أنهنّ أكثر أهل النار، قال: فيخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم، قال: وهذا كله في الآدميات، وإلا فقد جاء للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 544 - 545.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 171 - 172.

(3)

الْحُمارس: الشديد، والأزب: الكريه الذي لا يُدنى من حرمته.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 407.

(5)

"إكمال المعلم" 8/ 366.

ص: 603

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7119 و 7120 و 7121 و 7122] و [8/ 7123](2834)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3245 و 3246 و 3254)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10879)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 230 و 247 و 345 و 420 و 422 و 507)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 336)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1143)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7420 و 7436)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 184 - 185)، و (البيهقيّ) في "البعث"(335)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4323)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنَّ أبا هريرة رضي الله عنه استدلّ به على كون النساء أكثر في الجنّة من الرجال، ووجه ذلك أنه إذا لم يكن في الجنّة عَزَبٌ، وكان لكلّ واحد من الرجال زوجتان، فتكون النساء أكثر من الرجال.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: ويعارضه الحديث الآخر: "إني رأيتكن أكثر أهل النار"، وفي الحديث الآخر:"اطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء" وكلاهما في الصحيح، والجمع بينهما أنهنّ أكثر أهل الجنة، وأكثر أهل النار؛ لكثرتهنّ، قال القاضي عياض: يخرج من مجموع هذا أن النساء أكثر ولد آدم، قال: وهذا كله في الآدميات، وإلا فقد جاء أن للواحد من أهل الجنة من الحور العدد الكثير.

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "إن أدنى أهل الجنة الذي له اثنتان وسبعون زوجة".

فإن قلت: كيف اقتصر في هذا الحديث على ذكر زوجتين؟.

قلت: الزوجتان من نساء الدنيا، والزيادة على ذلك من الحور العين، وقال أبو العباس القرطبيّ: بهذا يُعلم أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة أكثر من نوع الرجال من بني آدم، ورجال بني آدم أكثر من نسائهم، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم: "أقل ساكني الجنة النساء، وأكثر ساكني جهنم

ص: 604

النساء"؛ يعني: نساء بني آدم هن أقل في الجنة، وأكثر في النار.

قلت

(1)

: وإذا قلنا بالأولى: إن لكل واحد منهم زوجتين من نساء الدنيا، فيشكل على ذلك قوله:"أقل ساكني الجنة النساء"، ولعل راويه رواه بالمعنى في فهمه، فأخطأ فهمه من كونهن أكثر ساكني جهنم أنهن أقل ساكني الجنة، وقد تقدم أن ذلك لا يلزم، وأنهن أكثر ساكني الجهتين معًا؛ لكثرتهنّ، والله أعلم. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على دخول أهل الجنة إليها جماعة بعد جماعة، وقد صُرِّح به في قوله تعالى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر: 73]، وذلك بحسب الفضل، وتفاوت الدرجات، فمن كان أفضل كان إلى الجنة أسبق، وأول من يدخل الجنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الصحيح:"آتي يوم القيامة باب الجنة، فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرت أن لا أفتح لأحد قبلك".

3 -

(ومنها): أنه قد تبيّن ببقية الروايات أن الزوجتين أقل ما يكون لساكن الجنة من نساء الدنيا، وأن أقل ما يكون له من الحور العين سبعون زوجة، وأما أكثر ذلك فلا حصر له، وفي "الصحيح" عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضًا"، وفي رواية:"في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراهم الآخرون".

وروى الترمذيّ من رواية ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَن ينظر إلى جِنانه، وأزواجه، ونعيمه، وخدمه، وسُرُره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوةً وعشيةً".

4 -

(ومنها): أن قوله: "يُرى مخّ ساقهما من وراء اللحم"؛ يعني: من شدة صفاء لحم الساقين، كما يُرى السلك في جوف الدّرّة الصافية، وروى

(1)

القائل وليّ الدين رحمه الله.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 259.

ص: 605

الترمذيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "إن المرأة من نساء أهل الجنة يرى بياض ساقها من وراء سبعين حلّةً، حتى يرى مخّها، وذلك أن الله يقول:{كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)} فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكًا، ثم استصفيته لرأيته من ورائه، وفي هذا زيادة وهي صفاء الحلل، ورقتها، بحيث يرى المخّ من ورائها أيضًا، ولو كثر عددها

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7120]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: اخْتَصَمَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، أَيُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ؟ فَسَأَلُوا أَبَا هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة الإمام المشهور، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7369)

- حدّثنا سفيان، عن أيوب، عن محمد:"اختصم الرجال والنساء، أيهم في الجنة أكثر؟ فقال أبو هريرة: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "أول من يدخل الجنة مثل القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوء كوكب دُرّيّ، لكل رجل منهم زوجتان اثنتان، يُرَى مخُّ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7121]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ -يَعْنِي: ابْنَ زِيَادٍ- عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 259.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 247.

ص: 606

قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ"(ح) وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ -وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ- قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّة، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) تقدّم قبل باب.

2 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، تقدّم قريبًا.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبدَ الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيادٍ) الْعَبْديّ مولاهم البصريّ، ثقةٌ [8] (ت 176) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

5 -

(عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ) بن شُبْرُمة -بضم الشين المعجمة، والراء، بينهما موحّدة ساكنة- الضبيّ الكوفيّ، ثقةٌ أرسل عن ابن مسعود [6](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 108.

6 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: ("وَالَّذِينَ يَلُونَهُمْ)؛ أي: يقربون من تلك الزمرة في قرب المرتبة.

وقوله: (إِضَاءَةً) منصوب على التمييز، بُيِّن وجه الشبه، قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "كأشدّ كوكب" أفرد المضاف إليه؛ ليفيد الاستغراق في هذا النوع من الكوكب؛ يعني: إذا تقصّيت كوكبًا كوكبًا رأيتهم كأشده إضاءةً.

فإن قلت: ما الفرق بين هذا، والتركيب السابق؟.

قلت: كلاهما تشبيهان، إلا أن الوجه في الثاني هو الإضاءة فقط، وفي

ص: 607

الأول الهيئة، والحسن، والضوء، كما إذا قلت: إن زيدًا ليس بإنسان، بل هو في صورة الأسد، وهيئته، وجرأته، وهذا التشبيه قريبٌ من الاستعارة المكنيّة، والكوكب الدريّ هو الشديد الإنارة، نُسب إلى الدرّ، وشُبّه صفاؤه بصفائه. انتهى

(1)

.

وقوله: (لَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ)؛ أي: ليس في فمهم وأنفهم من المياه الزائدة والمواد الفاسدة ليحتاجوا إلى إخراجها؛ لأن الجنة مساكن طيبة للطيبين، فلا يلائمها الأدناس والأنجاس.

وقوله: (وَلَا يَتْفُلُونَ) بضم الفاء، وتكسر؛ أي: لا يبزقون، وقال النوويّ: قوله: "ولا يتفلون" هو بكسر الفاء، وضمها، حكاهما الجوهريّ وغيره، وفي رواية:"لا يبصقون"، وفي رواية:"لا يبزقون" وكله بمعنى. انتهى.

وقال الرافعيّ رحمه الله: قوله: "لا يتفلون" الرواية بكسر الفاء، يقال: تَفَل يَتْفِل تَفْلًا: بَزَقَ، والتَّفَل بفتحتين، هو البزاق نفسه، وكذلك الريح الكريهة، ويقال في معنى الرائحة: تَفِلَ يَتْفَل تَفَلًا، فهو تَفِلٌ، ومنه:"وليخرجن تَفِلات"، فقوله:"لا يتفلون"؛ أي: لا يبصقون، كما قال:"لا يمتخطون"، ولو رُويَ لا يَتْفَلُون لكان المعنى لا يتغير روائحهم. انتهى

(2)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: تَفِلَتِ المرأةُ تَفَلًا، فهي تَفِلَةٌ، من باب تَعِبَ: إذا أنتن ريحها؛ لِتَرك الطيب والادّهان، والجمع: تَفِلاتٌ، وإذا كَثُر فيها فهي مِتْفَالٌ، مبالغة، وتَفِلَتْ: إذا تطيبت، من الأضداد، وتَفَلَ تَفْلًا، من بابي ضَرَب، وقَتَل، من البزاق، يقال: بَزَقَ، ثم تَفَلَ، ثم نَفَثَ، ثم نَفَخَ. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يبولون. . . إلخ" إنما لم تصدر هذه

الفضلات عن أهل الجنة؛ لأنَّها أقذار مستخبثة، والجنة منزهة عن مثل ذلك، ولمّا كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة، والاعتدال، لم يكن لها فضلة تستقذر، بل تستطاب، وتستلذّ، وهي التي عبّر عنها بالمسك فيما قال:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 2555.

(2)

"التدوين في أخبار قزوين" للرافعيّ 1/ 227 - 228.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 76.

ص: 608

"ورشحهم المسك"، وقد جاء في لفظ آخر:"لا يبولون، ولا يتغوّطون، وإنما هو عَرَق يجري من أعراضهم مثل المسك"

(1)

؛ يعني: من أبدانهم. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون"، زاد في رواية:"ولا يبولون، ولا يتفلون"، وفي رواية:"لا يسقمون"، وقد اشتمل ذلك على نفي جميع صفات النقص عنهم، ولمسلم من حديث جابر:"يأكل أهل الجنة، ويشربون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، طعامهم ذلك جشاء، كريح المسك"، وكأنه مختصر مما أخرجه النسائيّ من حديث زيد بن أرقم، قال:"جاء رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون، ويشربون، قال: نعم، إن أحدهم ليُعْطَى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع، قال: الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى، قال: تكون حاجة أحدهم رشحًا يفيض من جلودهم، كرشح المسك"، وسَمَّى الطبرانيّ في روايته هذا السائل ثعلبة بن الحارث.

قال ابن الجوزيّ: لمّا كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة، والاعتدال لم يكن فيها أذى، ولا فضلة تستقذر، بل يتولد عن تلك الأغذية أطيب ريح، وأحسنه. انتهى

(3)

.

وقال وليّ الدين رحمه الله: قوله: "لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون فيها" هي صفة أهل الجنة مطلقًا، ولا يختصّ ذلك بالزمرة الأُولى، وقد دلّ على ذلك الرواية التي بيّن فيها صفة الذين يلونهم، وأشار إلى بقية المنازل. انتهى

(4)

.

وقوله: (أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ) وفي الرواية الآتية: "آنِيَتُهُمْ، وَأَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"، والأمشاط بفتح الهمزة: جمع مشط، بتثليث الميم والأفصح ضمها؛ أي: ما يُسرّح به الشعر.

وقال المجد رحمه الله: المشط مثلّثةً، وككتِف، وعُنُق، وعُتُلٍّ، ومِنْبَر: آلة

(1)

رواه أحمد 4/ 367، والبيهقيّ في "البعث" ص 205.

(2)

"المفهم" 7/ 179.

(3)

"الفتح" 7/ 542 - 543.

(4)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 257.

ص: 609

يُمتشط بها، جَمْعه أمشاط، ومِشَاطٌ. انتهى

(1)

.

وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: قد يقال: أيّ حاجة في الجنة للأمشاط، لا تتلبد شعورهم، ولا تتّسخ، وأيّ حاجة للبَخور، وريحهم أطيب من المسك،

ويجاب عن ذلك بأن نعيم أهل الجنة، وكسوتهم، ليس عن دفع ألم اعتراهم، فليس أكلهم عن جوع، ولا شُربهم عن ظمأ، ولا تطييبهم عن نتن، وإنما هي لذّات متوالية، ونِعَم متتابعة، أَلَا ترى قوله تعالى لآدم عليه السلام:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)} [طه: 118، 119]، وحكمة ذلك أن الله تعالى نعّمهم في الجنة بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا، وزادهم على ذلك ما لا يعلمه إلا الله عز وجل. انتهى

(2)

.

وقوله: (وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ)؛ أي: عَرَقهم كالمسك في طيب الرائحة، وقال المباركفوريّ: المعنى: رائحة عرقهم رائحة المسك، فهو تشبيه بليغ. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ) جمع مِجْمَر، بالكسر، والضم، فبالكسر موضع وَضْع النار للبخور، وبالضم ما يتبخر به، وأُعدّ له الجمر، وهو المراد هنا؛ أي: إن بَخُورهم بالألوّة، وهو العود الهنديّ، والألوّة بفتح الهمزة، وضمها، وتشديد الواو، قال الكرمانيّ: فإن قلت: مجامر الدنيا كذلك، قلت: لا؛ إذ في الجنة نفس المجمرة هي العود. انتهى

(4)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ومجامرهم الألوّة" الألوّة: العود الذي يُبخر به، قيل: جُعلت مجامرهم نفس العود، لكن في الرواية الثانية:"ووَقُود مجامرِهِم الألوّة" فعلى هذا في رواية الباب تجوّز، ووقع في رواية الصغاني بعد قوله:"الألوة"، قال أبو اليمان: يعني: العود، والمجامر جمع مِجمرة، وهي الْمِبْخَرة، سُمّيت مجمرةً؛ لأنها يوضع فيها الجمر؛ ليفوح به ما يوضع فيها من البَخُور، والألوّة بفتح الهمزة، ويجوز ضمها، وبضم اللام، وتشديد الواو، وحكى ابن التين كسر الهمزة، وتخفيف الواو، والهمزة أصلية، وقيل: زائدة، قال الأصمعيّ: أُراها فارسيّةً عُرِّبَتْ.

(1)

"القاموس" ص 1225.

(2)

"المفهم" 7/ 180.

(3)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 206.

(4)

"شرح سنن ابن ماجه" 1/ 322.

ص: 610

وقد يقال: إن رائحة العود إنما تفوح بوضعه في النار، والجنة لا نار فيها، ومن ثَمَّ قال الإسماعيليّ بعد تخريج الحديث المذكور: يُنظر هل في الجنة نار؟.

وبجاب باحتمال أن يَشتعل بغير نار، بل بقوله:"كن"، وإنما سُمِّيت مِجْمَرة باعتبار ما كان في الأصل، ويَحْتَمِل أن يشتعل بنار لا ضرر فيها، ولا إحراق، أو يفوح بغير اشتعال، ونحو ذلك ما أخرجه الترمذيّ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"إن الرجل في الجنة ليشتهي الطير، فيخرّ بين يديه مشويًّا"، وفيه الاحتمالات المذكورة.

وقد ذَكَر نحو ذلك ابن القيم: في الباب الثاني والأربعين من "حادي الأرواح"، وزاد في الطير: أو يُشْوَى خارج الجنة، أو بأسباب قُدِّرت لإنضاجه، ولا تتعيَّن النار، قال: وقريب من ذلك قوله تعالى: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} [يس: 56]{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وهي لا شمس فيها.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قد يقال: أيُّ حاجة لهم إلى المشط، وهم مُرْدٌ، وشعورهم لا تتسخ؟، وأيّ حاجة لهم إلى البَخُور، وريحهم أطيب من المسك؟ قال: ويجاب بأن نعيم أهل الجنة من أكل، وشرب، وكسوة وطيب، ليس عن ألم جوع، أو ظمأ، أو عُرْيٍ، أو نَتْن، وإنما هي لذات متتالية، ونِعَم متوالية، والحكمة في ذلك أنهم ينعمون بنوع ما كانوا يتنعمون به في الدنيا

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: مذهب أهل السُّنَّة أن تنعُّم أهل الجنة على هيئة تنعّم أهل الدنيا، إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة، ودلّ الكتاب والسُّنَّة على أن نعيمهم لا انقطاع له. انتهى

(2)

.

(وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ) قالى الطبريّ رحمه الله: الحور جمع حَوْراء، وهي: النقية بياض العين، الشديدة سوادها، والعين: جمع عيناء، وهي النجلاء العين، في حُسن. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الحور: جمع حَوْراء، والْحَوَر في العين: شدّة

(1)

"المفهم" 7/ 180.

(2)

"الفتح" 7/ 543 - 544.

(3)

"تفسير الطبريّ" 23/ 107.

ص: 611

بياضها في شدة سوادها، هذا المعروف، قال أبو عمرو: الْحَوَر أن تسودّ العين كلّها مثل أعين الظباء والبقر، وليس في بني حَوَرٌ، وإنما قيل للنساء: حُور العين؛ لأنّهن تشبّهن بالظباء والبقر، قال الأصمعيّ: ما أدري ما الْحَوَر في الْعَيْن، والْعِينُ: جمع عيناء، وهي: الواسعة العين، وفي "الصحاح": رجل أعين: واسع العين، والجمع: عِين، وأصله فُعْل بالضم، ومنه قيل لبقر الوحش: عِين، والثور أعين، والبقرة عيناء. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ) قال النوويّ رحمه الله: قد ذكر مسلم في الكتاب اختلاف ابن أبي شيبة، وأبي كريب في ضبطه، فإن ابن أبي شيبة يرويه بضم الخاء واللام، وأبو كريب بفتح الخاء وإسكان اللام، وكلاهما صحيح، وقد اختَلَف فيه رواة "صحيح البخاريّ"، ويُرَجَّح الضم بقوله في الحديث الآخر:"لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد"، وقد يُرَجَّح الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث:"على صورة أبيهم آدم، أو على طوله". انتهى

(2)

.

وقوله: (عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ)؛ أي: في حسن الْخَلْق، وجمال الصورة، وقال في "العمدة": قال في الأول: "على صورة القمر"، والتوفيق بينهما بأن يقال: الكل على صورة آدم في الطول والخلقة، وبعضهم في الحسن كصورة القمر نورًا وإشراقًا. انتهى

(3)

.

وقال القاري: قوله: "على صورة أبيهم آدم"؛ أي: في القامة، وبَيّنه بقوله:"ستون ذراعًا في السماء"؛ أي: طولًا، فكني عنه به، قاله الطيبيّ رحمه الله: وقيل: العرض سبعة، والله تعالى أعلم. انتهى

(4)

.

وقوله: (سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ")؛ أي: في العلوّ والارتفاع، ويسمى كلّ ما عَلَاك سماءً، ويعني بذلك أن الله تعالى أعاد أهل الجنة إلى خِلْقة أصلهم الذي هو آدم عليه السلام، وعلى صفته وطوله الذي خلقه الله عليه في الجنة، وكان طوله فيها ستين ذراعًا في الارتفاع من ذراع نفسه، والله أعلم.

(1)

"المفهم" 7/ 180.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 173.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 209.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 228.

ص: 612

ويَحْتَمِل أن يكون ذلك الذراع مقدرًا بأذرعتنا المتعارفة عندنا، ثم لم يزل خَلْق ولده وطولهم ينقص، كما جاء في الرواية الأخرى، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

والحديث متّفق عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7122]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ

(2)

زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ نَجْمٍ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ، لَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَبْزُقُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى طُولِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا"، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: "عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ

(3)

"، وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: "عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ"، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: "عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: ("أَوَّلُ زُمْرَةٍ) وفي بعض النسخ: "إن أول زمرة".

وقوله: (ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ)؛ يعني: أنهم متفاوتون في الدرجات.

وقوله: (وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ) قال وليّ الدين رحمه الله: "المجامر" بفتح الميم والجيم، يكون جمع مِجْمَر بكسر الميم، وإسكان الجيم، وفتح الميم الثانية، وهو الذي يوضع فيه النار للبَخور، ويكون جمع مُجمر بضم الميم والباقي كذلك، وهو الذي يتبخر به، وأُعد له الجمر، وهو المراد في هذا الحديث، و"الألوة" بفتح الهمزة، وضمها، وضم اللام، وفتح الواو، وتشديدها، هو العُود الذي يُتبخر به، وهو العود الهنديّ، وهمزته أصلية، وقيل: زائدة؛ أي:

(1)

"المفهم" 7/ 182 - 183.

(2)

وفي نسخة: "إن أول".

(3)

وفي نسخة: "رجل واحد" في الموضعين.

ص: 613

إن بخورهم العود، وهو الألنجوج المذكور في رواية أخرى في "الصحيح"، وهو بفتح الهمزة واللام، وإسكان النون، وضم الجيم، ويقال فيه أيضًا: يلنجوج بالياء أوَّله بدل الهمزة، ويقال فيه أيضًا: ألنجج بحذف الواو التي بين الجيمين، والألف والنون فيه زائدتان، كأنه يلج في تضوّع رائحته، وانتشارها.

فإن قلت: إنما تفوح رائحة العود بوضعه في النار، كما قال الشاعر [من الكامل]:

لَوْلَا اشْتِعَالُ النَّارِ فِيمَا جَاوَرَتْ

مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ نَشْرِ الْعُودِ

والجنة لا نار فيها.

قلت: قد يَشتعل بغير نار، وقد تفوح رائحته بلا اشتعال، وليست أمور الآخرة على قياس أمور الدنيا، وهذا الطير يشتهيه الإنسان، فينزل مشويًّا بلا شيّ نار، ولا غيرها، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ) بفتح الراء المهملة، وإسكان الشين المعجمة، وبالحاء المهملة؛ أي: إن العَرَق الذي يترشح منهم رائحته كرائحة المسك، وهو قائم مقام التغوط والبول من غيرهم، كما قال في الحديث:"لا يبولون، ولا يتغوّطون، وإنما هو عَرَقٌ يجري من أعراضهم مثل المسك"؛ يعني: من أبدانهم، ولمّا كانت أغذية الجنة في غاية اللطافة والاعتدال، لا عجم لها، ولا ثفل، لم يكن لها فضلةٌ، تستقذر، بل تستطاب، وتستلذّ، فعبَّر عنها بالمسك الذي هو أطيب طيب أهل الدنيا

(2)

.

وقوله: (أَخْلَاقُهُمْ عَلَى خُلُقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ") قال القاري: هو بضم الخاء واللام، وتسكّن، والمعنى أنهم على قلب واحد، وبفتح الأول، والمعنى أنهم أتراب في سنّ واحد، وهو ثلاثون، أو ثلاث وثلاثون سنة على ما سيأتي في الحديث، وهو الملائم المناسب لقوله:"على صورة أبيهم آدم"؛ أي: في القامة، وبيّنه بقوله:"ستون ذراعًا في السماء"؛ أي: طولًا، فكني عنه به، قاله الطيبيّ رحمه الله

(3)

.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 258.

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 258.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3556 - 3557.

ص: 614

وقال النوويّ رحمه الله: رُوي بضم الخاء واللام، وبفتح الخاء وإسكان اللام، وكلاهما صحيح، ورجح الضم بقوله في الحديث الآخر:"لا اختلاف بينهم، ولا تباغض، قلوبهم على قلب واحد"، وقد يرجح الفتح بقوله:"لا يمتخطون، ولا يتفلون"، قال الطيبيّ رحمه الله: فعلى هذا لا يكون قوله: "على صورة أبيهم آدم" بدلًا من قوله: "على خلق رجل واحد" بل يكون خبر مبتدأ محذوف، فإذا قيل: الموصوفون بالصفات المذكورة كلها على خُلُق رجل واحد حسن الإبدال.

قال: وأما توجيه الضمّ، فالجملة كالإجمال للتفصيل الذي هو مسبوق بمجمل، أجمل أولًا بقوله:"قلوبهم على قلب رجل واحد"، ثم فصّل بقوله:"لا اختلاف بينهم، ولا تباغُض"، وعلّل عدم الاختلاف بقوله:"لكل امرئ منهم زوجتان. . . إلخ" على معنى أن كل واحد رضي بما أوتي من الثواب على حَسَب مرتبته، وثانيًا بقوله:"على خُلق رجل واحد"؛ تأكيدًا وتقريرًا، فهو كالفذلكة للمجموع.

وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بوصف حُسن خُلُقهم الباطن، وختم بوصف حسن خَلْقهم الظاهر. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: "عَلَى خُلُقِ رَجُل")؛ أي: بضمّ الخاء واللام، ووقع بعض النسخ:"رجلٍ واحدٍ" في الموضعين، (وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ:"عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ")؛ أي: بفتح الخاء، وإسكان اللام، (وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أيضًا:("عَلَىَ صُورَةِ أَبِيهِمْ") بدل قول أبي كريب: "على طول أبيهم آدم".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3556 - 3557.

ص: 615

(8) - (بَابٌ في بَيَانِ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالتَّحْمِيدَ، وَالتَّكْبِيرَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7123]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَّلُ

(1)

زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُوَرُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ فِيهَا، آنِيَتُهُمْ، وَأَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمْ مِنَ الأَلُوَّةِ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَلَا تبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الصنعانيّ، أبو عُتبة، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون تقدّموا قريبًا.

(وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سَاقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ، مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ، وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ) وفي رواية: "قلوبهم على قلبِ واحدٍ" بالإضافة، وترك التنوين؛ أي: على قلب شخص واحد، يريد أنها مطهَّرة عن مذموم الأخلاق، مُكَمَّلة بمحاسنها، قاله وليّ الدين رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "قلب واحد" في رواية الأكثر بالإضافة، وللمستملي بالتنوين:"قلبٌ واحد" وهو من التشبيه الذي حُذفت أداته؛ أي:

(1)

وفي نسخة: "إن أول".

(2)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 8/ 258.

ص: 616

كقلب رجلٍ واحدٍ، وقد فسَّره بقوله:"لا تحاسد بينهم، ولا اختلاف"؛ أي: إن قلوبهم طُهِّرت عن مذموم الأخلاق. انتهى

(1)

.

(يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا)؛ أي: بقدرهما، فأوقات الجنة من الأيام والساعات تقديريات، فإن ذلك إنما يجيء من اختلاف الليل والنهار، وسَيْر الشمس والقمر، وليس في الجنة شيء من ذلك.

وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام؛ لأن الجنة ليست بمحل تكليف، وإنما هي محل جزاء، وإنما هو عن تيسير وإلهام، كما قال في الرواية الأخرى:"يُلهَمون التسبيح، والتحميد، والتكبير، كما يلهمون النَّفَس"، ووجه التشبيه أن تنفّس الإنسان لا بُدّ له منه، ولا كلفة عليه، ولا مشقة في فعله، وآحاد التنفسات مكتسبة للإنسان، وجملتها ضرورية في حقه؛ إذ يتمكن من ضبط قليل الأنفاس، ولا يتمكن من جميعها، فكذلك يكون ذكر الله سبحانه وتعالى على ألسنة أهل الجنة، وسِرّ ذلك أن قلوبهم قد تنورت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذِكره، ورهينة بشكره، فإن من أحب شيئًا أكثر من ذِكره. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": هذا التسبيح ليس عن تكليف وإلزام، وقد فسَّره جابر في حديثه عند مسلم بقوله:"يلهَمون التسبيح، والتكبير، كما يُلهَمون النفس" ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا كلفة عليه فيه، ولا بدّ له منه، فجعل تنفسهم تسبيحًا، وسببه أن قلوبهم تنوّرت بمعرفة الرب سبحانه وتعالى، وامتلأت بحبه، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، وقد وقع في خبر ضعيف أن تحت العرش ستارة معلّقةً فيه، ثم تطوى، فإذا نُشرت كانت علامة البكور، وإذا طُويت كانت علامة العشيّ. انتهى

(3)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 7/ 545.

(2)

"المفهم" 7/ 181.

(3)

"الفتح" 7/ 545.

ص: 617

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7124]

(2835) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ"، قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ: "جُشَاءٌ، وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قريبًا

(1)

، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، و"جرير" هو ابن عبد الحميد، و"أبو سفيان" هو: طلحة بن نافع.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ) بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ) بضمّ الفاء، وكسرها، من بابي نصر، وضرب؛ أي: لا يبصقون (وَلَا يَبُولُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ") من باب الافتعال، وروي:"ولا يتمخّطون"، من باب التفعل. (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث، (فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟)؛ أي: فما حال الطعام الذي يأكلونه؛ أي: ما شأن فضلته؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("جُشَاءٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هو جُشاء، وهو بضم الجيم، وتخفيف الشين المعجمة: تنفس المعدة من الامتلاء، (وَرَشْحٌ) بفتح الراء، وإسكان المعجمة؛ أي: عَرَق (كَرَشْحِ الْمِسْكِ) قال القاري رحمه الله؛ أي: يصير فضل الطعام جشاء؛ أي: نظيره، وإلا فجشاء الجنة لا يكون مكروهًا، بخلاف جشاء الدنيا، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"كُفّ عنّا جشاءك"

(2)

ويصير رشحًا، وهو إما باعتبار اختلاف

(1)

تقدّم قبل عشرة أبواب، "باب تحريش الشيطان، وبعثه سراياه لفتنة الناس" رقم [19/ 7079].

(2)

أشار به إلى ما أخرجه الترمذيّ (2478) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تجشّأ رجل عند =

ص: 618

الأشخاص، أو الأوقات، أو بعض الطعام يكون جشاء، وبعضه يكون رشحًا، والأظهر أن الأكل ينقلب جشاء، والشرب يعود رشحًا، والطعام قد يُطلق عليهما نظرًا إلى معنى الطعم، ففي "القاموس": طَعْم

(1)

الشيء: حلاوته ومرارته، وما بينهما يكون في الطعام والشراب، أقول: وبه يتم التنزيه في قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]، قال: وأما قول الطيبيّ رحمه الله؛ أي: يندفع الطعام بالجشاء والرشح

(2)

، فهو حاصل المعنى، كما لا يخفى. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: والأظهر إلخ هذا التوزيع يحتاج إلى دليل، فتنبّه.

(يُلْهَمُونَ) بالبناء للمفعول، (التَّسْبِيحَ، وَالتَّحْمِيدَ)؛ أي: يوفَّقون لهما، والإلهام: إلقاء شيء في النفوس، يبعث على فعل شيء، أو تركه

(4)

.

وقال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: الإلهام: إلقاء الشيء في الرُّوع، ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى، وجهة الملإ الأعلى، قال تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 8]، وذلك نحو ما عُبِّر عنه بِلِمّة الملَك، وبالنَّفْث في الرُّوع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن للملك لِمّةً، وللشيطان لِمّةً"، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نفَثَ في رُوعي. . ."، الحديث.

وأصله من التهام الشيء، وهو ابتلاعه، والْتَهَم الفصيلُ ما في الضرع، وفَرَسٌ لَهِمٌ: كأنه يلتهم الأرض؛ لشدة عَدْوه. انتهى

(5)

.

(كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ") وقع في النسخة الهنديّة: "يُلهمون" بالياء التحتانيّة، وفي غيرها:"تُلهمون" بمثناة فوقية مضمومة؛ أي: تسبيحهم وتحميدهم يجري

= النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال:"كُفّ عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة"، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه. انتهى.

(1)

بفتح الطاء، وسكون العين.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3557.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 230.

(4)

"فيض القدير" 2/ 434.

(5)

"مفردات ألفاظ القرآن الكريم" 21/ 377.

ص: 619

مع الأنفاس، كما تُلهمون أنتم النفس بفتح الفاء؛ يعني: أنهم لا يتعبون من التسبيح والتهليل، كما لا تتعبون أنتم من التنفس، ولا يشغلهم شيء عن ذلك كالملائكة، أو أراد أنها تصير صفة لازمة، لا ينفكّون عنها؛ كالتنفس اللازم للحيوان.

والحاصل: أنه لا يخرج منهم نَفَس إلا مقرونًا بذكره وشكره سبحانه وتعالى. وقال الطيبيّ رحمه الله: الإلهام: إلقاء الشيء في الرُّوع، ويختص ذلك بما كان من جهة الله، وجهة الملأ الأعلى، فقوله:"تلهمون" وارد على سبيل المشاكلة، لأن المراد به التنفس. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7124 و 7125 و 7126 و 7127](2835)، و (أبو داود) في "السُّنَّة"(4741)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1776)، و (هنّاد بن السّريّ) في "الزهد"(62)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 316 و 364 و 354 و 384)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 335)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1906 و 2052 و 2270)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 315)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7435)، و (أبو نعيم) في "صفة الجنّة"(274 و 333 و 334)، و (البيهقيّ) في "البعث"(316)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4375)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7125]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، إِلَى قَوْلِهِ: "كَرَشْحِ الْمِسْكِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3557.

ص: 620

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14441)

- حدّثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة يأكلون فيها، ويشربون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، ولا يمتخطون، ولا يبزقون، طعامهم جشاءٌ، ورَشْحٌ، كرشح المسك". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7126]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ -قَالَ حَسَنٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ- عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا، وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَمْتَخِطُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، وَلَكِنْ طَعَامُهُمْ ذَاكَ جُشَاءٌ، كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالْحَمْدَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ"، قَالَ: وَفِي حَدِيثِ حَجَّاجٍ: "طَعَامُهُمْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانيُّ) الخلّال، نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج الثقفيّ البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [11](ت 259)(م د) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مَخْلد بن الضحاك بن مُسلم الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأمويّ مولاهم المكيّ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ، كان يدلّس، ويرسل [6](ت 150) أو بعدها، وقد جاز السبعين، وقيل: جاز المائة، ولم يثبت (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.

و"جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 316.

ص: 621

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى وشرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7127]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: "وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ، وَالتَّكْبِيرَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيُّ) أبو عثمان البغداديّ، ثقةٌ، ربما أخطأ [10](ت 249)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

2 -

(أَبُوهُ) يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص الأمويّ، أبو أيوب الكوفيّ، نزيل بغداد، لقبه الْجَمَل، صدوقٌ، يُغْرِب، من كبار [9](194) وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية يحيى بن سعيد عن ابن جريج هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابٌ فِي دَوَامِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43])

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7128]

(2836) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ، لَا يَبْأَسُ، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ").

ص: 622

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو رَافِعٍ) نفيع الصائغ المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ مشهور بكنيته [2](ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 462.

والباقون ذُكروا في الأبواب الثلاثة الماضية.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "مَنْ) موصولة مبتدأ خبرها "ينعم"؛ أي: الذي (يَدْخُل الْجَنَّةَ يَنْعَمُ) بفتح المثناة التحتية، والعين؛ أي: يصيب نعمة، أو يدوم نعيمه، ويَحْتَمل أن تكون "من" شرطيّة، ويجزم الفعلان بعدها بها. (لَا يَبْأَسُ) بسكون الموحّدة، فهمزة مفتوحة؛ أي: لا يفقر، ولا يهتم، قال الطيبيّ رحمه الله: هو تأكيد لقوله: "ينعم"، ووقع في "المشكاة" بلفظ:"ولا يبأس" بالواو، فقال الطيبيّ: الأصل أن لا يجاء بالواو، لكن أراد به التقرير على الطرد والعكس؛ كقوله تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. (لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ) هكذا في النُّسخ بلا واو أيضًا، وهو بفتح حرف المضارعة، واللام؛ أي: لا تَخلق ثيابه التي يلبسها؛ لأنها غير مركبة من العناصر. (وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ")؛ أي: لا يذهب شبابه، قال القاضي رحمه الله: معناه: أن الجنة دار الثبات والقرار، وأن التغيير لا يتطوق إليها، فلا يشوب نعيمها بؤس، ولا يعتريه فساد، ولا تغير، فإنها ليست دار الأضداد، ومحل الكون والفساد

(1)

.

وهذا الحديث صريح في أن الجنة أبديّة، لا تفنى، والنار مثلها، وزعم جهم بن صفوان أنهما فانيتان؛ لأنهما حادثتان، ولم يتابعه أحد من أهل

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3557.

ص: 623

الإسلام، بل كفّروه به، وذهب بعضهم إلى فناء النار دون الجنة، وأطال ابن القيم، كشيخه ابن تيمية في الانتصار له في عدّة كراريس، ورُدّ عليهما، فالصواب ما عليه الجمهور، من أن النار لا تفنى؛ كالجنّة، وسيأتي تحقيق ذلك قريبًا -إن شاء الله تعالى-.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 7128](2836)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 369 - 370 و 407 و 416 و 462)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 332)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 86 و 258)، و (أبو يعلى في "مسنده" (6428)، و (أبو محمد الأصفهانيّ) في "العظمة"(3/ 1112)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7129]

(2837) - (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لإِسْحَاقَ- قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: فَحَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَّ الأَغَرَّ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُنَادِي مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا، فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا، فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا، فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا، فَلَا تَبْتَئِسُوا أَبَدًا"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسّيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الثَّوْرِيُّ) سفيان بن سعيد الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو إِسْحَاقَ) عَمْرو بن عبد الله بن عُبيد، الْهَمْدانيّ السَّبِيعي الكوفيّ، ثقةٌ مكثرٌ عابدٌ يدلّس، واختَلَط بأَخَرَة [3] (ت 129) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 11.

ص: 624

4 -

(الأَغَرُّ) أبو مسلم المدينيّ، نزيل الكوفة، مولى أبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهما، اشتركا في عتقه، ثقةٌ [3] وهو غير سلمان الأغر الذي يُكنى أبا عبد الله، وقد قلبه الطبرانيّ، فقال: اسمه مسلم ويكنى أبا عبد الله (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 26/ 1777.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب والباب الماضي.

شرح الحديث:

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، عن صحابيين، كلاهما من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يُنَادِي مُنَادٍ) الظاهر أن هذا المنادي هو الله سبحانه وتعالى، كما سبق قبل هذا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا"، متّفقٌ عليه، وغير ذلك من النصوص التي هي صريحة في نداء الله تعالى لأهل الجنّة، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

ثم إن هذا النداء ظاهر في كونه في الجنّة، وقيل: إذا رأوها من بعيد، والأول أشبه. (إِنَّ) بكسرة الهمزة، (لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا) بكسر الصاد وتشديد الحاء المهملتين، تكونوا صحيحي البدن دائمًا، (فَلَا تَسْقَمُوا) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِب، ويجوز ضمّ ثالثه أيضًا، قال الفيّوميّ رحمه الله: سَقِمَ سَقَمًا، من باب تَعِبَ: طال مرضه، وسَقُمَ سُقْمًا، من باب قَرُب، فهو سَقِيمٌ، وجمعه

ص: 625

سِقَامٌ، مثلُ كريم وكرام، ويتعدى بالهمزة، والتضعيف، والسَّقَامُ بالفتح اسم منه. انتهى

(1)

.

(أَبَدًا)؛ أي: دائمًا في مستقبل الزمان، (وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا) بفتح أوله، وثالثه، من باب تَعِبَ أيضًا، (فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا) بفتح أوله، وكسر ثالثه، من باب ضرب، (فَلَا تَهْرَمُوا) بفتح أوله، وثالثه، من باب تعِبَ؛ أي: فلا تشيبوا (أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا) بفتح أوله، وتثليث ثالثه، كفرح، وضرب، ونصر، كما في "القاموس". (فَلَا تَبْأَسُوا)؛ أي: لا يصيبكم بأس، وهو شدّة الحال، والبأس، والبؤس، والبأساء، والبؤساء بمعنى، وفي بعض النسخ:"فلا تَبْتَئِسُوا". (أَبَدًا") قال الطيبيّ رحمه الله: هذا النداء والبشارة ألذّ، وأشهى ما فيه من السرور، وفي عكسه أنشد المتنبي [من الوافر]:

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ

تَيَقَّنَ عَنْهُ صَاحِبُهُ ارْتِحَالَا

(2)

(فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}).

قال الإمام ابن جرير الطبريّ رحمه الله: معنى الآية: ونادى منادٍ هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، وأخبر عما أعدّ لهم من كرامته: أنْ يا هؤلاء، هذه "تلكم الجنة" التي كانت رسلي في الدنيا تخبركم عنها، أوْرَثكموها الله عن الذين كذبوا رسله، لتصديقكم إياهم، وطاعتكم ربكم، وذلك هو معنى قوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . انتهى

(3)

.

وقال الألوسيّ رحمه الله: {وَنُودُوا} ؛ أي: نادتهم الملائكة، وجوَّز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله، والآثار تؤيد الأول.

قال الجامع عفا الله عنه: بل الآثار الصحيحة تؤيّد الثاني، كحديث:

"أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم. . ."، وغير ذلك، كما أسلفته آنفًا، والله تعالى أعلم.

{أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} ؛ أي: تِلْكُم على أنَّ {أَنْ} مفسرة لِمَا في النداء من

(1)

"المصباح المنير" 1/ 280.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3558.

(3)

"تفسير الطبريّ" 12/ 442.

ص: 626

معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من "أن" وحرف الجر مقدَّر، واسمها ضمير شأن محذوف؛ أي: بأنها، أو بأنه تلكم، وأوجب البعض الثاني بناءً على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسنَد إليه في الجملة المفسرة مؤنثًا، والصحيح عدم الوجوب على ما صرَّح به ابن الحاجب، وابن مالك، ومعنى البعد في اسم الإشارة، إما لرفع منزلتها، وبعد مرتبتها، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وُعدوها في الدنيا، وإليه يشير كلام الزجاج.

والظاهر أن {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه:{أُورِثْتُمُوهَا} حال من "الجنة"، والعامل فيها معنى الإشارة، ويجوز أن تكون الجنة نعتًا لـ"تلكم"، أو بدلًا، و {أُورِثْتُمُوهَا} الخبر، ولا يجوز أن يكون حالًا من المبتدأ، ولا من "كم"، كما قاله أبو البقاء، وهو ظاهر، والتزم بعضهم في توجيه البعد أن {تِلْكُمُ} خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبلُ، أو مبتدأ حذف خبره؛ أي: تلك الجنة التي أُخبرتم عنها، أو وُعدتم بها في الدنيا هي هذه، ولا حاجة إليه، والمنادَى له أوّلًا وبالذات كونها موروثة لهم، وما قبله توطئة له، والميراث مجاز عن الإعطاء؛ أي: أُعطيتموها {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا من الأعمال الصالحة، والباء للسببية، وتُجُوِّز بذلك عن الإعطاء إشارةً إلى أن السبب فيه ليس موجبًا، وإن كان سببًا بحسب الظاهر، كما أن الإرث مُلك بدون كسب، وإن كان النسب مثلًا سببًا له، والباء في قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يَدخل أحدكم الجنة بعمله" وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجو أحد منكم بعمله" للسبب التام فلا تعارض، وجُوِّز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض؛ أي: بمقابلة أعمالكم، وقيل: تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار، لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثًا للمؤمنين، فقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن السديّ قال: "ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ودخلوا منازلهم رُفعت الجنة لأهل النار، فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى، ثم يقال: يا أهل الجنة رِثُوهم بما كنتم تعملون،

ص: 627

فيقتسم أهل الجنة منازلهم"

(1)

، وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز.

وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى؛ لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة، أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل، وقُصَارَى ما يُعقل أن الله تعالى تفضّل، فرتّب عليها دخول الجنة، فلولا فضله لم يكن ذلك.

قال الألوسيّ: وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب؛ ككثير من الأبواب، فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحَقٍّ على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء، ولا يتضرر بشيء، لا تفضّل له عليهم في ذلك، بل هو بمثابة دَين أُدِّي إلى صاحبه، سبحانك هذا بهتان عظيم، وتكذيب لغير ما خبر صحيح. انتهى كلام الألوسيّ رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ، وأبي هريرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 7129](2837)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3346)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 129)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 319 و 3/ 38 و 95)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(1/ 134)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 430)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 140)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 293)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

في إسناده السدّي، متكلّم فيه.

(2)

"تفسير الألوسيّ" 6/ 173.

ص: 628

(10) - (بَابٌ فِي صِفَةِ خِيَامِ الْجَنَّةِ، وَمَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِيهَا مِنَ الأَهْلِينَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7130]

(2838) - (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي قُدَامَةَ -وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ- عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، مُجَوَّفَةٍ، طُولُهَا سِتُّونَ مِيلًا، لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ، فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ) بن شعبة، أبو عثمان الْخُراسانيّ، نزيل مكة، ثقةٌ مصنِّف، وكان لا يرجع عما في كتابه، لشدّة وثوقه به [10] (ت 227) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 61/ 338.

2 -

(أَبُو قُدَامَةَ الْحَارِثُ بْنُ عُبَيْدٍ) الإيادي -بكسر الهمزة، بعدها تحتانية- البصريّ، صدوق يخطئ [8](خت م د ت) تقدم في "العلم" 1/ 6754.

3 -

(أَبُو عِمْرَانَ الْجَونِيُّ) عبد الملك بن حبيب الأزديّ، أو الْكِنْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ، من كبار [4] (ت 128) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

4 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ) اسمه عمرو، أو عامر، الكوفيّ، ثقة [3](ت 106) وكان أسنّ من أخيه أبي بُرْدة (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

5 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن قيس بن سُليم بن حَضّار أبو موسى الأشعريّ الصحابي المشهور، أَمَّره عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، وهو أحد الحكمين بصِفِّين، مات سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 16/ 171.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم.

ص: 629

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ) أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً) بفتح لام التوكيد؛ أي: بيتًا شريف المقدار، عالي المنار، وأصل الخيمة بيت تبنيه العرب من عِيدان الشجر، وهذه الخيمة هي المراد بقوله تعالى:{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)} [الرحمن: 72]، قال ابن القيم رحمه الله: وهذه الخيام غير الغرف والقصور، بل هي خيام في البساتين، وعلى شط الأنهار.

(مِنْ لُؤْلُؤَةٍ) بهمزتين، وبحذفهما، وبإثبات الأُولى لا الثانية، وعكسه، واللؤلؤ معروف، وقوله:(وَاحِدَةٍ، مُجَوَّفَةٍ)؛ أي: واسعة الجوف، قال القاضي عياض: وفي رواية السمرقنديّ: "مجوبة" بالباء، وهي المثقوبة، وهي بمعنى المجوّفة. (طُولُهَا)؛ أي: ارتفاعها في السماء (سِتُّونَ مِيلًا) قال الفيّوميّ رحمه الله: المِيلُ بالكسر عند العرب: مقدار مَدَى البصرِ

(1)

من الأرض، قاله الأزهريّ، وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، وعند الْمُحْدَثِين أربعة آلاف ذراع، والخلاف لفظيّ؛ لأنهم اتفقوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع، والإصبع ست شُعَيرات، بطن كلّ واحدة إلى الأخرى، ولكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون إصبعًا، والْمُحْدَثون يقولون: أربع وعشرون إصبعًا، فإذا قُسم الميل على رأي القدماء كلّ ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع، وإن قُسم على رأي الْمُحْدَثين أربعًا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع، والفَرْسَخُ عند الكلّ ثلاثة أميال، وإذا قُدّر المِيلُ بالْغَلَوات، وكانت كلّ غَلْوة أربعمائة ذراع، كان ثلاثين غَلْوة، وإن كان كلّ غلوة مائتي ذراع كان ستين غلوة، ويقال للأعلام المبنية في طريق مكة: أميال؛ لأنها بُنيت على مقادير مَدَى البصر من الميل إلى الميل، وإنما أضيف إلى بني هاشم، فقيل: المِيلُ الهَاشِمِيُّ؛ لأن بني هاشم حدَّدوه، وأعلموه. انتهى

(2)

.

(1)

الميل بالمقاييس المعاصرة (1848) مترًا، والفرسخ (5، 544) كيلو مترًا، والبريد (22، 176) كيلو مترًا، راجع:"الإيضاحات العصريّة" ص 72 - 73.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 588.

ص: 630

وقال في "العمدة": الخيمة بيت مربع من بيوت الأعراب، وقوله:"درّة مجوفة" كذا في رواية الأكثرين، وفي رواية السرخسيّ والمستملي:"دُرّ مجوف، طوله"، ويروى:"من لؤلؤة مجوفة" بالفاء، وفي رواية السمرقنديّ بالباء الموحّدة، وهي المثقوبة التي قُطع داخلها، وقوله:"ثلاثون ميلًا" والميل ثلث الفرسخ، ورُوي عن ابن عباس: الخيمة درة مجوفة فرسخ في فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وعن أبي الدرداء: الخيمة لؤلؤة واحدة، لها سبعون بابًا، وقال القرطبيّ: يُعلم من هذا الحديث أن نوع النساء المشتمل على الحور والآدميات في الجنة أكثر من نوع رجال بني آدم. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما الخيمة فبيت مربع من بيوت الأعراب، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من لؤلؤة مجوفة" هكذا هو في عامّة النسخ: "مجوفة" بالفاء، قال القاضي: وفي رواية السمرقنديّ: "مجوبة" بالباء الموحّدة، وهي المثقوبة، وهي بمعنى المجوفة، وفي الرواية الأولى:"عرضها ستون ميلًا"، وفي الثانية:"طولها في السماء ستون ميلًا"، ولا معارضة بينهما، فعرضها في مساحة أرضها، وطولها في السماء؛ أي: في العلوّ متساويان. إنتهى

(2)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "طولها ستون ميلًا"؛ أي: في السماء، وفي رواية:"عرضها ثلاثون ميلًا"، ولا معارضة؛ إذ عَرْضها في مساحة أرضها، وطولُها في العلوّ، نَعَم وَرَدَ:"طولها ثلاثون ميلًا"، وحينئذ يمكن الجمع بأن ارتفاع تلك الخيمة باعتبار درجات صاحبها. انتهى

(3)

.

(لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا)؛ أي: في تلك الخيمة، (أَهْلُونَ)؛ أي: زوجات، (يَطُوفُ)؛ أي: يدور (عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ)؛ أي: يجامعهم، فالطواف هنا كناية عن المجامعة (فَلَا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا")؛ أي: من طول مسافة الخيمة، وبُعد أقطارها، والله تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 15/ 153.

(2)

"شرح النووي" 17/ 175 - 176.

(3)

"فيض القدير" 2/ 502.

ص: 631

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 7130 و 7131 و 7132](2838)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3243) و"التفسير"(4879)، و (الترمذيّ) في "الجنّة"(2528)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 400 و 411 و 419)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 336) و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7395)، و (أبو الشيخ) في "العظمة"(606)، و (البيهقيّ) في "البعث"(303)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4379)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7131]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةٌ، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ، مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(أَبُو عَبْدِ الصَّمَدِ) عبد العزيز بن عبد الصمد الْعَمّي، أبو عبد الصمد البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [9] (ت 187) ويقال: بعد ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 86/ 455.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ) الزاوية: الجانب، والناحية.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7132]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ،

ص: 632

أَخْبَرَنَا همَّامٌ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"الْخَيْمَةُ دُرَّةٌ، طُولُهَا فِي السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلًا، فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ لِلْمُؤْمِنِ، لَا يَرَاهُمُ الآخَرُونَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ) بن زاذان السلميّ مولاهم، أبو خالد الواسطيّ، ثقةٌ متقنٌ عابدٌ [9](ت 206) وقد قارب التسعين (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 45.

2 -

(هَمَّامُ) بن يحيى بن دينار الْعَوْذيّ، أبو عبد الله، أو أبو بكر البصريّ، ثقةٌ، ربما وهم [7](ت 4 أو 165)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ أنهَارِ الْجَنَّةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7133]

(2839) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

2 -

(خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن خبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

ص: 633

3 -

(حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ) بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

والباقون تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، والباقون كوفيّون، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقد مضى القول فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ-صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ) قال ياقوت رحمه الله

(1)

: هو بفتح أوله، وسكون ثانيه، ثم حاء مهملة، وآخره نون، فعلان، من ساح الماء يسيح: إذا سال، وهو نهر كبير بالثَّغْر، من نواحي الْمِصِّيصة، وهو نهر أَذَنَة، بين أنطاكية والروم، يمرّ بأَذَنة، ثم ينفصل عنها نحو ستة أميال، فيصبّ في بحر الروم، وإياه أراد المتنبي في مدح سيف الدولة:

أَخُو غَزَوَاتٍ مَا تَغِبُّ سَيُوفُهُ

رَقَابَهُمْ إِلَّا وَسْيَحانُ جَامِدُ

يريد: أنه لا يترك الغزو إلا في شدّة البرد، إذا جمد سيحان، وهو غير سيحون الذي بما وراء النهر، ببلاد الهياطلة في هذه البلاد، سيحان، وجيحان، وهناك سيحون، وجيحون، وذلك كله ذكر في الأخبار. انتهى.

(وَجَيْحَانُ) قال ياقوت رحمه الله

(2)

: جيحان بالفتح، ثم السكون، والحاء مهملة، وألف، ونون: نهر بالمصيصة بالثغر الشاميّ، ومخرجه من بلاد الروم، ويمرّ حتى يصب بمدينةٍ تُعرَف بكفربيا، بإزاء المصيصة، وعليه عند المصيصة قنطرة، من حجارة رومية، عجيبة، قديمة، عريضة، فيدخل منها إلى المصيصة، وينفذ منها، فيمتد أربعة أميال، ثم يصب في بحر الشام، قال أبو الطيب [من الطويل]:

سَرَيْتُ إِلَى جَيْحَانَ مِنْ أَرْضِ آمِدٍ

ثَلَاثًا لَقَدْ أَدْنَاكَ رَكْضٌ وَأَبْعَدَا

(وَالْفُرَاتُ) بضم الفاء، وتخفيف الراء، هو في أصل كلام العرب أعذب

(1)

"معجم البلدان" 3/ 293.

(2)

"معجم البلدان" 2/ 196.

ص: 634

المياه، قال عز وجل:{هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [الفرقان: 53]، وقد فَرُت الماء يَفرُت فروتة، وهو فرات: إذا عَذُب، ومخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط، ويدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم، ويجيء إلى كمخ ويخرج إلى ملطية، ثم إلى سميساط، ويصب إليه أنهار صغار، قاله ياقوت

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الفُرَاتُ نهر عظيم مشهور، يخرج من حدود الروم، ثم يمرّ بأطراف الشام، ثم بالكوفة، ثم بالْحِلَّة، ثم يلتقي مع دجلة في البطائح، ويصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبّ عند عَبّادان، في بحر فارس، والفرات: الماء العذب، يقال: فَرُتَ الماءُ فُرُوتَةً، وزانُ سَهُلَ سُهُولةً: إذا عَذُب، ولا يجمع إلا نادرًا على فِرْتَانِ، مثل غِرْبَان. انتهى

(2)

.

(وَالنِّيلُ) بكسر النون، بعدها تحتانيّة ساكنة، وآخره لام: نهر مصر المشهور. (كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ") قال الطيبيّ رحمه الله: "سيحان" مبتدأ، و"كُلٌّ" مبتدأ ثان، والتقدير: كلٌّ منهما، و"من أنهار الجنة" خبر المبتدأ الثاني، والجملة، خبر الأول، و"مِن" إما ابتدائية؛ أي: ناشئة منها، أو اتصالية، أو تبعيضية. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: (اعلم): أن سيحان وجيحان غير سيحون وجيحون، فأما سيحان وجيحان المذكوران في هذا الحديث اللذان هما من أنهار الجنة، في بلاد الأرمن، فجيحان نهر الْمِصِّيصة، وسيحان نهر أَذَنَةَ، وهما نهران عظيمان جدًّا، أكبرهما جيحان، فهذا هو الصواب في موضعهما، وأما قول الجوهريّ في "صحاحه": جيحان نهر بالشام، فغلط، أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن، وهي مجاورة للشام، قال الحازميّ: سيحان نهر عند المصِّيصة، قال: وهو غير سيحون، وقال صاحب "نهاية الغريب": سيحان وجيحان نهران بالعواصم، عند الْمِصِّيصة، وطَرَسوس، واتفقوا كلهم على أن جيحون بالواو نهر وراء خُراسان، عند بَلْخ، واتفقوا على أنه غير جيحان،

(1)

"معجم البلدان" 4/ 241.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 465.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3561 - 3562.

ص: 635

وكذلك سيحون غير سيحان، وأما قول القاضي عياض: هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام، فالنيل بمصر، والفرات بالعراق، وسيحان وجيحان، ويقال: سيحون وجيحون ببلاد خُراسان، ففي كلامه إنكار من أوجه:

أحدها: قوله: الفرات بالعراق، وليس بالعراق، بل هو فاصل بين الشام والجزيرة.

والثاني: قوله: سيحان وجيحان، ويقال: سيحون وجيحون، فجعل الأسماء مترادفة، وليس كذلك، بل سيحان غير سيحون، وجيحان غير جيحون، باتفاق الناس، كما سبق.

الثالث: أنه ببلاد خُراسان، وأما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن، بقرب الشام، والله أعلم.

وأما كون هذه الأنهار من ماء الجنة ففيه تأويلان، ذكرهما القاضي عياض:

أحدهما: أن الإيمان عَمّ بلادها، أو الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة.

والثاني: وهو الأصح أنها على ظاهرها، وأن لها مادّة من الجنة، والجنة مخلوقة موجودة اليوم، عند أهل السُّنَّة، وقد ذكر مسلم في "كتاب الإيمان" في حديث الإسراء أن الفرات والنيل يخرجان من الجنة، وفي البخاريّ من أصل سدرة المنتهى. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

وهو تحقيقٌ حسنٌ، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7133](2839)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 260 و 289 و 440)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1163)، و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(1/ 55)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(43/ 272)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"شرح النوويّ على مسلم" 17/ 177.

ص: 636

(12) - (بَابُ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ، أفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أفئِدَةِ الطيْرِ"، وقوله: "خلق الله عز وجل آدم على صورته")

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7134]

(2840) - (حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ -يَعْنِى: ابْنَ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ، أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ) مولاهم البغداديّ، مشهور بكنيته، ولقبه قيصر، ثقةٌ ثبتٌ [9](207) وله ثلاث وسبعون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 36.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من إبراهيم، والباقيان بغداديّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، والابن عن أبيه، وفيه أبو سلمة أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أقوَامٌ، أفئِدَتُهُمْ مِثْلُ أفئِدَةِ الطَّيْرِ") قال القرطبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يقال: إنما شبَّهها بها لِضَعفها، ورقّتها، كما قال في أهل اليمن:"هم أَرَقّ قلوبًا، وأضعف أفئدة"، متّفقٌ عليه، ويَحْتَمِل أنه أراد بها أنها مثلها في الخوف، والهيبة، والطيرُ على

ص: 637

الجملة أكثر الحيوانات خوفًا وحذرًا، حتى قيل: أحذر من غراب، وقد غلب الخوف على كثير من السّلف حتى انصدعت قلوبهم، فماتوا. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قيل: مثلها في رقّتها، وضَعفها؛ كالحديث الآخر: أهل اليمن أرقّ قلوبًا، وأضعف أفئدة، وقيل: في الخوف، والهيبة، والطيرُ أكثر الحيوان خوفًا وفزعًا، كما قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف، كما جاء عن جماعات من السلف في شدّة خوفهم، وقيل: المراد: متوكلون، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: هؤلاء قومٌ رَقّت قلوبهم، فاشتدّ خوفهم من الآخرة، وزاد على المقدار، فشبَّههم بالطير التي تفزع من كل شيء، وتخافه. انتهى

(3)

.

وقال المناويّ رحمه الله: المعنى أن قلوبهم مثل أفئدة الطير في رقتها، ولِينها، كما في خبر أهل اليمن:"أرقّ أفئدة"؛ أي: أنها لا تحمل أشغال الدنيا، فلا يسعها الشيء وضده، كالدنيا والآخرة، أو في التوكل، كقلوب الطير:"تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا"

(4)

، أو في الهيبة والرهبة؛ لأن الطير أفزع شيء، وأشد الحيوان خوفًا، لا يطيق حبسًا، ولا يحتمل إشارةً، هكذا أفئدة هؤلاء مما حلّ بها من هيبة الحقّ، وخوف جلال الله، وسلطانه، لا تُطيق حبس شيء يبدو من آثار القدرة، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى شيئًا من آثارها؛ كغمام فَزِع، فإذا أمطرت سُرِّي عنه، وسَمع إبراهيم بن أدهم قائلًا يقول: كل ذنب مغفور سوى الإعراض عنا، فسقط مُغمًى عليه، وسُمّي علي بن الفضيل قَتيل القرآن، وعليه فمعنى "يدخل الجنة إلخ"؛ أي: الذين هم لله

(1)

"المفهم" 7/ 171.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 177.

(3)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 1022.

(4)

أشار به ما أخرجه الترمذي وابن ماجه، وصححه ابن حبّان من حديث عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا، وتروح بِطانًا".

ص: 638

خائفون، وله مُجِلُّون، ولِهَيْبته خاضعون، ومن عذابه مشفقون. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ بعدما ذكر نحو ما تقدّم: أقول: قد تقرّر في علم البيان أن وجه الشَّبَه إذا أُضمر عمّ تناوله، فيكون أبلغ مما لو صُرّح به، فينبغي أن يُحمل الحديث على المذكورات كلّها، ومن ثَمّ خصّ الفؤاد بالذكر دون القلب، قال الراغب: الفؤاد كالقلب، لكن يقال: له فؤاد إذا اعتُبر فيه معنى الفأد؛ أي: التوقّد، يقال: فَأَدْت اللحم، أي: شويته، ولحم فئيد: مشويّ، قال الله تعالى:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)} [النجم: 11]. انتهى كلامه

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: في هذا الإسناد انتقادان:

(أحدهما): ما قاله الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ بعد أن ساق سند مسلم المذكور رحمه الله ما نصّه: هكذا إسناد هذا الحديث عند أبي العلاء، وفي نسخة السجزيّ عن أبي أحمد مثله، ووقع في نسخة الرازيّ، والكسائيّ: إبراهيم بن سعد، نا أبي، عن الزهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، بزيادة رجل في السند، وهو الزهريّ، قال الغسانيّ: والصواب رواية ابن ماهان، ومن تابعه، وكذلك خرّجه أبو مسعود في الأطراف، من طريق مسلم، من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: ولا أعلم لسعد بن إبراهيم رواية عن الزهريّ، والله أعلم

(3)

.

(الثاني): أن الدارقطنيّ انتقد على مسلم في هذا الحديث، فقال في "كتاب العلل": لم يتابع أبو النضر على وصله عن أبي هريرة، قال: والمحفوظ عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي سلمة مرسلًا، كذا رواه يعقوب، وسعد بن إبراهيم بن سعد، قال: والمرسل الصواب. انتهى.

وقد تصدّى النوويّ للجواب عن هذا الاعتراض، كما هي عادته، فقال:

(1)

"فيض القدير" 6/ 460.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3559.

(3)

"تقييد المهمل" 3/ 926.

ص: 639

والصحيح أن هذا الذي ذكره لا يقدح في صحة الحديث، فقد سيق في أول هذا الكتاب أن الحديث إذا رُوي متصلًا ومرسلًا، كان محكومًا بوصله، على المذهب الصحيح؛ لأن مع الواصل زيادةَ علم، حَفِظها، ولم يحفظها من أرسله. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الجواب من النوويّ ليس على إطلاقه، كما أسلفته غير مرّة، فإن المحقّقين من النقّاد الحفّاظ لا يسلكون هذا المسلك دائمًا، وإنما يسلكون مسلك النظر في القرائن التي تحتفّ حول ذلك السند، فإن كانت القرائن تؤيّد الوصل، رجحوه، وإلا رجّحوا الإرسال، وما هنا كذلك، فإن أبا النضر، وإن كان ثقة، إلا أنه خالف جماعة، ولا سيّما آل الرجل، فإن ممن خالف يعقوب، وسعد ولدا إبراهيم، فروياه عنه عن أبيه، عن أبي سلمة مرسلًا، فحَمْل الوهم على الواحد أَولى من حمله على الجماعة.

لكن الإمام مسلمًا رحمه الله إمام حافظ ناقد بصير، ترجّح لديه الوصل على الإرسال؛ لأن الواصل، وهو أبو النضر ثقةٌ ثبتٌ، كما في "التقريب"، وقد أثنى عليه أحمد، وابن معين، وابن المدينيّ، وغيرهم، وثبّتوه، كما في "تهذيب التهذيب"، فترجّح بهذا لمسلم تقديم وصله على إرسال غيره، وهذا وجه وجيه لمن تأمله بالإنصاف، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7134](2840)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 331)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 302)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7135]

(2841) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ-صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ اللهُ عز وجل آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُجِيبُونَكَ

(1)

، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ، وَتَحِيَّةُ ذُرَّيتِكَ، قَالَ:

(1)

وفي نسخة: "ما يُحَيُّونك".

ص: 640

فَذَهَبَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ: فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ، قَالَ: فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمْ يَزَلِ الخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ، حَتَّى الآنَ").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل ثلاثة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ الصنعانيّ، أنه (قَالَ: هَذَا) الآتي من الأحاديث، فـ "هذا" مبتدأ خبره قوله:(مَا) اسم موصول؛ أي: الذي (حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، والمراد به: ما جُمع في تلك الصحيفة المشهورة (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) أبو هريرة (أَحَادِيثَ) كثيرة وقد تقدّم أنها (138) حديثًا، (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ اللهُ عز وجل آدَمَ) عليه السلام (عَلَى صُورَتِهِ) ظاهر سياق هذه الرواية أن الضمير لآدم، والمراد: أن الله تعالى خلقه في أول نشأته على صورته التي كان عليها في الأرض، وتوفي عليها، وهي طوله ستون ذراعًا، ولم ينتقل أطوارًا كذريته، وكانت صورته في الجنة هي صورته في الأرض لم تتغير

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا قال النوويّ، وسيأتي تصويب قول من قال: إن الضمير لله تعالى، وأن تفسيره به صحيح، وفيه إثبات الصورة لله تعالى على ما يليق بجلاله -إن شاء الله تعالى-.

وقال في "الفتح": هذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها، لم ينتقل في النشأة أحوالًا، ولا تردَّد في الأرحام أطواراً كذرّيته، بل خلقه الله رجلًا كاملًا سويًّا، من أول ما نَفَخ فيه الروح، ثم عقّب ذلك بقوله:"طوله ستون ذراعًا"، فعاد الضمير أيضًا على آدم. انتهى

(2)

.

("طُولُهُ)، أي: طول آدم عليه السلام (سِتُّونَ ذِرَاعًا) قال ابن التين: المراد

(1)

" شرح النوويّ" 17/ 178.

(2)

"الفتح" 7/ 610.

ص: 641

ذراعنا؛ لأن ذراع كل أحد مثل رُبعه، ولو كانت بذراعه، لكانت يده قصيرة في جنب طول جسمه؛ كالإصبع، والظفر، وقيل: يَحْتَمِل أن يكون بذراع نفسه، والأول أشهر، وقال القرطبيّ: إن الله تعالى يعيد أهل الجنة إلى خَلْقه أصلهم الذي هو آدم عليه السلام، وعلى صفته، وطوله الذي خَلَقه الله عليه في الجنة، وكان طوله فيها ستين ذراعًا في الارتفاع بذارع نفسه، قال: ويَحْتَمِل أن يكون هذا الذراع مقدرًا بأذرعتنا المتعارفة عندنا، وقيل: إنه كان يقارب أعلاه السماء، وأن الملائكة كانت تتأذى بنَفَسه، فخفضه الله إلى ستين ذراعًا، وظاهر الحديث خلافه. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ: اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ) قال في "الفتح": فيه إشعار بأنهم كانوا على بُعْد، واستُدِلّ به على إيجاب ابتداء السلام، لورود الأمر به، وهو بعيد، بل ضعيف؛ لأنها واقعة حال، لا عموم لها، وقد نَقَل ابنُ عبد البرّ الإجماع على أن الابتداء بالسلام سُنَّة، ولكن في كلام المازريّ ما يقتضي إثبات خلاف في ذلك، قال الحافظ: كذا زعم بعض من أدركناه، وقد راجعت كلام المازريّ، وليس فيه ذلك، فإنه قال: ابتداء السلام سُنَّة، وردّه واجب، هذا هو المشهور، عند أصحابنا، وهو من عبادات الكفاية، فأشار بقوله المشهور إلى الخلاف في وجوب الردّ، هل هو فرض عين، أو كفاية؟ وقد صرَّح بعد ذلك بخلاف أبي يوسف، كما سأذكره بعدُ، نعم وقع في كلام القاضي عبد الوهاب فيما نقله عنه عياض، قال: لا خلاف أن ابتداء السلام سُنَّة، أو فرض على الكفاية، فإن سلّم واحد من الجماعة أجزأ عنهم، قال عياض: معنى قوله: فَرْض على الكفاية مع نقل الإجماع على أنه سُنَّة: أن إقامة السنن وإحياءها فرض على الكفاية. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بوجوب الابتداء بالسلام هو الذي يدلّ عليه ظاهر حديث الباب، وأصرح منه ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حقُّ المسلم على المسلم ستّ"، قيل: ما هنّ يا رسول الله؟ قال: "إذا لقيته فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك

(1)

"عمدة القاري" 15/ 208.

(2)

"الفتح" 14/ 129 - 130.

ص: 642

فانصح له، وإذا عطس فحمد الله، فسمِّته، وإذا مَرِض فَعُده، وإذا مات فاتّبعه".

فقوله: "إذا لقيته فسلّم عليه" نصّ صريح في الأمر بالسلام عند اللقاء، والأمر للوجوب إلا لصارف، كما هو رأي الجمهور، فالحقّ أحقّ أن يُتّبع أينما نبع، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقوله: (النَّفَرِ) بالجرّ بدل من "أولئك"، وهو بفتحتين: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة، ولا يقال: نفرٌ فيما زاد على العشرة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ) قال الحافظ رحمه الله: لم أقف على تعيينهم، وقوله:(جُلُوسٌ) بالضمّ جمع جالس، خبر بعد خبر. (فَاسْتَمِعْ)، وفي رواية:"فاسمع"(مَا يُحَيُّونَكَ) هكذا في النسخة الهنديّة، من التحيّة، ووقع في معظم النُّسخ بلفظ:"ما يُجِيبُونك"، من الإجابة، قال في "الفتح": قوله: "ما يُحَيُّونك" كذا للأكثر بالمهملة، من التحية، وفي رواية أبي ذرّ بكسر الجيم، وسكون التحتانية، بعدها موحّدة من الجواب، وكذا هو في "الأدب المفرد"، انتهى

(2)

.

(فَإِنَّهَا)؛ أي: الكلمات التي يُحَيّون بها، أو يجيبون، (تَحِيَّتُكَ، وَتَحِيَّةُ ذُرَّيتِكَ)؛ أي: من جهة الشرع، أو المراد بالذرية: بعضهم، وهم المسلمون.

وقد أخرج البخاريّ في "الأدب المفرد" وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة، من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، مرفوعًا:"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدوكم على السلام والتأمين"، وهو يدل على أنه شرع لهذه الأمة دونهم.

وفى حديث أبي ذرّ الطويل في قصة إسلامه قال: "وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. . ." فذكر الحديث، وفيه:"فكنت أول من حياه بتحية الإسلام، فقال: وعليك ورحمة الله"، أخرجه مسلم.

وأخرج الطبرانيّ، والبيهقيّ في "الشعب" من حديث أبي أمامة، رفعه:"جعل الله السلام تحية لأمتنا، وأمانًا لأهل ذمتنا"، وعند أبي داود من حديث

(1)

"المصباح المنير" 2/ 617.

(2)

"الفتح" 14/ 130.

ص: 643

عمران بن حصين: "كنا نقول في الجاهلية: أنعم بك عينًا، وأنعم صباحًا، فلما جاء الإسلام نُهينا عن ذلك"، ورجاله ثقات، لكنه منقطع.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: "كانوا في الجاهلية يقولون: حييت مساء، حييت صباحًا، فغيّر الله ذلك بالسلام".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَذَهَبَ) آدم عليه السلام إلى أولئك الملائكة عليهم السلام (فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) قال ابن بطال: يَحْتَمِل أن يكون الله علّمه كيفية ذلك تنصيصًا، ويَحْتَمِل أن يكون فَهِم ذلك من قوله له:"فسلِّم".

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون ألهمه ذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر، عن أبي هريرة، رفعه:"إن آدم لمّا خلقه الله عطس، فألهمه الله أن قال: الحمد لله. . ." الحديث، فلعله ألهمه أيضًا صفة السلام.

واستُدلّ به على أن هذه الصيغة هي المشروعة لابتداء السلام؛ لقوله: "فهي تحيتك وتحية ذريتك"، وهذا فيما لو سَلّم على جماعة، فلو سلم على واحد فسيأتي حكمه، ولو حذف اللام، فقال: سلام عليكم أجزأ، قال الله تعالى:{. . . وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24] وقال تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى:{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79] إلى غير ذلك، لكن باللام أَولى؛ لأنها للتفخيم والتكثير، وثبت في حديث التشهد:"السلام عليك أيها النبي"، قال عياض: ويُكره أن يقول في الابتداء: عليك السلام، وقال النوويّ في "الأذكار": إذا قال المبتدئ: وعليكم السلام، لا يكون سلامًا ولا يستحقّ جوابًا؛ لأن هذه الصيغة لا تصلح للابتداء، قاله المتولّي. فلو قاله بغير واو، فهو سلام، قطع بذلك الواحديّ، وهو ظاهر، قال النوويّ: ويَحْتَمِل أن لا يُجزئ كما قيل به في التحلل من الصلاة، ويَحْتَمِل أن لا يُعَدَّ سلامًا، ولا يستحقّ جوابًا؛ لِمَا رويناه في سنن أبي داود، والترمذيّ، وصححه، وغيرهما بالأسانيد الصحيحة عن أبي جُريّ -بالجيم، والراء مصغرًا رضي الله عنه- الْهُجيميّ -بالجيم مصغرًا- قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: عليك السلام يا رسول الله، قال:"لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى"، قال: ويَحْتَمِل أن يكون وَرَدَ لبيان الأكمل، وقد قال الغزاليّ في "الإحياء":

ص: 644

يكره للمبتدئ أن يقول: عليكم السلام، قال النوويّ: والمختار لا يكره، ويجب الجواب؛ لأنه سلام، قال الحافظ: وقوله بالأسانيد الصحيحة يوهم أن له طُرُقًا إلى الصحابي المذكور، وليس كذلك، فإنه لم يروه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم غير أبي جُرَيّ، ومع ذلك فمداره عند جميع من أخرجه على أبي تميمة الْهُجيميّ راويه عن أبي جُرَيِّ، وقد أخرجه أحمد أيضًا، والنسائيّ، وصححه الحاكم، وقد اعتَرَض هو على ما دلّ عليه الحديث بما أخرجه مسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها، في خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى البقيع، الحديث، وفيه:"قلت: كيف أقول؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين"، وكذا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لمّا أتى البقيع:"السلام على أهل الديار من المؤمنين. . ." الحديث.

قال الخطابيّ: فيه أن السلام على الأموات والأحياء سواء، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية من قولهم [من الطويل]:

عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ

قال الحافظ: ليس هذا من شعر أهل الجاهلية، فإن قيس بن عاصم صحابيّ مشهور، عاش بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، والْمَرْثية المذكورة لمسلم معروف، قالها لمّا مات قيس.

ومثله ما أخرج ابن سعد وغيره أن الجنّ رَثَوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبيات منها [من الطويل]:

عَلَيْكَ السَّلَامُ مِنْ أَمِيرٍ وَبَارَكَتْ

يَدُ اللهِ فِي ذَاكَ الأَدِيمِ الْمُمَزَّقِ

وقال ابن العربيّ في السلام على أهل البقيع: لا يعارض النهي في حديث أبي جُرَيّ؛ لاحتمال أن يكون الله أحياهم لنبيه صلى الله عليه وسلم، فسلَّم عليهم سلام الأحياء، كذا قال، ويردّه حديث عائشة رضي الله عنها المذكور، قال: ويَحْتَمِل أن يكون النهي مخصوصًا بمن يرى أنها تحية الموتى، وبمن يتطير بها من الأحياء، فإنها كانت عادة أهل الجاهلية، وجاء الإسلام بخلاف ذلك.

قال عياض: وتبعه ابن القيّم في "الهدي"، فنَقّح كلامه، فقال: كان من هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقول في الابتداء: السلام عليكم، ويكره أن يقول: عليكم السلام، فذكر حديث أبي جُريّ، وصححه، ثم قال: أشكل هذا على طائفة،

ص: 645

وظنوه معارضًا لحديث عائشة وأبي هريرة، وليس كذلك، وإنما معنى قوله:"عليك السلام تحية الموتى" إخبار عن الواقع، لا عن الشرع؛ أي: أن الشعراء ونحوهم يُحيّون الموتى به، واستشهد بالبيت المتقدم، وفيه ما فيه، قال: فكره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُحَيَّى بتحية الأموات.

وقال عياض أيضًا: كانت عادة العرب في تحية الموتى تأخير الاسم؛ كقولهم: عليه لعنة الله وغضبه، عند الذمّ، وكقوله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)} [الحجر: 35].

وتُعُقِّب بأن النصّ في الملاعنة وَرَدَ بتقديم اللعنة والغضب على الاسم.

وقال القرطبيّ: يَحْتَمِل أن يكون حديث عائشة لمن زار المقبرة، فسلَّم على جميع من بها، وحديث أبي جُريّ إثباتًا ونفيًا في السلام على الشخص الواحد.

ونقل ابن دقيق العيد عن بعض الشافعية أن المبتدئ لو قال: عليكم السلام لم يَجُز؛ لأنها صيغة جواب، قال: والأَولى الإجزاء؛ لحصول مسمى السلام، ولأنهم قالوا: إن المصلي ينوي بإحدى التسليمتين الردّ على من حضر، وهي بصيغة الابتداء، ثم حكى عن أبي الوليد ابن رُشد أنه يجوز الابتداء بلفظ الردّ وعكسه. انتهى

(1)

.

(فَقَالُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ) كذا للأكثر هنا وعند البخاريّ، وأحمد، ووقع هنا للكشميهني عند البخاريّ:"فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله"، وعليها شَرَح الخطابيّ، واستدل برواية الأكثر لمن يقول: يجزئ في الردّ أن يقع باللفظ الذي يبتدأ به، كما تقدم، قيل: ويكفي أيضًا الرد بلفظ الإفراد. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللهِ) فيه مشروعية الزيادة في الردّ على الابتداء، وهو مستحبّ بالاتفاق؛ لوقوع التحية في ذلك في قوله تعالى:{فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فلو زاد المبتدئ: "ورحمة الله" استُحِبّ أن يزاد: "وبركاته"، فلو زاد:"وبركاته"، فهل تشرع الزيادة في الردّ؟ وكذا لو زاد المبتدئ على "وبركاته"، هل يشرع له ذلك؟ أخرج مالك في "الموطأ" عن ابن عباس قال: انتهى السلام إلى البركة.

(1)

"الفتح" 14/ 131 - 132.

ص: 646

وأخرج البيهقيّ في "الشُّعَب" من طريق عبد الله بن أبيه، قال:"جاء رجل إلى ابن عمر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: حسبك إلى وبركاته. "انتهى إلى وبركاته"، ومن طريق زَهْرة بن مَعْبد قال: قال عمر: "انتهى السلام إلى وبركاته"، ورجاله ثقات.

وجاء عن ابن عمر الجواز، فأخرج مالك أيضًا في "الموطأ" عنه أنه زاد في الجواب:"والغاديات، والرائحات".

وأخرج البخاري في "الأدب المفرد" من طريق عمرو بن شعيب، عن سالم مولى ابن عمر قال:"كان ابن عمر يزيد إذا ردَّ السلام، فأتيته مرّة، فقلت: السلام عليكم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، ثم أتيته، فزدت: وبركاته، فردّ، وزاد: وطيّب صلواته"، ومن طريق زيد بن ثابت أنه كتب إلى معاوية:"السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ومغفرته وطيب صلواته".

ونقل ابن دقيق العيد عن أبي الوليد ابن رُشد أنه يؤخذ من قوله تعالى: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] الجواز في الزيادة على البركة إذا انتهى إليها المبتدئ.

وأخرج أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ بسند قويّ عن عمران بن حصين قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم، فردَّ عليه، وقال:"عشر"، ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه، وقال:"عشرون"، ثم جاء آخر، فزاد وبركاته، فردّ، وقال:"ثلاثون"، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" من حديث أبي هريرة، وصححه ابن حبان، وقال:"ثلاثون حسنة"، وكذا فيما قبلها صرّح بالمعدود، وعند أبي نعيم في "عمل يوم وليلة" من حديث عليّ أنه هو الذي وقع له مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك.

وأخرج الطبرانيّ من حديث سهل بن حُنيف بسند ضعيف، رفعه:"من قال: السلام عليكم كُتب له عشر حسنات، ومن زاد: ورحمة الله، كُتبت له عشرون حسنة، ومن زاد: وبركاته، كُتبت له ثلاثون حسنة".

وأخرج أبو داود من حديث سهل بن معاذ بن أنس الْجُهنيّ عن أبيه،

ص: 647

بسند ضعيف، نحو حديث عمران، وزاد في آخره:"ثم جاء آخر، فزاد: ومغفرته، فقال: أربعون، وقال: هكذا تكون الفضائل".

وأخرج ابن السنيّ في كتابه بسند واهٍ من حديث أنس، قال:"كان رجل يمرّ، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، فيقول له: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه".

وأخرج البيهقيّ في "الشعب" بسند ضعيف أيضًا من حديث زيد بن أرقم: "كنا إذا سلّم علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم قلنا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته"، وهذه الأحاديث الضعيفة إذا انضمت قَوِيَ ما اجتمعت عليه من مشروعية الزيادة على:"وبركاته".

واتفق العلماء على أن الردّ واجب على الكفاية، وجاء عن أبي يوسف أنه قال: يجب الرد على كل فرد فرد، واحتج له بحديث الباب؛ لأن فيه:"فقالوا: السلام عليك"، وتُعقِّب بجواز أن يكون نُسب إليهم، والمتكلم به بعضهم.

واحتَجّ له أيضًا بالاتفاق على أن من سَلّم على جماعة، فردّ عليه واحد من غيرهم، لا يجزئ عنهم.

وتُعُقب بظهور الفرق.

واحتُجّ للجمهور بحديث عليّ رضي الله عنه رفعه: "يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الْجُلوس أن يردّ أحدهم"، أخرجه أبو داود، والبزار، وفي سنده ضعف، لكن له شاهد من حديث الحسن بن عليّ عند الطبرانيّ وفي سنده مقال، وآخر مرسل في "الموطأ" عن زيد بن أسلم.

واحتَجَّ ابن بطال بالاتفاق على أن المبتدئ لا يُشترط في حقه تكرير السلام بعدد من يسلّم عليهم، كما في حديث الباب، من سلام آدم عليه السلام، وفي غيره من الأحاديث، قال: فكذلك لا يجب الردّ على كل فَرْد فَرْد إذا سَلّم الواحد عليهم.

واحتَجّ الماوردي بصحة الصلاة الواحدة على العدد من الجنائز.

وقال الحليميّ: إنما كان الرد واجبًا؛ لأن السلام معناه: الأمان، فإذا ابتدأ به المسلم أخاه، فلم يجبه، فإنه يُتوهم منه الشرّ، فيجب عليه دفع ذلك التوهم عنه. انتهى كلامه.

ص: 648

قال الحافظ: ويؤخذ من كلامه موافقة القاضي حسين حيث قال: لا يجب ردّ السلام على من سَلّم عند قيامه من المجلس، إذا كان سلّم حين دخل، ووافقه المتولي، وخالفه المستظهريّ، فقال: السلام سُنَّة عند الانصراف، فيكون الجواب واجبًا، قال النوويّ: هذا هو الصواب، كذا قال

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ)؛ أي: على صفته، وهذا يدلّ على أن صفات النقص من سواد وغيره تنتفي عند دخول الجنة. (وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا) وإثبات الواو فيه؛ لئلا يُتوهم أن قوله:"طوله" تفسير لقوله: "على صورة آدم"، وعلى هذا فقوله:"وطوله إلخ" من الخاصّ بعد العامّ، ووقع عند أحمد من طريق سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"كان طول آدم ستين ذراعًا في سبعة أذرع عرضًا"، وأما ما رَوَى عبد الرزاق من وجه آخر مرفوعًا:"إن آدم لمّا أُهبط كانت رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، فحطه الله إلى ستين ذراعًا" فظاهره أنه كان مفرط الطول في ابتداء خَلْقه، وظاهر الحديث الصحيح أنه خُلق في ابتداء الأمر على طول ستين ذراعًا، وهو المعتمَد.

ورَوى ابن أبي حاتم بإسناد حسن، عن أُبي بن كعب، مرفوعًا:"إن الله خلق آدم رجلًا طوالًا، كثير شعر الرأس، كأنه نخلة سحوق".

(فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ، حَتَّى الآنَ")؛ أي: أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله، فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة، واستقرّ الأمر على ذلك.

وقال ابن التين: قوله: "فلم يزل الخلق ينقص"؛ أي: كما يزيد الشخص شيئًا فشيئًا، ولا يتبيّن ذلك فيما بين الساعتين، ولا اليومين، حتى إذا كثرت الأيام تبيّن، فكذلك هذا الحكم في النقص.

قال الحافظ رحمه الله: ويُشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة، كديار ثمود، فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول

(1)

"الفتح" 14/ 134 - 135.

ص: 649

على حَسَب ما يقتضيه الترتيب السابق، ولا شك أن عهدهم قديم، وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة، قال: ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الإشكال. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) ههنا [12/ 7135](2841)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3326) و"الاستئذان"(6227) وفي "الأدب المفرد"(1/ 339)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(59)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(10/ 384)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 315)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 40 - 41)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6162)، و (اللالكائىّ) في "أصول الاعتقاد"(711)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 289 - 290)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3298)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(7/ 391)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها). ما قاله المهلَّب رحمه الله في هذا الحديث: أن الملائكة يتكلمون بالعربية، ويتحيّون بتحية الإسلام.

وتعقّبه الحافظ، فقال: في الأول نظر؛ لاحتمال أن يكون في الأزل بغير اللسان العربيّ، ثم لمّا حُكي للعرب تُرجم بلسانهم، ومن المعلوم أن من ذُكرت قصصهم في القرآن من غير العرب، نُقل كلامهم بالعربيّ، فلم يتعين أنهم تكلموا بما نُقل عنهم بالعربيّ، بل الظاهر أن كلامهم تُرجم بالعربيّ. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله المهلّب هو ظاهر ما دلّ عليه الحديث، فما دام ممكنًا، فالأَولى حَمْله عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 610 - 611، "كتاب أحاديث الأنبياء" رقم (3326).

(2)

"الفتح" 11/ 7.

ص: 650

2 -

(ومنها) أن فيه الأمرَ بتعلم العلم من أهله، والأخذ بنزول مع إمكان العلوّ، والاكتفاء في الخبر مع إمكان القطع بما دونه.

3 -

(ومنها): أن المدة التي بين آدم والبعثة المحمدية فوق ما نُقل عن الإخباريين، من أهل الكتاب وغيرهم بكثير، قاله في "الفتح"

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه أن الوارد على قوم جُلُوس يسلم عليهم، وأن الأفضل أن يقول: السلام عليكم، بالألف واللام، ولو قال: سلام عليكم كفاه، وأن ردّ السلام يُستحبّ أن يكون زيادةً على الابتداء، وأنه يجوز في الردّ أن يقول: السلام عليكم، ولا يشترط أن يقول: وعليكم السلام. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): في بيان اختلاف العلماء في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: "على صورته":

قال الإمام ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه" بعد أن أخرج الحديث ما نصّه: هذا الخبر تعلّق به من لم يُحكم صناعة العلم، وأخذ يشنّع على أهل الحديث الذين ينتحلون السنن، ويذبّون عنها، ويقمعون من خالفها، بأن قال: ليست تخلو هذه الهاء من أن تُنسب إلى الله، أو إلى آدم، فإن نسبت إلى الله كان ذلك كفرًا؛ إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وإن نُسبت إلى آدم تعرى الخبر عن الفائدة؛ لأنه لا شك أن كل شيء خُلق على صورته، لا على صورة غيره، ولو تملّق قائل هذا إلى بارئه في الخلوة، وسأله التوفيق لإصابة الحقّ، والهداية للطريق المستقيم في لزوم سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم لكان أَولى به من القدح في منتحلي السنن، بما يجهل معناه، وليس جهل الإنسان بالشيء دالًّا على نفي الحق عنه؛ لجهله به، ونحن نقول: إن أخبار المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا صحّت من جهة النقل لا تتضادّ، ولا تتهاتر، ولا تنسخ القرآن، بل لكل خبر معنى معلوم يُعلم، وفصل صحيح يُعقل، يعقله العالمون، فمعنى الخبر عندنا بقوله صلى الله عليه وسلم:"خلق الله آدم على صورته" إبانة فضل آدم على سائر الخلق، والهاء راجعة إلى آدم، والفائدة من رجوع الهاء إلى آدم دون إضافتها إلى البارئ جل وعلا، جلّ ربنا

(1)

"الفتح" 14/ 135.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 178.

ص: 651

وتعالى عن أن يشبه بشيء من المخلوقين، أنه جل وعلا جعل سبب الخلق الذي هو المتحرك النامي بذاته اجتماع الذكر والأنثى، ثم زوال الماء عن قرار الذكر إلى رحم الأنثى، ثم تغير ذلك إلى العَلَقة بعد مدّة، ثم إلى المضغة، ثم إلى الصورة، ثم إلى الوقت الممدود فيه، ثم الخروج من قراره، ثم الرضاع، ثم الفطام، ثم المراتب الأُخَر على حَسَب ما ذكرنا إلى حلول المنية به، هذا وصف المتحرك النامي بذاته من خلقه، وخَلَق الله جل وعلا آدم على صورته التي خلقه عليها، وطوله ستون ذراعًا، من غير أن تكون تقدَّمه اجتماع الذكر والأنثى، أو زوال الماء، أو قراره، أو تغيير الماء عَلَقة، أو مضغة، أو تجسيمه بعده، فأبان الله بهذا فضله على سائر من ذكرنا من خَلْقه، بأنه لم يكن نطفة، فعلقة، ولا علقة فمضغة، ولا مضغة فرضيعًا، ولا رضيعًا ففطيمًا، ولا فطيمًا فشابًّا، كما كانت هذه حالة غيره، ضدّ قول من زعم أن أصحاب الحديث حشوية، يروون ما لا يعقلون، ويحتجون بما لا يدرون. انتهى كلام ابن حبّان رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة قول ابن حبّان رحمه الله أنه يرى أن ضمير "صورته" راجع إلى آدم عليه السلام، وهذا ليس معنى بعيدًا، ولكن لا يلزم منه نفي الصورة عن الله عز وجل، كما سيأتي تحقيق ذلك، فتنبّه.

وقال في "العمدة": قوله: "على صورته"؛ أي: على صورة آدم؛ لأنه أقرب؛ أي: خَلَقه في أول الأمر بشرًا سويًّا كامل الخلقة، طويلًا ستين ذراعًا كما هو المشاهد، بخلاف غيره، فإنه يكون أولًا نطفة، ثم عَلَقَة، ثم مُضغة، ثم جنينًا، ثم طفلًا، ثم رَجُلًا حتى يتم طوله، فله أطوار، وقال ابن بطال: أفاد صلى الله عليه وسلم بذلك إبطال قول الدهرية: إنه لم يكن قط إنسان إلا من نطفة، ولا نطفة إلا من إنسان، وقول القدرية: إن صفات آدم على نوعين: ما خلقها الله تعالى، وما خلقها آدم بنفسه، قال: وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ برجل يضرب عبده في وجهه لَطْمًا، فزجره عن ذلك، وقال:"خلق الله آدم على صورته"، فالهاء كناية عن المضروب وجهه، قال: وقد يقال: هو عائد إلى الله تعالى، لكن الصورة

(1)

"صحيح ابن حبان" 14/ 34 - 35.

ص: 652

هي الهيئة، وذلك لا يصحّ إلا على الأجسام، فمعنى الصورة: الصفةُ، كما يقال: عَرِّفني صورة هذا الأمر؛ أي: صفته؛ يعني: خلق آدم على صفته؛ أي: حيًّا، عالِمًا، سميعًا، بصيرًا، متكلِّمًا، أو هو إضافة تشريفية، نحو بيت الله، وروح الله؛ لأنه ابتدأها لا على مثال سابق، بل بمحض الاختراع، فشرّفها بالإضافة إليه سبحانه وتعالى. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": اختُلِف إلى ماذا يعود الضمير؟ فقيل: إلى آدم؛ أي: خلقه على صورته التي استمرّ عليها إلى أن أُهبط، وإلى أن مات دفعًا لتوهّم من يظن أنه لمّا كان في الجنة كان على صفة أخرى، أو ابتدأ خَلْقه كما وُجد، لم ينتقل في النشأة، كما ينتقل ولده من حالة إلى حالة، وقيل: للردّ على الدهرية: إنه لم يكن إنسان إلا من نطفة، ولا تكون نطفة إنسان إلا من إنسان، ولا أول لذلك، فبَيَّن أنه خُلق من أول الأمر على هذه الصورة، وقيل: للردّ على الطبائعيين الزاعمين أن الإنسان قد يكون من فِعل الطبع، وتأثيره، وقيل: للرد على القدرية الزاعمين أن الإنسان يخلق فِعل نفسه، وقيل: إن لهذا الحديث سببًا حُذف من هذه الرواية، وإن أوله قصة الذي ضَرب عبده، فنهاه النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال له: إن الله خلق آدم على صورته، وقيل: الضمير لله، وتمسَّك قائل ذلك بما ورد في بعض طرقه:"على صورة الرحمن"، والمراد بالصورة: الصفة، والمعنى: أن الله خلقه على صفته، من العلم، والحياة، والسمع، والبصر، وغير ذلك، وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم تحقيق القول في هذه المسألة في "باب النهي عن ضرب الوجه" برقم [32/ 6628](2612)، ورجّحت إثبات صفة الصورة لله عز وجل على ما يليق بجلاله، واستوفيت البحث فيه، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

ثم رأيت كلامًا حسنًا للشيخ البرّاك كتبه عند قول المازريّ: غلط ابن قُتيبة، فأجرى هذا الحديث على ظاهره، وقال: صورة لا كالصُّوَر. انتهى.

(1)

"عمدة القاري" 22/ 229.

(2)

"الفتح" 14/ 129، "كتاب الاستئذان" رقم (6227).

ص: 653

فقال: قوله: "غلط ابن قتيبة. . . إلخ" ابن قتيبة يُعرف بخطيب أهل السُّنَّة، وله جهود في الردّ على الزنادقة والمعتزلة، كما في "تأويل مختلف الحديث" به، وما ذهب إليه ابن قتيبة رحمه الله من إثبات الصورة لله عز وجل، وأنها ليست كصورة أحد من الخلق هو مذهب جميع أهل السُّنَّة المثبتين لكل ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فكما يقولون: له وجه لا كوجوه المخلوقين، يقولون: له صورة لا كصور المخلوقين، وقد دلّ على إثبات الصورة لله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل:"وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونه بها"، وهو نصّ صريح، لا يَحْتَمِل، فلهذا لم يخالف أحد من أهل السُّنَّة في دلالته.

وأما حديث: "فإن الله خلق آدم على صورته" فقد استدلّ به أكثر أهل السُّنَّة على إثبات الصورة أيضًا، وردّوا الضمير إلى الله تعالى، وأيّدوا ذلك برواية من رواه بلفظ:"على صورة الرحمن"، ومن ردّ الضمير إلى آدم عليه السلام، أو المقَاتَل، وقَصْده نفي الصورة عن الله عز وجل فهو جهميّ، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، ونفي الصورة هو مذهب الجهميّة، والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشاعرة، والماتريديّة، ومنشأ ذلك هو توهّم التشبيه في صفات الله تعالى، فزعموا أن إثبات الصورة، أو الوجه، أو اليدين، ونحو ذلك يستلزم التشبيه بالمخلوقات، وهي حجة داحضة، وطردها يسلتزم نفي وجود الله سبحانه وتعالى.

ومن ردّ من أهل السُّنَّة الضمير إلى آدم عليه السلام، وضعّف رواية:"على صورة الرحمن"، فليس مقصوده التوصل إلى نفي الصورة عن الله عز وجل، وليس من مذهبه ذلك، بل رأى لفظ هذا الحديث:"خلق الله آدم على صورته" مُحْتَمِلًا، فترجّح عنده عود الضمير إلى آدم، أو إلى الْمُقاتَلِ، وهو منازَعٌ في تضعيفه لتلك الرواية، وفي هذا الترجيح.

وبهذا يتبيّن أن إثبات الصورة لله عز وجل لا يتوقّف على دلالة حديث: "خلق الله آدم على صورته"، ونقول: بل غَلِط المازريّ عفا الله عنه، ولم يَغْلَط ابن قتيبة رحمه الله. انتهى كلام البرّاك حفظه الله تعالى

(1)

.

(1)

راجع ما كتبه الشيخ البرّاك على هامش "الفتح" 6/ 392، "كتاب العتق" رقم (2559).

ص: 654

قال الجامع عفا الله عنه: ما كتبه البرّاك حفظه الله كلام نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ، ويستفاد منه ترجيح عود الضمير إلى الله تعالى، وأن من أعاده على آدم عليه السلام قسمان: قسم لا يرون إثبات الصورة لله عز وجل، وهذا مذهب باطل، وقسم يرون إثباتها له، ولكن حديث الباب ليس عندهم واضحًا في ذلك، بل ترجّح لديهم عود الضمير إلى آدم، مع إثباتهم الصورة لله تعالى بأدلّة أخرى، وهذا لا بأس به، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابٌ فِي ذِكْرِ جَهَنَّمَ، وَشِدَّةَ عَذَابِهَا، وَبُعْدِ قَعْرِهَا، وَمَا تَأْخُذُهُ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ -أَعَاذَنَا اللهُ تَعَالى مِنْهَا

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7136]

(2842) - (حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ خَالِدٍ الْكَاهِلِيِّ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ، لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَجُرُّونَهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ) النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ رُبّما وَهِم [10](ت 222)(خ م د س) تقدم في "الطهارة" 32/ 675.

2 -

(أَبُوهُ) حفص بن غِيَاث -بمعجمة مكسورة، وياء، ومثلثة- ابن طَلْق -بفتح الطاء، وسكون اللام- ابن معاوية النخعيّ، أبو عمر الكوفيّ القاضي، ثقةٌ فقيهٌ تغيَّر حفظه قليلًا في الآخر [8](ت 4 أو 195) وقد قارب الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 136.

3 -

(الْعَلَاءُ بْنُ خَالِدٍ الْكَاهِلِيُّ) العلاء بن خالد الأسديّ الكاهليّ الكوفيّ، صدوق [6]. رَوَى عن أبي وائل، وروى عنه الثوريّ، وحفص بن غياث، ومروان بن معاوية، وأبو خالد الأحمر.

ص: 655

قال ابن أبي خيثمة عن ابن معين: كوفيّ ليس به بأس، وقال ابن المدينيّ عن يحيى القطان: تركته على عمد، ثم كتبت عن سفيان عنه، وقال الآجريّ عن أبي داود: ما عندي من عِلْمه سوى أرجو أن يكون ثقةٌ.

تفرّد به المصنّف، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(شَقِيقُ) بن سلمة أبو وائل الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(عَبْدُ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين من أوله إلى آخره، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه ابن مسعود رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وأفاضلهم، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُؤْتَى) بالبناء للمفعول، ونائب الفاعل قوله:(بِجَهَنَّمَ) والباء للتعدية؛ أي: يؤتى بها من المكان الذي خلقها الله تعالى فيه، ويدل عليه قوله تعالى فيه:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23].

قال النوويّ: جهنم اسم لنار الآخرة، قال يونس، وأكثر النحويين: هي عجمية، لا تنصرف للعُجمة والتعريف، وقال آخرون: هي عربية لم تُصرف للتأنيث والعلمية، وسُمّيت بذلك؛ لِبُعد قعرها، قال روبة: يقال: بئر جِهِنّام؛ أي: بعيدة القعر.

وقيل: مشتقة من الجهومة، وهي الغِلَظ، يقال: جهنم الوجه؛ أي: غليظه، فسمِّيت جهنم؛ لِغِلَظ أمرها. انتهى

(1)

.

(يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم القيامة، وقت الندامة، والحسرة، والملامة، (لَهَا سَبْعُونَ ألفَ زِمَامٍ) بكسر الزاي، وهو ما يُشدّ به، وقال في "المجمع": الزمام ما يُجعل في أنف البعير دقيقًا، وقيل: ما يُشد به رؤوسها من حبل، وسَيْر. انتهى.

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 248.

ص: 656

(مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، يَجُرُّونَهَا")؛ أي: يسحبونها؛ أي: إلى أن تُدار بأرض لا تبقى للجنة طريق إلا الصراط على ظهرها، وفائدة هذه الأزِمّة التي تُجرّ بها بَعد الإشارة إلى عظمتها: مَنْعها من الخروج على المحشر إلا من شاء الله منهم، قاله القاري

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يؤتى بجهنم إلخ" قد تقدَّم: أن جهنم اسم عَلَم لنار الآخرة، وكذلك: سقر، ولها أسماء كثيرة -أعاذنا الله منها-؛ يعني: أنها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله فيه، فتُدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والزمام: ما يُزمّ به الشيء؛ أي: يُشدّ، ويُربط، وهذه الأزمّة التي تساق جهنّم بها أيضًا تمنع من خروجها على أهل المحشر، فلا يخرج منها إلا الأعناق التي أُمرت بأخذ من شاء الله أخذه، وملائكتها -كما وصفهم الله تعالى-:{عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وأما هذا العدد المحصور للملائكة فكأنه عدد رؤسائهم، وأما جملتهم، فالعبارة عنها ما قال الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسالة الأولى): حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: اعترض الدارقطنيّ رحمه الله على مسلم في هذا الإسناد، ودونك نصّه في "العلل":

(732)

- وسئل عن حديث شقيق، عن عبد الله، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يؤتى بجهنم يوم القيامة، لها سبعون ألف زمام. . ." الحديث، فقال: يرويه العلاء بن خالد، عن أبي وائل، واختُلف عنه، فرفعه عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن العلاء، ووقفه غيره، والموقوف أصحّ عندي، وإن كان مسلم قد أخرج

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 337.

(2)

"المفهم" 7/ 186 - 187.

ص: 657

حديث عمر بن حفص في "الصحيح". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: رَفْعه وَهَم، رواه الثوريّ، ومروان، وغيرهما عن العلاء بن خالد موقوفًا.

قال النوويّ: حفص ثقةٌ حافظٌ إمامٌ، فزيادته الرفع مقبولةٌ، كما سبق نقله عن الأكثرين والمحققين. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى قوّة ما قاله الدارقطنيّ، إلا مسلمًا إمام ناقد بصير، له اجتهاده، وله ترجيحه، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7136](2842)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنم"(2573)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 48 و 54)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 162)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(10/ 192)، و (تمام الرازيّ) في "فوائده"(2/ 150)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7137]

(2843) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيَّ- عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ"، قَالُوا: والله إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قريبًا، فلا حاجة إلى إعادته، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَارُكُمْ هَذهِ الَّتِي يُوقِدُ) بحذف

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 5/ 86.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 178 - 179.

ص: 658

العائد؛ أي: يوقدها (ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ")، وفي رواية لأحمد:"من مائة جزء"، ويُجمع بأن المراد: المبالغة في الكثرة، لا العدد الخاصّ، أو الحكم للزائد، وزاد الترمذيّ: من حديث أبي سعيد: "لكل جزء منها حرّها"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله يعني: أنه لو جُمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم لكانت جزءًا من أجزاء جهنم المذكورة، وبيانه أنه لو جُمع حطب الدنيا، فَوُقِد كله حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءًا أشدّ من حر نار الدنيا، كما بيّنه في آخر الحديث. انتهى

(2)

.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث (والله إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ،)"إن" مخفّفة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

وَرُبَّما اسْتُغْنِيَ عَنْهَا إِنْ بَدَا

مَا نَاطِقٌ أَرَادَهُ مُعْتَمِدَا

وَالْفِعْلُ إِنْ لَمْ يَكُ نَاسِخًا فَلَا

تُلْفِهِ غَالِبًا بِـ "إِنْ" ذِي مُوصَلَا

والمعنى: أن هذه النار لكافية في إحراق الكفّار، وعقوبة الفجّار، فهلّا اكتُفي بها، ولأيّ شيء زيد في حرّها؟

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن كانت لكافيةً"، "إن" في مثل هذا الموضع مخفَّفة من الثقيلة، عند البصريين، وهذه اللام هي المفرِّقة بين "إن" النافية، والمخففة من الثقيلة، وهي عند الكوفيين بمعنى "ما"، واللام بمعنى "إلا"، تقديره عندهم: ما كانت إلا كافية، وعند البصريين: إنها كانت كافيةً، فأجابهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنها كما فُضّلت عليها في المقدار والعدد بتسعة وستين جزءًا، فُضلت عليها في شدّة الحر بتسعة وتسعين ضعفًا. انتهى

(4)

.

(1)

"الفتح" 7/ 558 - 559.

(2)

"المفهم" 7/ 187.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3585.

(4)

"المفهم" 7/ 187.

ص: 659

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَإِنَّهَا)؛ أي: نار جهنّم، (فُضِّلَتْ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْهَا)؛ أي: على نار الدنيا، ووقع في رواية البخاريّ بلفظ:"فُضّلت عليهنّ"؛ أي: على نيران الدنيا.

قال الطيبيّ رحمه الله: فإن قلت: كيف طابق قوله: "فُضّلت عليها" جوابًا، وقد عُلم من قوله:"جزء من سبعين جزءًا" هذا التفضيل؟.

قلت: معناه: المنع من الكفاية، أي: لا بُدّ من التفضيل؛ لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق، ولذلك أوثر النار على سائر أصناف العذاب زيادة في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مردة خلق الله من الجنّ والإنس. انتهى

(1)

.

(بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا)؛ أي: كلّ هذه التسعة والستين (مِثْلُ حَرِّهَا") زاد أحمد، وابن حبان من وجه آخر، عن أبي هريرة:"وضُربت بالبحر مرتين، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد"، ونحوه للحاكم، وابن ماجه عن أنس، وزادا:"فإنها لتدعو الله أن لا يعيدها فيها"، وفي "الجامع " لابن عيينة، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"هذه النار ضُربت بماء البحر سبع مرات، ولولا ذلك ما انتفع بها أحد"، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7137 و 7138](2843)، و (البخاريّ) في "بدء الخلق"(3265)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2589)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 994)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 76)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20897)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 417)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 308)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 340)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 250)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(236)، و (ابن حبّان) في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3586.

ص: 660

"صحيحه"(7462 و 7463)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 155) و"الكبير"(9/ 217 و 10/ 221)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(497 و 501)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4397)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7138]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "كُلَّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه، فتنبّه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لمعمر بن راشد.

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2589)

- حدّثنا سُويد، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ناركم هذه التي توقدون، جزء واحد من سبعين جزءًا من حرّ جهنم"، قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله، قال:"فإنها فُضِّلت بتسعة وستين جزءًا كلهنّ مثل حرّها"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهمام بن منبه هو أخو وهب بن منبه، وقد روى عنه وهب. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7139]

(2844) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أيُّوبَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيِ هُرَيْرَةَ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ "، قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الآنَ حَتَّى

(2)

انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا").

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 709.

(2)

وفي نسخة: "حين انتهى".

ص: 661

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريَ، أبو زكرياء البغداديّ العابد ثقةٌ [10](ت 234) وله سبع وسبعون سنةً (عخ م د عس) تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ) بن صاعد الأشجعيّ مولاهم، أبو أحمد الكوفيّ، نزل واسط، ثم بغداد صدوق اختَلَط في الآخر، وادَّعَى أنه رأي عمرو بن حريث الصحابيّ، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة، وأحمد [8](ت 181) الصحيح (يخ م 4) تقدم في "الطهارة" 13/ 592.

3 -

(يَزِيدُ بْنُ کَيْسَانَ) اليشكريّ، أبو إسماعيل، أو أبو مُنَين - بنونين مصغرًا - الكوفيّ، صدوق يخطيء [6](يخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

4 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقة [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

و (أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكِرَ قبله.

[تنبيه]: من الطائف هذا الإسناد أنه من خماسيات المصنف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين غير شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روي (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ)"إذا" هنا فجائيَّة؛ أي: ففاجأنا سماع رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَجْبَةً) بفتح الواو، وإسكان الجيم؛ أي: سقطة، وهدّة، وهي صوت وقع الشيء الثقيل

(1)

، وقال في "المشارق": هي صوت الوقعة، والْهَدَّة، وقيل: معناه سقوطها من قوله: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]، وقوله: "إِذا وجبت الشمس؛ أي: إذا غابت، وسقطت في المغرب. انتهي

(2)

.

(1)

"شرح النووي" 17/ 179، و "المفهم" 7/ 187.

(2)

"مشارق الأنوار" 2/ 280.

ص: 662

(فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَدْرُونَ) بتقدير أداة الاستفهام؛ أي: أتدرون، وتعلمون (مَا هَذَا؟ ")؛ أيُّ شيء هذا الذي سمعتم وَجْبَته؟.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أتدرون ما هذا؟ " دليل على أنهم حين سمعوا الوجبة خَرَق الله لهم العادة، فسمعوا ما مُنعه غيرهم، وإلا فالعادة تقتضي مشاركة غيرهم في سماع هذا الأمر العظيم، ففيه دليل على أن النار قد خُلقت، وأُعدّ فيها ما شاء الله مما يعذِّب به من يشاء، وهو مذهب أهل السُّنَّة، خلافًا للمبتدعة. انتهى

(1)

.

(قَالَ) أبو هريرة: (قُلْنَا: اللهُ) عز وجل (وَرَسُولُهُ) صلى الله عليه وسلم (أَعْلَمُ) به منا، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ) بالبناء للمفعول، (بِهِ فِي النَّارِ)؛ أي: نار جهنّم (مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا)؛ أي: من ابتداء سبعين سنة، (فَهُوَ يَهْوِي) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: هَوَى يَهوِي، من باب ضرب، هُويًّا بضمّ الهاء، وفَتْحها: إذا سقط من أعلى إلى أسفل، وزاد ابن الْقُوطيّة: هَوَاءً بالمدّ: سقط من أعلى إلى أسفل، قاله أبو زيد وغيره، وهَوَى يَهْوِي أيضًا هُوِيًّا بالضم لا غير: إذا ارتفع

(2)

. (فِي النَّارِ) متعلّق بـ "يَهْوِي"، وقوله:(الآنَ) ظرف متعلّق بـ "يهوي" أيضًا، قال الفيّوميّ رحمه الله:"الآنَ" ظرف للوقت الحاضر الذي أنت فيه، ولزم دخول الألف واللام، وليس ذلك للتعريف؛ لأن التعريف تمييز المشتركات، وليس لهذا ما يشركه في معناه، قال ابن السّرّاج: ليس هو آن وآن، حتى يدخل عليه الألف واللام للتعريف، بل وُضع مع الألف واللام للوقت الحاضر، مثل الثُّريّا، والذي، ونحو ذلك. انتهى

(3)

.

وقوله: (حَتَّى انْتَهَى) غاية للهُويّ، ووقع في بعض النسخ بلفظ:"حين انتهى"، (إِلَى قَعْرِهَا") بفتح القاف، وإسكان العين المهملة، آخره راء؛ أي: إلى نهاية أسفلها، قال الفيّوميّ: قَعْرُ الشيء: نهاية أسفله، والجمع: قُعُورٌ، مثلُ فلس وفلوس

(4)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 7/ 188.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 643.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 31.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 510.

ص: 663

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7139 و 7140](2844)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 371)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 606)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7469)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 494)، و (البيهقيّ) في "البعث"(482)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7140]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: "هَذَا وَقَعَ فِي أَسْفَلِهَا، فَسَمِعْتُمْ وَجْبَتَهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ) بن الزِّبْرِقان المكيّ، نزيل بغداد، صدوقٌ يَهِم [10](ت 234)(خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

2 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدنيّ، ثُمّ المكيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(مَرْوَانُ) بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفَزَاريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، نزيل مكة، ودمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يدلّس أسماء الشيوخ [8](ت 193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: ("هَذَا وَقَعَ فِي أَسْفَلِهَا) قال في "المشارق": كذا عند أكثر شيوخنا، وفيه حَذْف، وتمامه:"هذا حجر وقع"، وكما قال في الحديث قبله:"هذا حجر رُمي به في النار"، وفي كتاب ابن عيسى:"هذا الآن وقع"، وله وجه. انتهى

(1)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 2/ 404.

ص: 664

وقالِ النوويّ رحمه الله: قوله: "هذا وقع في أسفلها إلخ" هكذا هو في النسخ، وهو صحيح، وفيه محذوف دلّ عليه الكلام؛ أي: هذا حجر وقع، أو هذا حين، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية عن يزيد بن كيسان هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7141]

(2845) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ قَتَادَةُ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ سَمُرَةَ، أنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى عُنُقِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل باب.

2 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن مسلم البغداديّ، أبو محمد المؤدّب، ثقةٌ ثبتٌ، من صغار [9](ت 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) التميميّ مولاهم النحويّ، أبو معاوية البصريّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ، صاحب كتاب، يقال: إنه منسوب إلى نحوة بطن من الأزد، لا إلى علم النحو [7](ت 164)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 118.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة بن قتادة السَّدُوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رأس الطبقة [4](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) -بنون ومعجمة، ساكنة- المنذر بن مالك بن قُطَعة -بضم القاف، وفتح الطاء المهملة- العَبْديّ الْعَوَقيّ -بفتح العين المهملة، والواو، ثم قاف- البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

6 -

(سَمُرَةُ) بن جُندب بن هلال الفَزَاريّ، حليف الأنصار، الصحابي

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 179.

ص: 665

المشهور، له أحاديث، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من شيبان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ سَمُرَةَ) بن جُندب رضي الله عنه، (أَنَّهُ سَمِعَ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ مِنْهُمْ)؛ أي: من أهل النار، (مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ) تثنية كعب، قال الفيّوميّ رحمه الله: الكَعبُ من الإنسان اختَلف فيه أئمة اللغة، فقال أبو عمرو بن العلاء، والأصمعيّ، وجماعة: هو العظم الناشز في جانب القدم، عند ملتقى الساق والقدم، فيكون لكلّ قدم كَعبَان، عن يمنتها، ويسرتها، وقد صرح بهذا الأزهريّ، وغيره، وقال ابن الأعرابيّ وجماعة: الكَعْب هو الْمَفْصِل بين الساق والقدم، والجمع كُعُوبٌ، وأكعُبٌ، وكِعَابٌ، قال الأزهريّ: الكَعْبَانِ الناتئان في منتهى الساق مع القدم عن يمنة القدم ويُسْرتها، وذهبت الشّيعة إلى أن الكَعبَ في ظهر القدم، وأنكره أئمة اللغة كالأصمعيّ، وغيره. انتهى

(1)

.

(وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى حُجْزَتِهِ) بضم الحاء وسكون الجيم، بعدها زاي؛ أي: معقد إزاره، ووسطه، (وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ إِلَى عُنُقِهِ")، وفي الرواية الآتية:"إلى ترقوته"، وهو بمعناه.

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث أيضًا يدلّ على أن أهل النار يتفاوتون فيها، ويصحّ مثل هذا في الكفار، كما قلناه في حديث أبي طالب، ويصحّ أن يكون ذلك فيمن يعذَّب من الموحّدين، إلا أن الله تعالى يُميتهم إماتة، كما صحّ في الحديث. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سمرة بن جُندب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"المصباح المنير" 2/ 534.

(2)

"المفهم" 7/ 189.

ص: 666

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7141 و 7142 و 7143](2845)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 10)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 56)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(7/ 214 و 232 و 233) وفي "مسند الشاميين"(4/ 33 و 83)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 629)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(2/ 412)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 290)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7142]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: ابْنَ عَطَاءٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى حُجْزَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إِلَى تَرْقُوَيهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 238)(خ م س) تقدم في "القسامة" 4/ 4365.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ) الخفاف، أبو نصر العجليّ مولاهم البصريّ، نزيل بغداد، صدوقٌ، ربما أخطأ، أنكروا عليه حديثًا في العباس، يقال: دلّسه عن ثور [9](ت 4 أو 206)(عخ م 4) تقدم في "الجهاد والسير" 27/ 4601.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مِهران اليشكريّ، مولاهم أبو النضر البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، له تصانيف، كثير التدليس، واختَلَط، وكان من أثبت الناس في قتادة [6](ت 157)(ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (إِلَى تَرْقُوَتِهِ) بفتح التاء، وضم القاف: هي العظم الذي بين ثَغْرة النحر والعاتق

(1)

.

(1)

"المفهم" 7/ 189.

ص: 667

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7143]

(. . .) حَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَجَعَلَ مَكَانَ "حُجْزَتِهِ":"حَقْويهِ").

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنزيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) المعروف ببندار العبديّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(رَوْحُ) بن عُبادة بن العلاء بن حسّان القيسيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، له تصانيف [9](ت 5 أو 207)(ع) تقدم في "الإيمان" 90/ 476.

وقوله: (حَقْوَيْهِ) بفتح الحاء المهملة، وكسرها، وهما مَعْقِد الإزار،

والمراد هنا ما يُحاذي ذلك الموضع من جنبيه، قاله النوويّ رحمه الله

(1)

.

[تنبيه]: رواية رَوْح بن عبادة عن سعيد بن أبي عروبة هذا ساقها الرويانيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(862)

- نا ابن إسحاق، نا رَوْح بن عُبادة، نا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن سمرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"منهم من تأخذه النار إلى ركبته، وإلى حقويه، وإلى ترقوته"، انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَابٌ النَّارُ يَدْخُلُهَا الْجَبَّارُونَ، وَالْجَنَّةُ يَدْخُلُهَا الضُّعَفَاءُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7144]

(2846) - (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللهُ عز وجل لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ -وَرُبَّمَا قَالَ:

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 180 - 181.

(2)

"مسند الرويانيّ" 2/ 81.

ص: 668

أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ- وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب الماضي، سوى سفيان، وهو ابن عيينة، فتقدّم قريبًا، وشرح الحديث يأتي في الحديث الرابع -إن شاء الله تعالى- وإنما أخّرته إليه؛ لكونه أتمّ مما هنا، فتنبّه.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7145]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَحَاجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَسَقَطُهُمْ، وَعَجَزُهُمْ؟، فَقَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمْ مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ، فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ، ويُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) تقدّم في الباب الماضي.

2 -

(شَبَابَةُ) بن سَوَّار المدائنيّ، أصله من خُراسان، يقال: كان اسمه مروان، مولى بني فَزَارة، ثقةٌ حافظٌ، رُمِي بالإرجاء [9](ت 4 أو 5 أو 206)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 40.

3 -

(وَرْقَاءُ) بن عُمر اليشكريّ، أبو بشر الكوفيّ، نزيل المدائن، صدوقٌ، في حديثه عن منصور لين [7](ع) تقدم في "الصلاة" 31/ 999.

والباقون ذُكروا قبله، وشرح الحديث يأتي بعد حديث -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7146]

(. . .) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ -يَعْنِي: مُحَمَّدَ بْنَ حُمَيْدٍ- عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي

ص: 669

هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ"، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ الْهِلَالِيُّ)، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 303.

2 -

(أَبُو سُفْيَانَ مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ) اليشكريّ المعمريّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقة [9](ت 182)(خت م س ق) تقدم في "الأيمان" 8/ 4299.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّختيانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ سِيرِينَ) هو: محمد الأنصاريّ مولاهم البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أيوب، عن ابن سيرين هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(7704)

- حدّثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"احتجّت الجنة والنار، فقالت الجنة: يا رب ما لي لا يدخلني إلا فقراء الناس، وسَقَطهم؟ وقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا الجبارون، والمتكبرون؟ فقال للنار: أنتِ عذابي، أصيب بك من أشاء، وقال للجنة: أنتِ رحمتي، أصيب بك من أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها، فأما الجنة فإن الله ينشئ لها ما يشاء، وأما النار فيُلْقَون فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها، فهنالك تمتلئ، ويُزْوَى بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط قط". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7147]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 276.

ص: 670

أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَسَقَطُهُمْ، وَغِرَّتُهُمْ؟

(1)

قَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أنتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَبكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللهُ تبارك وتعالى رِجْلَهُ، تَقُولُ: قَطْ قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأمّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، وتقدّم الكلام فيه.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ الصنعانيّ، أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: الآتي من الأحاديث (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) همّام (أَحَادِيثَ) قد تقدّم أنها (138) حديثًا بهذا السند. (مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ) -بتشديد الجيم-، أي: تخاصمت، وتجادلت، وتعارضت.

وقال الطيبيّ رحمه الله: يقال: حاججته حِجَاجًا، ومُحاجّةً، فأنا محاجّ؛ أي: غالبته بالحجة، ومنه حديث:"فحجَّ آدم موسى"؛ أي: غلبه بالحجة.

قال: والحديث لا يُحمل على هذا؛ لأن كلّ واحدة منهما ليست بغالبة للأخرى فيما تكلّمت به، بل لمجرّد حكاية ما اختصمتا به، وفيها شائبةٌ من معنى الشكاية، ألا ترى كيف قال الله تعالى للجنّة:"إنما أنت رحمتي"، وللنار:"إنما أنت عذابي"، فأقحم كلًّا منهما بما تقتضيه مشيئته. انتهى

(2)

.

(الْجَنَّةُ وَالنَّارُ) قال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث على ظاهره، وأن الله تعالى يخلق في الجنة والنار تمييزًا يُدرِكان به، ويقدران على المراجعة،

(1)

وفي نسخة: "وعرثهم".

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3596.

ص: 671

والاحتجاج، ويَحْتَمِل أن يكون بلسان الحال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: حَمْل الحديث على ظاهره هو الحقّ الذي يقتضيه السياق، فهو محاجّة حقيقيّة، والله تعالى على كلّ شيء قدير.

وقال الطيبيّ رضي الله عنه: هذه المحاجة جارية على التحقيق، فإنه تعالى قادر على أن يجعل كل واحدة مميِّزة مخاطبة، أو على التمثيل. انتهى

(2)

.

وقال القاري رحمه الله: الأول هو المعوَّل؛ لأن مذهب أهل السُّنَّة أن لله تعالى عِلمًا في الجمادات، وسائر الحيوانات، سوى العقلاء، لا يقف عليها غيره، فلها صلاة، وتسبيح، وخشية، فيجب على المرء الإيمان به، ويَكِلُ علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وأدلته كثيرة ليس هذا محل ذكرها، والله تعالى أعلم. انتهى كلام القاريّ رحمه الله

(3)

، وهو الصواب الذي لا محيد عنه، وإياك أن تلتفت إلى غيره، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذه المحاجة أنها لسان مقال، فيكون خزنة كل واحد منهما هم القائلون بذلك، ويجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة، وقد قلنا فيما تقدَّم: إنه لا يُشترط عقلًا في الأصوات المقطَّعة أن يكون محلّها حيًّا، خلافًا لمن اشترط ذلك من المتكلمين.

ولو سلّمنا ذلك لكان من الممكن أن يخلق الله تعالى في بعض أجزاء الجنة والنار الجماديّة حياةً، بحيث يصدر ذلك القول عنه، والله تعالى أعلم، لا سيما وقد قال بعض المفسّرين في قوله تعالى رحمه الله:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]: إن كل ما في الجنة حيّ، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك لسان حال، فيكون ذلك عبارة عن حالتيهما، والأول أَولى. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(4)

وهو تحقيق حسن، والله تعالى أعلم.

ثم بيّن كيفية تحاجّهما، بقوله:(فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ) بصيغة المجهول من الإيثار؛ أي: اخْتِيرَتْ (بِالْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحقّ، (وَالْمُتَجَبِّرِينَ)؛ أي: على

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 181.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3596.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

(4)

"المفهم" 13/ 52.

ص: 672

الخَلْق بالتسلط، والقهر، فقيل: هما بمعنى، جَمَع بينهما، للتأكيد، وقيل: المتكبر المتعظم بما ليس فيه، والمتجبر الذي لا يوصل إليه، وقيل: الذي لا يكترث، ولا يبالي بأمر الضعفاء والمساكين

(1)

. (وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي)؛ أي: فأيّ شيء وقع لي، (لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسٍ)؛ أي: في البدن والمال، (وَسَقَطُهُمْ) بفتحتين، أي: أردؤهم، وأكثرهم خُمولًا، وأقلّهم اعتبارًا، المحقَّرون فيما بينهم، الساقطون عن أعينهم، وهذا بالنسبة إلى ما عند أكثر الناس؛ لأنهم كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37]، وفي موضع آخر:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]، وأما بالنسبة إلى ما عند الله تعالى فهم عظماء، رفعاء الدرجات، وكذا عند من عَرَفهم من العلماء والصلحاء، لكنهم بالنسبة إلى ما عند أنفسهم؛ لعظمة الله تعالى عندهم، وخضوعهم له في غاية التواضع لله عز وجل، والذلة في عباده، فوَصْفُهم بالسَّقط والضَّعف بهذا المعنى صحيح، أو المراد بالحصر في قول الجنة:"إلا ضعفاء الناس": الأغلب

(2)

.

وقوله: (وَغِرَّتُهُمْ) بكسر الغين المعجمة، وتشديد الراء، وهي عدم التجربة، أو وجود الغفلة، بمعنى الذين لا تجربة لهم في الدنيا، ولا اهتمام لهم بها، أو الذين هم غافلون عن أمور الدنيا، مشغولون بمهمّ العقبى، على ما ورد في الخبر:"أكثر أهل الجنة الْبُلْه"

(3)

؛ أي: في أمور الدنيا، بخلاف الكفار، فإنهم كما قال تعالى:{يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)} [الروم: 7]، هذا.

وقال الحافظ رحمه الله: رواه الأكثر بغين معجمة مفتوحة، فراء، فثاء مثلثة، أي: أهل الحاجة من الغرث، وهو الجوع، ورُوي بكسر الغين المعجمة، وتشديد اللام، وبتاء مثناة فوقية؛ أي: الْبُلْهُ الغافلون، وهي ثابتة في أكثر نُسخ

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

(2)

"الفتح" 10/ 622 - 623، و"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

(3)

قال الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 10/ 402: رواه البزار، وفيه سلامة بن روح، وثقه ابن حبان وغيره، وضعّفه غير واحد. انتهى، وضعّفه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 673

مسلم، ورواه آخرون بعين مهملة، فجيم، فزاي، مفتوحات، وتاء مثناة: جمع عاجز، ورُوي بضم العين، والجيم: جمع عاجز أيضًا. انتهى.

وقال النوويّ رحمه الله: أما "سقطهم" فبفتح السين والقاف؛ أي: ضعفاؤهم، والمتحقرون منهم، وأما عجزهم فبفتح العين والجيم: جمع عاجز؛ أي: العاجزون عن طلب الدنيا، والتمكن فيها، والثروة، والشوكة، وأما الرواية رواية محمد بن رافع ففيها:"لا يدخلني إلا ضعاف الناس، وغرتهم"، فرُوي على ثلاثة أوجه، حكاها القاضي، وهي موجودة في النُّسخ:

أحدُها: "غرثهم" بغين معجمة مفتوحة، وثاء مثلثة، قال القاضي: هذه رواية الأكثرين من شيوخنا، ومعناها: أهل الحاجة، والفاقة، والجوع، والغرث: الجوع.

والثاني: "عجزتهم" بعين مهملة مفتوحة، وجيم، وزاي، وتاء: جَمْع عاجز، كما سبق.

والثالث: "غِرّتهم" بغين معجمة مكسورة، وراء مشدّدة، وتاء مثناة فوقُ، وهذا هو الأشهر في نُسخ بلادنا؛ أي: الْبُلْهُ الغافلون الذين ليس بهم فتك وحذق في أمور الدنيا، وهو نحو الحديث الآخر:"أكثر أهل الجنة الْبُلْهُ". قال القاضي: معناه: سواد الناس، وعامتهم من أهل الإيمان الذين لا يفطنون للشبهة، فيدخل عليهم الفتنة، أو يدخلهم في البدعة، أو غيرها، فهم ثابتو الإيمان، وصحيحو العقائد، وهم أكثر المؤمنين، وهم أكثر أهل الجنة، وأما العارفون، والعلماء العاملون، والصالحون المتعبِّدون، فهم قليلون، وهم أصحاب الدرجات، قال: وقيل: معنى الضعفاء هنا، وفي الحديث الآخر:"أهل الجنّة كل ضعيف متضعف" أنه الخاضع لله تعالى، المذِلّ نفسه له سبحانه وتعالى ضد المتجبر المستكبر. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إلا ضعفاء الناس، وسقطهم، وعجزهم"، وفي رواية:"وغرَّتهم"، الضعفاء: جمع ضعيف؛ يعني به: الضعفاء في أمر الدنيا، ويَحْتَمِل أن يريد به هنا الفقراء، وحَمْله على الفقراء أَولى من حَمْله

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 181.

ص: 674

على الأول؛ لأنَّه يكون معنى الضعفاء: معنى العجزة المذكورين بعدُ. و"سقطهم" -بفتح السين، والقاف-: جمع ساقط، وهو النازل القَدْر، وهو الذي عُبّر عنه بأنه لا يؤبه له، وأصله من سَقْط المتاع: وهو رديؤه.

و"عجزهم" قال القاضي: هو بفتح العين والجيم: جَمْع عاجز.

قلت

(1)

: ويلزمه على ذلك أن يكون بالتاء، ككاتب وكتبة، وحاسب وحسبة، وسقوط التاء في مثل هذا الجمع نادر، وإنما يُسقطونها إذا سلكوا بالجمع مسلك اسم الجنس، كما فعلوا ذلك في سقطهم، وصواب هذا اللفظ أن يكون عُجَّزهم بضم العين، وتشديد الجيم، كنحو شاهد وشُهَّد، وكذلك أذكر أني قرأته.

و"غَرْثهم": بفتح الغين المعجمة، والثاء المثلثة: جمع غرثان، وهو الجيعان، والغَرْث: الجوع، وقد رواه الطبريّ:"غِرَّتهم": بكسر الغين وبالتاء باثنتين فوقها، وتشديد الراء؛ أي: غَفَلتهم، وأهل الْبَلَه منهم، كما قال في الحديث الآخر:"أكثر أهل الجنة الْبُلْهُ"؛ يعني به: عامة أهل الإيمان الذين لم يتفطّنوا للشُّبَهِ، ولم توسوس لهم الشياطين بشيء من ذلك، فهم صحاح العقائد، ثابتو الإيمان، وهم أكثر المؤمنين، وأما العارفون، والعلماء، والحكماء، فهم الأقلّ، وهم أصحاب الدرجات العلى، والمنازل الرفيعة. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم ..

(قَالَ اللهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي) ابتدأ بها للحديث القدسيّ: "سبقت رحمتي غضبي"، وجبرًا لها، حيث انكسر بالها بما أوثرت به من الضعفاء، وفي "شرح السُّنَّة": سُميت الجنة رحمةً؛ لأن بها يظهر رحمة الله تعالى، كما قال:"أرحم بك من أشاء من عبادي"، وإلا فرحمة الله تعالى من صفاته التي لم يزل بها موصوفًا، ليست لله صفة حادثة، ولا اسم حادث، فهو قديم بجميع أسمائه، وصفاته جل جلاله، وتقدست أسماؤه. (أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ) الله عز وجل: (لِلنَّارِ: إِنَّمَا أنتِ عَذَابِي)؛ أي: سبب عقوبتي، ومنشأ سخطي، وغضبي، (أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي) خلاصة القول: أن الجنة

(1)

القائل هو القرطبيّ.

(2)

"المفهم" 7/ 192 - 193.

ص: 675

والنار، والمؤمنين والكفار، مظاهر لأوصاف الجمال والجلال، ولا يظهر لأحد وجه تخصيص كلّ بكلّ، مع العلم بأن أحدهما من باب العدل، والآخر من باب الفضل، و {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} [الأنبياء: 23].

(وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا) بكسر الميم؛ أي: ما يملؤها ممن كان أهلًا لكلّ واحدة منكما، (فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللهُ تبارك وتعالى رِجْلَهُ) وفي الرواية الآتية:"قدمه"، مذهب السلف إثبات ما جاء عن الله سبحانه وتعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات؛ كالرجل، والقَدَم، مع تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، وأما كثير ممن أتى بعدهم فيخوضون في التأويل، ويتكلّفون ما لا علم لهم به، والحقّ ما مضى عليه السلف، وسيأتي مزيد بسط للبحث في المسألة الثالثة -إن شاء الله تعالى-.

(تَقُولُ)؛ أي: النار، والجملة استئناف، بيان، أو حال، وإلا فكان الظاهر أن يقال: فتقول

(1)

: (قَطْ قَطْ قَطْ) قال النوويّ: فيه ثلاث لغات: بإسكان الطاء فيهما، وبكسرها منونةً، وغير منونة، وفىِ "القاموس": إذا كان قط بمعنى حَسْب فقط، كعَنْ، وقَطٍ منونًا مجرورًا، فاقتصاره عليهما مشعر بأن الكسر مع غير التنوين ضعيف، قاله القاري

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما نقله القاري عن "القاموس" ليس محرّرًا، وعبارته: وإذا كانت بمعنَى حَسْبُ فقط كعَنْ، وقَطٍ مُنَوَّنًا مجرورًا، وقَطِي، وإذا كان اسمَ فِعْلٍ بمعنَى يكفي، فَتُزادُ نونُ الوِقَايَةِ، ويقالُ: قَطْنِي، ويقالُ: قَطْكَ؛ أي: كفاكَ، وقَطِي؛ أي: كفاني، ومنهم من يقولُ: قَطْ عبدَ اللهِ دِرِهَمٌ، فَينْصِبُونَ بها، وقد تَدْخُلُ النونُ فيها، ويُنْصَبُ بها، فتقولُ: قَطْنَ عبدَ اللهِ دِرْهَمٌ، وفي "المُوعَبِ": قَطْ عبدِ اللهِ دِرْهَمٌ، يَتْرُكُونَ الطاءَ مَوقوفةً، ويَجُرُّونَ بها، وقال أهْلُ البَصْرَةِ، وهو الصوابُ على مَعْنَى: حَسْبُ زيدٍ، وكَفْيُ زيدٍ دِرْهَمٌ، انتهت عبارة "القاموس"

(3)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

(3)

"القاموس المحيط" ص 1069.

ص: 676

فقد حقّق لغاتها، وفصّلها إذا كانت بمعنى حَسْب، وإذا كانت اسم فعل، وما في الحديث هنا يصلح لهما، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَهُنَالِكَ)؛ أي: في ذلك الزمان (تَمْتَلِئُ) النار بقدرة الله تعالى، (ويُزْوَى) بالبناء للمفعول؛ أي: يُضمّ، ويجتمع (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ) وتلتقي على من فيها، من غاية الامتلاء، (وَلَا يَظْلِمُ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا) قالَ النوويّ رحمه الله: قد سبق مرات بيان أن الظلم مستحيل في حق الله تعالى، فمن عذّبه بذنب، أو بلا ذنب فذلك عدل منه سبحانه وتعالى. انتهى

(1)

.

وقال القاريّ: "فلا يظلم الله أحدًا"؛ أي: لا يُنشئ الله خلقًا للنار، فإنه ظُلم بحسب الصورة، وإن لم يكن ظلمًا حقيقة، فإنه تصرّف في ملكه، والله تعالى لا يفعل ما في صورة الظلم. انتهى

(2)

.

(وَأَمَّا الْجَنَّةُ، فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا")، وفي حديث أنس رضي الله عنه الآتي:"وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ، حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ".

والحاصل: أن الله تعالى يخلق خلقًا لم يعملوا عملًا، وهذا فضل من الله تعالى، كما أنه سبحانه لو أنشأ للنار خلقًا على ما قيل، لكان عدلًا، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7144 و 7145 و 7146 و 7147](2846)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4849 و 4850)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2561)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 468)، و (همام بن منبه) في "صحيفته"(51)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20893 و 20894)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 51)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 276 و 314 و 450 و 507)،

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 181.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

ص: 677

و (الحميديّ) في "مسنده"(2/ 481)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(11/ 180)، و (اللالكائىّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1161)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 92 و 93 و 94)، و (ابن منده) في "الردّ على الجهميّة"(9)، و (الطبريّ) في "التفسير"(26/ 170)، و (الآجرّيّ) في "الشريعة"(ص 391)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7447)، و (أبو عوانة) في "مسنده"(1/ 160)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 349، 350)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان محاجّة الجنّة والنار، وهو على حقيقته لا على المجاز، كما ادُّعي، قال ابن بطال عن المهلّب: يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقةً، بأن يخلق الله فيهما حياةً، وفهمًا، وكلامًا، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازًا؛ كقولهم: امتلأ الحوض، وقال: قطني، والحوض لا يتكلم، وإنما ذلك عبارة عن امتلائه، وأنه لو كان ممن ينطق لقال ذلك، وكذا في قول النار: هل من مزيد، قال: وحاصل اختصاصهما افتخار أحدهما على الأخرى بمن يسكنها، فتظن النار أنها بمن ألقي فيها من عظماء الدنيا أبَرّ عند الله من الجنة، وتظن الجنة أنها بمن أسكنها من أولياء الله تعالى أبرّ عند الله، فأجيبتا بأنه لا فضل لإحداهما على الأخرى من طريق من يسكنهما، وفي كلاهما شائبة شكاية إلى ربهما؛ إذ لم تذكر كل واحدة منهما إلا ما اختصت به، وقد ردَّ الله الأمر في ذلك إلى مشيئته، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا نقل ابن بطال عن المهلّب احتمال كون الاختصام حقيقةً، أو مجازًا، وسكت عليه، والحقّ أنه محمول على الحقيقة، لا على المجاز؛ لأن الواجب حمل كلام ألله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة ما لم يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا، ولا دليل يدل على صرف الكلام عن ظاهره، فالصواب أن الله عز وجل أنطق الجنّة والنار حقيقةً، فاختصمتا، وذلك كما ينطق الجلود بالشهادة على أصحابها، وليست في العادة مما ينطق، قال الله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ

(1)

"الفتح" 17/ 451 - 452.

ص: 678

{الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} [فصلت: 21 - 23].

2 -

(ومنها): أن فيه إثبات صفة الرِّجل، والقدم لله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، فنُثبت، ولا نشبّه، ولا نعطّل، ولا نؤوّل، بل إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.

ولقد أجاد البغوىّ رحمه الله في "شرح السُّنَّة" حيث قال: والقدم، والرجل المذكوران في هذا الحديث من صفات الله تعالى المنزّهة عن التكييف والتشبيه، وكذلك كلّ ما جاء من هذا القبيل في الكتاب والسُّنَّة؛ كاليد، والإصبع، والعين، والمجيء، والإتيان، والنزول، فالإيمان بها فرضٌ، والامتناع عن الخوض فيها واجبٌ، فالمهتدي من سلك فيها طريق التسليم، والخائض فيها زائغ، والمنكر معطّل، والمكيِّف مُشَبِّهٌ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. انتهى كلام البغويّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ، وبحث أنيس.

قال القاري بعد نقل ما تقدّم عن "شرح السُّنَّة" ما نصّه: وهو الموافق لمذهب الإمام مالك رحمه الله، ولطريق إمامنا الأعظم -أبي حنيفة- على ما أشار إليه في "الفقه الأكبر"، فالتنسليم أسلم، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي حققه البغويّ رحمه الله في "شرح السُّنَّة" هو الحقّ، والصواب الذي لا محيد عنه، ولا يجوز العدول عنه إلى غيره، فلا تلتفت أيها العاقل الحريص على دينه إلى ما طوّل به الشرّاح أنفَاسهم، وأتوا بعجائب ما عندهم، مما يخالف منهج السلف، من الصحابة، والتابعين، فمن بعدهم، فإن ذلك هو الزيغ عن طريق الهدى، وسلوك سبيل الرّدَى، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8].

(1)

"شرح السُّنَّة" 15/ 257.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 311.

ص: 679

3 -

(ومنها): بيان عِظَم سعة الجنة، فقد جاء في "الصحيح" أن للواحد فيها مِثل الدنيا وعشر أمثالها، ثم يبقى فيها شيء لِخَلْق ينشئهم الله تعالى.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا لأهل السُّنَّة أن الثواب ليس متوقفًا على الأعمال، فإن هؤلاء يُخلقون حينئذ، ويُعطَون في الجنة ما يعطون بغير عمل، ومثله أمر الأطفال، والمجانين، الذين لم يعملوا طاعة قط، فكلهم في الجنة برحمة الله تعالى، وفضله.

5 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على اتساع الجنة والنار، بحيث تَسَع كل من كان، ومن يكون إلى يوم القيامة، وتحتاج إلى زيادة.

6 -

(ومنها): أنه يؤخذ من الحديث أن الأشياء توصف بغالبها؛ لأن الجنة قد يدخلها غير الضعفاء، والنار قد يدخلها غير المتكبرين.

7 -

(ومنها): أن فيه الردّ على من حَمَل قول النار: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] على أنه استفهام إنكار، وأنها لا تحتاج إلى زيادة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7148]

(2847) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ"، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى قَوْلِهِ:"وَلِكِلَيْكُمَا عَلَي مِلْؤُهَا"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، أبو محمد الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُو صَالِحٍ) ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قبل أربعة أبواب.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ) فاعل "يذكر" ضمير أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 680

[تنبيه]: حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا ساقه الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(11771)

- حدّثنا عبد الله، حدّثني أبي، ثنا عثمان بن محمد

(1)

، قال عبد الله: وسمعته أنا من عثمان، ثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدريّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجت الجنة والنار، فقالت النار: فِيّ الجبارون، والمتكبرون، وقالت الجنة: فِيّ ضعفاء الناس، ومساكينهم، قال: فقضى بينهما إنك الجنة رحمتي، أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي، أعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7149]

(2848) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ تبارك وتعالى قَدَمَهُ، فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ، وَعِزَّتِكَ، ويُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"شيبان" هو ابن عبد الرحمن النحويّ.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدُوسيّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ نَبِيّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) قال في "الفتح": اختَلَف النقل عن قول جهنم: "هل من مزيد": فظاهر أحاديث الباب أن هذا القول منها لطلب المزيد، وجاء عن بعض السلف أنه استفهام إنكار، كأنها

(1)

هو: عثمان بن أبي شيبة، شيخ مسلم في هذا الحديث.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 79.

ص: 681

تقول: ما بقي فِيّ موضع للزيادة، فروى الطبريّ من طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، في قوله:{هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]؛ أي: هل من مدخل؟ قد امتلأتُ، ومن طريق مجاهد نحوه، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهو ضعيف، ورجح الطبريّ أنه لطلب الزيادة، على ما دلّت عليه الأحاديث المرفوعة، وقال الإسماعيليّ: الذي قاله مجاهد مُوَجَّهٌ، فيُحمل على أنها قد تُزاد، وهي عند نفسها لا موضع فيها للمزيد. انتهى

(1)

.

(حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعِزَّةِ تبارك وتعالى قَدَمَهُ) قد أسلفت أن المذهب الصحيح الذي قال به السلف أن القدم صفة ثابتة لله تعالى كالرِّجل في الرواية الأخرى على ما يليق بجلاله، وأما الحافظ فقد ذكر في "الفتح" أقوالًا كثيرة في المسألة، فقال: واختُلف في المراد بالقدم، فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة، وهو أن تُمَرّ كما جاءت، ولا يُتعرَّض لتأويله، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله، وخاض كثير من أهل العلم في تأويل ذلك، فذَكَر أقوالهم مفصّلة، ويا ليته أعرض عن ذِكرها، أو تعقّبها بالردّ، فإنه يعلم أنها مخالفة لظواهر النصوص، ولمذهب السلف، فكيف أقرّها، إن هذا لهو العجب العُجاب.

ولْتُراجِع ما كتبه الشيخ البراك على هامش "الفتح"

(2)

، فإنه مهمّ جدًّا، والله تعالى وليّ التوفيق.

(فَتَقُولُ) جهنّم (قَطْ قَطْ)، وفي رواية سعيد:"فيُزوَى بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط وعزتك"، وفي رواية سليمان التيميّ، عن قتادة:"فتقول: قد قد" بالدال بدل الطاء، وفي حديث أبي هريرة:"فيضع الرب عليها قدمه، فتقول: قط قط" وفي رواية: "فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهناك تمتلئ، ويُزوَى بعضها إلى بعض"، وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى:"وجهنم تسأل المزيد، حتى يضع فيها قدمه، فيُزوَى بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط" وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: "فيُلقَى في النار أهلها،

(1)

"الفتح" 10/ 619، "كتاب التفسير" رقم (4848).

(2)

راجع: "الفتح" 10/ 620.

ص: 682

فتقول: هل من مزيد؟ ويُلقَى فيها، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها عز وجل، فيضع قدمه عليها، فتنزوي، فتقول: قدني قدني".

ومعنى قولها: (قَطْ قَطْ)؛ أي: حَسْبي حسبي، وثبت بهذا التفسير عند عبد الرزاق، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، و"قط" بالتخفيف ساكنًا، ويجوز الكسر بغير إشباع، ووقع في بعض النُّسخ عن أبي ذرّ:"قطي قطي" بالإشباع، و"قطني" بزيادة نون مشبعة، ووقع في حديث أبي سعيد، ورواية سليمان التيميّ بالدال بدل الطاء، وهي لغة أيضًا، وكلها بمعنى يكفي، وقيل: قط صوت جهنم، والأول هو الصواب عند الجمهور، قال الحافظ: ثم رأيت في تفسير ابن مردويه من وجه آخر، عن أنس، ما يؤيد الذي قبله، ولفظه:"فيضعها عليها، فتقطقط، كما يقطقط السقاء إذا امتلأ". انتهى، فهذا لو ثبت لكان هو المعتمَد، لكن في سنده موسى بن مطير، وهو متروك. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَعِزَّتِكَ)، أي: وأقسم بعزّتك، قال ابن بطال رحمه الله: اختلف العلماء في اليمين بصفات الله، فقال مالك في المدونة: الحلف بأسماء الله وصفاته لازم كقوله: والعزيز، والسميع، والبصير، والعليم، والخبير، واللطيف، أو قال: وعزة الله وكبريائه، وعظمة الله وقدرته، وأمانته، وحقه، فهي أيمان كلها تُكفَّر، وذكر ابن المنذر مثله عن الكوفيين أنه إذا قال: وعظمة الله، وعزة الله، وجلال الله، وكبرياء الله، وأمانة الله: وجبت عليه الكفارة، وكذلك في كل اسم من أسمائه تعالى.

وقال الشافعي في جلال الله، وعظمة الله، وقدرة الله، وحق الله، وأمانة الله: إن نوى بها اليمين فهي أيمان، وإن لم ينو اليمين فليست بيمين؛ لأنه يَحتمل: وحقُّ الله واجبٌ، وقدرةُ الله ماضية.

وقال أبو بكر الرازي: عن أبي حنيفة أن قول الرجل: وحق الله، وأمانة الله: ليست بيمين. قال أبو حنيفة: قال الله -تعالى-: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا} الآية [الأحزاب: 72]، المراد بذلك: الإيمان والشراع. وهو قول سعيد بن جبير، وقال مجاهد: الصلاة.

(1)

"الفتح" 10/ 619 - 620.

ص: 683

وقال أبو يوسف: وحق الله يمين وفيها الكفارة. وحجة القول الأول أن أهل السُّنَّة أجمعوا على أن صفات الله أسماء له، ولا يجوز أن تكون صفاته غيره، فالحلف بها كالحلف بأسمائه تجب فيها الكفارة، ألا ترى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يحلف:"لا، ومقلِّب القلوب"، وتقليبه لقلوب عباده صفة من صفاته، ولا يجوز على النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحلف بما ليس بيمين؛ لأنه قال:"من كان حالفًا فليحلف بالله". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: القول بأن الحلف بعزّة الله يمين، هو الحقّ، كما دلّ عليه هذا الحديث، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَيُزْوَى) بالبناء للمفعول، أي: يجمع، وينضمّ (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ") قال النوويّ رحمه الله: معنى قوله: "يُزْوَى": يُضَمّ بعضها إلى بعض، فتجتمع، وتلتقي على من فيها، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7149 و 7150 و 7151 و 7152](2848)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4848) و"الأيمان والنذور"(6661) و"التوحيد"(7384)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3272)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(4/ 409)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 134 و 141 و 229 و 234)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3358 و 3524)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7448)، و (ابن أبي عاصم) في "السُّنَّة"(529)، و (البيهقيّ) في "الأسماء والصفات"(ص 348 - 349)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4421)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7150]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارِ، حَدَّثَنَا قَتًادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ شَيْبَانَ).

(1)

"شرح ابن بطال" 11/ 123 - 125.

ص: 684

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

3 -

(أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارِ) البصريّ، أبو يزيد، ثقةٌ، له أفراد [7] مات في حدود (160)(خ م د ت س) تقدم في "الطهارة" 1/ 540.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: رواية أبان بن يزيد العطّار عن قتادة لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7151]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)} [ق: 30]، فَأَخْبَرَنَا عَنْ سَعِيدٍ

(1)

، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا، وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ، حَتَّى يُنْشِئَ اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرُّزِّيُّ) -براء مضمومة، ثم زاي ثقيلة- أبو جعفر البغداديّ، ثقةٌ يَهِم [10](ت 231)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الجهاد والسير" 27/ 4601.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبله، و"عبد الوهاب بن عطاء" هو الخفّاف، و"سعيد" هو: ابن أبي عروبة.

شرح الحديث:

(فِي قَوْلهِ عز وجل؛ أي: تفسير هذه الآية {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} . قال ابن

(1)

وفي نسخة: "فأخبرنا سعيد".

ص: 685

جرير رحمه الله: "يوم نقول" صلة لـ"ظلّام" من قوله تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، وذلك هو يوم القيامة. ({هَلِ امْتَلَأْتِ}) لِمَا سبق من وعده إياها بأنه يملأها من الجِنَّة والناس أجمعين، وقوله:({وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم: معناه: ما من مزيد -أي: بمعنى النفي- قالوا: وإنما يقول الله لها: هل امتلأت؟ بعد أن يضع قدمه فيها، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، من تضايُقها؛ فإذا قال لها وقد صارت كذلك: هل امتلأت؟ قالت حينئذ: هل من مزيد؟ أي: ما من مزيد؛ لشدّة امتلائها، وتضايُق بعضها إلى بعض، وقال آخرون: بل معنى ذلك: زدني، إنما هو هل من مزيد؟ بمعنى الاستزادة، قال ابن جرير: وأَولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو بمعنى الاستزادة، هل من شيء أزداده؟ وإنما قلنا ذلك أَولى القولين بالصواب؛ لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به، ثم أورد مستدلًّا على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب

(1)

.

قال الرّزّيّ: (فَأَخْبَرَنَا)، أي: عبد الوهّاب بن عطاء، (عَنْ سَعِيد) بن أبي عروبة، ووقع في بعض النُّسخ بلفظ:"فأخبرنا سعيد"، فيكون قائل:"فأخبرنا" هو عبد الوهاب؛ أي: قال عبد الوهّاب: فأخبرنا سعيد (عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة (عَنْ أَنسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا)؛ أي: يُلقى من كان من أهلها فيها، (وَتَقُولُ)؛ أي: قولًا حقيقيًّا، كما أسلفنا تحقيقه، (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟) إما مصدر ميميّ كالمحيد، أو اسم مفعول؛ كالمنيع، فالأول بمعنى: هل من زيادة؟ والثاني بمعنى: هل من شيء تزيدونيه؟

(2)

. (حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ) تقدّم أن فيه إثبات القدم لله تعالى على ما يليق بجلاله، وأنه يضعه في جهنم. (فَيَنْزَوِي) مضارع من الانزواء؛ أي: ينضمّ (بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَتَقُولُ: قَطْ قَطْ)؛ أي: حَسْبي حسبي، (بِعِزَّتِكَ)؛ أي: بقهرك، وغلبتك (وَكَرَمِكَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ)؛ أي: زيادة عن الداخلين فيها، (حَتَّى يُنْشِئَ) من الإنشاء؛ أي: يخلق (اللهُ لَهَا خَلْقًا، فَيُسْكِنَهُمْ) بضمّ أوله، من الإسكان، (فَضْلَ الْجَنَّةِ")؛ أي: الموضع الذي فَضَل منها، وبقي عن سكانها، ويروى: أفضل بصيغة أفعل التفضيل، فقيل: هو مثل الناقصُ والأشجّ

(1)

"تفسير الطبريّ" 22/ 359 - 361.

(2)

"فتح القدير" 7/ 33.

ص: 686

أُعِد لابْنَي مروان؛ يعني: عَادَ لِابْني مروان، وفيه أن دخول الجنة ليس بالعمل

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، ولله الحمد والمنة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7152]

(. . .) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -يَعْنِي: ابْنَ سَلَمَةَ- أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنسًا يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَبْقَى مِنَ الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَبْقَى، ثُمَّ يُنْشِئُ اللهُ تَعَالَى لَهَا خَلْقًا مِمَّا يَشَاءُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَفَّانُ) بن مسلم بن عبد الله الباهليّ، أبو عثمان الصفّار البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، قال ابن المدينيّ: كان إذا شكّ في حرف من الحديث تركه، ورُبّما وَهِم، من كبار [10](ت 220)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 44.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) تقدّم قريبًا.

3 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، تقدم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: ("يَبْقَى مِنَ الْجَنَّةِ مَا شَاءَ اللهُ) سبحانه وتعالى (أَنْ يَبْقَى) بلا سكّان، (ثُمَّ يُنْشِئُ)؛ أي: يخلق (اللهُ تَعَالَى لَهَا)؛ أي: للجنة؛ أي: لسكنى ما بقي منها، (خَلْقًا مِمَّا يَشَاءُ") مما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7153]

(2849) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ -وَتَقَارَبَا فِي اللَّفْظِ- قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ -زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ: فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَاتَّفَقَا فِي بَاقِي الْحَدِيثِ- فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ، وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ؛ فَيَشْرَئِبُّونَ، وَيَنْظُرُونَ،

(1)

"عمدة القاري" 25/ 91.

ص: 687

وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُذْبَحُ، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ، فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ، فَلَا مَوْتَ"، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39]، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقريبًا منه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجَاءُ بِالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ذكر مقاتل، والكلبيّ في "تفسيريهما" في قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] قال: خلق الموت في صورة كبش، لا يمرّ على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس، لا يمرّ على شيء إلا حيي. (كَأَنَّهُ كبْشٌ أَمْلَحُ) قال القرطبيّ: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا: الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفداء له، كما فُدي ولد إبراهيم بالكبش، وفي الأملح إشارة إلى صِفَتي أهل الجنة والنار؛ لأن الأملح: ما فيه بياض وسواد

(1)

.

وقال في "العمدة": الأملح: الذي فيه بياض كثير، وسواد. قاله الكسائيّ، وقال ابن الأعرابيّ: هو الأبيض الخالص، والحكمة في كونه على هيئة كبش أبيض؛ لأنه جاء أن ملك الموت أتى آدم عليه الصلاة والسلام في صورة كبش أملح، قد نشر من أجنحته أربعة آلاف جناح، والحكمة في كون الكبش أملح أبيض وأسود: أن البياض من جهة الجنة، والسواد من جهة النار، قاله عليّ بن حمزة. انتهى

(2)

.

(زَادَ أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء في روايته على رواية أبي بكر بن أبي شيبة: (فَيُوقَفُ) بالبناء للمفعول، من الوقوف، (بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ) وفي رواية الترمذيّ:"فيوقف على السور الذي بين الجنة والنار"، وقوله:(وَاتَّفَقَا)؛ أي:

(1)

"المفهم" 7/ 191.

(2)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاري" 27/ 491.

ص: 688

ابن أبي شيبة، وأبو كريب، (فِي بَاقِي الْحَدِيثِ) وهو قوله:(فَيُقَالُ)؛ أي: فينادي مناد، قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذا المنادي، وفي حديث ابن عمر الآتي:"ثم يقوم مؤذِّن بينهم".

ثم إن ظاهر حديث أبي سعيد أن الذبح يقع بعد النداء، وحديث ابن عمر الآتي يقتضي أن النداء بعد الذبح، ولا منافاة بينهما، فإن النداء الذي قبل الذبح للتنبيه على رؤية الكبش، والذي بعد الذبح للتنبيه على إعدامه، وأنه لا يعود، قاله في "الفتح"

(1)

.

(يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَشْرَئِبُّونَ) من الاشرئباب، يقال: اشرأبّ: إذا مدّ عنقه لينظر، وقال الأصمعيّ: إذا رفع رأسه، وقال في "الفتح" قوله:"فيشرئبون" بفتح أوله، وسكون الشين المعجمة، وفتح الراء، بعدها تحتانية مهموزة، ثم موحّدة ثقيلة؛ أي: يَمُدّون أعناقهم، ويرفعون رؤوسهم للنظر، (وَيَنْظُرُونَ) إليه (وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: وَيُقَالُ: يَا أَهْلَ النَّارِ، هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ قَالَ: فَيَشْرَئِبُّونَ)، أي: يمدون أعناقهم للنظر (وَيَنْظُرُونَ، وَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُذْبَحُ) بالبناء للمفعول في الفعلين، ووقع عند ابن ماجه، وفي "صحيح ابن حبان" من حديث أبي هريرة:"فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة، فيطّلعون خائفين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، ثم يقال: يا أهل النار، فيطّلعون فرحين مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه -وفي آخره-: ثم يقال للفريقين: كلاهما خلود، فيما تجدون لا موت فيه أبدًا". وفي رواية الترمذيّ: "فيقال لأهل الجنة، وأهل النار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: قد عرفناه هو الموت الذي وُكِّل بنا، فيُضجع، فيُذبح ذبحًا على السور".

[تنبيه]: قال في "الفتح": قوله: "ثُمّ يُذبح" لم يُسَمّ من ذبحه، ونقل القرطبيّ عن بعض الصوفية أن الذي يذبحه يحيى بن زكريا بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم إشارةً إلى دوام الحياة، وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشاميّ أحد الضعفاء في آخر حديث الصُّور الطويل، فقال فيه: "ويُجعل الموت في صورة كبش

(1)

"الفتح" 15/ 89.

ص: 689

أملح، فيَذبح جبريل الكبش، وهو الموت". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قول من قال: يذبحه يحيى بن زكريّا، مما ليس له دليل صحيح، وكذا قول من قال: إنه جبريل، لا دليل عليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ)؛ أي: لكم خلود دائم (فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ، فَلَا مَوْتَ"، قَالَ) أبو سعيد رضي الله عنه (ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:) قال في "الفتح": يستفاد من التصريح في هذه الرواية انتفاء الإدراج، وللترمذيّ من وجه آخر عن الأعمش في أول الحديث:"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] فقال: يؤتى بالموت. . . إلخ"

(2)

.

({وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)}) قال الإمام ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية: يقول تعالى ذِكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر يا محمد هؤلاء المشركين بالله يوم حَسْرتهم، ونَدَمهم على ما فرّطوا في جنب الله، وأُورثت مساكنهم من الجنة أهلَ الإيمان بالله، والطاعة له، وأدخلوهم مساكن أهل الإيمان بالله من النار، وأيقن الفريقان بالخلود الدائم، والحياة التي لا موت بعدها، فيا لها حسرة، وندامةً. انتهى

(3)

.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "تفسيره": ثم قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} ؛ أي: أنذر الخلائق يوم الحسرة، {إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ}؛ أي: فُصِل بين أهل الجنة، وأهل النار، وصار كلٌّ إلى ما صار إليه مخلّدًا فيه، {وَهُمْ}؛ أي: اليوم، {فِي غَفْلَةٍ} عما أُنذروا به يوم الحسرة، والندامة، {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لا يصدِّقون به، وقال: يومُ الحسرة من أسماء يوم القيامة، عظّمه الله، وحذّره عباده. انتهى

(4)

.

وقوله: (وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا) وفي رواية أحمد: "وأشار بيده، ثم قال: أهل الدنيا في غفلة الدنيا".

(1)

"الفتح" 15/ 89.

(2)

"الفتح" 10/ 347.

(3)

"تفسير الطبري" 16/ 87.

(4)

تفسير ابن كثير 3/ 123.

ص: 690

والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم أشار بيده الشريفة عند قوله عز وجل: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [لأنبياء: 1] إلى الدنيا؛ أي: أن غفلتهم كانت في هذه الدنيا، فإن الآخرة ليس دار غفلة، كما قال عز وجل قبل هذه الآية:{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)} [مريم: 38]، وقال:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} [ق: 22].

وعند الترمذيّ في آخره: "فلو أن أحدًا مات فرحًا لَمَات أهل الجنة، ولو أن أحدًا مات حزنًا لمات أهل النار"، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: ذكر في "علل الدارقطنيّ" الاختلاف في هذا الحديث، ونصّه:

(2328)

- وسئل -أي: الدارقطنيّ- عن حديث أبي صالح، عن أبي سعيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيُذبح، يقال: يا أهل الجنة، ويا أهل النار، خلود، ولا موت، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} الآية"، فقال: يرويه الأعمش، عن أبي صالح، واختُلف عنه، فرواه عليّ بن مسهر، والمسيّب بن شريك، وإسماعيل بن إبراهيم التيميّ، وأبو معاوية، وجرير، والثوريّ، ومحمد بن عبيد، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، وكذلك قال أبو بدر شجاع بن الوليد، عن الأعمش، غير أنه لم يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وخالفهم أسباط بن محمد، فرواه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، وكذلك رواه عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، والصحيح حديث أبي سعيد الخدريّ. انتهى كلام الدارقطنيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: خلاصة ما ذكره الدارقطنيّ رحمه الله في هذا الكلام أن الاختلاف في هذا الحديث، هل هو من مسند أبي سعيد الخدريّ، أم من مسند أبي هريرة رضي الله عنهما؟ وكذا بيّن الاختلاف في رَفْعه، ووَقْفه، وصحّح أنه من

(1)

"العلل الواردة في الأحاديث النبوية" 11/ 344 - 345.

ص: 691

مسند أبي سعيد رضي الله عنه، وأنه مرفوع؛ لأن جُلَّ الرواة عليه، وهو الذي ارتضاه مسلم، حيث أخرجه هنا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية):

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7153 و 7154](2849)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4730)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2558 و 3156)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 393)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 423 و 3/ 9)، و (هنّاد بن السريّ) في "الزهد"(213)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 401)، و (ابن جرير) في "التفسير"(16/ 87 - 88)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1175)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 286)، و (أبو نعيم) في "صفة الجنّة"(106)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 350)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(5/ 103)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان دوام سرور أهل الجنّة، ودوام حزن أهل النار، حيث يُذبح الموت، ويقال لهم:"خلود بلا موت".

2 -

(ومنها): بيان أن الموت يُصوّر بصورة كبش أملح، ثم يُذبح، وكلّ ذلك على ظاهره، ولا يُنكره من له غوص في معرفة نصوص الكتاب والسُّنَّة، وأما إنكار بعضهم له، أو استشكال الآخرين فلقصور أفهامهم.

قال القاضي أبو بكر ابن العربيّ: استُشكل هذا الحديث؛ لكونه يخالف صريح العقل؛ لأن الموت عَرَض، والعرض لا ينقلب جسمًا، فكيف يُذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث، ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا: هذا تمثيلٌ، ولا ذبح هناك حقيقةً، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه؛ لأنه الذي تولى قبض أرواحهم.

قال الحافظ: وارتضى هذا بعض المتأخرين، وحَمَل قوله:"هو الموت الذي وُكِّل بنا" على أن المراد به: ملك الموت؛ لأنه هو الذي وُكِّل بهم في الدنيا، كما قال تعالى في "سورة ألم السجدة". واستشهد له من حيث المعنى بأن ملك الموت لو استمرّ حيًّا، لنَغَّص عيش أهل الجنة، وأيده بقوله في حديث الباب:"فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنًا إلى حزنهم".

ص: 692

وتُعقِّب بأن الجنة لا حزن فيها البتة، وما وقع في رواية ابن حبان أنهم يطّلعون خائفين إنما هو توهّم لا يستقرّ، ولا يلزم من زيادة الفرح ثبوت الحزن، بل التعبير بالزيادة إشارة إلى أن الفرح لم يزل، كما أن أهل النار يزداد حزنهم، ولم يكن عندهم فرح إلا مجرد التوهم الذي لم يستقرّ.

قال الجامع عفا الله عنه: ثم استمرّ الحافظ في نقل هذا الأقوال الضعيفة، المخالفة لحديث الباب وغيره، والحقّ أن الحديث على ظاهره، لا يحتاج إلى التأويل، فالموت يُؤتى به، ويُذبح ذبحًا حقيقيًّا يراه كلا الفريقين، فالموت وإن كان عَرَضًا، فالله تعالى قادر على أن يحوّله جسمًا حيًّا، فقد ثبت في "صحيح مسلم" حديث:"أن البقرة وآل عمران يجيئان كأنهما غمامتان. . ." الحديث، ونحو ذلك من الأدلّة كثير، فلا تستغرب ذلك في قدرة الله تعالى، وكن قويّ الإيمان، صحيح العقيدة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

3 -

(ومنها): بيان عدم فناء الجنّة والنار؛ لقوله: "خلود ولا موت"، وغيره من نصوص الكتاب والسُّنَّة، قال القرطبيّ رحمه الله: وفي هذه الأحاديث التصريح بأن خلود أهل النار فيها لا إلى غاية أمد، وإقامتهم فيها على الدوام بلا موت، ولا حياة نافعة، ولا راحة، كما قال تعالى:{لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36]، وقال تعالى:{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)} [الحج: 22]، قال: فمن زعم أنهم يخرجون منها، وأنها تبقى خالية، أو أنها تفنى، وتزول، فهو خارج عن مقتضى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه أهل السُّنَّة.

قال الحافظ: جَمَع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال:

أحدها: هذا الذي نُقل فيه الإجماع.

والثاني: يعذَّبون فيها إلى أن تنقلب طبيعتهم، فتصير نارية، حتى يتلذذوا بها لموافقة طبعهم، وهذا قول بعض من يُنسب إلى التصوف من الزنادقة.

والثالث: يدخلها قوم، ويخلفهم آخرون، كما ثبت في "الصحيح" عن اليهود، وقد أكذبهم الله تعالى بقوله:{وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167].

والرابع: يخرجون منها، وتستمر هي على حالها.

والخامس: تفنى؛ لأنها حادثة، وكل حادث يفنى، وهو قول الجهمية.

ص: 693

والسادس: تفنى حركاتهم البتة، وهو قول أبي الهذيل العلاف من المعتزلة.

والسابع: يزول عذابها، ويخرج أهلها منها، جاء ذلك عن بعض الصحابة، أخرجه عبد بن حميد في "تفسيره" من رواية الحسن، عن عمر قوله، وهو منقطع، ولفظه:"لو لَبِث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه"، وعن ابن مسعود:"ليأتينّ عليها زمان ليس فيها أحد"، قال عبيد الله بن معاذ راويه: كان أصحابنا يقولون: يعني به: الموحدين، قال الحافظ: وهذا الأثر عن عمر لو ثبت حُمل على الموحدين، وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول السابع، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء، مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه، فأجاد. انتهى كلام الحافظ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: أراد ببعض المتأخرين الذي ردّ عليه السبكيّ: ابنَ تيميّة، وتلميذه ابن القيّم، وسيأتي في المسألة التالية ذكر رسالة للعلامة الصنعانيّ ردًّا عليهما، وبالله تعالى التوفيق.

(المسألة الرابعة): في ذكر رسالة للعلامة الأمير محمد بن إسماعيل الصنعانيّ رحمه الله بعنوان: "رفع الأستار لإبطال أدلّة القائلين بفناء النار" أحببت إيرادها بنصّها حفظًا لها من الضياع، وليعمّ نفعها كلّ البقاع

(1)

.

قال رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ليس سواه واجب الوجود الذي وعد الذين سُعدوا بدوام النعيم في جنات الخلود، وتوعّد الذي شَقُوا بالأبدية في النار ذات الوَقُود، وأخبر أنه مبدلهم جلودًا ليذوقوا العذاب كلما نضجت منهم الجلود، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تُدافع عن قائلها إذا كانت الأعضاء هي الشهود، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب المقام المحمود، في يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود، صلى الله عليه وعلى آله الرُّكَّع السُّجُود.

(1)

مع كتابة معظم تحقيقات الشيخ الألبانيّ رحمه الله وتخريجاته تكميلًا للفوائد.

ص: 694

وبعد: فإن السائل -أدام الله له التوفيق، وسلك لنا وبه مناهج ذوي التحقيق- طلب كشف الأستار، عن وجه مسألة فناء النار، ودخول المشركين من أهلها مداخل الأبرار، وهذه المسألة من غرائب المسائل، ومما خلت عنها أسفار المقالات الحوافل، وأشار إليها السيد الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله في "الإيثار"

(1)

وقال:

(وقد أُفردت في هذه المسألة مصنفات حافلة منها لابن تيمية، ومنها لتلميذه شمس الدين، ومنها للذهبي، ومنها لي) هذا لفظه.

ولم أقف على غير ما في "حادي الأرواح" ولعل الله سبحانه يعين بالوقوف على مؤلف الذهبي والسيد محمد بمنّه وفضله.

وحيث استكشف السائل عن حقيقتها، وما عليها من الدلائل تعيَّن علينا أن نكشف عن وجوه أدلتها النقاب، ونُبرز المطوي تحت لثامها بعيون أذهان أولي الألباب، ونستوفي فيها المقال، وإن خرجنا عن الإيجاز إلى الإطناب والإسهاب؛ لأنه عَزّ وجود ما أُلّف فيها فيحال عليه، ولا أعرف فيها منازعًا لمدّعيها، فأُرشد إليه.

وليعتذر

(2)

السائل عن تأخر الجواب، فإنه لم يكن استخفافًا بالسائل، ولا تحقيرًا للمسائل، بل لِمَا يتواثب على القلوب من الاشتغال، ولم يزل التسويف حتى تقضّت أيام وليال، فنقول:

(اعلم): أن هذه المسألة أشار إليها الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب"، ولم يتكلم عليها بدليل نفي ولا إثبات، ولا نَسَبها إلى قائل معيَّن، ولكنه استوفى المقال فيها العلامة ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح إلى ديار

(3)

الأفراح"، نقلًا عن شيخه العلامة شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية، فإنه

(1)

يعني: كتابه (إيثار الحق على الخلق)(ص 219 - طبعة الآداب والمؤيد).

(2)

كذا الأصل ولعل الصواب: (ولنعتذر السائل) كما يدل عليه السياق.

(3)

الذي في طرة الكتاب: "بلاد". قال الشيخ الألباني رحمه الله: عزو المؤلف الاستيفاء لابن القيّم مسلَّم، وأما قوله: نقلًا عن شيخه ابن تيميّة فغير مسلَّم؛ لأن الكثير منه بل غالبه لم يعزه لابن تيميّة. انتهى.

ص: 695

حامل لوائها ومُشيد بنائها وحاشد خيل الأدلة منها ورَجلها ودقّها وجلّها وكثيرها وقليلها

(1)

، وأقر كلامه تلميذه ابن القيم وقال في آخرها:(إنها مسألة أكبر من الدنيا وما فيها بأضعاف مضاعفة). هذا كلامه في آخر المسألة في "حادي الأرواح"، وإن كان في "الهدي النبوي" أشار إشارة محتملة لخلاف ذلك حيث قال:

(ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهّر النار خبثه، بل لو أخرج منها عاد خبيثًا، وكما كان كالكلب إذا دخل البحر، ثم خرج منه، وقد حرَّم الله عليه الجنة). انتهى كلامه

(2)

.

قلت: وحيث كانت بهذه المثابة التي ذكرها من أنها أكبر من الدنيا، فلا غنى لنا عن نقل أدلتها التي ارتضاها ابن تيمية، وتعقُّب كل دليل بما يفتح الله به من إقراره، أو بيان اختلاله، فنقول:

قال ابن القيم بعد نقله لأقوال الناس والمعروفة في كتب المقالات:

(السابع: قول من يقول: بل يفنيها -أي: النار- خالقها تبارك وتعالى، فإنه جعل لها أمدًا تنتهي إليه، ثم تفنى، ويزول عذابها).

يريد: ويُدخل الله من كان فيها من الكفار الجنة، -كما ستعرفه من الأدلة التي ذكرنا- ثم قال:

قال شيخ الإسلام -يريد به شيخه أبا العباس ابن تيمية-: وقد نُقل هذا القول عن عمر، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وغيرهم.

ثم ساق بسنده إلى الحسن البصري أنه قال: قال عمر: "لو لبث أهل النار كقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه"، وفي رواية:"عدد رمل عالج"

(3)

.

(1)

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: ابن القيّم بهذا الوصف أَولى من شيخه ابن تيميّة.

(2)

يعني: ابن القيم في "الهدي النبوي" وهو المشهور بـ"زاد المعاد في هدي خير العباد"، ذكر ذلك في آخر مقدمته الرائعة. وفي كلامه إشارة إلى قوله تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

(3)

قال الشيخ الألباني: إسناده ضعيف؛ لانقطاعه كما سيبيّنه المؤلف رحمه الله قريبًا.

ص: 696

قال ابن تيمية: (والحسن وإن لم يسمع من عمر، فلو لم يصح عنده عن عمر لم يجزم به). انتهى كلامه.

وأقول فيه شيئان:

الأول: من حيث الرواية فإنه منقطع؛ لنص شيخ الإسلام بأنه لم يسمعه الحسن من عمر، واعتذاره بأنه لو لم يصح للحسن عن عمر لَمَا جزم به: يلزم أن يجري في كل مقطوع يجزم به راويه، ولا يقول هذا أئمة الحديث كما عرفت في قواعد أصول الحديث، بل الانقطاع عندهم علة، والجزم معه تدليس، وهو علة أخرى، ولا يقوم بمثل ذلك الاستدلال في مسألة فرعية، كيف في مسألة قيل: إنها أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة، وهذا البخاري أمير المؤمنين في علم الحديث، وأشدهم تحريًا في الصحيح لم يقل النقادون بأن تعاليقه المجزومة التي أودعها في كتابه الذي سماه "الصحيح" صحيحة، بل فيها الضعيف، كما نص عليه ابن حجر في مقدمة "الفتح".

والحسن البصري معروف عند أئمة هذا الشأن بأنه لا يؤخذ بمراسيله. قال الدارقطني في "السنن": وقد روى عاصم الأحول، عن ابن سيرين، وكان عالمًا بأبي العالية، وبالحسن، قال:(لا تأخذوا بمراسيل الحسن، ولا أبي العالية، فإنهما لا يباليان عمن أخذا عنه). انتهى.

قلت: ثم قال ابن تيمية: ولو كان كلام عمر هذا غير صحيح لَمَا تداولته الأئمة، ولوجب إنكارهم له؛ لمخالفته الإجماع، والكتاب، والسُّنَّة.

قلت: يقال: كلام عمر كغيره من الأقوال الدالة على خروج الموحدين من النار، وهو قول عليه جماهير الأئمة، منهم ابن تيمية، وستعرف أنه لا يصح أثر عمر إلا على تقدير أنه أراد به الموحدين، وأنه يتعيَّن حَمْله على ذلك عند شيخ الإسلام نفسه، وعند غيره.

والثاني: من حيث الدرايةُ، فإنه لو ثبت صحته عن عمر لم يدل على المدعى، فإن أصل المدعى هو فناء النار، وأن لها مدة تنتهي إليها، وليس في أثر عمر هذا، إلا أنه يخرج أهل النار من النار، والخروج لا يكون إلا وهي باقية، فإنك لو قلت: لو لبث زيد في الدار كذا وكذا، ثم خرج منها، لم يدل هذا على فناء الدار، لا مطابقة، ولا تضمّنًا، ولا التزامًا.

ص: 697

فإن قيل: بل هو يدل على فنائها التزامًا؛ لأنه تعالى إنما خلقها ليعذب بها من عصاه، فبعد خروجهم لم يبق لها حاجة، فالحكمة تقتضي فناءها.

قلت: هذا دور، فإنه لا يثبت أن الحكمة يقتضي فناءها إلا إذا لم يبق فيها أحد، ولا يخرج أحد من أهلها إلا بعد فنائها، كما تسمع تصريح ابن تيمية بذلك حيث قال:

(وأما كون الكفار لا يخرجون منها، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يقضَى عليهم فيموتوا، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فلم يختلف في ذلك الصحابة، ولا التابعون، ولا أهل السُّنَّة، وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية، ولا يخرجون منها مع بقائها البتة)، هذا لفظه.

وإذا عرفت مراده عرفت أن أثر عمر لا يدل على مدّعاه بشيء من الدلالات الثابتة، فإنه قال:(أنهم يخرجون منها) وهذا واضح في الخروج منها، وهي باقية، فلا بد من حَمْل أثره على معنى صحيح؛ إذ لا يصح حَمْله على خروج الكفار عند أحد، لا ابن تيمية، كما عرفت ولا غيره، فإنه لا يقول أحد بخروج الكفار من النار، فإن صح أثر عمر حُمل على أنه أراد خروج الموحدين الذين استحقوا دخول النار بذنوبهم، كما دلت عليه الأدلة المعروفة الصحيحة الصريحة التي لا مرية في صحتها.

إلا أن ابن تيمية منع من حمل كلام عمر على ذلك وقال:

(إنما أراد عمر بأهل النار: الذين هم أهلها (وهم الكفار): وأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها ولا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبًا منه).

فأقول: ولا يخفى ضَعف هذا الردّ؛ لأن كونهم قد علموا ذلك لا يمنع أن يؤدّوه لمن لا يعلمه، ويُخبروا أنه اعتقادهم، وقد عُلم في فن البيان: أن الإخبار يكون بفائدة الحكم، أو لازمها، فعِلم السامعين بالحكم لا يمنع عن التكلم به، وإلقائه إليهم، وأما كون عصاة الموحدين لا يلبثون قدر رمل عالج، ولا قريبًا منه فمسلَّم، ولم يقل عمر: إنهم يلبثون قدر رمل عالج، بل أتى بقضية شرطية، فقال:(لو لبث)؛ أي: أنه لو طال لُبثهم ذلك القدر لخرجوا،

ص: 698

ولا دليل في كلامه أنهم يلبثون ذلك القدر، فعرفت أيضًا

(1)

غير مانع عن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين، مع أنه لا يصح حمله على الكفار؛ لأنهم يلبثون أكثر من عدد رمل عالج، فقد أخرج الطبراني في (الكبير) من حديث ابن مسعود مرفوعًا:

(لو قيل لأهل النار إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا. . .) الحديث

(2)

.

ومما سمعت تعيّن حمل أثر عمر على عصاة الموحدين عند شيخ الإسلام، وعند جميع علماء الأنام.

وإذا عرفت هذا طال تعجبك من نسبة ابن تيمية القول بفناء النار إلى عمر، واستدلاله لذلك بهذا الأثر المنقطع، روايةً الذي هو بمراحل عن الدلالة من حيث الدراية.

[تنبيه]: وأما مدة لبث عصاة الموحدين فإنها مختلفة، فقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن شاهين، في (السُّنَّة) من حديث عليّ يرفعه:"إن أصحاب الكبائر من موحّدي الأمم كلها: الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين. (وفيه): أن منهم من يمكث شهرًا، ثم يخرج منها، ومنهم من يمكث سنة، ثم يخرج منها، وأطولهم فيها مكثًا بقدر الدنيا، منذ خلقت إلى أن تفنى".

ومثله [ما] أخرج الحكيم في "نوادر الأصول" ولفظه: "وأطولهم فيها مكثًا مِثل الدنيا منذ خلقت إلى أن فنيت، وذلك سبعة آلاف سنة"

(3)

.

ثم قال شيخ الإسلام مستدلًّا على فناء النار بما رواه عليّ بن أبي طلحة في "تفسيره" عن ابن عباس أنه قال: " (لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا")

(4)

.

وأقول: لا يخفى على ناظر أنه لا دلالة في هذا الأثر ولا رائحة دلالة على المدعى من فناء النار، بل غاية ما يفيده الإخبار عن أنه لا يُجزَم للمؤمن

(1)

هنا في الأصل خرم قدر لفظة، ولعلها "أنه"، أو نحوه.

(2)

قال الشيخ الألباني: موضوع.

(3)

ضعيف.

(4)

أثر منقطع.

ص: 699

أنه من أهل الجنة، ولا العاص من عصاة المؤمنين، أنه من أهل النار، وهذا المعنى ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة.

فقد أخرج الترمذيّ

(1)

من حديث أنس أنه توفي رجل، فقال رجل آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع: أبْشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما يدريك؟ لعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه"، بل ورد في الطفل الذي لا تكليف عليه نحو ذلك

(2)

.

وقد صرح ابن القيم في آخر كتابه "حادي الأرواح" في الباب السبعون فيما زعم أنه عقيدة أهل السُّنَّة، وعقيدة الصحابة، وأهل العلم، وأصحاب الأثر، بأنه لا يُشهد لأحد من أهل القبلة أنه من أهل النار لذنب عمله، ولا لكبيرة أتاها، إلا أن يكون ذلك في حديث، وأن لا يُشهد لأحد أنه في الجنة بصالح عمله، إلا أن يكون ذلك في حديث. انتهى

(3)

.

فهذا هو الذي أراده ابن عباس، ولو لم يُحمل كلام ابن عباس على هذا لكان مقتضاه بأنه لا يُحكم بأن أهل الشرك يدخلون النار، ولا بأن أهل التوحيد يدخلون الجنة؛ إذ الإنزال هو الدخول، وهذا ردّ لصريح القرآن، وإثبات لقول لم يقله أحد من أهل الإيمان، لا شيخ الإسلام، ولا سائر علماء الأنام.

(1)

في "الزهد"(2317) من طريق الأعمش عن أنس به وقال: "حديث غريب". قلت: يعني: ضعيف، وذلك لأن الأعمش لم يسمع من أنس. لكنه يتقوى فإن له شاهدًا من حديث أبي هريرة مرفوعًا. رواه أبو يعلى والبيهقي، وسكت عنه المنذري. ووقع في الأصل:"يعنيه" مكان "ينقصه"، وشاهد آخر عن كعب بن عجرة رواه ابن عساكر كما في "كنز العمال"(3522). الألبانيّ.

(2)

(26) لعله يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال: "أو غير ذلك يا عائشة: إن الله خلق للجنة أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلًا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم". رواه مسلم 8/ 55. الألبانيّ.

(3)

"الحادي" 2/ 261.

ص: 700

ثم إن حكمنا بأن الفجار في النار، والأبرار في جنات تجري من تحتها الأنهار، ليس حكمًا منّا، بل الله تعالى هو الذي حَكَم بذلك، وأخبرنا به، فالعجب كله في الاستدلال على فناء النار بهذا الأثر الذي لا يقول: إنه يدل على ذلك أحد من النظّار، وظهور عدم دلالته عليه كالشمس في رابعة النهار، وتبيَّن أن مراده: لا يُحكم على معيَّن أنه من أهل الجنة، ولا أنه من أهل النار، وكأنه يريد غير من حَكَم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عليه بأحد الدارين؛ كإخباره صلى الله عليه وسلم أن العشرة من الصحابة من أهل الجنة، وكإخبار الله أن أبا لهب {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)} ، ولو فرض دلالته على مدعاه، فإنه معارض لِمَا أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس أنه قال: هاتان من المخبآت، قول الله تعالى:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105]

(1)

، وقوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا} [المائدة: 109]، فأما قوله:{فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} فهم قوم من أهل الكبائر من أهل القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم، ثم يأذن بالشفاعة، فيشفع لهم المؤمنون، فيُخرجهم من النار، فيُدخلهم الجنة، فسمَّاهم أشقياء حين عذَّبهم بالنار. انتهى.

فهذه الرواية كما تراها صراحةً وكثرةَ تخريج

(2)

دالة على أنه كغيره من

(1)

وتمامها مع الثلاث بعدها: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)} [هود: 105 - 108].

(2)

قال الشيخ الألباني رحمه الله: قلت: هذه الكثرة ليس معها كبير فائدة في كثير من الأحياء؛ لأنه قد يكون مدار كل الطرق المخرجة على راو واحد، فيكون غير ثقة كما يتبين لك ذلك واضحًا من كتب التخريجات، وبخاصة كتابي "سلسلة الأحاديث الضعيفة"، فراجعه إن شئت. أقول هذا؛ لأنني لم أقف على إسناد هذا الأثر عند مخرجيه الثلاثة؛ لأن كتبهم وهي في التفسير المأثور غير معروفة اليوم، إلا بعض المجلدات من تفسير ابن أبي حاتم، فإني كنت وقفت عليها في المكتبة المحمودية في المدينة المنورة، منذ نحو عشرين سنة ثم صوّرتها الجامعة الإسلامية فيها =

ص: 701

الجماهير القائلين بخروج الموحدين من النار، ولا قول له بفناء النار، فإنه وجّه الاستثناء إلى الموحدين في قوله تعالى:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107].

وابن تيمية يقول: إنه عائد إلى فناء النار أيضًا كما ستسمعه عند التكلم على الآية، وظاهر نَقْل ابن تيمية لأثر ابن عباس أنه قائل بفناء النار.

قال شيخ الإسلام: وأما أثر ابن مسعود فإنه ذُكر عند البغوي أنه قال: "ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد"، ثم قال: وعن أبي هريرة مثله.

وأقول: هذان الأثران بهما متمسَّك ابن تيمية في جعل القول بفناء النار قولًا لابن مسعود، وأبي هريرة، كما سيرويهما في صدر الاستدلال، وهذان الأثران ذكرهما البغويّ في تفسير "سورة هود" في قوله تعالى:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ثم قال البغويّ عقب ذكرهما ما لفظه:

ومعناه عند أهل السُّنَّة -إن ثبت-: أنه لا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان، وأما مواضع الكفار فممتلئة أبدًا، هذا لفظه

(1)

.

فشكك في الرواية أولًا، ثم أبان أنها إن ثبتت فهي عند أهل السُّنَّة في عصاة من الموحدين.

= منذ بضع سنين ولا تَطُولها يدي؛ الآن لأني أكتب هذا وأنا في بيروت 12/ 11/ 1401 هـ.

(1)

قال الشيخ الألباني رحمه الله: (32) تفسير البغوي (4/ 398 - منار) ونقله عنه في (الحادي) دون قوله: (وأما مواضع. . . .). ثم إن البغوي علّقهما ولم يَسُق إسنادهما. وقد كنت وقفت على إسناد أثر أبي هريرة بواسطة ابن القيم، فإنه ذكره في (الحادىِ) من رواية إسحاق بن راهويه بسنده عن أبي زرعة عنه قال:(ما أنا بالذي لا أقول: بأنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيه أحد وقرأ قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)} الآية). قال عبيد الله (ابن معاذ شيخ إسحاق): كان أصحابنا يقولون: يعني به: الموحدين. وسنده صحيح، فالتشكيك في ثبوته كما تقدم عن البغوي مردود إن أقره المصنف ومعناه: جزمًا كما قال هو. وأما أثر ابن مسعود فلم أقف على إسناده. نعم قد رواه ابن جرير: (18580) حدثت عن المسيب عن ذكره عن ابن عباس (فذكر أثرًا له) قال: وقال ابن مسعود. . . فذكره. وهذا إسناد مظلم كما ترى.

ص: 702

ثم نقول بعد ثبوت هذين الأثرين عن هذين الصحابيين: لا دلالة فيهما على فناء النار الذي هو محل النزاع بوجه من الوجوه، فإن قوله:"ليس فيها أحد" دال على بقائها، فإنك إذا قلت: ليس في الدار أحد، فإنه دال على بقاء الدار، لا على فنائها، ثم عرفت قول البغويّ: إن أهل السُّنَّة حملوه على خروج الموحدين من النار، وهذا الحمل متعيّن عند ابن تيمية بخصوصه، وعند جميع من عداه، أما عنده فإنه لا يقول بخروج الكفار من النار، بل يقول: بعد فنائها وذهابها، لا يُتصور فيها بقاء الكفار، وهذان الأثران حاكمان بخروج من فيها، وليس إلا عصاة الموحدين، أما عند غيره من أهل السُّنَّة فالأمر واضح في أن الأثرين ليسا إلا في خروج الموحدين.

ولفظ أثر ابن مسعود وإن كان عامًّا، فإنه نكرة في سياق النفي، إلا أنه معلوم تخصيصه بالأدلة الدالة على أن الكفار ليسوا منها بمخرجين

(1)

، عند ابن تيمية وغيره، كما عرفت.

وبهذا تعرف أنه لا يصح نسبة القول بفناء النار وذهابها إلى ابن مسعود وأبي هريرة، كما نُسب هذا القول الذي نُقل عنهما إلى عمر

(2)

، بل هو الدليل

(3)

على بقاء النار بعد خروج من يخرج منها من أهل التوحيد، فكيف يقول شيخ الإسلام في صدر المسألة: إن القول بفناء النار نُقل عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وإنما مستنَده في نسبة ذلك إليهما هذان الأثران اللذان هما بمراحل عن الدلالة على فناء النار، وذهابها بعد صحتهما.

فعرفت بطلان نسبة هذا القول إلى ابن مسعود وأبي هريرة، كما عرفت بطلان نِسبته إلى عمر.

(1)

قال الشيخ الألباني: (33) قلت: لعل الأَولى أن يقال: (بخارجين) اتباعًا للقرآن، فإن هذا اللفظ هو الذي جاء فيه بحق الكفار بخلاف لفظ الكتاب (بمخرجين)، فإن فيه في حق أهل الجنة. ولعدم الانتباه لهذا التبس الأمر على المؤلف، تبعًا لابن القيم فأورد آية أهل الجنة:"وما هم منها بمخرجين" في جملة الآيات الواردة في أهل النار، كما سيأتي التنبيه على ذلك في الدليل الثاني للقائلين بعدم فناء النار ص 117.

(2)

سقطت من الأصل، والسياق يقتضي إثباتها.

(3)

لعل الصواب: بل هو دليل.

ص: 703

وأما قول شيخ الإسلام في صدر المسألة: إن أبا سعيد الخدريّ نُقل عنه القول بفناء النار، فإنه استدلّ

(1)

لذلك بأنه قال أبو نضرة عن أبي سعيد، أو قال جابر، أو بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتت هذه الآية على القرآن كله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} "[هود: 107].

وأقول: أولًا هذا الأثر نسبه الحافظ السيوطيّ في "الدر المنثور" إلى تخريج عبد الرزاق، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، والطبرانيّ، والبيهقيّ في "الأسماء والصفات"، ولفظه عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد، أو رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، قال: هذه الآية قاضية على القرآن كله، يقول: حيث كان في القرآن: {خَالِدِينَ فِيهَا} تأتي عليه. انتهى

(2)

.

وقد نقل ابن تيمية هذه الرواية أيضًا، ونسبها إلى تخريج ابن جرير أيضًا ولا يخفى:

أولًا: أنه شك أبو نضرة في قائل هذا القول، وردده بين ثلاثة: معلومين، ومجهول، وهذا الشك، وإن كان انتقالًا من ثقة إلى ثقة على رأي من يقول: كل الصحابة عدول غير ضائر في الرواية، إلا أنه لا يصح معه الجزم بنسبة القول بفناء النار إلى أبي سعيد؛ حيث إن مستند القول به هو هذا الأثر؛ لأن هذا أثر لم يتم الجزم به في رواية أنه لأبي سعيد، فكيف يجزم بنسبة هذا المدلول؛ أعني: القول بفناء النار وذهابها إلى أبي سعيد، كما فعله شيخ الإسلام، ولم يثبت عنه الدليل؟!.

(1)

إنما استدل به ابن القيم 2/ 176 - 178، ولم يصرح بعزوه لابن تيمية، ولا جاء ذِكره في المخطوطة. الألباني.

(2)

3/ 350، وهو عند ابن جريج في "التفسير" برقم (18579)، وإسناده صحيح موقوف، والتردد الذي فيه لا يضر، لأنه انتقال من ثقة إلى ثقة، والصحابة كلهم عدول حتى من لم يُسمَّ منهم؛ كما ذكر المصنف وتراه مفصلًا في كتب المصطلح. والأثر في "الحادي" 2/ 176 - 177 و 178 من رواية إسحاق بن راهويه وابن جرير، وإنما نَسَبه إليه ابن القيم وليس ابن تيمية، كما ادعى المصنف بناء على ما جرى عليه من عزو كل دليل ذَكره ابن القيم إليه.

ص: 704

وثانيًا: وهو على تقدير ثبوته عنه، فإنه لا دلالة فيه على مدّعاه، وهو فناء النار، ولا رائحة دلالة، بل غاية ما فيه أن كل وعيد في القرآن ذُكر فيه الخلود لأهل النار، فإن آية الاستثناء حاكمة عليه، وهي عبارة مجملة، لا تدل على المدعى بنوع من الدلالات الثلاث

(1)

.

بل يَحْتَمِل أنه أراد أنها فسرت بآيات الخلود التي وردت في القرآن في خلود أهل النار، كما أخرجه البيهقيّ في "البعث والنشور" عن ابن عباس في قوله تعالى:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]. قال: فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار، وهؤلاء في الجنة. انتهى.

فنقول: من قال من الصحابة: هذه الآية أتت على القرآن كله حيث كان في القرآن: {خَالِدِينَ فِيهَا} تفسير [5 في رواية] ابن عباس هذه، ثم هب أن معناه ما قاله ابن تيمية، وأن آية {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} قيّدت كل آية فيها {خَالِدِينَ فِيهَا} إلا ما شاء ربك، إن ربك فعال لما يريد فغاية ذلك

(2)

أن تصير كل آية خلود مثل آية (هود)، وآية (هود) لا تدل على مدّعاه كما ستعرفه قريبًا من تحقيق آية المشيئة، وما قيل فيها من الأقوال الصحيحة والسقيمة والمطّرحة والقويمة.

وإذا عرفت هذا فيا لله العجب كيف يَنسب شيخ الإسلام إلى أبي سعيد القول بفناء النار بلفظ لم يتحقق صدوره عنه؟ ولو تحقق صدوره عنه لم يدل على مدعاه، فما هذا إلا مجازفة، ولا يليق ممن دون ابن تيمية تحقيقًا وورعًا في نسبة الأقوال، وتحرير الاستدلال.

هذا وبعد تحقيقك لِمَا أسلفناه، وإحاطتك علمًا بما سقناه، تعلم أن هؤلاء الأربعة من الصحابة الذين هم: عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة، وأبو سعيد، الذين عيَّن شيخ الإسلام أسماءهم من الصحابة في صدر المسألة، وذكر

(1)

وهي: المطابقة والتضمن والالتزام كما تقدم ص 67.

(2)

كذا الأصل، ولعل صواب العبارة:"وأن آية: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] قيدت كل آية فيها {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] فغاية. . ." كما يدل عليه السياق.

ص: 705

أنه نُقل عنهم القول بفناء النار، وذهابها، وتلاشيها، هم بريئون من هذا القول، ومن نِسبته فناءَ النار إليهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب، واستَدَلّ لهم بما ادعاه منسوبًا إليهم بما لا مساس له بالدعوى، كما عرفت.

وحينئذ يُعلم أنه ليس معه في دعواه فناء النار أحد من الصحابة الذين عيَّنهم، وإن كانت عنده أدلة يصح نسبة هذا القول إليهم غير ما ذكره من الآيات، فهذا وقتها، فإنه قد بذل كل وسعه في هذه المسألة، فقال شيخ الإسلام بعد سرده للأربعة المذكورين من الصحابة:

والقول بفناء النار نُقل عن غير هؤلاء الأربعة من الصحابة، ويريد بغيرهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه نقل ابن تيمية عنه القول بفناء النار، مستدلًّا على أصل مدعاه أنه قال:"ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقابا"

(1)

.

وأقول: هذا الأثر لا دلالة فيه على مدعى ابن تيمية؛ لأنه لا يقول: إن جهنم تخلو عن الكفار ما دامت باقية، إنما يقول: إذا فنيت، وذهبت، لم يبق فيها كافر، وهذا الأثر ينادي بخلودها، وهي باقية على حالها، والقول بأنه سمّاها جهنم باعتبار ما كانت عليه رجوع إلى المجاز في مسألة هي أكثر من الدنيا بأضعاف مضاعفة، فكلام ابن عمرو هذا محمول على ما حُمل عليه كلام عمر بن الخطاب وغيره من الآثار، في أن مراده خروج الموحدين، وقد قال عبيد الله

(2)

بن معاذ في أثر ابن عمرو وأبي هريرة: كان أصحابنا يقولون: يعني: من الموحدين.

قلت: ويدل له ما قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف": إن أثر ابن عمرو أخرجه البزار، ثم ساقه بسنده إلى ابن عمرو، ولفظه في

(1)

انظر: "الحادي" 2/ 177، وما تقدم نقله عنه ص 64، وهذا الأثر عن ابن عمرو ضعيف الإسناد كما يأتي بيانه قريبًا، ولم يرد هذا الأثر في المخطوطة ولا الاستدلال به، وإنما هو لابن القيم. الألبانيّ.

(2)

في الأصل "عبد الله" مكبرًا، وهو خطأ من الناسخ.

ص: 706

آخره: "يعني: من الموحدين". قال الحافظ: كذا فيه، ورجاله

(1)

ثقات، والتفسير لا أدري لمن هو

(2)

. ثم قال:

(ويؤيده ما رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا: "ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها، وما فيها من أمة محمد أحد"

(3)

. وفي الباب عن أبي أمامة رفعه: "يأتي على جهنم يوم ما فيها من بني آدم أحد تخفق فيه أبوابها؛ يعني: من الموحدين". انتهى)

(4)

.

فعرفت أن حديث ابن عمرو في الموحدين، وقول الحافظ:"لا يدرى لمن التفسير" يريد قوله: "يعني: من الموحدين"، يقال عليه: الأصل أنه من كلام ابن عمرو، ثم إنه لا بد من حَمْل كلامه المطلق على هذا التفسير عند ابن

(1)

الأصل: "كذا في رجاله" والتصحيح من "تخريج الكشاف" لابن حجر. وفي إطلاقه التوثيق نَظَر، فإن منهم أبا بلج واسمه يحيى بن سليم أو ابن أبي سليم، فإنه وإن كان ثقة ففيه ضَعْف، ولذلك استنكر له الذهبي هذا الأثر وعدّه من بلاياه، كما كنت ذكرت في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" 2/ 72، والحافظ نفسه قال فيه في "التقريب":"صدوق ربما أخطأ". ثم إن هذا قد عزاه ابن حجر الهيتمي في "الزواجر" 1/ 34 لأحمد وما أظنه إلا وهمًا، وزعم أن في سنده من قالوا فيه أنه غير ثقة وصاحب أكاذيب كثيرة عظيمة. الألباني رحمه الله.

(2)

قلت: كنت استظهرت أنه للحافظ البزار، لعدم وروده في رواية الفسوي المخرجة في "الضعيفة"(607)، لكن يعكر عليه ما ذكره المؤلف رحمه الله عن عبيد الله بن معاذ، فهو صريح في أنه لأصحابه وهو من رواية إسحاق بن راهويه عقب أثر ابن عمر هذا وأبي هريرة المتقدم ص 75، فلا التفات بعد هذا إلى الأصل الذي تمسك به المؤلف هنا، ولا إلى الحديث المرفوع لِمَا عرفت أنه موضوع. الألباني رحمه الله.

(3)

(44) قلت: هذا حديث موضوع، فيه العلاء بن زيدل كان يضع الحديث وهو مخرج في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" رقم (606) فالعجب من المصنف كيف سكت عنه؟ بل هو يُحتج به كما يأتي عنه قريبًا، ولعله قلّد في ذلك الحافظ ابن حجر، فإنه سكت عنه في "تخريج الكشاف"، وتبعه المناوي كما كنت بيّنته هناك. الألبانيّ رحمه الله.

(4)

قلت: يعني: كلام الحافظ. وهذا الحديث موضوع أيضًا، فيه جعفر بن الزبير وهو وضاع أيضًا، ولذا خرَّجت حديثه هذا عقب الحديث الذي قبله. الألباني رحمه الله.

ص: 707

تيمية وغيره، ثم هَبْ أنها لم تثبت تلك الزيادة فيه فالحديث المرفوع مقدم عليه، وهو حديث أنس.

وبعد هذا تعرف أنه لا دليل له في أثر ابن عمرو على أصل المدعي.

هذا: وأما صاحب "الكشاف"

(1)

، فإنه لما كان وعيدي الاعتقاد قائلًا: بأنه لا يخرج من النار من دخلها من عصاة الموحدين، وأهل الإلحاد سلك في أثر ابن عمرو مسلكًا آخر، فإنه لمّا ذكره قال: وأقول: أما كان لابن عمرو في بغيه بيده ولسانه، ومقاتلته بها عليّ بن أبي طالب ما شغله عن تسيير هذا الحديث. انتهى.

كأنه يشير إلى القدح في أثر ابن عمرو ببغيه على أمير المؤمنين رضي الله عنه.

وقد تعقبه في "الكشف"

(2)

فقال: لا يلتفت هذا عن المصنف وإيثاره طريقة إقدام المعتزلة من نِسبته وضع الحديث إليه تلويحًا ونسبة مقاتلته أمير المؤمنين عليًّا بالنص فإن هذا من جلة الصحابة. انتهى.

قلت: أما نسبة الوضع إليه فما

(3)

يظهر من كلام ("الكشاف")

(4)

، نعم البغاة مقبولة روايتهم عند المعتزلة كما عرفت من الأصول.

(1)

هو الإمام المفسر المعتزلي المشهور محمود بن عمر الخوارزمي المتوفى سنة (538) وكتابه: "الكشاف عن حقائق التنزيل" أشهر من أن يُذكر، وقد اعتنى به العلماء من بعده شرحًا واختصارًا ونقدًا وتجريحًا؛ كما تراه مبينًا في "كشف الظنون". وهو محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة في إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن. وغير ذلك من أصول المعتزلة.

(2)

لم أقف عليه، ولعله حواشي الإمام الطيبي على "الكشاف" التي سماها:"فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب". توفي الطيبي الحسن بن محمد سنة (743)، الألباني رحمه الله

(3)

الأصل: "مما" ولعل الصواب ما أثبته.

(4)

كذا ولعله سقط من الأصل قوله: "فمردود" أو نحوه. وقد أحسن الرد عليه الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى فقال في "فتح القدير": "وأما الطعن على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافظ سننه وعابد الصحابة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. فإلى أين يا محمود؟ أتدري ما صنعت وفي أيّ واد وقعت وعلي أي جنب سقطت؟ ومن أنت =

ص: 708

ثم استدلّ شيخ الإسلام ابن تيمية على مدعاه بما أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" من حديث جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ} الآية [هود: 106]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن شاء الله أن يخرج أناسًا من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فَعَل"

(1)

.

وأقول: لا دليل فيه على مدعاه، وهو فناء النار وذهابها، بل فيه دليل على خلافه؛ لأنه لا ينكر الإخراج من النار، ولا يقوله ابن تيمية في حق الكفار، فتعيّن أنه في عصاة الموحدين، وقد سمعت مما نقلناه عن ابن عباس أن الله سمى عصاة الموحدين أشقياء، وقد صرح ابن تيمية بهذا هنا، فقال بعد سرده للحديث:

"إنما يدل على إخراج بعضهم من النار، وهو حقّ بلا ريب، وهو بناء على انقطاعها وفناء عذابها، وأكلها لمن فيها، وأنهم يعذَّبون فيها دائمًا ما دامت كذلك، والحديث دل على أمرين: أحدهما أن بعض الأشقياء إن شاء الله أن يخرجهم من النار، وهي نار فعل، فيكون معنى الاستثناء: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} من الأشقياء، فإنهم لا يخلدون فيها، ويكون الأشقياء نوعين: نوعًا يخرجون منها، ونوعًا يخلدون فيها، فيكونون من الذين شقوا أولًا، ثم يصيرون من الذين سُعدوا، فيجتمع لهم السعادة والشقاوة في وقتين". انتهى

(2)

.

= حتى تصعد إلى هذا المكان وتتناول نجوم السماء بيدك القصيرة ورجلك العرجاء؟ أما ما كان لك في مكسري (؟) طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردّك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري؟ فيا لله العجب ما يفعل القُصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه".

(1)

"الحادي" 2/ 179، وساق إسناده ابن مردويه من طريق الطبراني، ومنه تبيّن أن فيه من كذّبه ابن معين وآخر لا يُعرف، ولذلك خرّجته في "الضعيفة"(5200). وإن سكوت المؤلف عنه قصور فما حسن، فإنه أوهم ثبوته حين اقتصر في رده استدلال ابن تيمية بمتنه بأنه لا دليل فيه، فكان عليه أن يبيّن حال إسناده أولًا، ثم يرد دلالته ثانيًا كما يقتضيه المنهج العلمي السليم. ثم إنه ليس في "الحادي" التصريح بذكر ابن تيميهّ مستدلًا بهذا الأثر، ولا جاء ذكره في المخطوطة. الألبانيّ رحمه الله.

(2)

الحادي 2/ 180، ولم يعزه لابن تيمية ولا ذُكر في المخطوطة.

ص: 709

وهو صحيح، وفيه إقرار منه على أنه لا دلالة فيه على فناء النار، كما ساقه دليلًا لذلك. على أنا نقول: الحديث ليس نصًّا في الإخراج، بل إخبار مقيد بقضية شرطية، وهو إن شاء الله أن يَخرج أُخرج، وليس فيه أنه تعالى شاء ذلك، بل هو مثل:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].

وسيأتي تحقيق ذلك في الكلام على آية المشيئة إن شاء الله تعالى.

إذا عرفت هذا كله فهؤلاء الستة من الصحابة الذين زعم أنه نقل عنهم القول بفناء النار؛ أي: وبدخول أهلها بعد ذلك: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8]. وهم الذين أشار إليهم السيد الإمام محمد بن إبراهيم في "الإيثار" حيث قال [من الطويل]:

وَطَوَّلَ فِي الثَّانِي ابْنُ تَيْمِيَّةَ فَقِفِ

عَلَى عَلْمِهِ فِي كُتْبِهِ وَالتَّرَاجِمِ

وَأَسْنَدَهُ عَنْ ستَّةٍ نَصَّ قَوْلِهِمْ

أَكَابِرَ مِنْ صَحْبِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ

وأراد بالثاني حَمْل الاستثناء في وعيد أهل النار على فنائها، وانقطاع عذابها، هذا بيان مراده.

ولكنك إذا تحققت ما أسلفناه عرفت أنه لم يتم لابن تيمية ما نسبه إلى الستة المذكورين من القول بفناء النار، وأنه ليس بنصّ قولهم، كما قال السيد محمد، ولعله يريد نصّ لفظهم، وإن لم يدل على مدعى ابن تيمية، أو أنه نص عنده فيما ادّعاه، وإن كان غير صحيح، ويرشد إلى أنه أراد ذلك قوله بعد ذلك البيت:

فَلَا تَعْتَقِدْ إِنْ لَمْ يَصحَّ مَقَالَهُمْ

وَبَانَ ضَعِيفًا سَاقِطًا كُفْرَ عَالِمِ

ثم قال ابن تيمية مستدلًّا لفناء النار وانقطاعها: إنه قال الله تعالى:

{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} [النبأ: 23 - 28].

وقال: "هذا صريح في وعيد الكفار المكذبين بآياته، ولا يقدَّر الأبدي بمدة الأحقاب"

(1)

.

(1)

الحادي 2/ 181، وليس فيه التصريح بابن تيمية أيضًا، لكن هو في المخطوطة باختصار.

ص: 710

فأفاد مفهوم (الأحقاب) أنه لا خلود فيها إذ الأبديّ لا يقدر بزمان، وأما دلالتها على أن المخبَر عنهم باللبث {أَحْقَابًا} هم الكفار، فلقوله فيهم:{إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)} ، وهذه صفات الكفار.

وهذا تقرير مراد شيخ الإسلام.

والعجب من استدلاله بصدر الآية، وذهوله عما عقّب به من قوله:{فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ: 30]، فإن المراد: لن نزيدكم بعد لبثكم أحقابًا إلا عذابًا ضرورة أنهم معذَّبون حين لُبثهم، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)} [النبأ: 24، 25]، فزيادة العذاب بعد الأحقاب، بل خصَّ تعالى الزيادة على العذاب، وأنه تعالى لا يزيدهم بعد لُبث الأحقاب إلا عذابًا، فانتفى مفهوم العذاب الذي أفاده الجمع الذي جعله ابن تيمية دليلًا على فناء النار، وعدم أبديتها، مع أنه استدلال بمفهوم العدد، وهو من أضعف المفاهيم على هذه المسألة المعظَّمة الذي لا يعتمِد عليه محقق، وكيف يُجعل أقوى من التأييد المصرح به في عدة آيات، من آيات وعيد أهل النار؟ فلو عارض مفهوم العدد منطوق التأبيد، لكان الحكم للمنطوق اتفاقًا.

هذا: وذكر البغوي أنه قال مقاتل بن حيان: هذه الآية منسوخة، يريد:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} نَسَختها {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ: 30]؛ يعني: أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل هذا لفظه، ومراده بالنسخ: أن لا حكم لمفهوم العدد، وإلا فإنه لا يجري النسخ المصطلح عليه في الأخبار.

وقال الحسن: "ليس للأحقاب عدة إلا الخلود"، وذكره عنه البغويّ

(1)

.

وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة، قال:"الأحقاب" ما لا انقطاع له، كلما مضى حقب جاء بعده حقب.

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} قال: ليس فيها

(1)

أي: في تفسيره المسمى بـ"معالم التنزيل"(سورة النبأ). ذكره معلقًا بدون إسناد بأتم مما هنا فقال: "قال الحسن: إن الله لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)} [النبأ: 23] فوالله ما هو إلا أنه إذا مضى حَقْب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود".

ص: 711

أجل، كلما مضى حقب دخل في الآخر، وبهذا تعرف رواية ودراية ضَعف استدلال شيخ الإسلام على فناء النار وانقطاعها بمفهوم الأحقاب.

ثم استدل ابن تيمية على فناء النار وذهابها بقوله تعالى في "سورة الأنعام": {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [128]، وبقوله تعالى في "سورة هود":{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)} [107]، وقرر كون آية "الأنعام" في المشركين بقوله تعالى في صدرها:{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ} . قال: فإن أولياء الجن من الإنس يدخل فيه الكفار قطعًا، يريد أنه لا يقال: الآية في عصاة الموحدين فقط، ثم أبان أن الاستثناء عائد إلى الفريقين: الكفار وعصاة الموحدين، والكفار بفناء النار، والعصاة بالخروج منها، وقرر هذا التقرير في آية الاستثناء في [سورة هود]

(1)

.

وأقول: قد اختلف العلماء من الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الرواية، والدارية، في هذا الاستثناء، ولنذكر ما وقفنا عليه من ذلك، وقد ألمَّ به ابن القيم في هذا الكتاب؛ أعني:"حادي الأرواح"، وألمَّ به شيخه شيخ الإسلام في كلامه في هذه المسألة، وفاتَهما بعض ما قيل في الآية، قال ابن القيم في "الباب السابع والستين":

"واختلف السلف في هذا الاستثناء، فقال معمر عن الضحاك: هو في الذين يخرجون من النار، فيدخلون الجنة، فقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} إلا مدة مكثهم في النار".

قلت: يضعف هذا أن الاستثناء من الخلود يقتضي أن يكون بعد الدخول لا قبله، سيما بعد قوله:{فَفِي النَّارِ} ، وقد أشار إلى تضعيف هذا الوجه بما قاله ابن تيمية في غضون أبحاثه في هذه المسألة.

قال ابن القيم: "وقالت فرقة: هو استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك، إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه".

(1)

"الحادي" 2/ 173 - 176، ولم يذكر فيه ابن تيمية صراحة، ولا ذكره في المخطوطة.

ص: 712

قلت: هذا الوجه أحد وجهين ذكرهما جار الله في "الكشاف" في آية "الأنعام"، فقال:

أو يكون -يريد الاستثناء- من قوله الموتور الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب منه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك، إلا إذا شئت، وقد عُلم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه، من التعنيف، والتشديد، فيكون قوله: إلا إذا شئت من أشد الوعيد، مع تهكم بالتوعد في خروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع. انتهى.

واختار هذا الوجه صاحب "الإتحاف"

(1)

، والصفويّ

(2)

.

وهو مرويّ عن ابن عباس، أخرجه البيهقيّ في "البعث والنشور"، فقال: قد شاء ربك أن يجعل هؤلاء في النار، وهؤلاء في الجنة.

قلت: إلا أنه يختلف صاحب "الكشاف" وصاحب "الإتحاف" في عصاة الموحدين، فصاحب "الكشاف" يجعلهم داخلين في الذين شقوا؛ لأن أصله أنهم لا يخرجون من النار، وصاحب "الإتحاف"، والصفوي يجعلانهم داخلين في الذين سعدوا؛ لقيام الأدلة عندهم بخروجهم من النار.

هذا: وقد تعقب ابن الخطيب الرازي في "مفاتيح الغيب" هذا الوجه، فقال:

وهذا ضعيف؛ لأن قوله: لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلا إن رأيت أن أترك الضرب، وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية حصلت أم لا، بخلاف قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}

(1)

لعله يعني: كتاب "الإتحاف في شرح خطبة الكشاف" لحامد بن علي بن إبراهيم العمادي الدمشقي المفتي الحنفي توفي (1171) كما في "ذيل كشف الظنون" 1/ 19، ولم أقف عليه. الألبانيّ رحمه الله.

(2)

كذا الأصل بالواو هنا، وفيما يأتي قريبًا ولم أعرفه، ولعله خطأ من الناسخ، والصواب (الصفدي) بالدال المهملة، وهو صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي أديب مؤرخ كثير التصانيف منها:"الوافي بالوفيات"، وهو كبير جدًّا في التراجم، طُبع منه أربع مجلدات في تراجم المحمدين ولمّا تَنْتَه، ولعل اختياره المذكور أورده في ترجمة الزمخشري. والله أعلم. الألباني.

ص: 713

فإن معناه: الحكم بخلودهم فيها المدة التي يشاء ربك فيها، فهذا يدل على أن المشيئة قد حصلت جزمًا، فكيف يحسن قياس هذا الكلام على ذلك؟ انتهى.

ولا يخفى أن المشار المفروض واقع على هيأة القطع والجزم، كما هو صريح كلام ابن القيم، وصاحب "الكشاف"، فقول الرازي: وهذا لا يدل على أن هذه الرؤية قد حصلت أم لا، خلاف المفروض، وقوله: فهذا يدل على أن المشيئة إلخ إن أراد مشيئة الخلود فهو مراد صاحب هذا القول، كما يُشعر به المثال، وينطبق، ويتعلق عليه، وإن أراد مشيئة عدم الخلود، كما هو مقتضى كلامه، فمحل النزاع، ولا يتم تضعيف كلام الخصم بإيراده، كما لا يخفى.

ثم قال ابن القيم:

وقالت طائفة أخرى: العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، كان معنى "إلا" في ذلك، ومعنى الواو سواءً، والمعنى على هذا: سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة السموات والأرض، وهذا قول الفراء، وسيبويه، يجعل "إلا" بمعنى "لكن"، قالوا:

ونظير ذلك أن تقول: لي عليك ألف، إلا الألفين اللذين قبلهما؛ أي: سوى الألفين، قال ابن جرير: هذا أحد

(1)

الوجهين إليّ؛ لأن الله لا خُلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وقالوا: نظيره أن تقول: أُسكنك داري حولًا إلا ما شئت؛ أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه.

وأقول: هذا مبني على أنه أريد بالسموات والأرض: سموات الدنيا وأرضها؛ أي: مقدار بقاء دار الدنيا، فإنه لو أراد سماء الأخرى وأرضها لَمَا تم أن يقال: إلا ما شاء الله من الزيادة على مدتهما، فإنهما أبديتان، لا يتصور عليهما زيادة، والظاهر أنه أريد من السموات والأرض سموات الآخرة وأرضها، لأن آيات التأبيد في الفريقين قاضية بأبدية أرضها وسمواتها؛ إذ لا بد لهم من شيء يقلّهما، وشيء فوقهما، وهو المراد من سموات الآخرة وأرضها، ولأن قوله:{مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} ظاهر في ذلك؛ إذ إن أرض الدنيا

(1)

هكذا النسخة، ولعله "أحبّ"، فليُحرّر.

ص: 714

وسمواتها قد ذهبت، ولو أريد لقيل: ما كانت السموات والأرض، ثم قال ابن القيم:

وقالت فرقة أخرى: هذا الاستثناء إنما هو مدة احتباسهم عن الجنة، ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ إلى أن يصيروا إلى الجنة، ثم خلود الأبد، فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرزخ.

وأقول: فيه ما سلف في الوجه الأول، وهو أن الاستثناء إنما هو بعد دخولهم الجنة، ثم قال ابن القيم:

وقالت فرقة أخرى: العزيمة قد وقعت لهم من الله بالخلود الدائم، إلا أن يشاء الله خلاف ذلك، إعلام لهم بأنهم مع خلودهم في مشيئته، وهذا كما قال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86]، ونظائره يخبر عباده أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

وأقول: إن كان تقيدًا على حقيقة لزم بقاء الخوف في دار النعيم، والله يقول:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف: 68]، ويقول:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر: 46]، والإجماع قائم على أن الجنة لا خوف فيها، ثم يلزم أن يبقى لأهل النار طمع في الخروج منها، ورَوح بذلك، وليس لهم روح، ولا فرج، وإن أُريد الإخبار بأنه لو شاء تعالى عدم خلود الفريقين لكان له في ذلك حكمة، وأن المراد من الاستثناء الإعلام للعباد باتساع نطاق حكمه، فهذا قد يقال: إنه وجه وجيه.

ثم ذكر ابن القيم وجهًا قاله لابن قتيبة كالوجه الذي نقله عن الفراء، ولم ينقله لأنه هو، وإنما اختلفت العبارة، ثم قال:

وقالت طائفة: "ما" بمعنى "من" من قِبَل قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] المعنى: إلا من شاء ربك أن يدخله النار بذنوبه من السعداء، والفرق بين هذا القول، وأول الأقوال أن الاستثناء على ذلك من المدة، وعلى هذا القول من الأعيان.

وأقول: هذا القول يفتقر إلى تقرير، يتضح معه مراد قائله، وتقريره: أن الاستثناء من الذين سُعدوا قبل الحكم عليهم بقوله: {فَفِي الْجَنَّةِ} ، فيكون المعنى: وأما الذين سُعدوا إلا من شاء الله ففي الجنة خالدين فيها ما دامت

ص: 715

السموات والأرض؛ لِمَا تقرر في النحو والأصول أن إخراج المستثنى من المستثنى منه قبل الحكم عليه بالخبر، إلا أنه يلزم على هذا القول أن تكون الأقسام أربعة: قوم سُعدوا حُكم لهم بالكون في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وهم الذين استثنى منهم، وقوم سعدوا أيضًا، لكن لم يبيّن من الآية حُكمهم، وهم الذين أفادهم {إِلَّا مَن شَاءَ اللهُ} [النمل: 87]، وقوم شَقُوا محكوم عليهم بالكون في النار خالدين ما دامت السموات والأرض، وقوم شقوا لم يتبيّن حُكمهم كما عرفت.

ومعلوم أن الموجود في الواقع ثلاثة أقسام: موحدون، وملحدون، وعصاة الموحدين، فيكون المراد من الآية على هذا أن قومًا دخلوا في السعداء باعتبار أنهم شاركوهم في التوحيد، ولكنهم فارقوهم في الكون في الجنة خالدين فيها، ودخلوا في الأشقياء باعتبار أنهم قارفوا ما أغضب الله عليهم من المعاصي، ولكنهم فارقوا بعدم الكون في النار خالدين.

فالقسم الثالث تحته قسمان باعتبار دخولهم تحت

(1)

. . . بالسعادة مع الذين سعدوا، وبالشقاوة مع الذين شقوا، كما عرفت، فكانت الأربعة ثلاثة، وتكون الآية قد بُيِّن فيها حُكم الفريقين من الموحدين والملحدين، ولم يبيّن حكم الفريق الثالث منها، وقد بيّنه الله في قوله:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و 116]، فمآل المعنى في الآية: فأما الذين سعدوا سعادة خالصة ففي الجنة خالدين فيها، وأما الذين شقوا شقاوة خالصة ففي النار خالدين فيها، وأما الذين أخرجوا من الفريقين، فباقون تحت مشيئة الله تعالى.

وهذا الوجه بعد التقرير، لا يخفى حُسنه.

ثم ذكر أقوالًا راجعة إلى ما سلف، ثم قال:

وهذه الأقوال متقاربة، قال: ويمكن الجمع بينها بأن يقال: أخبر الله عن خلودهم في الجنة كل وقت إلا وقتًا شاء الله ألا يكونوا فيها، وذلك يتناول وقت كونهم في الدنيا، وفي البرزخ، وفي موقف القيامة على الصراط، وكون بعضهم في النار.

(1)

خُرم في الأصل قدر لفظتين.

ص: 716

قلت: هذه الإطرفة شيء واحد عائد إلى كونه قبل دخولهم الجنة، ولكن يُبعده ما مرّ غير مرة، قال: فإن الاستثناء من خلود الداخلين، وحيث كانوا في عين الجنة لا يفيد ذلك الكون بخالدين فيها، ثم قال:

وعلى كل تقدير فهذا الأمر من المتشابه، وقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} محكم، وقوله:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، ولهذا أكد خلود أهل الجنة في غير موضع من كتابه، وأخبر أنهم لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأُولى، وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء من قوله:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} تبيَّن لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأُولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية، وكذلك مفارقة الجنة تُقدَّم على خلودهم فيها. انتهى كلامه.

وأقول: قد أفاد أن الاستثناء من خلود أهل الجنة من المتشابه، وأن المحكم آية الخلود، فيجب ردّ المتشابه إلى المحكم، فالمحكم هو الخلود، وهذا حَسَن، وتخصصه بالاستثناء في أهل الجنة بقوله:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، ولمّا علم يقين من أنه لا يخرج من الجنة أحد ممن دخلها، وسيأتي لنا أنه يمكن

(1)

آخر هذا الوجه في الاستثناء في آية العذاب، وأما ابن القيم، فإنه فيه

(2)

ابن تيمية من الاستثناء فيها على حقيقته، وأنه لا خلود في النار لأهلها من الكفار، كما عرفته من أدلة دعواه، وأما قوله: إن الاستثناء في الآية كالاستثناء في قوله: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، فإنها موتة تقدمت على الحياة الأبدية، وكذلك مفارقة الجنة تُقدَّم على خلودهم فيها.

فأقول: الفرق بين الآيتين واضح، فإن آية الموتة الأولى وقع المستثنى منه فيها من أحوال الدنيا الواقعة فيها المعلوم نقضها، ولذا كان أحسن الأقوال في هذه الآية أعني آية:{إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} أنه من باب التقييد

(1)

كذا الأصل، وهو غير مفهوم المعنى، ولعله سقط منه شيء.

(2)

خُرم في الأصل قدر لفظين أو ثلاثة، ولعل الأصل: فإن فيها مع شيخه ابن تيمية.

ص: 717

بالمحال من باب قول شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89].

إذًا الآية سيقت لبيان أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت أصلًا، وأنه أمر محال فعلّق بالمحال لتمام التبشير بنعمة الحياة الأبدية، وآية الخلود المستثنى منه فيها من أحوال الآخرة، والكون في الجنة، فكيف يقاس ما لم يَمض يَنْقضِ بما مضى وانقضى، على أنه لا يصح لغة تسمية اللبث في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الموقف خلودًا حتى يخرج من مدة الخلود.

وبعد هذا رأيت فخر الدين الرازي، وقد تعقب هذا في "مفاتيح الغيب"، فقال بعد نقله لفظَهُ:

وأما حمل الاستثناء على حال عمر الدنيا، والبرزخ، والموقف فبعيد؛ لأن الاستثناء وقع عن الخلود في النار، ومن المعلوم أن الخلود كيفيات من كيفيات الحصول في النار، فقبل الحصول في النار يمتنع حصول الخلود، وإذا لم يحصل الخلود لم يحصل المستثنى منه، وإذا لم يحصل المستثنى منه امتنع حصول الاستثناء. هذا لفظه.

فهذه الوجوه التي ذكرها ابن القيم في الاستثناء على آية الخلود مع ما تراه من الأبحاث التي أوردناها في المقام، وقد بقي فيه وجه ذَكره جار الله في "الكشاف" في آية "هود"، فقال:

إن الاستثناء هو استثناء من الخلود من نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير، وبأنواع من العذاب، سوى عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم، وخسؤه لهم، وإهانته إياهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكثر منها، وأجلّ موقعًا، وهو رضوان الله، كما قال الله:{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]، ولهم ما يتفضل الله عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو فهو المراد باستثناء. انتهى.

وتعقبه الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب"، فقال:

لو كان كذلك لوجب أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة

ص: 718

السماوات والأرض، والأخبار الصحيحة دالة على أن التنقل من النار وبالعكس يحصل كل يوم مرارًا، فبطل هذا الوجه. انتهى كلامه.

قلت: ولا يخفى ضَعف كلامه، فإن معنى الآية: أن أهل النار في النار خالدين فيها مدة دوام السموات والأرض إلى وقت مشيئة ربك عدم خلودهم فيها، فهو إخراج بوقت مشيئة عدم الخلود من القيد بدوام السموات والأرض والإخراج من المقيّد إخراج منه ومن قَيْده، بمعنى أن الإخراج منه بعد اتصافه بالقيد، فالقيد جزء منه، ومعناه: أن يخرج من النار إليها إلى غيرها مع بقاء السموات والأرض، لا بعد انقضاء مدتها.

ثم هذا الذي أورده الرازي لازم لِمَا اختاره في الآية كما ستعرفه.

هذا: وقد اعترض كلام "الكشاف" صاحب "الإتحاف"، فقال

(1)

:

لا أدري ما حَمَله على ما لا تقبله العقول في حَمْل الاستثناءين على الخروج إلى الهموم والغموم في أهل النار، وإلى رضوان الله في أهل الجنة، ونحو ذلك مما ذكر، والغموم لازم أهل النار، ورضوان الله ملازم لأهل الجنة، ولأجله دخولها، وكذلك سَخَط الله لأهل النار، وكيف الخروج من الأمور الحسية، وهي الجنة والنار إلى المعنوية، وهي السخط والرضى، وسائر ما ذكرناه، مما اشتمل عليه دار العقاب ودار النعيم. انتهى.

ثم جنح إلى حمل الاستثناء في آية "هود" على الوجه الذي حَمَله عليه صاحب "الكشاف" في آية "الأنعام"، وقد سبق ذكره، هذا إن لم يُحمل كلام صاحب "الكشاف" على ما روي عن ابن مسعود، وإن حُمل عليه لم يتم إيراد صاحب "الإتحاف"، كما أنه لا يَرِد على صاحب "الكشاف" ما أورده عليه الرازيّ، وكلام "الإتحاف" هذا صحيح، إلا قوله: إن رضوان الله لازم لأهل الجنة، ولأجله دخولها، فإنه قد يقال: إنه أخرج أحمد، والشيخان،

(1)

لعله "الإتحاف في شرح خطبة الكشاف" للشيخ حامد بن علي بن إبراهيم العمادي المفتي الحنفي، ولم أقف عليه لا مطبوعًا ولا مخطوطًا، وقد ذكره الأستاذ الزركلي رحمه الله في جملة كُتب له من "الإعلام"، ولم يُشر له بشيء، فالظاهر أنه غير معروف اليوم، والله أعلم. وقد تقدم ذكره ص 92.

ص: 719

والترمذيّ، والنسائيّ، والبيهقيّ في "الأسماء والصفات" من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحِلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا".

وأخرج ابن أبي حاتم عن [أبي]

(1)

عبد الملك الجهنيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضوان الله على أهل الجنة نعيمهم بما في الجنان"

(2)

.

وهذا دالّ على أن رضوان الله تعالى هذا متأخر عن دخول أهل الجنة

(3)

. والآية التي ساقها في "الكشاف" دالة على ذلك أيضًا، فإنه جعل رضوانه تعالى الأكبر قسمًا للجنات، ولعله يقال: إن هذا الرضوان الذي يبشرهم به الرب، ويخاطبهم به الموصوف بأنه لا يسخط بعده أبدًا متأخر، وهو المراد من الآية والحديثين، ومجرد الرضى حاصل لهم من أول الأمر، كما يدل له قوله تعالى:{يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30] فإنه دال على الرضى من أول الأمر قبل دخول الجنة، ويَحْتَمِل أنه خاصّ بصاحب هذه النفس المطمئنة.

والحاصل: أن هذا الرضى الذي أراده صاحب "الكشاف"، واستدلّ عليه

(1)

سقطت من الأصل واستدركتها من "الدر"، ولم أعرف أبا عبد الملك هذا أو عبد الملك، ولم يورده الدولابي في "الكنى". الألبانيّ رحمه الله.

(2)

كذا وقع هذا الحديث في الأصل، وأنا أظن أنه نقله من "الدر"، وكأنه اختصره فإن لفظه فيه:"لنعيم أهل الجنة برضوان الله عنهم أفضل من نعيمهم بما في الجنان". الألبانيّ.

(3)

قلت: ويؤيده حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل: هل تشتهون شيئًا فأزيدكم؟ فيقولون: ربنا وما فوق ما أعطيتنا؟ فيقول: رضواني أكبر"، وإسناده صحيح. أخرجه ابن حبان والحاكم وغيرهما كما تراه مبيّنًا في "الصحيحة"(1336)، وعزاه ابن كثير للمحاملي والبزار وقال: قال الضياء المقدسي في "صفة الجنة": "هذا عندي على شرط الصحيح". الألبانيّ رحمه الله.

ص: 720

بالآية متأخر، وهو المراد من الحديثين، ولا ينافيه مجرد الرضى اللازم لأهل الجنة، فلا يَرِد اعتراض صاحب "الإتحاف" عليه، وأما قوله: والهموم والغموم لازمة لأهل النار، فقد أشار إلى جوابه المحقق أبو السعود، فقال: ولك أن تقول: إنهم ليسوا مخلدين في العذاب الذي هو عذاب النار، بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وهو العقوبات، والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصود إدراكهم ما ألفوا به من الأحوال الجسمانية، وليس لهم استعداد لتلقي ما وراء ذلك من الأحوال الروحانية، وهذه العقوبات، وإن كانت تعتريهم، وهم في النار، لكنهم ينسون بها عذاب النار، ولا يحسونها، وهذا كاف في تحقيق معنى الاستثناء. انتهى كلامه

(1)

.

وهذا وجه حَسَن مُحْتَمِل، على أنه الذي أراد صاحب "الكشاف"، ويندفع به اعتراض صاحب "الإتحاف".

هذا: وفي "الكشف على الكشاف" ما لفظه

(2)

:

هذا في أهل النار ظاهر؛ لأنهم يُنقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد؛ لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبًا، أما دعوى الغلبة حتى هُجِر الأصل فلا، ألا ترى إلى قوله:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24، والتحريم: 6] وكم، وكم.

وأما رضوان الله عن أهل الجنة، وهم فيها فيأبى الاستثناء، كيف،

(1)

في كتاب تفسيره المعروف بـ"إرشاد العقل السليم" سورة (هود)(3/ 69 - دار العصور).

(2)

لم أدرِ لمن هو، وقد ذكر كاتب جلبي في ترجمته "الكشاف" عديدًا من الكتب التي ألِّفَت حوله ليس فيها شيء بهذا الاسم أقربها إلى هذا، كتاب:"الكشف عن مشكلات الكشاف" للعلامة عمر بن عبد الرحمن الفارسي القزويني المتوفى سنة (745) وهو حاشية على "الكشاف"، منه نسخة في مخطوطة في ظاهرية دمشق، وأخرى في مكتبة الرباط في المغرب. وذكر أيضًا "الكشاف على الكشاف" لشيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني في ثلاثة مجلدات توفي سنة (805).

ص: 721

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} لا يدل بظاهره على أنهم منعَّمون بها فضلًا عن انفرادها بنعيمهم بها، ثم قال: ولعل الوجه -والله أعلم- أن يكون من باب {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56]، وأشار إليه سلّمه الله -يريد الفاضل الطيبي-

(1)

.

وذكر أنه وقف بعد ذلك على نص من قبل الزجاج. انتهى.

يريد أنه تقيد بالمحال في الآيتين وعصاة الموحدين داخلون في السعادة، فإنهم خالدون في الجنة، وإن تأخر دخولهم إياها، فإنه من المعلوم أن الداخلين إلى الجنة لا يدخلون دفعة واحدة، بل يدخلون أرسالًا، بل فيها من يسبق إليها بمقدار خمسمائة عام، كما ثبت ذلك في فقراء المهاجرين

(2)

، والذي رجحه الفخر الرازي بعد سرده للأقوال وتعقُّبه لها أن عصاة الموحدين داخلون في الأشقياء محكوم عليهم بهذا الحكم، وقوله:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} يوجب أن لا يبقى حكم الخلود لبعض الأشقياء، ولمّا ثبت أن الخلود واجب للكفار وجب أن يقال: الذين زال حكم الخلود عنهم هم الفساق من أهل الصلاة، وهذا الكلام قويّ في هذا الباب. انتهى.

(1)

(84) لعله يعني: في حواشيه على "الكشاف"، سمّاها:"فتح الغيوب في الكشف عن قناع الريب"، وهي في ست مجلدات ضخمات كما قال الجلبي، وهو معاصر القزويني فإنه توفي سنة (743)، ويشعر بذلك قوله:"سلمه الله" ففيه ما يرجح أن القائل إنما هو القزويني وليس البلقيني، فلعل قوله في الأصل:"الكشف على الكشاف" سهو من المؤلف أو الناسخ، والصواب:"الكشف عن الكشاف"، وهو اختصار "الكشف عن مشكلات الكشاف".

(2)

يشير إلى حديث: "إن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بمقدار خمسمائة سنة". أخرجه ابن ماجه (4123)، وأحمد (3/ 63 و 96) من طريقين عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا، يقوي أحدهما الآخر. وله شواهد أحدها عن أبي هريرة نحوه. أخرجه أحمد (2/ 296، 343، 451، 5143، 519)، وغيره بسند حسن وصححه ابن حبان (2567)، وعزاه ابن تيمية في "المجموع" 11/ 127 بـ "الصحيح"، وهو وَهَم، وإنما رواه مسلم نحوه بلفظ:"بأربعين عامًا" فتنبه. الألبانيّ رحمه الله.

ص: 722

وأقول: يَرِد عليه في هذا الوجه -الذين استقوا- إلى ما أورده هو على من قال: إن معنى الاستثناء في آية أهل النار أنهم ينقلون من عذابها إلى الزمهرير، فإنه أورد عليه ما أسلفناه من أنه يقتضي أن لا يحصل العذاب بالزمهرير إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض، فيقال عليه: هذا عين ما قاله هناك: إنه يلزم أن لا يخرج عصاة من الموحدين عن النار إلا بعد انقضاء مدة السموات والأرض، ولا دليل عليه، بل الأدلة قائمة على خلافه، كما قدمناه في التثنية مما سبق، فالحق ما قدمناه لك من أن إيراده غير وارد على من أورده، ولا لازم له؛ لبطلانه في نفسه.

هذا: وكلام الفخر الرازي هذا هو كلام المفسرين من أئمة السُّنَّة، وذكره سعد الدين في "شرحه على التلخيص"

(1)

؛ لأنه جعل الاستثناء في الآيتين معًا لإخراج عصاة الموحدين، وأن المراد بعدم خلودهم في الجنة فراقهم لها أيام عذابهم، وأنهم داخلون في السعداء باعتبار الإيمان، وفي الأشقياء بسبب المعاصي، ولكن فيه ما عرفت من أن الاستثناء إنما هو من المحكوم عليهم بدخول الجنة خالدين فيها، وعصاة الموحدين قبل دخولهم لا يصح في حقهم الاستثناء كما عرفته، وقد نبَّه على هذا المحقق الشريف

(2)

في "حواشيه على المطول" حيث قال:

أقول: الخلود إنما هو بعد دخول الجنة، فكيف ينقضي بما سبق على الدخول؟، فالصواب أن يقال: الاستثناء الأول محمول على ما تقدم من أن فساق المؤمنين لا يخلدون في النار.

وأما الثاني: فهو محمول على أن أهل الجنة لهم سوى نعيمها ما هو

(1)

(86)"تلخيص المفتاح في المعاني والبيان" هو: للشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني المتوفى سنة (739)، وقد اهتم به العلماء شرحًا واختصارًا، منها شرح العلامة سعد الدين هذا، وهو مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة (792)، وهو شرح عظيم سماه "المطول" ثم اختصره وسماه "المختصر"، وهما أشهر شروح "التلخيص". وما أشار إليه المؤلف هو في (الفن الثالث: علم البديع - الاستخدام) من "المختصر"(2/ 607 - العثمانية بحاشية الدسوقي).

(2)

هو: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة (816).

ص: 723

أجلّ وأكبر، وهو رضوان الله عز وجل وبقاؤه لا على أن فيهم بعضًا يخرج. انتهى.

ولا يخفى أن كلامه في الاستثناء الثاني هو كلام صاحب "الكشاف" بعينه، وأنه يَرِد عليه ما أورده صاحب "الإتحاف" وقد سبق لنا ردّه كما عرفت، وهكذا يَرِد عليه ما أورده صاحب "الكشاف" كما سبق قريبًا أيضًا، فالأحسن أن يقال: إن الاستثناء في آية الجنة من باب: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} تقييد بالمحال، وأن من دخل الجنة لا يخرج منها أبدًا، بدليل الاجتماع المعلوم ضرورة من الدين، وبدليل قوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين، ولا يقال: إن هذا يوجب اختلافًا في نَظْم الكلام، حيث عُدل بالاستثناء الثاني عما حُمل عليه الاستثناء الأول، مع أنهما سيقا مساقًا واحدًا؛ لأنا نقول: قد دفع الشريف هذا الإيراد؛ لأنه ورد ما

(1)

وينهي إليه بقوله: الأول محمول على الظاهر، وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا، فلا إشكال، ولا اختلاف.

إذا عرفت حقيقة هذه الأقوال التي حققها الاستدلال، وأساطين المفسرين، وعيون العيون من المحققين، عرفت أن آية الاستثناء كما قال صاحب "الكشاف" من المعضلات، وقد اختلفت فيه كما رأيت أذهان المحققين الأثبات، وقد سبق قول ابن القيم في آية الاستثناء في أهل الجنة: إنه على كل تقدير أن الاستثناء فيه من المتشابه، وأن المحكم قوله تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، و {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]، وآيات الخلود التي وردت في الكتاب العزيز، فلك أن تقول بغير هذا القول في آية الاستثناء في أهل النار: إنه من المتشابه، وإن المحكم:{خَالِدِينَ فِيهَا} [آل عمران: 15]، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ

(2)

} [الحجر: 48]، والآيات المصرحة بخلود أهل النار في القرآن كثيرة جدًّا، وسيأتي عدّ بعضها، فيُرَدّ المتشابه، وهي آية الاستثناء إلى

(1)

هذا كلام ركيك، فليحرر.

(2)

حشر هذه الفقرة من هذه الآية الكريمة في سياق خلود الكفار في النار خطأ فاحش توارد عليه جَمْع، فإنها في خلود أهل الجنة، كما سيأتي بيانه قريبًا بإذنه تعالى رقم التعليق (104)، الألبانيّ رحمه الله.

ص: 724

المُحكَم، وقد حكم الله بخلود أهل النار في النار، وتواترت الأحاديث بإخراج عصاة الموحدين، وقد ورد الاستثناء، فلا ندري ما أراد الله هل بإخراج العصاة

(1)

من الموحدين كما قال جماهير أهل السُّنَّة، وهو المروي عن ابن عباس، كما أسلفناه عنه، أو هو قريب، أو هو عين المراد، أو أراد به أمرًا استأثر الله بعلمه، فنقول:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وقد أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة في قوله تعالى:{إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} فإن الله أعلم ثنيته

(2)

على ما وقعت، وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قد أخبرنا الله بالذي شاء لأهل الجنة، فقال:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ، ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار، وأخرج ابن المنذر عن أبي وائل، أنه كان إذا سئل عن الشيء في القرآن قال: قد أصاب الله به الذي أراده.

هذا: وإذا عرفت ما ألقينا عليك عرفت أنه لم يتمّ ما ادّعاه ابن تيمية في الآية، وأنه أريد بالاستثناء فناء أهل النار، فإنه قول في الآية بلا دليل، ولا قال به من السلف أحد، ولا من الخلف، وأنه ليس في يد شيخ الإسلام شيء، لا من كتاب، ولا من سُنَّة، ولا من صحابيّ، كما قررناه، فليس في يديه إلا دعوى بغير برهان، لا يقول فيها دون دق الشأن

(3)

، ولا يعتمد عليها أهل الإتقان، وعرفت أنه ما صفا قول قائل في الاستثناء في آية أهل النار عن كَدَر الإشكال، وأن الأقوال فيه كلها آراء محضة، إلا القول بأنه أريد به عصاة الموحدين، فإنه قول قويم، قد قاله بحر الأئمة، وحبرها المدعوّ له بتعليم التأويل ابن عباس رضي الله عنهما، كما أسلفناه، ودلت عليه أدلة أثرية، وقرائن قرآنية، فالقول به قويم، ولا يدخل تحت التفسير بالرأي الذي ورد الوعيد على "من قال في القرآن برأيه"

(4)

، فلا يقال: إنه يتعين الوقف عن ذلك الخوض والإيمان بما أراده الله، وردّ علمه إليه.

(1)

كذا الأصل ولعل الصواب: "هل هو إخراج".

(2)

الأصل: "تثنيته" والتصويب من ابن جرير 15/ 482. وسنده صحيح إلى قتادة. و"الثنية" على وزن فعيلة: الاستثناء.

(3)

كذا الأصل، ولعل الصواب: لا يقول بها ذوو الشأن.

(4)

يشير إلى حديث: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" وفي آخر: ". . . فأصاب فقد أخطأ". رواهما الترمذي وغيره بسندين ضعيفين.

ص: 725

ثم استدل شيخ الإسلام على سعة رحمة الله تعالى أنها أدركت أقوامًا ما فعلوا خيرًا، وساق أحاديث دالة على أن الرحمة أدركت من كان من عصاة الموحدين، كما ستعرفه، وليس من محل النزاع.

فمن الأدلة التي ساقها على مدعاه قصة الذي أمر أهله أن يحرقوه، ويذروه في الرياح في البر والبحر؛ خشية أن يعذبه الله، قال: فقد شك في المعاد، فأحياه الله تعالى، قال: فهذا لم يعمل خيرًا قط، وأدركته رحمة الله تعالى

(1)

.

(1)

"الحادي" 2/ 217 في (فصل: ونحن نذكر الفرق بين دوام الجنة والنار. . .) 2/ 189 - 228، ولم يذكر فيه ابن تيمية البتة، ولا جاء ذكره في المخطوطة المصورة في المقدمة. قال العلامة السيد محمد بن إبراهيم المرتضى اليماني في "إيثار الحق على الخلق" ص 436:

"وإنما أدركته الرحمة لجهله وإيمانه بالله تعالى على ما ظنه محالًا، فلا يكون كفرًا إلا لو علم أن الأنبياء جاؤوا بذلك، وأنه ممكن مقدور ثم كذّبهم أو أحدًا منهم لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] وهذا أرجى حديث لأهل الخطأ في التأويل". ذكر هذا في بحث هام بيَّن فيه أصل الكفر ومتى يكفر المسلم، فليراجعه المبتلون اليوم بتكفير المسلمين، واعتبارهم مرتدّين لشبهات قامت في نفوسهم؛ لجهلهم بالكتاب والسُّنَّة وما كان عليه السلف الصالح، أودت بهم إلى مفارقة المسلمين حتى في مساجدهم، فلا يصلّون معهم جمعة ولا جماعة، والله المستعان.

ثم ذكر السيد رحمه الله أن الحديث متفق على صحته عن جماعة من الصحابة منهم: حذيفة وأبو سعيد وأبو هريرة، بل رواته منهم قد بلغوا عدد التواتر كما في "جامع الأصول" و"مجمع الزوائد". قلت: وقد جزم بتواتره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 12/ 491، وقد ذكرت لفظ الحديث من رواية أبي هريرة في المقدمة ص 20.

ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ذكر الحديث في "مجموع الفتاوى" 1/ 231 محتجًّا به على وجوب الاحتياط في التكفير فقال: "فهذا رجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذري، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلًا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه فغفر له بذلك". وقد بسط القول في ذلك في مكان آخر منه 11/ 408 - 411، فليراجعه من شاء التوسع في هذا الموضوع الهام. الألبانيّ رحمه الله.

ص: 726

وأقول: هذا ليس من محل النزاع، فهذا مؤمن بالله، عالم بأن الله يعذب من عصاه، وقد وقع من خوفه وخشية أمْره بتحريقه، ففي قلبه خير، وإن لم يعمل خيرًا قط، ولذلك الخير أدركته رحمة الله.

واستدل أيضًا على مدعاه بما أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث الأسود بن سَرِيع مرفوعًا: "يأتي أربعة يوم القيامة: رجل أصم، لا يسمع شيئًا، ورجل أحمق، ورجل هَرِم، ورجل مات في فترة، أما الأصم فيقول: رب قد جاء الإسلام، وما أسمع شيئًا، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام، والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهَرِم فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئًا، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني من رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل عليهم ليدخلوا النار، قال: فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا"

(1)

.

وأقول: ليس الحديث أيضًا في محل النزاع؛ إذ هو في فناء النار ودخول أهلها الجنة، وهؤلاء الثلاثة الأولون ليسوا بمشركين، فإنهم كانوا في دار الدنيا غير مكلفين، فلم يتحقق منهم أنهم كانوا مشركين، وليسوا ممن دخل النار، ثم

(1)

(98) أورده في الفصل المشار إليه آنفًا 2/ 203 - 204، وما بين المعكوفتين زيادة منه سقطت من الأصل في ظني، وليس من المؤلف، وقوله بعد سطور:"والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه" فيه أمران: الأول أنه لا علاقة لشيخ الإسلام بالحديث هنا كما ذكرت في التعليق آنفًا، والآخر: أن الحديث تام لا نقص فيه كما أورده ابن القيم وهو كذلك في "المسند" 4/ 24، وإسناده جيد ورواه عقبة بإسناد آخر عن أبي هريرة مثله، غير أنه قال في آخره:"فمن دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ومن لم يدخلها يسحب إليها"، ورجاله ثقات لولا أن فيه عنعنة الحسن البصري، وقد ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (246) مختصرًا نحوه وقال:"إسناده مقارب". والأول أخرجه ابن حبان أيضًا (1827) والطبراني في "الكبير"(841) بلفظ: "أربعة يحتجون يوم القيامة. . .". وهذا أتم ولعله الذي أشار إليه المؤلف. لكن لفظ أحمد كما سبق. ثم رأيت الحديث من حديث أبي هريرة في "السُّنّة" لابن أبي عاصم (404 - بتحقيقي) وفيه الإحالة في تخريج حديث الأسود إلى "الصحيحة"(1434)، ولو كان تحت يدي لأغناني عن كثير من هذا التعليق. الألبانيّ رحمه الله.

ص: 727

فَنِيَت، وهم فيها، والرابع الذي مات في الفترة مخاطَب بشرع من قبله بنص قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]، والحديث لم يذكره شيخ الإسلام بتمامه، وهو حديث مشكل

(1)

، ولا حاجة لنا إلى الكلام عليه بعد بيان أنه ليس من محل النزاع.

ثم استدل شيخ الإسلام بحديث رواه ابن المبارك، من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن رجلين

(2)

دخلا النار، واشتد صياحهما، فقال الرب جل جلاله:

(1)

(*) قلت: لم يتبين لي وجه الإشكال إلا أن يكون بدا له التعارض بين الآية {إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] وبين قوله الذي مات في الفترة: "ما أتاني من نذير". فإن كان هذا هو المشكل فلا إشكال عندي، لأنه ليس من الضروري أن تبلغ النذارة كل فرد من أفراد كل أمة، بل يمكن أن يكون في كل أمة من لم تبلغهم الدعوة. حتى في هذه الأمة المحمدية فمن الذي يستطيع أن يقول بأن سكان القطب الشمالي والقطب الجنوبي قد بلغتهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا سيما قبل عصرنا هذا الذي تيسّرت فيه طرق التبليغ كالراديو وغيره. ولكن أين المبلغون للدعوة إليهم وإلى أمثالهم على وجه الأرض وبِلغاتهم؟ بل أين المبلغون للدعوة الحق التي نزلت على قلب محمد صلى الله عليه وسلم للمسلمين أنفسهم، حين انحرف الكثيرون منهم عنها، بل وحاربوها. هذا أولًا.

وثانيًا: فإن قول المؤلف: إن الذي مات في الفترة مخاطَب بشرع من قبله .. لا يدل عليه قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ} [فاطر: 24]؛ لأن المعنى: "ما من أمة من الأمم الماضية إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها" كما قال الشوكاني في "فتح القدير". وأما أنها تدل على أن من مات فيها نذير من الأنبياء ينذرها كما قال الشوكاني في "فتح القدير": شيء لا تدل عليه الآية لا من قريب ولا من بعيد، بل لا بد له من دليل خاص. فكيف والثابت خلافه وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة". رواه الشيخان وهو مخرَّج في "الإرواء"(285). الألباني رحمه الله.

(2)

قلت: الأصل: "وفيه رجلين" وهو خطأ صححته وغيره من الترمذي (2602)، وأخرجه من طريق ابن المبارك وقال:"إسناده ضعيف؛ لأنه عن رشدين بن سعد عن ابن أنعم الإفريقي، وهما ضعيفان عند أهل الحديث". ثم إنه لم يستدل به ابن تيمية وإنما تلميذه ابن القيم، فإنه أورده في الفصل السابق الذكر، وقد عرفت قولنا فيه فتنبه. الألبانيّ رحمه الله.

ص: 728

أخرجوهما، فقال: لأي شيء اشتد صياحكما؟ فقالا: فعلنا ذلك لترحمنا، فقال: رحمتي لكما أن تنطلقا، فتلقيا أنفسكما في النار، فيلقي أحدهما نفسه، فيجعلها عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر فلا يلقي، فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك، كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني أرجو أنك لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها، فيقول: لك رجاؤك، فيدخلان جميعًا الجنة برحمة الله".

وأقول: هذا كما تراه في إخراج العصاة من الموحدين، فإنه لا يقول ابن تيمية أن يخرج الكفار من النار كما يقول غيره.

ثم ساق حديثًا ثالثًا مثل هذا الحديث، ليس من محل النزاع.

ثم تعرض لأدلة القائلين بعدم فناء النار

(1)

، فقال: لهم ست طرق:

أحدها: الإجماع على عدم فنائها، قال: والإجماع غير معلوم، إنما يظنه في هذه المسألة من لم يعرف النزاع فيها، وقد عرفت النزاع قديمًا وحديثًا، قال: ولو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم أنه قال: النار لا تفنى لم يجد إلى ذلك سبيلًا، ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك، فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك.

وأقول: قد عرفت أنه نقل عن ستة من الصحابة عبارات لا تدل على مدعاه، وهو فناء النار بنوع من الدلالات، كما أوضحناه، ولا يصح نسبته لتلك الدعوى إلى واحد من أولئك الستة، فلم يوجد لأحد مما وجدنا عن واحد من الصحابة أنه يقول بفناء النار، كما أنه لا يوجد قائل من الصحابة أنه يقول بعدم فناء النار، فإن هذه المسألة وهي فناء النار، لا تُعرف في عصر الصحابة، ولا دارت بينهم، فليس نفي، ولا إثبات، بل الذي عرفوه فيها هو ما في الكتاب والسُّنَّة من خلود أهل النار أبدًا، وأن أهلها ليسوا منها بمخرجين، وعرفوا ما ثبت من خروج عصاة الموحدين.

إذا عرفت هذا عرفت أن دعوى فناء النار، أو عدم فنائها قول للصحابة

(1)

في (فصل: والذين قطعوا بدوام النار لهم ست طرق. . .) فذكرها وأطال النفس في ذلك 2/ 181 - 189. وليس فيه ذكر لابن تيمية أيضًا، ولا له ذكر في المخطوطة.

ص: 729

دعوى باطلة؛ إذ هذه الدعوى لا توجد في عصرهم حتى يُجمعوا عليها نفيًا أو إثباتًا، نعم القول الذي دل عليه القرآن من خلود النار أهلها فيها أبدًا يتضمن القول عنهم بما تضمّنه القرآن، ودل عليه الأصل فيما أخبر الله به عن الدارين الأخروين البقاء، فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى الدليل على ذلك الأصل، ثم قال:

الثاني: -أي: من الستة الأدلة للقائلين بعدم الفناء- أن القرآن دل على ذلك دلالة قاطعة، فإنه تعالى أخبر أنه {عَذَابٌ مُقِيمٌ} [المائدة: 37]، وأنه {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75]، وأنه لا يزيدهم إلا عذابا

(1)

، وأنهم {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}

(2)

، وأنهم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ

(3)

} [البقرة: 167]، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ

(4)

} [الحجر: 48]، وإن الله حرم الجنة على الكافرين

(5)

، وأنهم

(1)

إشارة إلى قوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} [النبأ: 30].

(2)

وردت في عدة آيات: الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)} [النساء: 168، 168]. الثانية: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)} [الأحزاب: 64، 65]. الثالثة: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23].

(3)

الأصل: (بمخرجين) وهو خطأ فاحش من الناسخ وتمام الآية: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)} [البقرة: 167].

(4)

حَشْر هذه الجملة هنا سهو من المؤلف تبعًا لابن القيم رحمهما الله تعالى. فإنها في أهل الجنة. قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)} [الحجر: 45 - 48]. وقد وقع هذا السهو من ابن القيم في كتابه "الصواعق المرسلة" أيضًا، ولم يتنبه له مختصره الشيخ محمد ابن الموصلي رحمه الله تعالى، وفي "شفاء العليل" أيضًا ص 258 و 259، على الرغم من وقوع ذلك منه في موضعين آخرين ص 225 و 228 من "المختصر" مطبعة الإمام بمصر. الألبانيّ رحمه الله.

(5)

يشير إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

ص: 730

{وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ

(1)

} [الأعراف: 40]، و {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65]، قال: والجواب أن هذا كله مسلَّم وأنهم لا يخرجون منها، وأنه لا يفتّر عنهم العذاب ما دامت باقية، وليس محل النزاع، إنما محل النزاع لا تفنى النار، قال: وهذه النصوص تقضي بخلودهم في النار ما دامت باقية، هذا جوابه.

وأقول: قد عرفت أنه لا يتم هذا الجواب ما لم يؤخذ بأدلة ناهضة على فناء النار، ولم يقم دليل على ذلك، قال:

الطريق الثالث -من أدلة القائلين بعدم فناء النار-: أن السُّنَّة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه أدنى ذرة من إيمان دون الكفار، فأحاديث الشفاعة كلها صريحة في خروج الموحدين، دون الكافرين، قال:

الجواب: أن هذا لا شك فيه، وهو إنما يدل على ما قلناه من خروج الموحدين فيها، وهي باقية، ويبقى المشركون ما دامت باقية.

وأقول: الجواب ما سلف، ثم قال:

الطريق الرابعة -للقائلين بعدم فناء النار-: أوْقَفَنا الرسول على ذلك، وعَلِمناه من دينه ضرورة، كما علمنا دوام الجنة، وأجاب بأنه لا ريب أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية، هذا هو المعلوم من دينه ضرورة، وأما كونها أبدية لا تفنى كالجنة، فمن أين في القرآن والسُّنَّة دليل واحد على ذلك؟.

وأقول: الدليل يتوجه على من ادّعَى الفناء، ولم يأت شيخ الإسلام بشيء واحد، والأصل هو خلود النار، وأبديتها، كما دل عليه الكتاب والسُّنَّة، فلا يحتاج مدعي عدم الفناء إلى دليل آخر بعد هذا الأصل، قال:

والدليل الخامس -من أدلة القائلين بفناء النار-: أن في عقائد أهل السُّنَّة أن الجنة والنار مخلوقتان، لا يفنيان أبدًا، والقول بفنائها من أقوال أهل البدع، قال:

والجواب: أنه لا ريب أن القول بفنائها قول أهل البدع، وأما القول بفناء

ص: 731

النار وحدها فقد أوجدناكم من قال به من الصحابة، وتفريقهم بين الجنة والنار، فكيف تقولون: إنه من قول أهل البدع؟.

وأقول: لأنه يصدق عليه رسم البدع، ففي "القاموس": البدعة بالكسر: الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال. انتهى.

والمعلوم أنه لم يقع في ذلك العصر قول بفناء النار، ودخول الكفار جنات تجري من تحتها الأنهار، ولا أوجدنا شيخ الإسلام مع تبحره في العلوم وسعة اطلاعه على أقوال السلف والخلف على قول واحد من الصحابة بفناء النار، ودخول الكفار الجنات، وإن كان كذلك فالقول به بدعة قطعًا

(1)

، قال:

والدليل السادس -للقائلين بعدم فناء النار-: أن العقل يقضي بخلود الكفار: ثم قرر وجه الاستدلال بما حاصله أنه مبني على أن المعاد، وإثابة النفوس المطيعة وعقوبة النفوس العاصية مما يُعلم بالعقل، كما يعلم بالسمع، قال: كما دل عليه القرآن في غير موضع، كإنكاره تعالى على من زعم أنه يخلق خلقه عبثًا، وأنهم إليه لا يرجعون، وأنه يتركهم سدى، لا يثيبهم، ولا يعاقبهم، وأن ذلك يقدح في حكمته، وكماله، وأنه ينسبه إلى ما لا يليق، ثم قرره تقريرًا آخر، وأجاب عنه بقوله:

وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده، فإذا المسألة من المسائل التي لا تُعلم إلا بخبر الصادق، ثم إن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالًا، وأما تفصيلًا فلا يُعلم إلا بالسمع، وقد دل السمع على دوام ثواب المطيعين، وأما عقاب العصاة فدل دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين، وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار، فهو من معترك النزال، فمن كان السمع في جانبه فهو أعلم بالصواب.

(1)

قلت: وهذا هو الصواب جزمًا. ومما يدلك عليه أن إمام السُّنَّة الإمام أحمد لمّا حكى عن الجهمية القول بفناء الجنة والنار، ردّه عليهم بشقيه كما سبق في المقدمة، ولم يفرق كما فعل ابن تيمية هنا، عفا الله عنا وعنه، بل هو نفسه ذكر اتفاق السلف على ذلك كما بيّنته هناك. فسبحان من لا يضل ولا ينسى. الألباني رحمه الله.

ص: 732

قلت: وهو تحقيق حسن، إلا أني لا أدري من الذين قالوا: إن العقل حكم بخلود العصاة في النار، فإن أشد الناس بهم الوعيدية، والمعتزلة، إلا القليل، وأكثرهم قائلون بأن العقل يقضي بحسن العفو عن الكفار، لولا ورود السمع بأن الله لا يغفر أن يُشرك به.

هذا، وقد انتهت المناظرة التي ساقها ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام بين الفريقين، ومن له نباهة وهو من أولي الألباب لا يخفى عليه بُعد ما قررناه وجه الصواب.

ثم ساق شيخ الإسلام من الأدلة على مدعاه، فقال مستدلًّا:

إن الله خلق عباده على الفطرة، وخلقهم حنفاء، فلو خُلّوا وفِطَرهم لَمَا نشئوا إلا على التوحيد، قال: والأشقياء غيروا الفطرة إلى ضدها، واستمروا على ذلك التغيير، ولم تُغن عنهم الآيات والنذر في هذه الدار، فأتاح الله لهم آيات أخر، وأقضية، وعقوبات فوق التي كانت في الدنيا، يستخرج الخبث والنجاسة التي لا تزول بغير النار، فإذا زال موجب العقاب وسببه، زال العذاب، وبقي مقتضى الرحمة، لا معارض له

(1)

، وأراد بمقتضى الرحمة الميثاق الذي أخذ عليهم بالإيمان، وهم في عالم الذر

(2)

.

وأقول: لا شك أنه يدخل النار من كفار الجن والشياطين أمم لا يُحصون، بل ربما يدعى أنهم أكثر من كفار بني آدم، وما ذكره شيخ الإسلام من عَوْد أهل النار بعد زوال خبيث الكفر إلى الفطرة، والإقرار الذي كان في عالم الذرّ إن ساعدناه عليه ثم له في من أقر في عالم الذر بالربوبية من بني آدم لا غير، ودعواه فناء النار، وأن سكانها وأهلها يدخلون الجنة، وهو حكم عام

(1)

الحادي 2/ 193 - 194 من الفصل الذي سبقت الإشارة إليه، وليس فيه ذكر لابن تيمية فتنبه، وقد صححت منه بعض الأخطاء وقعت في الأصل. الألبانيّ.

(2)

انظر: (باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده) في "السُّنَّة" 196 - 206، و"سلسلة الأحاديث الصحيحة"(1623)، و"تخريج الطحاوية" ص 240 - 247، "تخريج السُّنَّة"، (34 باب ذكر أخذ ربنا الميثاق من عباده) 1/ 87 - 91. وانظر: ابن حبان (1752).

ص: 733

لكل من دخل النار، والدليل خاص ببعض بني آدم، وإنما قلناه: إن ساعدناه؛ لأنه قد ثبت في الأحاديث أن الكفار لم تشملهم الفطرة، والإقرار بالربوبية في عالم الذر لم يكن إلا كرهًا، فليس لهم حظ من فطرة الله التي فطر الناس عليها، كما أخرجه أحمد، والبخاريّ، ومسلم، من حديث أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما في الأرض أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأبَيْت إلا أن تشرك بي"

(1)

، والتعقيب بالفاء يشعر بأن الإباء كان عند أخذ الميثاق عليه، وهو في ظهر أبيه أن لا يشرك في الدنيا، ويوضح ذلك ما أخرج ابن عبد البر في "التمهيد" من طريق السديّ عن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة الْهَمْداني، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في الآية: أن الله مسح صفحة ظهر آدم، فأخرج فيها ذرية بيضاء، مثل اللؤلؤ، كهيئة الذرّ، ومسح صفحة ظهره اليسرى، فأخرج منها ذرية سوداء، كهيئة الذرّ، فذلك قوله:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)} [الواقعة: 27]، {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)} [الواقعة: 41] ثم أخذ الميثاق، فقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فأعطاها طائفة طائعين، وطائفة كارهين -على وجه التقية- إلى أن قال: وذلك قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83]، وهذا المعنى كثير في الأحاديث.

ومنه حديث الغلام الذي قتله الخضر، أخرج مسلم، وأبو داود، والترمذيّ، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"، وابن مردويه، عن أبي بن كعب، عنه صلى الله عليه وسلم قال:"الغلام الذي قتله الخضر طُبع يوم طُبع كافرًا، ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا".

وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه، عن ابن عباس مثله. نعم، أحاديث: "كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه،

(1)

قلت: ورواه ابن أبي عاصم في "السُّنَّة"(رقم - 99 - بتحقيقي)، وهو مخرج فيه وهو في "صحيح الجامع"(1908 و 7979). الألبانيّ.

ص: 734

وينصرانه، ويمجسانه" أحاديث ثابتة في "الصحيحين" وغيرهما، وتفسير الفطرة بالدِّين منصوص عليه، فلا بد من الجمع بين الأحاديث بتخصيص أحاديث الفطرة، ونحوها، وهي أحاديث كثيرة من الجانبين، وهي كلها في بني آدم، ثم لك أن تجمع بين أحاديث عموم الفطرة، وحديث أنس الذي عند أحمد، والشيخين الذي أسلفناه بأن نقول: الكل على الفطرة؛ أي: فطرة الإقرار بالتوحيد، من أقر تقية كرهًا، ومن أقر طوعًا حقيقة كذلك، فيتم العموم، ثم إن المقرين تقية اجتالتهم الشياطين، كما في لفظ الحديث

(1)

، وهوّدهم الآباء، ونصّروهم، ومجّسوهم، واقتادوهم، وانقادوا لهم، وللشياطين لِمَا في طبائعهم الخبيثة من أول وهلة حين أقروا تقية، تجتمع الأحاديث، والله أعلم.

ثم قال شيخ الإسلام:

فإذا أخذت النار مأخذها منهم، وحصلت الحكمة المطلوبة من عذابهم، فإن العذاب لم يكن سُدى، وإنما كان لحكمة مطلوبة، فإذا حصلت تلك الحكمة لم يبق في التعذيب أمر يُطلب.

وأقول: لم يُقم شيخ الإسلام دليلًا على أن الحكمة المطلوبة لله في تعذيب الكفار هي زوال النجاسة الكفرية، وخبثه الذي لا يزول إلا بعذاب النار، وإنما قال ذلك تظننًا منه، وتحسبًا تفرّع عن اعتقاده فناء النار، وقد أورد على نفسه سؤالًا، فقال:

إن قيل: سبب التعذيب لا يزول إلا إذا كان عارضًا كمعاصي الموحدين،

(1)

يشير إلى حديث عياض بن حمار المشاجعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي ضعفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزّل به سلطانًا، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمَقَتَهم عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا ويقظانًا. وإن الله أمرني أن أحرق قريشًا فقلت: رب إذن يثلبوا رأسي ويدعوه خبزة. قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك". الألباني رحمه الله.

ص: 735

أما ما كان لازمًا كالكفر والشرك، فإن أثره لا يزول كما لا يزول السبب، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك، فقال:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] إخبارًا بأن نفوسهم وطبائعهم لا تقبل غير الشرك، وإنها غير قابلة للإيمان أصلًا، قال تعالى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)} [الإسراء: 72]، فأخبر أن ضلالهم عن الهدى دائم لا يزول مع معاينتهم الحقائق التي أخبرت بها الرسل، وقال:{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [الأنفال: 23] فهذا يدلك على أنه ليس فيهم خير يقتضي الرحمة، ولو كان فيهم خير لَمَا ضيّع عليهم أثر، وهو يدل على أنه لا خير فيهم هنالك أيضًا.

وأجاب بقوله: لَعَمْر الله إن هذا أقوى ما يُتمسك به في هذه المسألة، ولكن هل هذا الكفر والخبث والتكذيب أمر ذاتي لهم زواله مستحيل، أم هو أمر عارض طارئ على الفطرة، قابل للزوال؟ وليس بأيديكم ما يدل على استحالة زواله، وأنه أمر ذاتي قد أخبر الله أنه فطر عباده على الحنفية، وأن الشياطين اجتالتهم عنها، فلم يفطرهم على الكفر والتكذيب، وإنما فطرهم على الإقرار بخالقهم، ومحبته، وتوحيده، وإذا كان هذا الحق الذي فُطروا عليه قد أمكن زواله بالكفر والشرك كان زوال الكفر والشرك بضده أَولى وأحرى، ولا ريب أنهم لو رُدّوا على تلك الحال لعادوا لِمَا نهوا عنه، لكن من أين لكم أن تلك الحال لا تزول، ولا تبدل بنشأة أخرى ينشؤهم عليها تبارك وتعالى؟

أقول: قد دار جواب هذا الإيراد، والذي أقر أنه من أقوى ما يتمسك به المخالف على أن الكفار مخلوقون على الفطرة؛ أي: فطرة الدين الحنيف، وهو التوحيد، وقد سمعت من حديث ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهم أنها لم تشملهم الفطرة، ولا وقع منهم الإقرار بالوحدانية في عالم الذر إلا تقية.

ثم هب أن الفطرة شاملة لبني آدم، كما قال تعالى:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، والفطرة إنما هي للناس، كما في الآية والحديث:"إنهم خُلقوا حنفاء، فاجتالتهم الشياطين"، فإن ساعدناه على أن الناس مفطورون على التوحيد فما يصنع بالجن والشياطين، وهم من جملة من تفنى عنهم النار، ويدخلون الجنة؟ أيزعم أنهم مفطورون على التوحيد مخلوقون

ص: 736

حنفاء؟ فمن اجتالهم؟ فإنهم هم الذين اجتالوا العباد، فهذا وارد على عمومهم الفطرة، مع التسليم والمماشاة، وأما قوله: فمن أين لكم أنه لا يزول؟

قلنا: من إخبار الله في الآيات التي ساقها في صدر السؤال، ولعدم الدليل على زوال ما كانوا عليه، وكفى دليلًا على عدم زوال نجاسة الكفر، وخبث الشرك، ودرن التكذيب بالنار قوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} إلا أنه قال شيخ الإسلام:

إن هذا الإخبار منه تعالى عنهم قبل دخولهم النار، فإنه تعالى قال:{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ} إلى قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 27، 28]؛ أي: لو رُدّوا من شفير جهنم قبل دخولها لعادوا لِمَا نهوا عنه من التكذيب والكفر، وذلك لازم لهم لم يُزل عنهم خبث الشرك، فإنه لا يزول إلا بدخول النار.

قلت: قد حكى الله عنهم أنهم يقولون وهم بين أطباقها يَصْلَونها: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون: 107]، وأنه يقول في جوابهم:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فلم يجبهم تعالى، وقد ذاقوا العذاب، واعترفوا بالظلم، إلا بقوله:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ، ولم يقل: ابقوا حتى تطهروا من خبث الكفر، ولعل شيخ الإسلام يقول: لم يكن عند هذا الاعتراف قد طهرت تلك النفوس من خبث الشرك.

وجوابه: أن هذه الدعوى من العنت، وتقريره أن زوال خبث الشرك والكفر بالنار من عيب تفرّع عن دعوى الفناء للنار، والأصل بقاؤه ما لم يقم عليه دليل، كما عرفت.

ثم استدلّ على ذلك المدعى بأحاديث الشفاعة الثابتة في "الصحيحين" وغيرهما، وفيها:"أن الله يقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط" قال:

فهذا يدل على إخراج قوم لم يكن في قلوبهم خير قط، كما يدل له السياق، فإن لفظ الحديث هكذا: "أخرجوا من في قلبه مثقال ذرة من خير، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا، فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفعتِ المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين،

ص: 737

فيقبض قبضة. . ." الحديث

(1)

، قال:

فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير، ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.

أقول: الحديث ليس من محل النزاع، فإنه في إخراج أقوام من النار، وهي باقية، وقد قرر شيخ الإسلام فيما سلف أنه لا يخرج منها الكفار، وهي باقية، وإن كان إنما استدل به عليه بعموم الرحمة.

ثم يقال: الحديث دلَّ على أن الملائكة أخرجت من علمت في قلبه مثقال ذرة من خير، ولا دليل أنهم يعلمون كل من في قلبه مثقال ذرة من خير، فإنهم لا يعلمون من أحوال القلوب إلا ما أعلمهم الله، كما قال تعالى:{يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الانفطار: 12]، فهم يعلمون أفعالنا، لا ما انطوت عليه قلوبنا، ولهذا وردت الأحاديث أنهم يصعدون بالعمل يرونه حسنًا، ويُرَدّ، فيقول الله: إن فاعله أراد به كذا وكذا؛ أي: من الرياء ونحوه، فأخرج البزار، والظبرانيّ في "الأوسط"، والدارقطنيّ، والأصبهانيّ في "الترغيب والترهيب"

(1)

(129) وتمامه: "من النار فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حممًا. . ." الحديث وهو من رواية أبي سعيد الخدري. وأخرجه أحمد أيضًا 3/ 94، والحاكم 4/ 583، وصححه ووافقه الذهبي وهو عنده مطول جدًّا. وفي طريق أخرى:"قال: ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا أخرجه منها". أخرجه أحمد أيضًا 3/ 11 - 12، وصححه الحاكم 4/ 584 - 586 على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي. ويشهد للحديث ما جاء في آخر حديث ابن مسعود الطويل في الشفاعة في "المستدرك" 4/ 600:"ثم قرأ عبد الله: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)} [المدثر: 42] وقال بيده فعقده فقالوا: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)} [المدثر: 43 - 46] هل ترون في هؤلاء من خير؟ وما يترك فيها أحد فيه خير، فإذا أراد الله أن لا يخرج أحدًا غيّر وجوههم وألوانهم. . . فعند ذلك قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)} [المؤمنون: 107، 108] فإذا قال ذلك انطبقت عليهم فلم يخرج منهم بشر". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين". وردّه الذهبي بقوله: "قلت: ما احتجا بأبي الزعراء". قلت: واسمه عبد الله بن هانئ الكوفي، وثقه العجلي كما في "التقريب".

ص: 738

من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة، فتنتصب بين يدي الله، فيقول: ألقوا هذه، واقبلوا هذه، فتقول الملائكة: وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل، فيقول الله: إن هذا كان لغير وجهي، وأنا لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي"

(1)

.

وهذا الحديث فيه الإخبار بأن الملائكة قالت: "لم نذر فيها خيرًا"؛ أي: أحدًا فيه خير، والمراد: ما علموه بإعلام الله، ويجوز أن يقال: لم يُعْلمهم بكل من في قلبه خير، وأنه بقي من أخرجهم بقبضته، ويدل له أن لفظ الحديث:"أنه أخرج بالقبضة من لم يعملوا خيرًا قط"، فنفى العمل، ولم ينف الاعتقاد، وفي حديث الشفاعة تصريح بإخراج قوم لم يعملوا خيرًا قط، ويفيد مفهومه أن في قلوبهم خيرًا، ثم سياق الحديث يدل على أنه أُريدَ بهم أهل التوحيد؛ لأنه تعالى ذكر الشفاعة للملائكة، والأنبياء، والمؤمنين، ومعلوم أن هؤلاء يشفعون بعصاة أهل التوحيد، فإنه لا يقول ابن تيمية ولا غيره: إنه يشفع للكفار بقرائن القبض التي قبضها الرب في عصاة الموحدين، والأَلْيق بالسياق أنها أيضًا فيهم

(2)

.

وقد أخرج البيهقي في الشفاعة من حديث جابر مرفوعًا، وفيه: "اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوا -إلى أن قال- ثم

(1)

وقال المنذري في "الترغيب": "رواه البزار والطبراني بإسنادين" رواة أحدهما رواة الصحيح و (البيهقي). وكذا قال الهيثمي في "المجمع" 10/ 350 إلا أنه قيّد الطبراني بالأوسط كما في الكتاب ولم يذكر البيهقي. وقد كنت حققت الكلام على هذا الحديث وأودعته في "صحيح الترغيب" أو في "ضعيفه"، ولا أَطُولُهما لأبيّن مرتبته.

(2)

قلت: ويشهد لهذا نصوص كثيرة: منها حديث أنس مرفوعًا: "ما زلت أشفع إلى ربي عز وجل ويشفّعني وأشفع ويشفّعني حتى أقول: أي رب شفّعني فيمن قال: لا إله إلا الله. فيقول: هذه ليست لك يا محمد، ولا لأحد، هذه لي، وعزتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النار أحدًا يقول: لا إله إلا الله". أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد"، وابن أبي عاصم في "السُّنَّة"(828) وهو حديث صحيح، وقد أخرجه مسلم وغيره بمعناه كما بيّنت هناك. الألباني رحمه الله.

ص: 739

يقول الله تعالى: الآن أخرجوا بعلمي وحِلمي، فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه"، فقوله تعالى: "بعلمي" يدل على أنه عَلِم قومًا في قلوبهم الخير، لم تعلمهم الملائكة.

وَهَبْ أنا ساعدناه، وأن تعالى أخرج قومًا من الكفار من النار، أين هذا من محل النزاع، وهو فناء النار، وإدخال من كان فيها من الكفار الجنة؟.

ثم قال شيخ الإسلام مستدلًّا أيضًا:

إن العبد إذا اعترف بذنوبه حقيقة الاعتراف المتضمن لنسبة السوء والظلم واللوم إليه، والحمد والرحمة والكمال المطلق لربه، وفي كل وقت يستعطف ربه، ويستدعي رحمته، وإذا أراد الله أن يرحم عبده ألقى ذلك في قلبه، لا سيما إذا اقترن بذلك عَزْم العبد على ترك المعاودة، وعَلِم الله ذلك من داخل قلبه، وسويدائه، فإنه لا يختلف عن الرحمة، فإذا علمت تلك النفوس الخبيثة أن العذاب أَولى لها، وأنه لا يليق بها سواه، ولا تصلح إلا له، فقد ذابت تلك الخبائث، وتلاشت، وتبدَّلت، وبذلّ وانكسار وثناء على رب العالمين تبارك وتعالى لم يكن في حكمته أن يستمرّ العذاب بعد ذلك؛ إذ قد تبدّل شرّها بخيرها، وشِركها بتوحيدها، وكِبْرها بخضوعها وذُلّها.

وأقول: قال الله تعالى مخبرًا عن المشركين واعترافهم المذكور: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)} [الملك: 10، 11] فهذا نص في اعترافهم الاعتراف الحقيقي، فإنه لا يُطلق تعالى على ما ليس باعتراف أنه اعتراف، ثم قال:{فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]؛ أي: بُعْدًا لهم عن الرحمة، والإغاثة، والغفران، فهذا نصّ فى وجه هذا القول الذي قاله تظنّنًا، وقال تعالى لمّا قالوا وهم في دركات النار:{أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، فاعترفوا بظلمهم، وأخبروا عن عزيمتهم أنهم لا يعودون؛ أي: إن عدنا إلى ما كنا فيه من الكفر والتكذيب، كما يفيده لفظ العود، ولم يجب عليهم تعالى إلا بقوله:{اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108].

ص: 740

وأخرج الترمذيّ

(1)

، والبيهقيّ من حديث أبي الدرداء مرفوعًا، وفيه:"إن أهل النار يُنادُون خزنة جهنم، ثم يدعون مالكًا، ثم يقولون: ادعوا ربكم، فلا أحد خير من ربكم، فيقولون: {. . . رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)} [المؤمنون: 106]، فيجيب عليهم الرب: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك أخذوا في الزفير والشهيق والويل".

ثم يقال: وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} في آيتين من سورة (النساء)[48 و 116] وهو غير مقيد بزمان، ولا حال، فيجب الوقوف والتسليم في هذا المقام، والاعتراف بالعجز عن إدراك حكمة الحكيم العلام، فكيف يقول شيخ الإسلام: لم يكن في حكمته أن يستمر بها العذاب؟ وأين للعقول الاطلاع على أسرار حكمته؟ وكيف لها الوصول إلى معرفة عجائب ملكوته وجبروته

(2)

.

(1)

(134) قلت: أخرجه في "صفة جهنم"(2589) من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء مرفوعًا بلفظ: "يلقى على أهل النار الجوع .. " الحديث. وفيه ما ذكره المؤلف رحمه الله، وأعلّه الترمذي بالوقف على أبي الدرداء، وإعلاله بشهر أَولى لأنه ضعيف سيئ الحفظ، ومن طريقه أخرجه البيهقي كما ذكر المنذري في "الترغيب" للمنذري، وقد ذكره بتمامه وكذلك هو في "المشكاة" (5686). ولعل الأَولى الاستدلال بما رواه الحاكم 4/ 598 بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو في قوله عز وجل:"ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك" قال: يخلي عنهم أربعين عامًا لا يجيبهم ثم أجابهم: (إنكم ماكثون)، فيقولون:{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)} [المؤمنون: 107] فيخلي عنهم مثل الدنيا ثم أجابهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] قال: والله ما ينبس القوم بعد هذه الكلمة إن كان إلا الزفير والشهيق. وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. ولبعضه شاهد تقدم برقم (129)، وعزاه في "المجمع" 10/ 396 للطبراني وقال:"ورجاله رجال الصحيح" بلفظ: "ثم ييأس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق، شبه أصواتهم أصوات الحمير، أولها شهيق وآخرها زفير". الألبانيّ رحمه الله.

(2)

ومن قول شيخ الإسلام في فصل له في إثبات حكمة أحكم الحاكمين، وأن السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المشهورين يقرّون بها لله في خلقه وأمره قال: =

ص: 741

ثم أخذ شيخ الإسلام يستدل بأحاديث: "آخر الناس خروجًا من النار"، وأحاديث:"أدنى الناس منزلة في الجنة"، وهي أحاديث واضحة في عصاة الموحدين، ولا حاجة إلى سردها فهي معروفة في محالها

(1)

.

ثم قال مستدلًّا على مدعاه: أنه تعالى يُخبر عن العذاب أنه: {عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55]، و {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21]، و {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [الزخرف: 65]، ولا يُخبر عن النعيم أنه نعيم يوم ولا في موضع واحد.

وأقول: وَرَدَ {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في قصة صالح في قوله لقومه: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)} [الشعراء: 156] والمراد به اليوم الذي أخَذهم فيه العذاب بالدنيا، وهو العقاب القريب الذي أوعدهم به في قوله:{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64](137) قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا} إلى قوله: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66]؛ أي: يوم أخذهم العذاب العظيم القريب فهو يوم من أيام الدنيا. وورد: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في قصة شعيب: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} [الشعراء: 189]، وورد:{عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فى قوله تعالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} الآية إلى قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج: 55]، وفُسّر بيوم بدر كما أخرجه ابن مردويه والضياء في "المختارة" عن ابن عباس

(2)

، وأخرجه أيضًا ابن مردويه عن أبي بن كعب. وأخرجه عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وأخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة، فهذه كلها من أيام الدنيا، وَهَبْ أنه ورد

= "لكن قد يعرف أحدهم وقد لا يعرفها، ويقرّون بما جعله من الأسباب، وما في خلقه وأمره من المصالح التي جعلها رحمة بعباده. . . وأن كل ما وقع من خلقه وأمره فعدل وحكمة، سواء عَرَف العبد ذلك أو لم يعرفه". انظر: "مجموع الفتاوى" 17/ 198 - 205، الألبانيّ رحمه الله.

(1)

قلت: في بعضها ما فيه حجة عليه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجًا منها وآخر أهل الجنة دخولًا الجنة. . ." الحديث متفق عليه. الألبانيّ رحمه الله.

(2)

ذكره السيوطي في "الدر المنثور" 4/ 368، وسكت عن إسناده كعادته، وكذا سكت عن الآثار التي بعده.

ص: 742

ذلك في صفة عذاب الآخرة، فإنه قد ثبت بنص القرآن أنهم لابثون فيها أحقابًا، والحقب -كما ذكره ابن تيمية في هذه المسألة- خمسون ألف سنة قال: أخرجه الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعًا

(1)

، والأحقاب جَمْع

(2)

، وأقله ثلاثة؛ يعني: مائة ألف سنة وخمسين ألف سنة.

هذا: وقد وَرَدَ في أهل الجنة: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)} [يس: 55]، وهذا تقييد لنعيمهم وكونهم فاكهين، والفاكه: المتنعم المتلذذ، ومعلوم أنهم في شُغُل فاكهون أبد الآباد، وقال تعالى:{يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)} [الزخرف: 68]، فإن قيل: أراد به مبدء زوال الخوف والحزن.

قلنا: كذلك {عَذَابَ يَوْمٍ} أريد به مبدأه، وحينئذ فلا دليل بالتقييد مطلق الزمان، فمن أيام الآخرة ليس لها قَيْد به من نعيم ولا عذاب، بل أُريد به مطلق الزمان، فإن أيام الآخرة ليس لها مقدار، فمتى أطلق اليوم أطلقه على مطلق المدة:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)} [المرسلات: 35]، {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21]، {هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103]، {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65]، {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} [المؤمنون: 111]، {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، فليس المراد من الجميع: اليوم المعروف للمقدار المذكور قطعًا، ومن إطلاقه على مطلق المدة قوله في قصة عاد:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 135]، ثم يبيّنه في (الحاقة) بقوله:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)} إلى قوله: {وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [6، 7]، فهذا تفسير

(1)

"الحادي" 2/ 216، وليس لابن تيمية فيه ذِكر. وبالرجوع إلى "معجم الطبراني الكبير" (7957) تبيّن أن لفظ الحديث فيه:"ثلاثون" وليس "خمسون" كما وقع فيه، وأن إسناده موضوع: فيه جعفر بن الزبير، راوي الحديث الآخر الموضوع المتقدم برقم التعليق (45)، ولذلك خرّجته في "الضعيفة"(5202).

(2)

أي: هو جمع رقم (قب)، وهو المدة من الزمان، وقد اختلفوا في مقداره، والآثار في ذلك متباينة، وقد ذكر ابن كثير بعضها.

ص: 743

لليوم العظيم بأيام وليالي، وبهذا يُعلم ضرورة أنه إذا أُطلق اليوم في تقييد الأمور الأخروية عُلم يقينًا أنه مطلق الزمان، ولا تحديد له، ولا تعيين، ولا نهاية إلا بدليل، وقد كان أعجبني استدلاله بما ذكر من تقييد عذاب الآخرة باليوم في آيات، وعدم تقييد نعيم الجنة، ولا في آية، فلما حققته وجدته لا شيء نفيًا وإثباتًا.

أما إثباتًا فإنه ما ثم دليل على مدعاه، وأما نفيًا فإنك قد سمعت ما سقناه من تقييد نعيم أهل الجنة، فاليوم كما قال الله في الجنة:{ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)} [ق: 34]. انتهى.

وقد انتهى إلى هنا ما أجلب إليه شيخ الإسلام من خيل الأدلة ورَجِلها، وكثيرها وقليلها، ودقها وجلّها، وأجرى فيها قلمه، ونشر فيها علمه، وأتى بكل ما قدر عليه من قال وقيل، واستنفر كل قبيل وجيل، وسردها تلميذه ابن قيم الجوزية، وقال في آخرها:

هذه نهاية أقدام الفريقين في هذه المسألة، ولعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب.

قلت: وقد سقنا أدلته النظرية والأثرية، ولم نترك منها إلا ما كان مكررًا، وتكلمنا على تفصيلها وتجميلها بما هدانا الله إليه، وله الحمد من غير عصبية مذهبية، ولا متابعة أشعرية، ولا معتزلية، بل بما أشهدتنا أنوار الأدلة.

واعلم أن هذه المسألة التي أتى بها شيخ الإسلام هي فرع عن مسألة خَلْق الأشقياء التي حار فيها أرباب النوى، وتحيَّر فيها فرسان الأذكياء، وترددت حولها أذهان الفطناء

(1)

، وتفرع عنها أقوال اقشعرت منها جلود الأمة الفضلاء.

فطائفة أوْهَم الجهل بذلك إلى الإقدام على نفي حكمة الله في أقواله، وهم غلاة الأشعرية، وأخطأوا في ذلك، وردّ عليهم الأئمة الأعلام، من أهل مذهبهم وغيرهم، من علماء الأنام، وآخِرُ مَن بَيَّن ما في كلامهم من الاختلال، وما في نفيهم الحكمة من الداء العضال، المحقق العلامة نزيل حرم الله

(1)

وقع في النسخة: الفطانا، والظاهر أنه تصحيف.

ص: 744

صالح بن مهدي المقبليّ في كتابه "العلم الشامخ" ولواحقه

(1)

، وفي أبحاثه المسددة، ونقلت كلامه، ورددت عليه في "إيقاظ الفكرة"، وطائفة أقدموا على أن الله ليس بقادر على هداية الكافر؛ لأنه خُلق على هيئة لا يَقبل اللطف معهما، وهم غلاة المعتزلة، وقد رد عليهم الأئمة من أهل التحقيق، وأبانوا أنه قول بالقبول غير حقيق، وأن فيه من الشناعة والبشاعة ما لا يليق، وأما ابن تيمية ومن تابعه فأثبتوا الحكمة، وعموم قدرة الله على كل شيء، وقال: بما سمعت من فناء النار، وأنه تعالى خلق الأشقياء ليتفضل عليهم بعفوه ورحمته، ولقد أصاب بإثبات الأمرين الذين نفاهما غيره، ولكنه غيَّر وجه الحُكم وحَكَم بفناء النار، ولم ينهض له دليل على ذلك كما عرفته.

وقد أشار السيد العلامة الكبير محمد بن إبراهيم الوزير إلى هذه الثلاثة الأقوال، وإلى ما تفرع عليها من الدعاوى في إثبات الإجادة في الإرادة، حيث قال:

وَلَمَّا أَتَى ذِكْرُ الْخُلُودِ بِنَارِهِ

عَلَى جُودِهِ فِي ذِكْرِهِ وَالْجَوَازِمِ

تَعَاظَمَ شَأْنَ الْخُلْدِ فِي النَّارِ كُلُّ مَنْ

تَفَكَّرَ فِي أَسْمَاءِ رَبِّ الْعَوَالِمِ

(2)

يشير إلى ما قاله ابن تيمية من:

أن صفاته تعالى من الرضا والرحمة صفتان ذاتيتان، فلا منتهى لرضاه، وأن سخطه وعذابه ليسا من صفات ذاته التي يستحيل انعكافه عنها، كعلمه وحياته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والرضى أحب إليه من الغضب، والفضل أحب إليه من العدل، ثم إن النعيم والثواب من مقتضى رحمته ومغفرته وبِرّه وكرمه، ولذلك يُضيف ما ذكر إلى نفسه، وأما العذاب والعقاب فإنهما من مخلوقاته، ولذلك لا يسمى بالمعذِّب،

(1)

هو مطبوع طبعة المنار، وهو كتاب عظيم فيه بحوث هامة في علم الكلام والعقيدة واسمه الكامل:"العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ"، ومؤلفه عالم فاضل محقق من زيودية اليمن المتحررين، أمثال المؤلف الصنعاني والشوكاني وغيرهما رحمهم الله تعالى.

(2)

"إيثار الحق على الخلق" ص 217.

ص: 745

والمعاقِب، بل يفرّق بينهما، فيجعل هذا من أوصافه، وهذا من مفعولاته، من الآية الواحدة كقوله تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر: 49، 50]، وقال:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167] ومثلها في آخر "الأنعام"، فما كان من مقتضى أسمائه وصفاته، فإنه يدوم بدوامها، ولا سيما إذا كان محبوبًا له في أسمائه وصفاته، وأما الشر وهو العذاب، فلا يدخل في أسمائه وصفاته، وإن دخل في مفعولاته لحكمة إذا حصلت زال وَفَنِي، بخلاف الخير، فإنه سبحانه دائم المعروف، ولا ينقطع معروفه أبدًا على الدوام، وليس من موجب أسمائه وصفاته أنه لم يزل معاقِبًا على الدوام، غضبان على الدوام، فتأمل هذا تأمل فقيه في أسماء الله، فإنه يتضح لك باب من أبواب معرفته ومحبته

(1)

.

ثم أشار السيد محمد إلى ما تفرَّع من معارضته ما يفيده صفات جُوده وفضله، وما صرح به من خلود الكفار، فأشار إلى الوعيد بقوله:

فَمِنْ قَائِلٍ بِالْخُلْدِ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْـ

ـوَعِيدِ بِهِ فِي الْمُنْزَلَاتِ الْقَوَاصِمِ

وذلك لأنهم حكموا بعموم الخلود لمن دخل النار من عصاة الموحدين والكفار.

والمسألة مبسوطة في علم الكلام، وما لها وعليها مما أثاره المحققون الأعلام، وأشار إلى من قال بالتخصيص لآيات الخلود بقوله:

وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّ الْخُصُوصَ مُقَدَّمٌ

وَسَاعَدَهُ أَسْمَاءُ أَحْكَمِ حَاكِمِ

فإنه أشار إلى من قال: إن الأحاديث الواردة في سعة رحمة الله وصفاته تعالى من أنه أرحم الراحمين، وورود آية الاستثناء تُخصص آيات الوعيد، وأراد بهذا البيت ما تشتمل عليه مقالة ابن تيمية؛ إذ هي عائدة إلى القول بتخصيص آيات الوعيد بالخلود، ويبعد فناء النار، كما دل عليه قوله:

وَثَالِثُهَا الْمَنْصُورُ يُرْجَى لِمُسْلِمٍ

وَمَنْ عَانَدَ الإِسْلَامَ لَيْسَ بِسَالِمِ

(1)

قلت: هذا كله من كلام ابن القيم رحمه الله في "الحادي" لخّصه المؤلف منه 2/ 198 - 199 و 201 - 202 و 205 - 206، وعزاه لابن تيمية كعادته وليس في المخطوطة. وكان في الأصل بعض الأخطاء والسَّقْط، فاستدركت ذلك منه حتى استقام المعنى.

ص: 746

فإنه أراد أن ثالث الأقوال في المسألة: التفصيل، وهو أن التخصيص من الوعيد يرجى للمسلم، ومن عاند الإسلام، وَهُم الكفار فلا يشمله التخصيص من الوعيد، وإن قصرت عبارته عن هذا الحكم لعدم مساعدة النظم، فهو مراده، فجعل الأقوال ثلاثة: بقاء الوعيد على عمومه، من غير تخصيص عصاة الموحدين والكفار.

تخصيص الموحدين لا غير، وهذا هو الذي سبق عن ابن عباس في تفسير آية "هود"، ثم قال مشيرًا إلى منشأ مقالة كل من القائلين، وأن الحاصل له المحافظة على قاعدة تعود إلى تعظيم الله جل وعلا قوله:

فَمِنْ قَاصِدٍ تَعْظِيمَهُ لَوْ رَعَى لَهُ

مِنَ الْجَبَرُوتِ الْحَقِّ عِزَّ التَّعَاظُمِ

فهذه إشارة إلى الوعيدية، وأنهم قصدوا بالقول بالتخليد في النار لكل من دخلها تنزيه الله عن خُلف الوعد الذي أفاده قوله:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] ونحوه، وأشار إلى منشأ ما ذهب إليه غلاة نفاة الحكمة بقوله:

وَمِنْ قَاصِدٍ تَعْظِيمَهُ لَوْ رَعَى لَهُ

مَحَامِدَ مَمْدُوحٍ بِأَحْكَمِ حَاكِمِ

انتهى، والله سبحانه أعلم.

وصلَّى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: انتهيت من نسخ رسالة العلامة الصنعانيّ رحمه الله وقت السحر ليلة الجمعة 7/ 10/ 1433 هـ، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7154]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي

(1)

قال الشيخ الألبانيّ رحمه الله: وكان الفراغ من تحقيق هذا الكتاب والتعليق عليه صبيحة يوم الجمعة في 25 ذي القعدة سنة 1401 هجرية، وكان ذلك من حِكَم ابتلاء الله لعباده وهو العزيز الحكيم. وسبحانك اللَّهُمَّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. محمد ناصر الدين الألباني.

ص: 747

مُعَاوِيَةَ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ:"فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل"، وَلَمْ يَقُلْ: ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْضًا: وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الدُّنْيَا).

قال الجامع عفا الله عنه: ذُكر هذا الإسناد نفسه في هذا الباب قبل خمسة أحاديث، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ) الضمير لجرير بن عبد الحميد.

[تنبيه]: رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1175)

- حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، قيل: يا أهل الجنة، فيشرئبّون، فينظرون، فيجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيقال لهم: هل تعرفون هذا الموت؟، فيقولون: هو هذا، وكلهم قد عرفوه، فيُقَدّم، فيُذبَحُ، ثم يقال لهم: يا أهل الجنة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت، قال فذلك قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)} [مريم: 39] ". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7155]

(2850) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِىُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ؛ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُدْخِلُ اللهُ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَيُدْخِلُ أَهْلَ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُومُ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ، فَيَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

(1)

"مسند أبي يعلى" 2/ 397.

ص: 748

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان المدنيّ، أبو محمد، أو أبو الحارث، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ، ثبتٌ، فقيهٌ [4] مات بعد سنة ثلاثين، أو بعد الأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

5 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ) بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كُلٌّ خَالِدٌ فِيمَا هُوَ فِيهِ)؛ أي: كلّ واحد من أهل الجنّة، ومن أهل النار خالد لا يخرج منها دائمًا، وهذا نصّ صريح في عدم فناء النار، وقد تقدّم تحقيقه قريبًا، وتمام شرح الحديث يُعلم مما سبق من شرح حديث أبي سعيد الخدريّ رحمه الله.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية):

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7155 و 7156](2850)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6544 و 6548)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 118 و 120 و 121)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7474)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 183 - 184)، و (ابن أبي داود) في "البعث"(55)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4367)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7156]

(. . .) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا صَارَ

ص: 749

أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَصَارَ أَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، أُتِيَ بِالْمَوْتِ، حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِىُّ) أبو جعفر نزيل مصر، تقدّم قريبًا.

2 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى) بن حرملة بن عمران، أبو حفص التُّجيبيّ المصريّ، صاحب الشافعيّ، صدوقٌ [11](ت 3 أو 144)(م س ق) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

3 -

(ابْنُ وَهْبٍ) هو: عبد الله الحافظ المصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ) المدنيّ، نزيل عَسْقلان، ثقة [6] مات قبل سنة خمسين ومائة (خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 31/ 233.

5 -

(أَبُوهُ) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، ثقة [3](ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 122.

و"عبد الله بن عمر رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7157]

(2851) - (حَدَّثَنِي سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الْكَافِرِ، أَوْ نَابُ الْكَافِرِ، مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظُ جِلْدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ) بن إبراهيم البغداديّ، أبو الحارث، مَرُّوذيُّ الأصلِ، ثقةٌ عابدٌ [10](ت 235)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 25/ 202.

ص: 750

2 -

(حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن حميد بن عبد الرحمن الرّؤاسيّ -بضم الراء، بعدها همزة خفيفة- أبو عوف الكوفيّ، ثقةٌ [8] (ت 189) وقيل: تسعين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الصلاة" 20/ 934.

3 -

(الْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ) بن صالح بن حَيّ، وهو حيان بن شُفّيّ -بالمعجمة، والفاء، مصغرًا- الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- الثوريّ، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ رُمي بالتشيع [7](ت 169) وكان مولده سنة مائة (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 17/ 1714.

4 -

(هَارُونُ بْنُ سَعْدٍ) العجليّ، ويقال: الجعفيّ الكوفيّ الأعور، صدوقٌ، رُمي بالرفض، ويقال: رجع عنه [7].

روى عن أبي حازم الأشجعيّ، وأبي إسحاق السَّبِيعيّ، وأبي الضُّحى، والأعمش، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، وشريك، وقيس بن الربيع، والحسن بن حَيّ، وغيرهم.

قال أحمد: روى عنه الناس، وهو صالح، وقال عثمان الدارميّ، عن ابن معين: ليس به بأس، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: لا بأس به، وقال: كان خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فلما هرب إبراهيم هرب إلى واسط، فكتب عنه بها، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وذكره أيضًا في "الضعفاء"، فقال: كان غاليًا في الرفض، لا تحل عنه الرواية بحال، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: كان من غُلاة الشيعة، وقال الساجيّ: كان يغلو في الرفض، وحكى أبو العرب الصقليّ عن ابن قتيبة أنه أنشد له شعرًا يدلّ على نزوعه عن الرفض.

تفرّد به المصنّف، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله، و"أبو حَازِمٍ" هو: سلمان الأشجعيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنىّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

ص: 751

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ضِرْسُ الْكَافِرِ) قال في "القاموس": الضِّرس بالكسر: السنّ، وقال في "المجمع": الأضراس: الأسنان سوى الثنايا الأربعة

(1)

، وقال في "المصباح": الضِّرْسُ مذكّر ما دام له هذا الاسم، فإن قيل فيه: سنّ، فهو مؤنث، فالتذكير والتأنيث باعتبار لفظين، وتذكير الأسماء وتأنيثها سماعيّ، قال ابن الأنباريّ: أخبرنا أبو العباس، عن سلمة، عن الفراء، أنه قال: الأَنْيَابُ، والأَضْرَاسُ كلها ذُكْران، وقال الزجاج: الضِّرْسُ بعينه مذكر، لا يجوز تأنيثه، فإن رأيته في شعر مؤنثًا، فإنما يعني به: السنّ، وقال أبو حاتم: الضِّرْسُ مذكر، وربما أنّثوه على معنى السنّ، وأنكر الأصمعي التأنيث، وجَمْعه أَضْرَاسٌ، وربما قيل: ضُرُوسٌ، مثلُ حِمْل وأحْمَال، وحُمُول. انتهى

(2)

.

(أَوْ نَابُ الْكَافِرِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، (مِثْلُ أُحُدٍ) بضمتين؛ أي: مثل جبل أُحد في المقدار، (وَغِلَظُ) بكسر الغين المعجمة، وفتح اللام، (جِلْدِهِ)؛ أي: الكافر، (مَسِيرَةُ ثَلَاثٍ")؛ أي: ثلاث ليال، وإنما جُعل كذلك؛ لأن عِظم جسده يضاعف في إيلامه، وذلك مقدور لله تعالى يجب الإيمان به، قال القرطبيّ: وهذا إنما يكون في حق البعض، بدليل حديث:"إن المتكبرين يُحشرون يوم القيامة أمثال الذرّ، في صورة الرجال، فيساقون إلى سجن في جهنم، يقال له: بولس"، قال: ولا شك أن الكفار متفاوتون في العقاب، كما عُلم من الكتاب والسُّنَّة. انتهى.

ونازعه ابن حجر بأن ذلك في أول الأمر عند المحشر، قاله المناويّ

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا كله لكونه أبلغ في إيلامه، وكل هذا مقدور لله تعالى يجب الإيمان به؛ لإخبار الصادق به. انتهى

(4)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 252.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 361.

(3)

"فيض القدير" 4/ 254.

(4)

"شرح النوويّ" 17/ 186.

ص: 752

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7157](2851)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2577 و 2578 و 2579)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 328 و 334 و 537)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7487)، و (البيهقيّ) في "البعث"(565) و"شعب الإيمان"(1/ 353)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 94)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7158]

(2852) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِىُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: "مَا بَيْنَ مَنْكِبَيِ الْكَافِرِ فِي النَّارِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ إيَّامٍ لِلرَّاكِبِ الْمُسْرِعِ"، وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَكِيعِىُّ: "فِي النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكِيعِىُّ) هو: أحمد بن عمر بن حفص بن جهم بن واقد الكنديّ، أبو جعفر الجلاب -بالجيم- ثقةٌ [10](ت 235)(م) من أفراد المصنّف تقدم في "الصيام" 29/ 2694.

[تنبيه]: قوله: "الوكيعيّ" بفتح الواو، وكسر الكاف: نسبة إلى وكيع، قيل له ذلك؛ لأنه رحل إلى وكيع بن الجرّاح، وأكثر عنه

(1)

.

3 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غزوان الضبىّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارفٌ، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

4 -

(أَبُوهُ) فضيل بن غزوان -بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 371 - 372.

ص: 753

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ، (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه حال كونه (يَرْفَعُهُ)؛ أي: يرفع الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه الصيغة تستعمل في الرفع حكمًا، وسبب العدول عن الصيغ المعروفة؛ كسمعت، أو حدثني، أو أخبرني، أو نحو ذلك شكّ الراوي، وهو أبو حازم في تعيين الصيغة، فأتى بما يشمل الكل، وقد سبق هذا غير مرّة. (قالَ) صلى الله عليه وسلم:("مَا) موصولة مبتدأ خبرها "مسيرة"، وَصِلتها قوله:(بَيْنَ مَنْكِبَي الْكَافِرِ) بكسر الكاف: تثنية منكب، وهو مُجْتَمَع العضد والكتف. (فِي النَّارِ)؛ أي: نار جهنم، (مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ لِلرَّاكبِ الْمُسْرِعِ") في السير، وإنما عَظُم خلقه فيها لِيَعْظُم عذابه، ويضاعَف ألمه، فتمتلئ النار منهم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "مسيرة ثلاثة أيام"، وفي رواية يوسف بن عيسى عن الفضل بن موسى بسند البخاريّ فيه:"خمسة أيام"، أخرجه الحسن بن سفيان في "مسنده" عنه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد من رواية مجاهد عنه مرفوعًا:"يَعْظُم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"، وللبيهقيّ في "البعث" من وجه آخر عن مجاهد، عن ابن عباس:"مسيرة سبعين خريفًا"، ولابن المبارك في "الزهد" عن أبي هريرة قال:"ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أُحد، يَعْظُمون لتمتلئ منهم، وليذوقوا العذاب"، وسنده صحيح، ولم يصرّح برفعه، لكن له حكم الرفع؛ لأنه لا مجال للرأي فيه، وقد أخرج أوله مسلم من وجه آخر، عن أبي هريرة، مرفوعًا، وزاد:"وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام"، وأخرجه البزار من وجه ثالث، عن أبي هريرة، بسند صحيح، بلفظ: "غِلَظ جلد الكافر، وكثافة جلده اثنان

(1)

"فيض القدير" 5/ 434.

ص: 754

وأربعون ذراعًا بذراع الجبّار"، وأخرجه البيهقيّ، وقال: أراد بذلك التهويل؛ يعني: بلفظ الجبار، قال: ويَحْتَمِل أن يريد جبارًا من الجبابرة، إشارةً إلى عِظَم الذراع، وجزم ابن حبان لَمّا أخرجه في "صحيحه" بأن الجبار مَلِك كان باليمن.

وفي مرسل عبيد بن عمير عند ابن المبارك في "الزهد" بسند صحيح: "وكثافة جلده سبعون ذراعًا"، وهذا يؤيد الاحتمال الأول؛ لأن السبعين تُطلق للمبالغة.

وللبيهقيّ من طريق عطاء بن يسار، عن أبي هريرة:"وفخذه مثل ورقان، ومقعده مثل ما بين المدينة والرّبَذة"، وأخرجه الترمذيّ، ولفظه:"بين مكة والمدينة"، و"وَرْقان" بفتح الواو، وسكون الراء، بعدها قاف: جبل معروف بالحجاز، و"الربذة" بفتحتين: قرية قريبة من المدينة

(1)

.

قال: وكأن اختلاف هذه المقادير محمول على اختلاف تعذيب الكفار في النار، وقال القرطبيّ في "المفهم": إنما عَظُم خَلْق الكافر في النار؛ ليعظم عذابه، ويضاعف ألمه، ثم قال: وهذا إنما هو في حقّ البعض، بدليل الحديث الآخر:"إن المتكبرين يُحشرون يوم القيامة أمثال الذَّرّ في صور الرجال، يساقون إلى سجن في جهنم، يقال له: بولس"، قال: ولا شك في أن الكفار متفاوتون في العذاب، كما عُلم من الكتاب والسُّنَّة، ولأنا نعلم على القطع أن عذاب مَن قتل الأنبياء وفتك في المسلمين، وأفسد في الأرض، ليس مساويًا لعذاب من كفر فقط، وأحسن معاملة المسلمين مثلًا.

قال الحافظ: أما الحديث المذكور، فأخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، بسند جيد، عن عمرو بن شعيب، على أبيه، عن جدّه، ولا حجة فيه لمدّعاه؛ لأن

(1)

قال في "المصباح المنير" 1/ 215: الرَّبَذَةُ وزانُ قَصَبة خِرقة الصائغ يجلو بها الحليّ، وبها سميت "الرَّبَذَةُ"، وهي قرية كانت عامرة في صدر الإسلام وبها قبر أبي ذرّ الغفاري، وجماعة من الصحابة، وهي في وقتنا دارسة لا يُعرف بها رسم، وهي عن المدينة في جهة الشرق على طريق حاج العراق، نحو ثلاثة أيام، هكذا أخبرني به جماعة من أهل المدينة في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة. انتهى.

ص: 755

ذلك إنما هو في أول الأمر عند الحشر، وأما الأحاديث الأخرى فمحمولة على ما بعد الاستقرار في النار.

وأما ما أخرجه الترمذيّ من حديث ابن عمر، رفعه:"إن الكافر ليَسحب لسانه الفرسخَ والفرسخين، يتوطؤه الناس" فسنده ضعيف.

وأما تفاوت الكفار في العذاب، فلا شك فيه، ويدل عليه قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وتقدم الحديث في أهون أهل النار عذابًا. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرِ الْوَكِيعِىُّ: "فِي النَّارِ")؛ يعني: أن أحمد بن عمر الوكيعيّ شيخه الثاني لم يذكر لفظة "في النار"، وإنما ذكر أبو كريب، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه.

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7158](2852)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6551)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(3/ 316)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7159]

(2853) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ، أنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ؛ أنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ "، قَالُوا: بَلَى، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ"، ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ "، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "كُلُّ عُتُلٍّ، جَوَّاظٍ، مُسْتَكْبِرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ حافظٌ، رَجَّح ابن معين أخاه المثنى عليه [10](ت 237)(خ م د س) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

(1)

"الفتح" 15/ 94 - 95، "كتاب الرقاق" رقم (6551).

ص: 756

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبريّ، أبو المثنى البصريّ القاضي، ثقةٌ متقنٌ من كبار [9](ت 196)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدّم قريبًا.

4 -

(مَعْبَدُ بْنُ خَالِدَ) بن مُرين -براء، مصغرًا- الْجَدليّ -بجيم، ومهملة مفتوحتين- من جَدِيلة قيس الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ [3](118)(ع) تقدم في "الزكاة" 18/ 2337.

5 -

(حَارِثَةُ بْنُ وَهْبٍ) الْخُزاعي الصحابيّ، نزل الكوفة، وكان عمر زوج أمه (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1598.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، والباقيان كوفيّان، وأنه مسلسلٌ بالتحديث والسماع.

شرح الحديث:

عن معبد بن خالد هو الْجَدَلي بفتح الجيم والمهملة، وتخفيف اللام، كوفي ثقة، وليس له عند مسلم إلا أربعة أحاديث، تقدّم بيانها

(1)

، وقال الحافظ: ما له في البخاريّ سوى هذا الحديث، وآخر تقدم في "كتاب الزكاة"، وثالث يأتي في "الطب". (أنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ) الخزاعيّ الصحابيّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: لا يوجد في "الصحيحين" من اسمه حارثة إلا حارثة بن وهب هذا، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(أنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا) أداة تحضيض، (أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ ")؛ أي: بعلاماتهم التي يُعرفون بها بين الناس، (قَالُوا: بَلَى) أخبرنا بهم يا رسول الله، (قَالَ صلى الله عليه وسلم:"كُلُّ ضَعِيفٍ) قال أبو البقاء: برفع "كلّ" لا غير؛ أي: هم كلُّ ضعيف عن أذى الناس، أو عن المعاصي، ملتزم الخشوع، والخضوع بقلبه، وقالبه. انتهى

(2)

.

وقوله: (مُتَضَعَّفٍ) بكسر العين، وبفتحها، وهو أضعف، وفي رواية

(1)

تقدّم بيانها برقم [18/ 2337](1011).

(2)

"فيض القدير" 3/ 101.

ص: 757

الإسماعيليّ: "مستضعف"، وفي حديث عبد الله بن عمرو، عند الحاكم:"الضعفاء المغلوبون"، وله من حديث سُراقة بن مالك:"الضعفاء المغلوبون"، ولأحمد من حديث حذيفة:"الضعيف المستضعف، ذو الطِّمرين، لا يُؤْبَهُ له".

والمراد بالضعيف: مَن نفسه ضعيفة؛ لتواضعه، وضَعف حاله في الدنيا، والمستضعَف المحتقَر لخموله في الدنيا، قاله في "الفتح"

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "كل ضعيف": قال أبو البقاء: "كل" بالرفع لا غير، والتقدير: هم كل ضعيف إلخ، والمراد بالضعيف: الفقير، و"المستضعف" بفتح العين المهملة، وغلط من كسرها؛ لأن المراد: أن الناس يستضعفونه، ويقهرونه، ويحقرونه، وذكر الحاكم في "علوم الحديث" أن ابن خزيمة سئل من المراد بالضعيف هنا؟ فقال: هو الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة في اليوم عشرين مرة إلى خمسين مرة، وقال الكرمانيّ: يجوز الكسر، ويراد به: المتواضع المتذلل. انتهى

(2)

.

وقال القارى رحمه الله: قوله: "كل ضعيف" بالرفع، على تقدير "هو"، وفي نسخة بالجرّ على البدلية، قال: والأظهر أن معناه: أنه ليس بمتكبر جبار، ويدل عليه قرينته الآتية، فالحكم كليّ، لا غالبيّ، على ما سيجيء.

وقوله: "متضعف" بفتح العين، وتُكسر، من باب التأكيد، كجنود مجندة، والقناطير المقنطرة، وظل ظليل، وفائدةُ التاء الموضوعة للطلب أن الضعف الحاصل فيه، كأنه مطلوب منه التذلل والتواضع، مع إخوانه، وإن كان قويًّا مترجِّلًا مع أعدائه، قال تعالى:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقال:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، ففيه إشارة إلى أن كل من كَثُر تواضعه مع المؤمنين يكون في أعلى مراتب المقربين، كما أن من يكون أكثر تكبرًا وتجبرًا يكون في أسفل السافلين.

وقال النوويّ: ضبطوه بفتح العين، وكسرها، والمشهور الفتح، ومعناه: يستضعفه الناس، ويحتقرونه، ويتجرؤون عليه؛ لِضَعف حاله في الدنيا، يقال:

(1)

"الفتح" 11/ 17، "كتاب التفسير" رقم (4918).

(2)

"الفتح" 15/ 294، "كتاب الأيمان والنذور" رقم (6657).

ص: 758

تضعّفه، واستضعفه، وإما على الكسر فمعناه: متواضع، متذلل، خامل، واضع من نفسه، والمراد: أن أغلب أهل الجنة هؤلاء، كما أن معظم أهل النار القِسم الآخر، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين. انتهى

(1)

.

(لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ)؛ أي: في فِعل شيء، أو تركه، (لأَبرَّهُ")؛ أي: لأمضاه على الصدق، وجعله بارًّا غير حانث في طلبه من الحقّ، وقال الطيبيّ؛ أي: لو حلف يمينًا على شيء أن يقع طمعًا في كرم الله عز وجل بإبراره لأبرّه، وأوقعه لأجله

(2)

، وقيل: هو كناية عن إجابة دعائه

(3)

.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ ")؛ أي: بعلاماتهم التي يُعرفون بها بين الناس، (قَالُوا: بَلَى) أخبرنا بها يا رسول الله، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("كُلُّ عُتُلٍّ) بضم العين المهملة، والمثناة، بعدها لام ثقيلة، قال الفراء: الشديد الخصومة، وقيل: الجافي عن الموعظة، وقال أبو عبيدة: العُتُلّ: الفظّ الشديد من كل شيء، وهو هنا الكافر، وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن: العتلّ: الفاحش الآثم، وقال الخطابيّ: العتلّ: الغليظ العنيف، وقال الداوديّ: السمين العظيم العنق والبطن، وقال الهرويّ: الْجَمُوع المنوع، وقيل: القصير البطن.

وجاء فيه حديث عند أحمد، من طريق عبد الرحمن بن غَنْم، وهو مختلف في صحبته، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العتلّ الزنيم، قال: هو الشديد الخلقِ، المصحّح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب، الظلوم للناس، الرحيب الجوف

(4)

.

(جَوَّاظٍ) بفتح الجيم، وتشديد الواو، وآخره ظاء معجمة: الكثير اللحم، المختال في مشيه، حكاه الخطابيّ، وقال ابن فارس: قيل: هو الأَكول، وقيل: الفاجر، وأخرج هذا الحديث أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة، عن وكيع، عن الثوريّ بهذا الإسناد مختصرًا: "لا يدخل الجنة جَوّاظ، ولا

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 187، و"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 409 - 410.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 410.

(3)

"الفتح" 15/ 294، "كتاب الأيمان والنذور" رقم (6657).

(4)

"الفتح" 11/ 17.

ص: 759

جَعْظَرِيّ". قال: والجواظ: الفظّ الغليظ. انتهى، وتفسير الجواظ لعله من سفيان، والجعظريّ بفتح الجيم، والظاء المعجمة، بينهما عين مهملة، وآخره راء مكسورة، ثم تحتانية ثقيلة، قيل: هو الفظّ الغليظ، وقيل: الذي لا يَمْرَض، وقيل: الذي يتمدح بما ليس فيه، أو عنده، وأخرج الحاكم من حديث عبد الله بن عمر، أنه تلا قوله تعالى: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ}، إلى: {زَنِيمٍ} [القلم: 12، 13] فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أهل النار كل جَعْظَريّ جَوّاظ مستكبر"

(1)

.

وقوله: (مُسْتَكْبِرٍ")؛ أي: متكبر عن الحقّ، أو على أهله، قال في "العمدة": المراد: أن هؤلاء أغلب أهل الجنة، وهؤلاء أغلب أهل النار، وليس المراد الاستيعاب في الطرفين، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حارثة بن وهب الخزاعيّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7159 و 7160 و 7161](2853)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4918) و"الأدب"(6071) و"الأيمان والنذور"(6657)، و (الترمذيّ) في "صفة جهنّم"(2605)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 497)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4116)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 306)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1238)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1477)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5679)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3/ 235)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 194) و"شعب الإيمان"(6/ 285)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3593)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7160]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإسْنَادِ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ؟ ").

(1)

"الفتح" 11/ 17.

ص: 760

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (غَيْرَ أنَّه قَالَ. . . إلخ) الضمير لشعبة.

[تنبيه]: رواية شعبة عن معبد بن خالد هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بسند المصنّف، فقال:

(6281)

- حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثني غُندر، حدّثنا شعبة، عن معبد بن خالد، سمعت حارثة بن وهب، قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أدلكم على أهل الجنة، كل ضعيف، متضعف، لو أقسم على الله لأبرّه، وأهل النار كل جَوّاظ، عُتُلّ، مستكبر". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7161]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ حَارِثَةَ

(2)

بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ، مُتَضَعَّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟ كُلُّ جَوَّاظٍ، زَنِيمٍ، مُتَكَبِّرٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (زَنِيمٍ) بفتح الزاي، وكسر النون: هو الدعيّ في النسب الملصق بالقوم، وليس منهم؛ تشبيهًا له بالزنمة، وهي شيء يقطع من أذن الشاة، ويترك معلقًا بها، ذكره الطيبيّ، وهو المناسب للآية الواردة في حقّ الوليد بن المغيرة، وأضرابه، وأما الحديث فينبغي أن يفسَّر بالمعنى الأعم، وهو اللئيم المعروف بلؤمه أو شرّه على ما في "القاموس".

[فائدة]: اختُلف في الذي نزلت فيه الآية: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)} [القلم: 13] فقيل: هو الوليد بن المغيرة، وذكره يحيى بن سلام في "تفسيره"، وقيل: الأسود بن عبد يغوث، ذكره سنيد بن داود في "تفسيره"، وقيل:

(1)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2452.

(2)

وفي نسخة: "سمع حارثة".

ص: 761

الأخنس بن شَرِيق، وذكره السهيليّ عن القتيبيّ، وحكى هذين القولين الطبريّ، فقال: يقال: هو الأخنس، وزعم قوم أنه الأسود، وليس به، وأبعدَ من قال: إنه عبد الرحمن بن الأسود، فإنه يَصْغُر عن ذلك، وقد أسلم، وذُكر في الصحابة، قاله في "الفتح"

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسألتيه، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7162]

(2854) - (حَدَّثَنِي سُويدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدِ) بن سهل الْهَرويّ الأصلِ، ثم الْحَدَثانيّ، ويقال له: الأنباريّ، أبو محمد، صدوقٌ في نفسه، إلا أنه عَمِي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول، من قدماء [10](ت 240) وله مائة سنة (م ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 87.

2 -

(حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ) الْعُقيليّ، بالضم، أبو عُمر الصنعانيّ، نزيل عسقلان، ثقةٌ، ربّما وَهِم [8](ت 181)(خ م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 87/ 461.

3 -

(الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يعقوب الْحُرَقيّ بضم الحاء المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف، أبو شِبْل بكسر المعجمة، وسكون الموحّدة، المدنيّ، صدوقٌ ربّما وَهِم [5] مات سنة بضع وثلاثين ومائة (ر م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الْجُهنيّ المدنيّ، مولى الْحُرَقة، بضم الحاء المهملة، وفتح الراء، بعدها قاف، ثقةٌ [3](ر م 4) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه ذُكر في الباب.

وقوله: ("رُبَّ) كلمة "رُبّ" أصلها للتقليل، وكَثُر استعمالها في التكثير،

(1)

"الفتح" 11/ 16.

ص: 762

وتلحقها كلمة "ما"، فتدخل على الْجُملة، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقوله: (أَشْعَثَ)؛ أي: مُلَبَّد الشعر، مُغبَّر، غير مدهون، ولا مُرَجَّل.

وقوله: (مَدْفُوعٍ بِالأَبْوَابِ)؛ أي: لا قَدْر له عند الناس، فهم يدفعونه عن أبوابهم، ويطردونه عنهم؛ احتقارًا له.

وقوله: (لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأبَرَّهُ")؛ أي: لو حلف على وقوع شيء، أوقعه الله تعالى إكرامًا له بإجابة سؤاله، وصيانته من الحِنث في يمينه، وهذا لعظيم منزلته عند الله تعالى، وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القَسَم هنا: الدعاء، وإبراره: إجابته

(2)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وتقدم للمصنّف في "البر والصلة والآداب" برقم [40/ 6659](2622) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7163]

(2855) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ النَّاقَةَ، وَذَكَرَ الَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ: "إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، انْبَعَثَ بِهَا رَجُلٌ

(3)

عَزِيزٌ، عَارِمٌ، مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ"، ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ، فَوَعَظَ فِيهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: "إِلَامَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأتَهُ"، وفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: "جَلْدَ الأَمَةِ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "جَلْدَ الْعَبْدِ، وَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ"، ثُمَّ وَعَظَهُمْ فِي ضَحِكِهِمْ مِنَ الضَّرْطَةِ، فَقَالَ: "إِلَامَ يَضْحَكُ أَحَدُكمْ مِمَّا يَفْعَلُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ) بن الزبير بن العوّام الأسديّ المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ، ربّما دلّس [5](ت 5 أو 146) وله سبع وثمانون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 350.

(1)

"عمدة القاري" 4/ 266.

(2)

"شرح النوويّ" 16/ 174 - 175.

(3)

وفي نسخة: "انبعث لها رجل".

ص: 763

3 -

(أَبُوهُ) عروة بن الزبير الفقيه المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ زَمْعَةَ) -بفتح الزاي، والميم، وبسكون الميم أيضًا- ابن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشيّ الأسديّ الصحابيّ المشهور، ابن أخت أم سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، واسم أمه: قريبة بنت أبي أمية، ووقع في "الكاشف" أنه أخو سودة أم المؤمنين، وهو وَهَمٌ، يظهر صوابه من سياق نَسَبِها، قال البغويّ: كان يسكن المدينة، روى أحاديث، وله في "الصحيحين" حديث يشتمل على ثلاثة أحكام: أحدها في قصة ناقة ثمود، والآخر في النهي عن الضحك من الضرطة، والثالث عن جلد المرأة، وربما فرّقها بعض الرواة، وله عند أبي داود أنه قال لعمر: صلّ بالناس في مرض النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا لم يحضر أبو بكر، ويقال: إنه كان يَأْذَن على النبيّ صلى الله عليه وسلم، يقال: قُتل يوم الدار سنة خمس وثلاثين، وبه جزم أبو حسان الزياديّ، وجزم ابن حبان بأنه قُتل يوم الحرّة، وبه جزم الكلبيّ، قال أبو عمر: المقتول بالحرّة ابنه يزيد، وكان له في الهجرة خمس سنين، قاله ابن حبان، ومات أبوه قبل الهجرة كافرًا

(1)

.

أخرج له الجماعة، وليس له في "الصحيحين" إلا هذا الحديث فقط.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه عروة أحد الفقهاء السبعة، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا حديثان فقط

(2)

، هذا الحديث عندهم إلا أبا داود، وحديث:"لما استعزّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معه. . ." الحديث عند أبي داود فقط.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ زَمْعَةَ) -بفتح الزاي، والميم، وبسكونها، وبالعين

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 95.

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 4/ 334 - 335.

ص: 764

المهملة- القرشيّ الصحابي المشهور رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) الناس (فَذَكَرَ النَّاقَةَ)"أل" هنا للعهد الذهنيّ؛ أي: الناقة المعروفة لدى كلّ من قرأ القرآن، وعلم معناه، وهي ناقة صالح؛ (وَذَكَرَ) الشخص (الَّذِي عَقَرَهَا)؛ أي: جرحها، يقال: عقره عقرًا، من باب ضرب: جَرَحه، وعقر البعير بالسيف عقرًا: ضرب قوائمه به، لا يُطلق الْعَقْر في غير القوائم، وربّما قيل: عقره: إذا نحره، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

والذي عقرها هو قُدَار بن سالف، وأمه قديرة، وهو أحيمر ثمود الذي يُضرب المثل في الشؤم، وقال ابن قتيبة: وكان أحمر، أشقر، أزرق، قصيرًا، وذُكر أنه ولد زنى، وُلد على فراش سالف، قاله في "العمدة"

(2)

.

وقال في "الفتح": وعاقر الناقة اسمه: قُدار بن سالف، قيل: كان أحمر، أزرق، أصهب، وذكر ابن إسحاق في "المبتدأ" وغير واحد أن سبب عقرهم الناقة أنهم كانوا اقترحوها على صالح عليه السلام، فأجابهم إلى ذلك بعد أن تعنّتوا في وَصْفها، فأخرج الله له ناقة من صخرة بالصِّفة المطلوبة، فآمن بعض، وكفر بعض، واتفقوا على أن يتركوا الناقة ترعى حيث شاءت، وتَرِد الماء يومًا بعد يوم، وكانت إذا وردت تشرب ماء البئر كله، وكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم للغد، ثم ضاق بهم الأمر في ذلك، فانتدب تسعة رهط منهم قُدار المذكور، فباشر عقرها، فلما بلغ ذلك صالحًا عليه السلام أعلمهم بأن العذاب سيقع بهم بعد ثلاثة أيام، فوقع كذلك، كما أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه.

وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، من حديث جابر رضي الله عنه، رفعه:"إن الناقة كانت تَرِد يومها، فتشرب جميع الماء، ويحتلبون منها مثل الذي كانت تشرب"، وفي سنده إسماعيل بن عياش، وفي روايته عن غير الشاميين ضَعف، وهذا منها. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِذِ انْبَعَثَ)؛ أي: قام لعقر الناقة (أَشْقَاهَا)؛ أي: أشد قبيلة ثمود شقاوة، وهو قُدار المذكور، وقوله:(انْبَعَثَ بِهَا) تفسير وبيان لقوله: "إذ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 421.

(2)

"عمدة القاري " 19/ 294.

(3)

"الفتح" 7/ 629 - 630، كتاب "الأنبياء" رقم (3377).

ص: 765

انبعث أشقاها"، والباء سببيّة؛ أي: قام بسبب إرادة عقرها (رَجُلٌ) وفي بعض النسخ: "انبعث لها رجل"؛ أي: قام لأجل عقرها رجل (عَزِيزٌ)؛ أي: قليل المِثل، (عَارِمٌ) بالعين المهملة، والراء؛ أي: جبار صَعْب، شديدٌ مفسدٌ خبيث، وقيل: جاهلٌ شَرِسٌ، وقيل: صعب على من يرومه، كثير الشهامة والشرّ. (مَنِيعٌ)؛ أي: قويّ ذو منعة (فِي رَهْطِهِ)؛ أي: قومه؛ يعني: أن قومه يمنعونه من الضَّيْم، (مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ") هو الأسود المذكور جدّ عبد الله بن زمعة، وكان الأسود أحد المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات على كفره بمكة، وقُتل ابنه زمعة يوم بدر كافرًا أيضًا.

وفي رواية للبخاريّ تعليقًا: "مثل أبي زمعة عمّ الزبير بن العوّام"، قال في "الفتح": قوله: "عم الزبير بن العوام" هو عم الزبير مجازًا؛ لأنه الأسود بن المطلب بن أسد، والعوام بن خُويلد بن أسد، فنزل ابن العم منزلة الأخ، فأطلق عليه عمًّا بهذا الاعتبار، كذا جزم الدمياطيّ باسم أبي زمعة هنا، وهو المعتمَد، وقال القرطبيّ في "المفهم": يَحْتَمِل أن المراد بأبي زمعة: الصحابيّ الذي بايع تحت الشجرة؛ يعني: وهو عبيد البلويّ، قال: ووجه تشبيهه به، إن كان كذلك أنه كان في عزة ومنعة في قومه، كما كان ذلك الكافر، قال: ويَحْتَمِل أن يريد غيره، ممن يكنى أبا زمعة من الكفار.

قال الحافظ: وهذا الثاني هو المعتمَد، والغير المذكور هو الأسود، وهو جدّ عبد الله بن زمعة، راوي هذا الخبر؛ لقوله في نفس الخبر:"عم الزبير بن العوام" وليس بين البلويّ وبين الزبير نسبٌ، وقد أخرج الزبير بن بكار هذا الحديث في ترجمة الأسود بن المطلب، من طريق عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، وزاد:"قال: فتحدث بها عروة، وأبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة جالس، فكأنه وَجَد منها، فقال له عروة: يا ابن أخي والله ما حدثنيها أبوك، إلا وهو يَفْخَر بها"، وكان الأسود أحد المستهزئين، ومات على كفره بمكة، وقُتل ابنه زمعة يوم بدر كافرًا أيضًا. انتهى

(1)

.

(1)

"الفتح" 11/ 88 - 89 رقم (4942).

ص: 766

وهذا الحديث مشتمل على ثلاثة أحاديث، أحدها قصّة الناقة، وقد تقدّم، وثانيها ما أشار إليه بقوله:(ثُمَّ ذَكَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم في خطبته تلك (النِّسَاءَ)؛ أي: ذكر ما يتعلق بأمور النساء؛ استطرادًا إلى ما يقع من أزواجهنّ، (فَوَعَظَ)؛ أي: وعظ الأزواج (فِيهِنَّ)؛ أي: في شأن معاشرتهنّ، وأوصاهم بهنّ، كما قال في خطبة حجة الوادع في حديث جابر الطويل، عند مسلم، وأحمد، وغيرهما:"فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك، فاضربوهنّ ضربًا غير مُبَرِّح، ولهنّ عليكم رزقهنّ، وكسوتهنّ بالمعروف"، هذا لفظ مسلم، ولفظ أحمد:"فاتقوا الله عز وجل في النساء، فإنهن عندكم عَوَانٌ، لا يملكن لأنفسهنّ شيئًا، وإن لهنّ عليكم، ولكم عليهن حقًّا، أن لا يوطئن فرشكم أحدًا غيركم، ولا يأذنّ في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهنّ، فعظوهنّ، واهجروهنّ في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح. . ." الحديث.

(ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِلَامَ) هي "إلى" الجارّة دخلت على "ما" الاستفهاميّة، فحُذفت ألفها تخفيفًا، كما قال في "الخلاصة":

وَ"مَا" فِي الاسْتِفْهَامِ إِنْ جُرَّتْ حُذِفْ

أَلِفُهَا وَأَوْلِهَا الْهَا إِنْ تَقِفْ

وَلَيْسَ حَتْمًا فِي سِوَى مَا انْخَفَضَا

بِاسْمٍ كَقَوْلِكَ "اقْتِضَاءَ مَا اقْتَضَى"

فـ "إلى" بمعنى "على"؛ لأنه وقع في رواية بلفظ: "علام يجلد"، والمعنى: على أيّ شيء (يَجْلِدُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، يقال: جلدت الجاني جَلْدًا، من باب ضرب: إذا ضربته بالْمِجْلَد، بكسر الميم، وهو السوط، الواحدة جَلْدةٌ، مثلُ ضَرْبٍ، وضَرْبة، قاله الفيّوميّ

(1)

.

(أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ")، وقوله:(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ) بيان لاختلاف شيخيه، أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، فقال ابن أبي شيبة في روايته:("جَلْدَ الأَمَةِ") بنصب "جلدَ" على أنه مفعول مطلق لـ "يجلد" نوعيّ، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"المصباح المنير" 1/ 104.

ص: 767

تَوْكِيدًا اوْ نَوْعًا يُبِينُ أَوْ عَدَدْ

كـ "سِرْتُ سَيْرَتَيْنِ سَيْرَ ذِي رَشَدْ"

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد" بـ "لا" الناهية. (وَ) قال (فِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: "جَلْدَ الْعَبْدِ) بدل الأمة؛ أي: مثل جلد العبد، وفي رواية للنسائيّ:"كما يضرب العبد والأمة"، وفي رواية:"جلد البعير، أو العبد"، وفي رواية للبخاريّ:"ضرب الفحل، أو العبد"، والمراد بالفحل: البعير، وفي حديث لقيط بن صبرة عند أبي داود:"ولا تضرب ظعينتك ضربك أمتك".

(وَلَعَلَّهُ)؛ أي: ولعل الذي يجلدها في أول اليوم (يُضَاجِعُهَا)؛ أي: يريد وطأها، وفي رواية:"ثم لعله يعانقها"، (مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ") كلمة "مِنْ" هنا بمعنى "في"، كما في قوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]؛ أي: في يوم الجمعة.

ووقع في رواية الأكثر بلفظ: "في آخر يومه"، وفي رواية:"في آخر اليوم"، وفي رواية عند أحمد:"من آخر الليل"، وللنسائيّ:"آخر النهار"، وفي رواية:"آخر الليل، أو من آخر الليل"، وكلها متقاربة.

(ثُمَّ وَعَظَهُمْ)، أي: وعظ النبيّ صلى الله عليه وسلم الرجال (فِي ضَحِكِهِمْ) يقال: ضَحِك من زيد، وضحِك به يضحَك ضَحِكًا، بفتح، فكسر، وضَحْكًا، بفتح، فسكون، وضِحكًا، بكسر، فسكون، مثل كَلِمٍ، وكَلْمٍ، وكِلْم: إذا سخر منه، أو عَجِب

(1)

. (مِنَ الضَّرْطَةِ)، أي: من أجل خروج الضرطة من دُبُر بعضهم، و"الضرْطةُ" المرّة من الضرط، يقال: ضَرِطَ يَضْرَطُ، من باب تَعِب ضَرِطًا، مثل كَتِفٍ، وفَخْذ، فهو ضَرِطٌ، وضَرَطَ ضَرْطًا، من باب ضرب لغةٌ، والاسم الضُّرَاطُ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِلَامَ)؛ أي: لأيّ شيء (يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ") بنفسه، وهو خروج الضرطة منه، فإن كلّ أحد يخرج منه، فلا داعي لاستغرابه من

(1)

"المصباح المنير" 2/ 358 بزيادة يسيرة.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 361.

ص: 768

غيره، فإن الإنسان إنما يضحك من أي شيء إذا كان مستغربًا من غيره، لا إذا كان واقعًا من كلّ أحد.

وفيه الأمر بالإغماض، والتجاهل، والإعراض عن سماع صوت الضراط، وكانوا في الجاهلية إذا وقع من أحدهم ضرطة في المجلس يضحكون، ونهى الشرع عن ذلك إذا وقع، وأمَر بالتغافل عن ذلك، والاشتغال بما كان فيه، وكان هذا من جملة أفعال قوم لوط عليه السلام، فإنهم كانوا يتضارطون في المجلس، ويتضاحكون، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد الله بن زمعة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7163](2855)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3377) و"التفسير"(4942) و"النكاح"(5204) و"الأدب"(6042)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3343)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 515)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 17)، و (الدارميّ) في "سننه"(2/ 147)، و (الطبريّ) في "التفسير"(3/ 214)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5794)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(1/ 429)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(5/ 311)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان حسن الأدب، والمعاشرة للناس.

2 -

(ومنها): بيان النهي عن ضرب النساء لغير ضرورة التأديب.

3 -

(ومنها): جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماء إلى جواز ضرب النساء دون ذلك.

4 -

(ومنها): أن في سياقه استبعادًا وقوع الأمرين من العاقل، أن يبالغ في ضرب امرأته، ثم يجامعها من بقية يومه، أو ليلته، والمجامعة، أو المضاجعة إنما تُستحسن مع ميل النفس، والرغبة في العشرة، والمجلود غالبًا ينفر ممن جَلَده، فوقعت الإشارة إلى ذمّ ذلك، وأنه إن كان ولا بدّ، فليكن

ص: 769

التأديب بالضرب اليسير، بحيث لا يحصل منه النفور التام، فلا يُفرِط في الضرب، ولا يُفَرِّط في التأديب

(1)

.

5 -

(ومنها): ما قاله المهلّب رحمه الله: بَيَّن صلى الله عليه وسلم بقوله: "جلد العبد" أن ضرب الرقيق فوق ضرب الحرّ؛ لتباين حالتيهما، ولأن ضرب المرأة إنما أبيح من أجل عصيانها زوجها فيما يجب من حقّه عليها. انتهى.

وقد جاء النهي عن ضرب النساء مطلقًا، فعند أحمد، وأبي داود، والنسائيّ، وصححه ابن حبان، والحاكم، من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب -بضم المعجمة، وبموحدتين، الأُولى خفيفة-:"لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر، فقال: قد ذئر النساء على أزواجهنّ، فأَذِن لهم، فضربوهنّ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير، فقال: لقد أطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة، كلهنّ يشكين أزواجهنّ، ولا تجدون أولئك خياركم"، وله شاهد من حديث ابن عباس في "صحيح ابن حبان"، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر، عند البيهقيّ.

وقوله: "ذَئِر" بفتح المعجمة، وكسر الهمزة، بعدها راء؛ أي: نَشَز، بنون، ومعجمة، وزاي، وقيل: معناه: غضب، واستبّ.

قال الشافعيّ: يَحْتَمِل أن يكون النهي على الاختيار، والإذن فيه على الإباحة، ويَحْتَمِل أن يكون قبل نزول الآية بضربهنّ، ثم أُذن بعد نزولها فيه.

وفي قوله: "لن يضرب خياركم" دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحل ذلك أن يضربها تأديبًا إذا رأى منها ما يكره، فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يُعدل إلى الفعل؛ لِمَا في وقوع ذلك من النفرة المضادّة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله تعالى.

وقد أخرج النسائيّ حديث عائشة رضي الله عنها: "ما ضَرَب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة له، ولا خادمًا قط، ولا ضرب بيده شيئًا قط، إلا في سبيل الله، أو تُنتهك

(1)

"الفتح" 11/ 641.

ص: 770

حرمات الله، فينتقم لله"، ذكره في "الفتح"

(1)

.

6 -

(ومنها): بيان النهي عن الضحك من الضرطة، يسمعها من غيره، بل ينبغي أن يتغافل عنها، ويستمرّ على حديثه، واشتغاله بما كان فيه من غير التفات، ولا غيره، ويُظهر أنه لم يسمع.

7 -

(ومنها): معنى قوله عز وجل: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)} ، فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه

رجل عزيز عارم منيع في رهطه، مثل أبي زمعة، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7164]

(2856) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ، أَبَا بَني كَعْبٍ هَؤُلَاءِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، وشرح الحديث يأتي بعده.

وقوله: (عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَةَ بْنِ خِنْدِفَ) قال النوويّ رحمه الله: أما قمعة ضبطوه على أربعة أوجه:

أشهرها: قِمَّعَة بكسر القاف، وفتح الميم المشدّدة.

والثاني: كسر القاف، والميم المشددة، حكاه القاضي عن رواية الباجيّ، عن ابن ماهان.

والثالث: فتح القاف، مع إسكان الميم.

والرابع: فتح القاف، والميم جميعًا، وتخفيف الميم، قال القاضي: وهذه رواية الأكثرين.

وأما خندف: فبكسر الخاء المعجمة، والدال، هذا هو الأشهر، وحكى

القاضي في "المشارق" فيه وجهين: أحدهما: هذا، والثاني: كسر الخاء، وفتح

(1)

"الفتح" 11/ 641.

ص: 771

الدال، وآخرها: فاء، وهي اسم القبيلة، فلا تنصرف، واسمها ليلى بنت عمران بن الحاف بن قضاعة. انتهى.

وقوله: (أبَا بَنِي كَعْبٍ) قال النوويّ رحمه الله: كذا ضبطناه "أبا" بالباء، وكذا هو في كثير من نُسخ بلادنا، وفي بعضها "أخا" بالخاء، ونقل القاضي هذا عن أكثر رواة الجلوديّ، قال: والأول رواية ابن ماهان، وبعض رواة الجلوديّ، قال: وهو الصواب، قال: وكذا ذكر الحديث ابن أبي خيثمة، ومصعب الزبيريّ، وغيرهما؛ لأن كعبًا هو أحد بطون خزاعة وابنه.

وأما لُحَيّ: فبضم اللام، وفتح الحاء، وتشديد الياء.

وفي رواية للبخاريّ: "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عمرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف أبو خزاعة". قال في "العمدة": قوله: "عمرو بن لحيّ" مبتدأ، وخبره قوله:"أبو خزاعة"، ولُحيّ بضم اللام، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الياء، قوله:"ابن قمعة" بفتح القاف والميم، وتخفيفها، وبإهمال العين، وقيل: بكسر القاف، وتشديد الميم، بفتحها، وكسرها، وقيل: بفتحها مع سكون الميم، وقوله:"ابن خندف" بكسر الخاء المعجمة، وسكون النون، وكسر الدال المهملة، وفتحها، وبالفاء، وهي أم القبيلة، فلا تنصرف، وقمعة منسوب إلى الأم، وإلا فأبوه اسمه إلياس بن مضر، قال قائلهم:

أُمَّهَتِي خِنْدِفٌ وَإِلْيَاسُ أَبِي

واسم خندف: ليلى بنت حلوان بن عمران بن إلحاف، من قضاعة، لُقِّبت بخندف؛ لِمَشيتها بالخندفة، وهي الهرولة، واشتهر بَنُوها بالنسبة إليها دون أبيهم.

وقوله: "أبو خزاعة"؛ أي: هو حىّ من الأزد. انتهى

(1)

.

وقوله: (يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ) بضم القاف، وإسكان الصاد، قال الأكثرون: يعني: أمعاءه، وقال أبو عبيد: الأمعاء واحدها قُصْب. انتهى

(2)

.

(1)

"عمدة القاري" 16/ 90.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 188 - 189.

ص: 772

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7164 و 7165](2856)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3521) و"التفسير"(4623)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 275)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6260 و 7490)، و (الطبريّ) في "التفسير"(12840)، و (البغوي) في "التفسير"(2/ 71)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7165]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَحَسَنٌ الْحُلْوَانِىُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ الْبَحِيرَةَ الَّتِى يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَا يَحْلُبُهَا

(1)

أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَأمَّا السَّائِبَةُ الَّتي كَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَىْءٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ

(2)

").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، غير ثلاثة، وهم:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بكير البغداديّ، تقدّم قبل ستّة أبواب.

2 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ) تقدّم أيضًا قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ الْبَحِيرَةَ التِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ)؛ أي: الأصنام، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي بُحرت أذنها؛ أي: خُرمت، قال أبو عبيدة: جعلها قوم من الشاة خاصّة، إذا ولدت خمسة أبطن بَحَروا أذنها، أي: شَقّوها، وتُركت، فلا

(1)

وفي نسخة: "فلا يحتلبها".

(2)

وفي نسخة: "من سيب السوائب".

ص: 773

يمسها أحد، وقال آخرون: بل البحيرة الناقة كذلك، وخلوا عنها، فلم تُركب، ولم يضربها فحل، وأما قوله:(فَلَا يَحْلُبُهَا) وفي بعض النسخ: "فلا يحتلبها"، (أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ) فهكذا أطلق نفي الحلب، وكلام أبي عبيدة يدلّ على أن المنفيّ إنما هو الشرب الخاصّ، قال أبو عبيدة: كانوا يُحَرِّمون وَبَرَها، ولحمها، وظهرها، ولَبَنها على النساء، ويُحِلّون ذلك للرجال، وما وَلَدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها.

وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، قال: البحيرة من الإبل، كانت الناقة إذا نتجت خمس بطون، فإن كان الخامس ذكرًا، كان للرجال دون النساء، وإن كانت أنثى بُتكت أُذنها، ثم أُرسلت، فلم يجزّوا لها وَبَرًا، ولم يشربوا لها لبنًا، ولم يركبوا لها ظهرًا، وإن تكن ميتة فهم فيه شركاء، الرجال والنساء، ونَقَل أهل اللغة في تفسير البحيرة هيآت أخرى، تزيد بما ذُكِر على العشر، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، والبحر شقّ الأذن، كان ذلك علامة لها، قاله في "الفتح"

(1)

.

(وَأَمَّا السَّائِبَةُ) فهي (الَّتي كانُوا يُسَيِّبُونَهَا لآلِهَتِهِمْ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ) قال أبو عبيدة: كانت السائبة من جميع الأنعام، وتكون من النذور للأصنام، فتُسَيَّب، فلا تُحبس عن مرعى، ولا عن ماء، ولا يركبها أحد، قال: وقيل: السائبة لا تكون إلا من الإبل، كان الرجل ينذر إن برئ من مرضه، أو قَدِم من سفره لَيُسيبنّ بعيرًا. وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، قال: السائبة كانوا يسيّبون بعض إبلهم، فلا تُمْنَع حوضًا أن تشرب فيه. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: هذا الحديث مشتمل على الموقوف والمرفوع، فما مضى من تفسير البحيرة، والسائبة، فهو موقوف، من كلام ابن المسيّب، وأما المرفوع، فقد ذكره بقوله:(وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ)؛ أي: بالسند السابق، فهو موصول، وليس معلّقًا، فتنبّه. (قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، (قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِىَّ) هكذا في هذه الرواية، قال القاضي عياض رحمه الله: المعروف في نسب ابن خزاعة عمرو بن لُحَيّ بن قمعة، كما قال في الرواية

(1)

"الفتح" 10/ 105 - 106، "كتاب التفسير" رقم (4623).

(2)

"الفتح" 10/ 105 - 106.

ص: 774

الأُولى، وهو قمعة بن إلياس بن مضر، وإنما عامر عم أبيه أبي قمعة، وهو مدركة بن إلياس، هذا قول نساب الحجازيين، ومن الناس من يقول: إنهم من اليمن، مِن وَلَد عمرو بن عامر، وإنه عمرو بن لُحَيّ، واسمه ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقد يحتج قائله بهذه الرواية الثانية. انتهى.

(يَجُرُّ قُصْبَهُ)؛ أى: أمعاءه (فِي النَّارِ، وكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السُّيُوبَ") وفي نسخة: "من سيّب السوائب"، زاد في رواية:"وبحر البحائر"، وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن زيد بن أسلم مرسلًا:"أول من سيّب السوائب عمرو بن لحيّ، وأول من بحّر البحائر رجل من بني مُدلج، جَدَع أُذن ناقته، وحرّم شُرب ألبانها"، والأول أصحّ

(1)

، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: أخرج البخاريّ هذا الحديث مطوّلًا، فقال:

(4347)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيِّب، قال: البحيرة التي يُمنع درّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيّبونها لآلهتهم؛ لا يُحمل عليها شيء، قال: وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجر قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب"، والوصيلةُ: الناقة البكر تبكّر في أول نتاج الإبل، ثم تثني بعدُ بأنثى، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحام: فحلُ الإبل، يَضْرِب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، وَدَعُوه للطواغيت، وأَعْفَوه من الحمل، فلم يُحْمَل عليه شيء، وسَمَّوه الحامي. انتهى.

قوله: "والوصيلة": "الناقة البكر تبكّر في أول نتاج الإبل بأنثى، ثم تُثَنّي بعد بأنثى" هكذا أورده متصلًا بالحديث المرفوع، وهو يوهم أنه من جملة المرفوع، وليس كذلك، بل هو بقية تفسير سعيد بن المسيِّب، والمرفوع من الحديث إنما هو ذِكر عمرو بن عامر فقط، وتفسير البحيرة، وسائر الأربعة المذكورة في الآية عن سعيد بن المسيِّب، ووقع في رواية الإسماعيليّ من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، بهذا الإسناد مثل رواية الباب، إلا أنه

(1)

"الفتح" 10/ 108.

ص: 775

بعد إيراد المرفوع، قال: وقال ابن المسيِّب: والوصيلة: الناقة إلخ، فأوضح أن التفسير جميعه موقوف، وهذا هو المعتمَد، وهكذا أخرجه ابن مردويه من طريق يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن زياد، عن ابن شهاب مفصلًا.

وقوله: "أن وصلت"؛ أي: من أجل، وقال أبو عبيدة: كانت السائبة مهما ولدته، فهو بمنزلة أمها إلى ستة أولاد، فإن ولدت السابع أنثيين تُركتا، فلم تُذبحا، وإن ولدت ذكرًا ذُبح، وأكَله الرجال دون النساء، وكذا إذا ولدت ذكرين، وإن أتت بتوأم ذكر وأنثى سَمَّوا الذكر وصيلة، فلا يُذبح لأجل أختيه، وهذا كله إن لم تلد ميتًا، فإن ولدت بعد البطن السابع ميتًا أَكَله النساء دون الرجال.

وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، قال: الوصيلة الشاة كانت إذا ولدت سبعة، فإن كان السابع ذكرًا ذُبح، وأُكل، وإن كان أنثى تُركت، وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فتُرك، ولم يُذبح.

وقوله: "والحام فحل الإبل، يَضرب الضراب المعدود. . . إلخ"، وكلامُ أبي عبيدة يدلّ على أن الحام إنما يكون من ولد السائبة، وقال أيضًا: كانوا إذا ضرب فحل من ولد البحيرة، فهو عندهم حام، وقال أيضًا: الحام من فحول الإبل خاصّةً، إذا نتجوا منه عشرة أبطن، قالوا: قد حمى ظهره، فأحموا ظهره، ووبره، وكل شيء منه، فلم يُركب، ولم يُطرق.

وعُرف بهذا بيان العدد المبهم في رواية سعيد، وقيل: الحام فحل الإبل، إذا ركب وَلَد وَلَدِه، قال الشاعر [من الطويل]:

حَمَاهَا أَبُو قَابُوسٍ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ

كَمَا قَدْ حَمَى أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ الْفَحْلَا

وقال الفراء: اختُلف في السائبة، فقيل: كان الرجل يسيّب من ماله ما شاء، يذهب به إلى السدنة، وهم الذين يقومون على الأصنام، وقيل: السائبة: الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيّبت، فلم تُركب، ولم يُجَزَّ لها وبر، ولم يُشرب لها لبن، وإذا ولدت بنتها بُحرت؛ أي: شُقَّت أذنها، فالبحيرة ابنة السائبة، وهي بمنزلة أمها، والوصيلة من الشاة إذا ولدت سبعة أبطن، إذا ولدت في آخرها ذكرًا وأنثى قيل: وصلت أخاه، فلا تشرب النساء لبن الأم، ويشربه الرجال، وجرت مجرى السائبة إلا في هذا، وأما الحام فهو فحل الإبل، كان إذا لقّح وَلَدَ وَلَدِه قيل: حمى ظهره، فلا يُركب، ولا يُجَزّ له وبر،

ص: 776

ولا يُمنع من مرعى. انتهى

(1)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7166]

(2128)

(2)

- (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا، قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ، كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ، عَارِيَاتٌ، مُمِيلَاتٌ، مَائِلَاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا").

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الحديث سندًا ومتنًا في "كتاب اللباس والزينة" برقم [33/ 5570](2128)، "بَابُ النِّسَاءِ الْكَاسِيَاتِ، الْعَارِيَاتِ، الْمَائِلَاتِ، الْمُمِيلَاتِ"، وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وقوله: ("صِنْفَانِ)، أي: نوعان (مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا) قال القرطبيّ رحمه الله؛ أي: لم يوجد في عصره صلى الله عليه وسلم منهما أحدٌ؛ لطهارة أهل ذلك العصر الكريم.

وقوله: (وَنِسَاءٌ) مبتدأ سوّغه الوصف بقوله: كاسيات إلخ، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: أراد اللواتي يلبسن من الثياب الشيء الخفيف الذي يصف، ولا يسترهنّ، (كَاسِيَاتٌ) بالاسم، (عَارِيَاتٌ) في الحقيقة، قال القرطبيّ رحمه الله: قيل: في هذا قولان:

أحدهما: أنهن كاسيات بلباس الأثواب الرِّقاق الرفيعة التي لا تَستُر منهنّ حجم عورة، أو تُبدي من محاسنها، مع وجود الأثواب الساترة عليها ما لا يحل لها أن تُبديه، كما تفعل البغايا المشتهرات بالفسق.

وثانيهما: أنهنَّ كاسيات من الثياب، عاريات من لباس التقوى؛ الذي قال الله تعالى فيه:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

وقوله: (مُمِيلَاتٌ) لغيرهنّ، (مَائِلَاتٌ) قال القرطبيّ رحمه الله: كذا جاءت

(1)

"الفتح" 10/ 106 - 107.

(2)

مكرّر.

ص: 777

الرواية في هاتين الكلمتين بتقديم: "مميلات" على "مائلات"، وكلاهما من الميل، بالياء باثنتين من تحتها، ومعنى ذلك: أنهن يَمِلْن في أنفسهنّ تثنّيًا، ونعمة، وتصنّعًا؛ ليُمِلن إليهن قلوب الرجال، فيميلوا إليهنّ، ويفتنَّهم، وعلى هذا فكان حقّ "مائلات" أن يتقدم على "مميلات"، لأنَّ ميلهنّ في أنفسهن مقدَّم في الوجود على إمالتهن، وصحَّ ذلك، لأن الصفات المجتمعة لا يلزم ترتيبها، ألا ترى أنها تُعْطَف بالواو، والواو جامعة، غير مترتبة، إلا أن الأحسن تقديم "مائلات" على "مميلات"؛ لأنَّه سببه، كما سبق.

وقوله: (رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ

(1)

الْمَائِلَةِ)؛ أي: اللاتي يجعلن على رؤوسهنّ ما يكبّرها، ويعظّمها، من الْخِرَق، والعصائب، والْخُمُر، حتى تصير تُشبه العمائم، وأسنمة الإبل، وهي جمع سنام، قال ابن العربيّ: وهذا كناية عن تكبير رأسها بالخِرَق حتى يَظُنّ الرائي أنه كله شَعْر، وهو حرام.

وقوله: (لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ)؛ أي: مع السابقين، أو بغير عذاب، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: هذا عندي محمول على المشيئة، وأن هذا جزاؤهنّ، فإن عفا الله عنهنّ، فهو أهل العفو والمغفرة:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية [النساء: 48]

(2)

.

وقوله: (وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا") هو كناية عن خمسمائة عام، كما قد جاء مُفسَّرًا، ففي رواية "الموطّأ":"وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة"، والله تعالى أعلم.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله بالرقم المذكور، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7167]

(2857) - (حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا زيدٌ -يَعْنِي: ابْنَ حُبَابٍ- حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أبَا

(1)

قال القاضي في "مشارق الأنوار" 1/ 79: قوله: "كأسنمة البخت" هي إبلٌ غِلاظٌ، ذات سنامين. انتهى.

(2)

"شرح الزرقانيّ" 4/ 341.

ص: 778

هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَغْدُونَ فِي غَضَبِ اللهِ، ويَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ) بضم الحاء المهملة، وموحّدتين، أبو الحسين الْعُكْليّ، بضم العين المهملة، وسكون الكاف، أصله من خُراسان، وكان بالكوفة، ورَحَل في الحديث، فأكثر منه، وهو صدوق يخطئ في حديث الثوريّ [9](230)(ر م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 560.

2 -

(أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ) الأنصاريّ الْقُبَائي، بضم القاف، المدنيّ، أبو محمد، صدوقٌ [7](ت 156)(م س) تقدم في "الفضائل" 9/ 5958.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هو: عبد الله بن رافع المخزوميّ، أبو رافع المدنيّ، مولى أم سلمَة رضي الله عنها، ثقةٌ [3](م 4) تقدم في "الحيض" 11/ 750.

والباقيان ذُكرا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من أفلح، والباقيان كوفيّان، وأنه مسلسل بالتحديث، والسماع، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

عن (عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ) رضي الله عنها؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ) مضارع أوشك، من أفعال المقاربة، وهي من نواسخ الابتداء، وقد استعمل ماضيها، ومضارعها، واسم فاعلها، كما قال في "الخلاصة":

وَاسْتَعْمَلُوا مُضَارِعًا لـ "أَوْشَكَا"

وَ"كَادَ" لَا غَيْرُ وَزَادُوا "مُوشِكَا"

أي: يقرب (إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ)؛ أي: مدّة حياتك، (أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ) فـ "مثلُ" مبتدأ خبره الجارّ والمجرور قبله، والجملة صفة "قومًا"؛ أي: سياط مثل أذناب البقر، من طولها يضربون بها الناس ظلمًا، قال القاري: وتسمى تلك السياط في ديار العرب بالمقارع، جَمْع

ص: 779

مقرعة، وهي جلدة طرفها مشدود، كعرض الإصبع الوسطى، يضربون السارقين عُراةً، وقيل: هم الطوّافون على أبواب الظَّلَمة الساعون بين أيديهم؛ كالكلب العقور، يطردون الناس عنها بالضرب. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هم غلمان والي الشرطة، وفيه إشارة إلى الشرطة الظالمين، وأعوان الأمراء الجبّارين.

(يَغْدُونَ)؛ أي: يذهبون وقت الصباح (فِي غَضَبِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ)؛ أي: يذهبون وقت المساء (فِي سَخَطِ اللهِ")، يعني: أنهم دائمًا في غضب الله ومَقْته.

وقال القاري رحمه الله: "يغدون"؛ أي: يصبحون "في غضب الله"، و"يروحون"؛ أي: يمسون "في سخط الله"؛ أي: الذي هو أشدّ من غضب الله؛ لتكرار هذا الأمر منهم، واستمرار صدور هذا الفعل عنهم، وفي رواية:"ويروحون في لعنة الله"؛ أي: إبعاده عن رحمته، فإنهم يقدِّمون أمر أميرهم على أمر الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقال الطيبيّ رحمه الله: المراد بقوله: "يغدون، ويروحون" إما الدوام والاستمرار، كما في قوله تعالى:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]؛ يعنى: أنهم أبدًا في غضب الله، وسخطه، لا يحلُم عليهم، ولا يرضى عنهم، وإن أريد بهما الوقتان المخصوصان؛ فالمعنى: يُصبحون يؤذون الناس، ويروّعونهم، ولا يرحمون عليهم، فغَضِب الله تعالى عليهم، ويُمسون يتفكرون فيما لا يرضى عنهم الله تعالى، من الإيذاء، والرَّوع، وروى البيهقيّ عن أنس رضي الله عنه:"مَن رَوّع مؤمنًا لم يؤمّن الله رَوْعته يوم القيامة، ومن سعى بمؤمن أقامه الله مقام ذلّ وخزي يوم القيامة"

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: هذا الحديث أورده ابن الجوزيّ في "الموضوعات"، وقال: إنه باطل، قال: وأفلح يروي الموضوعات عن الثقات، وتعقبه الحافظ ابن حجر

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 11/ 94.

(2)

ضعيف جدًّا، رواه البيهقيّ في "شعب الإيمان" 7/ 497، وفيه مبارك بن سحيم: متروك.

ص: 780

في "كتاب القول المسدد"(ص 37)، وقال: هذه غفلة شديدة من ابن الجوزيّ، حيث حكم على هذا الحديث بالوضع، وهو في أحد "الصحيحين"، وأساء بذلك، وهو من عجائبه، قال: وأفلح ثقة مشهور، وثقه ابن معين، وابن سعد، والنسائيّ، وأبو حاتم، وتابعه سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقيّ في "الدلائل". انتهى

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7167 و 7168](2857)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 308 و 323)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 482)، و (البيهقىّ) في "شعب الإيمان"(4/ 349)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7168]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَوْشَكْتَ أَنْ تَرَى قَوْمًا، يَغْدُونَ فِي سَخَطِ اللهِ، وَيَرُوحُونَ فِي لَعْنَتِهِ، فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخْسِىّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع الْعَبْديّ البصريّ، مشهور بكنيته، صدوق، من صغار [10] مات بعد الأربعين ومائتين (م ت س) تقدم في "الإيمان" 12/ 158.

3 -

(أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ) -بفتح العين المهملة، والقاف- عبد الملك بن عمرو الْقَيْسيّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 4 أو 205)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 21.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"شرح السيوطي على مسلم" 6/ 196.

ص: 781

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة علىّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة -عفا الله عنه وعن والديه-:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الثالث والأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم -المسمَّى- البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج": وقت الضحى، من يوم الاثنين المبارك وهو الثالث والعشرون من شهر شوال المبارك

(1)

(23/ 10/ 1433 هـ الموافق 19 آب / 2012 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182} [الصافات: 180 - 182].

"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللَّهُمَّ بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه -إن شاء الله تعالى- الجزء الرابع والأربعون مفتتحًا بـ (15) - (باب فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَبَيَانِ الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[7169](2858).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة (44) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

ص: 782