المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم قال الجامع عفا الله عنه: شرعت في - البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج - جـ ٤٤

[محمد بن علي بن آدم الأثيوبي]

فهرس الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الجامع عفا الله عنه: شرعت في كتابة الجزء الرابع والأربعين من شرح "صحيح الإمام مسلم" المسمّى: "البحر المحيط الثجّاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج رحمه الله" يوم الإثنين من شهر شوال [23/ 10/ 1433 هـ).

(15) - (بَابُ فَنَاءِ الدُّنْيَا، وَبَيَانِ الْحَشْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7169]

(2858) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مُسْتَوْرِدًا أَخَا بَنِي فِهْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ"، وَفي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا غَيْرَ يَحْيَى: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ، وَفي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، أَخِي بَنِي فِهْرٍ، وَفي حَدِيثِهِ أَيْضًا: قَالَ: وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ بِالإبْهَامِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة عشر:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، ثقة حافظ صاحب تصانيف [10](ت 235) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ) الأوديّ الكوفىّ، ثقة فقيه عابد [8](ت 192) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

ص: 5

3 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة حافظ فاضل [10](ت 234) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

4 -

(أَبُوهُ) عبد الله بن نُمير الهمدانيّ الكوفي، ثقة صاحب حديث، من أهل السنة، من كبار [9](ت 199) تقدم في "المقدمة" 20/ 5.

5 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) الْعَبديّ الكوفيّ، ثقة حافظ [9](ت 203) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

6 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ، ثقة ثبت إمام [10](ت 226) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

7 -

(مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ) الجزريّ، أبو سعيد الْحَرّانيّ، مولى بني عامر بن لؤي، ثقةٌ عابدٌ [8].

روى عن أبيه، وإسماعيل بن أبي خالد، والأوزاعيّ، ومالك، وغيرهم.

وروى عنه ابنه محمد، وسعيد بن أبى أيوب، ويحيى بن يحيى النيسابوريّ، وأبو جعفر النُّفيليّ، وآخرون.

قال الجوزجاني: رأيت أحمد يحسن الثناء عليه، وقال أبو زرعة، وأبو حاتم: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال النفيليّ: مات سنة سبع وسبعين ومائة، وكذا قال ابن يونس، وقال غيره: مات سنة خمس وسبعين، وقال ابن حبان: مات سنة سبع، أو خمس وسبعين، وقال نصر بن محمد: سمعت ابن معين يقول: موسى بن أعين ثقةٌ صالحٌ، وقال ابن سعد: مات سنة سبع، وكان صدوقًا، وقال الدارقطنيّ: ثقةٌ، وقال الأوزاعيّ: إني لأعرف رجلًا من الأبدال، فقيل له: من هو؟ قال: موسى بن أعين.

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، وأبو داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

8 -

(مُحَمَّدُ بنُ رَافِعٍ) أبو عبد الله النيسابوري، ثقة حافظ عابد [11](ت 245) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

9 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة الكوفيّ، ثقة ثبت، من كبار [9](ت 201) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

10 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 299.

ص: 6

11 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، صدوق فاضل، ربما وهم [10](ت 5 أو 236) تقدمِ في "الإيمان" 1/ 104.

12 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فرُّوخ التميميّ، أبو سعيد القطان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ، حافظٌ إمامٌ قدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

13 -

(قَيْسُ) بن أبي حازم البجليّ، أبو عبد الله الكوفيّ، ثقةٌ مخضرم [2] ويقال: له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاز المائة، وتغيّر (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 475.

14 -

(مُسْتَوْرِدُ) بن شدّاد بن عمرو القرشيّ الْفِهريّ، الحجازيّ، نزيل الكوفة، الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، مات سنة خمس وأربعين، (خت م 4) تقدم في "الفضائل" 9/ 5965.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن قيسًا هو التابعي الوحيد، روى عن العشرة المبشّرين بالجنة بلا واسطة، ولا مشارك له في ذلك، وفيه قوله:(كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ)؛ يعني: كل هؤلاء الخمسة، وهم: عَبْدُ اللهِ بْنُ إِدْرِيسَ، وعبد الله بن نمير، ومحمد بن بشر، وموسى ابن أعين، وأبو أسامة رووا عن إسماعيل بن أبي خالد، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنَا قَيْسٌ) هو ابن أبي حازم البجليّ (قَالَ: سَمِعْتُ مُسْتَوْرِدًا)؛ أي: ابن شدّاد (أَخَا بَنِي فِهْرٍ) بكسر الفاء، وإسكان الهاء، آخره راء، هو: فهر بن مالك بن النضر بن كنانة

(1)

. (يَقُولُ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ) إقسام للمبالغة في تحقق الحكم، (مَا) نافية؛ أي: ما مَثَل (الدُّنْيَا) من نعيمها، وزمانها (فِي الآخرَةِ)؛ أي: في جنبها، ومقابلة نعيمها، وأيامها (إِلَّا مِثْلُ) بكسر الميم، ورفع اللام، وفي نسخة بنصبها، و"ما"

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 448.

ص: 7

في قوله: (مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ) مصدرية؛ أي: مِثل جَعْل أحدكم (إِصْبَعَهُ) فيها عشر لغات، تثليث الهمزة، مع تثليث الموحّدة، فهذه تسعة، والعاشرة أُصبُوع، بوزن عُصفور، وأفصحها كسر الهمزة، وفتح الموحّدة، وقوله:(هَذِهِ) إشارة الإصبع التي أشار بها، كما بيّنه بقوله:(وَأَشَارَ يَحْيَى)؛ يعني: القطّان (بِالسَّبَّابَةِ)؛ يعني: أنه فسر قوله: "هذه " بأنها السبّابة، وقوله:(فِي الْيَمِّ) متعلّق بـ "يجعل"؛ أي: في البحر المفسَّر بالماء الكثير، (فَلْيَنْظُرْ)؛ أي: فليتأمل، وليفكّر أحدكم (بِمَ يَرْجِعُ")؛ أي: بأيّ شيء يرجع إصبع أحدكم من ذلك الماء.

قال القاري رحمه الله: [واعلم]: أن قوله: "يرجع" ضُبط بالتذكير في أكثر الأصول، وفي بعض النسخ بالتأنيث، وهو الأظهر؛ لأن ضميره يرجع إلى الإصبع، وهو مؤنث، وقد تُذكّر على ما في "القاموس"

(1)

، والمعنى: فليتفكر بأيّ مقدار من الْبِلّة الملتصقة من اليمّ ترجع إصبعه إلى صاحبه، اللَّهُمَّ إلا أن يقال: المعنى: بم يرجع الحال، وينتقل المآل.

وحاصله: أن مِنَحَ الدنيا، ومِحَنَها في كسب الجاه والمال من الأمور الفانية السريعة الزوال، فلا ينبغي لأحد أن يفرح، ويغترّ بسعتها، ولا يجزع، ويشكو من ضيقها، بل يقول في الحالتين:"لا عيش إلا عيش الآخرة"، فإنه صلى الله عليه وسلم قاله مرة في يوم الأحزاب، وأخرى في حجة الوداع، وجمعية الأصحاب، ثم ليعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا ساعة، فيصرفها في الطاعة

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "فلينظر بم يرجع" وُضع موضع قوله: فلا يرجع بشيء، كأنه صلى الله عليه وسلم يستحضر تلك الحالة في مشاهدة السامع، ثم يأمره بالتأمل والتفكر، هل يرجع بشيء أم لا؟ وهذا تمثيل على سبيل التقريب، وإلا فأين المناسبة بين المتناهي، وغير المتناهي؟ انتهى

(3)

.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِهِمْ جَمِيعًا)؛ يعني: حديث هؤلاء الستّة الذين رووا عن إسماعيل بن أبي خالد، وهم: عبد الله بن إدريس، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، وموسى بن أعين، وأبو أسامة، ويحيى القطّان، إلا أنه استثناه

(1)

راجع: "القاموس المحيط" ص 726.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 38.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3272.

ص: 8

هنا بقوله: (غَيْرَ يَحْيَى) القطّان، فقوله:"وفي حديثهم" خبر مقدّم لقوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ ذَلِكَ) فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، والمعنى: أن الخمسة قالوا: عن المستورد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما يحيى، فقال: سمعت مستوردًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ) خبر مقدّم أيضًا، وقوله:(عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ، أَخِي بَنِي فِهْرٍ) مبتدأ مؤخّر، وقوله:(وَفِي حَدِيثِهِ أَيْضًا)؛ أي: في حديث أبي أسامة، والجارّ والمجرور خبر مقدّم أيضًا عن قوله:(قَالَ) أبو أسامة: (وَأَشَارَ إِسْمَاعِيلُ) بن أبي خالد (بِالإِبْهَامِ)؛ أي: بدل قول يحيى: بالسبّابة. قال النوويّ رحمه الله: وفي رواية: "وأشار إسماعيل بالإبهام" هكذا هو في نُسخ بلادنا: "بالإبهام"، وهي الإصبع العظمى المعروفة، كذا نقله القاضي عن جميع الرواة، إلا السمرقنديّ، فرواه "البهام"، قال: وهو تصحيف؛ لأن البهام جمع بهمة، وهي صغار الضأن، قال القاضي: ورواية السبابة أظهر من رواية الإبهام، وأشبه بالتمثيل؛ لأن العادة الإشارة بها، لا بالإبهام، ويَحْتَمِل أنه أشار بهذه مرة، وهذه مرة، و"اليمّ": البحر.

وقوله: "بم ترجع" ضبطوا "ترجع" بالمثناة فوقُ، والمثناة تحتُ، والأول أشهر، ومن رواه بالمثناة تحتُ أعاد الضمير إلى "أحدكم"، والمثناة فوقُ أعاده على الإصبع، وهو الأظهر، ومعناه: لا يَعْلَق بها كثير شيء من الماء.

ومعنى الحديث: ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قِصَر مدّتها، وفناء لذّاتها، ودوام الآخرة، ودوام لذاتها، ونعيمها، إلا كنسبة الماء الذي يَعْلَق بالإصبع إلى باقي البحر. انتهى

(1)

.

قال الجامح عفا الله عنه: الحديث إشارة إلى قوله عز وجل: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، وقوله:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، وقوله:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)} [العنكبوت: 64]، وقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 192 - 193.

ص: 9

وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]، وقوله:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف: 45]، وقوله:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]، وغير ذلك من الآيات، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المستورد بن شدّاد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7169](2858)، و (الترمذيّ) في "الزهد"(2323)، و (النسائيّ) في "الكبرى"، كما في "تحفة الأشراف"(8/ 55)

(1)

، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4160)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 228 و 229)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(2/ 124)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 305) و" الكبير"(20/ 301 و 302 و 307)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 291)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7170]

(2859) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ").

(1)

كتب في الهامش: في "الرقائق" ليس في المطبوع من الكبرى.

ص: 10

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة، ذُكر في الباب الماضي.

2 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيَدٍ) القطّان المذكور في السند الماضي.

3 -

(حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ) -بكسر الغين المعجمة- أبو يونس البصريّ، وأبو صغيرة اسمه مسلم، وهو جدّه لأمه، وقيل: زوج أمه، ثقة [6](ع) تقدم في "الحج" 67/ 3249.

4 -

(ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) بالتصغير، هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بن عبد الله ابن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير، التيميّ المكيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقةٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

5 -

(الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن أبي بكر الصدّيق التيميّ، ثقةٌ ثبتٌ، أحد الفقهاء بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه، من كبار [3](ت 106) على الصحيح (ع) تقدم في "الحيض" 3/ 695.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن القاسم أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالمدينة، وفيه رواية الراوي عن عمّته، وفيه عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً) بضم الحاء المهملة، وتخفيف الفاء: جمع حافٍ؛ أي: بلا خُفّ ولا نعل، (عُرَاةً) بضم العين المهملة، وتخفيف الراء: جمع عار، قال البيهقيّ: وقع في حديث أبي سعيد -يعني: الذي أخرجه أبو داود، وصححه ابن حبان- أنه لمّا حضره الموت دعا بثياب جُدُد، فلبسها، وقال:"سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها"، ويُجمع بينهما بأن بعضهم يحشر عاريًا، وبعضهم كاسيًا، أو يُحشرون كلهم عُراة، ثم يكسى الأنبياء، فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام، أو يخرجون من القبور بالثياب

ص: 11

التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيُحشرون عُراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام.

وحَمَل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم الذين أُمر أن يُزَمَّلوا في ثيابهم، ويُدفنوا فيها، فيَحتمل أن يكون أبو سعيد سمعه في الشهيد، فحمله على العموم، وممن حمله على عمومه معاذ بن جبل رضي الله عنه، فأخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن، عن عمرو بن الأسود، قال:"دفنّا أم معاذ بن جبل، فأَمر بها، فكُفنت في ثياب جدد، وقال: أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يُحشرون فيها"، قال: وحمله بعض أهل العلم على العمل، وإطلاق الثياب على العمل وقع في مثل قوله تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وقوله تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4] على أحد الأقوال، وهو قول قتادة، قال: معناه: وعملك فأخلصه، ويؤكد ذلك حديث جابر رضي الله عنه، رفعه:"يُبعث كل عبد على ما مات عليه"، أخرجه مسلم، وحديث فَضالة بن عبيد:"من مات على مرتبة من هذه المراتب بُعث عليها يوم القيامة" الحديث، أخرجه أحمد.

ورجح القرطبيّ الحمل على ظاهر الخبر، ويتأيد بقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، وقوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، وإلى ذلك الإشارة في حديث ابن عبّاس الآتي بذكر قوله تعالى:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] عقب قوله: "حفاةً، عُراة"، قال: فيُحمل ما دلّ عليه حديث أبي سعيد على الشهداء؛ لأنهم يُدفنون بثيابهم، فيُبعثون فيها تمييزًا لهم عن غيرهم، وقد نقله ابن عبد البرّ عن أكثر العلماء، ومن حيث، النظر أن الملابس في الدنيا أموال، ولا مال في الآخرة مما كان في الدنيا، ولأن الذي يقي النفس مما تكره في الآخرة ثواب بحسن عملها، أو رحمة مبتدَأة من الله، وأما ملابس الدنيا فلا تغني عنها شيئًا، قاله الحليميّ. وذهب الغزالي إلى ظاهر حديث أبي سعيد، وأورده بزيادة لم أجد لها أصلًا، وهي:"فإن أمتي تُحشر في أكفانها، وسائر الأمم عراة"، قال القرطبيّ: إن ثبت حُمل على الشهداء من أمته، حتى لا تتناقض الأخبار. انتهى

(1)

.

(1)

في "الفتح" 15/ 30 - 31، "كتاب الرقاق" رقم (6527).

ص: 12

(غُرْلًا") بضم الغين المعجمة، وسكون الراء: جمع أغرل، وهو الأقلف، وزنه، ومعناه، وهو من بقيت غُرلته، وهي الجلدة التي يقطعها الخاتن من الذَّكَر، قال أبو هلال العسكريّ: لا تلتقي اللام مع الراء في كلمة إلا في أربع: أرل: اسم جبل، وورل: اسم حيوان معروف، وحرل: ضَرب من الحجارة، والغرلة، واستُدرك عليه كلمتان: هرل: ولد الزوجة، وبرل: الديك الذي يستدير بعنقه.

قال ابن عبد البرّ: يُحشر الآدمي عاريًا، ولكل من الأعضاء ما كان له يوم وُلد، فمن قُطع منه شيء يُرَدّ، حتى الأقلف.

وقال أبو الوفاء بن عقيل: حشفة الأقلف موقاة بالقلفة، فتكون أرقّ، فلما أزالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من حلاوة فضله. ووقع في حديث عبد الله بن أنيس عند أحمد، والحاكم، بلفظ:"يحشر الله العباد، وأومأ بيده نحو الشام، عُراةً، حُفاةً، غُرلًا، بُهْمًا" بضم الموحدة، وسكون الهاء، قلنا: وما بُهمًا؟ قال: "ليس معهم شيء".

قالت عائشة رضي الله عنها: (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟) فيه أن النساء يدخلن في الضمير المذكَّر الآتي بالواو، وكأنه بالتغليب، كما في قولها:"بعضهم"، ووقع في رواية أبي بكر بن أبي شيبة المذكورة بعد قوله:"حفاة عراة": "قلت: والنساء؟ قال: والنساء".

(قَالَ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَائِشَةُ الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ") وفي رواية للبخاريّ: "الأمر أشدّ أن يُهمّهم ذلك"، و"يُهمهم" بضم أوله، وكسر الهاء، من الرباعيّ، يقال: أهمه الأمر، وجوّز ابن التين فتح أوله، وضمّ ثانيه، من هَمَّه الشيء: إذا آذاه، والأول أَولى.

وللنسائيّ والحاكم، من طريق الزهريّ عن عروة، عن عائشة:"قلت: يا رسول الله فكيف بالعورات؟ قال: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه"، وللترمذيّ، والحاكم، من طريق عثمان بن عبد الرحمن القرظيّ: "قرأت عائشة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فقالت: واسوأتاه، الرجال والنساء يحشرون جميعًا ينظر بعضهم إلى سوأة بعض؟ فقال:{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37]-وزاد- لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا النساء

ص: 13

إلى الرجال، شُغل بعضهم عن بعض"، ولابن أبي الدنيا من حديث أنس، قال: "سألت عائشة النبيّ صلى الله عليه وسلم-كيف يحشر الناس؟ قال: "حفاةً، عراةً"، قالت: واسوأتاه، قال: قد نزلت عليّ آية، لا يضرّك كان عليك ثياب أو لا، {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} [النور: 11] "، وفي حديث سودة، عند البيهقيّ، والطبرانيّ نحوه، أخرجاه من طريق أبي أويس، عن محمد بن أبي عياش، عن عطاء بن يسار، عنها، وأخرجه ابن أبي الدنيا، والطبرانيّ في "الأوسط" من رواية عبد الجبار بن سليمان، عن محمد، بهذا الإسناد، فقال: عن أم سلمة، بدل سودة، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7170 و 7171](2859)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6527)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2083) وفي "الكبرى"(2210 و 2211)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4330)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 53)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 86)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 20) وفي "مسند الشاميين"(2/ 236)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات البعث بعد الموت.

2 -

(ومنها): أن فيه بيان معنى قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]، وذلك أن الناس يبعثون حُفَاةً، ليس لهم خفّ، ولا نعل، عُرَاة، ليس لهم لباس تستر العورات، غُرْلًا، ليسوا مختونين.

3 -

(ومنها): بيان شدّة هول ذلك اليوم، حيث إن بعضهم لا يشعر بانكشاف عورته، ولا عورة غيره، بل هو مشغول بشأن نفسه، ومهتمّ بها، أينجو من النار، أم لا؟.

4 -

(ومنها): أن فيه حجة للقول الراجح: إن النساء يدخلن في خطاب

ص: 14

الرجال، فإن قوله:"إنكم تُحشرون" خطاب للذكور، ولكنه شامل للنساء أيضًا، فإن عائشة رضي الله عنها من أهل اللغة، فهمت من هذا الخطاب دخول النساء، فقالت:"الرجال، والنساء، ينظر بعضهم إلى بعض"، وأقرّها النبيّ صلى الله عليه وسلم على فهمها ذلك، ولكن بيّن لها أن هناك مانعًا من هذا النظر، وهو اشتغال كل أحد بنفسه، وهذا الاستدلال قويّ جدًّا، وتؤيده الآية المذكورة، حيث إنها بلفظ الذكور، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 37]، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال شارح "العقيدة الطحاوية" عند قول الطحاوي رحمه الله: "ونؤمن بالبعث" ما مختصره: الإيمان بالمعاد مما دلّ عليه الكتاب والسُّنَّة، والعقل، والفطرة السليمة، فأخبر الله عز وجل عنه في كتابه العزيز، وأقام الدليلَ عليه، وردّ على منكريه في غالب سور القرآن، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله، فإن الإقرار بالربّ عامّ في بني آدم، وهو فطريّ، كلهم يقرّ بالربّ، إلا من عاند، كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لمّا كان خاتم الأنبياء، وكان قد بُعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر الْمُقَفَّى بَيَّنَ تفصيل الآخرة بيانًا لا يوجد في شيء من كُتُب الأنبياء عليهم السلام، ولهذا ظنّ طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل، والخطاب الجمهوريّ.

والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء يُنكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يُخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء، من آدم إلى نوح، إلى إبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم عليهم السلام.

ثم ذكر الآيات التي أثبتت المعاد، وبيّن وجه إثباتها أتمّ تبيين، إلى أن قال: والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، لهم في المعاد خَبْط، واضطراب، وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تُعدم الجواهر، ثم تعاد، ومنهم من يقول: تُفرّق الأجزاء، ثم تُجمع، فأُورِد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تُعَد

ص: 15

من هذا، وأورد عليهم أن الإنسان يتحلل دائمًا، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض، فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصليّة، لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلّل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوّى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان.

والقول الذي عليه السلف، وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابًا، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأُولى، فإنه كان نطفة، ثم صار عَلَقَة، ثم صار مضغة، ثم صار عظامًا ولحمًا، ثم أنشأه خلقًا سَويًّا، كذلك الإعادة، يعيده الله تعالى بعد أن يبلى كله إلا عَجْب الذَّنَب، كما ثبت في "الصحيح" عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال:"كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب، منه خُلق، ومنه يُركّب". وفي حديث آخر: "إن السماء تُمطر مطرًا كمنيّ الرجال، ينبتون في القبور، كما ينبت النبات"

(1)

.

فالنشأتان نوعان تحت جنس، يتفقان، ويتماثلان من وجه، ويفترقان، ويتنوعان من وجه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم الإعادة، ولوازم البداءة فرقٌ، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره، فيستحيل، فيعاد من المادة التي استحال إليها، ومعلوم أن من رأى شخصًا، وهو صغير، ثم رآه، وقد صار شيخًا، علم أن هذا هو ذاك، مع أنه دائما في تحلل، واستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات، فمن رأى شجرة، وهي صغيرة، ثم رآها كبيرة، قال: هذه تلك، وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة، حتى يقال: إن الصفات هي الْمُغَيَّرة، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها، فإنهم يدخلونها على صورة آدم، طوله ستون ذراعًا، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، وروي أن عَرْضه سبعة أذرع، وتلك نشأة باقية، غير معرّضة للآفات، وهذه النشأة فانية، معرّضة للآفات. انتهى ما كتبه شارح

(1)

أخرجه الطبرانيّ في "المعجم الكبير" 1/ 1 - 2 وهو ضعيف؛ لأن فيه انقطاعًا.

ص: 16

"الطحاوية" رحمه الله باختصار

(1)

، وهو بحث نفيس جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قإل:

[7171]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: "غُرْلًا").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ) سليمان بن حيّان الأزديّ الكوفيّ، صدوقٌ يخطئ [8](ت 190) أو قبلها، وله بضع وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 120.

والباقون ذُكروا في الباب، و"ابن نُمير" هو: محمد بن عبد الله بن نُمير.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: "غُرْلًا") فاعل "يذكر" ضمير أبي خالد الأحمر.

[تنبيه]: رواية أبي خالد الأحمر عن حاتم بن أبي صغيرة هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، بسند المصنّف، فقال:

(4276)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، قال: قالت عائشة: قلت: يا رسول الله كيف يُحشر الناس يوم القيامة؟ قال: حُفاةً، عُراةً"، قلت: والنساء؟ قال: "والنساء"، قلت: يا رسول الله فما يستحيي؟ قال: "يا عائشة الأمر أهمّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7172]

(2860) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يخْطُبُ، وَهُوَ يَقُولُ: "إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ مُشَاةً، حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا"، وَلَمْ يَذْكُرْ زُهَيْرٌ فِي حَدِيثِهِ: "يَخْطُبُ").

(1)

"شرح العقيدة الطحاويّة" ص 404 - 411.

(2)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1429.

ص: 17

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(عَمْرُو) بن دينار المكيّ، أبو محمد الأثرم الْجُمَحيّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ [4](126)(ع) تقدم في "الإيمان" 21/ 184.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، إلا "سعيدًا"، و"ابنَ عباس" فسيأتيان في السند التالي، وكذا شرح الحديث -إن شاء الله تعالى-.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7173]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعبَةُ، عَنِ الْمُغيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ، فَقَالَ: "يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ

(1)

إِلَى اللهِ، حُفَاةً، عُرَاةً، غُرْلًا:{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام، أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: كمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 117، 118] قَالَ: فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ"، وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ، وَمُعَاذٍ: "فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ) النخعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [6].

(1)

وفي نسخة: "محشورون".

ص: 18

روى عن سعيد بن جبير، وأبي الزبير، وعبيد الله بن يزيد، وغيرهم.

وروى عنه شعبة، والثوريّ، ومِسْعَر، وشريك، وأبو مالك النخعيّ، وغيرهم.

قال إسحاق بن منصور، عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو داود، وأبو حاتم، وقال أبو حاتم مرةً: صالحٌ، وقال العجليّ، ويعقوب بن سفيان: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وله في هذا الكتاب حديثان فقط، هذا الحديث برقم (2860)، وحديث (3023):"أُنزلت آخر ما أُنزل ثم ما نسخها شيء".

2 -

(سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر) بن هشام الأسديّ مولاهم، أبو عبد الله، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3] وروايته عن عائشة، وأبي موسى، ونحوهما مرسَلة، قُتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين، ولم يكمل الخمسين (ع) تقدم في "الإيمان" 57/ 329.

3 -

(ابْنُ عَبَّاسٍ) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، وُلد قبل الهجرة بثلاث سنين، ومات بالطائف سنة ثمان وستين (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 124.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخيه ابن المثنّى، وابن بشّار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وهم الذين جمعتهم بقولي:

اشْتَرَكَ الأَئِمَّةُ الْهُدَاةُ

ذَوُو الأُصُولِ السِّتَّةِ الْوُعَاةُ

فِي تِسْعَةٍ مِنَ الشُّيُوخِ الْمَهَرَهْ

الْحَافِظِينَ النَّاقِدِينَ الْبَرَرَهْ

أُولَئِكَ الأَشَجُّ وَابْنُ مَعْمَرِ

نَصْرٌ وَيَعْقُوبُ وَعَمْرٌو السَّرِي

وَالْعلَاءُ وَابْنُ بَشَّارٍ كَذَا

ابْنُ الْمُثَنَّى وَزِيَادٌ يُحْتَذَى

وأن ابن عبّاس رضي الله عنهما من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو ابن

عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر، والحَبر؛

ص: 19

لِسَعة علمه، وقال عمر رضي الله عنه: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عشره منا أحد، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الأربعة، ومن فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا) وفي الرواية السابقة: "سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب"، وفي رواية النسائيّ:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر". (بِمَوْعِظَةٍ) اسم من وَعَظَه يَعِظه وَعْظًا وعِظَة: إذا أمره بالطاعة، ووصّاه بها، وعليه قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} الآية [سبأ: 46]؛ أي: أوصيكم، وآمركم، فاتّعَظَ: أي: ائتمر، وكفّ نفسه. أفاده الفيّوميّ

(1)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم في موعظته: ("يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ) وفي بعض النسخ: "محشورون"، وهو من الحشر، وهو الجمع (إِلَى اللهِ) عز وجل، حال كونكم (حُفَاةً) بالضمّ: جمع حاف، وهو خلاف الناعل، كقُضاة جمع قاض، من حَفِي يَحْفَى، من باب تعب حفاءً مثل سلام: إذا مشى بغير نعل، ولا خفّ، فهو حفٍ، والجمع حفاةٌ، مثل قاض وقُضاة، والحفاء بالكسر والمدّ اسم منه، وحَفِي من كثرة المشي: إذا رَقّت قدمه حَفًى، فهو حَفٍ، من باب تعب أيضًا، أفاده الفيّوميّ

(2)

.

(عُرَاةً) بالضمّ أيضًا: جمع عار من الثياب، (غُرْلًا) بضم الغين: جمع أغرل، وهو الأقلف، وهو الذي لم يُختن، وبقيت معه غرلته، وهي قلفته، وهي الجلدة التي لم تُقطع في الختان، قال الأزهريّ وغيره: هو الأغرل، والأرغل، والأغلف، بِالغين المعجمة في الثلاثة، والأقلف، والأعرم، بِالعين المهملة، وجمعه غُرْل، ورُغْل، وغُلْف، وقُلْف، وعُرْم، والغرلة: ما يُقطع من ذَكَر الصبيّ، وهو القلفة، وبطولها يُعرف نجابة الصبيّ.

وقال أبو هلال العسكري: لا تلتقي الراء مع اللام في العربية إلا في

(1)

راجع: " المصباح المنير" 2/ 665 - 666.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 143.

ص: 20

أربع كلمات: أرل: اسم جبل، وورل: اسم دابة، وجرل: هو اسم للحجارة، والغرلة، وقال صاحب التوضيح: أهمل أربع كلمات أخرى: برل الديك وهو الريش الذي يستدير بعنقه، وعيش أغرل؛ أي: واسع، ورجل غَرِل: مسترخي الخلق، والهرل: ولد

(1)

. قاله القالي.

والورل بفتحتين: دابة مثل الضب، والجمع: ورلان، والجرل بفتح الجيم وفتح الراء، وكذلك الجرول، والواو للإلحاق بجعفر، وبُرل الديك بضم الباء الموحدة، وقال الجوهريّ: برائل الديك عفرته، وهو الريش الذي يستدير في عنقه، ولم يذكر برلًا، وقد برأل الديك برألة: إذا نفش برائله، وعيش أغرل بِالغين المعجمة، ورجل غَرِل، بفتح الغين المعجمة، وكسر الراء، مسترخي الخلق، بالخاء المعجمة.

[فإن قلت]: ما فائدة القلفة يوم القيامة؟.

[قلت]: المقصود أنهم يُحشرون كما خُلقوا لا شيء معهم، ولا يفقد منهم شيء، حتى الغرلة تكون معهم.

وقال ابن الجوزيّ: لذة جماع الأقلف تزيد على لذة جماع المختون. وقال ابن عقيل: بشرة حشفة الأقلف موقاة بالقلفة، فتكون بشرتها أرقّ، وموضع الحس كلما رقّ كان الحس أصدق، كراحة الكف، إذا كانت موقاة من الأعمال صلحت للحسّ، وإذا كانت يد قَصّار، أو نَجّار خفي فيها الحسّ، فلما أبانوا في الدنيا تلك البضعة لأجله أعادها الله؛ ليذيقها من حلاوة فضله، قال: والسر في الختان مع أن القلفة معفوّ عن ما تحتها من النجس، أنه سُنَّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

[فإن قلت]: روى أبو داود من حديث أبي سعيد أنه لمّا حضره الموت دعا بثياب جُدُد، فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الميت يُبعث في ثيابه التي يموت فيها"، ورواه ابن حبان أيضًا في "صحيحه"، وروى الترمذي من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدّه، قال: سمعت

(1)

هكذا النسخة فيها نقص، فليُحرّر.

ص: 21

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم تُحشرون رجالًا وركبانًا، وتُجرّون على وجوهكم"، ففيها معارضة لحديث الباب ظاهرًا.

[قلت]: أجيب بأنهم يُبعثون من قبورهم في ثيابهم التي يموتون فيها، ثم عند الحشر تتناثر عنهم ثيابهم، فيُحشرون عُراة، أو بعضهم يأتون إلى موقف الحساب عراة، ثم يكسون من ثياب الجنة، وبعضهم حَمَل قوله:"يبعث فى ثيابه" على الأعمال؛ أي: في أعماله التي يموت فيها من خير أو شر، قال تعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وقال تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)} [المدثر: 4]؛ أي: عملك أخْلِصه، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:"يُبعث كل عبد على ما مات عليه".

وحمَله بعضهم على الشهداء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بأن يزمّلوا في ثيابهم، ويُدفنوا بها، ولا يغيّر شيء من حالهم، وقالوا: يَحْتَمِل أن يكون أبو سعيد سمع الحديث في الشهداء، فتأوله على العموم.

وقال بعضهم: ومما يدل على حديث الباب قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 94]، وقوله تعالى:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29]، ولا ملابس يومئذ إلا في الجنة، ذكره في "العمدة"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي الأَولى في الجمع قول من قال: إنهم يخرجون من قبورهم بثيابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيُحشرون عراة، ثم يكون إبراهيم عليه السلام أول من يُكسَى، ثم يُكسون بعد ذلك، وهذا أقرب في الجمع بين هذه الأخبار، والله تعالى أعلم.

({كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ})، ووقع في حديث أم سلمة رضي الله عنها عند ابن أبي الدنيا:"يحشر الناس حفاة، عراة، كما بُدِئوا".

وأول الآية هو قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]؛ أي: يوم نطوي السماء طيًّا كطي السجل الصحيفة للكتاب المكتوب، وعن عليّ، وابن عمر رضي الله عنهم: السجل ملَك يطوي كتب ابن آدم، إذا

(1)

"عمدة القاري" 15/ 241.

ص: 22

رُفعت إليه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: السجل كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضًا السجل؛ يعني: الرجل، فعلى هذه الأقوال: الكتاب: اسم الصحيفة المكتوب فيها.

وقوله: {أَوَّلَ خَلْقٍ} مفعول لقوله: نعيد الذي يفسره {نُعِيدُهُ} الذي بعده، والكاف مكفوفة بـ "ما"، والمعنى: نعيد أول خلق كما بدأناه؛ تشبيهًا للإعادة بالإبداء، في تناول القدرة لهما على السواء، وقيل: كما بدأناهم في بطون أمهاتهم حُفاة عُراة غُرلًا كذلك نعيدهم يوم القيامة نظيرها.

وقوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)} مصدر مؤكد؛ لأن قوله: {نُعِيدُهُ} عِدَة للإعادة، وقوله:{إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ؛ أي: قادرين على ما نشاء أن نفعل، وقيل: معناه: إنا كنا فاعلين ما وعدناه، قاله في "العمدة"

(1)

.

(ألَا) أداة تحضيض، (وإنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبرَاهِيمُ عليه السلام)

قال القرطبيّ رحمه الله: يجوز أن يراد بالخلائق مَن عدا نبينا صلى الله عليه وسلم، فلم يدخل في عموم خطابه نفسه، وتعقّبه تلميذه القرطبيّ أيضًا في "التذكرة"، فقال: هذا حسنٌ لولا ما جاء من حديث عليّ رضي الله عنه؛ يعني: الذي أخرجه ابن المبارك في "الزهد" من طريق عبد الله بن الحارث، عن عليّ رضي الله عنه قال:"أول من يكسى يوم القيامة خليل الله عليه السلام قبطيتين، ثم يكسى محمد صلى الله عليه وسلم حلة حبرة عن يمين العرش". قال الحافظ: كذا أورده مختصرًا موقوفًا، وأخرجه أبو يعلى مطوّلًا مرفوعًا، وأخرج البيهقيّ من طريق ابن عباس نحو حديث الباب، وزاد:"أول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة، ويؤتى بكرسيّ، فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي، فأُكسى حلة من الجنة، لا يقوم لها البشر، ثم يؤتى بكرسيّ، فيطرح على ساق العرش، وهو عن يمين العرش". وفي مرسل عبيد بن عمير، عند جعفر الفريابيّ:"يحشر الناس حفاة عراة، فيقول الله تعالى: ألا أرى خليلي عريانًا؟ فيكسى إبراهيم ثوبًا أبيض، فهو أول من يكسى". وقد أخرج ابن منده من حديث حَيْدَة -بفتح المهملة، وسكون التحتانيّة- رفعه،

(1)

"عمدة القاري" 15/ 241.

ص: 23

قال: "أول من يكسى إبراهيم، يقول الله: اكسوا خليلي؛ ليعلم الناس اليوم فضله عليهم".

قيل: الحكمة في كون إبراهيم عليه السلام أول من يكسى أنه جُرّد حين ألقي في النار. وقيل: لأنه أول من سنّ التستر بالسراويل. وقيل: إنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه، فعجّلت له الكسوة أمانًا له؛ ليطمئنّ قلبه. وهذا اختيار الحليميّ، والأول اختيار القرطبيّ.

ولا يلزم من تخصيص إبراهيم عليه السلام بأنه أول من يكسى أن يكون أفضل من نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم مطلقًا؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء، يُخصّ به، ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة.

قال الحافظ: يَحْتَمِل أن يكون نبيّنا صلى الله عليه وسلم خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلّة التي يكساها حينئذ، من حلل الجنة خلعة الكرامة بقرينة إجلاسه على الكرسيّ عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق. انتهى.

وأجاب الحليميّ بأنه يكسى أولًا، ثم يكسى نبيّنا صلى الله عليه وسلم على ظاهر الخبر، لكن حلة نبيّنا صلى الله عليه وسلم أعلى، وأكمل، فتَجبر نفاستها ما فات من الأولية، والله أعلم. انتهى.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: وقد ثبت لإبراهيم؛ أوّليّات أخرى كثيرة: منها أنه أول من ضاف الضيف، وقصّ الشارب، واختتن، ورأى الشيب، وغير ذلك، وقد أتيت على ذلك بأدلته في كتابي "إقامة الدلائل على معرفة الأوائل". انتهى

(1)

.

(أَلَا وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ) بالبناء للمفعول، (بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمالِ) بكسر الشين ضد اليمين ويراد بها جهة اليسار؛ أي: إلى جهة النار، ووقع ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ من طريق عطاء بن يسار، عنه، ولفظه:"فإذا زمرة، حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلمّ، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى النار. . ." الحديث. وبيّن، في حديث

(1)

"الفتح" 15/ 32 - 33 رقم (6526).

ص: 24

أنس رضي الله عنه الموضع، ولفظه:"ليردنّ عليّ ناس، من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختُلِجوا دوني. . ." الحديث. وفي حديث سهل: "ليردَنّ عليّ أقوام أعرفهم، ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم". وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "ليُذادَنّ رجال عن حوضي، كما يُذاد البعير الضّالّ، أناديهم: ألا هلمّ".

(فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي") وفي رواية أحمد: "فلأقولنّ"، وفي رواية للبخاريّ:"فأقول: أصحابي، أصحابي" مكرّرًا، فالأول خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هؤلاء أصحابي، وأصحابي الثاني تأكيد له، ويروى:"أصيحابي، أصيحابي"، ووجه التصغير فيه إشارة إلى قلة عدد من هذا وَصْفهم، قاله في "العمدة"

(1)

.

(فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ) وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاريّ الذي تقدم الإشارة إليه: "إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى"، وزاد في رواية سعيد بن المسيِّب، عن أبي هريرة أيضًا:"فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك، فأقول: سُحْقًا سحقًا"؛ أي: بُعْدًا بعدًا، والتأكيد للمبالغة. وفي حديث أبي سعيد عند البخاريّ أيضًا:"فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا لمن غيّر بعدي". وزاد في رواية عطاء بن يسار: "فلا أراه يَخلُص منهم إلا مثل هَمَل النعَم". ولأحمد، والطبرانيّ، من حديث أبي بكر رضي الله عنه رفعه:"ليردنّ عليّ الحوض رجال ممن صحبني، ورآني". وسنده حسن. وللطبرانيّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه نحوه، وزاد:"فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن لا يجعلني منهم، قال: لست منهم". وسنده حسن، قاله في "الفتح".

(فَأَقُولُ: كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ)؛ يعني: عيسى ابن مريم عليه السلام: ({وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117])؛ أي: كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم، ({فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ})؛ أي: الحفيظ عليهم، والمراقبة في الأصل: المراعاة، وقيل: أنت العالم بهم، ({وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ})؛ أي: شاهد لِمَا حضر وغاب، وقيل: على من عصى، وأطاع.

(1)

"عمدة القاري" 15/ 243.

ص: 25

({إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}) ذكر هذا على وجه الاستعطاف، والتسليم لأمره، ({وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ})؛ أي: وإن تغفر لهم فبتوبة كانت منهم؛ لأنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، وأنت في مغفرتك عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك.

قال الإمام أبو جعفر الطبريّ رحمه الله في "تفسيره": القول في تأويل قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)} [المائدة: 117].

قال: وهذا خبر من الله عز وجل عن قول عيسى عليه السلام، يقول: ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم: اعبدوا الله ربي وربكم، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} يقول: وكنت على ما يفعلونه وأنا بين أظهرهم شاهدًا عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} ، يقول: فلما قبضتني إليك {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ، يقول: كنت أنت الحفيظ عليهم دوني؛ لأني إنما شهدت من أعمالهم ما عملوه، وأنا بين أظهرهم.

قال: وفي هذا تبيانُ أن الله عز وجل إنما عرّفه أفعالَ القوم، ومقالتهم بعدما قبضه إليه، وتوفاه بقوله:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116].

وقوله: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يقول: وأنت تشهد على كل شيء؛ لأنه لا يخفى عليك شيء، وأما أنا، فإنما شهدت بعض الأشياء، وذلك ما عاينت، وأنا مقيم بين أظهر القوم، فإنما أنا أشهد على ذلك الذي عاينت، ورأيت وشهدت.

وقوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} [المائدة: 118].

قال الطبريّ: يقول الله عز وجل: إنْ تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، بإماتتك إياهم عليها {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} ، مستسلمون لك، لا يمتنعون مما أردت بهم، ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًّا ولا أمرًا تنالهم به، {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} ، بهدايتك إياهم إلى التوبة منها، فتستر عليهم {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} في انتقامه ممن أراد الانتقام منه، لا يقدر أحدٌ يدفعه عنه. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ

ص: 26

{فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)} ، في هدايته من هدى من خلقه إلى التوبة، وتوفيقه من وفَّق منهم لسبيل النجاة من العقاب. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ") قال في "الفتح": قال الفربريّ: ذُكِر عن أبي عبد الله البخاريّ، عن قبيصة، قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه، فقاتلهم أبو بكر؛ يعني: حتى قُتلوا، وماتوا على الكفر. وقد وصله الإسماعيليّ من وجه آخر عن قبيصة.

وقال الخطابيّ رحمه الله: لم يرتدّ من الصحابة أحد، وإنما ارتدّ قوم من جُفَاة الأعراب، ممن لا نُصْرة له في الدين، وذلك لا يوجب قدحًا في الصحابة المشهورين، ويدلّ قوله:"أصيحابي" بالتصغير على قلة عددهم. وقال غيره: قيل: هو على ظاهره من الكفر، والمراد بأمتي: أمة الدعوة، لا أمة الإجابة، ورُجّح بقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فأقول:"بُعدًا لهم، وسحقًا"، ويؤيده كونهم خفي عليه حالهم، ولو كانوا من أمة الإجابة لعرف حالهم بكون أعمالهم تُعرض عليه. قال الحافظ: وهذا يردّه قوله في حديث أنس رضي الله عنه: "حتى إذا عرفتهم"، وكذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكونوا منافقين، أو مرتكبي الكبائر. وقيل: هم قوم من جفاة الأعراب، دخلوا في الإسلام، رغبة، ورهبة. وقال الداوديّ: لا يمتنع دخول أصحاب الكبائر، والبدع في ذلك. وقال النوويّ: قيل: هم المنافقون، والمرتدّون، فيجوز أن يُحشروا بالغرّة والتحجيل؛ لكونهم من جملة الأمة، فيناديهم من أجل السيما التي عليهم، فيقال: إنهم بدّلوا بعدك؛ أي: لم يموتوا على ظاهر ما فارقتهم عليه. قال عياض وغيره: وعلى هذا فيذهب عنهم الغرّة والتحجيل، ويطفأ نورهم. وقيل: لا يلزم أن تكون عليهم السيما، بل يناديهم؛ لِمَا كان يعرف من إسلامهم. وقيل: هم أصحاب الكبائر، والبدع الذين ماتوا على الإسلام، وعلى هذا فلا يُقطع بدخول هؤلاء النار؛ لجواز أن يُذادوا عن الحوض أوّلًا؛ عقوبة لهم، ثم يُرحموا، ولا يمتنع أن يكون لهم غرّة، وتحجيل، فعرفهم بالسيما، سواء كانوا في زمنه أو بعده. ورجّح عياض، والباجيّ، وغيرهما ما

(1)

"تفسير الطبريّ" 11/ 238 - 241.

ص: 27

قال قبيصة، راوي الخبر أنهم من ارتدّ بعده صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من معرفته لهم أن يكون عليهم السيما؛ لأنها كرامة، يظهر بها عمل المسلم، والمرتدّ قد حبط عمله، فقد يكون عرفهم بأعيانهم، لا بصفاتهم، باعتبار ما كانوا عليه قبل ارتدادهم، ولا يبعد أن يدخل في ذلك أيضًا من كان في زمنه من المنافقين، وقد ثبت في حديث الشفاعة في "الصحيح":"وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها"، فدلّ على أنهم يُحشرون مع المؤمنين، فيعرف أعيانهم، ولو لم تكن لهم تلك السيما، فمن عرف صورته ناداه، مستصحبًا لحاله التي فارقه عليها في الدنيا.

وأما دخول أصحاب البدع في ذلك، فاستُبعد؛ لتعبيره في الخبر بقوله:"أصحابي"، وأصحاب البدع إنما حَدَثوا بعده.

وأجيب بحمل الصحبة على المعنى الأعمّ. واستُبعد أيضًا أنه لا يقال للمسلم، ولو كان مبتدعًا:"سُحْقًا". وأجيب بأنه لا يمتنع أن يقال ذلك لمن علم أنه قُضي عليه بالتعذيب على معصية، ثم ينجو بالشفاعة، فيكون قوله:"سحقًا" تسليما لأمر الله، مع بقاء الرجاء، وكذا القول في أصحاب الكبائر.

وقال البيضاويّ: ليس قوله: "مرتدّين" نصًّا في كونهم ارتدّوا عن الإسلام، بل يَحْتمِل ذلك، ويَحتمل أن يراد أنهم عصاة المؤمنين المرتدّون عن الاستقامة، يبدّلون الأعمال الصالحة بالسيئة. انتهى.

وقد أخرج أبو يعلى بسند حسن، عن أبي سعيد رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثًا، فقال:"يا أيها الناس إني فرطكم على الحوض، فإذا جئتم قال رجل: يا رسول الله أنا فلان ابن فلان، وقال آخر: أنا فلان ابن فلان ابن فلان، فأقول: أما النسب، فقد عرفته، ولعلكم أحدثتم بعدي، وارتددتم". ولأحمد، والبزّار نحوه من حديث جابر رضي الله عنه، ذكره في "الفتح"

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما تقدّم من تفسير قبيصة أَولى بحمل الحديث عليه؛ لكونه راوي الخبر، كما رجحه عياض، والباجيّ

(1)

"الفتح" 15/ 34 - 35.

ص: 28

رحمهما الله تعالى، لكن لا يبعد أن يدخل فيهم كل من كان على شاكلتهم في كلّ عصر، ومصر، من أصحاب الانحرافات التي تخالف هديه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (وَفِي حَدِيثِ وَكيعٍ، وَمُعَاذٍ: "فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ") بيان للاختلاف بين الرواة في هذه الجملة، فرواها محمد بن جعفر غندر بلفظ:"فَيُقَالُ لِي: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ"، ورواها وكيع، ومعاذ بن معاذ بلفظ:"فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ"، والمعنى متقارب، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا مُتّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7172 و 7173](2860)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3349 و 3447) و"التفسير"(4625 و 4626 و 4740) و"الرقاق"(6524 و 6526)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(2423 و 3167)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2087 و 2081 و 2082) وفي "الكبرى "(2214 و 2208 و 2209)، و (أحمد) في "مسنده"(1916 و 1951 و 2028 و 2097 و 2281)، و (الدارميّ) في "سننه"(2088 و 1870)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أول من يُكسى يوم القيامة، وهو خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام؛ لأنه أُلقي في النار مجرّدًا في ذات الله سبحانه وتعالى، فجازاه الله تعالى بأن فضّله على أن جعله أول من يكسى يوم القيامة.

2 -

(ومنهما): أن فيه لإبراهيم عليه السلام منقبةً ظاهرهً وفضيلةً عظيمةً، وخصوصية، كما خُص موسى عليه السلام بأنه صلى الله عليه وسلم يجده متعلقًا بساق العرش، مع أنه صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، ولكن لا يلزم من هذا أن يكونا أفضل منه صلى الله عليه وسلم، بل هو أفضل من في القيامة، كما قال: "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، ومشفع، بيدي لواء

ص: 29

الحمد، تحتي آدم فمن دونه"، صححه ابن حبّان

(1)

، ولا يلزم من اختصاص الشخص بفضيلة كونه أفضل مطلقًا، أو المراد غير المتكلّم بذلك؛ لأن قومًا من أهل الأصول ذكروا أن المتكلّم لا يدخل تحت عموم خطابه.

3 -

(ومنها): إثبات الحشر في القيامة.

4 -

(ومنها): بيان شدّة الأمر في ذلك اليوم، حيث إن الخلائق يحشرون عُرَاة، حُفاةً، غُرْلًا.

5 -

(ومنها): بيان عظمة قدرة الله تعالى، حيث إنه يعيد الخلق كما بدأه على الصفة التي بدأهم عليها في الدنيا.

6 -

(ومنها): إثبات معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث إنه أعلمه الله تعالى بما سيقع من بعض أصحابه، من الإدبار على أعقابهم، وقد تقدم أنهم قليلون، وأن غالبهم من جفاة الأعراب، ولم يُعرف ذلك لأفاضل الصحابة رضي الله عنهم.

7 -

(ومنها): أنه لا ينبغي للإنسان أن يتساهل في الابتداع في الدين، وإن كان شيئًا يسيرًا؛ لأنه يضرّ بدينه؛ لأن الدين قد أكمله الله تعالى، فجميع أنواع المحدثات تنافيه، فالإحداث في الدين مهما كان نوعه من أخطر مهالك الإنسان، فيجب الحذر منه.

8 -

(ومنها): أن الذي ينفع الإنسان هو لزوم سُنَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهديه، فمن لم يتبعه صلى الله عليه وسلم لا تنفعه صحبته، ولا معرفته، بل إذا عرف انحرافه عن سُنَّته تبرّأ منه، وقال له:"سُحْقًا سُحْقًا"، ولا يَرِد حوضه، بل يُذاد عنه، ويطرد، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، اللَّهُمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، وارزقنا اللَّهُمَّ التمسّك بسُنَّة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللَّهُمَّ أحينا عليها، وأمتنا عليها، وابعثنا عليها، واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتًا، برحمتك يا أرحم الراحمين آمين.

(1)

"صحيح ابن حبان" 14/ 398.

ص: 30

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7174]

(2861) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ، قَالَا جمِيعًا: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ، رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ، تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أمْسَوْا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ)، تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1609.

2 -

(بَهْزُ) بن أسد العمّيّ البصريّ، أخو معلّى، تقدّم قريبًا.

3 -

(وُهَيْبُ) بن خالد الباهليّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ طَاوُس) بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ. [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

5 -

(أَبُوهُ) طاوس بن كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الْحِمْيَريّ مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"محمد بن حاتم" هو: ابن ميمون.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيات المصنف رحمه الله، وأن فيه رواية الراوي عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يُحْشَرُ) بالبناء للمفعول، (النَّاسُ) قال الكرمانيّ: قالوا: هذا الحشر في آخر الدنيا قبيل القيامة، كما ثبت حديث:"إنكم ملاقو الله مشاةً"؛ ولمَا فيه من ذِكر المساء

ص: 31

والصباح، ولانتقال النار معهم، وهي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وقال الخطابيّ: هذا الحشر قبيل قيام الساعة، يُحشر الناس أحياءً إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف، فهو على خلاف هذه الصورة، من الركوب على الإبل، والتعاقب عليها، وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:"حفاةً عراةً مشاةً"

(1)

.

[تنبيه]: زاد في رواية النسائيّ: "يوم القيامة"، وظاهره أنه حَشْر الآخرة، لكن، أكثر أهل العلم على أنه حشر في الدنيا، وهو آخر أشراط الساعة، وهذا هو المناسب لِمَا يأتي من قوله:"تقيل معهم إذا قالوا، وتبيت معهم إذا باتوا إلخ"، فالأَولى أن يُحْمَل قوله:"يوم القيامة" على معنى قُرْب يوم القيامة، من إعطاء ما قرُب إلى الشيء حُكم ذلك الشيء

(2)

.

(عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ)؛ أي: ثلاث فِرَق، وفي رواية:"على ثلاثة طرائق"، و"الطرائق" جمع طريق، وهي تذكّر، وتؤنّث، فيجوز تذكير العدد معه، وتأنيثه بالاعتبارين.

(رَاغِبِينَ)؛ أي: طامعين في رحمة الله تعالى، وهم السابقون، (رَاهِبِينَ)؛ أي: خائفين من عذاب الله تعالى، وهم عامة المؤمنين، والكفارُ أهلُ النار، وللبخاريّ:"وراهبين" بواو العطف، وعلى الروايتين فهي الطريقة الأولى.

(وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ) قال الكرمانيّ: والأبعرة إنما هى للراهبين، والمخلصون حالهم أعلى، وأجلّ من ذلك، أو هي للراغبين، وأما الراهبون فيكونون مشاة على أقدامهم، أو هي لهما بأن يكون اثنان من الراغبين مثلًا علي بعير، وعشرة من الراهبين على بعير، والكفار يمشون على وجوههم. انتهى

(3)

.

(وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ) هكذا عند مسلم بالواو في الجميع، وكذا هو عند الإسماعيليّ، وفي رواية البخاري الأُولى بالواو، والبواقي بلا عاطف، وعلى كلّ، فهذه هي الطريقة الثانية.

(1)

"عمدة القاري" 23/ 105.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى" 20/ 176.

(3)

"عمدة القاري" 23/ 105.

ص: 32

(وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ) ببناء الفعل للفاعل، و"بقيتهم" بالنصب مفعول مقدّم، و"النار" فاعل مؤخّر.

قال في "الفتح": هذه هي النار المذكورة في حديث حُذيفة بن أَسيد -بفتح الهمزة- عند مسلم في حديث فيه ذِكر الآيات الكائنة قبل قيام الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، ففيه:"وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن، تُرَحِّل الناس"، وفي رواية له:"تَطْرُدُ الناس إلى حشرهم".

(تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا)؛ أي: تستريح معهم إذا استراحوا، والقيلولة: النوم نصف النهار، يقال: قال يَقيل قَيلًا، من باب باع، وقَيْلُولةً: إذا نام نصف النهار.

قال في "العمدة": وفي قوله: "تقيل إلخ" دلالة على أنهم يقيمون كذلك أيامًا، (وَتُصْبِحُ) بضمّ أوله، وكسر ثالثه، من الإصباح، (مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي) بضمّ أوله، وكسر ثالثه أيضًا من الإمساء، (مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا") فيه إشارة إلى ملازمة النار لهم إلى أن يصلوا إلى مكان الحشر، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7174](2861)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6522)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2085) وفي "الكبرى"(2212)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 87)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 210)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7336)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 318)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4314)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في المراد بالحشر المذكور في هذا الحديث:

قال الخطابيّ رحمه الله: هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة، تحشر النارُ الناسَ الأحياءَ إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف، فهو على خلاف هذه الصورة، من الركوب على الإبل، والتعاقب عليها، وإنما هو على

ص: 33

ما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الباب: "حفاة، عراة، مشاة"، قال: وقوله: "واثنان على بعير، وثلاثة على بعير إلخ" يريد أنهم يعتقبون البعير الواحد، يركب بعضٌ، ويمشي بعض.

قال الحافظ رحمه الله: وإنما لم يذكر الخمسة، والستّة، إلى العشرة، إيجازًا، واكتفاء بما ذكر من الأعداد، مع أن الاعتقاب ليس مجزومًا به، ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة.

ومال الْحَلِيميّ إلى أن هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور. وجزم به الغزاليّ.

وقال الإسماعيليّ: ظاهر حديث أبي هريرة يخالف حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور في الباب أنهم يُحشرون حُفَاة، عُرَاة، مُشَاة، قال: ويُجمع بينهما بأن الحشر يعبّر به عن النشر؛ لاتصاله به، وهو إخراج الخلق من القبور حفاة، عراة، فيساقون، ويُجمعون إلى الموقف للحساب، فحينئذ يحشر المتقون رُكبانًا على الإبل.

وجمع غيره بأنهم يخرجون من القبور بالوصف الذي في حديث ابن عباس، ثم يفترق حالهم من ثَمّ إلى الموقف على ما في حديث أبي هريرة، ويؤيده حديث أبي ذرّ رضي الله عنه

(1)

.

وصوّب عياض ما ذهب إليه الخطابيّ، وقوّاه بحديث حذيفة بن أَسِيد، وبقوله في آخر حديث الباب:"تقيل معهم، وتبيت، وتصبح، وتمسي"، فإن هذه الأوصاف مختصّة بالدنيا.

وقال بعض شرّاح "المصابيح": حَمْله على الحشر من القبور أقوى من أوجه:

(1)

أشار به إلى ما أخرجه النسائيّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنِي: "أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ: فَوْجٌ رَاكِبِينَ، طَاعِمِينَ، كَاسِينَ، وَفَوْجٌ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ، عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ، وَفَوْجٌ يَمْشُونَ، وَيَسْعَوْنَ، يُلْقِي اللهُ الْآفَةَ عَلَى الظَّهْرِ، فَلَا يَبْقَى، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَتَكُونُ لَهُ الْحَدِيقَةُ، يُعْطِيهَا بِذَاتِ الْقَتَبِ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا".

ص: 34

أحدها: أن الحشر إذا أُطلق في عُرف الشرع إنما يراد به الحشر من القبور، ما لم يخصّه دليل.

ثانيها: أن هذا التقسيم المذكور في الخبر لا يستقيم في الحشر إلى أرض الشام؛ لأن المهاجر لا بدّ أن يكون راغبًا، أو راهبًا، أو جامعًا بين الصفتين، فأما أن يكون راغبًا راهبًا فقط، وتكون هذه طريقة واحدة، لا ثاني لها من جنسها فلا.

ثالثها: حشر البقيّة على ما ذكر، وإلجاء النار لهم إلى تلك الجهة، وملازمتها حتى لا تفارقهم قول لم يرد به التوقيف، وليس لنا أن نحكم بتسليط النار في الدنيا على أهل الشقاوة في هذه الدار من غير توقيف.

رابعها: أن الحديث يفسّر بعضه بعضًا، وقد وقع في الحسان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف". وأخرجه البيهقيّ من وجه آخر عن عليّ بن زيد، عن أوس بن أبي أوس، عن أبي هريرة، بلفظ:"ثلاثًا على الدوابّ، وثلاثًا يَنسِلُون على أقدامهم، وثلاثًا على وجوههم". قال: ونرى هذا التقسيم الذي وقع في هذا الحديث نظير التقسيم الذي في تفسير الواقعة في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)} الآيات [الواقعة: 7].

فقوله: "راغبين راهبين" يريد به عوامّ المؤمنين، وهم من خَلَطَ عملًا صالحًا، وآخر سيّئًا، فيتردّدون بين الخوف والرجاء، يخافون عاقبة سيئآتهم، ويرجون رحمة الله بإيمانهم، وهؤلآء أصحاب الميمنة. وقوله:"واثنان على بعير. . . إلخ" يريد به السابقين، وهم أفاضل المؤمنين، يُحشرون ركبانًا. وقوله:"وتَحشر بقيتهم النار" يريد به أصحاب المشأمة، وركوب السابقين في الحديث يَحْتَمِل الحمل دفعة واحدة؛ تنبيهًا على أن البعير المذكور يكون من بدائع فطرة الله تعالى حتى يقوى على ما لا يقوى عليه غيره من الْبِعْرَان. ويَحتمل أن يراد به التعاقب.

قال الخطابيّ: إنما سكت عن الواحد إشارة إلى أنه يكون لمن فوقهم في المرتبة، كالأنبياء؛ ليقع الامتياز بين النبيّ ومن دونه من السابقين في المراكب؛ كما وقع في المراتب. انتهى مُلَخّصًا.

وتعقّبه الطيبيّ، ورجّح ما ذهب إليه الخطابيّ.

ص: 35

وأجاب عن الأول: بأن الدليل ثابت، فقد ورد في عدّة أحاديث وقوع الحشر في الدنيا إلى جهة الشام، وذكر حديث حذيفة بن أسيد الذي نبّهت عليه قبل، وحديث معاوية بن حَيْدَة، جدّ بَهْز بن حكيم، رفعه:"إنكم محشورون، ونحا بيده نحو الشام رجالًا، وركبانًا، وتُجرّون على وجوهكم". أخرجه الترمذيّ، والنسائيّ، وسنده قويّ، وحديث:"ستكون هجرة بعد هجرة، وينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم عليه السلام، ولا يبقى في الأرض إلا شرارها، تلفظهم أَرَضُوهم، وتحشرهم النار مع القردة، والخنازير، تبيت معهم إذا باتوا، وتَقيل معهم إذا قالوا". أخرجه أحمد، وسنده لا بأس به. وأخرج عبد الرزاق، عن النعمان بن المنذر، عن وهب بن منبّه، قال: قال الله تعالى لصخرة بيت المقدس: "لأضعنّ عليك عرشي، ولأحشُرنّ عليك خلقي". وفي تفسير ابن عيينة، عن ابن عباس: من شكّ أن المحشر ههنا -يعني: الشام- فليقرأ أول سورة الحشر، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ:"اخرجوا"، قالوا: إلى أين؟ قال: "إلى أرض المحشر". وحديث: "ستخرج نار من حضرموت، تحشر الناس"، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: "عليكم بالشام". ثم حكى خلافًا: هل المراد بالنار نار على الحقيقة، أو هو كناية عن الفتنة الشديدة؟ كما يقال: نار الحرب لشدة ما يقع في الحرب، قال تعالى:{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} الآية [المائدة: 64]، وعلى كلّ حال، فليس المراد بالنار في هذه الأحاديث نار الآخرة، ولو أريد المعنى الذي زعمه المعترض لقيل: تُحشَر بقيتُهُم إلى النار، وقد أضاف الحشر إلى النار؛ لكونها هي التي تحشرهم، وتختطف من تخلّف منهم؛ كما ورد في حديث أبي هريرة من رواية عليّ بن زيد، عند أحمد، وغيره؛ وعلى تقدير أن تكون النار كناية عن الفتنة، فنسبة الحشر إليها سببيّة؛ كأنها تفشو في كلّ جهة، وتكون في جهة الشام أخفّ منها في غيرها، فكلّ من عرف ازديادها في الجهة التي هو فيها أحبّ التحوّل منها إلى المكان الذي ليست فيه شديدة، فتتوفّر الدواعي على الرحيل إلى الشام، ولا يمتنع اجتماع الأمرين، وإطلاق النار على الحقيقة التي تخرج من قعر عدن، وعلى المجازية، وهي الفتنة، إذ لا تنافي بينهما، ويؤيد الحمل على الحقيقة ظاهر الحديث الأخير.

ص: 36

والجواب عن الاعتراض الثاني: أن التقسيم المذكور في آيات "سورة الواقعة" لا يستلزم أن يكون هو التقسيم المذكور في الحديث، فإن الذي في الحديث ورد على القصد من الخلاص من الفتنة، فمن اغتنم الفرصة سار على فسحة من الظهر، ويسرة في الزاد، راغبًا فيما يستقبله، راهبًا فيما يستدبره، وهؤلاء هم الصنف الأول في الحديث، ومن توانى حتى قلّ الظهر، وضاق عن أن يسعهم لركوبهم اشتركوا، وركبوا عقبةً، فيحصل اشتراك الاثنين في البعير الواحد، وكذا الثلاثة، ويمكنهم كل من الأمرين، وأما الأربعة في الواحد، فالظاهر من حالهم التعاقب، وقد يمكنهم إذا كانوا خفافًا، أو أطفالًا، وأما العشرة فبالتعاقب، وسكت عما فوقها إشارة إلى أنها المنتهى في ذلك، وعما بينها وبين الأربعة؛ إيجازًا واختصارًا، وهؤلاء هم الصنف الثاني في الحديث.

وأما الصنف الثالث فعبّر عنه بقوله: "وتحشر بقيتهم النار" إشارةً إلى أنهم عجزوا عن تحصيل ما يركبونه، ولم يقع في الحديث بيان حالهم، بل يَحتمل أنهم يمشون، أو يسحبون، فرارًا من النار التي تحشرهم، ويؤيد ذلك ما وقع في آخر حديث أبي ذرّ الذي تقدمت الإشارة إليه في كلام المعترض، وفيه أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين، فقال:"يلقي الله الآفة على الظهر، حتى لا يبقى ذات ظهر، حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب"؛ أي: يشتري الناقة المسنّة لأجل كونها تحمله على القتب بالبستان الكريم لهوان العقار الذي عزم على الرحيل عنه، وعزّة الظهر الذي يوصله إلى مقصوده، وهذا لائق بأحوال الدنيا، ومؤكّد لِمَا ذهب إليه الخطابيّ، ويتنزّل على وفق حديث الباب -يعني: من "المصابيح"-، وهو أن قوله:"فوج طاعمين كاسين راكبين" موافق لقوله: "راغبين راهبين". وقوله: "وفوج يمشون" موافق للصنف الذين يتعاقبون على البعير، فإن صفة المشي لازمة لهم، وأما الصنف الذين تحشرهم النار، فهم الذين تسحبهم الملائكة.

والجواب عن الاعتراض الثالث: أنه تبيّن من شواهد الحديث أنه ليس المراد بالنار نار الآخرة، وإنما هي نار تخرج في الدنيا، أنذر النبيّ صلى الله عليه وسلم بخروجها، وذكر كيفية ما تفعل في الأحاديث المذكورة.

والجواب عن الاعتراض الرابع: أن حديث أبي هريرة من رواية عليّ بن

ص: 37

زيد مع ضَعفه لا يخالف حديث الباب؛ لأنه موافق لحديث أبي ذرّ في لفظه، وقد تبيّن من حديث أبي ذرّ ما دلّ على أنه في الدنيا، لا بعد البعث في الحشر إلى الموقف، إذ لا حديقة هناك، ولا آفة تُلقَى على الظهر حتى يَعِزّ، ويقلّ. ووقع في حديث علي بن زيد المذكور عند أحمد أنهم يتقون بوجوههم كلّ حدب وشوك، وقد سبق أن أرض الموقف أرض مستوية، لا عوج فيها، ولا أكمة، ولا حدب، ولا شوك.

وأشار الطيبيّ إلى أن الأَولى أن الحديث الذي من رواية عليّ بن زيد على من يُحشر من الموقف إلى مكان الاستقرار من الجنّة، أو النار، ويكون المراد بالركبان: السابقين المتقين، وهم المراد بقوله تعالى:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)} [مريم: 85]؛ أي: ركبانًا. وأخرج الطبريّ عن عليّ في تفسير هذه الآية، فقال:"أَمَا والله ما يحشر الوفد على أرجلهم، ولا يساقون سوقًا، ولكن يُؤتَون بِنُوق لم تر الخلائق مثلها، عليها رحال الذهب، وأزمّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة". والمراد: سوق ركائبهم، إسراعًا بهم إلى دار الكرامة؛ كما يُفعل في العادة بمن يُشرف، ويُكرم من الوافدين على الملوك، قال: ويستبعد أن يقال: يجيء وفد الله عشرة على بعير جميعًا، أو متعاقبين، وعلى هذا فقد روى أبو هريرة حال المحشورين عند انقراض الدنيا إلى جهة أرض المحشر، وهم ثلاثة أصناف، وحال المحشورين في الأخرى إلى محلّ الاستقرار. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله عن جواب المعترض، ملخّصًا موضّحًا بزيادات فيه.

قال الحافظ رحمه الله: لكن تقدم مما قررته أن حديث أبي هريرة من رواية علي بن زيد ليس في المحشورين من الموقف إلى محلّ الاستقرار. ثم ختم كلامه بأن قال: هذا ما سنح لي على سبيل الاجتهاد، ثم رأيت في "صحيح البخاريّ" في "باب الحشر":"يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق"، فعلمت من ذلك أن الذي ذهب إليه الإمام التوربشتيّ هو الحقّ الذي لا محيد عنه.

قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف في شيء من طرق الحديث الذي أخرجه البخاريّ على لفظ "يوم القيامة"، لا في "صحيحه"، ولا في غيره، وكذا هو

ص: 38

عند مسلم، والإسماعيليّ، وغيرهما ليس فيه "يوم القيامة". نعم ثبت لفظ "يوم القيامة" في حديث أبي ذرّ، المنبّه عليه قبلُ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله الحافظ من أنه ليس لفظ "يوم القيامة" في طرق حديث أبي هريرة، بل في حديث أبي ذرّ غير صحيح؛ لأنه ثابت، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في رواية النسائيّ رحمه الله فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وهو مؤوَّل بأن المراد بذلك: أن يوم القيامة يعقب ذلك، فيكون من مجاز المجاورة، ويتعيّن ذلك؛ لِمَا وقع فيه أن الظهر يقلّ؛ لِمَا يلقى عليه من الآفة، وأن الرجل يشتري الشارف الواحد بالحديقة المعجبة، فإنه ظاهر جدًّا في أنه من أحوال الدنيا، لا بعد الموت.

وقد روى البيهقيّ في حديث الباب احتمالين، فقال: قوله: "راغبين" يَحْتَمِل أن يكون إشارة إلى الأبرار. وقوله: "راهبين" إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الخوف والرجاء، والذين تحشرهم النار هم الكفار.

وتعقّب بأنه حذف ذكرَ قوله: "واثنان على بعير إلخ". وأجيب بأن الرغبة والرهبة صفتان للصنفين: الأبرار والمخلطين، وكلاهما يحشر اثنان على بعير الخ.

قال: ويَحتمل أن يكون ذلك في وقت حَشْرهم إلى الجنة بعد الفراغ، ثم قال بعد إيراد حديث أبي ذرّ: يَحتمل أن يكون المراد بالفوج الأول: الأبرار، وبالفوج الثاني: الذين خلطوا، فيكونون مشاة، والأبرار ركبانًا، وقد يكون بعض الكفّار أعيا من بعض، فأولئك يُسحبون على وجوههم، ومن دونهم يمشون، ويسعون مع من شاء الله من الفسّاق وقت حشرهم إلى الموقف.

وأما الظَّهر فلعلّ المراد به: ما يحييه الله بعد الموت من الدوابّ، فيركبها الأبرار، ومن شاء الله، ويلقي الله الآفة في بقيتها حتى يبقى جماعة من المخلطين بلا ظهر.

قال الحافظ: ولا يخفى ضعف هذا التأويل مع قوله في بقية الحديث: "حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف"، ومن أين يكون للذين يبعثون بعد الموت عراة، حفاة، حدائق حتى يدفعوها في الشوارف؟ فالراجح

ص: 39

ما تقدّم، وكذا يبعده غاية البعد أن يحتاج من يساق من الموقف إلى الجنة إلى التعاقب على الأبعرة، فرجح أن ذلك إنما يكون قبل المبعث، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

وحاصله: أن الراجح حَمْل الحديث على الحشر الذي يكون قبل قيام الساعة، عند قُربها، فيُحشر الناس إلى الشام على هذه الصفات المختلفة، من كونها راغبين، راهبين. . . إلخ، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].

(16) - (بَابٌ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ -أَعَانَنَا اللهُ عَلَى أَهْوَالِهَا

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7175]

(2862) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيدُ اللهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنُونَ اَبْنَ سَعِيدٍ- عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 6] قَالَ: "يَقُومُ

(1)

أحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أنصَافِ أُذُنَيْهِ"، وَفي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثَنَّى: قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ"، لَمْ يَذْكُرْ: "يَوْمَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر العمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قبل أربعة أبواب.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين، و"عبيد الله بن سعيد" هو: أبو قُدامة السرخسيّ، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قَرَن بينهم؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ، والأداء منه ومنهم، كما أسلفناه غير مرّة، وفيه رواية

(1)

وفي نسخة: "قال: حين يقوم"، وفي أخرى:"حتى يقوم".

ص: 40

تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، من الصحابة رضي الله عنهم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه قال في تفسير قوله عز وجل: ({يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَقُومُ) ووقع في بعض النسخ: "حين يقوم"، وفي بعضها:"حتى يقوم"، (أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ) بفتح، فسكون؛ أي: في عرقها؛ لأنه يخرج من البدن شيئًا بعد شيء، كما يرشح الإناء المتحلّل الأجزاء، ووقع في رواية سعيد بن داود:"حتى إن العرق يُلجم أحدهم إلى أنصاف أذنيه". (إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ") هو من إضافة الجميع إلى الجميع حقيقة ومعنى؛ لأن لكل واحد أذنين، قاله في "الفتح"، وقال في "العمدة": قوله: "إلى أنصاف أذنيه" كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ويمكن الفرق بأنه لمّا كان لكل شخص أذنان، فهو من باب إضافة الجمع إلى مثله؛ بناءً على أن أقل الجمع اثنان. انتهى

(1)

.

وفي رواية صالح بن كيسان الآتية: "حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ".

والرَّشْح بفتح الراء، وسكون الشين المعجمة، بعدهما مهملة، هو العرق، شُبِّه برشح الإناء، لكونه يخرج من البدن شيئًا فشيئًا، وهذا ظاهر في أن العرق يحصل لكل شخص من نفسه، وفيه تعقُّب على من جوّز أن يكون من عرقه فقط، أو من عرقه وعرق غيره.

وقال عياض رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد عرق الإنسان نفسه بقدر خوفه، مما يشاهده من الأهوال، ويَحْتَمِل أن يريد عرقه وعرق غيره، فيشدّد على بعض، ويخفف على بعض، وهذا كله بتزاحم الناس، وانضمام بعضهم إلى بعض، حتى صار العرق يجري سائحًا في وجه الأرض، كالماء في الوادي، بعد أن شربت منه الأرض، وغاص فيها سبعين ذراعًا.

(1)

"عمدة القاري" 23/ 110.

ص: 41

قال الحافظ رحمه الله: واستُشكل بأن الجماعة إذا وقفوا في الماء الذي على أرض معتدلة، كانت تغطية الماء لهم على السواء، لكنهم إذا اختلفوا في الطول والقصر تفاوتوا، فكيف يكون الكل إلى الأذن.

والجواب: أن ذلك من الخوارق الواقعة يوم القيامة، والأَولى أن تكون الإشارة بمن يصل الماء إلى أذنيه إلى غاية ما يصل الماء، ولا ينفي أن يصل الماء لبعضهم إلى دون ذلك، فقد أخرج الحاكم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه رفعه:"تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة، فيَعْرَق الناس، فمنهم من يبلغ عرقه عقبه، ومنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبته، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبه، ومنهم من يبلغ فاه -وأشار بيده، فألجمها فاه- ومنهم من يغطيه عرقه -وضرب بيده على رأسه-" ويشهد له حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه الآتي، لكنه ليس بتمامه، وفيه:"تُدنَى الشمسُ يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على مقدار أعمالهم في العرق. . ." الحديث، فإنه ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم، ويتفاوتون في حصوله فيهم.

وأخرج أبو يعلى، وصححه ابن حبان، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال: مقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون ذلك على المؤمن، كتدلي الشمس إلى أن تغرب"، وأخرج أحمد، وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد، والبيهقيّ في "البعث" من طريق عبد الله بن الحارث، عن أبي هريرة:"يُحشر الناس قيامًا أربعين سنة شاخصة أبصارُهم إلى السماء، فيلجمهم العرق من شدة الكرب"

(1)

.

وقوله: (وَفي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثَنَّى: قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ"، لَمْ يَذْكُرْ: "يَوْمَ") بيّن به الاختلاف بين شيوخه، فقد رواه محمد بن المثنّى، فقال:{يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، فلم يذكر لفظة:{يَوْمَ} ، ورواه الآخرون، فقالوا:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} ، بذكر {يَوْمَ} ، والله تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 15/ 47 - 48، "كتاب الرقاق" رقم (6531).

ص: 42

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 7175 و 7176](2862)، و (البخاريّ) في "التفسير"(4938) و"الرقاق"(6531)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3336)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4332)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 57)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 13 و 19)، و (الطبريّ) في "التفسير"(30/ 93 و 94)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7332)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 246)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 243) و"الاعتقاد"(1/ 209)، و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(1/ 200 و 464)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 348)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7176]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ -يَعْنِي: ابْنَ عِيَاضٍ- (ح) وَحَدَّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، وَعِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى، حَدَّثَنَا مَعَنٌ، حَدَّثَنَا مَالِكٌ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ نَافِعٍ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَصَالِحٍ:"حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ").

رجال هذه الأسانيد: اثنان وعشرون:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمُسَيَّبِيُّ) من ولد المسيَّب بن عابد المخزوميّ المدنيّ، صدوقٌ [10](ت 236)(م د) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

2 -

(أَنَسُ بْنُ عِيَاضِ) بن ضمرة، أبو عبد الرحمن الليثيّ، أبو ضمرة المدنيّ، ثقة [8](ت 200) وله ست وتسعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 81/ 433.

ص: 43

3 -

(مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ) بن أبي عيّاش المدنيّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد الله البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ يَحْيَى) البرمكيّ، أبو محمد البصريّ، ثم البغداديّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

7 -

(مَعْنُ) بن عيسى القزّاز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

8 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم أيضًا قريبًا.

9 -

(أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين قبله، و"أبو خالد الأحمر" هو: سليمان بن حيّان الكوفيّ، و"الحلوانيّ" هو: الحسن بن عليّ الخلال، نزيل مكة، و"أيوب" هو ابن أبي تميمة السختيانيّ.

وقوله: (كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ نَافِعٍ)؛ يعني: أن هؤلاء الخمسة، وهم: مُوسَى بْنِ عُقبَةَ، وعبد الله بْنُ عَوْنٍ، ومالك، وأيوب، وصالح بن كيسان رووا هذا الحديث عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[تنبيه]: أما رواية عيسى بن يونس عن نافع، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، بسند المصنّف فقال:

(4278)

- حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا عيسى بن يونس، وأبو خالد الأحمر، عن ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} قال: "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه". انتهى

(1)

.

وقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" أيضًا، وإنما اخترت رواية ابن ماجه؛ لكونها بسند مسلم، فتنبّه، قال البخاريّ رحمه الله:

(6166)

- حدّثنا إسماعيل بن أبان، حدّثنا عيسى بن يونس، حدّثنا ابن عون، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} قال: "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه". انتهى

(2)

.

(1)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1430.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2393.

ص: 44

وأما رواية مالك عن نافع فقد ساقها البخاريّ أيضًا، فقال:

(4654)

- حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدّثنا مَعْن، قال: حدّثني مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه". انتهى

(1)

.

وأما رواية أيوب السختيانيّ عن نافع، فقد ساقها الطبريّ رحمه الله في "تفسيره". فقال:

(2)

حدّثني محمد بن خلف العسقلانيّ، قال: ثنا آدم، قال: ثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} ، قال:"يقومون حتى يبلغ الرشح إلى أنصاف آذانهم". انتهى

(3)

.

وأما رواية صالح بن كيسان عن نافع، فقد ساقها عبد بن حميد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(763)

- حدّثني يعقوب بن إبراهيم، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، قال: ثنا نافع، أن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " {يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يوم القيامة، حتى يغيب أحدهم إلى أنصاف أذنيه في رشحه". انتهى

(4)

.

وأما رواية موسى بن عقبة عن نافع، فلم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7177]

(2863) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَرَقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ إِلَى أفوَاهِ النَّاسِ، أَو إِلَى آذَانِهِمْ"، يَشُكُّ ثَوْرٌ أيَّهُمَا قَالَ؟).

(1)

"صحيح البخاري" 4/ 1884.

(2)

ليس مرقمًا، فتنبّه.

(3)

"تفسير الطبريّ" 30/ 92.

(4)

"مسند عبد بن حميد" 1/ 246.

ص: 45

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ البغلانيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الدراورديّ الْمدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(ثَوْرُ) بِاسم الحيوان المعروف، ابن زيد الدّيليّ -بكسر الدال المهملة، بعدها تحتانية- المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 135)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.

4 -

(أَبُو الْغَيْثِ) سالم المدنيّ، مولى ابن مطيع، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.

و"أبو هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه ذكر قبل حديثين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَرَقَ) بفتحتين: رَشْحُ جلد الحيوان، ويستعار لغيره، قاله المجد رحمه الله

(1)

، وقوله:(يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متعلّق بقوله: (لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا) هو قدر مدّ اليدين، كالْبَوْع بالفتح، ويُضمّ، قاله المجد رحمه الله

(2)

، والمعنى: أنه ينزل فيها من كثرته شيء كثير جدًّا، فالسبعين للتكثير، لا للتحديد

(3)

. (وَإِنَّهُ) بكسر الهمزة عطفًا على الأُولى؛ أي: إن العرق (لَيَبْلُغُ إِلَى أفوَاهِ النَّاسِ)؛ أي: يصل إلى أفواههم، فيصير لهم بمنزلة اللجام، فيمنعهم من الكلام وإلى آذانهم بأن يغطي الأفواه، ويعلو عليها؛ إذ الأذن أعلى من الفم، فيكون الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يلجمه فقط، ومنهم من يزيد فيبلغ إلى أذنيه

(4)

.

وقوله: (أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ")"أو" للشكّ، كما بيّنه بقوله:(يَشُكُّ ثَوْرٌ)؛ أي: ابن زيد، (أَيَّهُمَا) بالنصب مفعولًا مقدّمًا لـ (قَالَ)؛ أي: ذَكر أبو الغيث في روايته.

وفي رواية البخاريّ: "يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم"، وقوله:"يَعْرَق الناس" بفتح الراء، وهي مكسورة في الماضي، وقوله:"سبعين ذراعًا"، وفي رواية

(1)

"القاموس المحيط" ص 861.

(2)

"القاموس المحيط" ص 142.

(3)

"فيض القدير" 2/ 376.

(4)

"فيض القدير" 2/ 376.

ص: 46

الإسماعيليّ من طريق ابن وهب، عن سليمان بن بلال:"سبعين باعًا"، كما رواية مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الذي يُلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقيّ في "البعث" بسند حسن عنه، قال:"يشتدّ كرب ذلك اليوم حتى يُلجم الكافر العرقُ، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: على الكراسي من ذهب، ويظلل عليهم الغمام". وبسند قويّ عن أبي موسى: "قال: الشمس فوق رؤوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم"، وأخرج ابن المبارك في "الزهد"، وابن أبي شيبة في "المصنف"، واللفظ له بسند جيّد عن سلمان:"قال: تُعْطَى الشمس يوم القيامة حرّ عشر سنين، ثم تُدنى من جماجم الناس، حتى تكون قاب قوسين، فيَعرَقون، حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم ترتفع حتى يغرغر الرجل"، زاد ابن المبارك في روايته:"ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا، ولا مؤمنةً".

قال القرطبيّ: المراد: من يكون كامل الإيمان؛ لِمَا يدلّ عليه حديث المقداد وغيره أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.

وفي حديث ابن مسعود عند الطبرانيّ، والبيهقيّ:"إن الرجل ليَفيض عرقًا حتى يسيح في الأرض قامةً، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه"، وفي رواية عنه عند أبي يعلى، وصححها ابن حبان:"إن الرجل ليُلجمه العرق يوم القيامة، حتى يقول: يا رب أرحني، ولو إلى النار"، وللحاكم، والبزار، من حديث جابر نحوه، وهو كالصريح في أن ذلك كله في الموقف.

وقد ورد أن التفصيل الذي في حديث عقبة والمقداد يقع مثله لمن يدخل النار، فأخرج مسلم أيضًا من حديث سمرة، رفعه:"إن منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته"، وفي رواية:"إلى حقويه، ومنهم من تأخذه إلى عنقه"، وهذا يَحْتَمِل أن يكون النار فيه مجازًا عن شدّة الكرب الناشئ عن العرق، فيتحد الموردان، ويمكن أن يكون ورد في حق من يدخل النار من الموحدين، فإن أحوالهم في التعذيب تختلف بحسب أعمالهم، وأما الكفار فإنهم في الغمرات، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

ص: 47

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف)[16/ 7177](2863)، و (البخاريّ) في "الرقاق"(6532)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 418)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان هول يوم القيامة، وأنه لا هول فوقه، نسأل الله تعالى أن يهوّنه علينا بمنّه وكرمه.

2 -

(ومنها): أن فائدة الإخبار بهذه الأمور أن يتنبه السامع، فيأخذ في الأسباب التي تخلصه من تلك الأهوال، ويبادر إلى التوبة من التبعات، ويلجأ إلى الكريم الوهاب في عونه على أسباب السلامة، ويتضرع إليه في سلامته من دار الهوان، وإدخاله دار الكرامة بمنّه، وكرمه.

3 -

(ومنها): ما قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: ظاهر الحديث تعميم الناس بذلك، ولكن دلَّت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض، وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء، والشهداء، ومن شاء الله، فأشدّهم في العَرَق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم مَن بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار، كما تقدم تقريره في حديث بَعْث النار، قال: والظاهر أن المراد بالذراع في الحديث: المتعارَفُ، وقيل: هو الذراع الملكيّ، ومن تأمل الحالة المذكورة عرف عِظَم الهول فيها، وذلك أن النار تَحُفّ بأرض الموقف، وتُدْنَى الشمسُ من الرؤوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يَرويها من العرق، حتى يبلغ منها سبعين ذراعًا؟ مع أن كل واحد لا يجد إلا قدر موضع قدمه، فكيف تكون حالة هؤلاء في عرقهم، مع تنوعهم فيه؟ إن هذا لممّا يَبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي الإيمانُ بأمور الآخرة أن ليس للعقل فيها مجال، ولا يُعترض عليها بعقل، ولا قياس، ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول، ويدخل تحت الإيمان بالغيب، ومن توقف في ذلك دلّ على خسرانه، وحرمانه. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

"بهجة النفوس" 4/ 217، و"الفتح" 15/ 49.

ص: 48

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7178]

(2864) - (حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم "يَقُولُ: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كمِقْدَارِ مِيلٍ"، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْني بِالْمِيلِ، أَمَسَافَةَ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ

(1)

الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ؟، قَالَ:"فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي العَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا"، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى أَبُو صَالِحٍ) البغداديّ القنطريّ، ثقة

(2)

[10](ت 232)(خت م مد س ق) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ رُمي بالقدر [3](ت 183) على الصحيح، وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ) هو: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقةٌ [7] مات سنة بضع وخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

4 -

(سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ) الكَلاعيّ، ويقالى: الْخَبَائريّ -والخبائر من حِمْيَر- أبو يحيى الحمصيّ، ثقةٌ [3] غَلِطَ من قال: إنه أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم.

روى عن أبي أمامة، وعبد الله بن الزبير، وعوف بن مالك، والمقداد بن الأسود، والمقدام بن معد يكرب، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وغيرهم.

وروى عنه صفوان بن عمرو، وحَريز بن عثمان، وعبد الرحمن بن يزيد بن

(1)

وفي نسخة: "أو الميل".

(2)

هذا أَولى من قول "التقريب": صدوق، اقرأ ترجمته في "تهذيب التهذيب".

ص: 49

جابر، ومعاوية بن صالح الحضرميّ، ويزيد بن خمير، وغيرهم.

قال ابن معين: كان يقول: استقبلت الإسلام من أوله، وزعم أنه قرئ عليه كتاب عمر، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقة، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة مشهور، وقال النسائيّ: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال شعبة عن يزيد بن خمير: سمعت سُليم بن عامر، وكان قد أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: وكان قد أدرك أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الصحيح.

قال خليفة: مات سنة (130) وكذا أرَّخه ابن سعد، قال: وكان ثقةً قديمًا معروفًا.

قال الحافظ: الكلاعيّ والخبائريّ لا يجتمعان، فلأجل ذا قال البخاري في ترجمة الكلاعيّ: ويقال: الخبائريّ، وتبعه غير واحد، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": روى عن عوف بن مالك رضي الله عنه مرسلًا، ولم يلقه، قال: ولم يدرك المقداد بن الأسود، ولا عمرو بن عبسة رضي الله عنهما.

قال الجامع عفا الله عنه: قوله: ولم يُدرك المقداد بن الأسود يردّه تصريحه هنا بقوله: حدّثني المقداد بن الأسود، فقد صرّح بلقائه، وسماع حديثه، ولذا أخرج روايته مسلم هنا، فتنبّه.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسوَدِ) هو: المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة الْبَهْرانيّ، ئم الكِنديّ، ثم الزهريّ، حالف أبوه كِندة، وتبناه، هو: الأسود بن عبد يغوث الزهريّ، فنُسب إليه، صحابيّ مشهورٌ، من السابقين إلى الإسلام، لم يثبت أنه كان ببدر فارسٌ غيره، مات رضي الله عنه سنة ثلاث وثلاثين، وهو ابن سبعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 281.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالشاميين، سوى شيخه، فبغداديّ، والصحابيّ، فمدنيّ.

ص: 50

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن يزيد (بْنِ جَابِرٍ) فهو منسوب إلى جدّه؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي سُلَيْمُ) بصيغة التصغير، (ابْنُ عَامِرٍ) قال:(حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ) تقدّم أنه المقداد بن عمرو، وأن الأسود تبنّاه في الجاهليّة، فنُسب إليه. (قَالَ) المقداد رضي الله عنه:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُدْنَى) بالبناء للمفعول، (الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَة) متعلّق بـ "تُدنى"، وكذا قوله:(مِنَ الْخَلْقِ)؛ أي: الذين اجتمعوا في عرصات الموقف.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تُدنى الشمس"؛ أي: تُقَرَّب، والميل: اسم مشترك بين مسافة الأرض، والْمِرْود الذي تُكحل به العين، ولذلك أشكل المراد على سُليم بن عامر، والأَولى به هنا: مسافة الأرض، لأنَّها إذا كان بينها وبين الرؤوس مقدار المِرْود، فهي متصلة بالرؤوس؛ لقلّة مقدار المرود. انتهى

(1)

.

(حَتَّى تَكُونَ) الشمس (مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ"، قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ)"ما" الأُولى نافية، والثانية استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء يقصد المقداد رضي الله عنه بقوله: "الميل"، (أَمَسَافةَ)؛ أي: أيقصد، (الأَرْضِ) لأن الميل بكسر الميم يُطلق عليها.

قال، الفيّوميّ رحمه الله: المِيلُ بالكسر عند العرب: مقدار مَدَى البصر من الأرض، قاله الأزهريّ، وعند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع، وعند الْمُحْدَثين أربعة آلاف ذراع، والخلاف لفظيّ؛ لأنهم اتفقوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع، والإصبع ست شُعَيرات، بطن كلّ واحدة إلى الأخرى، ولكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون إصبعًا، والْمُحْدَثون يقولون: أربع وعشرون إصبعًا، فإذا قُسم الميل على رأي القدماء كلّ ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع، وإن قُسم على رأي المُحْدثين أربعًا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع، والفَرْسَخُ عند الكلّ ثلاثة أميال، وإذا قُدّر المِيلُ بالغلوات، وكانت كلّ غلوة أربعمائة ذراع كان ثلاثين

(1)

"المفهم" 7/ 155.

ص: 51

غَلْوة، وإن كان كلّ غلوة مائتي ذراع كان ستين غلوة، ويقال للأعلام المبنية في طريق مكة: أميال؛ لأنها بُنيت على مقادير مَدَى البصر من الميل إلى الميل، وإنما أضيف إلى بني هاشم، فقيل: المِيلُ الهَاشِمِيُّ؛ لأن بني هاشم حدَّدوه، وأعلموه. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: الميل بالتقديرات الحديثة: (1848) مترًا

(2)

، والله، تعالى أعلم.

(أَمِ الْمِيلَ) وفي نسخة: "أو الميل" بـ "أو" بدل "أم"؛ أي: أم يقصد الميل (الَّذِي تُكْتَحَلُ) بالبناء للمفعول، (بِهِ الْعَيْنُ) فإن الميل يُطلق عليها أيضًا، لكن هذا الإطلاق جعله بعضهم من استعمال العوامّ، قال الأصمعيّ وغيره: والعامّة تقول لِمَا يُكتحل به: مِيلٌ، وهو خطأ، وإنما هو مُلْمُولٌ، وقال الليث: الْمِيل: الْمُلْمُول الذي يُكحَل به البصر، ذكره الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

والحاصل: أن سُليم بن عامر استشكل المراد بالميل؛ لأنه يُطلق على معنيين: الميل الذي هو عبارة عن المسافة المحدّدة التي بيّناها، أو الميل الذي هو عبارة عن عُود صغير، أو نحوه مما يؤخذ به الكحل من الْمِكحلة، ثم يُمسح به على أجفان العين، فأشكل عليه لهذا، لكن قال الأبيّ: الأَولى هنا معنى المسافة؛ لأنها إذا كانت بينها وبين الرؤوس مقدار الْمِرود تكون متّصلة بالرأس لقلة مقدار المرود

(4)

.

وقال الشيخ عبد الحقّ في "اللمعات": الظاهر أن المراد: مِيل الفرسخ، وكفى ذلك في تعذيبهم وإيذائهم، وأما احتمال إرادة ميل المكحلة فبعيد. انتهى

(5)

، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ)؛ أي: في كثرة العرق، وقلّته، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 588.

(2)

راجع: "الإيضاحات العصريّة" لمحمد صبحي بن حسن حلاق ص 71 - 73.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 588.

(4)

"شرح الأبيّ" 7/ 226.

(5)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 89.

ص: 52

مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ) بفتح الحاء المهملة، وتُكسر: موضع شدّ الإزار، وهو الخاصرة، ثم توسعوا، حتى سَمَّوا الإزار الذي يُشدّ على العورة حَقْوًا، والجمع: أَحْقٍ، وحُقِيٌّ، مثل فَلْس وفُلُوس، وقد يُجمع على حِقَاءٍ، مثل سَهْم وسهام

(1)

.

(وَمِنهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ) بضمّ أوله، من الإلجام، (الْعَرَقُ إِلْجَامًا") الإلجام: إدخال اللجام في الفم، والمعنى: يَصِل العرق إلى فمه، فيمنعه من الكلام، كاللجام، كذا في "المجمع"، قال ابن الملك: إن قلت: إذا كان العرق كالبحر يُلجم البعض، فكيف يصل إلى كعب الآخر؟.

قلنا: يجوز أن يخلق الله تعالى ارتفاعًا في الأرض تحت أقدام البعض، أو يقال: يُمسك الله تعالى عَرَق كل إنسان بحسب عمله، فلا يصل إلى غيره منه شيء، كما أمسك جِرْية الحوت في البحر لموسى عليه السلام. قال القاري رحمه الله: المعتمَد هو القول الأخير، فإن أمر الآخرة كله على وفق خرق العادة، أما ترى أن شخصين في قبر واحد، يعذّب أحدهما، وينعَّم الآخر، ولا يدري أحدهما عن غيره. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وهذا العرق إنما هو لشدّة الضغط، وحرّ الشمس التي على الرؤوس، بحيث تغلي منها الرأس، وحرارة الأنفاس، وحرارة النار المحدقة بأرض المحشر؛ ولأنها تخرج منها أعناق تلتقط الناس من الموقف، فترشح رطوبة الأبدان من كل إنسان بحسب عمله، ثم يجمع عليه ما يرشح منه بعد أن يغوص عرقهم في الأرض مقدار سبعين باعًا، أو ذراعًا، أو عامًا على اختلاف الروايات.

[فإن قيل]: فعلى هذا يكون الناس في مثل البحر من العرق، فيلزم أن يسبح الكل فيها سبحًا واحدًا، فكيف يكونون متفاضلين بعضهم إلى عقبيه، وبعضهم إلى فمه، وما بينهما؟.

[قلنا]: يزول هذا الاستبعاد بأوجه، أقربها وجهان:

(1)

"المصباح المنير" 1/ 145.

(2)

"تحفة الأحوذيّ" 7/ 89.

ص: 53

أحدهما: أن يخلق الله تعالى ارتفاعًا في الأرض التي تحت قدم كل إنسان، بحسب عمله، فيرتفع عن الأرض بحسب ارتفاع ما تحته.

وثانيهما: أن يحشر الناس جماعات في تفرقة، فيحشر كل من يبلغ عرقه إلى كعبيه في جهة، وكل من يبلغ حقويه في جهة، وهكذا، والقدرة صالحة لأن تُمسك عرق كل إنسان عليه بحسب عمله، فلا يتصل بغيره، وإن كان بإزائه، كما قد أمسك جرية البحر لموسى عليه السلام حيث طلب لقاء الخضر، ولبني إسرائيل حين اتبعهم فرعون، والله تعالى أعلم بالواقع من هذه الأوجه.

والحاصل: أن هذا المقام مقام هائل، لا تفي بهوله العبارات، ولا تحيط به الأوهام، ولا الإشارات، وأبلغ ما نطق به في ذلك الناطقون:{قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)} [ص: 67، 68]. انتهى

(1)

.

وقوله: (قَالَ) المقداد رضي الله عنه (وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ)؛ أي: موضّحًا معنى الإلجام، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف)[16/ 7178](2864)، و (الترمذيّ) في "صفة القيامة"(2421)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 3 - 4)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 602) وفي "مسند الشاميين"(1/ 325)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7330)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السنّة"(6/ 1181)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 244)، و (البغويّ) في "التفسير"(4/ 458) و"شرح السُّنَّة"(4317)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"المفهم" 7/ 156 - 157.

ص: 54

(17) - (بَابُ الصِّفَاتِ الَّتي يُعْرَفُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأهْلُ النَّارِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7179]

(2865) - (حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ -وَاللَّفْظُ لأَبِي غَسَّانَ، وَابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ، مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أتتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ، وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأنزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا، لَا يَغْسِلُهُ الْماءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا، وَيَقْظَانَ

(1)

، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً، قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كمَا اسْتَخْرَجُوكَ

(2)

، وَاغْزُهُمْ نُغزِكَ، وَأَنْفِقْ، فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ، قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةً: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ، مُتَصَدِّقٌ، مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ، رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى، وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ، مُتَعَفِّفٌ، ذُو عِيَالٍ، قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تبعًا لَا يَتْبَعُونَ أَهْلًا، وَلَا مَالًا، وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ، وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ، وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ، وَمَالِكَ"، وَذَكَرَ الْبُخْلَ، أَوِ الْكَذِبَ، "وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ"، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ: "وَأَنْفِقْ، فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ").

(1)

وفي نسخة: "ويقظانًا".

(2)

وفي نسخة: "كما أخرجوك".

ص: 55

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ) مالك بن عبد الواحد البصريّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م د) تقدم في "الإيمان" 8/ 137.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ) الدستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ رُبَّما وَهِم [9](ت 200)(ع) تَقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سنبر، بوزن جعفر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) -بكسر الشين المعجمة، وتشديد الخاء المعجمة المكسورة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم راء- العامريّ الْحَرَشيّ -بمهملتين مفتوحتين، ثم معجمة- أبو عبد الله البصريّ، ثقةٌ عابدٌ فاضلٌ [2](ت 95)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

5 -

(عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيُّ) هو: عياض -بكسر أوله، وتخفيف التحتانية، وآخره معجمة- ابن حمار -بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم- ابن أبي حمار بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع، نسبه خليفة وغيره، التميميّ الصحابيّ، سكن البصرة، وعاش إلى حدود الخمسين.

رَوَى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مطرّف ويزيد ابنا عبد الله بن الشخير، والعلاء بن زياد، والحسن البصريّ، وعقبة بن صُهبان، وغيرهم.

ذَكَر عمرو بن شَبّة أن الزبير بن العوام لمّا دخل البصرة في وقعة الجمل، وقف على مسجد بني مجاشع، فسأل عن عياض بن حمار، فقال له النعمان بن زمام: هو بوادي السباع، فمضى يريده، فيؤخذ منه أن عياضًا كان في خلافة عليّ رضي الله عنهما.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وعند أبي داود، والترمذيّ عنه حديث آخر، أنها أهدى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يُسلم، فلم يَقبل منه.

والباقون ذُكروا قبل بابين.

ص: 56

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن له فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فصل؛ لِمَا أسلفنا غير مرّة، وأن شيخيه ابن المثنّى، وابن بشّار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الستّة إلا أربعة أحاديث

(1)

: هذا الحديث عند مسلم، والنسائيّ، وحديث:"من وجد لقطة، فليُشهد. . ."، عند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، وحديث:"أهديتُ للنبيّ صلى الله عليه وسلم ناقة، فقال: أسلمت؟. . ."، عند أبي داود، والترمذيّ، وحديث:"إن الله أوحى إليّ أنْ تواضعوا. . ."، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة (عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ) وفي رواية شعبة الآتية: "عن قتادة، قال: سمعت مطرّفًا"، فصرّح قتادة بالسماع، فانتفت عنه تهمة التدليس. (عَنْ عِيَاضِ) بكسر العين المهملة، وتخفيف التحتانيّة، (ابْنِ حِمَارٍ) بلفظ الحيوان المعروف، وقد صحّفه بعض المتنطعين من الفقهاء؛ لظنه أن أحدًا لا يسمى بذلك، قاله في "التهذيب"

(2)

، وقوله:(الْمُجَاشِعِيِّ) بضمّ الميم، وتخفيف الجيم، بعدها ألف، ثم شين معجمة: نسبة إلى مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة، من تميم، قاله في "اللباب"

(3)

. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام، فـ "ذات" مقحمة، وقيل: هو من إضافة الشيء إلى نفسه، على رأي من يجيزه. (فِي خُطْبَتِهِ:"أَلَا) بالتخفيف: أداة تحضيض، (إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ)؛ أي: الذي جهلتموه، (مِمَّا عَلَّمَنِي) قال القاري: يَحْتَمِل أن تكون "مِنْ" بيانًا لـ"ما"، أو تبعيضية على أنه منقطع عما قبله، خبر لِمَا بعده،

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 250 - 252.

(2)

"تهذيب التهذيب" 8/ 179.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 164 - 165.

ص: 57

مستأنف؛ أي: من جملة ما علّمني، (يَوْمِي هَذَا)؛ أي: في اليوم الحاضر؛ أي: بما أوحى الله إليّ في هذا اليوم بخصوصه. (كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ)؛ أي: أعطيته (عَبْدًا) من عبادي، وملكته إياه، فلا يدخل الحرام، (حَلَالٌ)؛ أي: فلا يستطيع أحد أن يحرّمه من تلقاء نفسه، ويمنعه من التصرف فيه تصرّف المُلّاك في أملاكهم، وهذا من مقول الله تعالى كما يدل عليه قوله:"وإني خلقت عبادي إلخ"، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى "نحلته": أعطيته، وفي الكلام حذف؛ أي: قال الله تعالى: كلّ مال أعطيته عبدًا من عبادي، فهو له حلال، والمراد: إنكار ما حرّموا على أنفسهم من السائبة، والوصيلة، والبحيرة، والحامي، وغير ذلك، وأنها لم تَصِرْ حرامًا بتحريمهم، وكل مال ملكه العبد، فهو له حلال، حتى يتعلق به حقّ. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى "نحلته": أعطيته، والنِّحلة: العطية -كما تقدَّم- ويعني بها هنا: العطية بطريق شرعيّ، فكأنه قال: كل من ملّكته شيئًا بطريق شرعيّ قليلًا كان أو كثيرًا، خطيرًا كان أو حقيرًا، فالانتفاع له به مباح مطلقًا، لا يُمنَع من شيء منه، ولا يزاحَم عليه، والمال هنا: كل ما يُتَمَوَّل، ويُتَمَلَّك من سائر الأشياء، وفائدة هذه القضية الكلية رَفْع توهّم من يتوهم أن ما يُستلذّ، ويُستطاب من رفيع الأطعمة، والملابس، والمناكح، والمساكن محرّم، أو مكروه، وإن كان ذلك من الكسب الجائز، كما قد ذهب إليه بعض غلاة المتزهدة. انتهى

(3)

.

(وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ) جمع حَنيف، وهو: المائل عن الأديان كلّها إلى فطرة الإسلام، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة"، وقد تقدَّم في "كتاب القدر"، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "حنفاء"؛ أي: مسلمين، وقيل: طاهرين من المعاصي، وقيل: مستقيمين، منيبين لقبول الهداية، وقيل: المراد: حين أَخَذ عليهم العهد في الذرّ، وقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]

(5)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 553.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 197.

(3)

"المفهم" 6/ 711 - 712.

(4)

"المفهم" 6/ 712.

(5)

"شرح النوويّ" 17/ 197.

ص: 58

وقوله: (كُلَّهُمْ) بالجرّ توكيد؛ أي: جميعهم، فهو توكيد لـ"عبادي"، وهذا معنى قوله في الحديث الآخر:"كل مولود يولد على الفطرة"، وهي التوحيد المطلق، وما به يتعلق؛ لقوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]؛ أي: لا تُبَدِّلوا مخلوقاته باليهودية، والنصرانية، والمجوسية، ونحوها، {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [التوبة: 36، يوسف: 40، الروم: 30]؛ أي: المستقيم، فلا تعدلوا عن الجادّة إلى الطرق الزايغة، كما قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]؛ أي: عن الطريق الحقيقي الواصل إليه، المقبول لديه، لمن أراد المنة عليه، ومنه قوله تعالى:{وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)} [النحل: 9]، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

ثم بيَّن الله سبحانه وتعالى سبب ضلالة الخلق، وغوايتهم عن الحقّ بقوله:(وَإِنَّهُمْ)؛ أي: العبَاد الحنفاء، (أتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ)؛ أي: جاءتهم بالوسوسة (فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ)؛ أي: صَرَفتهم، وساقتهم، من اجتاله؛ أي: ساقه، وذهب به، وقيل: الافتعال هنا للحمل على الفعل، كاختطب زيد عمرًا؛ أي: حَمَله على الخطبة؛ أي: حملتهم الشياطين على جولانهم، ومَيَلانهم عن دينهم، قاله القاري رحمه الله.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فاجتالتهم عن دينهم" هكذا هو في نُسخ بلادنا: "فاجتالتهم" بالجيم، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وعن رواية الحافظ أبى عليّ الغسانيّ:"فاختالتهم" بالخاء المعجمة، قال: والأول أصحّ، وأوضح؛ أي: استخفّوهم، فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل، كذا فسّره الهرويّ، وآخرون، وقال شَمِر: اجتال الرجل الشيءَ: ذهب به، واجتالَ أموالهم: ساقها، وذهب بها، قال القاضي: ومعنى "فاختالوهم" بالخاء على رواية من رواه؛ أي: يحبسونهم عن دينهم، ويصدونهم عنه. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وإنهم أتتهم الشياطين إلخ"؛ يعني: شياطين الإنس، من الآباء، والمهتمين بتعليمهم، وتدريبهم، وشياطين الجنّ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 554.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 197.

ص: 59

بوساوسهم، ومعنى اجتالتهم: أجالتهم؛ أي: صرفتهم عن مقتضى الفطرة الأصلية، كما قال صلى الله عليه وسلم:"حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجسانه"، وفي الرواية الأخرى:"حتى يُعبّر عنه لسانه"؛ يعني: بما يُلقي إليه الشيطان من الباطل، والفساد المناقض لفطرة الإسلام. انتهى

(1)

.

(وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ)؛ أي: من البحيرة، والسائبة، وغيرهما، وتوضيحه ما حققه القاضي، حيث قال: قوله: "كل مال نحلته" حكاية ما أعلمه الله تعالى، وأوحى إليه في يومه هذا، والمعنى: ما أعطيت عبدًا من مال، فهو حلال له، ليس لأحد أن يحرِّم عليه، وليس لقائل أن يقول: هذا يقتضي أن لا يكون الحرام رزقًا؛ لأن كل رزق ساقه الله تعالى إلى عبد نَحَله، وأعطاه، وكل ما نحله، وأعطاه فهو حلال، فيكون كل رزق رزقه الله إياه فهو حلال، وذلك يستلزم أن يكون كل ما ليس بحلال ليس برزق؛ لأنا نقول: الرزق أعمّ من الإعطاء، فإنه يتضمن التمليك، ولذا قال الفقهاء: لو قال لامرأته: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، فأعطته ألفًا بانت، ودخل الألف في ملكه، ولا كذلك الرزق. انتهى

(2)

.

(وَأَمَرَتْهُمْ)؛ أي: أمرت الشياطين العباد الحنفاء (أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا)؛ أي: إشراكًا، أو شيئًا (لَمْ أُنْزِلْ) من الإنزال، (به)؛ أي: بوجوده (سُلْطَانًا)؛ أي: حجةً وبرهانًا، سُمي به؛ لتسلطه على القلوب عند هجوم الخواطر عليها بالقهر والغلبة، والمعنى: ما ليس على إشراكه دليل عقليّ، ولا نقليّ، إذ لو كان أحدهما لبيَّنه سبحانه وتعالى، بل أمر بخلافه، حيث قال:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، والقرآن الكريم مشحون بالأدلة على بطلان الإشراك بالله تعالى، قال القاضي:"ما" مفعول "يشركوا"، يريد به الأصنام، وسائر ما عُبد من دون الله تعالى؛ أي: أمَرَتهم بالإشراك بالله بعبادة ما لم يأمر الله بعبادته، ولم ينصب دليلًا على استحقاقه للعبادة، وقال الطيبيّ رحمه الله:"ما لم أنزل به سلطانًا"؛ أي: لا إنزال سلطان ولا شريك على أسلوب قوله:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ

(1)

"المفهم" 6/ 712.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 554.

ص: 60

أي: لا منار، ولا اهتداء به، وقولِه:

وَلَا يُرَى الضَّبُّ بِهَا يَنْحَجِرْ

أي: لا ضبّ، ولا انحجار؛ نفيًا للأصل والفرع؛ أي: القيد والمقيّد، وقيل: هذا على سبيل التهكم؛ إذ لا يجوز على الله تعالى أن ينزل برهانًا أن يشرك به غيره. انتهى

(1)

.

(وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ)؛ أي: رآهم، ووجدهم متفقين على الشرك، منهمكين في الضلالة (فَمَقَتَهُمْ)؛ أي: أبغضهم، وكرههم، وقوله:(عَرَبَهُمْ، وَعَجَمَهُمْ) بدل من الضمير في "مقتهم"، والمراد بالعجم: غير العرب، والمعنى: أنه أبغضهم بسوء صنيعهم، وخُبْث عقيدتهم، واتفاقهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم على الشرك، وانغماسهم في الكفر، قوم موسى عليه السلام كفروا بعيسى عليه السلام، وعبدوا عزيرًا، وذهبوا إلى أنه ابن الله، وقوم عيسى عليه السلام ذهبوا إلى التثليث، أو إلى أنه ابن الله، وغير ذلك، قاله القاري

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فمَقَتهم عربهم وعجمهم إلخ": المقت: أشدّ البغض، والمراد بهذا المقت والنظر: ما قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد ببقايا أهل الكتاب: الباقون على التمسك بدينهم الحقّ من غير تبديل. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم. . . إلخ": "نظر": بمعنى أبصر، والمقت: أشد البغض، وأراد بالعجم هنا: كل من لا يتكلم بكلام العرب، ويعني بذلك قبل بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذلك أن كِلا الفريقين كان يعبد غير الله، أو يُشرك معه غيره، فكان الكل ضُلّالًا عن الحقّ، خارجين عن مقتضى العقول والشرائع، فأبغضهم الله لذلك أشدّ البغض، لكن لم يعاجلهم بالانتقام منهم، حتى أعذر إليهم بأن أرسل إليهم رسولًا، وأنزل عليهم كتابًا قطعًا لمعاذيرهم، وإظهارًا للحجة عليهم.

وإنما استثنى البقايا من أهل الكتاب؛ لأنَّهم كانوا متمسكين بالحقّ الذي جاءهم به نبيّهم، ويعني بذلك -والله أعلم- من كان في ذلك الزمان متمسِّكًا

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3396.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 555.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 197 - 198.

ص: 61

بدين المسيح عليه السلام؛ لأنَّ من كفر من اليهود بالمسيح لم يبق على دين موسى عليه السلام، ولا متمسّكًا بما في التوراة، ولا دخل في دين عيسى، فلم يبق أحد من اليهود متمسِّكًا بدينٍ حقّ إلا من آمن بالمسيح، واتبع الحق الذي كان عليه، وأما من لم يؤمن به، فلا تنفعه يهوديته، ولا تمسكه بها؛ لأنَّه قد ترك أصلًا عظيمًا مِمَّا فيها، وهو العهد الذي أُخذ عليهم في الإيمان بعيسى عليه السلام، وكذلك نقول: كل نصرانيّ بلغه أمر نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وشَرْعنا، فلم يؤمن به لم تنفعه نصرانيته؛ لأنَّه قد ترك ما أُخذ عليه من العهد في شرعه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة: يهوديّ، ولا نصرانيّ، ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أُرسلت إلا كان من أصحاب النار"، رواه مسلم. انتهى

(1)

.

(إِلَّا بَقَايَا) جمع بقيّة، يقال: بقي من الدين كذا: إذا فضل، وتأخّر، وتبقّى مثله، والاسم: البقيّة، وجمعها بقايا، وبقيّات، مثلُ عطيّة، وعطايا، وعطيّات، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

. (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)؛ أي: من اليهود، والنصارى، تبرؤوا عن الشرك، كذا قاله بعضهم، والأظهر أن المراد بهم: جماعة من قوم عيسى عليه السلام أبقوا متابعته؛ إلى أن آمنوا بنبينا صلى الله عليه وسلم.

(وَقَالَ) الله عز وجل: (إِنَّمَا بَعَثْتُكَ)؛ أي: أرسلتك يا محمد (لأَبْتَلِيَكَ)؛ أي: لأمتحنك كيف تصبر على إيذاء قومك إياك، (وَأَبْتَلِيَ بِكَ)؛ أي: أمتحن قومك، هل يؤمنون بك، أم يكفرون؟.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك" معناه: لأمتحنك بما يَظهر منك من قيامك بما أمرتك به، من تبليغ الرسالة، وغير ذلك، من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك، وأبتلي بك من أرسلتك إليهم، فمنهم من يُظهر إيمانه، ويخلص في طاعاته، ومن يتخلف، ويتمرّد بالعداوة والكفر، ومن ينافق، والمراد أن يمتحنه؛ ليصير ذلك واقعًا بارزًا، فإن الله تعالى إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم، لا على ما يعلمه قبل وقوعه، وإلا فهو سبحانه وتعالى عالم بجميع الأشياء قبل وقوعها، وهذا

(1)

"المفهم" 7/ 162.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 58.

ص: 62

نحو قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]؛ أي: نعلمهم فاعلين ذلك، متصفين به. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك"؛ أي: لأمتحنك بتبليغ الرسالة، والصبر على معاناة أهل الجاهلية، وأمتحن بك؛ أي: من آمن بك، واتبعك أثبْته، ومن كذّبك، وخالفك انتقمت منه، وعاقبته. انتهى

(2)

.

(وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا)؛ أي: عظيمًا، فالتنوين للتعظيم، (لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ)؛ أي: لم نَكْتَفِ بإيداعه الكتب، فيغسله الماء، بل جعلناه قرآنًا محفوظًا في صدور المؤمنين، قال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآية [العنكبوت: 49]، وقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، أو المراد بالغسل: النسخ، والماء مثل؛ أي: لا ينزل بعده كتاب ينسخه، ولا نزل قبله كتاب يبطله، كما قال تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)} [فصلت: 42].

وقال النوويّ رحمه الله: أما قوله تعالى: "لا يغسله الماء" فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب، بل يبقى على مر الأزمان، وأما قوله تعالى:"تقرأه نائمًا ويقظان" فقال العلماء: معناه: يكون محفوظًا لك في حالتَي النوم واليقظة، وقيل: تقرأه في يُسر وسهولة. انتهى

(3)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: أي: كتابًا محفوظًا في القلوب، لا يضمحلّ بغسل القراطيس، أو كتابًا مستمرًّا متداوَلًا بين الناس، ما دامت السموات والأرض، لا يُنسخ، ولا يُنسَى بالكلية، وعبّر عن إبطال حكمه، وترك قراءته، والإعراض عنه بغسل أوراقه بالماء، على سبيل الاستعارة، أو كتابًا واضحًا آياته، بَيِّنًا معجزاته، لا يبطله جَوْر جائر، ولا يُدحضه شبهة مناظر، فمثّل إبطال المعنى بإبطال الصورة، وقيل: كنى به عن غزارة معناه، وكثرة جدواه، من قولهم:

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 198.

(2)

"المفهم" 7/ 163.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 198.

ص: 63

مال فلان لا يفنيه الماء، أو النار. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء"؛ أي: يسّرت تلاوته، وحفظه، فخَفّ على الألسنة، ووَعَتْه القلوب، فلو غُسلت المصاحف لَمَا انغسل من الصدور، ولَمَا ذهب من الوجود، ويشهد لذلك قوله تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وقوله:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]، وفي الإسرائيليات: أن موسى عليه السلام قال: يا رب إني أجد أمة تكون أناجيلها في صدورها، فاجعلهم أمتي،، قال: تلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم

(2)

.

(تَقْرَؤُهُ)؛ أي: أنت، حال كونك (نَائِمًا، وَيَقْظَانَ) بسكون القاف، والمعنى: يصير لك مَلَكة، بحيث يحضر في ذهنك، وتلتفت إليه نفسك في أغلب الأحوال، فلا تغفل عنه نائمًا ويقظان، وقد يقال للقادر على الشيء الماهر به: هو يفعله نائمًا.

قال القاري: كذا ذكره الطيبيّ رحمه الله وخلاصته: أنه في قلبك، وأنت نائم، وأقول: لا احتياج إلى التأويل بالنسبة إلى قلبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تنام عيناه، ولا ينام قلبه، وقد شوهد كثير من الناس صغيرًا وكبيرًا أنهم يقرؤون، وهم نائمون. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تقرؤه نائمًا ويقظان" يَحْتَمِل أن يريد بذلك أنه يوحى إليه القرآن في اليقظة والمنام، وقد تقدَّم أن رؤيا الأنبياء وحي. ويَحْتَمِل أن يكون معنى نائم هنا: مضطجعًا؛ يعني: في صلاة المريض، قالهما القاضي، وفيهما بُعْدٌ، وأشبه منهما -إن شاء الله تعالى- أن الله يسّره على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، وذكره، بحيث كان يقرؤه نائمًا، كما كان يقرؤه منتبهًا، لا يُخِلّ منه بحرف، لا سيما وقد كان صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه. وقد شاهدنا المديمين على تكرار القران يقرؤون منه الكثير وهم نيام، وذلك قبل استحكام غلبة النوم عليهم. انتهى

(4)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3396.

(2)

"المفهم" 7/ 163.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 555.

(4)

"المفهم" 7/ 163.

ص: 64

(وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ) من التحريق، أو الإحراق؛ أي: أُهلك (قُرَيْشًا)؛ أي: مشركهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أن أحرّق قريشًا"؛ أي: أُغيظهم بما أُسمعهم من الحقّ الذي يخالف أهواءهم، ويؤلم قلوبهم بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلام آبائهم، وقتالهم، ومغالبتهم حتى كأني أحرق قلوبهم بالنار، ولا يصحّ أن يُحمَل ذلك على حقيقته؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصحّ عنه أنه حرّق أحدًا من قريش بالنار، بل قد نهى عن التعذيب بالنار، وقال:"لا يعذب بالنار إلا الله"

(1)

.

(فَقُلْتُ: رَبِّ) بحذف حذف النداء؛ أي: يا ربّ (إِذًا) منوّنًا بتنوين العوض، إذ أصله: إذا حرّقتهم، (يَثْلَغُوا) بفتح أوله، وثالثه، وبالثاء المثلثة؛ أي: يشدخوه، ويشجّوه، كما يُشدخ الخبز؛ أي: يكسر، والمعنى: أنهم يَشدخون، ويكسرون (رَأْسِي، فَيَدَعُوهُ) بفتح حرف المضارعة، والدال؛ أي: يصيّروا رأسي (خُبْزَةً)؛ أي: فيتركوه بالشدخ بعد الشكل الكرويّ مصَفّحًا مثل خبزة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذًا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً" الرواية الصحيحة المشهورة بالثاء المثلثة، والغين المعجمة، ومعناه: يشدخوا، قاله الهرويّ، وقال شَمِر: الثلغ: فَضْخَك الشيءَ الرطب باليابس، وقد رواه العذريّ:"فقلعوا" -بالقاف، والعين المهملة- ولا يصحّ مع قوله:"فيدعوه خبزة"، ومعنى هذا أنه شبّه الرأس إذا شُدخ بالخبزة، إذا شُدخت لتُثْرَد.

قلت

(2)

: وهذا الذي قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم من نحو ما قاله موسى عليه السلام حين أُمر بتبليغ الرسالة إلى فرعون فـ {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)} [الشعراء: 12 - 14]، فهذا صريحٌ في أنهما خافا غير الله، وحينئذ يعارضه قوله تعالى في صفة الرسل:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 39]، وهذا نصّ في أن الرسل لا تخشى إلا الله، وهذا هو المناسب

(1)

رواه البخاريّ، وأبو داود، والترمذيّ.

(2)

القائل هو القرطبيّ رحمه الله.

ص: 65

لمعرفتهم بالله، وأنه ليس في الوجود فاعل، ولا خالق إلا هو، وخصوصًا لأولي العزم من الرسل، وخصوصًا لمحمد، وموسى -صلى الله عليهما-.

ويرتفع التعارض من وجهين:

أحدهما: أن ذلك الخوف كان منهما في بدايتهم قبل تمكّنهم، وإعلامهم بحميد عواقب أحوالهم، وقبل تأمينهم، فلما مُكّنوا، وأُمِّنوا لم يخشوا إلا الله، ولذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في أول أمره يُحرَس، وهو في منزله، فلما أنزل الله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أخرج رأسه إليهم، فقال:"اذهبوا فقد عصمني ربي"

(1)

.

وثانيهما: على تسليم أن يكون ذلك منهم في غير بدايتهم، لكن ذلك الخوف هو الذي لا ينفك البشر عن فَجْأته، ووقوع بادرته، حتى إذا راجع الإنسان عقله، وتدبّر أمره اضمحلّ ذلك الخوف أيَّ اضمحلال، وحصل له من معرفة الله وخشيته ما يستحقر معه رسوخ الجبال، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

(قَالَ) الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: (اسْتَخْرِجْهُمْ)؛ أي: أَخْرج كفّار قريش من بلدهم مكة، قال القرطبيّ: والسين والتاء زائدتان، كما يقال: استجاب بمعنى أجاب.

(كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ) وفي رواية العذريّ: "كما أخرجوك"؛ أي: مثل ما أخرجوك منها؛ جزاءً وفاقًا، وإن كان بين الإخراجين بَوْن بَعيد، فإن إخراجهم إياه بالباطل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم إياهم بالحقّ.

وقال القرطبيّ: وهذا يدلّ على أن هذا القول صدر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد الهجرة؛ فإنَّ أهل مكة هم الذين أخرجوه من مكة حتى هاجر إلى المدينة

(3)

.

(وَاغْزُهُمْ)؛ أي: وجاهدهم، فالواو لمطلق الجمع، فإن القتال مقدّم على الإخراج. (نُغْزِكَ) بضم النون، من أغزيته: إذا جهّزته للغزو، وهيأت له أسبابه؛ أي: نيسّر لك أسباب الغزو.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "واغزُهم نُغزك"؛ أي: اعزم على غزوهم، واشرع فيه نُعِنْك على غزوهم، وننصرك عليهم.

(1)

رواه الترمذيّ.

(2)

"المفهم" 7/ 164 - 165.

(3)

"المفهم" 7/ 165.

ص: 66

(وَأَنْفِقْ)؛ أي: ما في جُهدك في سبيل الله، (فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ)؛ أي: نُخلف عليك بَدَله في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وفيه وعد، وتسلية له صلى الله عليه وسلم، ولأصحابه، وكذا لأمته بعده.

(وَابْعَثْ)؛ أي: أرسل أنت (جَيْشًا)؛ أي: كبيرًا، أو صغيرًا، (نَبْعَثْ)؛ أي: نرسل من جندنا (خَمْسَةً)؛ أي: مقدار خمسة (مِثْلَهُ) بالنصب؛ أي: مثل الجيش الذي بعثته، والمعنى: نبعث من الملائكة خمسة أمثال تُعينهم، كما فعل الله ذلك ببدر، قال تعالى:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 125]، وكان المشركون يومئذ ألفًا، والمسلمون ثلثمائة.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "نبعث خمسة مثله": هذا يدلّ على أن هذا كان قبل غزوة بدر؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يوم بدر في ثلاثمائة من أصحابه، ونيّف، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر، فأمدّه الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة، كما نطق القرآن به. انتهى

(1)

(وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ)؛ أي: بمعونته، أو معه، (مَنْ عَصَاكَ)؛ أي: بعدم

الإيمان بك.

(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَأَهْلُ الْجَنَّةِ)؛ أي: المتأهّلون لدخولها، والصالحون له، (ثَلَاثَةٌ)؛ أي: ثلاثة أجناس، من الأشخاص.

ثم أشار إلى الأول بقوله: (ذُو سُلْطَانٍ)؛ أيّ صاحب حكم، وولاية عامّة، أو خاصّة، كالولاية على أهل بيته، لحديث:"كلكم راع. . .".

وقال الطيبيّ: قوله: "ذو سلطان"؛ أي: سلطان؛ لأنه ذو قهر، وغلبة، من السلاطة، وهي التمكن من القهر، قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} الآية [النساء: 90]، ومنه سُمي السلطان، وقيل: ذو حجة؛ لأنه تقام الحجج به. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 7/ 165.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3179.

ص: 67

(مُقْسِطٌ) بالرفع، صفة المضاف؛ أي: عادل، يقال: أقسط، فهو مقسط: إذا عدل، وقسط فهو قاسط: إذا جار، فالهمزة فيه للسلب، كما يقال: شكا إليه، فأشكاه، قاله القاري

(1)

.

والمعنى: أنه عادل في رعيّته، يقيم فيهم العدل والحقّ، قال الأبيّ رحمه الله: ويدخل فيه الرجل في أهله؛ لحديث: "كلّكم راع، ومسؤول عن رعيّته".

وقال القرطبيّ رحمه الله: "مقسط" وما بعده مرفوع على أنها صفات لـ"ذو"، وهي بمعنى صاحب، والمقسط: العادل، والمتصدّق: المعطي للصدقات، والموفق: المسدَّد لفعل الخيرات. انتهى

(2)

.

(مُتَصَدِّقٌ)؛ أي: محسن إلى الناس؛ أي: يُنفق ماله في الفقراء والمساكين، ووجوه الخير.

(مُوَفَّقٌ) بصيغة اسم المفعول؛ أي: مهيَّأ له أسباب الخيرات، ومفتّح له أبواب البرّ والطاعات.

ثم أشار إلى الثاني بقوله: (وَرَجُلٌ رَحِيمٌ)؛ أي: على الصغير والكبير، كثير الرحمة والإحسان إليهم، (رَقِيقُ الْقَلْبِ)؛ أي: ليّنه عند التذكير، والموعظة، أو معناه: الشفيق، فيكون بمعنى الرحيم.

وقوله: (لِكُلِّ ذِي قُرْبَى) تنازعاه "رحيم"، و"رقيق القلب"، وقوله:(وَمُسْلِمٍ) بالجرّ عطفًا على "ذي قربى"، والمعنى: أنه رحيم لكل أصحاب القرابة خصوصًا، ولكلّ مسلم عمومًا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "رحيم": كثير الرحمة، والقربى: القرابة، ورقيق القدب: ليّنه عند التذكير والموعظة، ويصحّ أن يكون بمعنى الشفيق.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "رقيق القلب" مفسِّر لقوله: "رحيم"؛ أي: يَرِقّ قلبه، ويرحم كلَّ من بينه وبينه لحمة القرابة، أو صلة الإسلام. انتهى

(3)

.

قال القاري رحمه الله: والظاهر أن يراد بالرحيم صفة فِعْلية، يظهر وجودها

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 243.

(2)

"المفهم" 7/ 165.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3179.

ص: 68

في الخارج، وبالرقيق صفة قلبية، سواء ظهر أثرها أم لا، والثاني أظهر، فيكون باعتبار القوّة، والأول باعتبار الفعل، ويمكن أن تتعلق رحمة الرحيم إلى المعنى الأعم من الإنسان، والحيوان، الشامل للمؤمن والكافر، والدوابّ، فيكون الثاني أخصّ، والحاصل أن التأسيس أَولى من التأكيد. انتهى

(1)

.

ثمّ أشار إلى الثالث بقوله: (وَ) رجلٌ (عَفِيفٌ)؛ أي: متّصف بالعفّة، يقال: عَفّ عفًّا، وعَفافًا، وعَفافةً بفتحهنّ، وعِفّةً بالكسر، فهو عَفٌّ، وعَفِيف: إذا كَفّ عما لا يحلّ، ولا يَجْمُلُ، كاستعفّ، وتعفّف، قاله المجد رحمه الله

(2)

.

وقوله: (مُتَعَفِّفٌ)؛ أي: متكلّف للعفّة، فالعفيف من كانت العفّة راسخة فيه، والمتعفّف من يتكلّف العفّة، ويكتسبها؛ يعني: متّصف بالعفّة الطبيعيّة، والمكتسبة، وقوله:(ذُو عِيَالٍ) أتي به؛ إشارة إلى أن العيال كثيرًا ما يحملون العبد على التكسّب بغير وجه شرعيّ لأجلهم، فهذا الرجل بعيد عن هذا، فهو عفيف متعفّف.

وقال القاري: "عفيف" بالرفع على أنه الثالث من الثلاثة؛ أي: مجتنب لِمَا لا يحلّ "متعفف"؛ أي: عن السؤال، متوكل على الله عز وجل، في أمره، وأمْر عياله، مع فرض وجودهم، فإنه أصعب، ولهذا قال:"ذو عيال": أي: لا يحمله حب العيال، ولا خوف رزقهم على ترك التوكل بارتكاب سؤال الخلق، وتحصيل المال الحرام، والاشتغال بهم عن العلم والعمل، مما يجب عليه.

ويَحْتَمِل أنه أشار بالعفيف إلى ما في نفسه من القوّة المانعة عن الفواحش، وبالمتعفف إلى إبراز ذلك بالفعل، واستعمال تلك القوّة، وإظهار العفة عن نفسه.

قال الطيبيّ رحمه الله: وإذا استَقرأتَ أحوالَ العباد على اختلافها، فلعلّك لم تجد أحدًا يستأهل أن يدخل الجنة، ويحقّ له أن يكون من أهلها، إلا وهو مندرج تحت هذه الأقسام، غير خارج عنها. انتهى

(3)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 243.

(2)

"القاموس المحيط" ص 890.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3179.

ص: 69

(قالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: (وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ): أي: خمسة أجناس، وفيه إشارة إلى كثرتهم.

ثم أشار إلى الأول بقوله: (الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ) -بفتح الزاي، وسكون الموحّدة-؛ أي: لا رأي له، ولا عقل كاملًا يَعقِله، ويمنعه عن ارتكاب ما لا ينبغي، وقيل: هو الذي لا مال له، وقيل: الذي ليس عنده ما يعتمده، وقد ورد:"الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له"

(1)

، وفي "القاموس": الزبر: العقل، والكمال، والصبر، والانتهار، والمنع، والنهي. انتهى، ولكلِّ وجه في المعنى.

وفى "شرح السُّنَّة"؛ أي: لا عقل له، وفي "الغريبين": يقال: ما له زبر؛ أي: عقل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الذي لا زبر له" والزبر هنا: العقل، قاله الهراويّ، وفي "الصحاح": يقال: ما له زبر؛ أي: عقل، وتماسك.

قال القرطبيّ: وسمّي العقل زبرًا؛ لأنَّ الزبر في أصله هو المنع والزجر، يقال: زبره يزبُره بالضم زبرًا: إذا انتهره، ومنعه، ولمّا كان العقل هو المانع لمن اتّصف به من المفاسد، والزاجر عنها سمّي بذلك، وقد قيل في الزبر في هذا الحديث: إنه المال، وليس بشيء. انتهى

(2)

.

وقال التوربشتيّ: المعنى لا يستقيم على تفسير الزبر بالعقل؛ لأن من لا عقل له لا تكليف عليه، فكيف يُحكم بأنه من أهل النار؟ وأرى الوجه فيه أن يُفَسَّر بالتماسك، فإن أهل اللغة يقولون: لا زبر له؛ أي: لا تماسك له، وهو في الأصل مصدر، والمعنى: لا تماسك له عند مجيء الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشة، ولا يتورع عن حرام.

(1)

رواه أحمد في "مسنده" بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له"، قال الحافظ الهيثميّ في "مجمع الزوائد" 10/ 288: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير دويد، وهو ثقة. انتهى.

وقال المنذريّ رحمه الله في "الترغيب والترهيب": 4/ 86: رواه أحمد، والبيهقيّ، وزاد:"ومال من لا مال له".

(2)

"المفهم" 7/ 165.

ص: 70

قال القاري: التماسك إنما هو من كمال العقل، وحاصل بالصبر، فيُحمل على أحدهما، وأغرب الطيبيّ في قوله: لعل الشيخ ذهب إلى أن قوله: "الذين هم فيكم تبع" قسم آخر من الأقسام الخمسة، ولذلك فسره بقوله: يعني به: الخدّام الذين يكتفون بالشبهات، والمحرمات، وعليه كلام القاضي، حيث قال:"الذين هم فيكم تبع" يريد به الخدام الذين لا مطمح لهم، ولا مطمع إلا ما يملؤون به بطونهم، من أي وجه كان، ولا تتخطى هممهم إلى ما وراء ذلك، من أمر دينيّ، أو دنيويّ.

قال القاري: أقول: والظاهر أن الضعيف وُصِف باعتبار لفظه تارةً بالمفرد، وباعتبار الجنس أخرى بالجمع، أو الموصول الثاني بيان، أو بدل مما قبله؛ لعدم العاطف، كما في الأصول المشهورة، وعليه كلام الأشرف، حيث قال:"الذي" في قوله: "الذي لا زبر له" بمعنى الذين للجمع، قال الشاعر [من الطويل]:

وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ

هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

وهو الذي جوّز جعل قوله: "الذين هم فيكم تبع" بدلًا من قوله: "الذي لا زبر له". انتهى كلامه.

وعلى هذا لا يتوجه الإشكال الذي أورده الشيخ التوربشتيّ، ويتعين تقسيم الأقسام الخمسة: أحدها: الضعيف، وثانيها: الخائن، وثالثها رجل، ورابعها: البخيل، وخامسها: الشنظير. انتهى كلام الطيبيّ

(1)

.

ووجه غرابته أنه ليس في كلام الشيخ والقاضي ما يدل على جعله قسمًا آخر، وهما أعقل من أن يخالفا النصّ على الخمس بالزيادة عليه، لا سيما عند عدم وجود العاطف، على ما في الأصول المشهورة، ولا دلالة لتفسيرهما على ما توهّم الفاضل؛ إذ لا منافاة بين الوصف السابق واللاحق، بل الثاني مميز للأول.

وحاصله: أن القسم الأول هو جنس الضعيف في أمر دينه، الناقصون في عقولهم، الذين هم فيكم تبع، لا يبغون أهلًا؛ أي: لا يطلبون زوجة، ولا

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3180.

ص: 71

سُرّيّةً، فأعرضوا عن الحلال، وارتكبوا الحرام، ولا مالًا؛ أي: ولا يطلبون مالًا حلالًا، من طريق الكدّ والكسب الطيب، فقيل: هم الخدم الذين يكتفون بالشبهات، والمحرمات التي سَهُل عليهم مأخذها عما أبيح لهم، وليس لهم داعية إلى ما وراء ذلك، من أهل، ومال.

وقيل: هم الذين يدورون حول الأمراء، ويخدمونهم، ولا يبالون من أيّ وجه يأكلون، ويلبسون، أمِنَ الحلال، أم من الحرام؟ ليس لهم مَيْل إلى أهل، ولا إلى مال، بل قَصَروا أنفسهم على المأكل، والمشرب، ثم الإشكال الذي أورده الشيخ على معنى "لا زبر له" لا تعلّق له بأن يكون ما بعده قسمًا آخر، أو لا، والله أعلم. انتهى

(1)

.

(الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا) قال صاحب "التكملة": كذا وقع منصوبًا في نُسخ "صحيح مسلم"، وفي رواية الطبرانيّ:"هم فيكم تبعٌ"، وهو أوفق بالقياس، وأما كونه منصوبًا، فيمكن تأويله على أنه حال من فعل محذوف، كأنه قال: هم يعيشون فيكم تبعًا، وفي رواية أحمد:"هم فيكم تبعًا، أو تُبعاء" شكّ يحيى، وعلى الوجه الأخير هو جمع تابع، كفُضَلاء جمع فاضل، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقال القاري: قوله: "تبع" بفتحتين: جمع تابع، كخَدَم جمع خادم، قال الطيبيّ:"تبع" وقع في بعض نُسخ "المصابيح" مرفوعًا، كما في "صحيح مسلم"، على أنه فاعل الظرف، أو مبتدأ خبره الظرف، والجملة خبر "هم"، وفي بعضها منصوبًا، كما في الحميديّ و"جامع الأصول"، وهو حال من الضمير المستتر في الخبر. انتهى

(3)

.

(لَا يَتْبَعُونَ أَهْلًا، وَلَا مَالًا) روي بتشديد التاء، وتخفيفها، فعلى الأول هو مضارع من الاتباع، وعلي الثاني مضارع من تَبِع، ووقع في بعض النسخ:"يبتغون" بالموحّدة، والغين المعجمة؛ أي: لا يطلبون.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 244.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 230.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3179.

ص: 72

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لا يتبعون أهلًا ولا مالًا" هذا تفسير من النبيّ صلى الله عليه وسلم لقوله أولًا: "الضيف الذي لا زبر له"، فيعني بذلك أن هؤلاء القوم ضعفاء العقول، فلا يسعون في تحصيل مصلحة دنيوية، ولا فضيلة نفسية، ولا دينية، بل يُهملون أنفسهم إهمال الأنعام، ولا يبالون بما يثبون عليه من الحلال والحرام، وهذه الأوصاف الخبيثة الدنيئة هي أوصاف هذه الطائفة المسمّاة بالقلندرية

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "لا يبغون" بفتح الياء، وتسكين الموحّدة، وضم الغين المعجمة، في النسخ المصححة المعتمدة

(3)

، وفي بعضها بفتح الياء، وتشديد الفوقية، وكسر الموحدة، والعين المهملة، من الاتّباع، وفي نسخة بضم الياء، وسكون الفوقية، وكسر الموحدة، والعين المهملة، قال النوويّ:"لا يتبعون" بالعين المهملة، يخفف، ويشدد، من الإتباع، وفي بعض النسخ:"يبغون" بِالغين المعجمة. انتهى

(4)

.

وقال صاحب "التكملة": هذه الجملة تفسير لـ"الضعيف الذي لا زبر له"، والمعنى: أنهم لا يسعون في تحصيل منفعة دينيّة، ولا دنيويّة، بل يُهملون أنفسهم إهمال الأنعام، فلا يطلبون أهلًا ولا مالًا بطريقة معروفة، بل هم تبع لقادتهم يسيرون معهم حيث ساروا، وإنما استحقّوا النار؛ لأنهم لم يستعملوا ما وهبهم الله تعالى من العقل والفكر لتمييز الكفر من الإيمان، فوقعوا في الكفر تبعًا لقادتهم

(5)

.

ثم أشار إلى الثاني من الخمسة بقوله: (وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ) مصدر بمعنى المفعول، قال القاضي: أي: لا يخفى عليه شيء مما يمكن أن يُطمع فيه، (وَإِنْ دَقَّ) بحيث لا يكاد يُدرَك، (إِلَّا خَانَهُ)؛ أي: إلا وهو يسعى

(1)

طريقة صوفيّة أسسها قلندر يوسف العربي الإسبانيّ.

(2)

"المفهم" 7/ 166.

(3)

أي: لكتاب "المصابيح"، لا لـ"صحيح مسلم"، فتنبّه.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 244.

(5)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 230.

ص: 73

في التفحص عنه، والتطلع عليه حتى يجده، فيخونه، وهذا هو الإغراق في الوصف بالخيانة، قال القاري: بل هو إغراق في وصف الطمع، والخيانة تابعة له، والمعنى: أنه لا يتعدى عن الطمع، ولو احتاج إلى الخيانة، ولهذا قال الحسن البصريّ: الطمع فساد الدين، والورع صلاحه، قال القاضي: ويَحْتَمِل أن يكون خَفِي من الأضداد، والمعنى: لا يَظهر له شيء يُطمع فيه إلا خانه، وإن كان شيئًا يسيرًا.

قال القاري: لا خفاء في أن المعنى الأسبق أبلغ، وأنسب بقوله:"وإن دقّ" فهو بالاعتبار أَولى وأحقّ، وإن كان تعدية "خَفِيَ" باللام في معنى الظهور أظهر، فإنه يقال: خفي له؛ أي: ظهر، وخَفِي عليه الأمر؛ أي: استتر على ما ذكره بعض الشراح، لكن في "القاموس": خفاه يَخفيه: أظهره، وخِفِي كرضي: لم يظهر. انتهى.

فالمعنى الأول هو المعوّل بفتح الفاء في "لا يخفى"، إلا إن ثبت الرواية بكسرها، كما لا يخفى، والله أعلم.

قال الجامع عفا الله عنه: قد حقّق لغة "خفي" بمعنى استتر، وبمعنى ظهر، العلامة الفيّوميّ رحمه الله فقال: خَفِيَ الشيءُ يَخْفَى خَفَاءً بالفتح، والمدّ: استتر، أو ظهر، فهو من الأضداد، وبعضهم يجعل حرف الصلة فارقًا، فيقول: خَفِيَ عليه: إذا استتر، وخَفِيَ له: إذا ظهر، فهو خَافٍ، وخَفِيٌّ أيضًا، ويتعدى بالحركة، فيقال: خَفَيْتُه أَخْفِيهِ، من باب رَمَى: إذا سترته، وأظهرته، وفعلته خِفْيَةً بضم الخاء، وكسرها، ويتعدى بالهمزة أيضًا، فيقال: أَخْفَيْتُهُ، وبعضهم يجعل الرباعيّ للكتمان، والثلاثي للإظهار، وبعضهم يَعْكِس، واسْتَخْفَى من الناس: استتر، واخْتَفَيْتُ الشيءَ: استخرجته، ومنه قيل لنباش القبور: المُخْتَفِي؛ لأنه يستخرج الأكفان، قال ابن قتيبة، وتبعه الجوهريّ: ولا يقال: اخْتَفَى بمعنى توارى، بل يقال: اسْتَخْفَى، وكذلك قال ثعلب: اسْتَخْفَيْتُ منك؛ أي: تواريت، ولا تقل: اخْتَفَيْتُ، وفيه لغة حكاها الأزهريّ، قال: أَخْفَيْتُهُ بالألف: إذا سترته، فَخَفِيَ، ثم قال: وأما اخْتَفَى بمعنى خَفِيَ، فهي لغة ليست بالعالية، ولا بالمنكرة، وقال الفارابيّ أيضًا: اخْتَفَى الرجلُ البئرَ: إذا احتفرها،

ص: 74

واخْتَفَى: استتر. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا لِلُغة "خَفِي" بمعنى استتر، وبمعنى ظهر، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "والخائن الذي لا يخفى له طمع. . . إلخ" الخائن: هو الذي يأخذ مما اؤتمن عليه بغير إذن مالكه، و"يخفى له" -هنا- بمعنى يَظهر، كما قال الشاعر [من الطويل]:

خَفَاهُنّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا

خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشيٍّ مُجَلِّبِ

أي: أظهرهن، وخفي من الأضداد، يقال: خفيت الشيءَ؛ أي: أظهرته، وسترته، قاله أبو عبيد. انتهى

(2)

.

ثم أشار إلى ثالث الخمسة بقوله: (وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ، وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ، وَمَالِكَ")؛ أي: بسببهما، فـ "عن" بمعنى الباء، كما في قوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)} [النجم: 3]، وقال في "الكشاف" في قوله تعالى:{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} [البقرة: 36]؛ أي: حَمَلهما الشيطان على الزلة بسببها، والمعنى: يخادعك بسبب أهلك ومالك؛ أي: يطمع في مالك وأهلك، فيُظهر عندك الأمانة والعفّة، ويخون فيهما

(3)

.

(وَذَكَرَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم في القسم الرابع من الخمسة (الْبُخْلَ، أَوِ الْكَذِبَ، "والشنظير الفحاش") قال التوربشتيّ: أي: البخيل والكذاب، أقام المصدر مقام الفاعل، وقال الطيبيّ: ولعل الراوي نسي ألفاظًا ذكرها في شأن البخيل، أو الكذاب، فعبّر بهذه الصيغة، وإلا كان يقول: والبخيل، أو الكذاب.

وقال النوويّ رحمه الله: هي في أكثر النسخ: "أو الكذب" بـ "أو"، وفي بعضها بالواو، والأول هو المشهور في نُسخ بلادنا، وقال القاضي عياض: روايتنا عن جميع شيوخنا بالواو، إلا ابن أبي جعفر، عن الطبريّ، وقال بعض الشيوخ: ولعله الصواب، وبه تكون المذكورات خمسة، قال الطيبيّ: فعلى هذا قوله: "وَالشِّنْظِيرُ" مرفوع فيكون عطفًا على "رجل"، كما سبق، وعلى تأويل الواو ينبغي أن يكون منصوبًا من تتمة الكذب، أو البخل؛ أي: البخيل السيئ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 176.

(2)

"المفهم" 7/ 167.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3181.

ص: 75

الخلُق، و"الْفَحَّاشُ" نعت لـ"الشنظير"، وليس بمعنى له؛ أي: يكون مع سوء خلقه فحّاشًا. انتهى

(1)

.

قال القاري: المعنى كما قال الشيخ، سواء كان هناك صفة أخرى لهما أم لا، ورُوي بالواو، وحينئذ إما أن يجعل اثنين من الخمسة، فيكون قوله:"والشنظير" منصوبًا عطفًا على الكذب تتمة له، وإمّا أن يُجعلا واحدًا فيكون الشنظير مرفوعًا، كذا قاله شارح، لكن قوله:"تتمة له" غير صحيح؛ لأن التعدد المفهوم من الواو، وهو الذي فرّ منه واقع فيه، ولا يصح أن يكون الشنظير عطف تفسير للكذب؛ لِمَا بينهما من التباين، فالصواب: أن الواو بمعنى "أو"، كما يدلّ عليه الأصول المعتمَدة، والنسخ المصححة.

ثم الشنظير بكسر الشين والظاء المعجمتين بينهما نون ساكنة: السيئ الخُلُق، وهو مرفوع على الصحيح كما سبق.

وقوله: "الفحاش" نعت له، وليس بمعنى له؛ أي: المكثر للفحش، والمعنى أنه مع سوء خلقه فحّاش في كلامه؛ لِمَا بينهما من التلازم الغالبي. انتهى كلام القاري

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وذكر البخل والكذب" هكذا الرواية المشهورة فيه بالواو الجامعة، وقد رواه ابن أبي جعفر عن الطبريّ بـ "أو" التي للشك، قال القاضي: ولعله الصواب، وبه تصحّ القسمة؛ لأنَّه ذكر أن أصحاب النار خمسة: الضيف الذي وُصف، والخائن الذي وُصف، والرجل المخادع الذي وُصف، قال: وذكر البخل والكذب، ثم ذكر الشنظير الفحّاش، فرأى هذا القائل أن الرابع هو صاحب أحد الوصفين، وقد يَحْتَمِل أن يكون الرابع مَن جَمَعهما على رواية واو العطف، كما جمعهما في الشنظير الفحّاش. وكذلك قوله:"أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدّق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال"، قال: كذا قيّدناه بخفض "مسلم" عطفًا على ما قبله، وفي رواية أخرى:"ومسلم عفيف" بالرفع، وحذف الواو.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 10/ 3181.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 14/ 249.

ص: 76

قال القرطبيّ: العفيف: الكثير العفة، وهي الانكفاف عن الفواحش، وعما لا يليق. والمتعفف: المتكلّف للعفة، والشنظير: السيّئ الخلُق، وفي "الصحاح": رجل شنظير، وشنظيرة؛ أي: سيئ الْخُلُق، قالت امرأة من العرب:

شِنْظِيرَةٌ زَوَّجَنِيهِ أَهْلي

مِنْ حُمْقِهِ يَحْسَبُ رَأسِي رِجْلِي

كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ أُنْثَى قَبْلِي

وربما قالوا: شنذيرة -بالذال المعجمة- لقربها من الظاء لغة، أو لثغة.

والفحَّاش: الكثير الفحش، وقيل: الشنظير: هو الفحاش، قال صاحب "العين": يقال: شنظر بالقوم: شَتَم أعراضهم. والشنظير: الفحّاش من الرجال الغلق، وكذلك من الإبل. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو غَسَّانَ فِي حَدِيثِهِ: "وَأَنْفِقْ، فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ") بيّن به الاختلاف بين شيوخه الثلاثة: أبو غسّان، وابن المثنّى، وابن بشّار، فلم يذكر أبو غسّان في روايته جملة:"وَأَنْفِقْ، فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ"، وذكره الآخران، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عياض بن حمار رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 7179 و 7180 و 7181 و 7182](2865)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 26)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20088)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1079)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 266)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 992 و 993 و 994 و 995 و 997)، و (ابن خزيمة) في "التوحيد"(ص 30)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(653 و 654 و 7453)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 99)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(2/ 16)،

(1)

"المفهم" 7/ 168.

ص: 77

و (الخطيب) في "تاريخ بغداد"(8/ 457)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 60) وفي "شعب الإيمان"(7/ 457)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(54/ 186)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته ما لا يعلمونه، مما علّمه الله عز وجل بالوحي.

2 -

(ومنها): بيان أن ما يملكه الإنسان حلال لا يحرم منه شيء، كما كان الجاهليّة يعتقدون تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فإن هذا مما افتروه من عند أنفسهم، كما بيّن الله عز وجل ذلك بقوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)} [المائدة: 103].

3 -

(ومنها): بيان أن الله سبحانه وتعالى خلق عباده حنفاء، فاجتالتهم الشياطين، فأغوتهم، وأضلّتهم، وهذا معنى الحديث الآخر:"ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصّرانه، أو يمجّسانه، كما تُنتَج البهيمة بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسّون فيها من جدعاء. . ." الحديث متّفقٌ عليه.

4 -

(ومنها): بيان ما كان عليه أهل الجاهليّة قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، من انحرافهم عن الدين، حتى مقتهم الله عز وجل إلا طائفة من أهل الكتاب استمرّوا على منهج أنبيائهم عليهم السلام.

5 -

(ومنها): بيان أنه لم ينقطع أهل الحقّ من الأرض خلال فترات الأنبياء، وإن قلّوا، كما قال الله عز وجل:{وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وقال:{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: 159].

6 -

(ومنها): أن بعثة النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتلاء له، هل يقوم بالتبليغ، ويصبر على أذى قومه، وقد بلّغ، وصبر، وكذلك ابتلاء لقومه به، هل يؤمنون، أم لا؟.

7 -

(ومنها): بيان تيسير الله تعالى القرآن، وتسهيله على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى أمته، كما قال تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)} [القمر: 17]، وهو محفوظ بحفظه تعالى، لا يضيع، ولا يغسله الماء، فقد

ص: 78

قيّض الله تعالى له حفظة بررة، كما وعد بذلك، حيث قال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].

8 -

(ومنها): أن الله سبحانه وتعالى أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بجهاد قريش، وإخراجهم من دارهم، وغزوهم، والإنفاق في سبيل قتالهم، وبعث الجيش، وأنه يُمدّهم بخمسة أمثالهم من الملائكة، وقد حصل كلّ ذلك، كما في غزوة بدر، وغيرها.

9 -

(ومنها): بيان أن أهل الجنّة قليلون، فهم ثلاثة أنواع، بينما أهل النار خمسة، وإلى هذا يشير في آيات كثيرة من القرآن الكريم، كقوله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]، وقوله:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17]، وقوله:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} [يوسف: 103]، وقوله:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقوله:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} [سبأ: 13]، وغير ذلك من الآيات، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7180]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإسْنَادِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: "كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ) أبو موسى الزَّمِن، تقدّم قريبًا.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ البصريّ، نُسب لجدّه، أبو عمرو البصريّ، ثقةٌ [9](ت 194) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 128.

3 -

(سَعِيدُ) بن أبي عروبة مهران البصريّ، تقدّم قبل بابين.

و"قتادة" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، والله تعالى أعلم.

ص: 79

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7181]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامٍ، صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِيِّ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ يَحْيَى: قَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ مُطَرِّفًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ) هو: عبد الرحمن بن بِشْر بن الحكم، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ، من صغار [10] (ت 260) وقيل: بعدها (خ م د ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 99.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله، و"يحيى بن سعيد" هو: القطّان.

وقوله: (وَسَاقَ الحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير عبد الرحمن بن بشر، ويَحتَمل أن يكون ضمير يحيى، والأول أظهر بدليل ما بعده، فتنبّه.

وقوله: (وَقَالَ فِي آخِرِهِ)؛ أي: قال عبد الرحمن في آخر الحديث.

وقوله: (قَالَ يَحْيى. . . إلخ) غرضه بيان تصريح قتادة بالسماع عن مطرّف، فانتفت به تهمة التدليس؛ لأنه معروف به.

وقوله: (فِي هَذَا الْحَدِيثِ) متعلّق بـ "سمعت".

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّانيّ رحمه الله في "التقييد" بعد أن ساق رواية مسلم هذه ما نصّه: هكذا يُروى عن الجلوديّ، والكسائيّ، وفي نسخة ابن ماهان: "قال يحيى: قال سعيد عن قتادة: سمعت مطرّفًا بهذا الحديث، جعل سعيد بن أبي عروبة بدل شعبة

(1)

.

قال القاضي عياض رحمه الله في "الإكمال"(8/ 398): وسعيد هذا هو ابن أبي عروبة، وهو الذي رواه عند مسلم، فقيل من طريق ابن أبي عديّ، فيَحْتَمل أن يحيى سمعه من شعبة، ومن سعيد، فكلاهما يروي عن قتادة، لكن في قول يحيى عمن قال منهما: عن قتادة: سمعت مطرّفًا حجة قويّة لمسلم، وذلك أن

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 928.

ص: 80

الحديث له علّة، ولذلك -والله أعلم- لم يُخرجه البخاريّ، فإن همّامًا رواه عن قتادة قال: حدّثني أربعة عن مطرّف بن عبد الله، منهم: يزيد بن عبد الله أخو مطرّف، والعلاء بن زياد، ورواه عنهما عن همّام بنُ أبي خيثمة، وابن أبي شيبة، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، ويزيد أخي مطرّف، وعقبة بن عبد الغافر عن مطرّف؛ إذ هما أعلى وأحفظ، ولم يبال بمن خالفهم، واستشهد بما حكاه يحيى عن شعبة، أو سعيد من قول قتادة: سمعت مطرّفًا، فأزال إشكال العنعنة. انتهى

(1)

.

[تنبيه آخر]: رواية يحيى القطان، عن هشام الدستوائيّ، عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(17519)

- حدّثنا يحيى بن سعيد، ثنا هشام، ثنا قتادة، عن مطرّف، عن عياض بن حمار، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، فقال في خطبته: "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلّمكم ما جَهِلتم، مما علّمني في يومي هذا، كلُّ مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فأضلتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا، ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض، فمقَتَهم عجميّهم وعربيّهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرؤه نائمًا، ويقظانًا، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشًا، فقلت: يا رب إذًا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، فاغزهم نُغزك، وأنفق عليهم، فسننفق عليك، وابعث جندًا نبعث خمسةً مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقسط متصدق موفّق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، ورجل فقير عفيف متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر له الذين هم فيكم تبعًا، أو تُبَعاء -شك يحيى- لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يخفى عليه طمع، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح،

(1)

"إكمال المعلم" 8/ 398.

ص: 81

ولا يمسي، إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك"، وذكر البخل، والكذب، والشنظير الفاحش. انتهى

(1)

.

وساقها أيضًا بن عساكر رحمه الله في "تاريخه"(54/ 185) بسند المصنّف، تامًّا، فقال:

أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر، أنا أبو بكر محمد بن عبد الرحمن، أنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق، أنبأنا جدّي أبو بكر، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدّثنا يحيى بن سعيد، عن هشام الدستوائيّ، حدّثنا قتادة، عن مطرّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن عياض بن حمار المجاشعيّ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته:"ألا وإن ربي أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم، مما علّمني يومي هذا، كلُّ مال نحلته عبدي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرَتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا، ثم إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقَتَهم عجمهم وعربهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظانًا، وإن الله أمرني أن أُحرق قريشًا، فقلت: يا رب، إذًا يثلغوا رأسي، فيدعوه خبزةً، فقال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نُغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشًا، فنبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط مصدق ومؤمن، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلمٍ، ورجل ضعيف فقير متصدق، وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْر له الَّذين هم فيكم تبعٌ أو تُبَعَاء -شك يحيى- لا يبتغون أهلًا ولا مالًا، والخائن الذي لا يَخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك"، وذكر البخل، أو الكذب، والشنظير الفحاش.

(ح) قال: وحدّثنا عبد الرحمن بن بشر في عقبه: ثنا يحيى، قال:

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 162.

ص: 82

وسمعت عن شعبة، عن قتادة، قال: سمعت مطرفًا في هذا الحديث. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7182]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مَطَرٍ، حَدَّثَنِي قَتَادَةُ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا، فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ هِشَامٍ، عَن قَتَادَةَ، وَزَادَ فِيهِ: "وَإنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "وَهُمْ فِيكُمْ تبَعًا لَا يَبْغُونَ أَهْلًا، وَلَا مَالًا"، فَقُلْتُ: فَيَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟ قالَ: نَعَمْ وَاللهِ، لَقَدْ أَدْرَكتُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْعَى عَلَى الْحَيِّ، مَا بِهِ إِلَّا وَليدَتُهُمْ يَطَؤُهَا).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو عَمَّارٍ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ) الْخُزاعيّ مولاهم المروزيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(خ م د ت س) تقدم في "الصيام" 17/ 2619.

2 -

(الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى) السِّينانيّ -بسين مهملة مكسورة، ونونين- أبو عبد الله المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وربما أغرب، من كبار [9](ت 192) في ربيع الأول (ع) تقدم في "الجنائز" 26/ 2236.

3 -

(الْحُسَيْنُ) بن واقد المروزيّ، أبو عبد الله القاضي، ثقةٌ، له أوهام [7](ت 7 أو 159)(خت م 4) تقدم في "الجهاد والسِّير" 47/ 4687.

4 -

(مَطَرٌ) بفتحتين ابن طَهْمان الورّاق، أبو رجاء السلميّ مولاهم الْخُرَاسانيّ، سكن البصرة، صدوقٌ كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف [6](ت 5 أو 129)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

والباقون ذُكروا قبله.

(1)

"تاريخ مدينة دمشق" 54/ 185 - 176.

ص: 83

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير مطر، وكذلك فاعل "وزاد فيه" الآتي بعده.

وقوله: (وَإِنَّ اللهَ) تعالى (أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا)"أَنْ" هذه مفسِّرة؛ لِمَا في الإيحاء من معنى القول، و"تواضعوا" أمْر من التواضع، تفاعل من الضِّعَة بالكسر، وهي الذلّ، والهوان، والدناءة. (حَتَّى لَا يَفْخَرَ) متعلِّق بـ "أوحى"، وهو بفتح الخاء، من الفخر، وهو ادّعاء العظمة، والكبرياء والشرف؛ أي: كي لا يتعاظم (أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِيَ) بكسر الغين المعجمة؛ أي: ولا يظلم (أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وفي الجمع بينهما إشعار بأن الفخر والبغي نتيجتا الكبر؛ لأن المتكبر هو الذي يرفع نفسه فوق كل أحد، ولا ينقاد لأحد، قاله القاري

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: "إن الله أوحى إليّ"؛ أي: وحيَ إرسال، والوحي إعلام في خفاء، "أن تواضعوا" بخفض الجناح، وليْن الجانب، و"أن" مفسرة "حتى لا يفخر أحد منكم على أحد" بتعداد محاسنه كِبْرًا، ورَفْع قَدْر نفسه على الناس تَيْهًا، وعُجْبًا، قال ابن القيم رحمه الله: والتواضع انكسار القلب لله، وخَفْض جناح الذلّ والرحمة للخلق، حتى لا يرى له على أحد فضلًا، ولا يرى له عند أحد حقًّا، والفخر ادعاء العظمة.

وقال الطيبيّ رحمه الله: و"حتى" هنا بمعنى "كي"، و"لا يبغي" بالنصب عطفًا على "تواضعوا"؛ أي: لا يجور، ولا يتعدى أحد منكم على أحد، ولو ذميًّا، أو معاهَدًا، أو مؤمنًا، والبغي: مجاوزة الحدّ في الظلم.

قال الطيبيّ: المراد أن الفخر والبغي شحناء الكبير؛ لأن المتكبر هو الذي يرفع نفسه فوق منزلته، فلا ينقاد لأحد.

وقال المجد ابن تيمية رحمه الله: نهى الله على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم عن نوعي الاستطالة على الخلق، وهي الفخر، والبغي؛ لأن المستطيل إن استطال بحقّ فقد افتخر، أو بغير حق فقد بغى، فلا يحل هذا ولا هذا، فإن كان الإنسان من طائفة فاضلة، كبني هاشم، أو غيرهم، فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه، والنظر إليها، فإنه مخطئ؛ إذ فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص، فَرُبَّ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 121.

ص: 84

حبشيّ أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب نقصه، وخروجه عن الفضل، فضلًا عن استعلائه بهذا، واستطالته به.

وأُخذ منه أنه يتأكد للشيخ التواضع مع طَلَبته، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء: 215]، وإذا طُلب التواضع لمطلق الناس، فكيف لمن له حقّ الصحبة، وحرمة التودد، وصدق المحبة؟ لكن لا يتواضع معهم مع اعتقاد أنهم دونه، فقد قال ابن عطاء الله: من أثبت لنفسه تواضعًا فهو المتكبر حقًّا، فالتواضع لا يكون إلا عن رفعة مع عظمة، واقتدار، وليس المتواضع الذي إذا تواضع رأى أنه فوق ما صنع، بل الذي إذا تواضع رأى أنه دون ما صنع. انتهى

(1)

.

وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ) فاعل "قال" ضمير مطر أيضًا.

وقوله: (فَقُلْتُ) هذا من كلام قتادة، يقول: فقلت لمطرّف بن عبد الله (فَيَكُونُ ذَلِكَ) بتقدير همزة الاستفهام؛ أي: أفيكون، ويحصل، ويقع هذا الأمر (يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟) كنية مطرّف، (قَالَ) مطرّف:(نَعَمْ) يوجد هؤلاء الضعفاء الذين لا زَبْر لهم، ويكتفون بالمحرّمات، ولا يطلبون لأنفسهم حلالًا، ثم أكّد ذلك بقوله:(واللهِ، لَقَدْ أَدْرَكْتُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: في أواخر أيام الجاهلية، والجاهليّة ما قبل الإسلام، (وَإِنَّ الرَّجُلَ) من أولئك الضعفاء (لَيَرْعَى) المواشي (عَلَى الْحَيِّ)؛ أي: القبيلة؛ سمُّوا بذلك؛ لأن بعضهم يحيا ببعض؛ أي: يتناصرون، ويتعاضدون. (مَا) نافية؛ أي: ليس (بِهِ) رغبة، وليس له أجر، (إِلَّا، وَليدَتُهُمْ)؛ أي: جاريتهم (يَطَؤُهَا)؛ أي: مقابل رعيه لهم.

وقال النوويّ رحمه الله: أبو عبد الله -يعني: في قوله: يا أبا عبد الله- هو مطرّف بن عبد الله، والقائل له قتادة، وقوله:"لقد أدركتهم في الجاهلية" لعله يريد أواخر أمر الجاهلية، وآثارهم، وإلا فمطرّف صغير عن إدراك زمن الجاهلية حقيقةً، وهو يعقل. انتهى

(2)

. وقال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "لقد أدركتهم في الجاهليّة" دلّ على صحّة صحبة مطرّف؛ لإدراكه الجاهليّة، وإن

(1)

"فيض القدير" 2/ 217.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 200.

ص: 85

كان أبو عمر بن عبد البرّ لم يذكره في "كتابه"

(1)

، ومن شرطه أن يذكره؛ لأنه وُلدا في زمنه صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن أبي خيثمة عن أخيه يزيد بن عبد الله قال: أنا أكبر من الحسن بعشر سنين، وأخي مطرّف أكبر مني بعشر سنين، ووُلد الحسن فيما قاله الواقديّ لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، وقد ذكر أن عمر رضي الله عنه أغزاه مددًا للأحنف إلى نيسابور، وذكر ابن قتيبة: وُلد مطرّف في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ومات عمر وهو ابن عشرين سنة، وتُوفّي بعد سنة سبع وثمانين. انتهى

(2)

.

[تنبيه]: رواية مَطَرٍ الوراق عن قتادة هذه لم أجد من ساقها تامّة، إلا أن الخطيب البغداديّ رحمه الله أوردها في "تاريخه"

(3)

، ولكن فيها أخطاء، ولذا أعرضت عن إيراده، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(18) - (بَابُ عَرْضِ مَقْعَدِ الْمَيِّتِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَوِ النَّارِ عَلَيْهِ، وَإِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَالتَّعَوُّذِ مِنْهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7183]

(2866) - (حَدَّثَنَا يَحْيى بْنُ يَحْيَى، قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(يَحْيى بْنُ يَحْيى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَالِكُ) بن أنس إمام دار الهجرة، تقدّم قبل باب.

3 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قبل باب.

(1)

يعني: "الاستيعاب في معرفة الأصحاب".

(2)

"كمال المعلم" 8/ 398 - 399.

(3)

راجع: "تاريخ بغداد" للخطيب 9/ 471.

ص: 86

4 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد الله رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيات المصنّف رحمه الله، وهو (436) من رباعيات الكتاب، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيخه، وقد دخل المدينة، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة، ومن مشاهير الصحابة في الفتوى، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ) ولفظ النسائيّ: "ألا إن أحدكم"، و"أَلَا" أداة تحضيض، قال ابن عبد البرّ رحمه الله: الخطاب موجَّه إلى أصحابه، وإلى المنافقين، فيُعرض على المؤمن مقعده من الجنة، وعلى المنافق مقعده من النار. انتهى

(1)

.

(إِذَا مَاتَ عُرِضَ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: فيه أن الميت يُعرَض عليه في قبره بالغداة والعشيّ مقعده من الجنّة، وفي هذا تنعيم لمن هو من أهل الجنّة، وتعذيب لمن هو من أهل النار بمعاينة ما أعدّ له، وانتظاره ذلك إلى اليوم الموعود ويوافق هذا في أحد الشّقّين قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46].

وقال ابن التين رحمه الله: يَحْتَمِل أن يريد بالغداة والعشيّ غداة واحدة، وعشيّة واحدة، يكون العرض فيها. ومعنى قوله:"حتى يبعثك الله"؛ أي: لا تصل إليه إلى يوم البعث. ويَحْتَمِل أن يريد كلّ غداة، وكلّ عشيّ.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: الاحتمال الثاني هو الظاهر، كما تؤيّد الآية المذكورة أَحَد شقيه، فالشقّ الآخر مثله، فَيُعرَض على كل فريق مقعده كلّ غداة، وكلّ عشيّ، ولا يعارضه ما تقدم من عرض المقعد عند السؤال، فذاك عرضٌ غير هذا، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار" 3/ 87.

ص: 87

وقال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: ويجوز أن يكون هذا العرض على الروح وحدها، ويجوز أن يكون عليها مع جزء من البدن، والله أعلم بحقيقة الحال. قال وليّ الدين: ظاهر الحديث عرض هذا على جملته، ولا مانع من إعادة الروح إلى الجسد، أو إلى البعض الذي يدرك منه حالة العرض.

فإن قلت: وهل في القبر غداة وعشيّ، وليلٌ ونهار؟.

قلت: المراد: في وقت الغداة والعشيّ عند الأحياء، ويَحْتمل أن يمثّل له وقت الغداة والعشيّ في حال عرض المقعد عليه، وقد ورد في سؤال الملَكين أنه يُمثّل له وقت صلاة العصر، ودنوّ الشمس للغروب.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الاستشكال من أصله فيه إشكال، فأين النصوص التي تنفي الغداة والعشيّ، والليل والنهار عن أهل القبور، حتى نستشكل؟ بل ظواهر النصوص على إثبات ذلك، فلا داعي إلى ردّ مثل هذا الاستشكال الذي لا ينبني على دليل صحيح. فتنبّه، والله تعالى أعلم.

قال: وحَكَى ابن بطال عن بعض أهل بلدهم أن معنى العَرْض هنا: الإخبار بأن هذا موضع أعمالكم، والجزاء لها عند الله تعالى، قال: وأريد بالتكرير بالغداة والعشيّ تذكارهم بذلك، قال: ولسنا نشكّ أن الأجساد بعد الموت، والمسألة هي في الذهاب، وأكل التراب لها، والفناء، ولا يُعرَض شيء على فانٍ، فبان أن العرض الذي يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الروح خاصّة، وذلك أن الأرواح لا تفنى، وهي باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة، أو النار. انتهى.

قال وليّ الدين رحمه الله: وما ذكره أولًا من أن معنى العَرْض هنا الإخبار قد يقتضي عدم معاينة المقعد حقيقةً، وهذا خلاف ظاهر اللفظ، ولا مانع من حَمْل الحديث، والآية على ظاهرهما، وإذا لم يَصرِف عن الظاهر صارِف فالإيمان به واجبٌ، وما ذكره من أن العرض على الأرواح خاصّة هو أحد احتمالَي القرطبيّ، وظاهر الحديث خلافه، والله أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي أن ما دلّ عليه ظواهر النصوص هو

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 304 - 305.

ص: 88

الحق الذي يجب التمسك به، ولا ينبغي الالتفات إلى هذه الاحتمالات العقلية التي تخالف هذه الظواهر، فتبصّر بالإنصاف، ولا تكن أسير التقليد. والله تعالى وليّ التوفيق.

(إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) اتحد فيه الشرط والجزاء لفظًا، ولا بدّ فيه من تقدير. قال التوربشتيّ رحمه الله: التقدير: إن كان من أهل الجنّة، فمقعده، من مقاعد أهل الجنة يُعرض عليه. وقال الطيبيّ رحمه الله: الشرط والجزاء إذا اتحدا لفظًا دلّ على الفخامة، والمراد: أنه يرى بعد البعث من كرامة الله تعالى ما يُنسيه هذا المقعد. انتهى. ووقع عند مسلم في الرواية التالية بلفظ: "إن كان من أهل الجنّة فالجنّة"؛ أي: فالمعروض الجنّة

(1)

.

(وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ) التقدير فيه كالتقدير في سابقه، (يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") وفي الرواية التالية: "ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي تُبْعَثُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، وفي رواية النسائيّ: "حتى يبعثك الله عز وجل يوم القيامة"، بكاف الخطاب.

وحَكَى ابن عبد البرّ فيه الاختلاف بين أصحاب مالك، وأن الأكثرين رووه كرواية البخاريّ -يعني: حتى يبعثك الله يوم القيامة- وأن ابن القاسم رواه كرواية مسلم، قال: والمعنى: حتى يبعثك الله إلى ذلك المقعد، ويَحْتَمِل أن يعود الضمير إلى الله، فإلى الله تُرجع الأمور، والأول أظهر. انتهى.

قال الحافظ: ويؤيده رواية الزهريّ، عن سالم، عن أبيه، بلفظ:"ثم يقال: هذا مقعدك الذي تُبعث إليه يوم القيامة". أخرجه مسلم. وقد أخرج النسائيّ رواية ابن القاسم، لكن لفظه كلفظ البخاريّ. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا مُتّفق عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"الفتح" 3/ 613.

(2)

"الفتح" 3/ 614.

ص: 89

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7183 و 7184](2866)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1379) و"بدء الخلق"(3240) و"الرقاق"(6515)، و (الترمذيّ) في "الجنائز"(1072)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2070 و 2071 و 2072) وفي "الكبرى"(2197 و 2198 و 2199)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4324)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 16 و 51 و 113)، و (مالك) في "الموطأ"(564)، و (ابن ابي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 83)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(3/ 586)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3130)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 595 و 597)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 255 و 8/ 134) و"الصغير"(2/ 142)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 198)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 239)، و (البيهقيّ) في "إثبات عذاب القبر"(49)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1524)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(ومنها): أن في هذا الحديث دليلًا على أن الجنة والنار مخلوقتان، كما يقول جماعة أهل السُّنَّة، وهم الجماعة الذين هم الحجة أهل الرأي والآثار، ويدل على ذلك قول الله عز وجل:{يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، وقوله تعالى:{لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27]، وقوله:{إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه: 117]، وقال لإبليس:{فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34]، وقال عز وجل في آل فرعون:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اشتكت النار إلى ربها. . ." الحديث، متّفقٌ عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم:"اطلعت في الجنة، فرأيت أكثر أهلها المساكين، واطلعت في النار، فرأيت أكثر أهلها النساء"، متّفقٌ عليه، وقوله:"دخلت الجنة، فأخذت منها عنقودًا. . ." الحديث.

وقوله صلى الله عليه وسلم "لمّا خَلَق الله الجنة حفّها بالمكاره، وخَلَق النار، فحفَّها بالشهوات. . ."، والآثار في أن الجنة والنار قد خُلقتا كثيرة جدًّا.

2 -

(ومنها): أن فيه الإقرارَ بالموت، والبعث بعده، والإقرارَ بالجنة والنار، وإثبات عذاب القبر؛ لأن عَرْض مقعده من النار عليه نوع عظيم من العذاب.

ص: 90

3 -

(ومنها): أنه يَستدل به من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، قال ابن عبد البرّ: وهو أصحّ ما ذهب إليه في ذلك؛ لأن الأحاديث بذلك أحسن مجيئًا، وأثبت نقلًا من غيرها.

والمعنى عندي: أنها قد تكون على أفنية قبورها، لا على أنها لا تَرِيم، ولا تفارق أفنية القبور، بل هي كما قال مالك رحمه الله: إنه بلغه أن الأرواح تسرح حيث شاءت، وعن مجاهد أنه قال: الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دُفن الميت، لا تفارق ذلك، والله أعلم. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): أن الروح لا تفنى بفناء الجسد؛ لأن العرض لا يمكن إلا على الحيّ).

قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الحديث، وما في معناه يدلّ على أن الموت ليس بعدم، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ومفارقة الروح للبدن.

وقال بعضهم: ومما يدلّ على حياة الروح، وأنها لا تفنى قوله عز وجل:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، والله تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): ما تقدّم من ذكر عرض المقعد على الميت في قبره واضح في الكافر، والمؤمن المخلص، أما المخلّط الذي له ذنوب هو مؤاخذ بها، غير معفوّ عنها، فماذا يُعرض عليه؟. قال وليّ الدين: الذي يظهر أن المعروض عليه مقعده من الجنة، وأما النار، فليس له بها مقعد مستقرّ، وإنما يدخلها لعارض، ليُنقّى، ويطهّر، ويُمحّص، ثم يدخل مقعده من الجنّة، نقيًّا، مخلصًا.

وذكر أبو العباس القرطبيّ في ذلك تردّدًا، فقال: وأما المؤمن المؤاخَذ بذنوبه، فله مقعدان، مقعد في النار زمن تعذيبه، ومقعد في الجنّة بعد إخراجه، فهذا يقتضي أن يُعرضا عليه بالغداة والعشيّ، إلا إن قلنا: إنه أراد بأهل الجنّة كلّ من يدخلها، كيفما كان، فلا يحتاج إلى ذلك التفسير، والله أعلم. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: هذا الذي قاله القرطبيّ أخيرًا هو الأرجح، كما مال إليه وليّ الدين، كما مرّ آنفًا، والله تعالى أعلم.

(1)

"الاستذكار" 3/ 89.

ص: 91

(المسألة الخامسة): قال أبو العباس القرطبيّ رحمه الله: هذا إخبار عن غير الشهداء، فإن أرواحهم في حواصل طير، تسرح في الجنّة، وتأكل من ثمارها.

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله: هذا مبنيّ على أن عرض المقعد على الأرواح خاصّة، فلا يحتاج إلى عرضه عليها؛ لأنها في الجنة، وقد يقال: فائدة ذلك تبشيرها باستقرارها في الجنّة، مقترنة بجسدها في ذلك المحلّ المخصوص على التأبيد، وهذا قَدْر زائد على ما هي فيه، وأما إذا كان عرض المقعد على الأجساد، فلا مانع من أن الشهداء حينئذ كغيرهم؛ لأن الذي في الجنة إنما هو أرواحهم، وأما أجسادهم فهي في قبورهم، فتنعّم بعرض المقعد عليها بكرة وعشيًّا.

على أن ذلك قد ورد في أرواح المؤمنين مطلقًا، رواه النسائيّ، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إنما نسمة المؤمن طائر في شجر الجنة، حتى يبعثه الله إلى جسده يوم القيامة". ورواه ابن ماجه بلفظ: "إن أرواح المؤمنين في طير خضر، يعلُقُ بشجر الجنة". وهو عند الترمذيّ بلفظ: "إن أرواح الشهداء". انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7184]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا مَاتَ الرَّجُلُ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَالْجَنَّةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَالنَّارُ"، قَالَ: "ثُمَّ يُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ الَّذِي تُبعَثُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(سَالِمُ) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشيّ العدويّ، أبو عُمر، أو أبو عبد الله المدنيّ، أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتًا، عابدًا فاضلًا، كان يُشَبَّه بأبيه في الهدي، والسمت، من كبار [3] مات في آخر سنة (106) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 162.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 305 - 306.

ص: 92

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل ثلاثة أبواب.

وقوله: (فَالْجَنَّةُ)؛ أي: فالمعروض الجنة، وكذا قوله:(فالنار).

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7185]

(2867) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، قَالَ ابْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قالَ: وَأَخْبَرَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ لِبَنِي النَّجَّارِ، عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ، وَنَحْنُ مَعَهُ، إِذْ حَادَتْ بِهِ، فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ، أَوْ خَمْسَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ، قَالَ: كَذَا كَانَ يَقُولُ الْجُرَيْرِيُّ، فَقَالَ: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟ "، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟ "، قَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ، فَقَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ"، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: "تَعوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، قَالَ: "تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"، قَالُوا: نَعُوذُ باللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

3 -

(ابْنُ عُلَيَّةَ) هو: إسماعيل بن إبراهيم البصريّ، تقدّم قريبًا.

ص: 93

4 -

(سَعيدٌ الْجُرَيْرِيُّ) -بضم الجيم- ابن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختلط قبل موته بثلاث سنين [5] مات سنة أربع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) -بنون، وضاد معجمة ساكنة- المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبْديّ الْعَوَقيّ البصريّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ [3](ت 8 أو 109)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

7 -

(زَيْدُ بْنُ ثَابِتِ) بن الضحاك بن لَوْذان الأنصاريّ النجاريّ، أبو سعيد، وأبو خارجة الصحابيّ المشهور، كَتَب الوحي، قال مسروق: كان من الراسخين في العلم، مات سنة خمس، أو ثمان وأربعين، وقيل: بعد الخمسين (ع) تقدم في "الحيض" 22/ 793.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين سوى شيخيه، فالأول كوفيّ، والثاني بغداديّ، وسوى الصحابيين، فمدنيّان، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ، وأن أبا سعيد صحابيّ ابن صحابيّ، ومن المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) رضي الله عنه (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه (وَلَمْ أَشْهَدْهُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لم أحضر هذا الحديث حين حدّث به النبيّ صلى الله عليه وسلم، (وَلَكِنْ حَدَّثَنِيهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) رضي الله عنه، ثم بيّن كيف حدّثه، فقال:(قالَ) زيد رضي الله عنه: (بَيْنَمَا) تقدّم الكلام في "بينما"، و"بينا" غير مرّة، فلا تغفل. (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَائِطٍ)؛ أي: كائن في بستان (لِبَني النَّجَّارِ) قبيلة من الأنصار، (عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ) حال من الضمير المستتر في الخبر، (وَنَحْنُ مَعَهُ) حال متداخلة؛ لأنه حال من الضمير في الحال، (إِذْ حَادَتْ بِه) بالحاء المهملة؛ أي: مالت، ونفرت؛ أي: ملتبسة به، فـ "به" حال، و"إذ" بسكون الذال للمفاجأة بعد "بينما"، نصّ على ذلك سيبويه، على ما في

ص: 94

"المغني". (فَكَادَتْ)؛ أي: قربت البغلة (تُلْقِيهِ) من الإلقاء؛ أي: تُسقط النبيّ صلى الله عليه وسلم، وترميه عن ظهرها من شدّة نفرتها، وقوله:(وَإِذا) بالألف للمفاجأة؛ أي: ففاجأنا (أَقْبُرٌ) بفتح، فسكون، فضم: جمع قبر، كفلس وأفلس، وقوله:(سِتَّةٌ، أَوْ خَمْسَةٌ، أَوْ أَرْبَعَةٌ) بدل من "أقبر"، و"أو" فيها للشك، كما بيّنه بقوله:(قَالَ) ابن عليّة (كَذَا)؛ أي: مثل ما تقدّم بالترديد والشكّ. (كانَ يَقُولُ) سعيد (الْجُرَيْرِيُّ)؛ يعني: أنه رواه بالشك في عدد الأقبر، هل هي ستة، أو خمسة، أو أربعة؟.

(فَقَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه الحاضرين لديه في ذلك المكان: ("مَنْ) استفهاميّة؛ أي: أيّ شخص (يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟ ")؛ أي: ذواتهم، وصفاتهم، وتاريخ وفاتهم، وأيام حياتهم، (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يسمَّ، (أَنَا)؛ أي: أعرفهم. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم إذا كنت تعرفهم ("فَمَتى مَاتَ هَؤُلَاءِ؟ ") أفي الجاهلية، أم بعدها، مشركين، أو مؤمنين؟ (قَالَ (الرجل:(مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ)؛ أي: في زمنه، أو صفته، وقال ابن حجر الهيتميّ: أي: بعد بِعثتك، بدليل قوله:"إن هذه الأمة تبلى إلخ". (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ)؛ أي: جنس الأمة، فـ "هذه" إشارة لِمَا في الذهن، وخبره بيان له، كهذا أخوك، وأصل الأمة: كل جماعة يجمعهم أمر واحد، إما دين، أو زمان، أو مكان، سواء كان ذلك الأمر الجامع تسخيرًا، أو اختيارًا

(1)

. (تُبتَلَى)؛ أي: تُمتحن (فِي قُبُورِهَا) بسؤال الملَكين، وغيره، ثم تنعّم، أو تعذّب. (فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا) بحذف إحدى التاءين، "كقوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]؛ أي: لولا مخافة عدم التدافن إذا كشف لكم، (لَدَعَوْتُ اللهَ)؛ أي: سألته (أَنْ يُسْمِعَكُمْ) من الإسماع مفعول ثان لـ"دعوت" على تضمين "سألت" أن يجعلكم سامعين (مِنْ عَذَابِ القَبْرِ) يَحْتَمِل أن تكون "من" للتبعيض، ويَحْتَمِل أن تكون زائدة، قال في "الأزهار" قيل: المعنى: المانع من الدعاء هو الخوف، والحيرة، والدهشة، وانخلاع القلب، وقيل: المانع ترك الإعانة في الدفن، وقال التوربشتيّ: لو سمعوا ذلك لأهمَّ كلَّ واحد منهم خُويصّة نفسه، وعمَّهم من ذلك البلاء العظيم، حتى أفضى بهم إلى ترك التدافن، وخَلَع الخوف أفئدتهم، حتى لا يكادوا يقربون جيفة ميت)

(2)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 592.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 1/ 318.

ص: 95

(الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ")؛ أي: الذي أسمعه من القبر، وقال ابن حجر

(1)

: أي: مثل الذي أسمعه، وهو مفعول ثان لـ"يُسمِع"؛ أي: أن يوصل إلى آذانكم أصوات المعذَّبين في القبر، فإنكم لو سمعتم ذلك تركتم التدافن، من خوف قلع صياح الموتى أفئدتكم، أو خوف الفضيحة في القرائب؛ لئلا يُطَّلع على أحوالهم، وهذا الحديث مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبَكيتم كثيرًا".

وقال التوربشتيّ رحمه الله: هذا كلام مجمل، وما يسبق إلى الفهم هو أنهم لو سمعوا ذلك لتركوا التدافن حذرًا من عذاب القبر، وفيه نظر؛ لأن المؤمن لا يليق به ذلك، بل يجب عليه أن يعتقد أن الله تعالى إذا أراد تعذيب أحد عذّبه، ولو في بطن الحيتان، وحواصل الطيور، وسيّان دون القدرة الإلهيّة بَطْن الأرض وظهرها، وبعد ذلك، فإن المؤمنين أُمروا بدفن الأموات، فلا يسعهم تَرْك ذلك إذا قَدَروا عليه، والذي نهتدي إليه بمقدار علمنا هو أن الناس لو سمعوا ذلك لأهمّ كلّ واحد منهم خويصّة نفسه، وعمّهم من ذلك البلاء العظيم حتى أفضى بهم إلى ترك التدافن، وخَلَع الخوف أفئدتهم حتى لا يكادوا يقربوا جيفة ميت، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا"، وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومن كوشف بما لا يسعه يطيح، ويهلك. انتهى

(2)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "فلولا أن لا تدافنوا" بحذف إحدى التاءين؛ أي: لولا خوف ترك التدافن، من خوف أن يصيبكم من العذاب ما أصاب الميت، "لدعوت الله أن يسمعكم" هو مفعول "دعوت" على تضمينه معنى سألت؛ لأن دعوت لا يتعدى إلى مفعولين.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "أن يسمعكم" مفعول ثان لـ"دعوت" على تضمين "سألت" و"الذي" مفعول "أن يسمعكم"، و"من عذاب القبر" بيان له، حال منه، مقدَّم عليه، ومعنى "لولا أن لا تدافنوا" أنهم لو سمعوه لتركوا

(1)

هو: الهيتميّ بالتاء، لا العسقلانيّ، فتنبّه.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 592.

ص: 96

التدافن؛ حذرًا من عذاب القبر، أو لاشتغل كلٌّ بخويصته حتى يفضي بهم إلى ترك التدافن، وقيل:"لا" زائدة، ومعناه: لولا أن تموتوا من سماعه، فإن القلوب لا تطيق سماعه، فيصعق الإنسان لوقته، فكَنَى عن الموت بالتدافن، ويرشد إليه قوله في الحديث الآخر:"لو سمعه الإنسان لصعق"؛ أي: مات، وفي رواية لأحمد:"لولا أن تدافنوا" بإسقاط "لا"، وهو يدلّ على زيادتها في تلك الرواية، وقيل: أراد: لأسمعتكم عذاب القبر؛ أي: صوته؛ ليزول عنكم استعظامه، واستبعاده، وهم وإن لم يستبعدوا جميع ما جاء به، كنزول الملَك وغيره، من الأمور المغيبة، لكنه أراد أن يتمكن خبره من قلوبهم تمكنَ عيان، وليس معناه أنهم لو سمعوا ذلك تركوا التدافن؛ لئلا يصيب موتاهم العذاب، كما قيل، لأن المخاطبين وهم الصحابة رضي الله عنه عالمون بأن العذاب -أي: عذاب الله- لا يُرَدّ بحيلة، فمن شاء تعذيبه عذّبه، ولو ببطن حوت، بل معناه: لو سمعوا عذابه تركوا دفن الميت؛ استهانة به، أو لِعجزهم عنه؛ لدهشتهم، وحيرتهم، أو لفزعهم، وعدم قدرتهم على إقباره، أو لئلا يحكموا على كل من اطلعوا على تعذيبه في قبره بأنه من أهل النار، فيتركوا الترحم عليه، وترجّي العفو له، وإنما أحب صلى الله عليه وسلم إسماعهم عذاب القبر دون غيره، من الأهوال؛ لأنه أول المنازل.

وفيه أن الكشف بحسب الطاقة، ومن كوشف بما لا يطيقه هلك. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ أَقْبَلَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْنَا) وقوله: (بِوَجْهِهِ) تأكيد لـ "أقبل"، كقولك: رأيته بعيني؛ لمزيد الاهتمام بشأن التذكير

(2)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم للحاضرين: ("تَعَوَّذُوا باللهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ")؛ أي: اطلبوا منه أن يدفع عنكم عذابها، (قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ عذَابِ النَّارِ)؛ أي: نعتصم به منها، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ") قال القاري رحمه الله: ولعل تقديم عذاب النار في الذِّكر، مع أن عذاب القبر مقدَّم في الوجود؛ لكونه أشدّ، وأبقى، وأعظم، وأقوى

(3)

. (قَالُوا: نَعُوذُ

(1)

"فيض القدير" 5/ 341.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 593.

(3)

"مرقاة المفاتيح" 1/ 318.

ص: 97

بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ) بكسر، ففتح: جمع فتنة، وهي الامتحان، وتُستعمل في المكر، والبلاء، وهو تعميم بعد تخصيص، وقوله:(مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ") بدل من "الفتن"، وهو عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو منهما؛ أي: ما جهر، وأسرّ، وقيل: ما يجري على ظاهر الإنسان، وما يكون في القلب، من الشرك، والرياء، والحسد، وغير ذلك، من مذمومات الخواطر. (قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ) وقوله: (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) عبارة عن شمولها؛ لأن الفتنة لا تخلو من هذين الأمرين، عمّم بعد التخصيص؛ تأكيدًا، وتقريرًا

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ") فعّال، ومعناه الكذاب. قال ثعلب: الدَّجَّالُ: هو الممَوِّه، يقال: سيف مُدَجَّلٌ: إذا طُلي بذهب، وقال ابن دريد: كلّ شيء غطيته، فقد دَجّلته، واشتقاق الدَّجَّالِ من هذا؛ لأنه يُغطي الأرض بالجمع الكثير، وجَمْعه دَجَّالُونَ. انتهى

(2)

.

(قَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ) وخَصّ الدجال؛ لأنه أكبر الفتن، حيث يجرّ إلى الكفر المفضي إلى العذاب المخلد، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7185](2867)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 190)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(10/ 185)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(4785)، و (ابن حبّان)

(3)

في "صحيحه"(1000)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السُّنَّة"(6/ 1130)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 965)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(2/ 421)، و (أبو بكر الشيباني) في "الآحاد والمثاني"(4/ 90)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1361)، والله تعالى أعلم.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 593.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 189 - 190.

(3)

لكنه أسقط زيد بن ثابت من السند، فتنبّه.

ص: 98

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن الصحابيّ، وإن كان كثير الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، إلا أنه يغيب أحيانًا فيروي عمن حضر من الصحابة رضي الله عنهم.

2 -

(ومنها): بيان عَلَم من أعلام النبوّة الظاهرة، والمعجزة الباهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث إن الله سبحانه وتعالى يُطلعه على مغيّباته مما يكون في الدار الآخرة، وفي البرزخ، وما سلف في الأمم الماضية.

3 -

(ومنها): أن فيه إثبات عذاب القبر، وأن هذه الأمة تبتلى في قبورها.

4 -

(ومنها): بيان فضل الله العظيم، حيث حجب الثقلين من سماع ما يلقاه الموتى في قبورهم، ولولا ذلك لَمَا تدافنوا.

5 -

(ومنها): بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث ترك دعاء ربه كي يسمع الأمة بفتن القبر؛ لئلا يتركوا التدافن، وهذا مصداق قوله عز وجل:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، وقوله:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128].

6 -

(ومنها): الأمر بالتعوّذ من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ومن الفتن ما ظهر منها، وما بطن، ومن فتنة الدجال، اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من عذاب النار، ومن عذاب القبر، ونعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، ونعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، إنك سميع الدعاء، برحمتك يا أرحم الراحمين، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7186]

(2868) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب الماضي، وقبل بابين، سوى أنس بن مالك رضي الله عنه، فتقدّم قبل ثلاثة أبواب، وشرح الحديث يُعلم مما مضى.

ص: 99

وقوله: (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) يَحْتمل أن تكون "من" للتبعيض؛ أي: بعض عذابه، ويَحْتَمل أن تكون زائدة على مذهب من يرى زيادتها في الإثبات، وهو الأخفش، وجعل منه قوله تعالى:{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31].

[تنبيه]: هذا الحديث اختصره المصنّف هنا، وقد ساقه النسائيّ رحمه الله في "الكبرى" وفيه قصّة، فقال:

(2185)

- أنبأ سويد بن نصر، عن عبد الله، عن حميد، عن أنس، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع صوتًا من قبر، فقال:"متى مات هذا؟ " قالوا: مات في الجاهلية، فسُرّ بذلك، وقال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم عذاب القبر". انتهى

(1)

.

وفي رواية لأحمد: عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على بغلة شهباء، فمَرّ على حائط لبني النجار، فإذا هو بقبر يعذب صاحبه، فحامت البغلة، فقال:"لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر". انتهى

(2)

.

وفي رواية لابن حبّان عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل حائطًا من حوائط بني النجار، فسمع صوتًا من قبر، قال:"متى دُفن صاحب هذا القبر؟ " فقالوا: في الجاهلية، فَسُرّ بذلك، وقال:"لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر". انتهى

(3)

.

وفي رواية الطبريّ عن قاسم الرحال، سمع أنسًا، دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم خَرِبة لبني النجار، كأنه يقضي فيها حاجة، فخرج إلينا، وهو كأنه مذعور، وهو يقول:"لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب أهل القبور ما أسمعني". انتهى

(4)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"السنن الكبرى" 1/ 661 وكذا في "المجتبى" 4/ 102.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 153.

(3)

"صحيح ابن حبان" 7/ 396.

(4)

"تهذيب الآثار" 3/ 603،

ص: 100

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7186](2868)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2058) وفي "الكبرى"(2185)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 103 و 175 و 201 و 284) وفي "السُّنَّة"(1345 و 1347 و 1351)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7/ 396 و 401)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 360)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 603)، و (الطحاويّ) في "شرح معاني الآثار"(3/ 272)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5/ 353)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 354)، و (البيهقيّ) في "إثبات عذاب القبر"(90 و 91)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة) ((1526)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7187]

(2869) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ (ح) وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، جَمِيعًا عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنِي عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِي أيُّوبَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ:"يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا").

رجال هذه الأسانيد: أربعة عشر:

1 -

(عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ) السُّوائيّ -بضم السين المهملة، والمدّ- الكوفيّ، ثقة [4](ت 116)(ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.

2 -

(أَبُوهُ) وهب بن عبد الله السوائيّ، ويقال: اسم أبيه وهب أيضًا، مشهور بكنيته، ويقال له: وهب الخير، صحابيّ معروف، وصَحِب عليًّا رضي الله عنه، ومات رضي الله عنه سنة أربع وسبعين (ع) تقدم في "الصلاة" 48/ 1124.

3 -

(أَبُو أَيُّوبَ) خالد بن زيد بن كُليب الأنصاريّ، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، ونزل النبيّ صلى الله عليه وسلم حين قَدِم المدينة عليه، ومات رضي الله عنه غازيًا الروم سنة خمسين، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 113.

والباقون كلّهم تقدّموا قريبًا.

ص: 101

[تنبيه]: من لطائف هذه الأسانيد:

أنها من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم روى بعضهم عن بعض، وفيه رواية الراوي عن أبيه مرتين، وأن شيخيه: ابن المثنّى، وابن بشار من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة.

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ) بن عازب رضي الله عنهما (عَنْ أَبِي أيُّوبَ) خالد بن زيد الأنصاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَمَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ) ولفظ البخاريّ: "وقد وجبت الشمس"، وهو بمعنى غربت. (فَسَمِعَ صَوْتًا) قال في "الفتح": قيل: يَحْتَمِل أن يكون صوت ملائكة العذاب، أو صوت اليهود المعذّبين، أو صوت وَقع العذاب. قال الحافظ رحمه الله: وقد وقع عند الطبرانيّ، من طريق عبد الجبّار بن العبّاس، عن عون، مفسّرًا، ولفظه:"خرجتُ مع النبيّ صلى الله عليه وسلم حين غربت الشمس، ومعي كوز، من ماء، فانطلق لحاجته، حتى جاء، فوضّأته، فقال: "أتسمع ما أسمع؟ "، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "أسمع أصوات اليهود، يعذّبون في قبورهم". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَهُودُ تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا")"يهود" خبر لمحذوف؛ أي: هذه يهود، والجملة الفعلية في محل نصب على الحال، أو "يهود" مبتدأ، والجملة بعده خبره.

قال الجوهريّ: اليهود قبيلة، والأصل اليهوديّون، فحذفت ياء الإضافة، مثل زنج، وزنجيّ، ثم عُرِّفَ على هذا الحدّ، فجُمع على قياس شعير وشعيرة، ثم عُرِّفَ الجمع بالألف واللام، ولولا ذلك لم يَجُز دخول الألف واللام؛ لأنه معرفة مؤنث، فجرى مجرى القبيلة، وهو غير منصرف للعَلَمية والتأنيث. انتهى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(1)

"الفتح" 3/ 611.

ص: 102

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7187](2869)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1375)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2059) وفي "الكبرى"(2186)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 417 و 419)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(224)، و (هناد بن السريّ) في "الزهد"(1/ 213)، و (تمام الرازيّ) في "فوائده"(2/ 64)، و (أبو بكر الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(3/ 440)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 359) و"إثبات عذاب القبر"(1/ 72)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7188]

(2870) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ"، قَالَ: "يَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ "، قَالَ: "فَأَمّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ"، قَالَ: "فَيُقَالُ لَهُ: انْظُر إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ"، قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا"، قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل ثلاثة أبواب، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيه.

شرح الحديث:

(عنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ) بالبناء للمفعول.

ووقع في رواية البخاريّ بلفظ: "إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولّى عنه أصحابه، إنه يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان. . .".

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "إذا وُضع" شرط، جوابه قوله:"أتاه"، والجملة خبر "إنّ"، وقوله:"إنه ليسمع قرع نعالهم" إما حال بحذف الواو، كأحد

ص: 103

الوجهين في قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]؛ أي: ووجوههم، على أن الرؤية بمعنى الإبصار، ونحو كلّمته فوه إلى فيّ، أو يكون جوابًا للشرط على إضمار الفاء، فيكون "أتاه" حالًا من فاعل "ليسمع"، و"قد" مقدّرة، ويَحْتَمِل أن تكون "إذا" ظرفًا مجرّدًا، وقوله:"إنه" تأكيد لقوله "إن العبد"، كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف: 30] في أحد الوجهين. انتهى

(1)

.

(فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ) وفي رواية للبخاريّ: "وإنه ليسمع قرع نعالهم" بالواو. (قَرْعَ نِعَالِهِمْ")"القرع" بفتح القاف، وسكون الراء: هو الدقّ، و"النعال" بكسر النون، جمع نعل؛ أي: يسمع صوت دقها، وفيه دلالة على حياة الميت في القبر؛ لأن الإحساس بدون الحياة ممتنع عادة. وفيه دليل على جواز المشي بالنعال في القبور؛ لكونه صلى الله عليه وسلم قاله، وأقرّه، فلو كان مكروهًا لبيَّنه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد: سماعه إياها بعد أن يجاوزوا المقبرة. قال الشوكانيّ رحمه الله: سماع الميت خفق النعال لا يستلزم المشي على قبر، أو بين القبور. انتهى.

وأيضًا يجوز أنه صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك على عادات الناس، فلا يلزم من هذه الحكاية من غير إنكار تقرير مشيهم بها.

ويدل على الكراهة حديث الأمر بإلقاء السبتيتين للماشي بين القبور عند أبي داود، والنسائيّ، وابن ماجه، لكن يَحْتَمِل أن أمْره بالخلع كان لِقَذَر بهما، كما قال الطحاويّ، أو لاختياله في مشيه كما قال الخطابيّ، لا لكون المشي بين القبور بالنعال مكروهًا، ولا يتم الاستدلال به على الكراهة إلا إذا قيل: إن الأمر بالخلع كان احترامًا للمقابر.

ومال النسائي إلى الجمع بين الحديثين بحمل حديث أنس هذا على غير السبتيتين، والكراهة إنما هي في النعال السبتية، واختاره ابن حزم.

قال صاحب "المرعاة": قلت: حديث أنس يدل بإطلاقه على جواز المشي بين القبور في النعال السبتيتين وغيرها؛ لعدم الفارق بينها وبين غيرها،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 588.

ص: 104

واحتمال كون المراد سماعه إياها بعد مجاوزتهم المقبرة بعيد جدًّا، وكذا حَمْله على عادات الناس أيضًا بعيد خلاف الظاهر، وأما حديث السبتيتين، فلا يتم الاستدلال به إلا على بعض الوجوه كما تقدم، وأيضًا حديث أنس أرجح منه فيقدم عليه، وأيضًا هو قضية شخصية معيَّنة تَحْتَمِل الخصوص، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت البحث في هذه المسألة في "شرح النسائيّ"، ورجحت القول بمنع المشي بين القبور بالنعال مطلقًا، فراجعه

(2)

تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

(قَال) صلى الله عليه وسلم: ("يَأْتِيهِ مَلَكَانِ) وفي رواية البخاريّ: "أتاه ملكان"، زاد ابن حبان، والترمذيّ، من طريق سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أسودان، أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير، وفي رواية ابن حبّان:"يقال لهما: منكر ونكير"، زاد الطبرانيّ في "الأوسط" من طريق أخرى، عن أبي هريرة: "أعيُنهما مِثْل قِدْر النحاس، وأنيابهما مثل صياصي

(3)

البقر، وأصواتهما، مثل الرعد"، ونحوه لعبد الرزاق، من مرسل عمرو بن دينار، وزاد: "يحفران بأنيابهما، ويطآن في أشعارهما، معهما مِرْزبة، لو اجتمع عليها أهل منى لم يُقلّوها". وأورد ابن الجوزيّ في "الموضوعات" حديثًا، فيه: "أن فيهم رومان، وهو كبيرهم".

وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذَيْن يسألان المذنب: منكر ونكير، وأن اسم اللذَينِ يسألان المطيع: مبشّر وبشير

(4)

.

قال الجامع عفا الله عنه: لم يصحّ دليل على غير منكر، ونكير، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَيُقْعِدَانِهِ) بضم الياء، من الإقعاد، زاد في حديث البراء: "فتعاد روحه

(1)

"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 1/ 531.

(2)

راجع: "ذخيرة العقبى في شرح المجتبى" 20/ 75 - 76.

(3)

جمع صيصة بالكسر، وهو قرن البقر، والظباء. اهـ. "ق".

(4)

راجع: "الفتح" 3/ 606، "كتاب الجنائز".

ص: 105

في جسده"، وزاد ابن حبّان من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "فإذا كان مؤمنًا، كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه، والصوم عن شماله، وفِعل المعروف من قِبَل رجليه، فيقال له: اجلس، فيجلس، وقد مُثّلت له الشمس عند الغروب"، زاد ابن ماجه، من حديث البراء: "فيجلس، فيمسح عينيه، ويقول: دعوني أصلي".

[تنبيه]: قوله: "فَيُقْعِدَانِهِ"، وفي حديث البراء:"فيجلسانه"، قال التوربشتيّ رحمه الله: هذا اللفظ أَولى اللفظين بالاختيار؛ لأن الفصحاء إنما يستعملون القعود في مقابلة القيام، فيقولون: القيام والقعود، لا نسمعهم يقولون: القيام والجلوس، يقال: قعد الرجل عن قيامه، وجلس عن اضطجاعه، واستلقائه.

وحَكَى النضر بن شُميل أنه دخل على المأمون عند مقدمه مَرْوَ، فمَثَلَ بين يديه، وسلّم، فقال له المأمون: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين لست بمضطجع، فأجلس، فقال: كيف أقول؟ قال: قل: اقعُد.

فعلى هذا المختارُ من بين الروايتين هو الإجلاس؛ لِمَا أشرنا إليه من دقيق المعنى، وفصيح الكلام، وهو الأحقّ، والأجدر ببلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلّ من روى:"فيُقعدانه" ظنّ أن اللفظين ينزلان من المعنى بمنزلة واحدة، ومن هذا الوجه أنكر كثير من السلف رواية الحديث بالمعنى؛ خشية أن يزِلّ في الألفاظ المشترَكة، فيذهب عن المراد جانبًا.

قال الطيبيّ: أقول: لا ارتياب أن الجلوس والقعود مترادفان، وأن استعمال القعود مع القيام، والجلوس مع الاضطجاع مناسبة لفظيّة، ونحن نقول بموجبه إذا كانا مذكورين، كقوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)} [يونس: 12]، ولا نقول: إذا لم يكن أحدهما مذكورًا كان كذلك، ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام:"حتى جلس إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم" بعد قوله: "إذ طلع علينا"، ولا خفاء أنه عليه السلام لم يضطجع بعد الطلوع عليهم، وكذلك لم يرِد في هذا الحديث الاضطجاع ليوجب أن يذكر معه الجلوس، وأما الترجيح بما رواه عن النضر، وهو من رواة العربيّة على

ص: 106

رواية الشيخين الثقتين، فبعيد عن مثله، وهو من مشاهير المحدّثين. انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد حقّق المسألة الفيّوميّ رحمه الله فقال: الجُلُوسُ غير القعود، فإن الجُلُوسَ هو الانتقال من سُفْل إلى عُلْوٍ، والقعود هو الانتقال من عُلْوِ إلى سُفْل، فعلى الأول يقال لمن هو نائم، أو ساجد: اجْلِسْ، وعلى الثاني يقال لمن هو قائم: اقْعُدْ، وقد يكون جَلَس بمعنى قعد، يقال: جَلَسَ متربعًا، وقَعَدَ متربعًا، وقد يفارقه، ومنه جَلَس بين شعَبها؛ أي: حَصَل، وتمكن؛ إذ لا يسمى هذا قعودًا، فإن الرجل حينئذ يكون معتمدًا على أعضائه الأربع، ويقال: جَلَسَ متكئًا، ولا يقال: قَعَدَ متكئًا، بمعنى الاعتماد على أحد الجانبين، وقال الفارابيّ، وجماعة: الجُلُوسُ نقيض القيام، فهو أعمّ من القعود، وقد يستعملان بمعنى الكون والحصول، فيكونان بمعنى واحد، ومنه يقال: جَلَسَ متربعًا، وجَلَسَ بين شُعَبها؛ أي: حصل، وتمكّن. انتهى كلام الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

فتحصّل من هذا أنه يجوز استعمال الجلوس مكان القعود، والعكس، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَيَقُولَانِ)؛ أي: الملَكان (لَهُ)؛ أي: لهذا الميت الموضوع في القبر، (مَا كُنْتَ تَقُولُ، فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ ")؛ أي: في الرجل المشهور بين أظهركم، ولا يلزم منه الحضور، وتركهما ما يشعر بالتعظيم؛ لئلا يصير تلقينًا، وهو لا يناسب موضع الاختبار. قاله السنديّ. زاد في رواية:"محمد صلى الله عليه وسلم"، وزاد أبو داود في أوله:"ما كنتَ تعبد؟، فإنْ هداه الله، قال: كنت أعبد الله، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ "، ولأحمد من حديث عائشة رضي الله عنهما:"ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ".

ووقع في رواية البخاريّ: "ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم"، قال في "المرعاة": قوله: "في هذا الرجل"؛ أي: في شأنه، واللام للعهد

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 2/ 588 - 589.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 105.

ص: 107

الذهنيّ، وقوله:"لمحمد صلى الله عليه وسلم " بيان من الراوي للرجل؛ أي: لأجل محمد صلى الله عليه وسلم. قال الطيبيّ رحمه الله: دعاؤه بالرجل من كلام الملك، فعبَّر بهذه العبارة التي ليس فيها تعظيم امتحانًا للمسؤول؛ لئلا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل، ثم يثبّت الله الذين آمنوا. انتهى.

ولا يلزم من الإشارة ما قيل من رَفْع الحُجُب بين الميت وبينه صلى الله عليه وسلم حتى يراه، ويُسأل عنه؛ لأن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال، على أنه مقام امتحان، وعدم رؤية شخصه الكريم أقوى في الامتحان، ولا ما تفوّه به بعض الجهلة من أنه صلى الله عليه وسلم يحضر الميت في قبره بجسده وروحه؛ لأن الإشارة بـ "هذا" للحاضر في الذهن، كما في "تنوير الحوالك" للسيوطيّ، فإن الإشارة كما تكون للحاضر في الخارج كذلك تكون للحاضر في الذهن أيضًا، ويدل على بطلان القولين، وعلى كون الإشارة هنا إلى الموجود الحاضر في الذهن رواية أحمد، والطبراني بلفظ:"ما تقول في هذا الرجل؟ قال: من؟ قال: محمد، فيقول. . . إلخ"، فإنه لو كُشف صلى الله عليه وسلم للميت، أو حضره في القبر لَمَا احتاج إلى السؤال بقوله:"من" "فتأمل.

قال الجامع عفا الله عنه: ومثل ما أنكره صاحب "المرعاة" من رفع الحجاب، أو ما تفوّه به بعض الجهلة ما وقع لبعض المتصوفة وأهل الخرافة من أنه صلى الله عليه وسلم ملأ الكون كلّه بروحه وجسده، فلهذا جازت الإشارة إليه بقوله:"ما تقول في هذا الرجل؟ "، فكلّ هذا مما لم يُنزل الله عز وجل به سلطانًا، ومن التقوّل على الله بلا علم، فمنزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم رفيعة فوق هذا كلّه، ولكن لا يجوز لمسلم أن يَنسب إليه ما لم يُنقل عنه نصًّا في كتاب الله سبحانه وتعالى، أو في سننه الصحيحة، فتنبّه أيها العاقل، ولا تغترّ بمزاعم هؤلاء الجهلة، وأهل الخرافة، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم ("فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ)؛ أي: في جوابه لهما مع اعترافه بالتوحيد، كما في حديث البراء وغيره. (أَشْهَدُ أنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ") ولأحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه:"فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقال له: صدقت". زاد أبو داود: "فلا يسألانه عن شيء غيرهما"، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما في "الصحيحين": "فأما

ص: 108

المؤمن، أو الموقن، فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا، وآمنّا، واتبعنا، فيقال له: نَمْ صالحًا". وفي حديث أبي سعيد، عند سعيد بن منصور: "فيقال له: نَمْ نَوْمة العروس، فيكون في أحلى نومة نامها أحد، حتى يُبعث". وللترمذيّ في حديث أبي هريرة:"ويقال له: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبّ أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك". ولابن حبّان، وابن ماجه، من حديث أبي هريرة، وأحمد من حديث عائشة:"ويقال له: على اليقين كنت، وعليه متّ، وعليه تُبعث إن شاء الله".

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("فَيُقَالُ لَهُ)؛ أي: على لسان الملَكين، (انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ) لو لم تكن مؤمنًا ولم تُجب الملَكين، (قَدْ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ)؛ أي: بمقعدك هذا (مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ") وفي رواية أبي داود: "فيقال له: هذا بيتك كان في النار، ولكن الله عز وجل عصمك، ورحمك، فأبدلك به بيتًا في الجنّة، فيقول: دعوني حتى أذهب، فأبشّر أهلي، فيقال له: اسكت". وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: "كان هذا منزلك لو كفرت بربك". ولابن ماجه من حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح: "فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فتُفرَج له فرجة قِبَل النار، فينظر إليها، يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر ما وقاك الله". وفي رواية للبخاريّ عن أبي هريرة: "لا يدخل أحد الجنة إلا أُري مقعده من النار، لو أساء؛ ليزداد شكرًا"، وذكر عكسه.

(قَالَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَيَرَاهُمَا)؛ أي: المقعدين، (جَمِيعًا") ليزداد فرحه.

وقوله: (قَالَ قَتَادَةُ) بن دِعامة: (وَذُكِرَ لَنَا) بالبناء للمفعول، لم يذكر من ذكر له، (أنَّهُ) بفتح الهمزة؛ لوقوعه نائب فاعل لـ"ذُكر"، (يُفْسَحُ لَهُ) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: يوسّع لذلك الميت (فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا) وفي حديث البراء رضي الله عنه عند أحمد: "ويفسح له في قبره مدّ بصره"، (وَيُمْلأُ) بالبناء للمفعول أيضًا، (عَلَيْهِ خَضِرًا) قال النوويّ رحمه الله:"الخضر" ضبطوه بوجهين: أصحهما بفتح الخاء، وكسر الضاد، والثاني: بضم الخاء، وفتح الضاد، والأول أشهر، ومعناه: يُملأ نِعَمًا غضّةً، ناعمة، واصلة من خضرة الشجر، هكذا فسَّروه، قال القاضي: يَحْتَمِل أن يكون هذا الفسح له على ظاهره، وأنه يُرفع عن بصره ما يجاوره من الحُجُب الكثيفة، بحيث لا تناله ظلمة القبر، ولا ضيقة إذا رُدت إليه

ص: 109

روحه، قال: ويَحْتَمِل أن يكون على ضَرْب المَثَل، والاستعارة للرحمة، والنعيم، كما يقال: سقى الله قبره، والاحتمال الأول أصحّ، والله أعلم. انتهى

(1)

.

وفي رواية أحمد بعد ذكر السؤال والجواب: "فينادي منادٍ في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها، وطيبها، ويُفسح له في قبره مَدَّ بصره، قال: ويأتيه رجل حَسَن الوجه، حَسَن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلى ومالي".

وقوله: (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)؛ أي: هذا النعيم مستمرّ، لا ينقطع إلى اليوم الذي يُبعث فيه الخلائق، وهو يوم القيامة، فقوله:"إلى يوم" يجوز في "يوم" الجرّ بالكسرة، والبناء على الفتح؛ لأنه مضاف إلى جملة فعليّة معربة، فيجوز فيه الوجهان، والإعراب أرجح، وإلى هذا أشار ابن مالك-رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَـ "إِذْ" قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوِّ فِعْلٍ بُنِيَا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

وقد ذكر البخاريّ قول قتادة هذا مختصرًا، ولفظه:"قال قتادة: وذُكر لنا أنه يُفسح له في قبره"، قال في "الفتح": زاد مسلم من طريق شيبان، عن قتادة:"سبعون ذراعًا، ويُملأ خضرًا إلى يوم يبعثون". قال الحافظ: ولم أقف على هذه الزيادة موصولة من حديث قتادة. وفي حديث أبي سعيد، من وجه آخر عند أحمد:"ويُفسح له في قبره". وللترمذيّ، وابن حبان من حديث أبي هريرة:"فيُفسح له في قبره سبعين ذراعًا"، زاد ابن حبان:"في سبعين ذراعًا". وله من وجه آخر عن أبي هريرة: "ويرحَّب له في قبره سبعون ذراعًا، وينوّر له كالقمر ليلة البدر". وفي حديث البراء الطويل: "فينادي منادٍ من السماء: أن

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 203 - 204.

ص: 110

صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا في الجنة، وألبسوه من الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها، وطيبها، ويُفسح له فيها مدّ بصره". زاد ابن حبان من وجه آخر، عن أبي هريرة: "فيزداد غِبْطةً وسرورًا، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه، وتُجعل روحه في نَسَم طائر يَعْلُقُ في شجر الجنّة". وعند النسائيّ من حديث كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إنما نسمة المؤمن طائر في شجر الجنة، حتى يبعثه الله عز وجل إلى جسده يوم القيامة". وفي "صحيح مسلم" من حديث، ابن مسعود رضي الله عنه:"أرواح الشهداء في جوف طير خُضْر، لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. . ." الحديث، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: تكلّم الحافظ رشيد الدين ابن العطّار في قول قتادة المذكور، فقال في "غرره": أورده مسلم في أواخر الكتاب من حديث شيبان بن عبد الرحمن، عن قتادة، عن أنس قال: قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع قرع نعالهم. . ." الحديث، وفي آخره:"قال قتادة: وذُكر لنا أنه يُفسح له في قبره سبعون ذراعًا، ويُملأ عليه خَضِرًا إلى يوم يبعثون".

قال العطّار: وهذا حديث انفرد به مسلم من هذا الوجه دون البخاريّ، وأخرجه النسائي في "سننه" من هذا الوجه، ولم يذكر هذه الزيادة، وقد أخرج البخاريّ هذا الحديث من وجه آخر، عن قتادة، عن أنس، فذكره أَتَمَّ من حديث شيبان، عن قتادة، ولم يذكر فيه هذه الزيادة كلها، غير أنه قال فيه:"قال قتادة: وذُكر لنا أنه يُفسح له في قبره" فقط، وأخرجه مسلم أيضًا من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، مختصرًا، ولم يذكر فيه هذه الزيادة أيضًا، والله عز وجل أعلم، ولا أعلم الآن من أسندها، وإنما أوردها مسلم جريًا على عادته في ترك الاختصار من الحديث، وإيراده إياه كاملًا كما سمعه،

ص: 111

والله عز وجل أعلم. انتهى كلام الرشيد العطار رحمه الله

(1)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7188 و 7189 و 7190](2870)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1338 و 1374)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3231)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2051 و 2049 و 2050) وفي "الكبرى"(2176 و 2177 و 2178) و (أحمد) في "مسنده"(3/ 126) وفي "السّنّة"(1388)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(1/ 356)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(3120)، و (الآجريّ) في "الشريعة"(ص 365)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السّنّة"(6/ 1131)، و (ابن مسنده) في "الإيمان"(2/ 366)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(2/ 416)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 80) و"إثبات عذاب القبر"(13 و 14 و 15)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1522)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): (اعلم): أن المصنّف رحمه الله اختصر حديث أنس رضي الله عنه هذا على ذِكر ما يتعلّق بالمؤمن فقط، وتَرْك ما يتعلّق بالكافر، وقد ساقه البخاريّ مطوّلًا، فقال:

(1374)

- حدّثنا عيّاش بن الوليد، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه حدّثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملَكان، فيُقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن، فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا -قال قتادة: وذُكر لنا أنه يُفسح في قبره- ثم رجع إلى حديث أنس قال: وأما المنافق، والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دَرَيتَ، ولا تَلَيتَ، ويُضرب بمطارق من حديد ضربةً، فيصبح صيحة، يسمعها مَن يليه غير الثقلين". انتهى

(2)

.

(1)

"غرر الفوائد" 1/ 298 - 299، وتقدّم في "شرح المقدّمة" 1/ 131.

(2)

"صحيح البخاريّ" 1/ 462.

ص: 112

قال الجامع عفا الله عنه: أما ما يتعلّق بالجزء الأول، فقد مضى شرحه في سياق المصنّف، فلنشرح ما يتعلّق بالجزء الثاني، فنقول:

قوله: "وأما المنافق، والكافر" كذا في هذه الطريق بواو العطف، وتقدم بلفظ:"وأما الكافر، أو المنافق" بالشكّ، وفي رواية أبي داود:"وأن الكافر إذا وُضع" وكذا لابن حبان من حديث أبي هريرة، وكذا في حديث البراء الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد:"وإن كان كافرًا، أو منافقًا" بالشك، وله في حديث أسماء:"فإن كان فاجرًا، أو كافرًا"، وفي "الصحيحين" من حديثها:"وأما المنافق، أو المرتاب"، وفي حديث جابر عند عبد الرزاق، وحديث أبي هريرة عند الترمذيّ:"وأما المنافق"، وفي حديث عائشة عند أحمد، وأبي هريرة عند ابن ماجه:"وأما الرجل السوء"، وللطبرانيّ من حديث أبي هريرة:"وإن كان من أهل الشك".

قال الحافظ رحمه الله: فاختلفت هذه الروايات لفظًا، وهي مجتمعة على أن كلًّا من الكافر والمنافق يُسأل، ففيه تعقُّب على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدّعي الإيمان، إن مُحقًّا وإن مبطلًا، ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق، من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين، قال:"إنما يُفتن رجلان: مؤمن، ومنافق، وأما الكافر فلا يُسأل عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه"، وهذا موقوف، والأحاديث الناصّة على أن الكافر يُسأل مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة، فهي أَولى بالقبول، وجزم الترمذيّ الحكيم بأن الكافر يُسأل، واختُلف في الطفل غير المميِّز، فجزم القرطبيّ في "التذكرة" بأنه يُسأل، وهو منقول عن الحنفية، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يُسأل، ومن ثَمَّ قالوا: لا يستحب أن يُلَقَّن، واختُلف أيضًا في النبيّ هل يُسأل؟ وأما الملَك فلا أعرف أحدًا ذَكَره، والذي يظهر أنه لا يُسأل؛ لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يُفتن.

وقد مال ابن عبد البرّ إلى الأول، وقال: الآثار تدلّ على أن الفتنة لمن كان منسوبًا إلى أهل القبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يُسأل عن دينه.

وتعقبه ابن القيم في "كتاب الروح"، وقال: في الكتاب والسُّنَّة دليل على أن السؤال، للكافر والمسلم، قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، وفي

ص: 113

حديث أنس في البخاريّ: "وأما المنافق والكافر" بواو العطف، وفي حديث أبي، سعيد:"فإن كان مؤمنًا. . ." فذكره، وفيه:"وإن كان كافرًا. . ."، وفي حديث البراء:"وإن الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا. . ." فذكره، وفيه:"فيأتيه منكر ونكير. . ." الحديث، أخرجه أحمد، هكذا قال.

وأما قول أبي عمر: فأما الكافر الجاحد فليس ممن يُسأل عن دينه، فجوابه أنه نفي بلا دليل، بل في الكتاب العزيز الدلالة على أن الكافر يُسأل عن دينه، قال الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، وقال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحجر: 92]، لكن للنافي أن يقول: إن هذا السؤال يكون يوم القيامة

(1)

.

قوله: "فيقول: لا أدري"، في رواية أبي داود المذكورة:"وإن الكافر إذا وُضع في قبره أتاه ملك، فينتهره، فيقول له: ما كنت تعبد؟ "، وفي أكثر الأحاديث:"فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ "، وفي حديث البراء:"فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري"، وهو أتمّ الأحاديث سياقًا.

قوله: "كنت أقول ما يقول الناس"، في حديث أسماء:"سمعت الناس يقولون شيئًا، فقلته"، وكذا في أكثر الأحاديث.

قوله: "لا دريت، ولا تليت" كذا في أكثر الروايات بمثناة مفتوحة، بعدها لام مفتوحة، وتحتانية ساكنة، قال ثعلب: قوله: "تليت" أصله تلوت؛ أي: لا فهمت، ولا قرأت القرآن، والمعنى: لا دريت، ولا اتّبعت من يدري، وإنما قال، بالياء لمواخاة "دريت"، وقال ابن السكيت: قوله: "تليت" إتباع، ولا معنى لها، وقيل: صوابه: ولا ائتليت بزيادة همزتين قبل المثناة، بوزن افتعلت، من قولهم: ما ألوت؛ أي: ما استطعت، حُكي ذلك عن الأصمعيّ، وبه جزم الخطابيّ، وقال الفراء: أي: قصّرت، كأنه قيل له: لا دريت، ولا قصّرت في طلب الدراية، ثم أنت لا تدري، وقال الأزهريّ: الألو يكون بمعنى الجهد،

(1)

"الفتح" 4/ 166 - 167، "كتاب الجنائز" رقم (1374).

ص: 114

وبمعنى التقصير، وبمعنى الاستطاعة، وحكى ابن قتيبة عن يونس بن حبيب أن صواب الرواية: لا دريت، ولا أَتْليت، بزيادة ألف، وتسكين المثناة، كأنه يدعو عليه بأن لا يكون له من يتبعه، وهو من الإتلاء، يقال: ما أَتْلت إبله؛ أي: لم تلد أولادًا يتبعونها، وقال: قول الأصمعيّ أشبه بالمعنى؛ أي: لا دريت، ولا استطعت أن تدري.

ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد: "لا دريت، ولا اهتديت"، وفي مرسل عبيد بن عمير، عند عبد الرزاق:"لا دريت، ولا أفلحت".

قوله: "بمطارق من حديد ضربة" تقدم في باب خفق النعال بلفظ: "بمطرقة" على الإفراد، وكذا هو في معظم الأحاديث، قال الكرمانيّ: الجمع مُؤذِن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغةً. انتهى.

وفي حديث البراء: "لو ضُرب بها جبل لصار ترابًا"، وفي حديث أسماء:"ويسلَّط عليه دابة في قبره معها سوط، ثمرته جمرة، مثل غرب البعير، تضربه ما شاء الله، صمّاء، لا تسمع صوته، فترحمه"، وزاد في أحاديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وعائشة التي أشرنا إليها:"ثم يُفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك، فأما إذ كفرت، فإن الله أبدلك هذا، ويُفتح له باب إلى النار"، زاد في حديث أبي هريرة:"فيزداد حسرةً وثبورًا، ويضيق عليه قبره، حتى تختلف أضلاعه"، وفي حديث البراء:"فينادي مناد من السماء: أفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرّها وسمومها".

قوله: "من يليه" قال المهلب: المراد: الملائكة الذين يلون فتنته، كذا قال، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة، فقد ثبت أن البهائم تسمعه، وفي حديث البراء:"يسمعه مَن بين المشرق والمغرب"، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد:"يسمعه خلق الله كلهم غير الثَّقلين"، وهذا يدخل فيه الحيوان، والجماد، لكن يمكن أن يُخَصّ منه الجماد، ويؤيده أن في حديث أبي هريرة، عند البزار:"يسمعه كل دابة إلا الثقلين"، والمراد بالثقلين: الإنس والجن، قيل لهم ذلك؛ لأنهم كالثِّقَل على وجه الأرض.

قال المهلب: الحكمة في أن الله يُسمع الجن قول الميت: "قدّموني"،

ص: 115

ولا يُسمعهم صوته إذا عُذّب بأن كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا، وصوته إذا عُذب في القبر متعلق بأحكام الآخرة، وقد أخفى الله على المكلفين أحوال الآخرة، إلا من شاء الله؛ إبقاءً عليهم، كما تقدم.

وقد جاء في عذاب القبر غير هذه الأحاديث منها عن أبي هريرة، وابن عباس، وأبي أيوب، وسعد، وزيد بن أرقم، وأم خالد، في "الصحيحين"، أو أحدهما، وعن جابر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند ابن مردويه، وعمر، وعبد الرحمن ابن حسنة، وعبد الله بن عمرو، عند أبي داود، وابن مسعود، عند الطحاويّ، وأبي بكرة، وأسماء بنت يزيد، عند النسائيّ، وأم مبشر، عند ابن أبي شيبة، وعن غيرهم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(المسألة الرابعة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات سماع الميت قرع نعال من يدفنه، إذا انصرفوا من دفنه.

2 -

(ومنها): إثبات سؤال المؤمن في القبر، وهذا مما لا خلاف فيه.

3 -

(ومنها): إثبات سؤال الكافر في القبر، وهذا القول هو الراجح، كما تقدم قريبًا.

4 -

(ومنها): أن الذي يَسأل في القبر ملَكان، اسم أحدهما منكر، واسم الآخر نكير.

5 -

(ومنها): أن سؤال القبر يكون عن التوحيد، ففيه بيان عِظَم شأن التوحيد.

6 -

(ومنها): أن من يُسأل في قبره ينقسم إلى قسمين: مؤمن مخلص موفّق للإجابة، فيُبشَّر برحمة الله، وجنته، وغير مؤمن، فيَضِلّ عن الجواب، فيبشَّر بعذاب الله، وسوء عاقبته، نسأل الله تعالى أن يثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، إنه بعباده لرؤوف رحيم.

7 -

(ومنها): أن فيه ذمّ التقليد في أمور الدين، ولا سيما باب العقائد؛ لمعاقبة من قال:"كنت أسمع الناس، يقولون شيئًا، فقلته"، فالواجب على المكلّف الاتباع، لا التقليد.

(1)

"الفتح" 4/ 168.

ص: 116

وليُعلَم الفرق بين الاتباع والتقليد، فإن الأول الاقتداء عن جزم، ويقين، وهو الذي أمر الله تعالى به من لا يعلم، فقال:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ومن علامته أن المتبع إذا بُيِّنَ له أن العالم الذي أفتاه قد أخطأ في هذه المسألة، يتركه، ويسأل من هو أعلم منه، وما هو الصواب فيها، فيتبعه، ولا يعاند.

وأما التقليد فهو الأخذ بقول الغير، من غير معرفة دليله، بل هو مجرّد اتباع للرأي المحض، سواء أصاب، أو أخطأ، ومن علامته أنه يعتقد أن خطأه أفضل من صواب غيره، بدليل أنه إذا ذُكر له أن مقلّده مخطئ مخالف للنصوص في هذه المسألة لا يتراجع عنه، بل يتمادى، ويعارض النصوص بدعوى أن مُقلَّدَه أعلم من غيره بالنصوص، وهذه هي الطامّة الكبرى التي حلّت بالمسلمين بعد القرون المفضّلة، ومن العجب العُجاب أن ترى هذه الصفة فيمن ينتسب إلى العلم، بل ربما يدّعي معرفة الأحاديث، فإنا لله، وإنا إليه راجعون.

8 -

(ومنها): أن الميت يحيا في قبره للمسألة؛ خلافًا لمن ردّه، واحتجّ بقوله تعالى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11]، قال: فلو كان يحيا في قبره للزم أن يحيا ثلاث مرّات، ويموت ثلاثًا، وهذا خلاف النصّ.

والجواب عنه: أن المراد بالحياة في القبر للمسألة، ليست الحياة المستقرّة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن، وتدبيره، وتصرّفه، وتحتاج إلى ما يحتاج إليه الأحياء، بل هي مجرّد إعادة لفائدة الامتحان، الذي وردت به الأحاديث الصحيحة، فهي إعادة عارضة، كما حيي خلق لكثير من الأنبياء؛ لمسألتهم لهم عن أشياء، ثم عادوا موتى، والله تعالى أعلم.

(المسألة الخامسة): قال في "الفتح" ما حاصله: هل تختصّ مسألة القبر بهذه الأمة، أم وقعت على الأمم قبلها؟ ظاهر الأحاديث الأَوّلُ، وبه جزم الحكيم الترمذيّ، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة، تأتيهم الرسل، فإن أطاعوا، فذاك، وإن أبوا اعتزلوهم، وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أُمسك عنهم العذاب، وقُبل الإسلام ممن أظهره، سواء أسرّ الكفر، أو لا، فلما ماتوا قيّض الله لهم، فَتَّاني القبر؛ ليستخرج

ص: 117

سرّهم بالسؤال، وليميّز الله الخبيث من الطيب، ويُثَبِّت الله الذين آمنوا، ويُضلّ الله الظالمين. انتهى. قال الحافظ رحمه الله: ويؤيّده حديث زيد بن ثابت، عند مسلم في هذا الباب مرفوعًا:"إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها. . ." الحديث. ومثله عند أحمد، عن أبي سعيد، في أثناء حديث. ويؤيّده أيضًا قول الملَكين:"ما تقول في هذا الرجل محمدٍ صلى الله عليه وسلم ". وحديث عائشة عند أحمد أيضًا، بلفظ:"وأما فتنة القبر فبي تُفتتنون، وعنّي تسألون".

وجنح ابن القيّم إلى الثاني، وقال: وليس في الأحاديث ما ينفي المسألة عمن تقدّم من الأمم، وإنما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم أمته بكيفية امتحانهم في القبور، لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال: والذي يظهر أن كلّ نبيّ مع أمته كذلك، فتعذّب كفارهم في قبورهم، بعد سؤالهم، وإقامة الحجة عليهم، كما يُعذّبون في الآخرة بعد السؤال، وإقامة الحجة. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: عندي القول الأوّل أرجح؛ لظواهر الأحاديث، وأَمَّا إثباته للأمم السابقة، فيحتاج إلى دليل خاصّ، وأما ثبوت العذاب لهم في القبر، وما بعده، فهذا مما لا يُنكَر، للنصوص الدالة عليه، كقوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46]، لكن لا يلزم منه أن يكون هناك سؤال على الكيفية التي ثبتت لهذه الأمة، كما تقدم بيانه، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7189]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ، إِذَا انْصرَفُوا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ) أبو عبد الله، أو أبو جعفر البصريّ التميميّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 231)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 60/ 336.

ص: 118

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ) بتقديم الزاي، مصغرًا العيشيّ أبو معاوية البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (إِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ) جواب "إذا"، و"الخفق" بفتح الخاء المعجمة، وسكون الفاء؛ أي: صوت نعالهم

(1)

.

وقوله: (إِذَا انْصَرَفُوا)؛ أي: رجعوا من قبره إلى بيوتهم.

والحديث متّفق عليه، وهو مختصر من الحديث الماضي، وقد أخرجه البخاريّ مطوّلًا بهذا السند، من رواية يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة فقال:

(1273)

- حدّثنا عياش، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا سعيد، قال: وقال لي خليفة: حدّثنا ابن زُريع، حدّثنا سعيد، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"العبد إذا وُضع في قبره، وتولّى، وذهب أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملَكان، فأقعداه، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيراهما جميعًا، وأما الكافر، أو المنافق، فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت، ولا تليت، ثم يُضرب بمطرقة من حديد ضربةً بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين". انتهى

(2)

.

[تنبيه]: ترجم البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" على هذا الحديث، فقال:"باب الميت يسمع خَفْق النعال"، قال الزين ابن الْمُنيِّر: جرد البخاريّ ما ضمّنه هذه الترجمة ليجعله أول آداب الدفن من التزام الوقار، واجتناب اللغط، وقرع الأرض بشدّة الوطء عليها، كما يلزم ذلك مع الحيّ النائم، وكأنه اقتطع ما هو من سماع الآدميين من سماع ما هو من الملائكة، وترجم بالخفق ولفظ المتن بالقرع إشارة إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ الخفق، وهو ما رواه أحمد،

(1)

"عون المعبود" 13/ 63.

(2)

"صحيح البخاريّ" 1/ 448.

ص: 119

وأبو داود، من حديث البراء بن عازب

(1)

، في أثناء حديث طويل فيه:"وإنه ليسمع خفق نعالهم". ورَوى إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين"، أخرجه البزار، وابن حبان في "صحيحه" هكذا مختصرًا، وأخرج ابن حبان أيضًا، من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحوه في حديث طويل.

واستُدلّ به على جواز المشي بين القبور بالنعال، ولا دلالة فيه، قال ابن الجوزيّ ليس في الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر، وذلك لا يقتضي إباحة ولا تحريمًا. انتهى.

وإنما استَدَلّ به من استدلّ على الإباحة أخذًا من كونه صلى الله عليه وسلم قاله، وأقره، فلو كان مكروهًا لبيَّنه، لكن يعكر عليه احتمال أن يكون المراد: سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة، ويدل على الكراهة حديث بشير بن الخصاصية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا يمشي بين القبور، وعليه نعلان سبتيتان، فقال: يا صاحب السبتيتين ألق نعليك"، أخرجه أبو داود، والنسائيّ، وصححه الحاكم، وأغرب ابن حزم، فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية، دون غيرها، وهو جمود شديد.

وأما قول الخطابيّ: يشبه أن يكون النهي عنهما لِمَا فيهما من الخُيَلاء، فإنه متعقَّب بأن ابن عمر كان يلبس النعال السبتية، ويقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يلبسها، وهو حديث متّفقٌ عليه.

وقال الطحاويّ: يُحمل نهي الرجل المذكور على أنه كان في نعليه قَذَر، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه ما لم ير فيهما أذى. انتهى

(2)

.

(1)

كذا نقله الحافظ في "الفتح"، وهو من الغرائب، فإن الحديث بهذا اللفظ عند مسلم من حديث كما ترى، فكيف غفل عنه، وعزاه إلى أحمد، وأبي داود من حديث البراء؟!.

(2)

"الفتح" 3/ 206.

ص: 120

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7190]

(. . .) - (حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ -يَعْنِي: ابْنَ عَطَاءٍ- عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شَيْبَانَ، عَنْ قَتَادَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ) بن واقد الكلابيّ، أبو محمد النيسابوريّ، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 238)(خ م س) تقدم في "القسامة" 4/ 4365.

2 -

(عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عطَاءٍ) الخفّاف البصريّ، نزيل بغداد، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شَيْبَانَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سعيد بن أبي عروبة.

[تنبيه]: رواية عبد الوهّاب بن عطاء عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(13471)

- حدّثنا عبد الوهاب، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن العبد إذا وُضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، إنه ليسمع خفق نعالهم، فيأتيه ملَكان، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل -يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم؟ - قال: أما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك في النار، قد أبدلك الله به مقعدًا في الجنة، فيراهما جميعًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7191]

(2871) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 233.

ص: 121

الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:" {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] "، قَالَ:"نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ) -بفتح الميم، وسكون الراء، بعدها مثلثة- الحضرميّ، أبو الحارث الكوفيّ، ثقةٌ [6](ع) 25/ 653.

2 -

(سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ) السُّلَميّ، أبو حمزة الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات في ولاية عمر بن هُبيرة على العراق (ع) 5/ 119.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شبعة، ومَن بعده كوفيون. وأن شيخه أحد مشايخ الأئمة الستة الذين رووا عنهم بلا واسطة، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أنه (قَالَ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} "، قَالَ) تأكيد لـ"قال" الأول، وقوله:{يُثَبِّتُ اللَّهُ} الآية مبتدأ محكيّ، خبره جملة قوله:("نزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ)؛ أي: هذه الآية نزلت في إثبات عذاب القبر؛ أي: في السؤال في القبر، ولمّا كان السؤال يكون سببًا للعذاب في الجملة، ولو في حقّ بعضٍ، عبّر عنه باسم العذاب، فالمراد بالتثبيت في الآخرة: هو تثبيت المؤمن في القبر عند سؤال الملَكين إياه.

ثم بيّن كيفية السؤال، وتثبيت المؤمن عنده بقوله:(فَيُقَالُ لَهُ)؛ أي: للمؤمن المفهوم من قوله: "الذين آمنوا"، (مَن رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "وَدِينِي دِينُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ أي: ويُسأل عن دينه، كما بيّن في رواية أخرى، فيقول: ديني دين محمد صلى الله عليه وسلم. وفي رواية للبخاريّ:

ص: 122

"قال: إذا أُقعِد المؤمن في قبره، أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". (فَذَلِكَ قوْلُهُ عز وجل)؛ أي: هذا الجواب هو معنى قوله عز وجل: ({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} ")؛ يعني: أنه يُوَفّقُه للإجابة المذكورة.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قد اختصر سعد -يعني: ابن عبيدة- وخيثمة -يعني: ابن عبد الرحمن- هذا الحديث جدًّا، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة، فزاد فيه:"إن كان صالحًا وُفّق، وإن كان لا خير فيه، وُجد أَبْلَه"، وفيه اختصار أيضًا، وقد رواه زاذان أبو عمر، عن البراء مطوّلًا، مبيّنًا، أخرجه أصحاب السنن، وصححه أبو عوانة، وغيره، وفيه من الزيادة في أوله:"استعيذوا بالله من عذاب القبر"، وفيه:"فتُردّ روحه في جسده"، وفيه:"فيأتيه ملَكان، فيُجلسانه، فيقولان له: من ربّك؟، فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟، فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يُدريك؟ فيقول: قرأت القرآن، كتابَ الله، فآمنت به، وصدّقت، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} "، وفيه:"وأن الكافر تعاد روحه في جسده، فيأتيه ملَكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربّك؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري. . ." الحديث. انتهى.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: حديث البراء رضي الله عنه الذي أشار إليه أخرجه أحمد رحمه الله في "مسنده" بطوله، فقال:

(18557)

- حدّثنا أبو معاوية، قال: ثنا الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر، ولَمَّا يُلْحَد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلسنا حوله، وكأن على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت في الأرض، فرفع رأسه، فقال:"استعيذوا بالله من عذاب القبر" مرتين، أو ثلاثًا، ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوط من حَنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مَدّ البصر، ثم يجيء ملَك الموت؛

ص: 123

حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل، كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون -يعني بها- على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتح لهم، فيُشَيِّعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملَكان، فيُجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به، وصدقت، فينادي مناد في السماء: أن صَدَق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها، وطيبها، ويُفسح له في قبره مدّ بصره، قال: ويأتيه رجل حَسَن الوجه، حسن الثياب، طيّب الريح، فيقول: أبشر بالذي يَسُرُّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: مَن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سُود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مدّ البصر، ثم يجيء ملَك الموت، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرَّق في جسده، فينتزعها كما يُنتزع السَّفُّود

(1)

من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعوها في

(1)

السَّفُّود كتَنُّور: حديدة يُشْوَى بها. اهـ. "ق".

ص: 124

يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يُنتهَى به إلى السماء الدنيا، فيُستفتح له، فلا يُفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سِجِّين في الأرض السفلى، فتُطرح روحه طرحًا، ثم قرأ:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملَكان، فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كَذَب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرِّها، وسَمومها، ويُضَيَّق عليه قبره، حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشرّ، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تُقِم الساعة". انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7191 و 7192](2871)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1369) و"التفسير"(4699)، و (أبو داود) في "السنّة"(4750)، و (الترمذي) في "التفسير"(3120)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2056 و 2057) وفي "الكبرى"(2183 و 2184)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4323)، و (أحمد)

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 287.

ص: 125

في "مسنده"(4/ 282 و 291)، و (الرويانيّ) في "مسنده"(1/ 268)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 962)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): إثبات عذاب القبر، ووجه ذلك أن الحديث كما تقدم فيه اختصار، وقد تقدم من طريق زاذان، عن البراء مطوّلًا، وفيه تعذيب الكافر عند عدم إجابته عن سؤال الملَكين، ففيه إثبات عذاب القبر، أو من إطلاق السبب على المسبَّب، فإن في رواية النسائيّ إثبات سؤال الملكين، وهو سبب لثبوت العذاب، لكن في بعض المسؤولين دون بعض، والله تعالى أعلم.

2 -

(ومنها): بيان سبب نزول هذه الآية الكريمة.

3 -

(ومنها): إثبات سؤال الملكين لكلّ مقبور.

4 -

(ومنها): رأفة الله تعالى بعباده المؤمنين، حيث يُثَبِّتُهُم عند سؤال الملكين، مع أن جنسهم غير جنس بني آدم، ومع انفراد كلّ مسؤول عمن يستأنس به في مثل ذلك الموقف، وهذا فضل عظيم، ولطف جسيم من الله تعالى لعباده المؤمنين.

5 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أهمية التوحيد، حيث إنه هو المسؤول عنه في أول منزل من منازل الآخرة، فينبغي للعبد أن يخلص في توحيده، ولا يدنسه بالمعاصي، ولا سيما المعاصي التي تؤدي إلى الشرك، وإن كان خفيًّا. نسأل الله تعالى أن يحيينا على التوحيد، وأن يميتنا عليه، ويبعثنا عليه، إنه بعباده لرؤوف رحيم آمين.

(المسألة الرابعة): في أقوال أهل العلم في عذاب القبر:

قال الحافظ وليّ الدين رحمه الله ما حاصله: إثبات عذاب القبر مذهب أهل السُّنَّة، وقد تظاهرت عليه أدلّة الكتاب والسُّنَّة، ولا يمتنع في العقل أن يعيد الله تعالى الحياة في جزء من الجسد، ويعذّبه، وإذا لم يمنعه العقل، وورد به الشرع وجب قبوله، وقد خالف في ذلك الخوارج، ومعظم المعتزلة، وبعض المرجئة، ونفوا ذلك.

ثم المعذَّب عند أهل السنة الجسد بعينه، أو بعضه، بعد إعادة الروح إليه، أو إلى جزء منه، وخالف محمد بن جرير الطبريّ، وعبد الله بن كرام،

ص: 126

وطائفة، فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، قال أصحابنا: وهذا فاسد؛ لأن الألم، والإحساس، إنما يكون في الحيّ، قال أصحابنا: ولا يَمنع من ذلك كون المبيت قد تفرّقت أجزاؤه، كما نشاهد في العادة، أو أكلته السباع، أو حيتان البحر، أو نحو ذلك، فكما أن الله تعالى يُعيده للحشر، وهو عز وجل قادر على ذلك، فكذا يعيد الحياة إلى جزء منه، أو أجزاء، وإن أكلته السباع، والحيتان.

فإن قيل: فنحن نشاهد الميت على حاله في قبره، فكيف يُسأل، ويُقعد، ويُضرَب بمطارق من حديد، ويعذّب، ولا يظهر له أثر؟.

فالجواب: أن ذلك غير ممتنع، بل له نظير في العادة، وهو النائم، فإنه يجد لذّة، وآلامًا، لا نُحسّ نحن شيئًا منها، وكذا يجد اليقظان لذّةً، وألمًا لِمَا يسمعه، أو يفكّر فيه، ولا يشاهد ذلك جليسه منه، وكذا كان جبريل؛ كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فيخبره بالوحي الكريم، ولا يدركه الحاضرون، وكلّ هذا واضح، ظاهر، جليّ. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله.

وقال العلامة بدر الدين العينيّ رحمه الله: عذاب القبر حقّ والإيمان به واجب، وعلى ذلك أهل السُّنَّة والجماعة، خلافًا للمعتزلة، ولكن ذكر القاضي عبد الجبار رئيس المعتزلة في "كتاب الطبقات" تأليفه: إن قيل: إن مذهبكم أدّاكم إلى إنكار عذاب القبر، وهذا قد أطبقت عليه الأمة.

قيل: إن هذا الأمر إنما أنكره أولًا ضرار بن عمرو، ولمّا كان من أصحاب واصل ظنوا أن ذلك مما أنكرته المعتزلة، وليس الأمر كذلك، بل المعتزلة رجلان: أحدهما يُجَوّز ذلك كما وردت به الأخبار، والثاني يقطع بذلك وأكثر شيوخنا يقطعون بذلك، وإنما يُنكرون قول جماعة من الجَهَلة: إنهم يعذبون وهم موتى، ودليل العقل يمنع من ذلك، وبنحوه ذكره أبو عبد الله المرزباني في "كتاب الطبقات"، تأليفه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: إن الملاحدة، ومن يذهب مذهب الفلاسفة أنكروه أيضًا، والإيمان به واجب لازم حسب ما أخبر به الصادق صلى الله عليه وسلم أن الله يحيي العبد، ويردّ إليه الحياة والعقل، وهذا نطقت به الأخبار، وهو مذهب أهل

ص: 127

السُّنَّة والجماعة وكذلك يكمل العقل للصغار؛ ليعلموا منزلتهم وسعادتهم، وقد جاء أن القبر ينضم عليه كالكبير.

وصار أبو هُذَيل، وبِشْر إلى: أن من خرج عن سمة الإيمان فإنه يعذَّب بين النفختين، وإنما المسألة إنما تقع في تلك الأوقات، وأثبت البلخيّ، والجبائي وابنه، عذاب القبر، ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه للكافرين، والفاسقين، وقال بعضهم: عذاب القبر جائز، وأنه يجري على الموتى من غير ردّ روحهم إلى الجسد، وأن الميت يجوز أن يتألم ويُحِسّ، وهذا مذهب جماعة من الكرَّامية، وقال بعض المعتزلة: إن الله تعالى يعذب الموتى في قبورهم، ويُحْدث الآلام، وهم لا يشعرون، فإذا حُشروا وجدوا تلك الآلام كالسكران، والمغشي عليهم إن ضُربوا لم يجدوا ألمًا، فإذا عاد عقلهم إليهم وجدوا تلك الآلام، وأما باقي المعتزلة مثل ضرار بن عمرو وبشر المريسي ويحيى بن كامل، وغيرهم، فإنهم أنكروا عذاب القبر أصلًا، وهذه الأقوال كل فاسدة تردّها الأحاديث الثابتة، وإلى الإنكار أيضًا ذهب الخوارج، وبعض المرجئة.

ثم المعذَّب عند أهل السُّنَّة والجماعة الجسد بعينه أو بعضه بعد إعادة الروح إلى جسده، أو إلى جزئه، وخالف في ذلك محمد بن جرير، وطائفة، فقالوا: لا يشترط إعادة الروح، وهذا أيضًا فاسد. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله تعالى عنه: في قولهم: إن المعذَّب الجسد بعينه أو بعضه ليس عليه دليل قاطع، بل الأدلة مطلقة؛ كما أفاده الحافظ في "الفتح"

(2)

.

وقد جاء في عذاب القبر أحاديث كثيرة:

منها: حديث الباب، ومنها: حديث صاحبي القبرين، وفيه:"إنهما ليعذّبان. . ."، تقدّم في "كتاب الطهارة".

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها: "أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر"، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر، قالت عائشة: فسألت

(1)

"عمدة القاري" 2/ 434.

(2)

"فتح الباري" في "الجنائز" 3/ 275.

ص: 128

رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: "نعم، عذاب القبر حق"، قالت: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلى صلاة إلا تعوّذ من عذاب القبر، رواه الشيخان.

ومنها: حديث ابن مسعود، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن الموتى ليعذَّبون في قبورهم حتى إن البهائم لتسمع أصواتهم". رواه الطبراني في "الكبير"، بإسناد حسن.

ومنها: حديث أنس المتقدّم في هذا الباب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"، والله تعالى أعلم.

وقال العلامة ابن أبي العزّ رحمه الله في "شرح العقيدة الطحاويّة" بعد إيراده حديث البراء رضي الله عنه الذي أسلفته بطوله ما نصّه: وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السُّنَّة والحديث، وله شواهد من الصحيح، ثم أورد أحاديث، ثم قال:

وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملَكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك، والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته؛ لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تُحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تَحار فيه العقول، فإن عَوْد الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا، فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام:

أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينًا.

الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.

الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه.

الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته، وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقًا كليًّا بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة، فإنه وَرَدَ ردّها إليه وقت سلام المسلِّم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يُوَلُّون عنه، وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.

الخامس: تعلقها به يوم بَعْث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن،

ص: 129

ولا نسبة لِمَا قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا، فالنوم أخو الموت، فتأمل هذا يُزحْ عنك إشكالات كثيرة.

وليس السؤال في القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة تردّ القولين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السُّنَّة والجماعة، تنعَّم النفس وتعذَّب مفردة عن البدن ومتصلة به.

(واعلم): أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ فكل من مات، وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قُبر أو لم يُقبر، أكلته السباع، أو احترق حتى صار رمادًا، ونُسف في الهواء، أو صُلب، أو غَرِق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور، وما وَرَدَ من إجلاسه، واختلاف أضلاعه ونحو ذلك، فيجب أن يُفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غُلُوّ، ولا تقصير، فلا يُحمّل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصّر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك، والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوء الفهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة، نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان.

فالحاصل: أن الدُّور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكامًا تخصها، وركّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح، والأبدان تَبَع لها، فإذا جاء يوم حَشْر الأجساد، وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعًا.

فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حقّ لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، ويجب أن يُعلم أن النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا، ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى يُحَمِّي عليه التراب، والحجارة التي فوقه وتحته، حتى يكون أعظم حرًّا من جمر الدنيا، ولو مسّها أهل الدنيا لم يَحُسّوا بها، بل أعجب من هذا أن الرجلين

ص: 130

يُدفن أحدهما إلى جَنْب صاحبه، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حرّ ناره، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه، وقدرة الله أوسع من ذلك، وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحِطْ به علمًا، وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، وإذا شاء الله أن يُطْلِع على ذلك بعض عباده أطلعه، وغيّبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف، والإيمان بالغيب، ولَمَا تدافن الناس، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:"لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع"، ولمّا كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال ابن أبي العزّ رحمه الله: وللناس في سؤال منكر ونكير: هل هو خاص بهذه الأمة أم لا؟ ثلاثة أقوال: الثالث التوقف، وهو قول جماعة، منهم أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد بن ثابت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذه الأمة تبتلى في قبورها"، منهم من يرويه:"تسأل"، وعلى هذا اللفظ يَحْتَمِل أن تكون هذه الأمة قد خُصت بذلك، وهذا أمر لا يُقطع به، ويظهر عدم الاختصاص، والله أعلم، وكذلك اختُلف في سؤال الأطفال أيضًا: وهل يدوم عذاب القبر، أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان:

منه ما هو دائم، كما قال تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر: 46] وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: "ثم يُفتح له باب إلى النار، فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة"، رواه الإمام أحمد في بعض طرقه.

والنوع الثاني: أنه مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خَفّت جرائمهم، فيعذَّب بحسب جُرمه، ثم يخفَّف عنه. انتهى

(2)

.

[تنبيه آخر]: قال ابن أبي العزّ رحمه الله أيضًا: وقد اختُلف في مستقر

(1)

"شرح العقيدة الطحاويّة" ص 398 - 401.

(2)

"شرح العقيدة الطحاويّة" ص 401.

ص: 131

الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة: فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار، وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها، يأتيهم من رَوْحها ونعيمها، ورزقها، وقيل: على أفنية قبورهم، وقال مالك: بلغني أن الروح مرسَلة تذهب حيث شاءت، وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك، وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت، وقال كعب: أرواح المؤمنين في علّيين في السماء السابعة، وأرواح الكافرين في سجّين في الأرض السابعة تحت خدّ إبليس، وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت، وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله، قال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خَلْق أجسادها، وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم، وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش، تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلّم عليه، وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عَرَض من أعراض البدن، كحياته، وإدراكه، وقولهم مخالف للكتاب والسُّنَّة، وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أُخَر تناسب أخلاقها، وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح، وهذا قول التناسخية منكري المَعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال، والكلام عليها. ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا كلهم، بل من الشهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنة لدَين عليه، كما في "المسند" عن عبد الله بن جحش:"أن رجلًا جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما لي إن قُتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى قال: إلا الدَّين، سارّني به جبرائيل آنفًا". ومن الأرواح من يكون محبوسًا على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه

ص: 132

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة"، ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم، تسبح فيه، وتُلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السُّنَّة، والله أعلم.

وأما الحياة التي اختص بها الشهيد، وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169]، وقوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} [البقرة: 154]، فهي: أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لمّا أصيب إخوانكم -يعني: يوم أُحد- جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، تَرِدُ أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مُظَلَّة في ظل العرش. . ." الحديث، رواه الإمام أحمد، وأبو داود، وبمعناه في حديث ابن مسعود، رواه مسلم، فإنهم لمّا بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانًا خيرًا منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعّمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعّم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين، ففي "الموطأ" أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن نسمة المؤمن طائر يَعْلُق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه". فقوله: "نسمة المؤمن" تعمّ الشهيد وغيره، ثم خصّ الشهيد بأن قال: هي في جوف طير خضر، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صَدَق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم.

وحرَّم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما رُوي في "السنن"، وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مُدد مِن دَفْنه كما هو، لم يتغير، فيَحْتَمِل بقاؤه كذلك في تُربته إلى يوم محشره، ويَحْتَمِل أنه يبلى مع طول المدة، والله

ص: 133

أعلم، وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل كان بقاء جسده أطول. انتهى كلام ابن أبي العزّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7192]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -يَعْنُونَ ابْنَ مَهْدِيٍّ- عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) أبو سعيد البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَبُوهُ) سعيد بن مسروق الثوريّ الكوفيّ، ثقةٌ [6] (ت 126) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 19/ 1738.

5 -

(خَيْثَمَةُ) بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرة -بفتح السين المهملة، وسكون الموحّدة- الجعفيّ الكوفيّ، ثقةٌ، وكان يرسل [3] مات بعد سنة ثمانين (ع) تقدم في "الزكاة" 12/ 2312.

والباقون ذُكروا في الباب، والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن أبيه، خيثمة هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(2183)

- أنبأ إسحاق بن منصور، قال: أنبأ عبد الرحمن، عن سفيان،

عن أبيه، عن خيثمة، عن البراء، قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ

(1)

"شرح العقيدة الطحاويّة" ص 401 - 404.

ص: 134

فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قال: "نزلت في عذاب القبر". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7193]

(2872) - (حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا بُدَيْلٌ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "إِذَا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ، تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ، يُصْعِدَانِهَا"، قَالَ حَمَّادٌ: فَذَكَرَ مِنْ طِيبِ رِيحِهَا، وَذَكَرَ الْمِسْكَ، قَالَ: "وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ طَيِّبَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْض، صَلَّى اللهُ عَلَيْكِ، وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ"، قَالَ: "وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ -قَالَ حَمَّادٌ: وَذَكرَ مِنْ نَتْنِهَا، وَذَكَرَ لَعْنًا- وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ، جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ، قَالَ: فَيُقَالُ: انْطَلِقُوا بِهِ إِلَى آخِرِ الأَجَلِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَرَدَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَيطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 235) على الأصح، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(بُدَيْلُ) -مصغّرًا- ابن ميسرة الْعُقيليّ، بضم العين، البصريّ ثقةٌ [5](ت 125 أو 130)(م 4) تقدم في "الصلاة" 47/ 1115.

4 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ شَقِيقٍ) الْعُقيليّ، بالضمّ البصريّ، ثقةٌ فيه نَصْبٌ [3](ت 108)(بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 84/ 450.

5 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه ذُكر قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، سوى

(1)

"السنن الكبرى" 1/ 660، وكذا أخرجه في "المجتبى" 4/ 101.

ص: 135

الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ:) ظاهر هذا أنه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن آخر الحديث يدلّ على أنه مرفوع، حيث قال أبو هريرة رضي الله عنه:"فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً كَانَتْ عَلَيْهِ عَلَى أَنْفِهِ هَكَذَا"، فتنبّه. ("إِذا خَرَجَتْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ، تَلَقَّاهَا مَلَكَانِ، يُصْعِدَانِهَا") بضمّ حرف المضارعة؛ أي: يعرجان بها إلى السماء، وفي رواية النسائيّ:"إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ، أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَيَقُولُونَ: اخْرُجِي رَاضِيَةً، مَرْضِيًّا عَنْكِ، إِلَى رَوْحِ اللهِ، وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ".

(قَالَ حَمَّادٌ)؛ أي: ابن زيد راوي الحديث عن بديل، (فَذَكَرَ)؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الصحابيّ، وهو أبو هريرة، وكأن سبب ذلك نسيان رواية لفظ النبوة في هذا دون معناه، فذكره بسياق يُشعر بذلك، قاله القاري، وقال المباركفوري: والظاهر أن فاعل "ذَكَر" بديل بن ميسرة شيخ حماد بن زيد. انتهي،

(1)

.

(مِنْ طِيبِ رِيحِهَا)؛ أي: من رائحتها الطيّبة، (وَذَكَرَ الْمِسْكَ) قال الطيبيّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون فاعل "فذكر" رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الصحابيّ، يريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَصَف طِيب ريحها، وذَكر المسك، ولكن لم يُعلم أن ذلك كان على طريقة التشبيه، أو الاستعارة، أو غير ذلك، وقال الأبهريّ: الأظهر أن يقال: وذكر أن طيب ريحها أطيب من ريح المسك. انتهى

(2)

.

(قَالَ) أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ:) أراد به الجنس؛ أي: كل سماء، (رُوحٌ طَيِّبَةٌ) مبتدأ، أو خبر لمحذوف؛ أي: هي (جَاءَتْ مِن قِبَلِ الأَرْض) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: من جهتها،

(1)

"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 5/ 645.

(2)

"مشكاة المصابيح مع شرحه مرعاة المفاتيح" 5/ 645، و"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1378.

ص: 136

(صَلَّى اللهُ)؛ أي: أثنى، أو أنزل الرحمة (عَلَيْكِ) قال الطيبيّ رحمه الله: في "عليكِ" التفات من الغَيبة في قوله: "جاءت" إلى الخطاب، وفائدته مزيد اختصاص لها بالصلاة عليها، قال القاري: ولمزيد التلذذ بخطابهم إياها، قال ابن حجر: وكراهة الصلاة استقلالًا على غير الأنبياء والملائكة محلها إن صدرت من غيرهم، لا منهم؛ لقول العلماء في صلاته صلى الله عليه وسلم على آل أبي أوفى: إنه من تبرع صاحب الحق به. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد استوفيت البحث في كراهة الصلاة على غير الأنبياء، وعدمها في غير هذا المحلّ، فارجع إليه، وبالله تعالى التوفيق.

(وَعَلَى جَسَدٍ كُنْتِ تَعْمُرِينَهُ) بضم الميم؛ يعني: على ظاهرك، وباطنك، وتقديم الباطن؛ لأنه أهمّ، والنظر إليه أتمّ

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تعمرينه" إستعارة شُبِّه تدبيرها البدن بالعمل الصالح بعمارة من يتولى مدينة، ويعمرها بالعدل والإحسان. انتهى

(3)

.

(فَيُنْطَلَقُ) بالبناء للمفعول، وفي رواية "فينطلقون"(بِهِ إِلَى رَبِّهِ)، وفي رواية:"إلى السماء السابعة"، (ثُمَّ يَقُولُ) الربّ سبحانه وتعالى:(انْطَلِقُوا بِهِ)؛ أي: بروح هذا الميت الآن؛ ليكون مستقرًّا في الجنة، أو عندها، (إِلَى آخِرِ الأَجَلِ") ثم إلينا مرجعه، والمراد بالأجل هنا مدة البرزخ، قال الطيبيّ رحمه الله: يُعلم من هذا أن لكل أحد أجلين: أولًا، وآخرًا، ويشهد له قوله تعالى:{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2]؛ أي: أجل الموت وأجل القيامة

(4)

.

وقال القاضي عياض: المراد بالأول: انطلقوا بروح المؤمن إلى سدرة المنتهى، والمراد بالثاني: انطلقوا بروح الكافر إلى سجّين، فهي منتهى الأجل، ويَحْتَمِل أن المراد: إلى انقضاء أجل الدنيا. انتهى

(5)

.

(1)

هو: الهيتميّ الفقيه الشافعيّ، لا الحافظ العسقلانيّ، فتنبّه.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 86.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1378.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1378.

(5)

"شرح النوويّ" 17/ 205.

ص: 137

(قَالَ) أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَتْ رُوحُهُ" - قَالَ حَمَّادٌ)؛ أي: ابن زيد، (وَذَكَرَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو أبو هريرة، (مِنْ نَتْنِهَا) قال المجد رحمه الله: النَّتْنُ: ضدّ الفَوْح، نَتُن، ككرُم، وضَرَبَ نتانةً، وأنتن، فهو منتنٌ، ومِنتنٌ، بكسرتين، وبضمّتين، وكَقِنديل. انتهى

(1)

.

(وَذَكَرَ)؛ أي: مع النتن، (لَعْنًا)؛ أي: لعنة الله له، (وَيَقُولُ أَهْلُ السَّمَاءِ) من الملائكة وغيرهم، (رُوحٌ خَبِيثَةٌ) خبر لمحذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: هذه (جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ، قَالَ) أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ("فَيُقَالُ) قال الطيبيّ رحمه الله: ذكر هنا "فيقال"، وفيما سبق "ثم يقول" مراعاة لحسن الأدب، حيث نسب الرحمة إلى الله تعالى، والغضب لم يُنسب إليه، كما قوله تعالى:{أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7]. (انْطَلِقُوا بِه إِلَى آخِرِ الأَجَلِ"، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ) هذا صريح في كون الحديث مرفوعًا، كما أشرت إليه سابقًا. (فَرَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَيْطَةً) بفتح الراء، وإسكان التحتانيّة: كلّ مُلاءة ليست لَفقتين، وقيل: كلّ ثوب رقيق ليّن، والجمع رِيَط، ورِياط؛ أي: ردّ صلى الله عليه وسلم طرف ريطة (كَانَتْ عَلَيْهِ)؛ أي: على بدنه بمعنى أنه لابِسها، (عَلَى أَنْفِهِ) متعلّق بـ "ردّ".

وقال النوويّ: الريطة بفتح الراء، وإسكان الياء: هو ثوب رقيق، وقيل: هي الملاءة، وكان سبب ردّها على الأنف بسبب ما ذَكَر من نتن ريح رُوح الكافر. انتهى

(2)

.

وقوله: (هَكَذَا) تفسير من أبي هريرة لكيفيّة الردّ؛ أي: ردّ صلى الله عليه وسلم كردّي هذا، وكان أبو هريرة رضي الله عنه وضع ثوبه على أنفه، بكيفية خاصة صدرت منه في تلك الحال.

قال الطيبيّ رحمه الله: إنَّما ردّ صلى الله عليه وسلم الريطة على أنفه لَمّا كُشف له، وشمّ من نتن ريح روح الكافر، كما أنه صلى الله عليه وسلم غطى رأسه حين مرّ بالحِجْر لما شاهد من عذاب أهلها. انتهى

(3)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 1260.

(2)

"شرح النوويّ" 17/ 205.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1378.

ص: 138

[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا أخرجه النسائيّ بسياق آخر، فقال:

(1833)

- أخبرنا عبيد الله بن سعيد، قال: حدّثنا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن قسامة بن زهير، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا حُضِر المؤمنُ أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضيةً مرضيًّا عنك، إلى رَوْح الله، وريحانٍ، وربٍّ غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا، حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشدّ فرحًا به من أحدكم بغائبه يَقدَم عليه، فيسألونه ماذا فَعَل فلان؟، ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دَعُوه، فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟ قالوا: ذُهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتُضر أتته ملائكة العذاب بِمِسْح، فيقولون: اخرجي ساخطةً مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل، فتخرج كأنتن ريح جيفة، حتى يأتون به باب الأرض، فيقولون: ما أنتن هذه الريح، حتى يأتون به أرواح الكفار". انتهى

(1)

، وهو حديث صحيح، وصححه ابن حبّان، والحاكم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7193](2872)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 969)، و (البيهقيّ) في "إثبات عذاب القبر"(1/ 44)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان ما يُلْقَى به المؤمن من الكرامة عند موته.

2 -

(ومنها): بيان كرامة المؤمن على الله تعالى حيث يكرمه عند موته بهذه الكرامة العظيمة.

(1)

"سنن النسائي (المجتبى) " 4/ 8، وأخرجه أيضًا في "الكبرى" 1/ 603 رقم (1959).

ص: 139

3 -

(ومنها): حضور ملائكة الرحمة عند المؤمن في حالة احتضاره، مبشرةً بهذه البشائر العظيمة، تشريفًا له وتكريمًا، وهو معنى ما أشارت إليه الآية الكريمة:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)} [فصلت: 30 - 32].

4 -

(ومنها): بيان ما يلقاه الكافر من الذلّ، والهوان عند خروج روحه، أعاذنا الله تعالى من حال أهل النار، وأكرمنا بالفوز العظيم في دار القرار، إنه الرؤوف الرحيم آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7194]

(2873) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ الْبَصَرِ، فَرَأَيْتُهُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِعُمَرَ: أَمَا تَرَاهُ، فَجَعَلَ لَا يَرَاهُ، قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ، وَأَنَا مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِي، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرِينَا مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالأَمْسِ، يَقُولُ:"هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، إِنْ شَاءَ الله"، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَؤُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ، فَقَالَ:"يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللهُ حَقًّا"، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ:"مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا").

ص: 140

رجال هذا الإِسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ) أبو يعقوب البصريّ، صدوقٌ [10](ت 229) أو بعدها بسنة (م صد) تقدم في "الصيام" 32/ 2709.

2 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ أبو محمد، صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتمٍ: اضطر الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](ت 5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

[تنبيه]: قال الحافظ أبو عليّ الغسّانيّ: وقع في نسخة ابن الحذّاء: "حدّثنا شيبان بن عبد الرحمن" بدل: حدّثنا شيبان بن فرّوخ، وهذا خطأ فاحشٌ، وصوابه: شيبان بن فرّوخ، وهو الأبلّيّ، من شيخ مسلم، وأما شيبان بن عبد الرحمن، فهو النحويّ، يُكنى أبا معاوية، وليس في طبقة من يروي عنه مسلم، هو أعلى من ذلك. انتهى

(1)

.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) القيسيّ مولاهم البصريّ، أبو سعيد، ثقةٌ ثقةٌ، قاله يحيى بن معين [7] أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا (ت 165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

4 -

(ثَابِتُ) بن أسلم البنانيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَنَسُ) بن مالك رضي الله عنه ذُكر في الباب.

6 -

(عُمَرُ) بن الخطّاب بن نُفيل بن عبد العزى بن رِياح بتحتانية القرشيّ العدويّ، أمير المؤمنين الخليفة المشهور، جمّ المناقب، استُشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وولي الخلافة عشر سنين ونصفًا (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير عمر رضي الله عنه،

فمدنيّ، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ رضي الله عنهما.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 928.

ص: 141

(بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ)؛ أي: طلبنا أن نراه، (وَكُنْتُ رَجُلًا حَدِيدَ البَصِرِ)؛ أي: قويّه نافذه، ومنه قوله تعالى:{فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22](فَرَأَيْتُهُ)؛ أي: سبقت الناس في رؤيته؛ لكوني حديد البصر، (وَلَيْسَ أَحَدٌ يَزْعُمُ)؛ أي: يقول (أَنَّهُ رَآهُ غَيْرِي)؛ يعني: أنه لم يوجد من يدّعي رؤية الهلال في ذلك الوقت إلا هو. (قَالَ) أنس (فَجَعَلْتُ)؛ أي: شرعت (أَقُولُ لِعُمَرَ) رضي الله عنه (أَمَا تَرَاهُ)؛ أي: أما ترى الهلال في موضع كذا وكذا، (فَجَعَلَ)؛ أي: فكان عمر (لَا يَرَاهُ، قَالَ) أنس: (يَقُولُ عُمَرُ: سَأَرَاهُ)؛ أي: سأرى الهلال، (وَ) الحال (أَنَا مُسْتَلقٍ)؛ أي: مضطجع بظهري (عَلَى فِرَاشِي) الظاهر أنه أراد أنه سيراه إذا كَبِر من غير مشقّة، بل وهو مضطجع على فراشه. (ثُمَّ أَنْشَأَ)؛ أي: بدأ عمر رضي الله عنه (يُحَدِّثُنَا عَنْ أَهْلِ بَدْرٍ)؛ أي: عن شأن كفّار قريش الذين قُتلوا في معركة بدر الكبرى، وقوله:(فَقَالَ) تفسير لقوله: "أنشأ". (إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرِينَا) بضمّ حرف المضارعة؛ أي: يُبصّرنا (مَصَارِعَ أَهْلِ بَدْرِ) جمع مَصْرَع، كمَقْعَد: محل الصَّرْع؛ أي: الطرح على الأرض، والمراد هنا: مواضع قَتْلهم؛ أي: المواضع التي قُتلوا فيها، (بِالأَمْسِ)؛ أي: أمس يوم القتل؛ يعني: اليوم الذي قبل يوم قتلهم. (يَقُولُ) صلى الله عليه وسلم ("هَذَا) مشيرًا إلى موضع معيّن، (مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللهُ"، قَالَ) أنس: (فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ)؛ أي: أرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو الله عز وجل، (مَا أَخْطَؤُوا الْحُدُودَ)؛ أي: المواضع المحدّدة، (الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) أنها مصرعهم، وفي رواية النسائيّ:"مَا أَخْطَؤوا تِيكَ" باسم الإشارة للمؤنثة البعيدة؛ أي: تلك المواضع التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم أنها مصارعهم. (قَالَ) عمر: (فَجُعِلُوا فِي بئْرٍ) ببناء الفعل للمفعول، وفي الرواية الآتية:"ثم أَمَرَ بهم، فسُحِبُوا، فأُلْقُوا في قليب بدر"، وفي رواية بعدها:"فَأُلْقُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ"، والطويّ: هي البئر، وقوله:(بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) جملة حاليّة من النائب عن الفاعل. (فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وفي رواية النسائيّ: "فَأَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم"، (حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ)؛ أي: إلى أن وصل إلى مواضع صَرْعهم، وهي البئر التي جُعلوا فيها، (فَقَالَ:"يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانِ بْنَ فُلَانٍ) برفع "فلان" الأول؛ لأنه نكرة مقصودة، وأما لفظة "ابن" فمنصوبة لا غير؛ لكونها مضافة، وقد أشار ابن مالك إلى هذا في "الخلاصة" حيث قال:

ص: 142

وَنَحْوَ "زَيْدٍ" ضُمَّ وَافْتَحَنَّ مِنْ

نَحْوِ "أَزَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ لَا تَهِنْ"

وَالضَّمُّ إِنْ لَمْ يَلِ الابْنُ عَلَمَا

أَوْ يَلِ الابْنَ عَلَمٌ قَدْ حُتِمَا

(هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللهُ) سبحانه وتعالى (وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من الذلّ، والهوان، والكآبة، والخيبة، والخسران، والعذاب الأليم، حيث قال تعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)} [آل عمران: 12](حَقًّا؟)؛ أي: ثابتًا، وواقعًا عليكم.

وفي رواية حميد عن أنس رضي الله عنه، قال: سمع المسلمون من الليل ببئر بدر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم، ينادي:"يا أبا جهل بن هشام، ويا شيبة بن ربيعة، ويا عُتبة بن ربيعة، ويا أميّة بن خلف". وأخرجه ابن إسحاق، وأحمد، وغيرهما، وكذا وقع عند أحمد، ومسلم، من طريق ثابت، عن أنس، فسمّى الأربعة، لكن قدّم، وأخّر، وسياقه أتم، قال في أوله:"تركهم ثلاثة أيام حتى جيّفوا"، فذكره، وفيه من الزيادة:"فسمع عمر صوته، فقال: يا رسول الله، أتناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون، ويقول الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80]؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لِمَا أقول منهم، لكن لا يستطيعون أن يُجيبوا".

قال الحافظ رحمه الله: وفي بعضه نظر؛ لأن أميّة بن خلف لم يكن في القليب؛ لأنه كان ضخمًا، فانتفخ، فأَلقَوا عليه من الحجارة، والتراب ما غيّبه. وقد أخرج ذلك ابن إسحاق من حديث عائشة رضي الله عنها، لكن يُجمع بينهما بأنه كان قريبًا من القليب، فنودي فيمن نودي؛ لكونه كان من جملة رؤسائهم.

ومن رؤساء قريش، ممن يصحّ إلحاقه بمن سُمّي، من بني عبد شمس بن عبد مناف: عبيدة، والعاص، والد أحيحة، وسعيد بن العاص بن أُميّة، وحنظلة بن أبي سفيان، والوليد بن عتبة بن ربيعة. ومن بني نوفل بن عبد مناف: الحارث بن عامر بن نوفل، وطُعيمة بن عديّ. ومن سائر قريش: نوفل بن خُويلد بن أسد، وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، وأخوه عقيل، والعاصي بن هشام، أخو أبي جهل، وأبو قيس بن الوليد، أخو خالد، ونُبيه، ومنبّه ابنا الحجّاج السهميّ، وعليّ بن أميّة بن خلَف، وعمرو بن عثمان، عم طلحة أحد العشرة، ومسعود بن أبي أمية، أخو أم سلمة، وقيس بن الفاكه بن

ص: 143

المغيرة، والأسود بن عبد الأسود، أخو أبي سلمة، وأبو العاص بن قيس بن عديّ السهميّ، وأُميمة بن رفاعة بن أبي رفاعة. فهؤلاء العشرون، تنضم إلى الأربعة، فتكمل العدّة.

ومن جملة مخاطبتهم ما ذكره ابن إسحاق. حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم كنتم، كذّبتموني، وصدّقني الناس. . ." الحديث.

(فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللهُ حَقًّا")؛ أي: من النصر، والفتح، والعزّ، والتمكين في الأرض، حيث قال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)} [غافر: 51]، وقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} [المجادلة: 21]، وقال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].

(قَالَ) وللنسائيّ: "فقال"، (عُمَرُ) بن الخطّاب رضي الله عنه:(يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ تُكَلِّمُ) بضمّ أوله، وتشديد اللام، من التكليم، (أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم. ("مَا) نافية، (أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ)؛ أي: لستم أنتم بأكثر منهم سماعًا لما أقول؛ يعني: أنهم يسمعون كسماعكم، (غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا")؛ أي: لكنهم لا يستطيعون الإجابة، كاستطاعتكم، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7194](2873)، و (أبو داود) في "سننه"(2681)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2074 و 2075) وفي "الكبرى"(2201 و 2202)، و (أحمد) في "مسنده" (183 و 11609 و 12062 و 12463 و 12883

ص: 144

و 13292 و 13650)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 362)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 220) و"الصغير"(2/ 233)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1/ 130)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه معجزةً ظاهرةً للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بمصارع المشركين، فوقع ما أخبر به كما أخبر.

2 -

(ومنها): إنجاز الله عز وجل ما وعده نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من النصر، والتمكين في الأرض، كما قال الله عز وجل:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)} [النور: 55].

3 -

(ومنها): سماع الموتى لكلام الأحياء، قال المازريّ: قال بعض الناس: المَيْت يسمع عملًا بظاهر هذا الحديث، ثم أنكره المازريّ، وادعى أن هذا خاصّ في هؤلاء، ورَدّ عليه القاضي عياض، وأجاد في ذلك، فقال: يُحْمَل سماعهم على ما يُحمل عليه سماع الموتى في أحاديث عذاب القبر، وفتنته التي لا مدفع لها، وذلك بإحيائهم، أو إحياء جزء منهم، يعقلون به، ويسمعون في الوقت الذي يريد الله تعالى، قال النوويّ بعد نقل كلام القاضي هذا: وهو الظاهر المختار الذي يقتضيه أحاديث السلام على القبور، والله أعلم

(1)

.

4 -

(ومنها): إثبات عذاب القبر.

5 -

(ومنها): استفهام التابع متبوعه إذا لم يظهر له وجه ما فعله، حيث استفهم عمر رضي الله عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله:"كيف تكلّم أجسادًا لا أرواح فيها؟ "، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7195]

(2874) - (حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 206 - 207.

ص: 145

أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ:"يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَليْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا"، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وَأَنَّى يُجِيبُوا

(1)

، وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا"، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(هَدَّابُ بْنُ خَالِدِ) بن الأسود القيسيّ، أبو خالد البصريّ، ويقال له: هُدْبة -بضم أوله، وسكون الدال، بعدها موحّدة-، ثقةٌ عابدٌ، تفرّد النسائي بتليينه، من صغار [9] مات سنة بضع وثلاثين ومائتين (خ م د) تقدم في "الإيمان" 11/ 151.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) البصريّ، تقدّم قبل باب.

والباقيان ذُكرا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وهو (4387) من رباعيّات الكتاب، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، وفيه ثابت لزم أنسًا أربعين سنة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه هذا صريح في كون الحديث من مسند أنس رضي الله عنه، ورواية سعيد بن أبي عروبة التالية صريحة في كون أنس رواه عن أبي طلحة رضي الله عنه، ورجّح الحافظ في "الفتح" رواية سعيد بذكر أبي طلحة، وقال: ورواية سعيد أَولى، فتنبّه. (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث ليال، (ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ)؛ أي: البئر التي قُذفوا فيها، وفي رواية

(1)

وفي نسخة: "كيف يسمعون؟ وأنى يجيبون".

ص: 146

البخاريّ في "المغازي"، عن أبي طلحة:"أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقُذفوا في طَوِيّ من أطواء بدر، خبيثٍ، مُخبِثٍ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليومُ الثالثُ أمر براحلته، فشُدّ عليها رحلها، ثم مشى، واتّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شَفَة الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم. . .". (فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: "يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ) وفي ذِكر أمية معهم نَظَر؛ لأنه لم يُلْقَ في القليب؛ لأنه كان ضَخْمًا، فانتَفَخ، فألقوا عليه من الحجارة والتراب ما غيَّبه، وأجيب بأنه كان قريبًا من القليب، فنودي فيمن نودي؛ لكونه كان من رؤسائهم، قاله في "الفتح"

(1)

.

(يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ) ووجه تخصيص هؤلاء بالخطاب؛ لأنه تقدم منهم من المعاندة العظيمة، فخاطبهم بذلك توبيخًا لهم

(2)

. (أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ) من العذاب المهين (حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي) من النصر والظفر، (رَبِّي حَقًّا"، فَسَمِعَ عُمَرُ) بن الخطاب رضي الله عنه (قَوْلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) هذا الذي قالها في التوبيخ لهم (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وَأَنَّى يُجِيبُوا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في عامّة النسخ المعتمدة: "كيف يسمعوا، وأنى يُجيبوا" من غير نون، وهي لغة صحيحة، وإن كانت قليلة الاستعمال، وسبق بيانها مرّات، ومنها الحديث السابق في "كتاب الإيمان":"لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا". انتهى كلام النوويّ

(3)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد ذكر ابن مالك رحمه الله قاعدة حذف نون الرفع بلا ناصب، أو جازم في "الكافية الشافية"، حيث قال:

وَحَذْفُهَا فِي الرَّفْعِ قَبْلَ "نِي" أَتَى

وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامُ أَيْضًا ثَبَتَا

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"

وقوله: (وَقَدْ جَيَّفُوا) بفتح الجيم، وتشديد التحتانيّة؛ أي: أنتنوا،

(1)

"الفتح" 9/ 41.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 92.

(3)

"شرح النوويّ" 17/ 207.

ص: 147

وصاروا جِيَفًا، يقال: جَيَّفَ الميت، وجاف، وأجاف، وأرْوَح، وأنتن بمعنى واحد، قاله النوويّ

(1)

.

وقال ابن الأثير: "قد جيّفوا"؛ أي: أنتنوا، يقال: جافت الميتة، وجَيَّفت، واجتافت، والجيفة جُثّة الميت إذا أنتن. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) وهو الله سبحانه وتعالى، فيه مشروعيّة الحلف دون استحلاف. (مَا)، نافية (أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا"، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ) الظاهر أن "ثُمّ" هنا ليست للترتيب الزمنيّ، وإنما هي للترتيب الذِّكريّ بدليل الرواية السابقة، فإنها قَدّمت جعلهم في البئر، ثم ذكرت مجيئه صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد جمع بعض الشرّاح

(3)

بأن بعضهم كان مقذوفًا في القليب قبل المخاطبة، وبعضهم كان خارجها، فألقي فيها بعد المخاطبة، كما في أميّة بن خلف، وهذا الجمع لا يخفى بُعده عن سياق الروايات، فالجمع الذي ذكرته أَولى، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَسُحِبُوا)؛ أي: جرُّوا من مصارعهم (فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ) قال الفيّوميّ رحمه الله: القَلِيبُ عند العرب: البئر العاديّة القديمة، مطويةً كانت، أو غير مطوية، والجمع قُلُبٌ، مثلُ بريد وبُرُد. انتهى

(4)

.

وقال المجد رحمه الله: القَليبُ: البِئرُ، أو العادِيَّةُ القَديمةُ منها، ويُؤَنَّثُ، جمعه: أقْلِبَةٌ، وقُلْبٌ، وقُلُبٌ. انتهى

(5)

.

وقال النوويّ رحمه الله: القليب، والطَّوِيّ بمعنى، وهي البئر المطويّة بالحجارة، قال أصحابنا: وهذا السحب إلى القليب ليس دفنًا لهم، ولا صيانةً، وحرمةً، بل لدفع رائحتهم المؤذية، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 207.

(2)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 325.

(3)

راجع: "شرح الشيخ الهرريّ " 26/ 49.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 512.

(5)

"القاموس المحيط" ص 163.

ص: 148

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7195](2874)، و (أبو داود) في "الجهاد"(2681)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 104 و 182 و 219 - 220 و 257 - 258 و 263)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3808 و 3809 و 3857)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(4722 و 6498 و 6525)، و (الطبريّ) في "تهذيب الآثار"(2/ 487)، و (البيهقيّ) في "إثبات عذاب القبر"(1/ 64)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7196]

(2875) - (حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ (ح) وَحَدَّثَنِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِبِضْعَةٍ وَعِشْرينَ رَجُلًا، وَفِي حَدِيثِ رَوْحٍ: بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا، مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأُلْقُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ الْمَعْنِيُّ) -بفتح الميم، وسكون العين المهملة، ثم نون، وتشديد الياء- أبو يعقوب البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م ت س ق) تقدم في "الصلاة" 52/ 1143.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى البصريّ الساميّ -بالسين المهملة- أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو هَمّام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

3 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون، تقدّم قبل بابين.

4 -

(رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ) القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل بن الأسود بن حرام الأنصاريّ النجاريّ، مشهور بكنيته، من كبار الصحابة رضي الله عنهم، شَهِد بدرًا، وما بعدها، ومات رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين، وقال أبو زرعة الدمشقيّ: عاش بعد النبيّ رضي الله عنه أربعين سنةً (ع) تقدم في "الحيض" 7/ 720.

ص: 149

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ)"كان" هنا تامّة، لا تحتاج إلى منصوب، كما قال الحريريّ رحمه الله في "ملحته":

وَإِنْ تَقُلْ يَا قَوْمِ قَدْ كَانَ الْمَطَرْ

فَلَسْتَ تَحْتَاجُ لَهَما إِلَى خَبَرْ

وقوله: (وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: غلبهم وقهرهم.

وقوله: (أَمَرَ بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا) ولا تنافي بينه وبين رواية روح التالية: "بأربعة وعشرين رجلًا"؛ لأن البضع يطلق على الأربع أيضًا، قال الحافظ رحمه الله: ولم أقف على تسمية هؤلاء جميعهم، بل سيأتي تسمية بعضهم، ويمكن إكمالهم مما سرده ابن إسحاق من أسماء مَن قُتل من الكفار ببدر، بأن يضيف على من كان يُذكر منهم بالرياسة، ولو بالتبعية لأبيه، وفي حديث البراء رضي الله عنه أن قتلى بدر من الكفار كانوا سبعين، وكأن الذين طُرحوا في القليب كانوا الرؤساء منهم، ثم من قريش، وخُصُّوا بالمخاطبة المذكورة؛ لِمَا كان تقدم منهم من المعاندة، وطُرح باقي القتلى في أمكنة أخرى، وأفاد الواقديّ أن القليب المذكور كان حفره رجل من بني النّار، فناسب أن يُلقى فيه هؤلاء الكفار. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": حفرها رجل من بني النار، اسمه بدر، من قريش بن مخلد بن النضر بن كنانة الذي سُمِّيت قريش به، على أحد الأقوال، فكان فَأْلًا مقدّمًا لهم، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

وقوله: (مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ) بالصاد المهملة، والنون: جمع صِنديد، بوزن عِفْريت، وهو السيد الشجاع العَظيم

(3)

.

وقوله: (فَأُلْقُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ)"الطويّ" بفتح الطاء المهملة، وكسر الواو، وتشديد الياء: هي البئر المطويّة بالحجارة، وتُجمع على أطواء، زاد في رواية البخاريّ:"خبيث مخبث"؛ أي: غير طيب، ومخبث بضم الميم، وكسر الباء الموحدة، من قولهم: أخبث؛ أي: اتخذ أصحابًا خُبَثًا.

(1)

"الفتح" 9/ 40.

(2)

"عمدة القاري" 3/ 176.

(3)

"عمدة القاري" 3/ 176.

ص: 150

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ

إلخ) فاعل "ساق" ضمير قتادة.

[تنبيه]: رواية قتادة عن أنس رضي الله عنه هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3757)

- حدّثني عبد الله بن محمد، سمع رَوح بن عُبادة، حدّثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: ذَكَر لنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أَمَر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلًا من صناديد قريش، فقُذفوا في طَوِيٍّ من أطواء بدر، خَبِيث مُخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته، فشُد عليها رحلها، ثم مشى، واتَّبعه أصحابه، وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفة الرَّكِيِّ، فجعل يناديهم بأسمائهم، وأسماء آبائهم:"يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسُرّكم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنّا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قال: فقال عمر: يا رسول الله، ما تُكَلِّم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لِمَا أقول منهم"، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخًا، وتصغيرًا، ونِقْمةً، وحسرةً، ونَدَمًا. انتهى

(1)

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ إِثْبَاتِ الْحِسَابِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7197]

(2876) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعًا عَنْ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ"، فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ عز وجل: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}؟ فَقَالَ: "لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ").

(1)

"صحيح البخاريّ" 4/ 1461.

(2)

"عمدة القاري" 17/ 92.

ص: 151

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، ذُكر في الباب.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) -بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم- ابن إياس السَّعْديّ المروزيّ، أبو الحسن، نزيل بغداد، ثم مرو، ثقةٌ حافظٌ، من صغار [9](ت 244) وقد قارب المائة، أو جازها (خ م ت س) تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) ذُكر في الباب.

4 -

(أيُّوبُ) بن أبي تميمة السختيانيّ، أبو بكر البصريّ، تقدّم قبل باب.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ) هو: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة -بالتصغير- ابن عبد اللَّه بن جُدْعان، يقال: اسم أبي مليكة: زهير التيميّ المكيّ، أدرك ثلاثين من الصحابة رضي الله عنهم، ثقةٌ فقيهٌ [3](117)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 22.

6 -

(عَائِشَةُ) أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة أخذه منهما، ثمّ فصّل؛ لاختلافهما في ذلك، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة رضي الله عنها.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها أنها (قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:) وقوله: ("مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ") مقول "قال" و"مَنْ" موصولة، و"حوسب" مبنيّ للمفعول، والجملة صلة "من"، وقوله:"عُذِّب" بالبناء للمفعول أيضًا خبر "مَنْ"؛ لأنه مبتدأ، والمعنى: أنه من حاسبه اللَّه تعالى يوم القيامة يعذّبه؛ لأنه لا بدّ أن يكون عليه تبعات، فيُعذّب عليها.

قالت عائشة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل) اسم "ليس" يَحْتمل أن يكون ضمير الشأن، ويَحْتَمل أن تكون "ليس" بمعنى "لا"، وفي رواية للبخاريّ:"أو ليس يقول اللَّه تعالى". ({فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8])

ص: 152

"حسابًا" منصوب على أنه مفعول مطلق، و"يسيرًا" صفته (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("لَيْسَ ذَاكِ) بكسر الكاف؛ لأنه خطاب للمؤنث، والأصل فيه "ذا" وهو اسم يُشار به إلى المذكر، فإن خاطبت جئت بالكاف، فقلت: ذاك، وذلك فاللام زائدة، والكاف للخطاب، وهو مبتدأ خبره قوله:(الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ)؛ أي: عَرْض الناس على الميزان، (مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ") وقال النوويّ رحمه الله: معنى "نوقش" استُقصي عليه، قال القاضي عياض: وقوله: "عُذِّب" له معنيان: أحدهما: أن نفس المناقشة، وعَرْض الذنوب، والتوقيف عليها هو التعذيب؛ لِمَا فيه من التوبيخ، والثاني: أنه مفضٍ إلى العذاب بالنار، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى:"هلك" مكان "عذِّب"، قال النوويّ بعد نقل كلام عياض هذا: وهذا الثاني هو الصحيح، ومعناه: أن التقصير غالب في العباد، فمن استُقصي عليه، ولم يسامَح هلك، ودخل النار، ولكن اللَّه تعالى يعفو، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء. انتهى

(1)

.

قال في "العمدة": قوله: "عُذِّب" له معنيان: أحدهما: أن نفس مناقشة الحساب يوم عَرْض الذنوب، والتوقيف على قبيح ما سلف له تعذيب، وتوبيخ، والآخر أنه مُفْضٍ إلى استحقاق العذاب؛ إذ لا حسنة للعبد يعملها إلا من عند اللَّه تعالى، وبفضله، وإقداره له عليها، وهدايته لها، وأن الخالص لوجهه تعالى من الأعمال قليل، ويؤيده قوله في الرواية الأخرى:"هَلَك" مكان "عُذِّب". انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "نوقش" بالقاف، والمعجمة، من المناقشة، وأصلها الاستخراج، ومنه نَقَشَ الشوكةَ: إذا استخرجها، والمراد هنا: المبالغة في الاستيفاء، والمعنى: أن تحرير الحساب يُفضي إلى استحقاق العذاب؛ لأن حسنات العبد موقوفة على القبول، وإن لم تقع الرحمة المقتضية للقبول، لا يحصل النجاة، واللَّه تعالى أعلم

(3)

.

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 208 - 209.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 137.

(3)

"الفتح" 1/ 345 - 346 رقم (103).

ص: 153

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

[تنبيه]: انتقد الدارقطنيّ على الشيخين في إسناد هذا الحديث، قال النوويّ رحمه الله: هذا مما استدركه الدارقطنيّ على البخاريّ ومسلم، وقال: اختَلَف العلماء عن ابن أبي مُليكة، فرُوي عنه عن عائشة، ورُوي عنه عن القاسم عنها، وهذا استدراك ضعيف؛ لأنه محمول على أنه سمعه من القاسم، عن عائشة، وسمعه أيضًا عنها بلا واسطة، فرواه بالوجهين، وقد سبقت نظائر هذا. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

.

وقال الحافظ في "الفتح": قال الدارقطنيّ: رواه حاتم بن أبي صَغِيرة، عن عبد اللَّه بن أبي مُليكة، فقال: حدّثني القاسم بن محمد، حدّثتني عائشة، وقوله أصحّ؛ لأنه زاد، وهو حافظ متقنٌ.

وتعقّبه النووي وغيره بأنه محمول على أنه سمع من عائشة، وسمعه من القاسم، عن عائشة، فحدَّث به على الوجهين.

قال الحافظ: وهذا مجرد احتمال، وقد وقع التصريح بسماع ابن أبي مليكة له عن عائشة في بعض طرقه، كما في السند الثاني من هذا الباب -يعني: عند البخاريّ

(2)

- فانتفى التعليل بإسقاط رجل من السند، وتعيَّن الحمل على أنه سمع من القاسم، عن عائشة، ثم سمعه من عائشة بغير واسطة، أو بالعكس، والسرّ فيه أن في روايته بالواسطة ما ليس في روايته بغير واسطة، وإن كان مؤداهما واحدًا، وهذا هو المعتمَد، بحمد اللَّه. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(3)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"شرح النوويّ" 17/ 209.

(2)

ونصّ البخاريّ في "صحيحه" 5/ 2394: "حدّثني عمرو بن عليّ، حدّثنا يحيى، عن عثمان بن الأسود، سمعت ابن أبي مليكة، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث.

(3)

"الفتح" 11/ 401.

ص: 154

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7197 و 7198 و 7199 و 7200](2876)، و (البخاريّ) في "العلم"(103) و"التفسير"(4939) و"الرقاق"(6537)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3093)، و (الترمذيّ) في "التفسير"(3337)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 497 و 498 و 510)، و (ابن المبارك) في "مسنده"(1/ 60)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 87)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 108)، و (الطبريّ) في "تفسيره"(30/ 116)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7369 و 7370 و 7371)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 266)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(7/ 432)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(3/ 658)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4319)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان فضيلة عائشة رضي الله عنها، وشدّة حرصها على تفهم معاني الحديث، والتحقيق.

2 -

(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يتضجر من المراجعة في العلم.

3 -

(ومنها): إثبات الحساب، والعرض، والعذاب يوم القيامة.

4 -

(ومنها): أن فيه جوازَ المناظرة، ومقابلة السُّنَّة بالكتاب، وتفاوت الناس في الحساب.

5 -

(ومنها): بيان أن المسؤال عن مثل هذا لم يدخل فيما نُهي الصحابة رضي الله عنهم عنه في قوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101]، وفي حديث أنس رضي الله عنه:"كنا نُهينا أن نسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن شيء. . . "، وقد وقع نحو ذلك لغير عائشة رضي الله عنها، ففي حديث حفصة رضي الله عنها أنها لمّا سمعت:"لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرًا، والحديبية" قالت: أليس اللَّه يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فأجيبت بقوله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية [مريم: 72]، وسأل الصحابة رضي الله عنهم لمّا نزلت:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] أينا لم يظلم نفسه؟ فأجيبوا بأن المراد بالظلم الشرك، والجامع بين هذه المسائل الثلاث ظهور العموم في الحساب، والورود، والظلم، فأُوضح لهم أن المراد في كل منها أمر خاصّ، ولم يقع مثل هذا من الصحابة رضي الله عنهم إلا قليلٌ، مع توجه السؤال، وظهوره، وذلك لكمال فهمهم، ومعرفتهم باللسان العربيّ،

ص: 155

فيُحْمَل ما ورد من ذم من سأل عن المشكلات على من سأل تعنتًا، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران: 7]، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:"فإذا رأيتم الذين يسألون عن ذلك فهم الذين سَمَّى اللَّه فاحذروهم"، ومن ثَمّ أنكر عمر رضي الله عنه على صبيغ لمّا رآه أكثر من السؤال عن مثل ذلك، وعاقبه، قاله في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7198]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ، لم يَتَكَّلم فيه أحد بحجة [10](ت 234)(خ م د س) تقدم في "الإيمان" 23/ 190.

2 -

(أَبُو كَامِلٍ) فُضيل بن حُسين بن طلحة الْجَحْدريّ البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 237) وله أكثر من ثمانين سنةً (خت م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

و"أيوب" هو: السختيانيّ ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية حمّاد بن زيد عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "شعب الإيمان"، فقال:

(269)

- أخبرنا أبو عبد اللَّه الحافظ، ثنا أبو بكر بن إسحاق إملاءً، ثنا أبو مسلم، ويوسف بن يعقوب، قالا: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"من حوسب عُذِّب"، قالت عائشة: يا رسول اللَّه، فأين قوله:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} [الانشقاق: 7]؟ قال: "ذلكم العرض، ولكنه من نوقش الحساب عُذِّب"، رواه البخاريّ في "الصحيح" عن سليمان، ورواه مسلم عن أبي الربيع، عن حماد. انتهى

(2)

.

(1)

"الفتح" 1/ 346 رقم (103).

(2)

"شعب الإيمان" 1/ 252.

ص: 156

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7199]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَ سَعِيدٍ الْقَطَّانَ- حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ الْقُشَيْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ اللَّهُ يَقُولُ: {حِسَابًا يَسِيرًا}؟ قَالَ: "ذَاكِ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ الْعَبْدِيُّ) أبو محمد النيسابوريّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(أَبُو يُونُسَ الْقُشَيْرِيُّ) حاتم بن أبي صغيرة، وأبو صغيرة اسمه مسلم، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(الْقَاسِمُ) بن محمد بن أبي بكر الصدّيق المدنيّ الفقيه، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث.

[تنبيه]: هذا الرواية هي التي أعلّ بها الدارقطنىّ الحديث، وانتقد على الشيخين إخراجهما له في "الصحيحين" حيث خالف أبو يونس سائر الرواة، فزاد في الإسناد: القاسم، وقد تقدّم الجواب عنهما بأنهما لم يريا مثل هذا علّة في الحديث؛ لإمكان الحمل على أن ابن أبي مليكة سمعه من القاسم عن عائشة، ثم سمعه عنها بلا واسطة، فكان يُحدّث بالوجهين، ومثل هذا كثير في أحاديث الحفّاظ، فلا انتقاد، ولا اعتراض عليهما، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7200]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى -وَهُوَ الْقَطَّانُ- عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ هَلَكَ"، ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي يُونُسَ).

ص: 157

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ) بن موسى بن باذان المكيّ، مولى بني جُمَح، ثقةٌ ثبتٌ، من كبار [7].

رَوى عن أبيه، وسليمان الأحول، وأبن أبي مليكة، وسالم بن عبد اللَّه بن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد بن جبر، وغيره.

وروى عنه الثوريّ، وعبد اللَّه بن إدريس، وابن المبارك، ويحيى القطان، والفضل بن موسى، ومروان بن معاوية، وعبيد اللَّه بن موسى، وأبو عاصم، ومكيّ بن إبراهيم، وآخرون.

قال ابن المدينيّ: سألت يحيى؛ يعني: القطان عنه، فقال: كان ثقةً ثبتًا، قلت: عُمر بن ذَرّ أحب إليك أم عثمان؟ قال: عثمان، قلت: هو أحب إليك، أو سيف؟ فقدَّم عثمان، وقال أحمد، وابن معين: ثقةٌ، وقال أبو حاتم: لا بأس به ثقةٌ، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال العجليّ: ثقةٌ، ونقل ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير.

قال الميمونيّ عن أحمد: مات قبل ابن جريج، وقال الواقديّ وغير واحد: مات سنة خمسين ومائة، وقال ابن حبان في "الثقات": مات سنة (149) وقيل: سنة (150) وأرخه ابن قانع، والقرّاب تبعًا لخليفة سنة (160).

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: رواية عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(3337)

- حدّثنا عبد بن حميد، حدّثنا عبيد اللَّه بن موسى، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مُليكة، عن عائشة، قالت: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "من نوقش الحساب هلك". قلت: يا رسول اللَّه إن اللَّه يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} -إلى قوله-: {يَسِيرًا} قال: "ذلكِ العرض"، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"جامع الترمذيّ" 5/ 435.

ص: 158

(20) - (بَابُ الأَمْرِ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7201]

(2877) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) بن بَكْر التميميّ، أبو زكريّاء النيسابوريّ الإمام، تقدّم قبل باب.

2 -

(يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّاءَ) بن أبي زائدة الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- أبو سعيد الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، من كبار [9](ت 3 أو 184) وله ثلاث وستون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 121.

3 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهران، تقدّم قريبًا.

4 -

(أَبُو سُفْيَانَ) طلحة بن نافع القرشيّ مولاهم المكيّ، ثم الواسطيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(جَابِرُ) بن عبد اللَّه بن عمرو بن حرام رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ)؛ أي: ثلاث ليال، وهذا يفيد كمال ضبط الراوي، وإحكام المرويّ. (يَقُولُ:"لَا) ناهية، (يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ") المعنى: أي: لا يموتنّ أحدكم في حال من الأحوال، إلا في هذه الحالة، وهي حُسن الظن باللَّه تعالى يأن يغفر له، فالنهي وإن كان في الظاهر عن الموت، وليس إليه ذلك حتى

ص: 159

ينتهي، لكن في الحقيقة عن حالة ينقطع عندها الرجاء؛ لسوء العمل، كيلا يصادفه الموت عليها، قاله في "المرقاة"

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: "لا يموتنّ" بنون التوكيد "أحد منكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه"؛ أي: لا يموتن أحدكم في حال من الأحوال، إلا في هذه الحالة، وهي حسن الظن باللَّه تعالى، بأن يظن أنه يرحمه، ويعفو عنه؛ لأنه إذا حضر أجله، وأتت رحلته، لم يبق لخوفه معنًى، بل يؤدي إلى القنوط، وهو تضييق لمجاري الرحمة والإفضال، ومن ثَمّ كان من الكبائر القلبية، فحُسن الظنّ، وعِظَم الرجاء أحسن ما تزوّده المؤمن لقدومه على ربه. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: نَهَى أن يموتوا على غير حالة حسن الظن، وذلك ليسر، بمقدورهم، بل المراد: الأمر بتحسين الأعمال؛ أي: أحسنوا أعمالكم الآن، حتى يحسن باللَّه ظنكم عند الموت، فإن من ساء عمله قبل الموت يسوء ظنّه عند الموت. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قال العلماء: هذا تحذير من القنوط، وحثٌّ على الرجاء عند الخاتمة، وقد سبق في الحديث الآخر قوله سبحانه وتعالى:"أنا عند ظن عبدي بي".

قال العلماء: معنى حسن الظن باللَّه تعالى أن يَظُنّ أنه يرحمه، ويعفو عنه، قالوا: وفي حالة الصحة يكون خائفًا راجيًا، ويكونان سواءً، وقيل: يكون الخوف أرجح، فإذا دنت أمارات الموت غَلَّب الرجاء، أو مَحّضه؛ لأن مقصود الخوف الانكفاف عن المعاصي والقبائح، والحرص على الإكثار من الطاعات والأعمال، وقد تعذر ذلك، أو معظمه في هذا الحال، فاستُحِبّ إحسان الظن المتضمن للافتقار إلى اللَّه تعالى، والإذعان له، ويؤيده الحديث المذكور بعده:"يُبعث كل عبد على ما مات عليه"، ولهذا عقّبه مسلم للحديث الأول.

قال العلماء: معناه: يُبعث على الحالة التى مات عليها، ومثله الحديث الآخر بعده:"ثم بُعثوا على نياتهم"

(4)

، واللَّه تعالى أعلم".

(1)

"مرقاة المفاتيح" 4/ 64.

(2)

"فيض القدير" 6/ 455.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1365.

(4)

"شرح النوويّ" 17/ 209.

ص: 160

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7201 و 7202 و 7203](2877)، و (أبو داود) في "الجنائز"(3113)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4167)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 366)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 293 و 325 و 334 و 390)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1779)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(636 و 637 و 638)، و (تمام الرازي) في "فوائده"(1/ 245)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 446 و 4/ 192)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 437)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 87)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(2/ 165)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(2/ 86)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 378) و"شعب الإيمان"(2/ 8)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(1455)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): الحثّ على تحسين الظنّ باللَّه سبحانه وتعالى عند الموت؛ لأن اللَّه تعالى قال: "أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء"، صححه ابن حبّان.

2 -

(ومنها): الحثّ على العمل الصالح المفضي إلى حسن الظن.

3 -

(ومنها): التنبيه على تأميل العفو، وتحقيق الرجاء في روح اللَّه تعالى، قال النوويّ رحمه الله: قد تتبعت الأحاديث الصحيحة في الخوف والرجاء، فوجدت أحاديث الرجاء أضعاف أحاديث الخوف، مع ظهور الرجاء فيها. انتهى، قيل: لو لم يكن إلا حديث واحد، وهو حديث:"سبقت -أو غلبت- رحمتي غضبي" لكفى دليلًا على ترجيح الرجاء، ويعضده آية:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].

4 -

(ومنها): ما قاله التوربشيّ رحمه الله: الخوف والرجاء كالجناحين للسائرين إلى اللَّه سبحانه وتعالى، لكن في الصحة ينبغي أن يغلِّب الخوف ليتدرّج به فيها إلى تكثير الأعمال الصالحة، فإذا جاء الموت، وانقطع العمل، ينبغي أن يغلِّب

ص: 161

الرجاء، وحُسن الظن باللَّه تعالى؛ لأن الوفادة حينئذ إلى ملك كريم رؤوف رحيم. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7202]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ، كُلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد.

[تنبيه]: أما رواية جرير بن عبد الحميد عن الأعمش فقد ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(638)

- أخبرنا أبو يعلى، حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: "لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه جلّ وعلا". انتهى

(2)

.

وأما رواية أبي معاوية عن الأعمش، فقد ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4167)

- حدّثنا محمد بن طريف، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يموتنّ أحد منكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه". انتهى

(3)

.

وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3113)

- حدّثنا مسدّد، ثنا عيسى بن يونس، ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد اللَّه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث، قال:"لا يموت أحدكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه". انتهى

(4)

.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1365.

(2)

"صحيح ابن حبان" 2/ 404.

(3)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1395.

(4)

"سنن أبي داود" 3/ 189.

ص: 162

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7203]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا وَاصِلٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: "لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مَعْبَدٍ) بن كُوسجان -بسين مهملة، ثم جيم- المروزيّ السِّنْجِي -بكسر المهملة، بعدها نون ساكنة، ثم جيم- ثقةٌ صاحب حديث، رحّال، أديب [11](ت 257)(م ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

2 -

(أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ) محمد بن الفضل السَّدُوسيّ البصريّ، وعارم لقبه، ثقةٌ ثبتٌ تغير في آخر عمره، من صغار [9](ت 3 أو 224)(ع) تقدم في "الحج" 28/ 3013.

3 -

(مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ) الأزديّ الْمِعْوَليّ -بكسر الميم، وسكون المهملة، وفتح الواو- أبو يحيى البصريّ، ثقةٌ، من صغار [6](ت 172)(ع) تقدم في "الإيمان" 47/ 297.

4 -

(وَاصِلُ) مولى أبي عيينة بتحتانية مصغر ابن المهلّب بن أبي صفرة، الأزديّ البصريّ، صدوقٌ عابدٌ [6](خ م د س ق) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 13/ 1237.

5 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكيّ، تقدّم قريبًا.

و"جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ رضي الله عنهما" ذُكر قبله.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد تقدّم شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7204]

(2878) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَا: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ").

ص: 163

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد ذكر قبل حديث، غير قتيبة، فتقدّم قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرٍ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُبْعَثُ) بالبناء للمفعول، (كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ") زاد في رواية ابن حبّان:"المؤمن على إيمانه، والمنافق على نفاقه".

والمعنى: أن العبد يبعثه اللَّه سبحانه وتعالى يوم القيامة على الحال التي مات عليها، من خير، أو شرّ، قال الهرويّ: وليس قول من ذهب به إلى الأكفان بشيء؛ لأن الإنسان إنما يُكَفَّن بعد الموت، ثم هذا الحديث يوضحه حديث أبي داود، عن ابن عمرو رضي الله عنهما قيل: يا رسول اللَّه أخبرني عن الجهاد والغزو؟ قال: "إن قُتلت صابرًا محتسبًا، بُعثت صابرًا محتسبًا، وإن قُتلت مرائيًا مكاثرًا، بُعثت مرائيًا مكاثرًا، على أيّ حال قاتلت، أو قُتلت بعثك اللَّه بتلك الحال"

(1)

.

قال عياض: أورد مسلم هذا الحديث عقب حديث: "لا يموتنّ أحدكم، إلا وهو يحسن الظن باللَّه" مشيرًا إلى أنه مفسِّر له، ثم أعقبه بحديث:"ثم بُعثوا على أعمالهم" مشيرًا إلى أنه، وإن كان مفسِّرًا لِمَا قبله، فليس قاصرًا عليه، وإنه، هو عام فيه وفي غيره. انتهى

(2)

.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7204 و 7205](2878)، و (ابن ماجه) في "الزهد"(4230)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 331 و 366)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(255)، و (الحاكم) في "المستدرك"(2/ 542)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(1901)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7313 و 7319)، و (أبى ونعيم) في "ذكر أخبار أصبهان"(2/ 49)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4206 و 4207)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"فيض القدير" 6/ 457.

(2)

راجع: "إكمال المعلم" 8/ 410.

ص: 164

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7205]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، وَقَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"أبو بكر بن نافع" هو: محمد بن أحمد بن نافع، و"سفيان" هو: الثوريّ.

وقوله: (وَقَالَ: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فاعل "قال" ضمير سفيان الثوريّ.

[تنبيه]: رواية سفيان عن الأعمش هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(14984)

- حدّثنا أبو نعيم، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"يُبعَث كل عبد على ما مات عليه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7206]

(2879) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ) المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(ابْنُ وَهْبٍ) عبد اللَّه المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(يُونُسُ) بن يزيد بن أبي النِّجاد الأيليّ، أبو يزيد مولى آل أبي سفيان، ثقة ثبتٌ، من كبار [7](159) على الصحيح، وقيل: سنة ستين ومائة (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 14.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 3/ 366.

ص: 165

4 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ، تقدّم قبل باب.

5 -

(حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) بن الخطاب المدنيّ، شقيق سالم، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الصلاة" 22/ 945.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنهما، تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما تقدّم القول فيه قريبًا

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا)؛ أي: عقوبةً لهم، (أَصَابَ) ذلك (الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ) كلمة "مَنْ" من صيغ العموم؛ يعني: يصيب الصالحين منهم أيضًا، (ثُمَّ بُعِثُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ")؛ أي: لكنهم يبعثون يوم القيامة على حسب أعمالهم، فيثاب الصالح بذلك؛ لأنه كان تمحيصًا له، ويعاقَب غيره، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: قوله: "إذا أراد اللَّه بقوم عذابًا"؛ أي: عقوبة في الدنيا؛ كقحط، وفناء، وجَور، "أصاب"؛ أي: أوقع العذاب بسرعة وقوّة، "من كان فيهم، ثم بُعثوا" بعد الممات عند النفخة الثانية، "على أعمالهم"؛ ليجازوا عليها، فمن كانت أعماله صالحة أُثيب عليها، أو سيئة جوزي بها، فيجازون في الآخرة بأعمالهم ونياتهم، وأما ما أصابهم في الدنيا عند ظهور المنكر، فتطهير للمؤمنين ممن لم ينكِر، وداهن مع القدرة، ونقمة لغيرهم، وقضية ما تقرّر أن العذاب لا يعم من أنكر، ويؤيده آية:{أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف: 165]، لكن ظاهر:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وخبر: "أنهلك وفينا الصالحون،

(1)

"عمدة القاري" 24/ 207.

ص: 166

قال: نعم إذا كثر الخبث" العموم. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: قد يُستشكل هذا، فيقال: كيف يصيب العذاب من لم يفعل أفعالهم، والجواب من وجهين:

أحدهما: أن يكون فيهم راضيًا بأفعالهم، أو غير منكِر لها، فيعذَّب برضاه المعصية، وسكوته عن الإنكار، فإن الصالحين من بني إسرائيل لمّا أنكروا على المفسدين، ثم واكلوهم، وصافَوْهم عمّ العذاب الكل.

والثاني: أن يكون إصابةُ العذاب لهم، لا على وجه التعذيب، ولكن يكون إماتة لهم عند انتهاء آجالهم، كما هلكت البهائم والمواشي في الطوفان بآجالها، لا بالتعذيب. انتهى

(2)

.

وقال في "الفتح": قوله: "إذا أنزل اللَّه بقوم عذابًا"؛ أي: عقوبةً لهم على سيئ أعمالهم، وقوله:"أصاب العذاب من كان فيهم"، في رواية أبي النعمان، عن ابن المبارك:"أصاب به من بين أظهرهم"، أخرجه الإسماعيليّ، والمراد: من كان فيهم، ممن ليس هو على رأيهم.

وقوله: "ثم بُعثوا على أعمالهم"؛ أي: بُعث كلُّ واحد منهم على حسب عمله، إن كان صالحًا فعقباه صالحة، وإلا فسيئة، فيكون ذلك العذاب طهرة للصالحين، ونقمة على الفاسقين.

وفي صحيح ابن حبان، عن عائشة، مرفوعًا:"إن اللَّه إذا أنزل سطوته بأهل نقمته، وفيهم الصالحون، قُبضوا معهم، ثم بُعثوا على نياتهم، وأعمالهم"، وأخرجه البيهقيّ في "الشعب"، وله من طريق الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب، عنها، مرفوعًا:"إذا ظهر السوء في الأرض، أنزل اللَّه بأسه فيهم"، قيل: يا رسول اللَّه، وفيهم أهل طاعته؟ قال:"نعم، ثم يُبعثون إلى رحمة اللَّه تعالى".

قال ابن بطال رحمه الله: هذا الحديث يبيّن حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها

(1)

"فيض القدير" 1/ 265.

(2)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 627.

ص: 167

حيث قالت: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث"، فيكون إهلاك الجميع عند ظهور المنكر، والإعلان بالمعاصي.

قال الحافظ: الذي يناسب كلامه الأخير حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر، فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم اللَّه بعقاب"، أخرجه الأربعة، وصححه ابن حبان.

وأما حديث ابن عمر في الباب، وحديث زينب بنت جحش فمتناسبان، وقد أخرجه مسلم عقبه، ويجمعهما أن الهلاك يعم الطائع مع العاصي، وزاد حديث ابن عمر أن الطائع عند البعث يجازى بعمله، ومثله حديث عائشة مرفوعًا:"العجب أن ناسًا من أمتي يؤمّون هذا البيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم، فقلنا: يا رسول اللَّه إن الطريق قد تجمع الناس؟ قال: نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم اللَّه على نياتهم"، أخرجه مسلم.

وله من حديث أم سلمة رضي الله عنها نحوه، ولفظه:"فقلت: يا رسول اللَّه، فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: يُخسف به معهم، ولكنه يُبعث يوم القيامة على نيته".

وله من حديث جابر رضي الله عنه رفعه: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه".

وقال الداوديّ: معنى حديث ابن عمر: أن الأمم التي تعذَّب على الكفر، يكون بينهم أهل أسواقهم، ومن ليس منهم، فيصاب جميعهم بآجالهم، ثم يُبعثون على أعمالهم.

ويقال: إذا أراد اللَّه عذاب أمة أعقم نساءهم خمس عشرة سنة قبل أن يصابوا؛ لئلا يصاب الولدان الذين لم يَجْر عليهم القلم. انتهى.

قال الحافظ: وهذا ليس له أصل، وعموم حديث عائشة رضي الله عنها يردّه، وقد شوهدت السفينة ملأى من الرجال والنساء والأطفال، تغرق، فيهلكون جميعًا، ومثله الدار الكبيرة تُحرق، والرفقة الكثيرة تخرج عليها قطاع الطريق، فيهلكون جميعًا، أو أكثرهم، والبلد من بلاد المسلمين يهجمها الكفار، فيبذلون السيف في أهلها، وقد وقع ذلك من الخوارج قديمًا، ثم من القرامطة، ثم من الططر أخيرًا، واللَّه المستعان.

ص: 168

قال القاضي عياض: أورد مسلم حديث جابر: "يُبعث كل عبد على ما مات عليه" عقب حديث جابر أيضًا، رفعه:"لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللَّه" يشير إلى أنه مفسِّر له، ثم أعقبه بحديث:"ثم بُعثوا على أعمالهم" مشيرًا إلى أنه وإن كان مفسِّرًا لِمَا قبله، لكنه ليس مقصورًا عليه، بل هو عام فيه وفي غيره، ويؤيده الحديث الذي ذكره بعده:"ثم يبعثهم اللَّه على نياتهم". انتهى ملخصًا.

والحاصل: أنه لا يلزم من الاشتراك في الموت الاشتراك في الثواب، أو العقاب، بل يجازى كل أحد بعمله على حسب نيته.

وجنح ابن أبي جمرة إلى أن الذين يقع لهم ذلك إنما يقع بسبب سكوتهم عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما من أمر ونهى فهم المؤمنون حقًّا، لا يرسل اللَّه عليهم العذاب، بل يدفع بهم العذاب، ويؤيده قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} [الأنفال: 33]، ويدل على تعميم العذاب لمن لم يَنْه عن المنكر، وإن لم يتعاطاه قوله تعالى:{فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140]

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7206](2879)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7108)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 40)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7315)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 430)، و (تمّام الرازي) في "فوائده"(1/ 152)، و (الخطيب) في "تاريخه"(6/ 88 - 89)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4204)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 16/ 524 - 526، "كتاب الفتن" رقم (7108).

ص: 169

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان عموم عذاب الدنيا الصالح والطالح، وإنما يخصّ عذاب الآخرة.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن أبي جمرة رحمه الله: في الحديث مشروعية الْهَرَب من الكفار، ومن الظَّلَمة؛ لأن الإقامة معهم من إلقاء النفس إلى التهلكة، هذا إذا لم يُعِنْهم، ولم يرض بأفعالهم، فإن أعان، أو رضي فهو منهم، ويؤيده أمْره صلى الله عليه وسلم بالإسراع في الخروج من ديار ثمود، وأما بعثهم على أعمالهم فحُكم عدل؛ لأن أعمالهم الصالحة إنما يجازون بها في الآخرة، وأما في الدنيا فمهما أصابهم من بلاء كان تكفيرًا لِمَا قدّموه من عمل سيئ، فكان العذاب المرسَل في الدنيا على الذين ظلموا يتناول من كان معهم، ولم يُنكِر عليهم، فكا ان ذلك جزاء لهم على مداهنتهم، ثم يوم القيامة يُبعث كل منهم فيجازى بعمله.

3 -

(ومنها): أن فيه تحذيرًا، وتخويفًا عظيمًا لمن سكت عن النهي، فكيف بمن داهن، فكيف بمن رضي، فكيف بمن عاون، نسأل اللَّه السلامة، قاله ابن أبي جمرة رحمه الله.

قال الحافظ: ومقتضى كلامه أن أهل الطاعة لا يصيبهم العذاب في الدنيا بجريرة العصاة، وإلى ذلك جنح القرطبيّ في "التذكرة"، وما قدمناه قريبًا أشبه بظاهر الحديث، وإلى نحوه مال القاضي ابن العربيّ. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

* * *

(1)

"الفتح" 16/ 526.

ص: 170

(55) - (كِتَابُ الْفِتَنِ، وأَشْرَاطِ السَّاعَةِ)

" الفتن": جمع فتنة، قال الراغب الأصفهانيّ رحمه الله: أصل الفَتْن: إدخال الذهب في النار؛ لتظهر جودته من رداءته، ويُستعمل في إدخال الإنسان النار، ويطلق على العذاب، كقوله تعالى:{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، وعلى ما يحصل عند العذاب، كقوله تعالى:{أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [لتوبة: 49]، وعلى الاختبار، كقوله:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، وفيما يُدفع إليه الإنسان من شدّة، ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى، وأكثر استعمالًا، قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، ومنه قوله:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ} [لإسراء: 73]؛ أي: يوقعونك في بلية وشدة في صرفك عن العمل بما أُوحي إليك.

وقال أيضًا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من اللَّه، ومن العبد؛ كالبلية، والمصيبة، والقتل، والعذاب، والمعصية، وغيرها من المكروهات، فإن كانت من اللَّه فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمر اللَّه فهي مذمومة، فقد ذم اللَّه الإنسان بإيقاع الفتنة، كقوله:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، وقوله:{مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162)} [الصافات: 162]، وقوله:{بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)} [القلم: 6]، وكقوله:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49].

وقال غيره: أصل الفتنة: الاختبار، ثم استُعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أُطلقت على كل مكروه، أو آيل إليه، كالكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

و"الأشراط": بالفتح: جمع شَرَط بفتحتين، مثلُ سبب وأسباب، وهي

(1)

"الفتح" 16/ 432 رقم (4048).

ص: 171

العلامة، ومنه أشراط الساعة؛ أي: علاماتها، والشُّرَط جمع شرْطة، مثل غُرفة وغُرَف، يُطلق على أعوان السلطان؛ لأنهم يجعلون لأنفسهم علامات يُعرفون بها.

(1) - (بَابُ اقْتِرَابِ الْفِتَنِ، وَفَتْحِ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)

" يأجوج"، و"مأجوج" بغير همز لأكثر القراء، وقرأ عاصم بالهمزة الساكنة فيهما، وهي لغة بني أسد، وقرأ العجاج وولده رؤبة: أأجوج بهمزة بدل الياء، وهما اسمان أعجميان عند الأكثر، مُنعا من الصرف للعَلَمية والعُجمة، وقيل: بل عربيان، واختُلف في اشتقاقهما، فقيل: من أجيج النار، وهو التهابها، وقيل: من الأجة بالتشديد، وهي الاختلاط، أو شدة الحر، وقيل: من الأج وهو سرعة العَدْو، وقيل: من الأُجاج، وهو الماء الشديد الملوحة، ووزنهما يفعول، ومفعول، وهو ظاهر قراءة عاصم، وكذا الباقين إن كانت الألف مسهّلة من الهمزة، فقيل: فاعول، من يج مج، وقيل: ماجوج من ماج، إذا اضطرب، ووزنه أيضًا مفعول، قاله أبو حاتم، قال: والأصل: موجوج، وجميع ما ذُكر من الاشتقاق مناسب لحالهم، ويؤيد الاشتقاق، وقول من جعله من ماج إذا اضطرب، قوله تعالى:{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} [الكهف: 99]، وذلك حين يخرجون من السدّ

(1)

.

وقال في "الفتح": إنهم قبيلتان

(2)

من بني آدم، ثم بني يافث بن نوح، وبه

(1)

"الفتح" 16/ 599 "كتاب الفتن" رقم (7135).

(2)

وقال في "الفتح" في "كتاب الأنبياء" 7/ 639: ويأجوج ومأجوج قبيلتان من ولد يافث بن نوح، روى ابن مردويه، والحاكم، من حديث حذيفة مرفوعًا:"يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف رجل، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف رجل من صُلبه، كلهم قد حَمَل السلاح، لا يمرّون على شيء إذا خرجوا إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم"، قال: وقد أشار النوويّ وغيره إلى حكاية من زعم أن آدم نام، فاحتلم، فاختلط منيّه بتراب، فتولّد منه ولد يأجوج ومأجوج من نسله، وهو قول منكَر جدًّا، لا أصل له إلا عن بعض أهل الكتاب، وذكر ابن هشام =

ص: 172

جزم وهب وغيره، وقيل: إنهم من التُّرك، قاله الضحاك، وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الديلم، وعن كعب: هم من ولد آدم من غير حواء، وذلك أن آدم نام، فاحتلم، فامتزجت نطفته بالتراب، فخُلق منها يأجوج ومأجوج، ورُدّ بأن النبي لا يحتلم، وأجيب عنه بأن المنفيّ أن يرى في المنام أنه يجامع، فيحتمل أن يكون دَفَق الماء فقط، وهو جائز، كما يجوز أن يبول، والأول المعتمَد، وإلا فأين كانوا حين الطوفان؟

قال: وجاء في صفتهم ما أخرجه ابن عديّ وابن أبي حاتم، والطبرانيّ في "الأوسط" وابن مردويه، من حديث حذيفة رضي الله عنه، رفعه:"قال: يأجوج أمة، ومأجوج أمة، كل أمة أربعمائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صُلبه، كلهم قد حمل السلاح"، وهو من رواية يحيى بن سعيد العطار، عن محمد بن إسحاق، عن الأعمش، والعطار ضعيف جدًّا، ومحمد بن إسحاق قال ابن عديّ: ليس هو صاحب المغازي، بل هو العكاشيّ، قال: والحديث موضوع، وقال ابن أبي حاتم: منكر.

قال الحافظ: لكن لبعضه شاهد صحيح، أخرجه ابن حبان من حديث ابن مسعود، رفعه:"إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم لِصُلبه ألفًا من الذرية"، وللنسائيّ من رواية عمرو بن أوس، عن أبيه، رفعه:"إن يأجوج ومأجوج يجامِعون ما شاؤوا، ولا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا"، وأخرج الحاكم، وابن مردويه، من طريق عبد اللَّه بن عمرو:"إن يأجوج ومأجوج من ذرية آدم، ووراءهم ثلاث أمم، ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا"، وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح، عن عبد اللَّه بن سلام مثله، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبد اللَّه بن عمرو:"قال: الجن والإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وجزء سائر الناس"، ومن طريق شُريح بن عُبيد، عن كعب: قال: هم ثلاثة أصناف: صنف أجسادهم كالأَرْز، بفتح الهمزة، وسكون الراء، ثم زاي، هو شجر كبار جدًّا، وصنف

= في "التيجان" أن أمة منهم آمنوا باللَّه، فتركهم ذو القرنين لمّا بنى السدّ بأرمينية، فسُمُّوا التُّرك لذلك. انتهى.

ص: 173

أربعة أذرع في أربعة أذرع، وصنف يفترشون آذانهم، ويلتحفون بالأخرى، ووقع نحو هذا في حديث حذيفة، وأخرج أيضًا هو والحاكم من طريق أبي الجوزاء، عن ابن عباس: يأجوج ومأجوج شبرًا شبرًا، وشبرين شبرين، وأطولهم ثلاثة أشبار، وهم من ولد آدم، ومن طريق أبي هريرة، رفعه:"وُلد لنوح: سام، وحام، ويافث، فوُلد لسام: العرب، وفارس، والروم، ووُلد لِحام: القبط، والبربر، والسودان، ووُلد ليافث: يأجوج ومأجوج، والتُّرك، والصقالبة"، وفي سنده ضعف، ومن رواية سعيد بن بشير، عن قتادة، قال:"يأجوج ومأجوج اثنتان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السدّ على إحدى وعشرين، وكانت منهم قبيلة غائبة في الغزو، وهم الأتراك، فبقوا دون السدّ"، وأخرج ابن مردويه من طريق السديّ قال: التُّرك سَريَّة من سرايا يأجوج ومأجوج، خرجت تُغير، فجاء ذو القرنين، فبنى السدّ، فبقوا خارجًا.

ووقع في فتاوى الشيخ محيي الدين: يأجوج ومأجوج من أولاد آدم، لا من حواء، عند جماهير العلماء، فيكونون إخواننا لأب، كذا قال، ولم نر هذا عن أحد من السلف، إلا عن كعب الأحبار، ويردّه الحديث المرفوع:"إنهم من ذرية نوح"، ونوح من ذرية حواء قطعًا. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7207]

(2880) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ"، وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.

(1)

"الفتح" 16/ 599 - 600، "كتاب الفتن" رقم (7135).

ص: 174

2 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد الكوفيّ، ثمّ المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الزُّهْرِيُّ) محمد بن مسلم، أبو بكر المدنيّ، تقدّم في الحديث الماضي.

4 -

(عُرْوَةُ) بن الزبير، أبو عبد اللَّه المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

5 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ) بن عبد الأسد المخزومية، ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ماتت سنة ثلاث وسبعين، وحضر ابن عمر جنازتها بمكة، قبل أن يحجّ، ويموت (ع) تقدمت في "الحيض" 2/ 689.

6 -

(أُمُّ حَبِيبَةَ) رَمْلة بنت أبي سفيان بن حرب الأمويّة، أم المؤمنين، مشهورة بكنيتها، ماتت رضي الله عنها سنة اثنتين، أو أربع، وقيل: سنة تسع وأربعين، وقيل: وخمسين (ع) تقدمت في "المساجد ومواضع الصلاة" 3/ 1186.

7 -

(زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشِ) بن رئاب بن يعمر الأسديّة، أم المؤمنين، أمها أميمة بنت عبد المطلب، يقال: ماتت سنة عشرين في خلافة عمر رضي الله عنهما (ع) تقدمت في "الزكاة" 49/ 2481.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه ثلاثة من الصحابيّات روى بعضهنّ عن بعض، واثنتان من أمهات المؤمنين، وواحدة ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وعروة من الفقهاء السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ) ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي رواية يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابِ الآتية: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ، أَنَّ أُمَّ حَبَيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَتْهَا. (عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) رملة بنت أبي سفيان، أم المؤمنين رضي الله عنها، وفي رواية يونس:"أن أم حبيبة بنت أبي سفيان حدثتها". (عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ) أم المؤمنين رضي الله عنها (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَ) الحال (هُوَ يَقُولُ) تعجّبًا مما رآه في منامه من الفتن التي تقع في أمته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم: ("لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وفي الرواية الآتية: "قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَزِعًا، مُحْمَرًّا وَجْهُهُ"، وفي رواية:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فَزِعًا"، فيُجمع على

ص: 175

أنه دخل عليها بعد أن استيقظ النبيّ صلى الله عليه وسلم فزعًا، وكانت حمرة وجهه من ذلك الفزع، وجَمع بينهما في رواية سليمان بن كثير، عن الزهريّ، عند أبي عوانة، فقال:"فَزِعًا محمرًّا وجهه"

(1)

.

(وَيْلٌ لِلْعَرَبِ)"ويل" كلمة تقال للحزن، والهلاك، والمشقة من العذاب، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل

(2)

.

وإنما خص العرب لاحتمال أنه أراد: ما وقع من قَتْل عثمان بينهم، وقيل: يَحْتَمِل أنه أراد: ما سيقع من مفسدة يأجوج ومأجوج، ويَحتمل أنه أراد: ما وقع من التُّرك من المفاسد العظيمة في بلاد المسلمين، وهم من نَسْل يأجوج ومأجوج، قاله في "العمدة"

(3)

.

وقال في "الفتح": خَصّ العرب بذلك؛ لأنهم كانوا حينئذ معظم من أسلم، والمراد بالشرّ: ما وقع بعده من قتل عثمان، ثم توالت الفتن، حتى صارت العرب بين الأمم؛ كالقصعة بين الأَكَلة، كما وقع في الحديث الآخر:"يوشك أن تداعى عليكم الأمم، كما تداعى الأكلة على قصعتها"، وأن المخاطَب بذلك العرب، قال القرطبيّ: ويَحْتَمِل أن يكون المراد بالشرّ: ما أشار إليه في حديث أم سلمة: "ماذا أُنزل الليلة من الفتن، وماذا أُنزل من الخزائن"، فأشار بذلك إلى الفتوح التي فُتحت بعده، فكثرت الأموال في أيديهم، فوقع التنافس الذي جرّ الفتن، وكذلك التنافس على الإمرة، فإن معظم ما أنكروه على عثمان تولية أقاربه من بني أمية وغيرهم، حتى أفضى ذلك إلى قَتْله،، وترتب على قَتْله من القتال بين المسلمين ما اشتهر واستمرّ. انتهى

(4)

.

(مِنْ شَرٍّ) بيان للويل، وقوله:(قَدِ اقْتَرَبَ) جملة في محل جرّ؛ لأنه صفة لقوله: "من شرّ".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ويل للعرب. . . إلخ" هذا تنبيه على الاختلاف، والفتن، والهرج الواقع في العرب، وأول ذلك قَتْل عثمان رضي الله عنه، ولذلك أخبر عنه بالقُرْب، ثم لم يزل كذلك إلى أن صارت العرب بين الأمم

(1)

"الفتح" 16/ 600 - 601.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 238.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 238.

(4)

"الفتح" 16/ 601.

ص: 176

كالقصعة بين الأكلة، كما قال في الحديث الآخر:"يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تتداعى الأكلة على قصعتها"

(1)

، قال ذلك مخاطبًا للعرب، ولهم خاطب أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم:"إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القَطْر"

(2)

.

(فُتِحَ) بالبناء للمفعول، (الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)؛ أي: من سدّ يأجوج ومأجوج، يقال: رَدَمت الثلمة؛ أي: سددتها، الاسم والمصدر سواء، وذلك أنهم يحفرون كل يوم حتى لا يبقى بينهم وبين أن يخرقوا النقب إلا يسيرٌ، فيقولون: غدًا نأتي، فنفرغ منه، فيأتون بعد الصباح، فيجدونه عاد كهيأته، فإذا جاء الوقت، قالوا عند المساء: غدًا إن شاء اللَّه نأتي، فنفرغ منه، فينقبونه، ويخرجون، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" من حديث أبي هريرة، وحذيفة، وفي "تفسير مقاتل":"يغدون إليه في كل يوم، فيعالجون حتى يولد فيهم رجل مسلم، فإذا غدوا عليه، قال لهم المسلم: قولوا: بسم اللَّه، فيعالجونه حتى يتركونه رقيقًا، كقشر البيض، ويرى ضوء الشمس، فيقول المسلم: قولوا: بسم اللَّه غدًا نرجع إن شاء اللَّه تعالى، فنفتحه. . . " الحديث

(3)

.

(مِثْلُ هَذِهِ"، وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً) وفي الرواية الآتية: "وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا"؛ أي: جعلهما مثل الحلقة، وفي رواية:"وعقد وهيب بيده تسعين"، وفي رواية عن البخاريّ:"وعقد سفيان تسعين، أو مائة"، وفي رواية سليمان بن كثير، عن الزهريّ عند أبي عوانة، وابن مردويه:"مثل هذه، وعقد تسعين"، ولم يعيّن الذي عقد، ولابن حبان من طريق شريح بن يونس، عن سفيان:"وحلّق بيده عشرة"، ولم يعيّن أن الذي حلّق هو سفيان، وأخرجه من طريق يونس، عن الزهريّ بدون ذِكر العقد.

قال عياض وغيره: هذه الروايات متفقة إلا قوله: "عشرة". قال الحافظ:

(1)

رواه أحمد، وأبو داود، وهو حديث صحيح.

(2)

"المفهم" 7/ 207، وهذا الحديث متّفقٌ عليه.

(3)

"عمدة القاري" 15/ 238.

ص: 177

وكذا الشك في المائة؛ لأن صفاتها عند أهل المعرفة بعقد الحساب مختلفة، وإن اتفقت في أنها تُشبه الحلقة، فعَقْد العشرة أن يجعل طرف السبابة اليمنى في باطن طي عقدة الإبهام العليا، وعقد التسعين أن يجعل طرف السبابة اليمنى في أصلها، ويضمها ضمًّا محكمًا، بحيث تنطوي عقدتاها، حتى تصير مثل الحية المطوّقة.

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن صورته أن يجعل السبابة في وسط الإبهام، وردّه ابن التين بما تقدم، فإنه المعروف، وعقد المائة مثل عقد التسعين، لكن بالخنصر اليسرى، فعلى هذا فالتسعون والمائة متقاربان، ولذلك وقع فيهما الشك، وأما العشرة فمغايرة لهما.

قال القاضي عياض: لعل حديث أبي هريرة متقدم، فزاد الفتحُ بعده القدر المذكور في حديث زينب.

قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه لو كان الوصف المذكور من أصل الرواية لاتّجه، ولكن الاختلاف فيه من الرواة عن سفيان بن عيينة، ورواية من روى عنه تسعين، أو مائة، أتقن، وأكثر من رواية من روى عشرة، وإذا اتّحد مخرج الحديث، ولا سيما في أواخر الإسناد بَعُد الحمل على التعدد جدًّا. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مما سبق يتبيّن أن الترجيح هو الأَولى من الجمع بالتعدّد، فتقدّم رواية:"عقد تسعين"؛ لكثرة من رواها، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(قُلْتُ:) وفي رواية البخاريّ: "قالت زينب بنت جحش"، وهذا يخصص رواية سليمان بن كثير بلفظ:"قالوا: أنهلك"، ويعيّن أن اللافظ بهذا السؤال هي زينب بنت جحش راوية الحديث. (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ) بكسر اللام، على اللغة الفصيحة المشهورة، وحُكِي فتحها، وهو ضعيف، أو فاسد، قاله النوويّ

(1)

.

وقال المجد رحمه الله: "هلك" كضرب، ومنع، وعَلِمَ هُلْكًا بالضمّ، وهَلاكًا، وتُهْلُوكًا، وهُلُوكًا بضمّهما، ومهلكةً، وتهلكةً مثلّثي اللام: مات. انتهى.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 3.

ص: 178

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أفادت عبارة المجد أن "نهلك" هنا بكسر اللام، وفَتْحها، فتفطّن، واللَّه تعالى أعلم.

وفي رواية يزيد بن الأصم، عن ميمونة، عن زينب بنت جحش في نحو هذا الحديث:"فُرج الليلةَ من رَدْم يأجوج ومأجوج فرجةٌ، قلت: يا رسول اللَّه أيعذبنا اللَّه، وفينا الصالحون". (وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟) كأنها أخذت ذلك من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]، (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("نَعَمْ) تهلِكون، وإن كان فيكم الصالحون، (إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ") -بفتح الخاء المعجمة، والموحّدة، ثم مثلثة- فسّروه بالزنا، وبأولاد الزنا، وبالفسوق، والفجور، وهو أَولى؛ لأنه قابَله بالصلاح، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7201 و 7208 و 7209 و 7210](2880)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3346) و"المناقب"(3598) و"الفتن"(7059 و 7135)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2187)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 391 و 407)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3953)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20749)، و (الحميديّ) في "مسنده"(308)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(19061)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 428)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(327 و 6831)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 82)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(10/ 93)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4201)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يُطلعه اللَّه سبحانه وتعالى بما سيكون من مغيّبات الأمور، فيقع على ما أخبر صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): ما قاله ابن العربيّ: أن فيه البيانَ بأن الخير يهلك بهلاك الشرير، إذا لم يغيّر عليه خبثه، وكذلك إذا غيّر عليه، لكن حيث لا يُجدي ذلك، ويصرّ الشرير على عمله السيئ، ويفشو ذلك، ويكثر حتى يعم الفساد،

ص: 179

فيهلك حينئذ القليل والكثير، ثم يُحشر كل أحد على نيته، قال: وكأن زينب رضي الله عنها فَهِمت من فَتْح القَدْر المذكور من الردم أن الأمر إن تمادى على ذلك اتسع الخرق، بحيث يخرجون، وكان عندها علم أن في خروجهم على الناس إهلاكًا عامًّا لهم. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن العربيّ أيضًا: في الإشارة المذكورة في الحديث دلالةً على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم عقد الحساب، حتى أشار بذلك لمن يعرفه، وليس في ذلك ما يعارض قوله في الحديث الآخر:"إنا أمة أميّة لا نحسُب، ولا نكتب"، فإن هذا إنما جاء لبيان صورة معيّنة خاصّة.

قال الحافظ: والأَولى أن يقال: المراد بنفي الحساب ما يتعاناه أهل صناعته من الجمع والْفَذْلكة، والضرب، ونحو ذلك، ومن ثَمّ قال:"ولا نكتب"، وأما عقد الحساب فإنه اصطلاح للعرب تواضعوه بينهم ليستغنوا به عن التلفظ، وكان أكثر استعمالهم له عند المساومة في البيع، فيضع أحدهما يده في يد الآخر، فيفهمان المراد من غير تلفظ؛ لِقَصد ستْر ذلك عن غيرهما، ممن يحضرهما، فشَبَّه صلى الله عليه وسلم قدر ما فُتح من السد بصفة معروفة عندهم.

[تنبيه]: قال الحافظ رحمه الله: قد أكثر الشعراء التشبيه بهذه العقود، ومن ظريف ما وقفت عليه من النظم في ذلك قول بعض الأدباء:

رُبَّ بُرْغُوثٍ لَيْلَةً بِتُّ مِنْهُ

وَفُؤَادِي فِي قَبْضَةِ التِّسْعِينِ

أَسَرَتْهُ يَدُ الثَّلَاثِينَ حَتَّى

ذَاقَ طَعْمَ الْحِمَامِ فِي السَّبْعِينِ

وعَقْد الثلاثين أن يضم طرف الإبهام إلى طرف السبابة مثل من يُمسك شيئًا لطيفًا كالإبرة، وكذلك البرغوث، وعقد السبعين أن يجعل طرف ظفر الإبهام بين عقدتي السبابة من باطنها، ويلوي طرف السبابة عليها مثل ناقد الدينار عند النقد، وقد جاء في خبر مرفوع أن يأجوج ومأجوج يحفرون السدّ كل يوم، وهو فيما أخرجه الترمذيّ وحسّنه، وابن حبان، والحاكم، وصححاه من طريق قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، رفعه في السدّ "يحفرونه كل يوم حتى إذا كادوا يخرقونه، قال الذي عليهم: ارجعوا، فستخرقونه غدًا، فيعيده اللَّه كأشدّ ما كان، حتى إذا بلغ مدتهم، وأراد اللَّه أن يبعثهم قال الذي عليهم: ارجعوا، فستخرقونه غدًا إن شاء اللَّه، واستثنى، قال: فيرجعون،

ص: 180

فيجدونه كهيئته حين تركوه، فيخرقونه، فيخرجون على الناس. . . " الحديث.

قال الحافظ: وأخرجه الترمذيّ، والحاكم، من رواية أبي عوانة، وعبد بن حميد من رواية حماد بن سلمة، وابن حبان من رواية سليمان التيميّ، كلهم عن قتادة، ورجاله رجال الصحيح، إلا أن قتادة مدلّس، وقد رواه بعضهم عنه فأدخل بينهما واسطة، أخرجه ابن مردويه، لكن وقع التصريح في رواية سليمان التيميّ عن قتادة بأن أبا رافع حدّثه، وهو في صحيح ابن حبان.

وأخرجه ابن ماجه من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: حدّث أبو رافع، وله طريق آخر عن أبي هريرة، أخرجه عبد بن حميد، من طريق عاصم، عن أبي صالح عنه، لكنه موقوف.

قال ابن العربيّ: في هذا الحديث ثلاث آيات:

الأولى: أن اللَّه منعهم أن يوالوا الحفر ليلًا ونهارًا.

الثانية: منعهم أن يحاولوا الرقي على السدّ بسلم أو آلة، فلم يلهمهم ذلك، ولا علمهم إياه، ويَحْتَمِل أن تكون أرضهم لا خشب فيها، ولا آلات تصلح لذلك.

وتعقّبه الحافظ، فقال: وهو مردود، فإن في خبرهم عند وهب في "المبتدأ" أن لهم أشجارًا، وزروعًا، وغير ذلك من الآلات، فالأول أَولى.

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق ابن عمرو بن أوس، عن جدّه، رفعه:"إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاؤوا، وشجر يلقحون ما شاؤوا. . . " الحديث.

الثالثة: أنه صدهم عن أن يقولوا: إن شاء اللَّه حتى يجيء الوقت المحدود.

قلت

(1)

: وفيه أن فيهم أهل صناعة، وأهل ولاية وسلاطة، ورعية تطيع من فوقها، وأن فيهم من يعرف اللَّه، ويقر بقدرته ومشيئته، ويَحْتَمِل أن تكون تلك الكلمة تجري على لسان ذلك الوالي من غير أن يعرف معناها، فيحصل المقصود ببركتها.

(1)

القائل هو الحافظ رحمه الله فتنبّه.

ص: 181

وقد أخرج عبد بن حميد من طريق كعب الأحبار نحو حديث أبي هريرة، وقال فيه: فإذا بلغ الأمر ألقى على بعض ألسنتهم: نأتي إن شاء اللَّه غدًا، فنفرع منه.

وأخرج ابن مردويه من حديث حذيفة نحو حديث أبي هريرة، وفيه:"فيصبحون، وهو أقوى منه بالأمس، حتى يُسلم رجل منهم حين يريد اللَّه أن يبلغ أمره، فيقول المؤمن: غدًا نفتحه إن شاء اللَّه، فيصبحون، ثم يغدون عليه، فيُفتح. . . " الحديث، وسنده ضعيف جدًّا، واللَّه تعالى أعلم

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7208]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو والأَشْعَثِيُّ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ، قَالُوا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادُوا فِي الإِسْنَادِ، عَنْ سُفْيَانَ: فَقَالُوا: عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، تقدّم قبل باب.

2 -

(سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيُّ) الْكِنْديّ، أبو عثمان الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 230)(م س) تقدم في "المقدمة" 4/ 19.

3 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر الْعَدَنيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (عَنْ حَبِيبَةَ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ) هكذا في هذه الرواية بزيادة حبيبة، قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد اجتمع فيه أربع صحابيات، زوجتان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وربيبتان له، بعضهنّ عن بعض، ولا يُعلم حديث اجتمع فيه أربع صحابيات

(1)

"الفتح" 16/ 602 - 603.

ص: 182

بعضهنّ عن بعض غيره، وأما اجتماع أربعة صحابة، أو أربعة تابعيين بعضهم عن بعض، فوجدت منه أحاديث، قد جمعتها في جزء، ونبهت في هذا الشرح على ما مرّ منها في "صحيح مسلم"، وحبيبة هذه هي بنت أم حبيبة أم المؤمنين بنت أبي سفيان، ولدتها من زوجها عبد اللَّه بن جحش الذي كانت عنده قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "عن أم حبيبة" هكذا قال بعض أصحاب سفيان بن عيينة، منهم مالك بن إسماعيل، ومنهم عمرو بن محمد الناقد، عند مسلم، ومنهم سعيد بن منصور في "السنن" له، ومنهم قتيبة، وهارون بن عبد اللَّه، عند الإسماعيليّ، والقعنبيّ عند أبي نعيم، وكذا قال مسدّد في "مسنده"، وهكذا عند البخاريّ من رواية عُقيل، وشعيب، ومحمد بن أبي عتيق، كلهم عن الزهريّ ليس في السند حبيبة.

قال: وزاد جماعة من أصحاب ابن عيينة عنه ذِكر حبيبة، فقالوا:"عن زينب بنت أم سلمة، عن حبيبة بنت أم حبيبة، عن أمها أم حبيبة". هكذا أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، وسعيد بن عمرو الأشعثيّ، وزهير بن حرب، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، أربعتهم عن سفيان، عن الزهريّ، قال مسلم: زادوا فيه حبيبة، وهكذا أخرجه الترمذيّ عن سعيد بن عبد الرحمن المخزوميّ، وغير واحد، كلهم عن سفيان، قال الترمذيّ: جوَّد سفيان هذا الحديث، هكذا رواه الحميديّ، وعليّ ابن المدينيّ، وغير واحد من الحفاظ، عن سفيان بن عيينة، قال الحميديّ: قال سفيان: حفظت عن الزهريّ في هذا الحديث أربع نسوة: زينمبما بنمسما أم سلمة، عن حبيبة، وهما ربيبتا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش، وهما زوجا النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو نعيم في "المستخرج" من طريق الحميديّ، فقال في روايته:"عن حبيبة بنت أم حبيبة، عن أمها أم حبيبة"، وقال في آخره: قال الحميديّ: قال سفيان: أحفظ في هذا الحديث عن الزهريّ أربع نسوة، قد رأين النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثنتين من أزواجه: أم حبيبة، وزينب بنت جحش، وثنتين ربيبتاه: زينب بنت أم سلمة،

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 2.

ص: 183

وحبيبة بنت أم حبيبة، أبوها عبيد اللَّه بن جحش، مات بأرض الحبشة. انتهى كلامه.

وأخرجه أبو نعيم أيضًا من رواية إبراهيم بن بشار الرماديّ، ونصر بن عليّ الجهضميّ، وأخرجه النسائيّ عن عبيد اللَّه بن سعيد، وابن ماجه عن أبي بكم بن أبي شيبة، والإسماعيليّ من رواية الأسود بن عامر، كلهم عن ابن عيينة بزب ادة حبيبة في السند، وساق الإسماعيليّ عن هارون بن عبد اللَّه قال: قال لي الأسود بن عامر: كيف يحفظ هذا عن ابن عيينة، فذكره له بنقص حبيبة، فقال: لكنه حدّثنا عن الزهريّ، عن عروة، عن أربع نسوة، كلهنّ قد أدركن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعضهنّ عن بعض.

قال الدارقطنيّ: أظنّ سفيان كان تارةً يذكرها، وتارةً يسقطها.

قال الحافظ: ورواه شُريح بن يونس عن سفيان، فأسقط حبيبة، وزينب بنت جحش، أخرجه ابن حبان، ومثله لأبي عوانة عن الليث، عن الزهريّ، ومن رواية سليمان بن كثير عن الزهريّ، وصرّح فيه بالإخبار.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الذي يظهر لي مما سبق أن كلا الطريقين محفوظان، بزيادة حبيبة في السند، وإسقاطها، كما أشار إليه الدارقطنيّ آنفًا، وكما هو ظاهر صنيع مسلم رحمه الله حيث أخرج الطريقين، ولم يتعقّب واحدًا منهما، واللَّه تعالى أعلم.

[فائدة]: حبيبة هذه هي حبيبة بنت عبيد اللَّه -بالتصغير- ابن جحش، ذكرها موسى بن عقبة فيمن هاجر إلى الحبشة، فتنصّر عبيد اللَّه بن جحش، ومات هناك، وثبتت أم حبيبة على الإسلام، فتزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجهزها إليه النجاشيّ، وحَكَى ابن سعد أن حبيبة إنما وُلدت بأرض الحبشة، فعلى هذا تكون في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم صغيرة، فهي نظير التي روت عنها في أن كلًّا منهما ربيبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي أن كلًّا منهما من صغار الصحابة، وزينب بنت جحش هي عمة حبيبة المذكورة، فروت حبيبة عن أمها، عن عمتها، وكانت وفاة زينب قبل وفاة أم حبيبة.

قال الحافظ رحمه الله: وزعم بعض الشراح أن رواية مسلم بذكر حبيبة تؤذن بانقطاع طريق البخاريّ.

ص: 184

قلت

(1)

: وهو كلام من لم يطّلع على طريق شعيب التي نبهت عليها.

وقد جمع الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزديّ جزءًا في الأحاديث المسلسلة بأربعة من الصحابة، وجملة ما فيه أربعة أحاديث، وجمع ذلك بعده الحافظ عبد القادر الرُّهاويّ، ثم الحافظ يوسف بن خليل، فزاد عليه قدرها، وزاد واحدًا خماسيًّا، فصارت تسعة أحاديث، وأصحها حديث الباب، ثم حديث عمر في العُمالة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

، وهو بحث نفيس جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2187)

- حدّثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزوميّ، وأبو بكر بن نافع، وغير واحد، قالوا: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهريّ، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش، قالت: استيقظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نومه مُحْمَرًّا وجهه، وهو يقول:"لا إله إلا اللَّه -يرددها ثلاث مرات- ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد عشرًا، قالت زينب: قلت: يا رسول اللَّه، أفنهلك وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا كَثُر الْخَبَث".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، وقد جَوَّد سفيان هذا الحديث، هكذا روى الحميديّ، وعليّ ابن المدينيّ، وغير واحد من الحفاظ، عن سفيان بن عيينة نحو هذا، وقال الحميديّ: قال سفيان بن عيينة: حفظت من الزهريّ في هذا الحديث أربع نسوة، زينب بنت أبي سلمة، عن حبيبة، وهما ربيبتا النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن أم حبيبة، عن زينب بنت جحش، زوجي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهكذا رَوَى معمر وغيره هذا الحديث عن الزهريّ، ولم يذكروا فيه:"عن حبيبة"، وقد روى بعض أصحاب ابن عيينة هذا الحديث عن ابن عيينة، ولم يذكروا فيه:"عن أم حبيبة". انتهى كلام الترمذيّ رحمه الله

(3)

.

(1)

القائل هو الحافظ رحمه الله فتنبّه.

(2)

"الفتح" 16/ 446 - 447.

(3)

"جامع الترمذيّ" 4/ 480.

ص: 185

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7209]

(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبرَنِي يُونُسُ، عَن ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، أَخْبَرَتْهَا أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَزِعًا، مُحْمَرًّا وَجْهُهُ، يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ، لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ"، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (فَزِعًا)؛ أي: خائفًا مما أخبر به أنه يصيب أمته.

وقوله: (وَيْلٌ) كلمة تقال لمن وقع في هلكة، ولا يُترحم عليه، و"ويح" كلمه تقال لمن وقع في هلكة يترحم عليه.

وقوله: (لِلْعَرَبِ)؛ يعني: للمسلمين؛ لأن أكثر المسلمين: العرب ومواليهم.

وقوله: (مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ)؛ أي: من سدّهم.

وقوله: (بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا إخبار، وتفسير من الصحابة الذين شاهدوا إشارة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ثم إن الرواة بعدهم عبّروا عن ذلك باصطلاح الحساب، فقال بعضهم: وعقد سفيان بيده عشرة، وقال بعضهم: وعقد وهيب بيده تسعين، وهذا تقريب في العبارة.

والحاصل: أن الذي فتحوا من السدّ قليل، وهم مع ذلك لم يلهمهم اللَّه أن يقولوا: غدًا نفتحه -إن شاء اللَّه تعالى-، فإذا قالوها خرجوا. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": قوله: "وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها"؛ يعني: جَعل الإصبع السبابة في أصل الإبهام، وضمّها حتى لم يبق بينهما إلا خلل

(1)

"المفهم" 7/ 208.

ص: 186

يسير، وهو من تواضعات الْحُسّاب، وظاهر هذا يدلّ على أن الذي فعل هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد مرّ في حديث مسلم من طريق سفيان بن عيينة:"وعقد سفيان بيده عشرةً"، وفي رواية البخاريّ أيضًا في "كتاب الفتن":"وعقد سفيان تسعين، أو مائة" ولم يذكر شيئًا غير هذا، وفي حديث أبي هريرة:"قال: فتح اللَّه من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وعقد بيده تسعين"، وظاهر هذا أيضًا أن الذي عقد هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية مسلم عن أبي هريرة من طريق وهيب، عن عبد اللَّه بن طاوس، عن أبيه عنه، وفيه:"وعقد وهيب بيده تسعين"، وهذه الرواية تصرّح بأن العاقد هو وهيب.

وههنا ثلاثة أشياء: الأول: في اختلاف العاقد، والثاني: في اختلاف العدد، والثالث: أن هذا الحديث يعارضه قوله: "إنا أمة أمية لا نكتُب ولا نحسُب".

فالجواب عن الأول بما أشار إليه كلام ابن العربيّ: أن نفس العقد مدرج، وليس من قوله، وإنما الرواة عبّروا عن الإشارة التي في قوله:"مثل هذه" في حديث الباب وغيره؛ وذلك لأنهم شاهدوا تلك الإشارة.

والجواب عن الثاني ما قاله عياض: إن المراد التقريب بالتمثيل، لا حقيقة التحديد.

والجواب عن الثالث أن قوله: "إنا أمة. . . " الحديث لبيان صورة خاصة معيّنة. انتهى

(1)

.

وقوله: (إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ) قال ابن عبد البرّ: معناه عند أكثرهم: الزنا، وأولاد الزنا، وجملة القول عندي في معناه: أنه اسم جامع يجمع الزنا وغيره، من الشرّ، والفساد، والمنكَر في الدين، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7210]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ

(1)

"عمدة القاري" 15/ 238.

(2)

"التمهيد" لابن عبد البرّ 24/ 307.

ص: 187

إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِإِسْنَادِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) الْفَهْميّ مولاهم المصريّ، أبو عبد اللَّه، ثقةٌ [11](ت 248)(م د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

2 -

(أَبُوهُ) شعيب بن الليث بن سعد الْفَهْميّ مولاهم، أبو عبد الملك المصريّ، ثقةٌ نبيلٌ فقيهٌ، من كبار [10](ت 199) وله أربع وستون سنةً (د س) تقدم في "الإيمان" 26/ 211.

3 -

(جَدُّهُ) الليث بن سعد بن عبد الرحمن الْفَهْميّ، أبو الحارث المصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ إمامٌ مشهورٌ [7] مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 412.

4 -

(عُقَيْلُ -بالضمّ- ابْنُ خَالِدٍ) بن عَقِيل -بالفتح- الأيليّ، أبو خالد الأمويّ مولاهم، ثقةٌ ثبتٌ، سكن المدينة، ثم الشام، ثم مصر [6](ت 144) علر، الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 133.

5 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو يوسف المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ فاضلٌ، من صغار [9](ت 208)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

6 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ، أبو إسحاق المدنيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ حجةٌ، تُكُلِّم فيه بلا قادح [8](185)(ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

7 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم، أبو محمد، أو أبو الحارث المدنيّ، مؤدِّب ولد عمر بن عبد العزيز، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [4] مات بعد سنة ثلاثين، أو بعد الأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 141.

والباقيان ذُكرا في الباب.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) ضمير التثنية لعُقيل بن خالد، وصالح بن كيسان.

ص: 188

[تنبيه]: أما رواية عُقيل بن خالد عن ابن شهاب فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(3168)

- حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة حدّثته، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن زينب ابنة جحش رضي الله عنهن أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها فَزِعًا يقول:"لا إله إلا اللَّه، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه" وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول اللَّه، أنهلك وفينا الصالحون؟، قال:"نعم إذا كثر الخبث". انتهى

(1)

.

وأما رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(11333)

- أنا عبيد اللَّه بن إبراهيم، نا عمي، نا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، قال: حدّثني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرت، عن أم حبيبة بنت أبي سفيان، عن ؤينت بنت جحش، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها فَزِعًا يقول:"لا إله إلا اللَّه، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه"، قال: وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا

رسول أنهلك، وفينا الصالحون؟ قال:"نعم إذا كَثُر الخبث". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7211]

(2881) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ"، وَعَقَدَ وُهَيْبٌ بِيَدِهِ تِسْعِينَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) بن زيد بن عبد اللَّه بن أبي إسحاق الحضرميّ،

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1221.

(2)

"السنن الكبرى" 6/ 407.

ص: 189

أبو إسحاق البصريّ، ثقة، كان يحفظ [9](ت 211)(م د ت س) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1609.

2 -

(وُهَيْبُ) -بالتصغير- ابن خالد بن عَجْلان الباهليّ مولاهم، أبو بكر البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، لكنه تغير قليلًا بأخرة [7] (ت 165) وقيل: بعدها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 413.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ) بن كيسان اليمانيّ، أبو محمد، ثقةٌ فاضلٌ عابدٌ [6](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

4 -

(أَبُوهُ) طاوس بن "كيسان اليمانيّ، أبو عبد الرحمن الْحِمْيَرِيّ مولاهم الفارسيّ، يقال: اسمه ذكوان، وطاوس لقبٌ، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] (ت 106) وقيل: بعد ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل بابين.

وقوله: (وَعَقَدَ وُهَيْبٌ بِيَدِهِ تِسْعِينَ) هذه الرواية صريحة في أن العقد من وهيب، وما مضى صريح في كونه من ابن عيينة، ولا تعارض؛ لإمكان أن يعقد كل منهما، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [1/ 7211](2881)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3347) و"الفتن"(7136)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 341 و 529)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 465)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 222)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 457)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(4/ 22)، واللَّه تعالى أعلم.

(2) - (بَابُ الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَؤُمُّ الْبَيْتَ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7212]

(2882) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ:

ص: 190

حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ، قَالَ: دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، وَأَنَا مَعَهُمَا عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَأَلاهَا عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ:"يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ"، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) -بفاء مصغرًا- الأسديّ، أبو عبد اللَّه المكيّ، نزيل الكوفة، ثقةٌ [4] (ت 130) ويقال: بعدها، وقد جاوز التسعين (ع) تقدم في "الجمعة" 15/ 2010.

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ ابْنُ الْقِبْطِيَّةِ) الكوفيّ، ثقةٌ [4](ي م د س) تقدم في "الصلاة" 28/ 975.

3 -

(أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ) هند بنت أبي أمية حذيفة، أو سُهيل بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عُمر بن مخزوم المخزومية، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة، سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنةً، ماتت رضي الله عنها سنة اثنتين وستين، وقيل: سنة إحدى، وقيل: قبل ذلك، والأول أصح (ع) تقدمت في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 473.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وهو من رواية الأقران؛ لأنهما من الطبقة الرابعة.

شرح الحديث:

(عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ابْنِ الْقِبْطِيَّةِ)؛ أنه (قَالَ: دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ) هو الحارث بن عبد اللَّه بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزوميّ المكيّ، أمير الكوفة المعروف بقُبَاع -بضمّ القاف، وتخفيف الموحّدة- صدوقٌ من الثانية، مات

ص: 191

قبل السبعين، تقدّمت ترجمته في "الحج" 67/ 3247. (وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ) بن أمية بن خَلَف الجمحيّ، أبو صفوان المكيّ، وُلد على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة مشهورة، وقُتل مع ابن الزبير، وهو متعلق بأستار الكعبة، سنة ثلاث وسبعين، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من التابعين. (وَ) الحال (أَنَا مَعَهُمَا)؛ أي: مع الحارث بن أبي ربيعة، وعبد اللَّه بن صفوان. (عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أميّة المخزوميّة، (أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) رضي الله عنها (فَسَأَلاهَا)؛ أي: سأل الحارث، وعبد اللَّه أم سلمة (عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ) بالبناء للمفعول، (وَكَانَ ذَلِكَ) السؤال واقعًا (فِي أيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ)؛ أي: في أَيام حرب أهل الشام لعبد اللَّه بن الزبير لمّا امتنع أن يبايع ليزيد بن معاوية.

قال القاضي عياض: قال أبو الوليد الكتانيّ: هذا ليس بصحيح؛ لأن أم سلمة رضي الله عنها تُوفيت في خلافة معاوية قبل موته بسنتين، سنة تسع وخمسين، ولم تُدرِك أيام ابن الزبير، قال القاضي: قد قيل: إنها تُوفيت أيام يزيد بن معاوية في أولها، فعلى هذا يستقيم ذِكرها؛ لأن ابن الزبير نازع يزيد أول ما بلغته بيعته عند وفاة معاوية، ذكر ذلك الطبريّ وغيره، وممن ذكر وفاة أم سلمة أيام يزيد: أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب"، وقد ذكر مسلم الحديث بعد هذه الرواية من رواية حفصة، وقال:"عن أم المؤمنين"، ولم يسمِّها، قال الدارقطنيّ: هي عائشة رضي الله عنها، قال: ورواه سالم بن أبي الجعد عن حفصة، أو أم سلمة، وقال: والحديث محفوظ عن أم سلمة، وهو أيضًا محفوظ عن حفصة. انتهى كلام القاضي، وممن ذكر أن أم سلمة تُوفيت أيام يزيد بن معاوية: أبو بكر بن أبي خيثمة، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وكان ذلك في أيام ابن الزبير": "ذلك" إشارة إلى سؤال أم سلمة رضي الله عنها عن الجيش الذي يخسف به، وسألها عن ذلك الحارث بن أبي ربيعة، وعبد اللَّه بن صفوان، هذا ظاهره، لكن قال أبو الوليد الكنانيّ: هذا لا يصحّ؛ لأن أم سلمة ماتت في أيام معاوية قبل موته بسنة، ولم تُدرك أيام ابن الزبير، قال القاضي: وقد قيل: إنها ماتت أيام يزيد بن معاوية

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 4 - 5.

ص: 192

في أولها، فعلى هذا يستقيم الخبر، فإنَّ عبد اللَّه نازع يزيد لأول ما بلغته البيعة له عند موت معاوية، وداجاه

(1)

، شيئًا، فوجّه إليه يزيد أخاه عمرو بن الزبير؛ ليجيئه به، أو يقاتله، فظَفِر به عبد اللَّه بن الزبير، ومات في سجنه، وصلبه، ذكر ذلك الطبريّ وغيره، وذكر وفاة أم سلمة أيام يزيد: أبو عمر بن عبد البرّ.

قال القرطبيّ: هذا الحديث رواه عن أم سلمة: عبد اللَّه بن صفوان، من طريق صحيح في الأصل -يعني: صحيح مسلم- وفيه أيضًا عنه أنه رواه عن حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال الدارقطنيّ: والحديث عن أم سلمة، ومحفوظ عن حفصة، وعلى هذا فتكون كل واحدة منهما حدّثت به عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلا اضطراب. انتهى

(2)

.

(فَقَالَتْ) أم سلمة رضي الله عنها: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَعُوذُ عَائِذٌ)؛ أي: يعتصم، ويلجأ رجل من المسلمين، وفي حديث عائشة رضي الله عنها الآتي أنه رجل من قريش، (بِالْبَيْتِ) ببيت اللَّه الحرام؛ أي: الكعبة؛ لأنه صار عَلَمًا لها بالغلبة، قال في "الخلاصة":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَهْ

مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "الْعَقَبَهْ"

(فَيُبْعَثُ) بالبناء للمفعول، (إِلَيْهِ بَعْثٌ) بفتح، فسكون: الجيش، تسمية بالمصدر، وجمعه: بُعُوثٌ

(3)

. (فَإِذَا كَانُوا)؛ أي: الجيش (بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ) البيداء: هي الأرض الملساء التي لا شيء فيها، وهي المفازة. قال النوويّ: وفي رواية: "ببيداء المدينة"، قال العلماء: كل أرض ملساء لا شيء بها، وبيداء المدينة: الشَّرَف الذي قُدّام ذي الحليفة؛ أي: إلى جهة مكة

(4)

.

(خُسِفَ بِهِمْ") بالبناء للمفعول، وإنما عبّر بصيغة الماضي، وإن كان الخسف لم يقع؛ لتحقّق وقوعه؛ يعني: أن اللَّه تعالى سيخسف بهم عقوبة لهم على ما أرادوا من الهجوم على الكعبة، وعلى من لجأ إليها، وقال الأبيّ رحمه الله: الأظهر أن هذا الخسف لم يقع، وأنّه لا بدّ منه؛ لوجوب صِدق خبره صلى الله عليه وسلم، وحاول بعضهم أن يُحمل هذا الحديث على من غزا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما،

(1)

أي: ساتره بالعداوة، ولم يُبدها له.

(2)

"المفهم" 7/ 225 - 226.

(3)

"المصباح المنير" 1/ 52.

(4)

"شرح النوويّ" 18/ 5.

ص: 193

وهو مستعيذ بمكة، وسيأتي أن عبد اللَّه بن صفوان ردّ على من زعم ذلك، وقد صدق؛ لأن الجيش الذي غزا ابن الزبير لم يُخسف بهم، والحقّ أن هذا سيجيء بعدُ -إن شاء اللَّه تعالى-

(1)

.

قالت أم سلمة: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ كانَ كارِهًا؟)؛ أي: لفعلهم؛ أي: فكيف يعذَّب معهم، مع أنه كاره لفعلهم، لا راضٍ له؟ (قَال) صلى الله عليه وسلم:("يُخْسَفُ بِهِ)؛ أي: بمن كان كارهًا، (مَعَهُمْ) لكون عذاب الدنيا يعمّ الطالحِ والصالح، كما قال تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25](وَلَكِنَّهُ)؛ أي: الكاره، (يُبْعَثُ) بالبناء للمفعول، (يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ") معناه: أن الأمم التي تعذَّب، ومعهم من ليس منهم، يصاب جميعهم بآجالهم، ثم يُبعثون على نياتهم، وأعمالهم، فالطائع يجازى بنيّته وعمله، والعاصي تحت المشيئة، قاله المناوي

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أي: يقع الهلاك في الدنيا على جميعهم، ويصدرون يوم القيامة مصادر شتى؛ أي: يُبعثون مختلفين على قدر نيّاتهم، فيُجازَون بحَسَبها، قال: وفي هذا الحديث أن من كَثَّر سواد قوم جرى عليه حُكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا. انتهى

(3)

.

(وَقَالَ أَبُو جَعْفَرِ)

(4)

محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب الهاشميّ المدنيّ، المعروف بالباقر المتوفّى سنة بضع عشرة ومائة، تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 61. (هِيَ بَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ)؛ أي: هذه البيداء المذكورة في هذا الحديث: بيداء المدينة التي قُدّام ذي الحليفة من جهة مكة، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7212 و 7213](2882)، و (أبو داود) في

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 262.

(2)

"تحفة الأحوذيّ" 6/ 327.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 7.

(4)

هو الباقر، كما في "عمدة القاريّ" 11/ 236.

ص: 194

"كتاب المهديّ"(4289)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2171)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4115)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 290 و 318 و 3230)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 122)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 393)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان قصد الجيش تخريب الكعبة، ثم خَسْفهم بالبيداء، وعدم وصولهم إلى الكعبة؛ لإخبار المُخبِر الصادق بذلك، وقال ابن التين: يَحْتَمِل أن يكون هذا الجيش الذي يُخسف بهم هم الذين يهدمون الكعبة، فينتقم منهم، فيَخسف بهم، ورُدّ عليه بوجهين:

أحدهما: أن في بعض طرق الحديث عند مسلم أن ناسًا من أمتي، والذين يهدمونها من كفار الحبشة.

والآخر: أن مقتضى كلامه يُخسف بهم بعد الهدم، وليس كذلك، بل خَسْفهم قبل الوصول إلى مكة؛ فضلًا عن هدمها.

2 -

(ومنها): بيان أن من كَثّر سواد قوم في معصية وفتنة أن العقوبة تلزمه معهم، إذا لم يكونوا مغلوبين على ذلك.

3 -

(ومنها): ما نُقل أن مالكًا رحمه الله استَنبط من هذا أن من وُجد مع قوم يشربون الخمر، وهو لا يشرب أنه يعاقَب، واعتَرض عليه بعضهم بأن العقوبة التي في الحديث هي الهجمة السماوية، فلا يقاس عليها العقوبات الشرعية، وفيه نظر؛ لأن العقوبات الشرعية أيضًا من الأمور السماوية.

4 -

(ومنها): بيان أن الأعمال تعتبر بنيّة العامل، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم:"ولكل امرئ ما نوى".

5 -

(ومنها): وجوب التحذير من مصاحبة أهل الظلم، ومجالستهم، وتكثير سوادهم، إلا لمن اضطُرَّ.

[فإن قلت]: ما تقول في مصاحبة التاجر لأهل الفتنة، هل هي إعانة لهم على ظلمهم، أو هي من ضرورات البشرية؟.

[قلت]: ظاهر الحديث يدل على الثاني

(1)

، واللَّه أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 11/ 237.

ص: 195

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7213]

(. . .) - (حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِهِ: قَالَ: فَلَقِيتُ أَبَا جَعْفَرٍ، فَقُلْتُ: إِنَّهَا إِنَّمَا قَالَتْ بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَبَيْدَاءُ الْمَدِينَةِ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) هو: أحمد بن عبد اللَّه بن يونس بن عبد اللَّه بن قيس التميميّ اليربوعيّ أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ، من كبار [10](ت 227) وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 53.

2 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الْجُعفيّ الكوفيّ، نزيل الجزيرة، ثقةٌ ثبتٌ، إلا أن سماعه عن أبي إسحاق بأخرة [7](ت 2 أو 3 أو 174) وكان مولده سنة مائة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 62.

و"عبد العزيز" ذُكر قبله.

[تنبيه]: وواية زهير بن معاوية عن عبد العزيز بن رُفيع هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6756)

- أخبرنا أبو خليفة، قال: حدّثنا أبو الوليد الطيالسيّ، قال: حدّثنا زُهير بن معاوية، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن ابن القبطية قال: انطلقت أنا وعبد اللَّه بن صفوان والحارث بن ربيعة، حتى دخلنا على أم سلمة، فقالوا: يا أم سلمة ألا تحدثينا عن الخسف الذي يُخسف بالقوم؟ قالت: بلى، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"يعوذ عائذ بالبيت، فيُبعث إليه بَعْث، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض، خُسف بهم"، قالت: قلت: يا نبيّ اللَّه من كان كارهًا؟ قال: "يُخسف معهم، ولكنه يُبعث يوم القيامة على ما كان في نفسه"، قال عبد العزيز: فقلت لأبي، جعفر: إنها قالت: ببيداء من الأرض، قال: أبو جعفر: واللَّه إنها لبيداء المدينة. انتهى

(1)

.

(1)

"صحيح ابن حبان" 15/ 156 - 157.

ص: 196

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7214]

(2883) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِعَمْرٍو- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ، سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَؤُمَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ جَيْشٌ يَغْزُونَهُ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوْسَطِهِمْ، وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ، ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ، فَلَا يَبْقَى إِلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى حَفْصَةَ، وَأَشْهَدُ عَلَى حَفْصَةَ أَنَّهَا لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ صَفْوَانَ) بن عبد اللَّه بن صفوان بن أمية بن خلف الْجُمَحيّ المكيّ، صدوقٌ

(1)

[6].

رَوى عن جدّه، وأبي بكر بن أبي زهير الثقفيّ، وروى عنه ابن جريج، وابن علية، وابن عيينة، ونافع بن عمر، وغيرهم، ذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(حَفْصَةُ) بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد خُنيس بن حُذافة سنة ثلاث، وماتت سنة خمس وأربعين (ع) تقدمت في "صلاة المسافرين وقصرها" 15/ 1676.

والباقون ذُكروا في الباب، والباب الماضي.

شرح الحديث:

(عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ صَفْوَانَ)؛ أنه (سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ) بنت عمر رضي الله عنها أم المؤمنين (أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَؤُمَّنَّ) فعل مضارع مبنيّ للفاعل، من أمّ بتشديد الميم: إذا قصد، واللام هي الموطّئة

(1)

هذا أَولى من قوله في "التقريب": مقبول؛ لأنه روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم في "صحيحه"، ووثقه ابن حبّان، ولم يتكلّم فيه أحد بجرح، فتنبّه.

ص: 197

للقَسَم، والنون الثقيلة للتوكيد؛ أي: واللَّه ليقصدنّ (هَذَا الْبَيْتَ)؛ أي: الكعبة، (جَيْشٌ) وقوله:(يَغْزُونَهُ) صفة لـ "جيش"، (حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ) بفتح الباء الموحّدة، وسكون الياء، ممدودًا، وهي في الأصل: المفازة التي لا شيء فيها، وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة

(1)

.

(مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ) بالبناء للمفعول، (بِأَوْسَطِهِمْ)؛ أي: بقلب الجيش، (وَيُنَادِي أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ) حتى يرجعوا فينجوا من الخسف، (ثُمَّ يُخْسَفُ بِهِمْ) جميعًا؛ أي: بأولهم وآخرهم، كما خُسف بأوسطهم، فيعمّهم الخسف، (فَلَا يَبْقَي) ولا ينجو أحد (إِلَّا الشَّرِيدُ) فعيل بمعنى فاعل؛ أي: الشارد الفارّ عن موضع الخسف، وقال القرطبيّ رحمه الله: الشريد: هو الطريد عن أهله، ويعني به هنا: المنفرد عن ذلك الجيش الذي يُخسف به. انتهى

(2)

.

(الَّذِي يُخْبِرُ) الناس (عَنْهُمْ")؛ أي: خبر هؤلاء الجيش الذين خُسف بهم جميعًا. (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسمّ؛ أي: قال رجل من الحاضرين لعبد اللَّه بن صفوان حين حدّث بهذا الحديث: (أَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى حَفْصَةَ) وفي رواية النسائيّ: "فَقَالَ لَهُ

(3)

رَجُلٌ: أَشْهَدُ عَلَيْكَ أَنَّكَ مَا كَذَبْتَ عَلَى جَدِّكَ، وَأَشْهَدُ عَلَى جَدِّكَ أَنَّهُ مَا كَذَبَ عَلَى حَفْصَةَ"، (وَأَشْهَدُ عَلَى حَفْصَةَ أَنَّهَا لَمْ تَكْذِبْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حفصة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7214 و 7215](2883)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2880 و 2881) وفي "الكبرى"(3862 و 3863)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4113)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 285)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 476)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 137)، و (الطبرانيّ) في

(1)

"عمدة القاري" 11/ 236.

(2)

"المفهم" 7/ 226.

(3)

أي: لأميّة بن صفوان.

ص: 198

"الكبير"(23/ 202)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 471)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(29/ 204)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7215]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِم بْنِ مَيْمُونٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْعَامِرِيِّ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَيَعُوذُ بِهَذَا الْبَيْتِ -يَعْنِي: الْكَعْبَةَ- قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَلَا عَدَدٌ، وَلَا عُدَّةٌ، يُبْعَثُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ، خُسِفَ بِهِمْ"، قَالَ يُوسُفُ: وَأَهْلُ الشَّأْمِ يَوْمَئِذٍ يَسِيرُونَ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ، قَالَ زَيْدٌ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ الْعَامِرِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْجَيْشَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ) السمين البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ) النّخّاس -بنون، وخاء معجمة، ثم سين مهملة- الضبيّ، أبو محمد الجزريّ، بياع الدقق، نزيل بغداد، ثقةٌ، من صغار [9].

روى عن جرير بن حازم، والحمادين، وإسرائيل، وحفص بن غياث، وشريك، والليث، وعيسى بن يونس، وعبيد اللَّه بن عمرو الرقي، وغيرهم.

وروى عنه البخاريّ، وروى مسلم عن الفضل بن سهل، ومحمد بن حاتم بن ميمون عنه، وأبو توبة، وهو من أقرانه، ويعقوب الدورقيّ، وغيرهم.

قال عبد اللَّه بن أحمد: قلت لأبي: لِمَ لَمْ تكتب عن الوليد بن صالح؟ قال: رأيته يصلي في مسجد الجامع يسيء الصلاة، فتركته، وقال أحمد بن إبراهيم الدورقيّ، وأبو حاتم: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو عوانة في "صحيحه": ثقةٌ.

ص: 199

تفرّد به البخاريّ، والمصنّف، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو) بن أبي الوليد الرّقّيّ، أبو وهب الأسديّ، ثقةٌ فقيهٌ، رُبّما وَهِمَ [8](ت 180) عن ثمانين إلا سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

4 -

(زَيْدُ بْنُ أَبِي أُنيْسَةَ) الْجَزريّ، أبو أسامة، أصله من الكوفة، ثم سكن الرُّها، ثقةٌ له أفراد [6] (ت 119) وقيل:(124) وله ست وثلاثون سنةً (ع) تقدّم في "المقدّمة" 6/ 96.

5 -

(عَبْدُ المَلِكِ الْعَامِرِيُّ) هو: عبد الملك بن ميسرة الهلاليّ، أبو زيد الكوفيّ الزرّاد، ثقة [4](ع) تقدم في "البيوع" 22/ 3954.

6 -

(يُوسُفُ بْنُ مَاهَكَ) بن بُهزاد -بضم الموحّدة، وسكون الهاء، بعدها زاي- الفارسيّ المكيّ، ثقةٌ [3] (ت 106) وقيل: قبل ذلك (ع) تقدم في "الطهارة" 9/ 578.

7 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ) ويقال: ابن عبد اللَّه بن سابط، وهو الصحيح، ويقال: ابن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن سابط بن أبي حميضة بن عمرو بن أهيب بن حذافة بن جُمح الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ، كثير الإرسال [3](ت 118).

تابعيّ أرسل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن عمر، وسعد بن أبي وقاص، والعباس بن عبد المطلب، وعباس بن أبي ربيعة، ومعاذ بن جبل، وأبي ثعلبة الخشنيّ، وقيل: لم يدرك واحدًا منهم، وعن أبيه، وله صحبة، وجابر، وأبي أمامة، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم.

وروى عنه ابن جريج، وفِطر بن خليفة، ويزيد بن أبي زياد، وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي، وعلقمة بن مرثد، وعبد الملك بن ميسرة الزراد، وغيرهم.

وذكره الهيثم عن عبد اللَّه بن عياش في الفقهاء من أصحاب ابن عباس، قال الواقديّ وغير واحد: مات سنة ثماني عشرة ومائة، وقال ابن سعد: أجمعوا على ذلك، وكان ثقةً، كثير الحديث.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ في "اليوم والليلة"، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

ص: 200

والباقون ذُكروا في الباب.

وقوله: (عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما المذكورة في الحديث الماضي، كما صرّح به الحافظ المزيّ رحمه الله في "تحفته"

(1)

، لكن قال النوويّ: وقد ذكر مسلم الحديث بعد هذه الرواية من رواية حفصة، وقال:"عن أم المؤمنين"، ولم يسمّها، قال الدارقطنيّ: هي عائشة، قال: ورواه سالم بن أبي الجعد عن حفصة، أو أم سلمة، وقال: والحديث محفوظ عن أم سلمة، وهو أيضًا محفوظ عن حفصة، ذكره القاضي عياض

(2)

.

والأصح أنها حفصة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: ("لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ) بفتح الميم، والنون؛ أي: قوّة تمنعهم، وتحميهم، قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: هو في مَنَعَةٍ بفتح النون؛ أي: في عزّ قومه، فلا يقدر عليه من يريده، قال الزمخشريّ: وهي مصدر مثل الأَنَفَةِ، والْعَظَمَة، أو جمع مَانِعٍ، وهم العشيرة، والْحُمَاة، ويجوز أن تكون مقصورة من المناعة، وقد تسكن في الشِّعر، لا في غيره، خلافًا لمن أجازه مطلقًا، وأزال مَنَعَةَ الطير؛ أي: قوّته التي يمتنع بها على من يريده، والمَنَاعَةُ بالفتح مثل المَنَعَةِ. انتهى

(3)

.

وقوله: (وَلَا عَدَدٌ)؛ أي: وليس لهم جماعة متعدّدون.

وقوله: (وَلَا عُدَّةٌ") بضمّ العين، وتشديد الدال المهملتين: ما أُعدّ من مال، أو سلاح، أو غير ذلك، والجمع عُدَدٌ، مثل غُرْفَة وغُرَف، والعُدَّةُ أيضًا: الاستعداد، والتأهب، أفاده الفيّوميّ رحمه الله

(4)

، والمعنى: ليس لهم أسلحة يدفعون بها عن أنفسهم.

وقوله: (قَالَ يُوسُفُ) بن ماهك (وَأَهْلُ الشَّأْمِ)؛ يعني: جيش يزيد بن معاوية.

وقوله: (فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ) وكان ممن يقوّي أمر ابن الزبير رضي الله عنهما،

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 11/ 278 - 279 و 281.

(2)

"إكمال المعلم" 8/ 414، و"شرح النوويّ" 18/ 5.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 581.

(4)

راجع: "المصباح المنير" 2/ 397.

ص: 201

ولما حوصر بابن الزبير أذن له بأن يخرج من حزبه، لصون نفسه، وقال له: قد أذنت له، وأقلتك بيعتي، فأبى عبد اللَّه بن صفوان أن يتركه في تلك الحالة، حتى قُتل معه، وهو متعلّق بأستار الكعبة، حكاه الزبير بن بكار، كما في "تهذيب التهذيب"

(1)

.

ومن حسن إنصافه أنه مع كونه من أنصار ابن الزبير أنكر أن يكون الجيش الذي غزا ابن الزبير مصداقًا لهذا الحديث

(2)

.

وقوله: (أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهَذَا الْجَيْشِ)؛ أي: ما الجيش الذي يُخسف بهم بهذا الجيش الذي أرسله يزيد بن معاوية إلى مكة لقتال الزبير، كما ظهر أنه لم يُخسف بهم، والذي أثار هذا الحديث في وقت ابن الزبير أنه عندما طالبه يزيدا بن معاوية ليبايعه، فرّ من المدينة إلى مكة، واستجار بالبيت، ووافقه على رأيه جماعة، فجهز يزيد جيشًا من أهل الشام إلى مكة، فتحدّث الناس أن ذلك الجيش يُخسف بهم، وذكروا الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد اللَّه بن صفوان: أما واللَّه ما هو بهذا الجيش، فظهر صدق ما قاله، حيث إن ذلك الجيش لم يُخسف بهم، واللَّه تعالى أعلم

(3)

.

وقوله: (قَالَ زَيْدٌ)؛ يعني: ابن أبي أُنيسة.

[تنبيه]: رواية عبد الملك العامري، عن عبد الرحمن بن سابط هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7216]

(2884) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: عَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ، فَقَالَ: "الْعَجَبُ إِنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ

(4)

بِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ"،

(1)

"تهذيب التهذيب" 5/ 266.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 264.

(3)

راجع: "الكوكب الوهّاج" 26/ 73.

(4)

وفي نسخة: "بالبيت".

ص: 202

فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ، قَالَ:"نَعَمْ فِيهِمُ الْمُسْتَبْصِرُ، وَالْمَجْبُورُ، وَابْنُ السَّبِيلِ، يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا، وَيَصْدُرُونَ مَصَادِرَ شَتَّى، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) ذُكر في الباب الماضي.

2 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المؤدّب البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(الْقَاسِمُ بْنُ الْفَضْلِ الْحُدَّانِيُّ) بضم الحاء المهملة، وتشديد الدال.

هو: القاسم بن الفضل بن معدان، أبو المغيرة البصريّ، ثقةٌ، رُمي بالإرجاء [7](167)(بخ م 4) تقدم في "الزكاة" 45/ 2458.

[تنبيه]: قوله: "الْحُدّانيّ" -بضمّ الحاء، وتشديد الدال المهملتين-: نسبة إلى حُدّان، وهم بطن من الأزد، وهو حُدّان بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن الأزد، قاله في "اللباب"

(1)

.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ) الْجُمَحيّ مولاهم، أبو الحارث المدنيّ، نزيل البصرة، ثقةٌ ثبتٌ، ربما أرسل [3](ع) تقدم في "الإيمان" 92/ 500.

5 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العَوّام القرشيّ الأسديّ، أبو بكر، وأبو خُبيب -بالمعجمة، مصغرًا- كان أول مولود في الإسلام بالمدينة من المهاجرين، وولي الخلافة تسع سنين، إلى أن قُتل في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين (ع) تقدم في "الطهارة" 16/ 610.

6 -

(عَائِشَةُ) بنت الصدّيق رضي الله عنهما، أم المؤمنين، تقدّمت قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه صحابيّ عن صحابيّة هي خالته، وفيه عائشة رضي الله عنها أفقه نساء الأمة، ومن المكثرين السبعة.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 347.

ص: 203

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ عَائِشَةَ) أمّ المؤمنين رضي الله عنها، وأخرجه البخاريّ من طريق محمد بن سُوقة، عن نافع بن خبير، حدّثتني عائشة، قال في "الفتح": قوله: "حدثتني عائشة" هكذا قال إسماعيل بن زكريا، عن محمد بن سُوقة، وخالفه سفيان بن عيينة، فقال: عن محمد بن سوقة، عن نافع بن جبير، عن أم سلمة، أخرجه الترمذيّ، ويَحْتَمِل أن يكون نافع بن جبير سمعه منهما، فإن روايته عن عائشة أتمّ من روايته عن أم سلمة، وقد أخرجه مسلم من وجه آخر عن عائشة، ورَوَى من حديثما حفصة شيئًا منه، وروى الترمذيّ من حديث صفية نحوه. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ: عَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ) بكسر الباء، قيل: معناه اضطرب بجسمه، وقيل: حَرّك أطرافه، كمن يأخذ شيئًا، أو يدفعه

(2)

.

وقال القرطبيّ: قوله: "عبث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في منامه" وجدته مقيّدًا بفتح الباء؛ أي: أتى بكلمات كأنها مختلطة، يقال: عبث الشيء يعبثه: إذا خلطه، بفتح الباء في الماضي، وكَسْرها في المضارع، فأمَّا عَبِث بكسر الماضي، وفتح المضارع فمعناه: لعب. انتهى

(3)

.

(فَقُلْنَا: يَارَسُولَ اللَّهِ صَنَعْتَ شَيْئًا فِي مَنَامِكَ لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ) فيما مضى من زمانك، (فَقَالَ) رضي الله عنه:("الْعَجَبُ) بالرفع فاعل لفعل محذوف؛ أي: حملني عليه العجب، أو خبر لمحذوف؛ أي: هو العجب؛ أي: الأمر الغريب الذي يُتعجّب منه، ثم بيّن ذلك العجب بقوله. (إِنَّ نَاسًا) بكسر همزة "إنّ"؛ لوقوعهما في الابتداء، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيمِينٍ مُكْمِلَهْ

وقوله: (مِنْ أُمَّتِي) صفة لـ "ناسًا"، (يَؤُمُّونَ)؛ أي: يقصدون (الْبَيْتَ)؛ أي: الكعبة، ووقع في بعض النسخ:"يؤمون بالبيت". قال القرطبيّ: أُشرب -

(1)

"الفتح" 5/ 482، "كتاب البيوع" رقم (2118).

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 6 - 7.

(3)

"المفهم" 7/ 227.

ص: 204

أي: ضُمّن- يؤمون معنى ينزلون، فعدّاه بالباء، وهو مما يتعدّى بنفسه

(1)

، وقوله:(بِرَجُلٍ)؛ أي: بسبب قتال رجل (مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ لَجَأَ بِالْبَيْتِ)؛ أي: لاذ والتجأ، واستَجار منهم بالبيت، (حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ) وفي رواية البخاريّ:"فإذا كانوا ببيداء من الأرض"، وفي حديث صفية على الشكّ، وتقدّم عن أبي جعفر الباقر قال: هي بيداء المدينة، والبيداء: مكان معروف بين مكة والمدينة، تقدم شرحه في "كتاب الحجّ". (خُسِفَ بِهِمْ") بالبناء للمفعول، وفي رواية البخاريّ:"يخسف بأولهم وآخرهم"، زاد الترمذيّ في حديث صفية:"ولم ينج أوسطهم"، وزاد في حديث حفصة المتقدّم:"فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم"، واستغنى بهذا عن تكلف الجواب عن حكم الأوسط، وأن العرف يقضي بدخوله فيمن هلك، أو لكونه آخرًا بالنسبة للأول، وأولًا بالنسبة للآخر، فيدخل، قاله في "الفتح"، قالت عائشة رضي الله عنها:(فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الطَّرِيقَ قَدْ يَجْمَعُ النَّاسَ) المستحقّين للهلاك، وغير المستحقّين، فكيف يُخسف بهم كلهم؟، وفي رواية البخاريّ:"قالت: قلت يا رسول اللَّه، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ ".

قال في "الفتح": قوله: "وفيهم أسواقهم" كذا عند البخاريّ بالمهملة، والقاف، جمع سُوق، وعليه ترجم البخاريّ، والمعنى: أهل أسواقهم، أو السوقة منهم، وقوله:"ومن ليس منهم"، أي: من رافقهم، ولم يقصد موافقتهم، ولأبي نعيم من طريق سعيد بن سليمان، عن إسماعيل بن زكريا:"وفيهم أشرافهم" بالمعجمة، والراء، والفاء، وفي رواية محمد بن بكار عند الإسماعيليّ:"وفيهم سواهم"، وقال: وقع في رواية البخاريّ: "أسواقهم"، فأظنه تصحيفًا، فإن الكلام في الخسف بالناس، لا بالأسواق، وعقّبه الحافظ، فقال: بل لفظ: "سواهم" تصحيف، فإنه بمعنى قوله:"ومن ليس منهم"، فيلزم منه التكرار، بخلاف رواية البخاريّ، نعم أقرب الروايات إلى الصواب رواية أبي نعيم، وليس في لفظ أسواقهم ما يمنع أن يكون الخسف بالناس، فالمراد بالأسواق: أهلها؛ أي: يُخسف بالمقاتلة منهم، ومن ليس من أهل القتال، كالباعة.

(1)

"المفهم" 7/ 227.

ص: 205

وغرض عائشة رضي الله عنها من هذا كله أنها استشكلت وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبب العقوبة، فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامًّا؛ لحضور آجالهم، ويُبعثون بعد ذلك على نياتهم.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("نَعَمْ) يجمع الطريق المختلفين قصدًا وعملًا، (فِيهِمُ الْمُسْبْصِرُ)؛ أي: العارف لِمَا يقصده الجيش المتعمّد لانتهاك بيت اللَّه الحرام، قال النوويّ: المستبصر: هو المستبين لذلك، القاصد له عمدًا. (وَالْمَجْبُورُ)؛ أي: المكره الذي لم يخرج باختياره، وإنما أخرجه قهرًا، قال النوويّ: المجبور: هو المكره، يقال: أجبرته فهو مُجْبَر، هذه هي اللغة المشهورة، ويقال أيضًا: جبرته فهو مجبور، حكاها الفراء وغيره، وجاء هذا الحديث على هذا، اللغة

(1)

. (وَابْنُ السَّبِيلِ) المراد به سالك الطريق معهم، وليس منهم، (يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا)؛ أي: هلاكًا (وَاحِدًا)؛ يعني: أن العذاب يقع على جميعهم، فيهلكون معًا، (وَيَصْدُرُونَ)؛ أي: يرجعون، ويُبعثون في الآخرة (مَصَادِرَ شَتَّى)؛ أي: مراجع مختلفة باختلاف نيّاتهم، كما قال:(يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ") الحسنة، والسيّئة، فيجازيهم بحَسَبها، والمعنى: أنه يُخسف بالجميع؛ لشؤم الأشرار، ثم يعامَل كلُّ أحد عند الحساب بحسب قصده.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "المستبصر": البصير بالأمور، و"المجبور": المكره الذي لا حيلة له في دفع ما يُحمل عليه، وهو من جبرت الرجلَ على الشيء يفعله، فهو مجبور، ثلاثيًّا، ويقال: أجبرته رباعيًّا، وهو الأصحّ والأكثر، فهو مُجْبَرٌ.

وقوله: "يهلكون مهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادر شتّى": المهلك: الهلاك، ويصدرون: يرجعون، وأصل الصّدر: الرجوع عن موضع الماء، وشتّى: مختلفين بحَسَب نيَّاتهم. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

.

وفي هذا الحديث من الفقه التباعد من أهل الظلم، والتحذير من مجالستهم، ومجالسة البغاة، ونحوهم من المبطلين؛ لئلا يناله ما يعاقبون به، وفيه أن من كَثّر سواد قوم جرى عليه حكمهم في ظاهر عقوبات الدنيا، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 7/ 18.

(2)

"المفهم" 7/ 226 - 228.

ص: 206

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7216](2884)، و (البخاريّ) في "البيوع"(2118)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 105 و 259)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6755)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(5/ 11)، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(3) - (بَابُ نُزُولِ الْفِتَنِ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7217]

(2885) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَمْرٌو النَّاقِدُ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَفَ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ: "هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي لأَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلَالَ بُيُوتكُمْ، كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم ذُكروا في البابين الماضيين غير واحد، وهو:

1 -

(أُسَامَةُ) بن زيد بن حارثة بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير، أبو محمد، وأبو زيد، الصحابي المشهور، مات رضي الله عنه سنة أربع وخمسين، وهو ابن خمس وسبعين بالمدينة (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 284.

شرح الحديث:

(عَنْ أُسَامَةَ) زاد في رواية للبخاريّ: "ابن زيد" وفي رواية الحميديّ، وابن أبي عمر في "مسنده" عن ابن عيينة، عن الزهريّ، "أخبرني عروة، أنه سمع أسامة بن زيد". (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَفَ)؛ أي: نظر من مكان مرتفع، وقال في "العمدة": هو من الإشراف، وهو الاطلاع من علو، وفي رواية عند

ص: 207

الإسماعيليّ: "أوفى"، وهو بمعنى أشرف؛ أي: اطّلع من علو (عَلَى أُطُمٍ) بضمتين، وهو الحصن، والقَصْر، (مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟) ثمّ بيّن الذي رآه، فقال:(إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوع اللام في خبرها، كما قال في "الخلاصة":

وَبَعْدَ ذَاتِ الْكَسْرِ تَصْحَبُ الْخَبَرْ

لَامُ ابْتِدَاءٍ نَحْوُ "إِنِّي لَوَزَرْ"

(لأَرَى) يَحْتَمل أن تكون الرؤية بمعنى العلم، أو رؤية العين، بأن تكون الفِتَن مُثِّلت له حتى رآها، كما مثّلت له الجنة والنار في القبلة، حتى رآهما، وهو يصلي، وهذا الاحتمال هو الظاهر، والأقرب، واللَّه تعالى أعلم.

(مَوَاقِعَ الْفِتَنِ)؛ أي: مواضع سقوطها، (خِلَالَ بُيُوتِكُمْ)؛ أي: أوساطها، وقيل: الخلال: النواحي، (كمَوَاقِعِ الْقَطْرِ)؛ أي: المطر، شبّه سقوط الفتن، وكثرتها بسقوط القطر في الكثرة والعموم.

ووقع عند البخاريّ من رواية المستملي، والكشميهنيّ:"كوقع المطر"، والتشبيه في الكثرة والعموم، لا خصوصية لها بطائفة، وفيه إشارة إلى الحروب الجارية بينهم، كقتل عثمان رضي الله عنه، ويوم الحرّة -بفتح الحاء المهملة، وتشديد الراء- وفيه معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله في "العمدة"

(1)

.

ووقع في رواية البخاريّ: "فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر".

وقال في "الفتح": في رواية أبي بكر بن أبي شيبة، عن سفيان:"إني لأرى مواقع الفتن"، قال:

والمراد بمواقع الفتن: مواضع السقوط، والخلال: النواحي، قال الطيبيّ:"تقع" مفعولٌ ثان، ويَحْتَمِل أن يكون حالًا، وهو أقرب، والرؤية بمعنى النظر؛ أي: كُشف لي، فأبصرت ذلك عيانًا.

وإنما اختصت المدينة بذلك؛ لأن قَتْل عثمان رضي الله عنه كان بها، ثم انتشرت الفتن في البلاد بعد ذلك، فالقتال بالْجَمَل، وبصِفِّين كان بسبب قتل عثمان رضي الله عنه، والقتال بالنهروان كان بسبب التحكيم بصِفّين، وكل قتال وقع في

(1)

"عمدة القاري" 24/ 182.

ص: 208

ذلك العصر إنما تولّد عن شيء من ذلك، أو عن شيء تولد عنه، ثم إن قتل عثمان كان أشدّ أسبابه الطعن على أمرائه، ثم عليه بتوليته لهم، وأول ما نشأ ذلك من العراق، وهي من جهة المشرق، فلا منافاة بين حديث الباب، وبين الحديث:"ألا إن الفتنة من قِبَل المشرق"، وحَسُن التشبيه بالمطر؛ لإرادة التعميم؛ لأنه إذا وقع في أرض معيّنة عمّها، ولو في بعض جهاتها

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7217 و 7218](2885)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1878) و"المظالم"(2467) و"المناقب"(3597) و"الفتن"(7060)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 449)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 200 و 208)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1/ 248)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 19)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 553)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان رضي الله عنه، وهَلُمّ جرّا، ولا سيما يوم الحرّة.

2 -

(ومنها): بيان ما ابتليت به هذه الأمة من الفتن المتتالية، وهذا أمر قد قضاه اللَّه سبحانه وتعالى، لا مردّ له، وقد دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم في دفعه عن أمته، ولكن اللَّه تعالى لم يُجبه إلى ذلك؛ لحكمة يعلمها اللَّه عز وجل، ففي حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مرّ بمسجد بني معاوية دخل، فركع فيه ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بالسَّنَة، فأعطانيها، وسألته أن لا يُهلك أمتي بالغرق،

(1)

"الفتح" 16/ 448.

ص: 209

فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها"، رواه مسلم.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن بطال رحمه الله: أنذر النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث زينب رضي الله عنها بقرب قيام الساعة، كي يتوبوا قبل أن تَهْجُم عليهم، وقد ثبت أن خروج يأجوج ومأجوج قرب قيام الساعة، فإذا فُتح من ردمهم ذاك القدر في زمنه صلى الله عليه وسلم لم يزل الفتح يتسع على مرّ الأوقات، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه:"ويل للعرب من شرّ قد اقترب، موتوا إن استطعتم"، قال: وهذا غاية في التحذير من الفتن، والخوض فيها، حيث جعل الموت خيرًا من مباشرتها، وأخبر في حديث أسامة رضي الله عنه بوقوع الفتن خلال البيوت؛ ليتأهبوا لها، فلا يخوضوا فيها، ويسألوا اللَّه الصبر، والنجاة من شرها. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7218]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6651)

- وحدّثني محمود، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: أشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم على أُطُم من آطام المدينة، فقال:"هل ترون ما أرى؟ " قالوا: لا، قال:"فإني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم، كوقع القطر". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7219]

(2886) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال رحمه الله 10/ 11.

(2)

"صحيح البخاريّ" 6/ 2589.

ص: 210

سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(عَمْرٌ والنَّاقِدُ) هو ابن محمد بن بكير البغداديّ، ذُكر في الباب.

2 -

(الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ) هو: ابن عليّ بن محمد الخلّال نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، ذُكر في السند الماضي.

4 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، تقدّم قبل باب.

5 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد، تقدّم أيضًا قبل باب.

6 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ، تقدّم أيضًا قبل باب.

7 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ الإمام، تقدّم أيضًا قبل باب.

8 -

(ابْنُ الْمُسَيِّبِ) هو: سعيد المخزوميّ المدني الفقيه، تقدّم قريبًا.

9 -

(أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف الفقيه المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

10 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه تقدّم قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين غير شيوخه، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيَّين، هما من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، روى (5374) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهريّ؛ أنه قال: (حَدَّثَنِي) سعيد (بْنُ الْمُسَيِّبِ،

ص: 211

وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوف (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَكُونُ فِتَنٌ) في رواية المستملي: "فتنة" بالإفراد، والمراد: جميع الفتن، وقيل: هي الاختلاف الذي يكون بين أهل الإسلام بسبب افتراقهم على الإمام، ولا يكون الْمُحِقّ فيها معلومًا، بخلاف عليّ ومعاوية رضي الله عنهما

(1)

.

(الْقَاعِدُ فِيهَا)؛ أي: في زمنها عنها (خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ)؛ لأن القائم يَرَى، وب سمع ما لا يراه، ولا يسمعه القاعد، فهو أقرب إلى الفتنة منه.

وقال في "الفتح": قوله: "القاعد فيها خير من القائم" زاد الإسماعيليّ من طريق الحسن بن إسماعيل الكلبيّ، عن إبراهيم بن سعد بسنده فيه في أوله:"النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد"، والحسن بن إسماعيل المذكور وثقه النسائيّ، وهو من شيوخه، وهذه الزيادة عند مسلم من رواية أبي داود الطيالسيّ، عن إبراهيم بن سعد، وكان أخرجه أولًا من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، كرواية محمد بن عبيد اللَّه شيخ البخاريّ فيه، فكأن إبراهيم بن سعد كان يذكره تامًّا وناقصًا.

ووقع في رواية خَرَشة بن الْحُرّ عند أحمد، وأبي يعلى، مثل هذه الزيادة.

ولهذه الزيادة شاهدٌ من حديث ابن مسعود عند أحمد، وأبي داود، بلفلظ:"النائم فيها خير من المضطجع" وهو المراد باليقظان، في الرواية المذكورة؛ لأنه قابله بالقاعد. انتهى

(2)

.

(وَالْقَائِمُ) بمكانه (فِيهَا)؛ أي: في تلك الحالة، (خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي) في أسبابها، (وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي) إليها؛ أي: الذي يسعى، ويعمل فيها، وفي حديث ابن مسعود:"والماشي فيها خير من الراكب، والراكب فيها خير من المُجري، قَتْلاها كلها في النار".

قال النوويّ: القصد بيان عِظَم خطرها، والحثّ على تجنبها، والهرب منها، وعن التسبب في شيء منها، وأن شرها يكون على حسب التعلق بها

(3)

.

وقال في "العمدة": معنى "القاعدُ خيرٌ من القائم": الذي لا يستشرفها،

(1)

"عمدة القاري" 24/ 190.

(2)

"الفتح" 16/ 476 - 477.

(3)

"فيض القدير" 4/ 98.

ص: 212

وقال الداوديّ: الظاهر أنه إنما أراد أن يكون فيها قاعدًا، وحَكَى ابن التين عنه أن الظاهر أن المراد من يكون مباشرًا لها في الأحوال كلها؛ يعني: أن بعضهم في ذلك أشدّ من بعض، فأعلاهم في ذلك الساعي فيها، بحيث يكون سببًا لإثارتها، ثم من يكون قائمًا بأسبابها، وهو الماشي، ثم من يكون مباشرًا لها، وهو القائم، ثم من يكون مع النّظّارة، ولا يقاتل، وهو القاعد، ثم من يكون مُحَسِّنًا لها، ولا يباشر، ولا ينظر، وهو المضطجع اليقظان، ثم من لا يقع منه شيء من ذلك، ولكنه راض، وهو النائم، والمراد بالأفضلية في هذه الخيرية: من يكون أقلّ شرًّا ممن فوقه، على التفصيل المذكور. انتهى

(1)

.

(مَن تَشَرَّفَ لَهَا)؛ أي: انتصب لها، وتطلّع إليه، وتعرّض لها، (تَسْتَشْرِفُهُ)؛ أي: تغلبه، وتصرعه، وقيل: هو من الإشراف على الهلاك؛ أي: تستهلكه، وقيل: من طلع لها بشخصه طالعته بشرّها.

وقال المناويّ رحمه الله: "من تشرّف لها" بفتح المثناة، والمعجمة، وتشديد الراء: تطلع إليها؛ أي: الفتنة، "تستشرفه"؛ أي: تجره لنفسها، وتدعوه إلى الوقوع فيها، والتشرف: التطلع، واستعير هنا للإصابة بشرورها

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من تشرَّف لها تستشرفه"؛ أي: من تعاطاها، أو تَشَوّف إليها صرعته، وأهلكته، وهو مأخوذ من أشرف المريضُ على الهلاك: إذا أشفى عليه، وقد رُوي:"من يتشرّف إليها"، على أنه فعل مضارع مجزوم بالشرط، والأول على أنه فعل ماض بموضع جزم بالشرط. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "من تشرف لها" بفتح المثناة، والمعجمة، وتشديد الراء؛ أي: تطلّع لها بأن يتصدَّى ويتعرض لها، ولا يُعرِض عنها، وضُبط أيضًا من الشرف، ومن الإشراف، وقوله:"تستشرفه"؛ أي: تُهلكه بأن يُشرف منها على الهلاك، يقال: استشرفت الشيء: علوته، وأشرفت عليه، يريد: من انتصب لها انتصبت له، ومن أعرض عنها أعرضت عنه.

وحاصله: أن من طلع فيها بشخصه قابلته بشرّها، ويَحْتَمِل أن يكون

(1)

"عمدة القاري" 16/ 138 و 24/ 190.

(2)

"فيض القدير" 4/ 99.

(3)

"المفهم" 7/ 211.

ص: 213

المراد: مَن خاطر فيها بنفسه أهلكته، ونحوه قول القائل: من غالبها غلبته. انتهى.

(وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً)؛ أي: عاصمًا، أو موضعًا يلتجئ إليه، ويعتزل فيه، (فَلْيَعُذْ بِهِ)؛ أي: فليلجأ إلى ذلك الموضع.

ووقع في رواية البخاريّ: "فمن وجد منها ملجأ، أو معاذًا، فليَعُذ به"، قال في "الفتح": قوله: "ملجأ"؛ أي: يلتجئ إليه من شرّها، وقوله:"أو معاذًا" بفتح الميم، وبالعين المهملة، وبالذال المعجمة: هو بمعنى الملجأ، قال ابن التين: ورويناه بالضم؛ يعني: مُعاذًا، وقوله:"فليعذ به"؛ أي: ليعتزل فيه؛ لِيَسْلَم من شر الفتنة، وفي رواية سعد بن إبراهيم:"فليستعذ"، ووقع تفسيره في حديث أبي بكرة الآتي عند مسلم، ولفظه:"فإذا نزلت فمن كان له إبل فليلحق بإبله، وذكر الغنم، والأرض، قال رجل: يا رسول اللَّه أرأيت من لم يكن له؟ قال: يَعْمِد إلى سيفه، فيدُقّ على حدّه بحجر، ثم لينجُ إن استطاع".

وفيه التحذير من الفتنة، والحثّ على اجتناب الدخول فيها، وأن شرّها يكون بحَسَب التعلق بها، والمراد بالفتنة: ما ينشأ عن الاختلاف في طلب المُلك، حيث لا يُعْلَم المحقّ من المبطل. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7219 و 7220 و 7221](2886)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3601) و"الفتن"(7081 و 7082)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2344)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 282)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 373)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5959)، و (البيهقيّ) في "الكَبرى"(8/ 190)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4229)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في اختلاف أهل العلم في هذا الحديث:

(1)

"الفتح" 16/ 478.

ص: 214

قال الطبريّ رحمه الله: اختَلف السلف في هذا الحديث، فحمله بعضهم على العموم، وهم من قعد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقًا، كسعد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة، في آخرين، وتمسكوا بالظواهر المذكورة وغيرها، ثم اختَلف هؤلاء، فقالت طائفة: بلزوم البيوت، وقالت طائفة: بل بالتحول عن بلد الفتن أصلًا، ثم اختلفوا فمنهم من قال: إذا هُجم عليه شيء من ذلك يكفّ يده، ولو قُتل، ومنهم من قال: بل يدافع عن نفسه، وعن ماله، وعن أهله، وهو معذور إن قَتَل، أو قُتِل.

وقال آخرون: إذا بغت طائفة على الإمام، فامتنعت من الواجب عليها، ونصبت الحرب وجب قتالها، وكذلك لو تحاربت طائفتان، وجب على كل قادر الأخذ على يد المخطئ، ونَصْر المصيب، وهذا قول الجمهور.

وفصّل آخرون، فقالوا: كل قتال وقع بين طائفتين من المسلمين حيث لا إمام للجماعة، فالقتال حينئذ ممنوع، وتُنَزَّل الأحاديث التي في هذا الباب وغيره على ذلك، وهو قول الأوزاعيّ، قال الطبريّ: والصواب أن يقال: إن الفتنة أصلها الابتلاء، وإنكار المنكر واجب على كل من قَدَر عليه، فمن أعان المحقّ أصاب، ومن أعان المخطئ أخطأ، وإن أشكل الأمر فهي الحالة التي ورد النهي عن القتال فيها.

وذهب آخرون إلى أن الأحاديث وردت في حقّ ناس مخصوصين، وأن النهي مخصوص بمن خوطب بذلك، وقيل: إن أحاديث النهي مخصوصة بآخر الزمان، حيث يحصل التحقق أن المقاتَلة إنما هي في طلب المُلك، وقد وقع في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي سبقت الإشارة إليه:"قلت: يا رسول اللَّه، ومتى ذلك؟ قال: أيام الهرج، قلت: ومتى؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن حَمْله على الزمان الذي تكون فيه المقاتَلة لطلب المُلك، والتنافس في الدنيا أرجح، وأما إذا كان القتال لإحقاق الحقّ، ومناصرة صاحب الحقّ، ودفع البغاة عليه، كما وقع لعليّ رضي الله عنه،

(1)

"الفتح" 16/ 478، "كتاب الفتن" رقم (7081).

ص: 215

فالحمل عليه بعيد، وإن حمله بعض السلف، كما سلف آنفًا؛ لأن آية:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] تردّه، فتأمل بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: الحديث المشار إليه هو ما أخرجه أحمد في "مسنده" عن عمرو بن وابصة الأسديّ، عن أبيه، قال: إني بالكوفة في داري، إذ سمعت على باب الدار السلام عليكم، أألج؟ قلت: عليكم السلام فلِجْ، فلما دخل، فإذا هو عبد اللَّه بن مسعود، قلت: يا أبا عبد الرحمن أية ساعة زيارة هذه؟ وذلك في نحر الظهيرة، قال: طال علي النهار، فذكرت من أتحدث إليه، قال: فجعل يحدثني عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأحدثه، قال: ثم أنشأ يحدثني، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الراكب، والراكب خير من المجري، قَتْلاها كلها في النار"، قال: قلت: يا رسول اللَّه، ومتى ذلك؟ قال:"ذلك أيام الهرج" قلت: ومتى أيام الهرج؟ قال: "حين لا يأمن الرجل جليسه". قال: قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: "اكفف نفسك، ويدك، وادخل دارك". قال: قلت: يا رسول اللَّه أرأيت إن دخل رجل على داري؟ قال: "فادخل بيتك". قال: قلت: أفرأيت إن دخل على بيتي؟ قال: فأدخل مسجدك، واصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع، وقل: ربي اللَّه، حتى تموت على ذلك"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7220]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُطِيعِ بْنِ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 1/ 448، قال الحافظ أبو بكر الهيثميّ رحمه الله في "مجمع الزوائد" 7/ 302: رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات. انتهى.

ص: 216

الأَسْوَدِ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، إِلَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَزِيدُ:"مِنَ الصَّلَاةِ صَلَاةٌ مَنْ فَاتَتْهُ، فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ المدنيّ، قيل: اسمه محمد، وقيل: المغيرة، وقيل: أبو بكر اسمه، وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل: اسمه كنيته، ثقةٌ فقيهٌ عابدٌ [3](ت 94) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 210.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُطِيعِ بْنِ الأَسْوَدِ) بن حارثة بن نَضْلة بن عون بن عبيد بن عُويج بن عديّ بن كعب العدويّ المدنيّ، يقال: له صحبة، وذكره أبو نعيم في التابعين.

رَوى عن خاله نوفل بن معاوية الدِّيليّ، وعنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ذكره الزبير بن بكار في أولاد مطيع، قال: وأمهم أم كلثوم بنت معاوية بن عروة، أخرج له الشيخان حديثًا واحدًا مقرونًا من حديث الزهريّ، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وعن الزهريّ عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن مطيع، عن نوفل، مثل حديث أبي هريرة، ذكره ابن حبان في الصحابة، ونسبه هكذا عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشيّ، وكذا نسب أخاه عبد اللَّه بن مطيع، قال الحافظ: ووَهِمَ في ذلك، والصواب ما تقدم، وذكره ابن منده في "معرفة الصحابة"، وعاب ذلك عليه أبو نعيم، وقال: عداده في التابعين، واللَّه أعلم.

تفرّد به الشيخان، وليس له عندهما إلا هذا الحديث، فتنبّه.

3 -

(نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن عروة، وقيل: ابن عمرو بن صخر بن يعمر بن نُفاثة بن عديّ بن الدِّيل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، أبو معاوية الدِّيليّ -بكسر المهملة، وسكون التحتانية- صحابيّ شَهِد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وحَجّ مع أبي بكر الصديق رضي الله عنهما سنة تسع، ومع النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة عشر، روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابن أخته عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، وعراك بن مالك، وعوف بن الحارث، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وخرج

ص: 217

إلى المدينة، فنزل بها في بني الديل، ومات بها في خلافة يزيد بن معاوية، وقد بلغ مائة سنة، أو أكثر.

قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر

(1)

قال: أخبرنا أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي سبرة، عن جواثة بن عبيد الديليّ، قال: عُمِّر نوفل بن معاوية الديليّ في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، قال محمد بن عمر: وكان نوفل بن معاوية قد شَهِد بدرًا مع المشركين من قريش، وشَهِد معهم أُحدًا، والخندق، وكان له ذِكر، ونكاية، فأسلم بعد ذلك، وشهد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتح مكة، وشهد معه حُنينًا، والطائف، ونزل المدينة في بني الدِّيل، وحج مع أبي بكر الصديق سنة تسع، وحج مع النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة عشر، ورَوَى عن رسول اللَّه أحاديث، ومات بالمدينة في خلافة معاوية، وقال غيره: في خلافة يزيد بن معاوية

(2)

.

روى له البخاريّ، والمصنّف، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

[تنبيه]: حديث نوفل بن معاوية رضي الله عنه هذا لم أجد من ساقه بتمامه

(3)

، وقد أخرج النسائيّ جزء الصلاة، فقال:

(479)

- أخبرنا عيسى بن حماد زُغبة، قال: حدّثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، أنه بلغه أن نوفل بن معاوية قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من الصلاة صلاة من فاتته فكأنما وُتر أهله وماله"، قال ابن عمر: سمعت، رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"هي صلاة العصر"، خالفه محمد بن إسحاق:

(1)

هو: الواقديّ.

(2)

"تهذيب الكمال" 30/ 70.

(3)

وهكذا وقع عند البخاريّ حيث قال بعد إخراج حديث أبي هريرة من طريق الزهريّ رحمه الله ما نصّه 3/ 1318:

(3407)

- وعن ابن شهاب، حدّثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن عبد الرحمن بن مطيع بن الأسود، عن نوفل بن معاوية، مثل حديث أبي هريرة هذا، إلا أن أبا بكر يزيد:"من الصلاة صلاة، من فاتته فكأنما وُتر أهله وماله".

ص: 218

(480)

- أخبرنا عبيد اللَّه بن سعد بن إبراهيم بن سعد، قال: حدّثني عمي، قال: حدّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثني يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، قال: سمعت نوفل بن معاوية يقول: "صلاة من فاتته، فكأنما وُتر أهله وماله"، قال ابن عمر: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هي صلاة العصر". انتهى

(1)

.

فقوله: "من" شرطيّة، جوابها:"فكأنما وُتر".

وقوله: "وتر" بالبناء للمفعول، و"أهله" بالنصب عند جمهور النحاة على أنه مفعول ثان لِوُتِرَ، وأضمر المفعول الأول نائب فاعل، وهو عائد على "من" من قوله:"من فاتته"، فالمعنى: أصيب بأهله وماله، فـ "وتر" متعد إلى مفعولين، كما في قوله تعالى:{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، وقيل:"وتر" هنا: نقص، فعلى هذا يجوز نصبه، ورفعه؛ لأن من رَدَّ النقصَ إلى الرجل نَصَبَ، وأضمر ما يقوم مقام الفاعل، ومن ردّه إلى الأهل رفع.

وقال القرطبي: يروى بالنصب على أن "وُتِرَ" بمعنى سُلِبَ، وهو يتعدى إلى مفعولين، وبالرفع على أن "وتر" بمعنى أخِذَ، فيكون "أهله" هو المفعول الذي لم يُسمَّ فاعله.

وحقيقة الْوَتْر، كما قال الخليل: هو الظلم في الدم، فعلى هذا فاستعماله في المال مجاز، لكن قال الجوهري: المَوتُورُ هو الذي قُتل له قتيل، فلم يدرك بدمه، تقول منه: وُتِرَ، وتقول أيضًا: وَتَرَهُ حَقَّه؛ أي: نقصه، وقيل: الموتور: من أُخذ أهله أو ماله وهو ينظر إليه، وذلك أشد لِغَمِّهِ، فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة؛ لأنه يجتمع عليه غَمَّانِ؛ غمّ الإثم، وغمّ فَقْد الثواب، كما يجتمع على الموتور غمّان؛ غمّ السلب، وغمّ الطلب بالثَّأر.

وقيل: معنى وتر: أُخذ أهله وماله، فصارَ وِترًا؛ أي: فردًا، ويؤيد الذي قبله رواية أبي مسلم الكجي من طريق حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، فذكر نحو هذا الحديث، وزاد في آخره:"وهو قاعد".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد استوفيت شرح هذا الحديث، وبيّنت ما وقع

(1)

"سنن النسائي (المجتبى) " 1/ 238.

ص: 219

فيه من الاختلاف في سنده، في "شرح النسائيّ"، فارجع إليه

(1)

تستفد علمًا، وباللَّه تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7221]

(. . .) - (حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَكُونُ فِتْنَةٌ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقْظَانُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً، أَوْ مَعَاذًا فَلْيَسْتَعِذْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

2 -

(أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ) سليمان بن داود بن الجارود البصريّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 204)(خت م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

3 -

(إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) هو المذكور في السند الماضي.

4 -

(أَبُوهُ) سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ولي قضاء المدينة، وكان ثقةً، فاضلًا، عابدًا [5] (ت 125) وقيل: بعدها وهو ابن اثنتين وسبعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 31.

والباقيان ذُكرا قبل حديث.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7222]

(2887) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ الشَّحَّامُ، قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَهُوَ فِي أَرْضِهِ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ فِي الْفِتَنِ حَدِيثًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يُحَدِّثُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

(1)

"ذخيرة العقبى" 6/ 321 - 326 رقم (17/ 478).

ص: 220

"إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتَنٌ، أَلَا ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ

(1)

، الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا، أَلَا فَإِذَا نَزَلَتْ، أَوْ وَقَعَتْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ إِبِلٌ فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ، وَلَا غَنَمٌ، وَلَا أَرْضٌ؟ قَالَ: "يَعْمِدُ إِلَى سَيْفِهِ، فَيَدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ، ثُمَّ لْيَنْجُ إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ"، قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كرِهْتُ حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ؟ أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ؟ فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ، أَوْ يَجِيءُ سَهْمٌ فَيَقْتُلُنِي؟ قَالَ: "يَبُوءُ بِإِثْمِهِ وَإِثْمِكَ، وَيَكُونُ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، تقدّم ثلاثة أبواب.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم أيضًا قبل ثلاثة أبواب.

3 -

(عُثْمَانُ الشَّحَّامُ) العدويّ، أبو سلمة البصريّ، يقال: اسم أبيه ميمون، أو عبد اللَّه، لا بأس به [6].

روى عن عكرمة مولى ابن عباس، ومسلم بن أبي بكر الثقفيّ، وأبي رجاء العطارديّ.

وروى عنه إسرائيل، ووكيع، والأصمعيّ، وعبد الرحمن بن مرزوق، وابن أبي عديّ، والقطان، وأبو عاصم، وآخرون.

قال علي ابن المدينيّ: سمعت يحيى بن سعيد القطان، وذكر عثمان الشحام، فقال: يعرف وينكر، ولم يكن عندي بذاك، وقال عبد اللَّه بن أحمد عن أبيه: ليس به بأس، وقال إسحاق بن منصور عن ابن معين: ثقةٌ، وكذا قال أبو زرعة، وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأسًا، وقال الآجريّ عن أبي داود: ثقةٌ، أو قال: ليس به بأس، قد أعيى القرون؛ يعني: اسم أبيه، فقلت: إنه

(1)

وفي بعض النسخ: "فتنة".

ص: 221

وُجد بخط ابن معين اسم أبيه: ميمون، فأعجبه ذلك، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال مرةً: ليس به بأسٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وجزم النسائيّ في "الكنى" بأنه عثمان بن مسلم، وكذا أبو أحمد، وقال: ليس بالمتين عندهم، وأسند عن وكيع أنه وثقه، وقال الدارقطنيّ: بصريّ يُعتبَر به، وقال ابن عديّ: ليس له كثير حديث، ولا أرى به بأسًا.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(مُسْلِمُ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ) نفيع بن الحارث الثقفيّ البصريّ، صدوقٌ [3] مات في حدود سنة تسعين.

روى عن أبيه، وعنه عثمان الشحّام، وسعيد بن جُمْهان، وأبو الفضل بن خلف الأنصاريّ، وأبو حفص سعيد بن سلمة، قال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال خليفة بن خياط: مات بعد الثمانين وقبل التسعين.

أخرج له المصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(أَبُو بَكْرَةَ) نُفيع بن الحارث بن كَلَدة -بفتحتين- ابن عمرو الثقفيّ الصحابيّ مشهور بكنيته، وقيل: اسمه مسروح -بمهملات- أسلم بالطائف، ثم نزوا البصرة، ومات بها سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 481.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، وفيه رواية الابن عن أبيه، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، قيل له: أبو بكرة؛ لأنه تدلّى من حصن الطائف ببكرة البئر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فأعتقه، فلُقب لذلك، فهو لقب بصورة الكنية.

شرح الحديث:

(عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامُ) -بفتح الشين المعجمة، وتشديد الحاء المهملة،

ص: 222

آخره ميم-: نسبة إلى بيع الشحم، قاله في "اللباب"

(1)

. (قَالَ) عثمان: (انْطَلَقْتُ أَنَا) أتى به ليمكنه عَطْف ما بعده على الضمير المتّصل من غير ضعف، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِلْ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

أَوْ فَاصِلٍ مَّا وَبِلَا فَصْلٍ يَرِدْ

فِي النَّظْمِ فَاشِيًا وَضُعْفَهُ اعْتَقِدْ

(وَفَرْقَدٌ) هو: فرقد بن يعقوب، أبو يعقوب البصريّ، صدوقٌ، عابدٌ، لكنه لَيِّن الحديث، كثير الخطأ من الطبقة الخامسة، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، من رجال الترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا ذكر هنا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (السَّبَخِيُّ) -بفتح السين المهملة، والموحّدة، وبخاء معجمة-: قال في "اللباب": نسبة إلى السّبخة، وهي معروفة، والمشهور بهذه النسبة: أبو يعقوب فرقد بن يعقوب العابد، من أهل أرمينية، وانتقل إلى البصرة، وكان يأوي إلى السبخة بها، فنُسب إليها. انتهى

(2)

.

(إِلَى مُسْلِمِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ) الثقفيّ (وَهُوَ)؛ أي: والحال أن مسلمًا (فِي أَرْضِهِ) ومزرعته، (فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ، فَقُلْنَا) له (هَلْ سَمِعْتَ أَبَاكَ) أبا بكرة رضي الله عنه (يُحَدِّثُ فِي الْفِتَنِ) التي تكون في الأمة (حَدِيثًا؟ قَالَ) مسلم: (نَعَمْ، سَمِعْتُ) والدي (أَبَا بَكْرَةَ) نفيع بن الحارث الثقفيّ رضي الله عنه (يُحَدِّثُ) فيها حديثًا، ثم بيّن الحديث بقوله:(قَالَ) أبو بكرة رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهَا) الضمير للقصّة، وضمير القصّة هو ضمير الشأن، إلا أنه إذا كان للمؤنّث يقال له: ضمير القصّة، (سَتَكُونُ)؛ أي: ستوجد، وتحدُث، وتقع (فِتَنٌ) جمع فتنة؛ أي: فتن كثيرة مهلكة، (أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، (ثُمَّ تَكُونُ فِتَنٌ) بصيغة الجمع، وفي بعض النسخ:"فتنة" بالإفراد، قال الطيبيّ رحمه الله: فيه ثلاث مبالغات: أقحم حرف التنبيه بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لمزيد التنبيه لها، وعطف بـ "ثُمّ"؛ لتراخي مرتبة هذه الفتنة الخاصة تنبيهًا على عِظَمها، وهَوْلِها، على أنه من

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 187.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 99.

ص: 223

عطف الخاصّ على العامّ؛ لاختصاصها بما يفارقها من سائر أشكالها، وأنها كالداهية الدهياء، نسأل اللَّه العافية منها بفضله، وعميم طَوْله. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنها ستكون فتنٌ إلخ" هذا كله تضمّن الإخبار عن وقوع فتن هائلة عظيمة بعده صلى الله عليه وسلم، والأمر بالكفّ عنها، والفرار منها. انتهى

(2)

.

(الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي فِيهَا، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي إِلَيْهَا)؛ أي: يجعلها غاية سعيه، ومنتهى غرضه، لا يَرَى مَطلبًا غيرها، ولام الغرض و"إلى" الغاية متقاربان معنى، فحينئذ يستقيم التدرج والترقي من الماشي فيها إلى الساعي إليها. (أَلَا) أداة تنبيه، أعادها لمزيد التوكيد، (فَإِذَا نَزَلَتْ)؛ أي: الفتن، أو تلك الفتنة، وقوله:(أَوْ وَقَعَتْ)"أو" للشكّ من الراوي، هل قال:"نزلت"، أو قال:"وقعت"، (فَمَنْ كَانَ لَهُ)؛ أي: في البرية (إِبِلٌ، فَلْيَلْحَقْ بِإِبِلِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ غَنَمٌ فَلْيَلْحَقْ بِغَنَمِهِ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ)؛ أي: عَقار، أو مزرعة بعيدة عن الناس، (فَلْيَلْحَقْ بِأَرْضِهِ") فإن الاعتزال، والاشتغال بخُويصة نفسه حينئذ واجب؛ لوقوع عموم الفتنة العمياء بين الرجال، كما قال الشاعر [من البسيط]:

إِنَّ السَّلَامَةَ مِنْ لَيْلَى وَجَارَتِهَا

أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَى حَالٍ بوَادِيهَا

(قَالَ) أبو بكرة (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُسمّ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني (مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبِلٌ، وَلَا غَنَمٌ، وَلَا أَرْضٌ؟)؛ أي: فأين يذهب؟ أو كيف يفعل؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَعْمِدُ) بكسر الميم؛ أي: يقصد (إِلَى سَيْفِهِ)؛ أي: إن كان له سيف، (فَيَدُقُّ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر؛ أي: يضرب (عَلَى حَدِّهِ بِحَجَرٍ) المعنى: فليكسر سلاحه، كيلا يذهب به إلى الحرب؛ لأن تلك الحروب بين المسلمين، فلا يجوز حضورها.

قال النوويّ رحمه الله: قيل: المراد: كسر السيف حقيقةً على ظاهر الحديث؛ ليسدّ على نفسه باب هذا القتال، وقيل: هو مجاز، والمراد: ترك القتال،

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3407.

(2)

"المفهم" 7/ 211.

ص: 224

والأول أصح. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فيدقّ عليه بحجر" هذا محمول على ظاهره، وذلك أنه إن فعل ذلك لم يكن له شيء يستعين به على الدخول فيها، فيفرّ منها، فيسلم. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ لْيَنْجُ) بكسر اللام، ويسكن، وبفتح الياء، وسكون النون، وضم الجيم؛ أي: ليفرّ، ويسرع هَرَبًا، حتى لا تصيبه الفتن، وينجو بنفسه (إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ) بفتح النون، والمدّ؛ أي: الخلوص منها، يقال: نجا من الهلاك ينجو نجاةً: خَلَص، والاسم: النجاء بالمدّ، وقد يُقصر، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(3)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يعمد إلخ" عبارة عن تجرده تجردًا تامًّا، كأنه قيل: من لم يكن له ما يشتغل به من مهامه، فلينج برأسه. انتهى

(4)

.

قال النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذكر هذه الفتن، والتحذير عن الوقوع في محن ذلك الزمن:(اللَّهُمَّ)؛ أي: يا اللَّه (هَلْ بَلَّغْتُ)؛ أي: قد بلّغت إلى عبادك ما أمرتني به أن أبلغه إياهم، (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ") كرّره ثلاث مرّات مبالغةً. (قَالَ) أبو بكرة: (فَقَالَ رَجُلٌ) لم يُعرف: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ)؛ أي: أخبرني (إِنْ أُكْرِهْتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: أكرهني الناس (حَتَّى يُنْطَلَقَ بِي) بالبناء للمفعول أيضًا؛ أي: حتى يُذهب بي (إِلَى أَحَدِ الصَّفَّيْنِ) المتحاربين (أَوْ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ)"أو" هنا للشكّ من الراوي؛ أي: إحدى الجماعتين، (فَضَرَبَنِي رَجُلٌ بِسَيْفِهِ) وقوله:(أَوْ) هنا للتنويع، (يَجِيءُ سَهْمٌ) بصيغة المضارع عطفًا على الماضي، (فَيَقْتُلُنِي؟) قال القاري: الظاهر أنه تفريع على الأخير، والإسناد مجازيّ، ويَحْتَمِل أن يشمل أيضًا الأول، والمعنى: فما حكم القاتل والمقتول؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("يَبُوءُ)؛ أي: يرجع القاتل، وقيل: الْمُكْرِهُ، (بِإِثْمِهِ)؛ أي: بعقوبة ما فعله من قبلُ عمومًا، (وَإِثْمِكَ)؛ أي: وبعقوبة قتْلك إياه خصوصًا، أو المراد

(1)

شرح النوويّ" 18/ 9 - 10.

(2)

"المفهم" 7/ 212.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 595.

(4)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3407.

ص: 225

بإثمه: قَصْده القتل، وبإثمك: لو مددت يدك إليه، أو المراد بإثمك: سيئاتك التي فعلتها بأن توضع في رقبة القاتل بعد فَقْد حسناته، على ما ورد.

وقال النوويّ رحمه الله: معنى يبوء به: يَلزمه، ويرجع، ويَحتَمِله؛ أي: يبوء الذي أكرهك بإثمه في إكراهك، وفي دخوله في الفتنة، وبإثمك في قتلئا غيره، ويكون من أصحاب النار؛ أي: مستحقًّا لها. انتهى

(1)

.

(وَيَكُونُ) هو (مِنْ أَصْحَاب النَّارِ") قال اللَّه تعالى: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)} [الحشر: 17]، وإنما لم يقل: وأنت من أصحاب الجنة، وإن كان هذا هو المفهوم منه؛ للاكتفاء؛ احتياطًا لتبادر الفهم إلى الخطاب المعيَّن، لا المفروض المقدّر المراد به الخطاب العام على طريق الإبهام، ثم الحكم مقتبس من قوله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} الآية [المائدة: 27]، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كُنْ خير ابْنَي آدم"، وفي رواية:"كُنْ عبد اللَّه المقتول، ولا تكن عبد اللَّه القاتل".

قال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "يبوء إلخ" فيه وجهان:

أحدهما: أراد: بمثل إثمك على الاتساع؛ أي: يرجع بإثمه، ومثل إثمك المقدَّر لو قتلته.

وثانيهما: أراد: بمثل قَتْلك على حذف المضاف، وإثمه السابق على القتل. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [3/ 7222 و 7223](2887)، و (أبو داود) في "الفتن"(4256)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 39 - 40 و 48)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 7)، و (البزّار) في "مسنده"(9/ 127)، و (الحاكم) في

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 12.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3407.

ص: 226

"المستدرك"(4/ 440 - 441)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5965)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 190)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما يكون بعده في أمته من الفتن، فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): الأمر بالبعد عن الفتن قدر المستطاع، فلا ينبغي لمسلم أن يُعرّض نفسه للفتن، بل يهرب منها، وليتجنّب مواقعها، ويدعو اللَّه سبحانه وتعالى أن يجنّبه منها.

3 -

(ومنها): بيان أن من أُكره على الدخول في الفتن ليس عليه إثم، وإنما الإثم على من أكرهه، قال القرطبيّ رحمه الله: وفيه رفع الحرج عن المكره على مثل هذا، والمكره هنا هو الذي لا يملك من نفسه شيئًا؛ لقوله:"أرأيت إن أكرهت حتى يُنطلق بي"، ولم يقل: إنه أطلق من قِبَل نفسه. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: في هذا الحديث رفع الإثم عن الْمُكْرَه على الحضور هناك، وأما القتل فلا يباح بالإكراه، بل يأثم المكرَه على المأمور به بالإجماع، وقد نقل القاضي وغيره فيه الإجماع، قال أصحابنا: وكذا الإكراه على الزنى، لا يرفع الإثم فيه، هذا إذا أُكرهت المرأة حتى مكّنت من نفسها، فأما إذا رُبطت، ولم يمكنها مدافعته، فلا إثم، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: قد قال بظاهر هذه الأحاديث جماعة من السلف، فاجتنبوا جميع ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الخلاف والقتال، منهم: أبو بكرة، وعبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم.

فأما عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما فندم على تخلّفه عن نصر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال عند موته: ما آسى على شيء ما آسى على تركي قتال الفئة الباغية؛ يعني: فئة معاوية.

وأما محمد بن مسلمة فاتخذ سيفًا من خشب، وقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، وأقام بالربذة.

(1)

"المفهم" 7/ 213.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 123.

ص: 227

فمن هؤلاء من تمسّك بمثل هذه الأحاديث، فانكفّ، ومنهم من أشكل عليه الأمر، فانكفّ لذلك، كعبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما إلى أن اتّضح له الحقّ، فندم.

قال القاضي: ويتوجّه في هذا الحديث الكلام في دماء الصحابة رضي الله عنهم، وقت، لهم، وللناس في ذلك غُلُوّ، وإسراف، واضطرابٌ من المقالات، واختلاف، والذي عليه جماعة أهل السنّة والحقّ حُسْن الظنّ بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وطلبُ أحسن التأويل لفعلهم، وأنهم مجتهدون غير قاصدين للصمصية، والمجاهرة بذلك، وطلبِ حبّ الدنيا، بل كلٌّ عَمِلَ على شاكلته، وبحَسَب ما أدّاه إليه اجتهاده، لكن منهم المخطئ في اجتهاده، ومنهم المصيب، وقد رفع اللَّه تعالى الحرج عن المجتهد المخطئ في فروع الدين

(1)

، وضعّف الأجر للمصيب.

وقد توقّف الطبريّ وغيره عن تعيين المحقّ منهم، وعند الجمهور أن عليًّا وأشياعه مصيبون في ذبّهم عن الإمامة، وقتالهم من نازعهم فيها؛ إذ كان أحقّ الناس بها، وأفضلِ مَنْ على الأرض حينئذ، وغيّره تأول وجوب القيام بتغيير المنكر في طلب قَتَلَة عثمان رضي الله عنه الذين في عسكر عليّ رضي الله عنه، وأنهم لا يُعطون بيعةً، ولا يعقدون إمامة حتى يقضوا ذلك، ولم يطلبوا سوى ذلك، ولم يَرَ هو دفعهم؛ إذ الحكم فيهم إلى الإمام، وكافت الأمور لم تستقرّ استقرارها، ولا اجتمعت الكلمة بعدُ، وفيهم عدد، ولهم شوكة ومَنَعَةٌ، ولو أظهر تسليمهم أوّلًا، أو القصاص لاضطرب الأمر، وانبتّ الحبل.

ومنهم جماعة لم يروا الدخول في شيء من ذلك، محتجّين بنهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التلبّس بالفتن، والنهي عن قتال أهل الدعوة، كما احتجّ أبو بكرة رضي الله عنه في هذا الحديث على الأحنف بن قيس، وعَذَروا الطائفتين بتأويلهم، ولم يروا إحداهما باغية، فيقاتلوها

(2)

.

وقال النوويّ: هذا الحديث والأحاديث قبله وبعده، مما يَحتج به من

(1)

هذا ليس شرطًا، بل الخطأ في أصول الدين مثله، فتنبّه.

(2)

"المفهم" 7/ 212 - 213.

ص: 228

لا يرى القتال في الفتنة بكل حال، وقد اختَلَف العلماء في قتال الفتنة، فقالت طائفة: لا يقاتِل في فِتَن المسلمين، وإن دخلوا عليه بيته، وطلبوا قتله، فلا يجوز له المدافعة عن نفسه؛ لأن الطالب متأوّل، وهذا مذهب أبي بكرة الصحابيّ رضي الله عنه وغيره، وقال ابن عمر، وعمران بن الحصين رضي الله عنهم وغيرهما: لا يدخل فيها، لكن إن قُصِدَ دَفَعَ عن نفسه، فهذان المذهبان متفقان على ترك الدخول في جميع فتن الإسلام، وقال معظم الصحابة، والتابعين، وعامة علماء الإسلام: يجب نصر المحقّ في الفتن، والقيام معه بمقاتلة الباغين، كما قال تعالى:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} الآية [الحجرات: 9]، وهذا هو الصحيح، وتُتأول الأحاديث على من لم يظهر له المحقّ، أو على طائفتين ظالمتين، لا تأويل لواحدة منهما، ولو كان كما قال الأولون لظهر الفساد، واستطال أهل البغي والمبطلون. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7223]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو كُرَيْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، كِلَاهُمَا عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، حَدِيثُ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ نَحْوَ حَدِيثِ حَمَّادٍ إِلَى آخِرِهِ، وَانْتَهَى حَدِيثُ وَكِيعٍ عِنْدَ قَوْلِهِ:"إِنِ اسْتَطَاعَ النَّجَاءَ"، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم تقدّموا قريبًا.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ عُثْمَانَ الشَّحَّامِ) ضمير التثنية لوكيع، وابن أبي عديّ.

وقوله: (حَدِيثُ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ) برفع "حديثُ" على الابتداء، وقوله:(نَحْوُ حَدِيثِ حَمَّادٍ) برفع "نحوُ" على أنه خبر المبتدأ، فما وقع في النُّسخ من ضبط "نحو" بالنصب ضَبْط قلم، فغلط، وما أَوّل به بعضهم من أنه منصوب بنزع الخافض، فبعيد، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 123.

ص: 229

[تنبيه]: أما رواية وكيع بن الجرّاح عن عثمان الشّحّام فقد ساقها أبو داود رحمه الله في "سننه"، فقال:

(4256)

- حدّثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا وكيع، عن عثمان الشحّام، قال: حدّثني مسلم بن أبي بكرة، عن أبيه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتنةٌ، يكون المضطجع فيها خيرًا من الجالس، والجالس خيرًا من الف ائم، والقائم خيرًا من الماشي، والماشي خيرًا من الساعي". قال: يا رسول اللَّه ما تأمرني؟ قال: "من كانت له إبلٌ فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه". قال: فمن لم يكن له شيء من ذلك؟ قال: "فليَعمِد إلى سيفه، فليضرب بحدّه على حرّة، ثم لينجو ما استطاع النجاء". انتهى

(1)

.

وأما رواية ابن أبي عديّ -وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عديّ- عن عثمان الشحّام، فقد ساقها البزّار رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(3677)

- حدّثنا عمرو بن عليّ، قال: أنا ابن أبي عديّ، عن عثمان، قال: سألنا مسلم بن أبي بكرة عن الفتن، فقال: حدّثني أبي أبو بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أنه ستكون فتنٌ، ثم تكون فتنةٌ، الماشي فيها خير من الساعي إليها، والقائم فيها خير من الماشي إليها، والمضطجع خير من القاعد فيها، فإذا نزلت، فمن كان له غنم فليلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه، ومن كانت له إبل فليلحق بإبله"، قال: فقال رجل من القوم: يا نبي اللَّه جعلني اللَّه فداء، رأيت من ليست له غنم، ولا أرض، ولا إبل؟، قال:"يأخذ سيفه، ثم يعمد به إلى الصخرة، ثم ليدُقّ على حدّه، حتى يتلثم، اللَّهُمَّ هل بلغت" قالها ثلاثًا. انتهى

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"سنن أبي داود" 4/ 99.

(2)

"مسند البزار" 9/ 127.

ص: 230

(4) - (بَاب إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7224]

(2888) - (حَدَّثَنِي أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قَالَ: قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: عَلِيًّا- قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا تَوَاجَهَ الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، قَالَ: فَقُلْتُ، أَوْ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: "إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السختيانيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(يُونُسُ) بن عبيد بن دينار الْعَبْديّ، أبو عبيد البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ وَرعٌ [5](ت 139)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 73.

3 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن البصريّ، واسم أبيه: يسار، الأنصاريّ مولاهم، ثقةٌ فقيهٌ فاضلٌ مشهورٌ، وكان يرسل كثيرًا، ويدلِّس، رأس أهل الطبقة [3](ت 110) وقد قارب التسعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 306.

4 -

(الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ) هو: الأحنف -بالمهملة، والنون- أبو بحر بن قيس، واسمه الضحاك، وَقيل: صخر بن قيس بن معاوية بن حُصين بن حفص بن عبادة بن النزال بن مرة بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة من تميم، وُلد وهو أحنف، وهو الأعوج، من الحنَف، وهو الاعوجاج في الرِّجل، وهو أن ينفتل إحدى الإبهامين من إحدى الرجلين على الأخرى، وقيل: هو الذي يمشي على ظهر قدمه من شقها الذي يلي خنصرها، أدرك زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأسلم على عهده، ولم يره، وَفَد إلى عمر رضي الله عنه، وهو الذي افتتح مَرْوَ الرُّوذ، وكان الإمامان: الحسن، وابن سيرين في جيشه، ووُلد

ص: 231

الأحنف ملتزق الأليتين، حتى شُقّ ما بينهما، وكان أعور، سمع عمر، وعليًّا، والعباس، وغيرهم، وعنه الحسن، وغيره. مات بالكوفة سنة سبع وستين، في إمارة ابن الزبير رضي الله عنه.

وقال في "التقريب": الأحنف بن قيس بن معاوية بن حُصين التميميّ السعديّ، أبو بحر، اسمه الضحاك، وقيل: صخر، مخضرمٌ ثقةٌ من الثانية، قيل: مات، سنة سبع وستين، وقيل: اثنتين وسبعين (ع) تقدم في "الزكاة" 10/ 2306.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين من أوله إلى آخره، وفيه أربعة من التابعين، واثنان مقرونًا روى بعضهم عن بعض، وهم: أيوب، ويونس، والحسن، والأحنف.

[تنبيه آخر]: قوله في السند: "حدّثنا حمّاد بن زيد" هذا هو الصواب، كما قال الغسانيّ، ونصّه: وفي نسخة ابن ماهان: نا أبو كامل، نا حمّاد بن سلمة، عن أيوب، ويونس، جعل الحديث لحمّاد بن سلمة، والمحفوظ: حمّاد بن زيد، وكذلك خرّجه أبو داود، عن أبي كامل، عن حماد بن زيد، وخرّج البخاريّ عن عبد الرحمن بن المبارك، عن حماد بن زيد، عن أيوب، ويونس بهذا. انتهى

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنِ الْحَسَنِ) البصريّ (عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ)؛ أنه (قَالَ: خَرَجْتُ) وقوله: (وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الرَّجُلَ) جملة حاليّة من الفاعل، والرجل هو عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، كما يأتي بعده.

(فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ) واسمه نُفَيع -بضم النون، وفتح الفاء- ابن الحارث بن كَلَدة -بالكاف، واللام المفتوحتين- ابن عمر بن علاج بن أبي سلمة، وهو عبد العزى بن غِيرة -بكسر الغين المعجمة، وفتح الياء آخر الحروف- ابن

(1)

"تقييد المهمل" 3/ 929.

ص: 232

عوف بن قَسَي -بفتح القاف، وكسر السين المهملة- وهو ثقيف بن منبه الثقفيّ، وقيل: نفيع بن مسروح، مولى الحارث بن كلدة الطبيب المشهور، وقيل: اسمه مسروح، وأمه سمية أَمَة للحارث بن كلدة، وهو أخو زياد لأمه، وهو ممن نؤل يوم الطائف إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف في بكرة، وكُني أبا بكرة، وأعتقه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو معدود في مواليه، وكان من فضلاء الصحابة، وصالحيهم، ولم يزل مجتهدًا في العبادة، حتى توفي بالبصرة سنة اثنتين وخمسين، رُوي له عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مائة حديث واثنان وثلاثون حديثًا، اتفقا على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث، روى عنه ابناه، والحسن البصريّ، والأحنف، روى له الجماعة

(1)

.

(فَقَالَ) أبو بكرة: (أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَحْنَفُ؟ قَالَ) الأحنف: (قُلْتُ: أُرِيدُ نَصْرَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (يَعْنِي عَلِيًّا) العناية من الراوي، وهو الحسن، أو من دونه. (قَالَ) الأحنف:(فَقَالَ) أبو بكرة (لِي: يَا أَحْنَفُ ارْجِعْ) عما عزمت عليه، (فَإِنِّي) الفاء للتعليل؛ أي: إنما أمرتك بالرجوع لأني (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا تَوَاجَهَ) وفي الرواية التالية: "إذا التقى"(الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا)؛ أي: إذا ضرب كل واحد منهما وجه صاحبه؛ أي: ذاته، وجملته، (فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ") قال القاضي عياض وغيره: معناه إن جازاهما اللَّه تعالى، وعاقبهما، كما هو مذهب أهل السُّنَّة، وهو أيضًا محمول على غير المتأوِّل، كمن قاتل لعصبية أو غيرها، مما يشبهها، ويقال: معنى "القاتلُ والمقتولُ في النار" أنهما يستحقانها، وأمْرهما إلى اللَّه عز وجل، كما هو مصرّح به في حديث عبادة رضي الله عنه، فإن شاء عفا عنهما، وإن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار، فأدخلهما الجنة، كما ثبت في حديث أبي سعيد وغيره في العصاة الذين يخرجون من النار، فينبتون كما تنبت الْحِبّة في جانب السيل، ونظير هذا الحديث في المعنى قوله تعالى:{فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] معناه: هذا جزاؤه، وليس بلازم أن يُجازَى. انتهى

(2)

.

(1)

هذه الترجمة ليس هذا الموضع هو المناسب لها، وإنما كتبتها هنا؛ لأني وجدتها في "عمدة القاري" للعينيّ رحمه الله فأعجبتني، فأثبتها هنا، فتنبّه.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 212.

ص: 233

(قَالَ) أبو بكرة: (فَقُلْتُ، أَوْ قِيلَ) هذا شكّ من أبي بكرة، نسي هل هو القائل نفسه، أو القائل غيره. (يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ) قال الكرمانيّ رحمه الله: هو مبتدأ وخبر؛ أي: هذا يستحق النار؛ لأنه قاتل، فالمقتول لِمَ يستحقها؟ والمظلوم، وتعقّبه العينيّ، قائلًا: الأَولى أن يقال: "هذا" مبتدأ و"القاتل" مبتدأ ثان، وخبره محذوف، والجملة خبر المبتدأ الأول، والتقدير: هذا القاتل يستحق النار؛ لكونه ظالِمًا، فما بال المقتول، وهو مظلوم؟ ونظيره: هذا زيد عالم، وقد عُلم أن المبتدأ إذا اتحد بالخبر لا يحتاج إلى ضمير، ومنه قول سبحانه وتعالى:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه". انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الإعراب الذي ذكره الكرمانيّ صحيح أيضًا، فلا وجه للاعتراض عليه، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ)؛ أي: فما حاله، وشأنه؟ وهو من الأجوف الواوي. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنَّهُ قَدْ أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ") وقوله: "حريصًا" من الحرص، وهو الْجَشَع، وقد حَرَص على الشيء يَحْرِص، كضرب يضرب، وحَرِص يَحْرَص كسمع يسمع، ومنه قراءة الحسن البصريّ، وأبي حيوة، وإبراهيم النخعيّ، وغيرهم:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ} [النحل: 37] بفتح الراء

(2)

.

وقال في "الفتح": قال العلماء: معنى كونهما في النار أنهما يستحقان ذلك، ولكن أمْرهما إلى اللَّه تعالى، إن شاء عاقبهما، ثم أخرجهما من النار، كسائر الموحّدين، وإن شاء عفا عنهما، فلم يعاقبهما أصلًا، وقيل: هو محمول على من استحلّ ذلك، ولا حجة فيه للخوارج، ومن قال من المعتزلة بأن أهل المعاصي مخلدون في النار؛ لأنه لا يلزم من قوله:"فهما في النار" استمرار بقائهما فيها

(3)

.

[تنبيه]: زاد البزار رحمه الله في روايته ما يُبيّن المراد بقوله: "القاتل والمقتول في النار"، وهي:"إذا اقتتلتم على الدنيا، فالقاتل والمقتول في النار"، ويؤيده

(1)

"عمدة القاري" 1/ 212.

(2)

"عمدة القاري" 1/ 212.

(3)

"الفتح" 16/ 482، "كتاب الفتن" رقم (7083).

ص: 234

ما يأتي لمسلم بلفظ: "لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قَتل؟ ولا المقتول فيم قُتل؟ " فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: "الهرج، القاتل والمقتول في النار".

قال القرطبيّ رحمه الله: فبيَّن هذا الحديث أن القتال إذا كان على جهل من طلب الدنيا، أو اتباع هوى، فهو الذي أُريدَ بقوله:"القاتل والمقحول في النار". قال الحافظ رحمه الله: ومن ثَمّ كان الذين توقفوا عن القتال في الْجَمَل وصِفِّين أقلّ عددًا من الذين قاتلوا، وكلهم متأوِّل مأجور -إن شاء اللَّه تعالى- بخلاف من جاء بعدهم ممن قاتل على طلب الدنيا، قال: ومما يؤيد ما تقدّم ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقُتل فقِتْلته جاهلية". انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي بكرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7224 و 7225 و 7226 و 7227](2888)، و (البخاريّ) في "الإيمان"(31) و"الديات"(6875) و"الفتن"(7083)، و (أبو داود) في "الفتن"(4268 و 4269)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(7/ 124 - 125) و"الكبرى"(2/ 316)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(3965)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 43 و 46 - 46 و 51)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(5945 و 5981)، و (ابن أبي عاصم) في "الآحاد والمثاني"(3/ 208)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 260)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 586)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 190)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(2549)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان تحريم قتال المسلم أخاه المسلم.

(1)

"الفتح" 16/ 483.

ص: 235

2 -

(ومنها): بيان الوعيد لمن قُتل في مواجهة المسلم؛ مع كونه مقتولًا؛ لكونه حريصًا على قَتْل صاحبه.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: فيه دلالة للمذهب الصحيح الذي عليه الجمهور، أن من نوى المعصية، وأصرّ على النية، يكون آثمًا، وإن لم يفعلها، ولا تكلم، وقد سبقت المسألة واضحة في "كتاب الإيمان". انتهى

(1)

.

4 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح": استَدَلّ بقوله: "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم، وإن لم يقع الفعل، وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلًا، وهو المواجهة بالسلاح، ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكونا في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذَّب، على القتال والقتل، والمقتول يعذَّب على القتال فقط، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد، قال: وقد تقدم البحث في هذه المسألة عند الكلام على قوله: "مَن هَمّ بحسنة، ومن هم بسيئة"، وقالوا في قوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] اختيار باب الافتعال في الشرّ؛ لأنه يُشعر بأنه لا بدّ فيه من المعالجة، بخلاف الخير، فإنه يثاب عليه بالنية المجردة، ويؤيده حديث:"إن اللَّه تجاوز لأمتي ما حَدَّثت به أنفسها، ما لم يتكلموا به، أو يعملوا"، والحاصل أن المراتب ثلاث: الهمّ المجرد، وهو يثاب عليه، ولا يؤاخذ به، واقتران الفعل بالهمّ، أو بالعزم، ولا نزاع في المؤاخذة به، والعزم، وهو أقوى من الهمّ، وفيه النزاع. انتهى

(2)

.

5 -

(ومنها): ما قاله في "الفتح" أيضًا: احتَجّ بالحديث من لم ير القتال في الفتنة، وهم كل من ترك القتال مع عليّ رضي الله عنه في حروبه، كسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبي بكرة وغيرهم رضي الله عنهم، وقالوا: يجب الكفّ حتى لو أراد أحد قَتْله لم يدفعه عن نفسه، ومنهم من قال: لا يدخل في الفتنة، فإن أراد أحد قتله دفع عن نفسه.

وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحقّ، وقتال الباغين،

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 12.

(2)

"الفتح" 16/ 483.

ص: 236

وحَمَل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضَعُف عن القتال، أو قَصُر نظره عن معرفة صاحب الحقّ.

واتفق أهل السُّنَّة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة رضي الله عنهم بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرف المحقّ منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا اللَّه تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا، وأن المصيب يؤجر أجرين، وحَمَل هؤلاء الوعيد المذكور في الحديث على من قاتل بغير تأويل سائغ، بل بمجرد طلب المُلك، ولا يَرِد على ذلك منع أبي بكرة الأحنف من القتال مع عليّ رضي الله عنه؛ لأن ذلك وقع عن اجتهاد من أبي بكرة أداه إلى الامتناع والمنع؛ احتياطًا لنفسه، ولمن نصحه.

قال الطبريّ رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يقع بين المسلمين الهرب منه بلزوم المنازل، وكسر السيوف لَمَا أقيم حدّ، ولا أُبطل باطل، ولَوَجَد أهل الفسوق سبيلًا إلى ارتكاب المحرمات، من أَخْذ الأموال، وسَفْك الدماء، وسبي الحريم، بأن يحاربوهم، ويكفّ المسلمون أيديهم عنهم، بأن يقولوا: هذه فتنة، وقد نُهينا عن القتال فيها، وهذا مخالف للأمر بالأخذ على أيدي السفهاء. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه رحمه الله: هذا الذي قاله الطبريّ تحقيقٌ نفيس جدًّا.

والحاصل: أن ما ذهب إليه الجمهور من وجوب نصر صاحب الحقّ الذي تبيّن أمره هو الحقّ والصواب، وإلا لفُتح باب الشرّ والفساد أمام الفسقة والفجرة، وهذا مخالف للشريعة الإسلاميّة التي شرعها اللَّه تعالى لصيانة النفس، والمال، والعِرض، والدِّين، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): ما أورده العينيّ رحمه الله على السؤال والجواب، فقال:

منها: ما قيل في قوله: "أَنْصُر هذا الرجل" إن السؤال عن المكان، والجواب عن الفعل، فلا تطابق بينهما.

وأجيب بأن المراد: أريد مكانًا أنصر فيه.

ص: 237

ومنها: ما قيل: القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، إن كان قتالهم من الاجتهاد الواجب اتباعه.

وأجيب بأن ذلك عند عدم الاجتهاد، وعدم ظن أن فيه الصلاح الدينيّ، أما إذا اجتهد، وظن الصلاح فيه، فهما مأجوران، مثابان، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وما وقع بين الصحابة هو من هذا القسم، فالحديث ليس عامًّا.

ومنها: ما قيل: لِمَ منع أبو بكرة الأحنف منه؟ ولم امتنع بنفسه منه؟.

وأجيب بأن ذلك أيضًا اجتهاديّ، فكان يؤدي اجتهاده إلى الامتناع والمنع، فهو أيضًا مثاب في ذلك.

ومنها: ما قيل: إن لفظة "في النار" مشعرة بحقية مذهب المعتزلة، حيث قالوا بوجوب العقاب للعاصي.

وأجيب بالمنع؛ لأن معناه: حقّهما أن يكونا في النار، وقد يعفو اللَّه عنهما.

ومنها: ما قيل: لِمَ أدخل الحرص على القتل، وهو صغيرة في سلك القتل، وهو كبيرة؟.

وأجيب بأنه أدخلهما في سلك واحد في مجرد كونهما سببًا لدخول النار فقط، وإن تفاوتا صغرًا وكبرًا، وغير ذلك.

ومنها: ما قيل: إنما سمى اللَّه الطائفتين في الآية مؤمنين، وسماهما النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث مسلمين حال الالتقاء، لا حال القتال وبعده.

وأجيب بأن دلالة الآية ظاهرة، فإن في قوله تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، سمّاهما اللَّه أخوين، وأمر بالاصلاح بينهما، ولأنهما عاصيان قبل القتال، وهو من حين سعيا إليه، وقصداه، وأما الحديث فمحمول على معنى الآية

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: ورد في اعتزال الأحنف القتال في وقعة الجمل سبب آخر، فأخرج الطبريّ بسند صحيح، عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمرو بن

(1)

"عمدة القاري" 1/ 212.

ص: 238

جاوان قال: قلت له: أرأيت اعتزال الأحنف ما كان؟ قال: سمعت الأحنف قال: حججنا، فإذا الناس مجتمعون في وسط المسجد -يعني: النبويّ- وفيهم عليّ، والزبير، وطلحة، وسعد، إذ جاء عثمان، فذكر قصة مناشدته لهم في ذكر مناقبه، قال الأحنف: فلقيت طلحة والزبير، فقلت: إني لا أرى هذا الرجل؛ يعني: عثمان إلا مقتولًا، فمن تأمراني به؟ قالا: عليّ، فقدمنا مكة، فلقيت عائشة، وقد بلغنا قَتْل عثمان، فقلت لها: من تأمريني به؟ قالت: عليّ، قال: فرجعنا إلى المدينة، فبايعت عليًّا، ورجعت إلى البصرة، فبينما نحن كذلك، إذ أتاني آتٍ، فقال: هذه عائشة، وطلحة، والزبير، نزلوا بجانب الخريبة، يستنصرون بك، فأتيت عائشة، فذكّرتها بما قالت لي، ثم أتيت طلحة، والزبير، فذكّرتهما، فذكر القصة، وفيها، قال: فقلت: واللَّه لا أقاتلكم، ومعكم أم المؤمنين، وحواريّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا أقاتل رجلًا أمرتموني ببيعته، فاعتزل القتال مع الفريقين.

قال الحافظ: ويمكن الجمع بأنه هَمّ بالترك، ثم بدا له في القتال مع عليّ، ثم ثَبَّطه عن ذلك أبو بكرة، أو هَمّ بالقتال مع عليّ، فثبطه أبو بكرة، وصادف مراسلة عائشة له، فرجح عنده الترك.

وأخرج الطبريّ أيضًا من طريق قتادة، قال: نزل عليّ بالزاوية، فأرسل إليه الأحنف: إن شئت أتيتك، وإن شئت كففت عنك أربعة آلاف سيف، فأرسل إليه: كُفّ من قدرت على كفّه

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7225]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ أَيُّوبَ، وَيُونُسَ، وَالْمُعَلَّى بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا، فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ").

(1)

"الفتح" 16/ 484.

ص: 239

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضَّبِّيُّ) أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [10](ت 245)(م 4) تقدم في "الإيمان" 1/ 103.

2 -

(الْمُعَلَّى بْنِ زِيادٍ) القُرْدوسيّ، أبو الحسن البصريّ، صدوقٌ، قليل الحديث، زاهدٌ، اختَلَف قول ابن معين فيه [7](خت م 4) تقدم في "الإمارة" 16/ 4793.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7226]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ كِتَابِهِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ، عَنْ حَمَّادٍ إِلَى آخِرِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) هو: حجاج بن أبي يعقوب يوسف بن حجاج البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن همّام الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، أبو عروة البصريّ، ثم اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

و"أيوب" السختيانيّ ذُكر قبله.

وقوله: (نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي كَامِلٍ. . . إلخ)؛ يعني: أن حديث حجاج الشاعر نحوُ حديث أبي كامل.

[تنبيه]: رواية معمر عن أيوب هذه ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(3587)

- أخبرنا أحمد بن فَضالة، قال: حدّثنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن أيوب، عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، عن أبي بكرة قال: قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فقَتل أحدُهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول اللَّه هذا القاتل،

ص: 240

فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد أن يقتل أخاه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7227]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"إِذَا الْمُسْلِمَانِ حَمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخِيهِ السِّلَاحَ، فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، دَخَلَاهَا جَمِيعًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(مَنْصُورُ) بن المعتمر بن عبد اللَّه السُّلَميّ، أبو عَتّاب الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وكان لا يدلِّس [6](ت 132)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 296.

2 -

(رِبْعِيُّ بْنُ حِرَاشٍ) -بكسر الحاء المهملة، وآخره شين معجمة- أبو مريم العبسيّ الكوفيّ، ثقةٌ عابدٌ مخضرمٌ [2](ت 100) وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (فَهُمَا فِي جُرُفِ جَهَنَّمَ) وقال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في معظم النسخ: "جُرُف" بالجيم، وضم الراء، وإسكانها، وفي بعضها:"حَرْف" بالحاء، وهما متقاربتان، ومعناه: على طرفها قريب من السقوط فيها. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في "المشارق": "على جرف جهنم" كذا للعذريّ، والطبريّ، والباجيّ، والسمرقنديّ، ولابن ماهان: "في حرّ

(3)

"، ورواه بعضهم: "جوف" بالجيم، والواو، ورواه بعضهم: "حرف" بالحاء المهملة مفتوحة، والراء، ومعانيها كلها مفهومة متقاربة، صحيحة، والوجه هنا

(1)

"السنن الكبرى" 2/ 316، و"المجتبى" 7/ 125.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 12.

(3)

"في حرّ" بالحاء المهملة، والراء، وغير فاء، مصدر حرّت النار تَحِرّ حرًّا، وحَرَارة، قاله القرطبيّ رحمه الله. "المفهم" 7/ 214.

ص: 241

فيه: جُرُفها، كما قال تعالى:{عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109]، أو حرفها، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وقال المناويّ رحمه الله: "جرف" -بالجيم، وضم الراء، وسكونها، وبحاء مهملة مفتوحة، وسكون الراء-، أي: جافب، أو طرف جهنم، أي: هما قريب من السقوط فيها، فإذا قتله وقعا فيها جميعًا، أما القاتل فظاهر، وأما المقتول فلقصده قتل أخيه، وفيه أن من نوى معصيةً، وأصرّ آثم، وإن لم يفعلها، قاله المناويّ رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: ذكر الدارقطنيّ رحمه الله هذا الإسناد مما خالف فيه الثوريّ شعبة، فلم يرفعه، قال: وأخرج مسلم حديث غندر، عن شعبة، عن منصور، عن ربعيّ بن حراش، عن أبي بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمان. . . " الحديث، قال: وعلّقه البخاريّ، وقال: قال غندر وشبابة، وقال: لم يرفعه الثوريّ عن منصور. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حاصل ما أشار إليه الدارقطنيّ: أن هذا الحديث اختلف فيه شعبة والثوريّ، فرفعه شعبة، ووقفه الثوريّ، وتقديم رفع شعبة في هذا واضح؛ لأنه إمام حجة، فلا تردّد في ترجيحه، ومما يؤيّد ذلك أن الحديث تقدّم من طريق الأحنف عن أبي بكرة مرفوعًا، فهذا أقوى ما يُستدلّ به على ترجيح الرفع، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه آخر]: رواية ربعيّ بن حراش عن أبي بكرة رضي الله عنه هذه ساقها ابن ماجه رحمه الله في "سننه"، فقال:

(3965)

- حدّثنا محمد بن بشار، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن منصور، عن رِبْعِيّ بن حِرَاش، عن أبي بكرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا المسلمان حَمَل أحدهما على أخيه السلاح، فهما على جُرُف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعًا". انتهى

(3)

.

(1)

"مشارق الأنوار" 1/ 147.

(2)

"فيض القدير" 1/ 281.

(3)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1311.

ص: 242

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7228]

(157)

(1)

- (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ".

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) القشيريّ مولاهم، أبو عبد اللَّه النيسابوريّ، ثقةٌ عابدٌ [11](ت 245)(خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

2 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهِ) بن كامل الأبناويّ، أبو عُتبة الصنعانيّ، أخو وهب، ثقةٌ [4](ت 132) على الصحيح (ع) تقدم في "الإيمان" 26/ 213.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في عصره.

شرح الحديث:

(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ)؛ أنه (قَالَ: هَذَا)؛ أي: الحديث الآتي، وهو عبارة عن صحيفة مشهورة لهمّام بن منبّه فيها (138) حديثًا، ومن جملتها هذا الحديث المشار إليه هنا. (مَا) موصولة خبر "هذا"، (حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ) أبو هريرة رضي الله عنه (أَحَادِيثَ) وقد أسلفت آنفًا أنها (138) حديثًا. (مِنْهَا) جارّ ومجرور خبر مقدّم لقوله: (وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:) فهو مبتدأ مؤخّر محكيّ؛ لِقَصْد لفظه، ("لَا) نافية، ولذا وفع الفعل بعدها، (تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ) بكسر الفاء، بعدها همزة مفتوحة، تثنية فئة، وهي الجماعة، قال بعضهم: المراد بهما: من كان مع عليّ

(1)

تقدّم، فهو مكرّر.

ص: 243

ومعاوية رضي الله عنهما لمّا تحاربا بصِفِّين

(1)

. (عَظِيمَتَانِ)؛ أي: لأنهما خلاصة الأمة، وأهل القرون المفضّلة، (وَتَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ)"المقتلة" بفتح الميم، مصدر ميميّ؛ أي: قتلٌ عظيمٌ، فإن كان المراد من الفئتين فئة عليّ وفئة معاوية رضي الله عنهما، كما زعموا فقد قُتل بينهما، وحَكَى ابن الجوزي في "المنتظم" عن أبي، الحسن البراء قال: قُتل بصِفّين سبعون ألفًا، خمسة وعشرون ألفًا من أهل العراق، وخمسة وأربعون ألفًا من أهل الشام، فمن أصحاب أمير المؤمنين عليّ خمسة وعشرون بدريًّا، وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكانت فيه تسعون وقعةً، وحُكي عن ابن سيف أنه قال: أقاموا بصفين تسعة، أو سبعة أشهر، وكان القتال بينهم سبعين زحفًا، قال: وقال الزهريّ: بلغني أنه كان يُدفن في القبر الواحد خمسون رجلًا، ذكره في "العمدة"

(2)

.

(وَدَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ")؛ أي: دينهما واحدٌ؛ لأن كلًّا منهما كان يتسمى بالإسلام، أو المراد: أن كلًّا منهما كان يَدّعِي أنه المحقّ، وذلك أن عليًّا رضي الله عنه كان إذ ذاك إمام المسلمين، وأفضلهم يومئذ باتفاق أهل السُّنَّة، ولأن أهل الحلّ والعقد بايعوه بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وتخلف عن بيعته أهل الشام.

وقال الكرمانيّ: "دعواهما واحدة"؛ أي: يدعي كل منهما أنه على إلى حق، وخصمه مبطل، ولا بدّ أن يكون أحدهما مصيبًا، والآخر مخطئًا، كما كان بين عليّ ومعاويّة رضي الله عنهما، وكان عليّ رضي الله عنه هو المصيبَ، ومخالفه مخطئ معذور في الخطأ؛ لأنه بالاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وقال صلى الله عليه وسلم:"إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر". انتهى. قال في "العمدة": وفيه نظر، وهو موضع التأمل، بل الأحسن السكوت عن ذلك. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فئتان" بكسر الفاء، بعدها همزة مفتوحة: تثنية فئة؛ أي: جماعة، ووصفهما في الرواية الأخرى بالعِظَم؛ أي: بالكثرة، والمراد بهما: من كان مع عليّ ومعاوية لمّا تحاربا بصفين.

وقوله: "دعواهما واحدة"؛ أي: دينهما واحد؛ لأن كلًّا منهما كان

(1)

"عمدة القاري" 16/ 141.

(2)

"عمدة القاري" 16/ 141.

(3)

"عمدة القاري" 16/ 141.

ص: 244

يتسمى بالإسلام، أو المراد: أن كلًّا منهما كان يدعي أنه المحقّ، وذلك أن عليًّا رضي الله عنه كان إذ ذاك إمام المسلمين، وأفضلهم يومئذ باتفاق أهل السُّنَّة، ولأن أهل الحلّ والعقد بايعوه بعد قتل عثمان رضي الله عنه، وتخلّف عن بيعته معاوية في أهل الشام، ثم خرج طلحة، والزبير، ومعهما عائشة، إلى العراق، فدَعَوُا الناس إلى طلب قتلة عثمان؛ لأن الكثير منهم انضموا إلى عسكر عليّ رضي الله عنه، فخرج عليّ إليهم، فراسلوه في ذلك، فأبى أن يدفعهم إليهم، إلا بعد قيام دعوى من وليّ الدم، وثبوت ذلك على من باشره بنفسه، ورحل عليّ بالعساكر طالبًا الشام داعيًا لهم إلى الدخول في طاعته، مجيبًا لهم عن شُبَههم في قتلة عثمان بما تقدم، فرحل معاوية بأهل الشام، فالتقوا بصفِّين بين الشام والعراق، فكانت بينهم مقتلة عظيمة، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وآل الأمر بمعاوية ومن معه عند ظهور عليّ عليهم إلى طلب التحكيم، ثم رجع عليّ إلى العراق، فخرجت عليه الحرورية، فقتلهم بالنهروان، ومات رضي الله عنه بعد ذلك، وخرج ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما بعده بالعساكر لقتال أهل الشام، وخرج إليه معاوية، فوقع بينهم الصلح، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن اللَّه يصلح به بين فئتين من المسلمين. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [4/ 7228 و 7229](157)

(2)

، و (البخاريّ) في "المناقب"(3608 و 3609) و"استتابة المرتدّين"(3935) و"الفتن"(7121)، و (همّام بن منبّه) في "صحيفته"(24)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 313 و 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6734)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 172) و"الدلائل"(6/ 418)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4244)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 7/ 281 - 282 "كتاب المناقب" رقم (3608).

(2)

هذا الرقم تقدّم، فهو مكرّر.

ص: 245

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالمقاتلة التي تكون بعده، فكانت كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): بيان أن المتقاتلين من الجهتين مسلمون لا يضرّ بإيمانهم قتالهم للمسلمين، ولذلك سمّاهم اللَّه عز وجل في كتابه بالمؤمنين، فقال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فسمّاهم المؤمنين، وسمّاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي بالمسلمين، فقال:"إذا التقى المسلمان. . . " الحديث.

3 -

(ومنهما): أنه تقدّم أن المراد بالفئتين: عليّ ومن معه، ومعاوية ومن معه، ويؤخذ من تسميتهم مسلمين، ومن قوله:"دعوتهما واحدة" الردّ على الخوارج، ومن تبعهم في تكفيرهم كلًّا من الطائفتين.

4 -

(ومنها): أن حديث: "تقتل عمارًا الفئة الباغية" دلّ على أن عليًّا رضي الله عنه كان هو المصيب في تلك الحرب؛ لأن أصحاب معاوية قتلوه، وقد أخرج البزار بسند جيّد عن زيد بن وهب قال: كنا عند حذيفة، فقال: كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف؟ قالوا: فما تأمرنا؟ قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر عليّ، فالزموها، فإنها على الحقّ. وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيّد عن الزهريّ قال: لمّا بلغ معاويةَ غلبةُ عليّ على أهل الجمل دعا إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه أهل الشام، فسار إليه عليّ، فالتقيا بصفين، وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفيّ أحد شيوخ البخاري في "كتاب صفين"، من تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًّا في الخلافة، أَوَ أنت مثله؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني، وأحقّ بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، ووليه، أطلب بدمه، فأتوا عليًّا، فقولوا له: يدفع لنا قَتَلة عثمان، فأتوه، فكلموه، فقال: يدخل في البيعة، ويحاكمهم إليّ، فامتنع معاوية، فسار عليّ في الجيوش من العراق، حتى نزل بصِفّين، وسار معاوية حتى نزل هناك، وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا، فلم يتم لهم أمر، فوقع الفتال إلى أن قُتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في "تاريخه" نحو سبعين

ص: 246

ألفًا، وقيل: كانوا أكثر من ذلك، ويقال: كان بينهم أكثر من سبعين زحفًا.

وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الرضا، سمعت عمّارًا يوم صفين يقول: من سَرّه أن يكتنفه الحور العين، فليتقدم بين الصفين محتسبًا، ومن طريق زياد بن الحارث: كنت إلى جنب عمار، فقال رجل: كفر أهل الشام، فقال عمار: لا تقولوا ذلك، نبينا واحد، ولكنهم قوم حادوا عن الحقّ، فحقّ علينا أن نقاتلهم، حتى يرجعوا.

وذكر ابن سعد أن عثمان رضي الله عنه لمّا قُتل، وبويع عليّ أشار ابن عباس عليه، أن يُقِرّ معاوية على الشام، حتى يأخذ له البيعة، ثم يفعل فيه ما شاء، فامتنع، فبلغ ذلك معاوية، فقال: واللَّه لا ألي له شيئًا أبدًا، فلما فرغ عليّ من أهل الجمل أرسل جرير بن عبد اللَّه البجليّ إلى معاوية يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فامتنع، وأرسل أبا مسلم كما تقدم، فلم ينتظم الأمر، وسار عليّ في الجنود إلى جهة معاوية، فالتقيا بصفين في العشر الأول من المحرم، وأول ما اقتتلوا في غُرّة صفر، فلما كاد أهل الشام أن يُغلبوا رفعوا المصاحف بمشورة عمرو بن العاص، ودعوا إلى ما فيها، فآل الأمر إلى الحكمين، فجرى ما جرى من اختلافهما، واستبداد معاوية بمُلك الشام، واشتغال عليّ بالخوارج.

وعند أحمد من طريق حبيب بن أبي ثابت: أتيت أبا وائل، فقال: كنا بصفين، فلما استحرّ القتل بأهل الشام، قال عمرو لمعاوية: أرسل إلى عليّ المصحف، فادعه إلى كتاب اللَّه، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل، فقال: بيننا وبينكم كتاب اللَّه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)} [آل عمران: 23] فقال عليّ: نعم أنا أَولى بذلك، فقال القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا أمير المؤمنين ما ننظر بهؤلاء القوم، ألا نمشي عليهم بسيوفنا، حتى يحكم اللَّه بيننا، فقال سهل بن حنيف: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم، فقد رأيتنا يوم الحديبية، فذكر قصة الصلح مع المشركين، ذكر هذا كلّه في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 13/ 86.

ص: 247

5 -

(ومنها): أنه ينبغي للمسلم أن لا يخوض في شأن هاتين الطائفتين، بل يُحسن الظن بكلتيهما، ومن أحسن ما نُقل عن عمر بن عبد العزيز: لما سئل عن القتال الذي جرى بين الطائفتين، قال: تلك داء طهَّر اللَّه منها سيوفنا، فلا نقذّر بها ألسنتنا، أو كما قال، رحم اللَّه عمر، ورضي عنه، ما أعظم احترامه وإعزازه لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو واجب كلّ مسلم تجاه الصحابة رضي الله عنهم، فقد أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فلوا أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبًا، ما بلغ مُدّ أحدهم، ولا نصيفه"، وأخرج الترمذيّ عن عبد اللَّه بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، اللَّهَ اللَّهَ في أصحابي، لا تتخذوهم غرضًا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللَّه، ومن آذى اللَّه فيوشك أن يأخذه"، وفي سنده ضعف، لكن يشهد له ما قبله.

وأخرج ابن عساكر في ترجمة معاوية رضي الله عنه من طريق ابن منده، ثم من طريق أبي القاسم ابن أخي أبي زرعة الرازيّ، قال: جاء رجل إلى عمي، فقال له: إني أبغض معاوية، قال له: لم؟ قال: لأنه قاتل عليًّا بغير حقّ، فقال له أبو زرعة: رَبُّ معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فما دخولك بينهما؟.

وخلاصة الأمر: أنه يجب على المسلم صون لسانه، ويده، وقلبه عن الكلام في أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وترك الخوض في ذلك، فإن دعت حاجة إلى بيان بعض الأمور المتعلّقة بهم فليتكلّم بالتبجيل والاحترام، بقدر ما تدعو الحاجة إليه، والحذر الحذر عن تقليد بعض المنحرفين، فإنه عين الهلاك، نسأل اللَّه سبحانه وتعالى أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، إنه رؤوف رحيم، جواد كريم، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7229]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:

ص: 248

"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ"، قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ الْقَتْلُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ)

(1)

بن محمد بن عبد اللَّه بن عبد القاري -بتشديد التحتانية- المدني، نزيل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقة من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين (خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

2 -

(سُهَيْلُ) بن أبي صالح المدنيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) أبو صالح ذكوان السمّان الزيّات المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب، وقبل باب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، (تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى يَكْثُرَ الْهَرْجُ) بفتح الهاء، وإسكان الراء، آخره جيم، فسّره في الحديث، قال أبو هريرة رضي الله عنه:(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرين مجلس تحديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث: (وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("الْقَتْلُ الْقَتْلُ") مكرّرًا للتوكيد، الهرج هو الاختلاط، يقال: هَرَج الناسُ يَهْرِجون، من باب ضرب؛ أي: اختلطوا، قال ابن منظور رحمه الله: وأصل الهرج: الكثرة في المشي، والاتساع، والهرج: الفتنة في آخر الزمان، والهرج: شدّة القتل، وكثرته، وفي الحديث:"بين يدي الساعة هرج"؛ أي: قتال، واختلاط. انتهى

(2)

.

وقال في "العمدة": الهرج بفتح الهاء، وسكون الراء، وفي آخره جيم، قال في "العباب": الهرج: الفتنة، والاختلاط، وقال الصغانيّ: وأصل الهرج: الكثرة في الشيء، ومنه قولهم في الجماع: بات يهرجها ليلته جمعاء، ويقال للفرس: مَرّ يَهْرِج، وإنه لَمِهْرَج، ومِهْراج، إذا كان كثير الجري، وهَرَج القوم

(1)

"تقريب التهذيب" 1/ 608.

(2)

"لسان العرب" 2/ 389.

ص: 249

في الحديث: إذا أفاضوا فيه، فأكثروا، والهراجة: الجماعة يهرجون في الحديث، وقال ابن دريد: الهرج: الفتنة في آخر الزمان، وقال القاضي: الفِتَن بعض الهرج، وأصل الهرج والتهارج: الاختلاط والقتال، ومنه قوله:"فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة"، ومنه: يتهارجون تهارج الْحُمُر، قيل: معناه يتخالطون رجالًا ونساءً، ويتناكحون مُزاناةً، ويقال: هرجها يهرجها: إذا نكحها، ويهرجها بفتح الراء، وضمها، وكسرها

(1)

. انتهى باختصار

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا بهذا السياق المختصر من أفراد المصنّف رحمه الله، وإلا فالحديث متّفقٌ عليه مطوّلًا، وقد تقدّم في "كتاب العلم" برقم [5/ 6792]، وتقدّم بيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(5) - (بَاب هَلَاكُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7230]

(2889) - (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ -وَاللَّفْظُ لِقُتَيْبَةَ- حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ، وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ

(3)

، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ، أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ

(1)

هكذا قال في "العمدة" مثلث الراء، والذي في "القاموس" و"شرحه" أنه بضم الراء وكسرها فقط، فليُتنبّه.

(2)

"عمدة القاري" 2/ 92.

(3)

وفي نسخة: "بسنة بعامة".

ص: 250

اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا").

رجال هذا الإسناد: ثمانيةٌ:

1 -

(أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ) سليمان بن داود الزهرانيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو قِلَابَةَ) عبد اللَّه بن زيد بن عمرو، أو عامر الْجَرْميّ، أبو قلابة البصريّ، ثقةٌ فاضلٌ، كثير الإرسال، قال العجليّ: فيه نَصْبٌ يسير [3] مات بالشام هاربًا من القضاء، سنة أربع ومائة، وقيل: بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

3 -

(أَبُو أَسْمَاءَ) عمرو بن مَرْثد الدمشقيّ، ويقال: اسمه عبد اللَّه، ثقةٌ [3] مات في خلافة عبد الملك (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

4 -

(ثَوْبَانُ) بن بُجدُد، ويقال: ابن جَحْدَر، أبو عبد اللَّه، أو أبو عبد الرحمن الهاشميّ مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، صَحِبه، ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين (بخ م 4) تقدم في "الحيض" 7/ 722.

والباقون تقدموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء.

شرح الحديث:

(عَنْ ثَوْبَانَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ)؛ أي: جَمَعها لأجلي، قال التوربشتيّ: زويتُ الشيءَ: جمعته، وقبضته، يريد به: تقريب البعيد منها، حتى اطّلع عليه اطلاعه على القريب منها.

وحاصله: أنه طوى له الأرض، وجعلها مجموعة كهيئة كفّ في مرآة

نَظَره، (فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا)؛ أي: جميعها، قال القرطبيّ رحمه الله: معنى "زوى"؛ أي: جمعها لي حتى أبصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها، وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن اللَّه تعالى قوّى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه، كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عن آياته، وهو ينظر إليه، وكما قال: "إني لأبصر قصر

ص: 251

المدائن الأبيض"، وَيحْتَمِل أن يكون مَثّلها الله تعالى له، فرآها، والأول أَولى. انتهى

(1)

.

(وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ) بالبناء للمفعول، (لِي مِنْهَا) قال الخطابيّ رحمه الله: توهّم بعض الناس أن "مِنْ" في "منها" للتبعيض، وليس ذلك، كما توهّمه، بل هي للتفصيل للجملة المتقدمة، والتفصيل لا يناقض الجملة، ومعناه: أن الأرض زُويت لي جملتها مرّةً واحدةً، فرأيت مشارقها ومغاربها، ثم هي تُفتح لأمتي جزءًا فجزءًا حتى يصل مُلك أمتي إلى كلّ أجزائها.

قال القاري: أقول: ولعل وجه من قال بالتبعيض هو أن مُلك هذه الأمة ما بلغ جميع الأرض، فالمراد بالأرض أرض الإسلام، وإن ضمير "منها" راجع إليها على سبيل الاستخدام، والله أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما قاله الخطابيّ هو الظاهر، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن أمتي سيبلغ ملكها إلخ": هذا الخبر قد وُجد مبرره، كما قال صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من دلائل نبوته في وذلك أن مُلك أمته اتسه ع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق، مما وراء خراسان، والنهر، وكثير من بلاد الهند، والسند، والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لَمْ يذكر صلى الله عليه وسلم أنه أُريه، ولا أخبر أن مُلك أمته يبلغه. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وهذا الحديث فيه معجزات ظاهرة، وقد وقعت كلها بحمد الله، كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، قال العلماء: المراد بالكنزين: الذهب، والفضة، والمراد كنزي كسري، وقيصر، ملكي العراق، والشام، وفيه إشارة إلى أن مُلك هذا، الأمة يكون معظم امتداده في جهتي المشرق والمغرب، وهكذا وقع، وأما في جهتي الجنوب والشمال، فقليل بالنسبة إلى المشوق والمغرب، وصلوات الله

(1)

"المفهم" 7/ 216.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 413.

(3)

"المفهم" 7/ 217.

ص: 252

وسلامه على رسوله الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. انتهى

(1)

.

(وَأُعْطِيتُ) بالبناء للمفعول؛ أي: أعطاني الله سبحانه وتعالى (الْكَنْزَيْنِ)، وقوله:(الأَحْمَرَ، وَالأَبْيَضَ) بدلان مما قبلهما؛ أي: كنز الذهب والفضة، قال التوربشتيّ: يريد بالأحمر والأبيض: خزائن كسرى وقيصر، وذلك أن الغالب على نقود ممالك كسرى الدنانير، والغالب على نقود ممالك قيصر الدراهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أعطيت الكنزين" يعني به: كنز كسرى، وهو مَلِك الفرس، ومُلك قيصر، وهو مَلِك الروم، وقصورهما: بلادهما، وقد دلّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر حين أخبر عن هلاكهما:"لتُنفَقَنّ كنوزهما في سبيل الله"، رواه مسلم، وعبّر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأنَّ الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأنَّ الغالب كان عندهم الفضّة، والجوهر، وقد ظهر ذلك، ووُجد كذلك في زمان الفتوح في خلافة عمر رضي الله عنه، فإنَّه سيق إليه تاج كسرى، وحِلْيته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حَوَته مملكته على سعتها، وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر، لمّا فُتحت بلاده. انتهى

(2)

.

(وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكهَا بِسَنَةٍ عَامّةٍ)، أي: بقحط شائع لجميع بلاد المسلمين، قال الطيبيّ رحمه الله: السنة: القحط والجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ووقع في نسخة:"بعامّة" بزيادة الباء.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بسنة بعامة" كذا صحت الرواية بالباء في "بعامة"، وكأنها زائدة، لأنَّ "عامة" صفة لـ "سنة"، فكأنه قال: بسنة عامة، ويعني بالسنة: الجدب العامّ الذي يكون به الهلاك العام، ويُسمّى الجدبُ والقحط سنةً، ويُجمع على سنين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 130]، أي: بالجدب المتوالي. انتهى

(3)

.

(وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا) وهم الكفار، وقوله:(مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ)

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 13.

(2)

"المفهم" 7/ 217.

(3)

"المفهم" 7/ 217.

ص: 253

صفة "عدوًّا"؛ أي: كائنًا من سوى أنفسهم، وإنما قيّده بهذا القيد لِمَا سأل أَوّلًا ذلك، فمُنِع على ما يأتي في الحديث التالي. (فَيَسْتبِيحَ)؛ أي: العدوّ، وهو مما يستوي فيه الجمع والمفرد، (بَيْضَتَهُمْ)؛ أي: يستأصل مُجتمعهم، وقال الطيبيّ رحمه الله: أراد بالبيضة؛ أي: مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومُستقرّ دعوتهم، وبيضة الدار: وسطها ومعظمها، أراد: عدوًّا يستأصلهم، ويُهلكهم جميعهم، وقيل: أراد: إذا هلك أصل البيضة كان هلاك كلها من طعم أو فرخ، وإذا لَمْ يهلك أصل البيضة ربما سلم بعض فراخها، والنفي منصبّ علم السبب والمسبَّب معًا، فيُفهم منه أنه قد يُسلط عليهم عدوّ، لكن لا يستأصل شأفتهم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: بيضة المسلمين: معظمهم، وجماعتهم، وفي "الصحاح": بيضة كلّ شيء: حَوْزته، وبيضة القوم: ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى، الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدوّ على كافّة المسلمين، حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم كلّ مَن بين أقطار الأرض، وهي: جوانبها. انتهى

(2)

.

(وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً)؛ أي: حكمت حكمًا، مُبْرَمًا (فَإنَّهُ لَا يُرَدُّ)؛ أي: بشيء، بخلاف الحكم المعلق بشرط وجود شيء أو عدمه كما حُقق في باب الدعاء

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذا قضيت قضاء لا يرد" يُستفاد منه أنه لا يستجاب من الدعاء إلَّا ما وافقه القضاء، وحينئذ يُشكل ما قد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يردّ القضاء إلَّا الدعاء"، ويرتفع الإشكال بأن يقال: إن القضاء الذي لا، يردّه دعاء، ولا غيره، هو الذي سبق عِلم الله بأنه لا بُدّ من وقوعه، والقضاء الذي يردّه الدعاء، أو صلة الرحم، هو الذي أظهره الله بالكتابة في اللوح المحفوظ الذي قال الله تعالى فيه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3637.

(2)

"المفهم" 7/ 218.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 413.

ص: 254

أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39]، وقد تقدّم ذلك في "كتاب القدر". انتهى

(1)

.

(وَإنِّي أَعْطَيْتُكَ)؛ أي: عهدي وميثاقي، (لأُمَّتِكَ)؛ أي: لأجل أمة إجابتك، (أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ)؛ أي: بحيث يعمهم القحط، ويهلكهم بالكلية، قال الطيبيّ: اللام في "لأمتك" هي التي في قوله سابقًا: "سألت ربي لأمتي"؛ أي: أعطيت سؤالك لدعائك لأمتك، والكاف هو المفعول الأول، وقوله:"أن لا أهلكهم" هو المفعول الثاني، كما هو في قوله:"سألت ربي أن لا يهلكها" هو المفعول الثاني

(2)

. (وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ)؛ أي: الذين هم (بِأَقْطَارِهَا)؛ أي: بأطرافها، جمع قُطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: فلا يستبيح عدوّ من الكفار بيضتهم، ولو اجتمع على محاربتهم من أطراف بيضتهم، وجواب "لو" ما يدلُّ عليه قوله:"وأن لا أسلط".

وقوله: (أَوْ قَالَ)"أو" للشكّ من الراوي، (مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا)؛ أي: نواحي الأرض، (حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي) كَيَرْمي بالرفع عطف على "يهلك"؛ أي: ويأسر (بَعْضُهُمْ) بوضع الظاهر موضع المضمر، (بَعْضًا") آخر، قال القاري: وفي نسخة بالنصب؛ أي: بنصب "يسبي" على أن يكون عطفًا على "يكون".

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا"، ظاهر "حتى": الغاية، فيقتضي ظاهر هذا الكلام أنه لا يسلّط عليهم عدوّهم، فيستبيحهم، إلَّا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسَبْي بعضهم لبعض، وحاصل هذا أنه إذا كان من المسلمين ذلك تفرّقت جماعتهم، واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدوّ، فقويت شوكة العدوّ، واستولى، كما شاهدناه في أزماننا هذه في المشرق والمغرب، وذلك أنه لمّا اختلف ملوك الشرق، وتجادلوا استولى كفار الترك على جميع عراق المعجم، ولمّا اختلف ملوك المغرب، وتجادلوا استولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس، والجزر القريبة

(1)

"المفهم" 7/ 219.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3637.

ص: 255

منها، وها هم قد طَمِعوا في جميع بلاد الإسلام، نسأل الله تعالى أن يتدارك المسلمين بالعفو، والنصر، واللطف، ولا يصحّ أن تكون "حتى" هنا بمعنى "كي" لفساد المعني، فتدبّره. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ: "حتى" بمعنى "كي"

(2)

؛ أي: لكي يكون بعض أمتك يُهلك بعضًا، فقوله:"إني إذا قضيت قضاء فلا يرد" توطئة لهذا المعنى، ويدل عليه حديث خَبّاب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني سألت الله ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يُهلك أمتي بسنة، فأعطاني، وسألته أن لا يُسَلّط عليهم عدوّا من غيرهم، فأعطانيها، وسألته أن لا يُذيق بعضَهم بأس بعض، فمنعنيها"، رواه الترمذيّ، وصححه، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ثوبان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 7230 و 7231](2889)، و (أبو داود) في "الفتن"(4252)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2176)، و (ابن ماجة) في "الفتن"(3952)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 278 و 284)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(6/ 311)، و (أبو بكر الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(1/ 333)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6714 و 7138)، و (القضاعيّ) في "مسند الشهاب"(5/ 284)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 181) و"الدلائل"(6/ 526 - 527)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4015)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منهما): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيكون بعده، فوقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): بيان عظمة منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الله سبحانه وتعالى حيث يكرمه بإعطاء

(1)

"المفهم" 7/ 218.

(2)

قد عرفت في كلام القرطبيّ أن كونها بمعنى "كي" لا يصحّ، فتأمله.

ص: 256

ما سأله في أمته من ظهور عدوّهم عليهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع أهل الدنيا كلهم، وهذا من عظيم فضل الله تعالى على هذه الأمة، الأمة المرحومة.

3 -

(ومنها): بيان عظمة هذا الدين، وأنه يملأ الأرض كلّها، وقد وُجد ذلك، وقد أخرج أحمد في "مسنده"، وصححه ابن حبّان من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر، ولا وبر، إلَّا أدخله الله كلمة الإسلام، بعِزّ عزيز، أو ذُلّ ذليل، إما يعزهم الله عز وجل، فيجعلهم من أهلها، أو يُذلهم، فيدينون لها"

(1)

.

وأخرج أيضًا، وصححه الحاكم، من حديث تميم الداريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر، إلَّا أدخله الله هذا الدين بعِزّ عزيز، أو بذُلّ ذليل، عزًّا يُعزّ الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر"، وكان تميم الداري رضي الله عنه يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذلّ، والصغار، والجزية

(2)

.

4 -

(ومنها): ما قاله المظهر رحمه الله: (اعلم) أن لله تعالى في خلقه قضاءين: مبرمًا ومعلقًا، أما القضاء المعلّق فهو عبارة عما قدّره في الأزل معلّقًا بفعل، كما قال: إن فَعَل الشيء الفلانيّ كان كذا وكذا، وإن لَمْ يفعله فلا يكون كذا وكذا، من قبيل ما يتطرق إليه المحو والإثبات، كما قال الله تعالى في محكم كتابه:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} الآية [الرعد: 39].

وأما القضاء المبرم فهو عبارة عما قدّره سبحانه وتعالى في الأزل من غير أن يعلقه بفعل، فهو في الوقوع نافذ غاية النفاذ، بحيث لا يتغير بحال، ولا يتوقف على المقضيّ عليه، ولا المقضيّ له؛ لأنه من عِلمه بما كان وما يكون، وخلاف معلومه مستحيل قطعًا، وهذا من قبيل ما لا يتطرق إليه المحو والإثبات، قال الله تعالى:{لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} الآية [الرعد: 41]، فقوله:"إذا. قضيت قضاء فلا يردّ" من القبيل الثاني، ولذلك لَمْ يُجَب إليه، وفيه أن الأنبياء عليهم السلام مستجابو

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 6/ 4.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 103.

ص: 257

الدعوة إلَّا في مثل هذا

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7231]

(

) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرُونَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى زَوَى لِيَ الأَرْضَ، حَتَّى رَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَأَعْطَانِي الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ، وَالأَبْيَضَ"، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ).

رجال هذا الإسناد: عشرة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مُعَاذُ بْنُ هِشَامِ) بن أبي عبد الله الدّستوائيّ البصريّ، وقد سكن اليمن، صدوقٌ رُبّما وَهِم [9](ت 200)(ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

3 -

(أَبُوهُ) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر، كجعفر، أبو بكر البصريّ الدستوائيّ، ثقةٌ ثبتٌ، وقد رُمي بالقدر، من كبار [7](ت 154) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السدوسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

وقوله: (ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَيُّوبَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير قتادة.

[تنبيه]: رواية قتادة عن أبي قلابة هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6714)

- أخبرنا أحمد بن عليّ بن المثنى، قال: حَدَّثَنَا أبو خيثمة، قال: حَدَّثَنَا معاذ بن هشام، قال: حدّثني أبي، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَى لي الأرضَ، حتى رأيتُ مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين: الأحمر، والأبيض، وإن مُلك أمتي

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3638.

ص: 258

سيبلغ ما زُوي لي منها، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكهم بسنة عامّة، وأن لا يُسلّط عليهم عدوًّا من غيرهم، فيهلكهم، ولا يُلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد إني إذا أعطيت عطاءً، فلا مردّ له، إني أعطيتك لأمتك أن لا يهلكوا بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من غيرهم". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7232]

(2890) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ دَخَلَ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:"سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْن، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطانِيهَا، وَسأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِك أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيهَا، وَسأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد الله بن نُمير الْهَمْدانيّ - بسكون الميم - الكوفيّ، أبو عبد الرَّحمن، ثقةٌ حافط فاضل [10](ت 234)(ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ نُمَيْرِ) - بنون، مصغرًا - الْهَمْدانيّ، أبو هشام الكوفيّ، ثقةٌ صاحب حديث، من أهل السُّنَّة، من كبار [9](ت 199) وله أربع وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 2/ 5.

3 -

(عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ) بن عباد بن حُنيف - بالحاء المهملة، والنون، مصغّرًا - الأنصاريّ الأوسيّ، أبو سهل المدنيّ، ثم الكوفيّ، ثقةٌ [5] مات قبل الأربعين ومائة (خت م 4) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

4 -

(عَامِرُ بْنُ سَعْدِ) بن أبي وقّاص الزهريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ت 104)(ع) تقدم في "الإيمان" 13/ 159.

(1)

"صحيح ابن حبان" 15/ 109.

ص: 259

5 -

(أَبُوهُ) سعد بن أبي وقاص مالك بن وُهيب بن عبد مناف بن زُهْرة بن كلاب الزهريّ، أبو إسحاق، الصحابيّ الشهير، مات بالعقيق سنة خمس، وخمسين على المشهور، وهو آخر العشرة وفاةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 71.

وشيخه "ابن أبي شيبة" ذُكر في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه إسنادان فصل بينهما بالتحويل، وفيه رواية الراوي عن أبيه مرّتين، ورواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشّرين بالجنّة، وهو آخرهم موتًا، وأول من رمى بسهم في سبيل الله رضي الله عنه.

شرح الحديث:

عن عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ (عَنْ أَبِيهِ) سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام، فـ "ذات" مقحمة. (مِنَ الْعَالِيَةِ) قال المجد رحمه الله: العالية: قُرى بظاهر المدينة، وهي العوالي، والنسبة إليها عاليّ، وعُلْويّ بالضمّ نادر. انتهى

(1)

. (حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ) هم بطن من الأنصار، وقيل: كان المسجد في المدينة، (دَخَلَ) في ذلك المسجد (فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعتَيْنِ)؛ أي: تحية، أو فريضة، (وَصَلَّيْنَا مَعَهُ)؛ أي: مقتدين به صلى الله عليه وسلم، (وَدَعَا) صلى الله عليه وسلم (رَبَّهُ طَوِيلًا)؛ أي: زمانًا كثيرًا، أو دعاء عريضًا بعد الصلاة، والظاهر أن أصحابه دعوا معه، أو أمّنوا، والأظهر أن طويلًا قيْد للصلاة، والدعاء، وَيحتمل أن يكون قيْدًا للصلاة فقط؛ لِمَا في حديث خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة، فأطالها، قالوا: يا رسول الله صليت صلاة لَمْ تكن تصليه؟ قال: "أَجَلْ، إنها صلاة رغبة ورهبة، إني سألت الله فيها ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة

" الحديث، رواه الترمذيّ، وصحّحه.

(1)

"القاموس المحيط" ص 908.

ص: 260

(ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا)؛ أي: من الدعاء، (فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا)؛ أي: ثلاث خصال، وقال القاري: أي: من المسؤولات، أو ثلاث مرّات، (فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ) وقوله:(وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً) زيادة توضيح، ثمّ الخصال المسؤولة فقال:(سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ)؛ أي: بالقحط العام؛ يعني: أنه لا يُهلكهم بقحط يعمهم، بل إن وقع قحط، فيكون في ناحية يسيرة، بالنسبة إلى باقي بلاد الإسلام، فللَّه الحمد والشكر على جميع نعمه

(1)

. (فَأَعْطَانِيهَا)؛ أي: الخصلة المسؤولة، (وَسأَلْتُهُ أنْ لا يُهْلِك أُمَّتِي بِالغَرَقِ) بفتحتين، وفي نسخة بسكون الراء؛ أي: بالغرق العامّ، كقوم فرعون في اليمّ، وقوم نوح بالطوفان.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق"؛ يعني: أن لا يهلك جميعهم بطوفان كطوفان نوح؛ حتى يُغرق جميعهم، وهذا فيه بُعدٌ، ولعل هذا اللفظ كان بالعدوّ، فتصحّف على بعض الرواة؛ لقرب ما بينهما في اللفظ، ويدلّ على صحة ذلك أن هذا الحديث قد رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم خَبّاب بن الأرَتِّ، وثوبان، وغيرهما، وكلهم قال بدل:"الغرق"المذكور في هذا الحديث: "عدوًّا من غير أنفسهم"، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: دعواه التصحيف المذكور فيه نظر لا يخفي، فتأمله، والله تعالى أعلم.

(فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ)؛ أي: حربهم الشديد (بَيْنَهُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: البأس: الحروب والفتن، وأصله من بئس يبأس: إذا أصابه البؤس، وهو الضرّ، ويقال: بأسًا؛ أي: ضرًّا، (فَمَنَعَنِيهَا") بل جعل الله تعالى بأسهم بينهم، حتى كان بعضهم يُهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا، وهذا أمر قضاه الله تعالى، ولا مردّ لأمر قضاه الله عز وجل:{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4]، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 14.

(2)

"المفهم" 7/ 219.

ص: 261

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [5/ 7232 و 7233](2890)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 175 و 181)، و (ابن خزيمة) في "صحيحه"(2/ 224)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 84)، و (البزّار) في "مسنده"(3/ 328)، والله تعالى، أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7233]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الأَنْصَارِيُّ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ أَقْبَلَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِه، فَمَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْن، نُمَيْرٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ، تقدّم قبل باب.

2 -

(مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) بن الحارث بن أسماء الْفَزاريّ، أبو عبد الله الوفيّ، نزيل مكة، ودمشق، ثقةٌ حافظٌ، وكان يدلس أسماء الشيوخ [8](193)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 138.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ)؛ يعني: أن حديث مروان بن معاوية عن عثمان بن حكيم مثل حديث عبد الله بن نُمير عن عثمان المذكور.

[تنبيه]: رواية مروان بن معاوية عن عثمان بن حكيم هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(734)

- حَدَّثَنَا زهير، حَدَّثَنَا مروان بن معاوية الْفَزاريّ، عن عثمان بن حكيم، أخبرنا عامر بن سعد، عن أبيه، أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمَرّ بمسجد بني معاوية، فدخل، فركع فيه ركعتين، ثم قام، فناجى ربه، وانصرف، فقال: "سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يُهلك

ص: 262

أمتي بالغَرَق، ولا بالسَّنَة -يعني: بالجوع- فأعطانيهما، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(6) - (بَابُ إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَكُونُ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7234]

(2891) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِييبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ، كَانَ يَقُولُ: قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ: وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ النَّاسِ بِكُلِّ فِتْنَةٍ، هِيَ كَائِنَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَة، وَمَا بِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَسَرَّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُحَدِّثْهُ غَيْرِي، وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ يُحَدِّثُ مَجْلِسًا أَنَا فِيهِ عَنِ الْفِتَن، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ: "مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ، لَا يَكَدْنَ يَذَرْنَ شَيْئًا، وَمِنْهُنَّ فِتَنٌ، كَرِيَاحِ الصَّيْف، مِنْهَا صِغَارٌ، وَمِنْهَا كِبَارٌ"، قَالَ حُذَيْفَةُ: فَذَهَبَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ كُلُّهُمْ غَيْرِي).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيُّ) عائذ الله بن عبد الله، وُلد في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة [2] ومات سنة ثمانين، قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشامِ بعد أبي الدرداء رضي الله عنه (ع) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

2 -

(حُذيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ) واسم اليمان حُسيل - بمهملتين، مصغّرًا - ويقال: خِسْل - بكسر، ثم سكون - الْعَبْسيّ - بالموحّدة - حليف الأنصار، الصحابرب الشهير، ومات حذيفة رضي الله عنه في أول خلافة عليّ رضي الله عنه سنة ست وثلاثين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ص 2 ص 457.

والباقون كلهم تقدّموا قبل أربعة أبواب.

(1)

"مسند أبي يعلى" 2/ 84.

ص: 263

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالمصريين، والثاني بالمدنيين، إلَّا أبا إدريس، فشاميّ، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة، فهو من السابقين الأولين، وصحّ في هذا الحديث عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة، وأبوه صحابيّ أيضًا استُشهد رضي الله عنه بأُحُد.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ (أَنَّ أَبَا إِدْرِيسَ) عائذ الله بن عبد الله (الْخَوْلَانِيُّ) - بفتح الخاء المعجمة، وإسكان الواو -: نسبة إلى خلان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مُرّة بن أُدَد بن يشجب بن عَريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهي قبيلة نزلت الشام، قاله في "اللباب"

(1)

. (كَانَ يَقُولُ: قَالَ حُذيْفةُ بْنُ الْيَمَانِ) رضي الله عنهما: (وَاللهِ إِنِّي) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في جواب القسم، كما قال في "الخلاصة":

فَاكْسِرْ فِي الابْتِدَا وَفِي بَدْءِ صِلَهْ

وَحَيْثُ "إِنَّ" لِيَمِينٍ مُكْمِلَهْ

(لأَعْلَمُ النَّاسِ)؛ أي: لأكثرهم علمًا (بِكُلِّ فِتْنَةٍ)؛ أي: بليّة، (هِيَ كَائِنَةٌ)؛ أي: حاصلة وواقعة (فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ السَّاعَةِ)؛ أي: القيامة، (وَمَا بِي) "ما" نافية؛ أي: ليس لي سبيل إلى علم ذلك (إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: إلَّا كون رسول الله صلى الله عليه وسلم (أَسَرَّ إِلَيَّ)؛ أي: عَلّمني سرًّا من غيري (فِي ذَلِكَ)؛ أي: المذكور من الفتن، (شَيْئًا) التنوين للتكثير، والتعظيم؛ أي: علمًا كثيرًا عظيمًا، وقوله:(لَمْ يُحَدِّثُهُ غَيْرِي) تأكيد لمعنى قوله: "سرًّا"، وقال في "المشارق": قوله: "وما بي إلَّا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم " كذا في الأصول كلها، قال الوقشيّ: الوجه حذف "إلَّا"، وبه يستقلّ الكلام، قال القاضي رحمه الله: هو مساق الحديث"، وما يدلّ عليه مقتضاه؛ أي: ما اختصّ علم ذلك بي؛ لأن النبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسرّ جميعه إليّ، ولكن لمّا ذكره من أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، وهو في

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 472.

ص: 264

مجلس فيه غيره، فماتوا، وبقي هو وحده، ولقوله في الحديث الآخر:"نسيه من نسيه"، وقد يُخَرَّج للرواية وجه، أن يكون قوله: وما بي من عذر في التحدث بها، والإعلام، إلَّا ما أسرّ إليّ صلى الله عليه وسلم من ذلك، مما لَمْ يعلمه غيري، ولعله حدّ له أن لا يُذيعه، أو رأى ذلك من المصلحة. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ما بي إلَّا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم " كذا وقع هذا اللفظ، وكذا صحّ في الرواية:"وما بي إلَّا أن يكون" بـ "إلَّا" الإيجابية، و"أن" المصدرية، فقيل: الوجه إسقاط "إلَّا "؛ لأنَّ مقصود الكلام أن حذيفة رضي الله عنه أخبر عن نفسه بأنه يعلم كل فتنة تكون بين يدي الساعة، فيظن سامع هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرّ إليه من ذلك بشيء لَمْ يسرّه إلى غيره، فنفى هذا الظنّ بذلك القول، ثم نبّه على سبب علمه بذلك، فقال:"ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يحدّث مجلسًا أنا فيه عن الفتن"، فيعني بذلك أنه سمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك المجلس مع الناس، لكنه حَفِظ ما لَمْ يحفظ غيره، وضَبَط ما لَمْ يضبط غيره، كما قال في الحديث الآتي.

وقيل: "إلَّا" ثابتة في الرواية، فلا سبيل إلى تقدير إسقاطها، ومعنى الكلام مع ثبوتها: وما بي عذرٌ في الإعلام بجميعها، والحديث عنها، إلَّا ما أسرّ إليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَمْ يُحَدّث به غيري، فيكون في كلامه إشارة رضي الله عنه إلى أن النبيّ صلى الله عليه وسلم عَهِد إليه، وأسرّ له ألا يحدّث بكل ما يعلمه من الفتن، أو لا يُذيعه إن رأى في ذلك مصلحة، وهذا أَولى؛ لِمَا ذكرناه من ثبوت الرواية، ولأن المعلوم من حال حذيفة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خصّه من العلم بالفتن، وأسرّ إليه منها بما لَمْ يخصّ به غيره، وأما ما لَمْ يسرّه إليه، ولا خصّه به، فهو الذي يحدث به، كما جاء متصلًا بقوله:"لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال، وهو يحدّث مجلسًا أنا فيهم عن الفتن"، والله تعالى أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن من تحقيق القرطبيّ الأخير من أن إثبات "لا" صواب، وأن المعنى عليه، هو الوجه الصحيح، وخلاصة ذلك أن

(1)

"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 1/ 71.

(2)

"المفهم" 7/ 222 - 223.

ص: 265

حذيفة رضي الله عنه يقول: إنه أعلم الناس بكلّ فتنة تكون إلى قيام الساعة، وذلك لكم صلى الله عليه وسلم أسرّ إليه بعلم ذلك ما لَمْ يُسرّ إلى أحد غيره، وأماء، يُحدّث به الناسَ من بعض الفتن فإنما هو مما سمعه حذيفة منه صلى الله عليه وسلم مع غيره، ولكنه حفظ، ونسيه غيره، وهذا النوع هو الذي استدرك حذيفة رضي الله عنه بقوله:(وَلَكِنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ يُحَدِّثُ) جملة حاليّة من "رسول الله"، وقوله:(مَجْلِسًا)؛ أي: أهل مجلس، فهو مما حُذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقامه، فانتصب انتصابه، كما قال في "الخلاصة":

ومَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفَا

عَنْهُ فِي الإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا

ويَحْتَمِل أن يكون "مجلسًا" منصوبًا بنزع الخافض؛ أي: يُحدّث في مجلس، وقوله:(أَنَا فِيهِ) صفة لـ "مجلسًا"، (عَنِ الْفِتَنِ) متعلّق بـ "يُحدّث"(فَقَالَ) توكيد لـ "قال" الأول، (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله:(وَهُوَ يَعُدُّ الْفِتَنَ:) جملة حاليّة من الفاعل، و"يَعُدّ" بفتح أوله، وضمّ العين مضارع عَدّ، من العدّ، يقال: عدّ الشيءَ يعُدّه عدًّا، من باب نصر: إذا أحصاه، و"الفتن" بكسر، ففتح: جمع فتنة، قال الفيوميّ رحمه الله: الفِتْنَةُ: المحنة، والابتلاء، والجمع فِتَنٌ، وأصل الفِتْنَةِ من قولك: فَتَنْتُ الذهب، والفضة: إذا أحرقته بالنار؛ ليبيّن الجيّد من الرديء. انتهى

(1)

.

وقد تقدّم البحث بأتمَّ من هذا في أول "كتاب الفتن"، وبالله التوفيق.

وقوله: ("مِنْهُنَّ ثَلَاثٌ) مقول "قال"، وجملة "وهو يعدّ الفتن" حاليّة معترضة بينهما؛ أي: ثلاث من تلك الفتن (لَا يَكَدْنَ)؛ أي: لا يقربن، (يَذَرْنَ)؛ أي: يتركن (شَيْئًا) مما في الأرض، بل تهلك كله، وهذه الثلاث لَمْ يُعرف تعيينها، والله تعالى أعلم.

(وَمِنْهُنَّ)؛ أي: من تلك الفتن، (فِتَنٌ) تكون (كِريَاحِ الصَّيْفِ)؛ أي: مؤذية كأذيّة الرياح التي تأتي في الصيف، فإنها حارّة ضارّة، (مِنْهَا)؛ أي: تلك الفتن، (صِغَارٌ)؛ أي: قليلة الضرر، أو قليل من تصيبه، (وَمِنْهَا كِبَارٌ)؛ أي: كثيرة الضرر، أو كثير من تصيبه. (قَالَ حُذَيْفَةُ) رضي الله عنه (فَذَهَبَ)؛ أي: مات

(1)

"المصباح المنير" 2/ 462.

ص: 266

(أُولَئِكَ الرَّهْطُ)؛ أي: الجماعة الذين سمعوا منه صلى الله عليه وسلم معي هذا الحديث، (كلُّهُمْ) توكيد للفاعل، (غَيْرِي) فلذلك كنت أعلم الناس بشأن الفتن، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7234](2891)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 388 و 407)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6637)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 518)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 130)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(8/ 351)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما يكون من الفتن إلى قيام الساعة.

2 -

(منها): بيان منقبة عظيمة للصحابيّ الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما حيث خصَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم بأسرار ما خصّ بها غيره، من علمه ما سيقع من الفتن في آخر الزمان.

3 -

(ومنها): بيان شدّة حرص حذيفة رضي الله عنه على تلقي علم الفتن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشرّ؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرّ؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَنٌ، قلت: وما دَخَنه؟ قال: قوم يَهدون بغير هديي، تَعرف منهم وتُنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم دُعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صِفهم لنا، قال: هم من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: فإن لَمْ يكن لهم جماعة، ولا إمام؟، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها،

ص: 267

ولو أن تَعَضّ بأصل شجرة، حتى يُدركك الموت، وأنت على ذلك"، متّفقٌ عليه، وقدم تقدّم هذا الحديث في "كتاب الإمارة" برقم [13/ 4775](1847) وتقدم شرحه هناك، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7235]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَش، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا مَا تَرَكَ شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَة، إِلَّا حَدَّثَ بِه، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاء، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ، فَأَرَاهُ، فَأَذْكُرُهُ، كمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) العبسيّ، أبو الحسن الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، ذُكر في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبّيّ الكوفيّ، ثم الرازيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مِهْران الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

5 -

(شَقِيقُ) بن سلمة الأسديّ، أبو وائل الكوفيّ، مخضرم ثقةٌ [2] مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وله مائة سنة (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 57.

و (حُذَيْفَة) رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ثم فصل؛ لِمَا أسلفته غير مرّة، وأنه مسلسل بالكوفيين، سوى إسحاق فمروزيّ، وحذيفة سكن الكوفة، واستعمله عمر رضي الله عنهما على المدائن، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه ذو مناقب جمّة، كما أشرت إليه في الحديث الماضي.

ص: 268

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه أنه (قَالَ: قَامَ)؛ أي: خطيبًا وواعظًا، (فِينَا)؛ أي: فيما بيننا، أو لأجل أن يعظنا، ويخبرنا بما سيظهر من الفتن؛ لنكون على حذر منها في كل زمن. (رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وقوله:(مَقَامًا) يَحْتَمِل أن يكون مصدرًا ميميًا لـ "قام"، أو ظرف مكان، أو زمان. (مَا تَرَكَ شَيْئًا)؛ أي: مما يتعلق بأمر الدين، مما لا بدّ منه

(1)

. (يَكُونُ) بمعنى يوجد، صفة "شيئًا"، (فِي مَقَامِهِ) متعلق بـ "ترك"، وقوله:(ذَلِكَ) صفة "مقامه"، أو بدل منه، إشارة إلى زمانه. (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ) غاية لـ "يكونُ"، والمعنى: قام مقامًا، فما ترك شيئًا يحدُث فيه، وينبغي أن يُخبر بما يظهر من الفتن من ذلك الوقت إلى قيام الساعة (إِلَّا حَدَّثَ بِهِ)؛ أي: أخبر بذلك الشيء الكائن.

وقال القرطبيّ رحمه الله: هذا المجرور الذي هو "في مقامه" يجوز أن يتعلّق بـ "تَرَكَ"، والأليق أن يكون متعلّقًا بـ "حَدَّثَ"؛ لأنَّ الظاهر من الكلام أنه أراد أنه ما ترك شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلَّا حدّث به في ذلك المقام، وهذا المقام المذكور في هذا الحديث هو اليوم الذي أخبر عنه أبو زيد عمرو بن أخطب رضي الله عنه المذكور بعدُ، وبالحريّ يتسع يوم للإخبار عمّا ذكره، على أنه قد رَوَى الترمذيّ من حديىث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال:"صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيبًا، فلم يدع شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلَّا أخبرنا به، حَفِظه مَن حَفِظه، ونسيه من نسيه"، فظاهر هذا أن هذا المقام كان من بعد العصر، لا قبل ذلك"، ويجوز أن يكون كانت الخطبة من بعد صلاة الصّبح إلى غروب الشمس، كما في حديث أبي زيد، واقتصر أبو سعيد في الذكر على ما بعد العصر، وفيه بُعْدٌ، وعلى كل تقدير فعمومات هذه الأحاديث يراد بها الخصوص؛ إذ لا يمكن أن يُحَدِّث في يوم واحد، بل ولا في أيام، ولا في أعوام بجميع ما يَحْدُث بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم تفصيلًا، وإنما مقصود هذه العمومات الإخبار عن رؤوس الفتن والمحن ورؤسائها، كما قال حذيفة رضي الله عنه: "لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهو يحدّث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم"،

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 6/ 356.

ص: 269

وهو يَعُدّ الفتن: منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئًا، ومنهنّ كرياح الصّيف، منها صغار، ومنها كبار".

قال القرطبيّ: قلت: على أنَّي أقول: إن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان الله تعالى قد أعلمه بتفاصيل ما يجري بعده لأهل بيته، وأصحابه، وبأعيان المنافقين، وبتفاصيل ما يقع في أمته من كبار الفتن، وصغارها، وأعيان أصحابها، وأسمائهم، وأنه بَثّ الكثير من ذلك عند من يصلح لذلك من أصحابه، كحذيفة فقال:"ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا، يبلغ من معه ثلاثمائة فصاعدًا، إلَّا قد سمّاه لنا باسمه، واسم أبيه، وقبيلته"، أخرجه أبو داود.

وبهذا يُعلم أن أصحابه كان عندهم من علم الكوائن الحادثة إلى يوم القيامة العلم الكثير، والحظ الوافر، لكن لَمْ يُشيعوها؛ إذ ليست من أحاديث الأحكام، وما كان فيها شيء من ذلك حدّثوا به، ونقضوا عن عهدته.

ولحذيفة رضي الله عنه في هذا الباب زيادة مزيّة، وخصوصية لَمْ تكن لغيرة منهم؛ لأنَّه كان كثير السؤال عن هذا الباب، كما دلت عليه أحاديثه، وكما دل عليه اختصاص عمر رضي الله عنه له بالسّؤال عن ذلك دون غيره.

وأبو زيد المذكور في هذا الباب: هو عمرو بن أخطب - بالخاء المعجمة - الأنصاريّ، من بني الحارث بن الخزوج، صَحِب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقال: غزوت، معه ستّ غزوات، أو سبعًا، وقد تقدم القول في حديث حذيفة رضي الله عنه في "كتاب الإيمان". انتهى

(1)

.

(حَفِظَهُ) - فتح الحاء المهملة، وكسر الفاء -، من باب عَلِمَ، يقال: حَفِظْتُ المالَ وغيرَه حِفْظًا: إذا منعته من الضَّيَاع والتَّلَف، وحَفِظْتُهُ: صُنته عن الابتذال، واحْتَفَظْتُ به، والتَّحَفُّظُ: التحرّزُ، وحَافَظَ على الشيء مُحَافَظَةً، ورجل حَافِظٌ لدينه، وأمانته، ويمينه، وحَفِيظٌ أيضًا، والجمع حَفَظَةٌ، وحُفَّاظٌ، مثلُ كافر في جَمْعه، وحَفِظَ القُرْآنَ: إذا وعاه على ظهر قلبه، واسْتَحْفَظْتُهُ الشيءَ: سألته أن ب حفظه، وقيل: استودعته إياه، وفُسّر: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا

(1)

"المفهم" 7/ 220 - 222.

ص: 270

مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] بالقولين، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

أي: وعى المحدّثَ به (مَنْ حَفِظَهُ)؛ أي: من وفّقه الله تعالى لحفظه، (وَنَسِيَهُ) بفتح النون، وكسر السين المهملة، من باب تَعِبَ نِسيانًا؛ أي: غفل عنه (مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ)؛ أي: هذا القيام، أو هذا الكلام بطريق الإجمال، (أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ)؛ أي: الموجودون من جملة الصحابة رضي الله عنهم، لكن بعضهم لا يعلمونه مفصلًا؛ لِمَا وقع لهم بعض النسيان الذي هو من خواص الإنسان، وأنا الآخر ممن نسي بعضه، وهذا معنى قوله:(وَإِنَّهُ) الضمير للشأن، قال القاري: وأبعد من قال: إن الضمير لقوله: "شيئًا". (لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ) اللام في "ليكون" مفتوحة، على أنه جواب لقَسَم مقدَّر، والمعنى: والله ليقع شيء مما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم "

(2)

، وقوله:(قَدْ نَسِيتُهُ) صفة لـ "الشيء"، أو حال منه، (فَأَرَاهُ، فَأَذْكُرُهُ)؛ أي: فإذا عاينته تذكرت ما نسيته، والعدول من المضي إلى المضارع؛ لاستحضار حكاية الحال.

وحاصل المعنى: أن حذيفة رضي الله عنه ربما نسي بعض الأمور التي أخبر بها النبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّها ستكون، ثم إذا رآها تقع عيانًا تذكّرها، والله تعالى أعلم.

ثم شبّه الموصوف بالمعايَن، (كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ)؛ أي: ثم ينساه، (ثُمَّ إِذَا رَآهُ) عيانًا (عَرَفُ) وتذكّره، قال القاضي عياض: قوله: "كما يذكر الرجل" قيل: هذا الكلام فيه اختلال من تغيير الرواة، وصوابه: كما لا يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، أو كما ينسى الرجل وجه الرجل

إلخ، وبه يصحّ تمثيله، وفي البخاريّ فيه تلفيق أيضًا. انتهى

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فأعرفه كما يعرف الرجلُ الرجلَ إذا غاب عنه، فرآه، فعرفه" في رواية محمد بن يوسف، عن سفيان، عند الإسماعيليّ:"كما يعرف الرجلُ" بحذف المفعول، وفي رواية الكشميهنيّ:"الرجل وجه الرجل، غاب عنه، ثم رآه، فعرفه". قال عياض: في هذا الكلام تلفيق، وكذا في رواية جرير: "وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته، فأراه، فأذكره، كما يذكر الرجل وجه

(1)

"المصباح المنير" 1/ 142.

(2)

"عون المعبود" 11/ 205.

(3)

"إكمال المعلم" 8/ 429.

ص: 271

الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه، عرفه" قال: والصواب: كما ينسى الرجل وجه الرجل، أو كما لا يذكر الرجل وجه الرجل؛ إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.

قال الحافظ رحمه الله: والذي يظهر لي أن الرواية في الأصلين مستقيمة، وتقدير ما في حديث سفيان: إنه يرى الشيء الذي كان نسيه، فإذا رآه عرفه، وقوله: كما يعرف الرجل الرجل غاب عنه؛ أي: الذي كان غاب عنه، فنسي صورته، ثم إذا رآه عرفه، وأخرجه الإسماعيليّ من رواية ابن المبارك، عن سفيان، بلفظ:"إني لأرى الشيء نسيته، فأعرفه، كما يعرف الرجل إلخ". انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

وهو تحقيق حسن، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7235 و 7236 و 7237 و 7238، (2891)، و (البخاريّ) في "القدر"(6604)، و (أبو داود) في "الفتن"(4240)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(433)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 385 و 386 و 3/ 99 و 401)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 231)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 472 و 487)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6636)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4215)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار.

2 -

(ومنها): أن فيه كثرةَ علمه صلى الله عليه وسلم بما يكون في مستقبل الزمان، وكثرة علم حذيفة رضي الله عنه، وشدّة اهتمامه بذلك، واجتنابه من الآفات والفتن.

3 -

(ومنها): أنه قد استدَلّ بهذا الحديث بعض أهل البدع والهوى على إثبات الغيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا جهل من هؤلاء؛ لأنَّ علم الغيب مختصّ بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الله بالوحي، والدليل

(1)

"الفتح" 11/ 495.

ص: 272

على هذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} الآية [الجن: 26، 27]؛ أي: ليكون معجزة له.

فكل ما ورد عنه من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلَّا من إعلام الله تعالى له به إعلامًا على ثبوت نبوّته، ودليلًا على صدق رسالته، قال عليّ القاري رحمه الله في "شرح الفقه الأكبر": إن الأنبياء لَمْ يعلموا المغيّبات من الأشياء إلَّا ما أعلمهم الله أحيانًا، وذكر الحنفية تصريحًا بالتكفير باعتقاد أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب؛ لمعارضة قوله تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} الآية [النمل: 65]، كذا في "المسائرة"، وقال بعض الأعلام في إبطال الباطل من ضروريات الدين: إن علم الغيب مخصوص بالله تعالى، والمنصوص في ذلك كثيرة، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية [الأنعام: 59]، و {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الآية [لقمان: 34]، فلا يصح لغير الله تعالى أن يقال له: إنه يعلم الغيب، ولهذا لمّا قالت جارية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تغني في العرس:

وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ

أنكر ذلك عليها، وقال:"دعي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين"، رواه البخاريّ.

وبالجملة لا يجوز أن يقال لأحد: إنه يعلم الغيب.

نَعَم الإخبار بالغيب بتعليم من الله تعالى جائز، وطريق هذا التعليم إما الوحي، أو الإلهام عند من يجعله طريقًا إلى علم الغيب. انتهى.

وفي "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" من كتب الحنفيّة: لو تزوج رجل بشهادة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا ينعقد النِّكَاح، ويكفر؛ لاعتقاده أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7236]

(. . .) - (وَحَدَّثنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَش، بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ).

(1)

"عون المعبود شرح سنن أبي داود" 11/ 206.

ص: 273

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(وَكيعُ) بن الجرّاح الرؤاسيّ، أبو سفيان الكوفيّ، تقدّم قبل بابين.

2 -

(سُفْيَانُ) بن سعيد الثوريّ، أبو عبد الله الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية سفيان الثوريّ عن الأعمش هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(23322)

- حَدَّثَنَا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا، فما ترك شيئًا يكون بين يدي الساعة إلَّا ذكره في مقامه ذلك صلى الله عليه وسلم، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قال حذيفة: فإني لأرى أشياء، قد كنت نسيتها، فأعرفها كما يعرف الرجل وجه الرجل، قد كان غائبًا عنه يراه، فيعرفه، وقال وكيع مرّةً: فرآه، فعرفه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7237]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ

(2)

، فمَا مِنه شَيْءٌ إِلَّا قدْ سَأَلْتُه، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ مَا يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) محمد بن أحمد بن نافع القيسيّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ) الأنصاريّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالتشيع [4](ت 116)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 244.

3 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) بن حُصين الأنصاريّ الْخَطْميّ - بفتح الخاء

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 385.

(2)

وفي نسخة: "مما هو كائن إلى يوم القيامة، أو إلى أن تقوم الساعة".

ص: 274

المعجمة، وسكون الطاء المهملة - صحابيّ صغير، وَلي الكوفة لابن الزبير (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 2 ص 456.

والباقون ذُكروا قبل باب.

[تنبيه]: من لطائف هذه الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالبصريين، والثاني بالكوفيين، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ) ووقع في بعض النسخ: "إلى يوم القيامة". (فَمَا) نافية، (مِنْهُ)؛ أي: مما أخبرني النبيّ صلى الله عليه وسلم، (شَيْءٌ إِلَّا قَدْ سَأَلْتُهُ)؛ أي: إلَّا استفسرته، وطلبت منه إيضاحه لي بالتفصيل، كما سبق مثاله في قوله:"فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشرّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير منِ شرّ؟ قال: نعم، قلت وهل بعد ذلك الشرّ من خير؟ قال: نعم، وفيه دخَن، قلت: وما دَخَنه؟ قال: قوم يهدون بغير هدي، تَعرف منهم وتُنكر، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرّ؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله صفهم لنا، قال: هم من جِلْدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين، وإمامهم، قلت: فإن لَمْ يكن لهم جماعة، ولا إمام؟، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تَعَضّ بأصل شجرة، حتى يدركك الموت، وأنت على ذلك".

قال حذيفة رضي الله عنه: (إِلَّا أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ) صلى الله عليه وسلم (مَا) استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء

(يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ) فَإِنِّي لَمْ أسأله، ومعنى ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم أخبره بخروج أهل المدينة منها، لكنه نسي أن يسأله السبب الذي يُخرجهم منها، وأخرج عمر بن شبّة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"قيل: يا أبا هريرة من يُخرجهم؛ قال: أمراء السوء"، وهذا موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه.

[تنبيه]: قد وردت أحاديث في خروج أهل المدينة:

فمنها: ما أخرجه الشيخان من طريق الزهريّ قال: أخبرني سعيد بن

ص: 275

المسيِّب، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يتركون المدينة على خير ما كانت، لا يغشاها إلَّا العوافِ - يريد عوافي السباع والطير - وآخر من يُحشر راعيان من مزينة، يريدان المدينة، ينعقان بغنمهما، فيجدانها وحشًا، حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرّا على وجوههما".

وأخرجا أيضًا من حديث سفيان بن أبي زهير رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تُفتح اليمن، فيأتي قوم يَبِسّون، فيتحملون بأهليهم، ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون، وتُفتح الشام، فيأتي قوم يبسّون، فيتحملون بأهليهم، ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتُفتح العراق، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم، ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".

ومعنى: "يبسون": يسوقون دوابهم.

ومنها: ما رَوى مالك عن ابن حَمَاس - بمهملتين، وتخفيف - عن عمة، عن أبي هريرة، رفعه:"لتتركن المدينة على أحسن ما كانت، حتى يدخل الذئب، فيعوي على بعض سواري المسجد، أو على المنبر، قالوا: فلمن تكون ثمارها؟ قال: للعوافي، الطير والسباع"، أخرجه معن بن عيسى في "الموطأ" عن مالك، ورواه جماعة من الثقات خارج "الموطأ".

ومنها: ما روى أحمد، والحاكم، وغيرهما من حديث مِحجن بن الأدوع الأسلمي قال: بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم لحاجة، ثم لقيني، وأنا خارج من بعض طرق المدينة، فأخذ بيدي، حتى أتينا أُحُدًا، ثم أقبل على المدينة، فقال:"ويل أمها قرية يوم يدعها أهلها، كأينع ما يكون، قلت: يا رسول الله من يأكل ثمرها؟ قال: عافية الطير والسباع".

ومنها: ما رَوى عمر بن شَبّة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، ثم نظر إلينا، فقال:"أما والله ليدعنّها أهلها مذلَّلة أربعين عامًا للعوافي، أتدرون ما العوافي؟ الطير والسباع"

(1)

، والله تعالى أعلم.

(1)

راجع: "الفتح" 5/ 189 - 195 رقم (1874).

ص: 276

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7237 و 7238](2891)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 58)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 386)، و (البزّار) في "مسنده"(7/ 222)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 912)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 472)، و (المقرئ الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(4/ 889)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7238]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلانة:

1 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ) بن حازم بن زيد، أبو عبد الله الأزديّ البصريّ، ثقةٌ [9](ت 206)(ع) تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

[تنبيه]: رواية وهب بن جرير عن شعبة هذه ساقها ابن منده رحمه الله في "الإيمان"، فقال:

(996)

- أخبرنا محمد بن الحسن أبو طاهر، ثنا محمد بن عبيد الله بن أبي داود، ثنا وهب بن جرير، ثنا شعبة، عن عديّ بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن حذيفة بن اليمان، قال:"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرنا بما هو كائن إلى يوم القيامة، إلَّا أني لَمْ أسأله ما يُخرج أهل المدينة من المدينة". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7239]

(2892) - (وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِر، جَمِيعًا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ - قَالَ حَجَّاجٌ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ - أَخْبَرَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ، حَدَّثَنِي أَبُو زَيْدٍ - يَعْنِي: عَمْرَو بْنَ أَخْطَبَ - قَالَ:

(1)

"الإيمان لابن منده" 2/ 912.

ص: 277

صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ، فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ، فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْللَمُنَا أَحْفَظنا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أبو يوسف العبدي مولاهم، ثقةٌ حافظ [10](ت 252) وله ست وثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ) البغداديّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحاك بن مَخْلد بن الضحاك بن مسلم الشيبانيّ النبيل البصريّ، ثقةٌ ثبت [9](ت 212) أو بعدها (ع) تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتِ) بن أبي زيد بن أخطب الأنصاريّ البصريّ، ثقةٌ [5]

(1)

(خ م قد ت س ق) تقدم في "الحج" 60/ 3188.

5 -

(عِلْبَاءُ بْنُ أَحْمَرَ)"علباء" بكسر أوله، وسكون اللام، بعدها موحّدة، ومدّ - ابن أحمر اليشكريّ - بفتح التحتانية، وسكون المعجمة - البصريّ، صدوق من القراء [4].

رَوَى عن أبي زيد عمرو بن أخطب، وعكرمة مولى ابن عباس، والأسود بن كلثوم.

وروى عنه أبو عليّ الرَّحَبيّ، وداود بن أبي الْفُرات، والحسين بن واقد، وعزرة بن ثابت وغيرهم.

قال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: لا بأس به، لا أعلم إلَّا خيرًا، وقال ابن معين، وأبو زرعة: ثقةٌ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وهو أحد القراء، له اختيار، ذكره الدانيّ.

(1)

هذا أَولى من قوله في "التقريب": من السابعة: لأنه سمع من بعض الصحابة، كما في "الفتح" 12/ 690.

ص: 278

أخرج له المصنّف، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

6 -

(أَبُو زيْدٍ عَمْرُو بْنُ أَخْطَبَ) بن رفاعة الأنصاريّ الأعرج، غزا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة، ومسح رأسه، وقال:"اللَّهُمَّ جَمِّله، فما شاب بعدها"، ونزل البصرة، روى عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعنه ابنه بشير، وأبو قلابة، وعلباء بن أحمر، وعمرو بن بجدان، وغيرهم

(1)

.

وقال في "الإصابة": أبو زيد بن أخطب اسمه عمرو بن أخطب بن رفاعة بن محمود بن بشر بن عبد الله بن الضيف بن أحمر بن عبديّ بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن عامر الأنصاريّ الخزرجيّ، مشهور بكنيته، وهو جدّ عزرة بن ثابت لأمه، أخرج الترمذيّ من طريق أبي عاصم، عن عزرة، عن علباء بن أحمر، عن أبي زيد بن أخطب، قال: مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم يده على وجهي، ودعا لي، وفي رواية أحمد في هذا الحديث وحده: زادني جمالًا، قال: فأخبرني غير واحد أنه بلغ بضعًا ومائة سنة أسود الرأس واللحية، وفي رواية لأحمد من وجه آخر عن أبي نَهِيك، حدّثني أبو زيد، قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء، فأتيته بقدح فيه ماء، فكانت فيه شعرة، فأخذتها، فقال:"اللَّهُمَّ جمّله" قال: فرأيته ابن أربع وتسعين، ليس في لحيته شعرة بيضاء، وصححه ابن حبان، والحاكم

(2)

.

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالتحديث، والإخبار، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتاب الستة إلَّا خمسة أحاديث

(3)

، هذا الحديث عند مسلم فقط، وعند

(1)

"تقريبُا التهذيب" 1/ 418.

(2)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 599.

(3)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 133 - 134.

ص: 279

أبي، داود، والنسائيّ حديث، وعند الترمذيّ حديث، وفي "الشمائل" له حديث، وعند ابن ماجه حديث.

شرح الحديث:

عن أبي (زَيْدٍ عَمْرِو بْنِ أَخْطَبَ) الأنصاريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَجْرَ)؛ أي: صلاة الفجر، (وَصَعِدَ) بكسر العين؛ أي: رقي (الْمِنْبَرَ) النبويّ، وهذا صريح في أن هذه الواقعة كانت في المسجد النبويّ. (فَخَطَبَنَا)؛ أي: وعظنا، وذكّرنا (حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ)؛ أي: صلاتها، (فَنَزَلَ) عن المنبر (فَصَلَّى) الظهر، (ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ)؛ أي: صلاتها، (ثُمَّ نَزَلَ) عن المنبر (فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ) قال في "العمدة": أفاد هذا الحديث بيان المقام المذكور زمانًا، ومكانًا، وأنه كان على المنبر، من أول النهار إلى أن غابت الشمس

(1)

.

ثم ظاهر الحديث أنه لَمْ يتخلّل بين تلك الخطب إلَّا النزول للصلاة، ثم الصعود، ويَحْتَمِل أن يكون بينها استراحات، لكن هذا الاحتمال بعيد من سياق الحديث، فلا يُلتفت إليه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ)؛ أي: بما وقع قبل ذلك من الأمور الغيبيّات، كالوقائع التي حصلت في الأمم السابقة، (وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ) في المستقبل إلى يوم القيامة، ففي حديث عمر رضي الله عنه قال:"قام فينا النبيّ صلى الله عليه وسلم مقامًا، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجَنَّة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حَفِظ ذلك من حَفِظه، ونسيه من نسيه" رواه البخاريّ، قال في "العمدة": قوله: "حتى دخل" كلمة "حتى" غاية للمبدأ، وللإخبار؛ أي: حتى أخبر عن دخول أهل الجَنَّة، والغرض أنه أخبر عن المبدأ، والمعاش، والمعاد جميعًا، وإنما قال:"دخل" بلفظ الماضي موضع المستقبل مبالغةً: للتحقق المستفاد من خبر الصادق. انتهى

(2)

.

(فَأَعْلَمُنَا)؛ أي: أكثر الصحابة رضي الله عنهم علمًا بذلك الحديث (أَحْفَظُنَا)؛ أي:

(1)

"عمدة القاري" 15/ 110.

(2)

"عمدة القاري" 15/ 110.

ص: 280

من كان أكثر حفظًا، وفي الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم أخبر في المجلس الواحد بجميع أحوال المخلوقات من ابتدائها إلى انتهائها، وفي إيراد ذلك كله في مجلس واحد أمر عظيم، من خوارق العادات، وكيف لا، وقد أعطي جوامع الكلم مع ذلك، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلَّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عمرو بن أخطب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [6/ 7239](2892)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 341)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 46)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 487)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6638)، و (أبو بكر الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(4/ 199)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(7) - (بَابٌ فِي الْفِتْنَةِ الَّتي تَمُوجُ كمَوْجِ الْبَحْرِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7240]

(144)

(1)

- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعًا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، قَالَ ابْنُ الْعَلَاءِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا، قَالَ: إِنَّكَ لَجَرِيءٌ، وَكَيْفَ قَالَ؟ قَالَ: قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِه، وَمَالِه، وَنَفْسِه، وَوَلَدِه، وَجَارِه، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوف، وَالنَّهْيُّ عَنِ الْمُنْكَرِ"، فَقَالَ عُمَرُ: لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ الَّتِي

(1)

مكرّر.

ص: 281

تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا، قَالَ: أَفَيُكْسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا، بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ: ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا يُغْلَقَ أَبَدًا، قَالَ: فَقُلْنَا لِحُذَيْفَةَ: هَلْ كَانَ عُمَرُ يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: نَعَمْ كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ، إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيط، قَالَ: فَهِبْنَا أَنْ نَسْأَلَ حُذَيْفَةَ مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ: سَلْهُ، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: عُمَرُ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ أَبُو كُرَيْبٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما، ومحمد بن العلاء أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كنَّا عِنْدَ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (فَقَالَ) عمر: (أَيُّكُمْ) والمخاطب بذلك الصحابة رضي الله عنهم، ففي رواية رِبْعي عن حذيفة "أنه قَدِم من عند عمر، فقال: سأل عمر أمس أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أيكم سمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: أنا أحفظ كما قال"، وفي رواية:"أنا أحفظه كما قاله".

(يَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ كَمَا قَالَ)؛ أي: مثل ما قاله صلى الله عليه وسلم، (قَالَ) حذيفة:(فَقُلْتُ: أَنَا)؛ أي: أنا أحفظه كما قاله صلى الله عليه وسلم. (قَالَ) عمر رضي الله عنه: (إِنَّكَ لَجَرِيءٌ) وفي رواية البخاريّ: "قال: هاتِ إنك لجريء"، وفي رواية له:"إنك عليه لجريء، فكيف؟ "(وَكَيْفَ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ (قَالَ) حذيفة: (قُلْتُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِه، وَمَالِه، وَنَفْسِه، وَوَلَدِه، وَجَارِه، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوف، وَالنَّهْيُ عَنِ

ص: 282

الْمُنْكَرِ) قال في "الفتح": قال بعض الشراح: يَحْتَمِل أن يكون كل واحدة من الصلاة وما معها مكفرة للمذكورات كلها، لا لكل واحدة منها، وأن يكون من باب اللفّ والنشر، بأن الصلاة مثلًا مكفرة للفتنة في الأهل، والصوم في الولد

إلخ.

والمراد بالفتنة: ما يَعْرِض للإنسان مع من ذُكر من البَشَر، أو الالتهاء بهم، أوأن يأتي لأجْلهم بما لا يَحلّ له، أو يُخلّ بما يجب عليه.

واستَشكَلَ ابنُ أبي جمرة وقوع التكفير بالمذكورات للوقوع في المحرمات، والإخلال بالواجب؛ لأنَّ الطاعات لا تُسقط ذلك، فإن حُمل على الوقوع في المكروه، والإخلال بالمستحبّ لَمْ يناسب إطلاق التكفير.

والجواب التزام الأول، وأن الممتنع من تكفير الحرام والواجب ما كان كبيرة، فهي التي فيها النزاع، وأما الصغائر فلا نزاع أنَّها تكفَّر؛ لقوله تعالى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [النساء: 31].

وقال الزين ابن المنير رحمه الله: الفتنة بالأهل تقع بالميل إليهنّ، أو عليهنّ في القسمة والإيثار، حتى في أولادهنّ، ومن جهة التفريط في الحقوق الواجبة لهنّ، وبالمال يقع الاشتغال به عن العبادة، أو بحبسه عن إخراج حقّ الله، والفتنة بالأولاد تقع بالميل الطبيعيّ إلى الولد، وإيثاره على كل أحد، والفتنة بالجار تقع بالحسد، والمفاخرة، والمزاحمة في الحقوق، وإهمال التعاهد.

ثم قال: وأسباب الفتنة بمن ذُكر غير منحصرة فيما ذكرت من الأمثلة، وأما تخصيص الصلاة، وما ذكر معها بالتكفير، دون سائر العبادات، ففيه إشارة إلى تعظيم قَدْرها، لا نفي أن غيرها من الحسنات ليس فيها صلاحية التكفير، ثم إن التكفير المذكور يَحْتَمِل أن يقع بنفس فعل الحسنات المذكورة، ويَحْتَمِل أن يقع بالموازنة، والأول أظهر، والله أعلم.

وقال ابن أبي جمرة: خَصَّ الرجل بالذكر؛ لأنه في الغالب صاحب الحكم في داره، وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم، ثم أشار إلى أن التكفير لا يختص بالأربع المذكورات، بل نبَّه بها على ما عداها، والضابط أن كل ما يشغل صاحبه عن الله فهو فتنة له، وكذلك المكفرات لا تختص بما ذُكر، بل نبَّه به على ما عداها، فذكر من عبادة الأفعال الصلاةَ، والصيام، ومن

ص: 283

عبادة المال الصدقةَ، ومن عبادة الأقوال الأمرَ بالمعروف. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ عُمَرُ) رضي الله عنه: (لَيْسَ هَذَا أُرِيدُ، إِنَّمَا أُرِيدُ) الفتنة (الَّتِي تَمُوجُ كمَوْجِ الْبَحْرِ)؛ أي: تضطرب اضطراب البحر عند هيجانه، وكَنَى بذلك عن شدّة المخاصمة، وكثرة المنازعة، وما ينشأ عن ذلك من المشاتمة، والمقاتلة. (قَالَ) حذيفة:(فَقُلْتُ: مَا لَكَ وَلَهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) وفي رواية البخاريّ: "يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها"، (إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا)؛ أي: لا يخرج منها شيء في حياتك، قال ابن الْمُنيِّر: آثر حذيفة الحرص على حفظ السرّ، ولم يصرّح لعمر بما سأل عنه، وإنما كَنَى عنه كنايةً، وكأنه كان مأذونًا له في مثل ذلك، وقال النوويّ رحمه الله: يَحْتَمِل أن يكون حذيفة عَلِم أن عمر يُقتل، ولكنه كره أن يخاطبه بالقتل؛ لأنَّ عمر كان يعلم أنه الباب، فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريح بالقتل. انتهى.

قال الحافظ: وفي لفظ طريق رِبْعيّ ما يعكر على ذلك، على ما سأذكره، وكأنه مَثَّل الفتن بدار، ومَثّل حياة عمر بباب لها مغلقٍ، ومَثّل موته بفتح ذلك الباب، فما دامت حياة عمر موجودة فهي الباب المغلق، لا يخرج مما هو داخل تلك الدار شيء، فإذا مات فقد انفتح ذلك الباب، فخرج ما في تلك الدار.

(قَالَ) عمر رضي الله عنه: (أَفَيُكسَرُ الْبَابُ أَمْ يُفْتَحُ؟) ببناء الفعلين للمفعول، (قَالَ) حذيفة:(قُلْتُ: لَا) يُفتح (بَلْ يُكْسَرُ، قَالَ) عمر: (ذَلِكَ أَحْرَى)؛ أي: أجدر، وأحقّ (أَنْ لَا يُغْلَقَ) بالبناء للمفعول، (أَبَدًا) وفي رواية للبخاريّ:"ذاك أجدر أن لا يُغلق إلى يوم القيامة".

قال ابن بطال رحمه الله إنما قال عمر ذلك؛ لأنَّ العادة أن الغلق إنما يقع في الصحيح، فأما إذا انكسر فلا يتصور غلقه، حتى يجبر. انتهى.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون كَنَى عن المَوت بالفتح، وعن القتل بالكسر، ولهذا قال في رواية رِبْعيّ:"فقال عمر: كسرًا لا أبالك؟ " لكن بقية رواية ربعي تدل على ما قدّمته، فإن فيه: "وحدثته أن ذلك الباب رجل يُقتل،

(1)

"الفتح" 8/ 263 - 264، "كتاب المناقب" رقم (3586).

ص: 284

أو يموت". وإنما قال عمر ذلك اعتمادًا على ما عنده من النصوص الصريحة في وقوع الفتن في هذه الأمة، ووقوع البأس بينهم إلى يوم القيامة، وقد تقدّم حديث جابر في قوله تعالى:{أَو يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} الآية [الأنعام: 65].

وقد وافق حذيفة على معنى روايته هذه أبو ذرّ، فروى الطبرانيّ بإسناد رجاله ثقات:"أنه لقي عمر، فأخذ بيده، فغمزها، فقال له أبو ذرّ: أرسل يدي يا قفل الفتنة. . ."الحديث، وفيه أن أبا ذر قال:"لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم" وأشار إلى عمر.

وروى البزار من حديث قُدامة بن مظعون، عن أخيه عثمان أنه قال لعمر: يا غلق الفتنة، فسأله عن ذلك، فقال:"مررتَ، ونحن جلوس عند النبيّ"، فقال: هذا غلق الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغلق ما عاش".

(قَالَ) شقيق: (فَقُلْنَا لِحُذِيْفَةَ) رضي الله عنه: (هَلْ كَانَ عُمَرُ) رضي الله عنه (يَعْلَمُ مَنِ الْبَابُ؟) وفي رواية جامع بن شداد: "فقلنا لمسروق: سله أكان عمر يعلم من الباب؟ فسأله، فقال: نعم"، وفي رواية أحمد عن وكيع، عن الأعمش:"فقال مسروق لحذيفة: يا أبا عبد الله، كان عمر يعلم؟ ".

(قَالَ) حذيفة: (نَعَمْ) يعلم ذلك (كمَا يَعْلَمُ أَنَّ دُونَ غَدٍ اللَّيْلَةَ)؛ أي: أن ليلة غد أقرب إلى اليوم من غد، وقوله:(إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثًا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ) هو بقية كلام حذيفة رضي الله عنه، والأغاليط جمع أغلوطة، وهو ما يُغالَط به؛ أي: حدثته حديثًا صدقًا محققًا من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم"، لا عن اجتهاد، ولا رأي.

وقال ابن بطال رحمه الله: إنما عَلِم عمر رضي الله عنه أنه الباب؛ لأنه كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم على حراء، وأبو بكر، وعثمان، فرجف، فقال:"اثبُتْ، فإنما عليك نبيّ، وصديق، وشهيدان"، أو فَهِم ذلك من قول حذيفة:"بل يُكسر". انتهى.

قال الحافظ: والذي يظهر أن عُمر عَلِم الباب بالنصّ، كما قدمت عن

عثمان بن مظعون، وأبي ذر، فلعل حذيفة حضر ذلك، وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه سمع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم يحدث عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجَنَّة منازلهم، وتقدّم حديث حذيفة رضي الله عنه أنه قال: أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وفيه أنه سمع ذلك معه من النبيِّ صلى الله عليه وسلم جماعة ماتوا قبله.

ص: 285

[فإن قيل]: إذا كان عمر عارفًا بذلك، فلم يشك فيه حتى سأل عنه؟.

[فالجواب]: أن ذلك يقع مثله عند شدّة الخوف، أو لعله خشي أن يكون نسي، فسأل من يذكِّره، وهذا هو المعتمد

(1)

، والله تعالى أعلم.

(قَالَ) شقيق: (فَهِبْنَا) بكسر الهاء؛ أي: خِفْنا، ودلّ ذلك على حُسن تأدبهم مع كبارهم. (أَنْ نَسْأَل حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه (مَنِ الْبَابُ؟ فَقُلْنَا لِمَسْرُوقٍ) هو ابن الأجدع، من كبار التابعين، وكان من أَخِصّاء أصحاب ابن مسعود، وحذيفة، وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم. (سَلْهُ)؛ أي: اسأل حذيفة من الباب؟ (فَسَألَهُ)؛ أي: سأل مسروق حذيفة رضي الله عنه عن ذلك، (فَقَالَ) حذيفة رضي الله عنه، وقوله:(عُمَرُ) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عمر رضي الله عنه، وفي رواية البخاريّ:"فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر"، قال الكرمانيّ: تقدّم قوله: إن بين الصفتنة وبين عمر بابًا، فكيف يُفَسَّر الباب بعد ذلك أنه عمر؟ والجواب: أن في الأوَّل تجوّزًا، والمراد: بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر وبين الفتنة بدنه؛ لأنَّ البدن غير النفس. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه، وقد تقدّم للمصنّف في "كتاب الإيمان" برقم [68/ 376](144)، وقد استوفيت هناك شرحه، وبيان مسائله، وإنما أعدت شرحه هنا؛ لاختلاف السياق، فأحببت أن يُشرح ما هنا كما شُرح السياق الذي تقدّم هناك؛ للحاجة إلى ذلك، فتنبّه، والله تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7241]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عِيسَي، كلُّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، وَفِي حَدِيثِ عِيسَى عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ).

(1)

"الفتح" 8/ 265 - 266.

ص: 286

رجال هذه الأسانيد: عشرة:

1 -

(أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ) عبد الله بن سعيد بن حُصين الْكِنْديّ الكوفيّ، ثقةٌ، من صغار [10](ت 257)(ع) وهو أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة تقدم في "المقدمة" 4/ 17.

2 -

(عِيسَى بْنُ يُونُسَ) بن أبي إسحاق السبيعيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(يَحْيَى بْنُ عِيسَى) بن عبد الرَّحمن، ويقال: ابن محمد التميميّ النَّهْشليّ الفاخوريّ - بالفاء، والخاء المعجمة - الجرّار - بالجيم، وراءين - أبو زكريّا الكوفيّ، نزيل الرملة، صدوقٌ يخطيّ، ورُمي بالتشيع [9].

روى عن الأعمش، وأبي مسعود، وعبد الأعلى بن المساور، وعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، ومحمد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى، ومسعر بن كدام، وغيرهم.

وروى عنه ابن أخيه عيسى بن عثمان بن عيسى، وآدم بن أبي إياس، وابنا أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله المخزوميّ، وغيرهم.

قال عبد الله بن أحمد عن أبيه: ما أقرب حديثه، وقال أبو داود: بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه، وقال الدُّوريّ عن ابن معين: ليس بشيء، وقال العجليّ: ثقةٌ، وكان فيه تشيع، وقال النسائيّ: ليس بالقويّ، وقال أحمد بن سنان: قال أبو معاوية: اكتبوا عنه، فطالما رأيته عند الأعمش، وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: لا يُكتب حديثه، وقال آخر عن ابن معين: ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال البخاريّ في "تاريخه الصغير": حدّثني عيسى بن عثمان بن عيسى، قال: مات أبو زكريا يحيى بن عيسى سنة إحدى ومائتين، أو نحوها، وقال ابن قانع: مات سنة إحدى ومائتين، وقال مسلمة: لا بأس به، وفيه ضعف، وقال ابن عبديّ: عامة ما يرويه لا يتابَع عليه.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، وأبو داود، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث، متابعةً.

والباقون ذُكروا في الباب والبابين قبله.

ص: 287

[تنبيه]: أما رواية وكيع عن الأعمش فلم أجد من ساقها بمفردها، إلَّا أن الإمام أحمد ساقها مقرونًا بغيره، فقال:

(23460)

- حدثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، حدّثني شقيق، قال: سمعت حذيفة

ووكيع، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة

وثنا محمد بن عبيد، وقال: سمعت حذيفة، قال: كنا جلوسًا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك لجريء عليها، أو عليه، قلت: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، يكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كموج البحر، قلت: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال: أيكسر، أو يُفتح؟ قلت: بل يكسر، قال: إذًا لا يغلق أبدًا، قلنا: أكان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلةً، قال وكيع في حديثه: قال: فقال مسروق لحذيفة: يا أبا عبد الله، كان عمر يعلم ما حدثه به؟ قلنا: أكان عمر يعلم من الباب؛؟ قال: نعم كما يعدم أن دون غد ليلةً، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فَهِبْنا حذيفة أن نسأله من الباب؟ فأمرنا مسروقًا، فسأله، فقال: الباب عمر. انتهى

(1)

.

وأما رواية جرير عن الأعمش، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" فقال:

(1368)

- حَدَّثَنَا قتيبة، حَدَّثَنَا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة لبه قال: قال عمر رضي الله عنه: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة؟ قال: قلت: أنا أحفظه كما قال، قال: إنك عليه لجريء، فكيف قال؟ قلت: فتنة الرجل في أهله، وولده، وجاره، تكفّرها الصلاة، والصدقة، والمعروف، قال سليمان: قد كان يقول: الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: ليس هذه أريد، ولكني أريد التي تموج كموج البحر، قال: قلت: ليس عليك بها يا أمير المؤمنين بأس، بينك وبينها باب مغلق، قال: فيُكسر الباب، أو يُفتح؟ قال: قلت: لا، بل يكسر، قال: فإنه إذَا كُسِر، لَمْ

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 401.

ص: 288

يغلق أبدًا، قال: قلت: أجل، فَهِبْنا أن نسأله من الباب؟ فقلنا لمسروق: سله، قال: فسأله، فقال: عمر رضي الله عنه، قال: قلنا: فعلم عمر من تعني؟ قال: نعم، كما أن دون غد ليلةً، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط. انتهى

(1)

.

وأما رواية عيسى بن يونس عن الأعمش، فقد ساقها النسائيّ في "الكبرى" بسند المصنّف، فقال:

(327)

- أنبأ إسحاق بن إبراهيم، أنبأ عيسى بن يونس، قال: حَدَّثَنَا الأعمش، عن شقيق، قال: سمعت حذيفة يقول: كنا عند عمر، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت: أنا أحفظ كما قاله، قال: إنك عليه لجريء، فهات، فقلت: فتنة الرجل في أهله، وجاره، وماله، يكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال: إني لست عن هذا أسألك، ولكن أسألك عن التي تموج كموج البحر، فقلت: لا تخف يا أمير المؤمنين، فإن بينك وبينها بابًا مغلقًا. انتهى

(2)

.

وأما رواية يحيى بن عيسى عن الأعمش، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7242]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، وَالأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الْفِتْنَةِ؛ وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(سُفْيَانُ) بن عيينة، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(جَامِعُ بْنُ أَبِي رَاشِدٍ) الكاهليّ الصيرفيّ الكوفيّ، ثقةٌ فاضلٌ [5](ع) تقدم في "الإيمان" 64/ 364.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ) فاعل "اقتصّ" ضمير سفيان، والضمير في "حديثهم" يعود على الخمسة المذكورين، وهم: أبو معاوية،

(1)

"صحيح البخاريّ" 2/ 520.

(2)

"السنن الكبرى" 1/ 144.

ص: 289

ووكيع، وجرير، وعيسى بن يونس، ويحيى بن عيسى؛ يعني: أن سفيان بن عيينة ساق الحديث بنحو حديث هؤلاء الخمسة، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد والأعمش، كلاهما عن أبي وائل ساقها الحميديّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(447)

- حَدَّثَنَا الحميديّ، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا جامع بن أبي راشد، وسليمان الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان قال: قال عمر بن الخطاب: من يُحَدِّثنا عن الفتنة؟ فقلت: أنا سمعته يقول: فتنة الرجل في أهله، وماله، وجاره، يكفّرها الصلاة، والصدقة، والصوم، فقال عمر: لست عن تلك أسألك، إنما أسألك عن التي تموج موج البحر، فقلت: إن من دون ذلك بابًا مغلقًا، قتلُ رجل، أو موته، قال: أيُكسر ذلك الباب، أو يفتح؟ فقلت: لا، بل يُكسر، فقال عمر: ذلك أجدر أن لا يُغلَق إلى يوم القيامة، حَدَّثَنَا الأعمش: فهِبْنا حذيفة أن نسأله، أكان عمر يعلم أنه هو الباب؟ وأمرنا مسروقًا، فسأله، فقال: نعم كما تعلم أن دون غد الليلةَ، فذاك أني حدثت له حديثًا ليس بالأغاليط. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7243]

(2893) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ جُنْدُبٌ: جِئْتُ يَوْمَ الْجَرَعَة، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، فَقُلْتُ: لَيُهَرَاقَنَّ الْيَوْمَ هَا هُنَا دِمَاءٌ، فَقَالَ ذَاكَ الرَّجُلُ: كَلَّا وَالله، قُلْتُ: بَلَى وَالله، قَالَ: كَلَّا وَالله، قُلْتُ: بَلَى وَالله، قَالَ: كَلَّا وَاللهِ، إِنَّهُ لَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنِيه، قُلْتُ: بِئْسَ الْجَلِيسُ لِي أَنْتَ مُنْذُ الْيَوْم، تَسْمَعُنِي أُخَالِفُكَ، وَقَدْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا تَنْهَانِي، ثُمَّ قُلْتُ: مَا هَذَا الْغَضَبُ؟ فَأَقْبَلْتُ عَلَيْه، وَأَسْأَلُهُ، فإذَا الرَّجُلُ حُذَيْفَةُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ الزمن البصريّ، ذُكر في الباب الماضي.

(1)

"مسند الحميديّ " 1/ 212.

ص: 290

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

3 -

(مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ) العنبريّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبد الله بن عون بن أرطبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ من أقران أيوب في العلم والعمل والسنّ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 303.

5 -

(مُحَمَّدُ) بن سيرين الأنصاريّ، أبو بكر بن أبي عمرة البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ كبير القَدْر، كان لا يرى الرواية بالمعنى [3](ت 110)(ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" ج 1 ص 308.

6 -

(جُنْدُبُ) بن عبد الله بن سفيان البجليّ، ثم الْعَلَقيّ - بفتحتين، ثم قاف - أبو عبد الله، وربما نُسب إلى جده الصحابيّ رضي الله عنه، ومات بعد الستين (ع) تقدم في "الإيمان" 43/ 286.

و"حذيفة" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة التحمل والأداء منهم ومنهما، وأن ابن المثنّى أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وتابعيّ عن تابعيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّد) بن سيرين؛ أنه (قَالَ: قَالَ جُنْدُب) بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه: (جِئْتُ يَوْمَ الْجَرَعَةِ) - بفتح الجيم، والراء، وإسكانها، والفتح أشهر، وأجود -، وهي موضع بقرب الكوفة، على طريق الْحِيرة، ويوم الجرعة يوم خرج فيه أهل الكوفة، يتلقون واليًا ولاه عليهم عثمان رضي الله عنه، فردّوه، وسألوا عثمان أن يولّي عليهم أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه، فولّاه، قاله النوويّ رضي الله عنه

(1)

.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 18.

ص: 291

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: الْجَرَعة بفتح الراء: التَّلّ من الرمل، لا يُنبت شيئًا، وهذا مكان نزلوه؛ ليتهيئوا للقتال، وذلك أن عثمان بعث سعيد بن العاص أميرًا على الكوفة، فخرجوا، فردّوه، فرجع إلى عثمان، فقال عثمان: ما تريدون؟ قالوا: البدل، قال: فمن تريدون؟ قالوا: أبا موسى، فبعثه إليهم، ثم أخرج بسنده عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أن عثمان بن عفان نزع سعد بن أبي وقاص عن الكوفة، واستعمل الوليد بن عقبة، ثم نزعه، وبعث سيد بن العاص، فلم يدعوه يدخلها.

وعن وهب بن جرير، عن أبيه أن سعيد بن العاص توجه إلى الكوفة أميرًا، فقال أهل الكوفة: لا والله لا يدخلها علينا سعيد، ولا يلي أمرنا، وبعثوا إلى الأشتر، فقَدِم عليهم، وخرج أهل الكوفة حتى نزلوا الْجَرَعة، وأمْرهم إلى الأشتر، فلما قَدِم سعيد ركبوا خيولهم، وأخذوا رماحهم، وقالوا: ارجع وراءك فلا والله لا تلي أمرنا، فرجع.

وقال جرير عن الأعمش، عن زيد بن وهب: لمّا خرج الناس إلى الجررعة قيل لحذيفة: ألا تخرج؟ قال: لقد علمت أنهم لن يهريقوا بينهم محجمة من دم.

وعن الأعمش عن عمرو بن مرّة، عن أبي الْبَختريّ، عن أبي ثور الحدائيّ قال: دُفعت إلى حذيفة وأبي مسعود يوم الجرعة، وهما يتحدثان، وأبو مسعود يقول: والله ما كنت أرى أن ترتد على عقبيها، ولم يهريقوا فيها محجمة من دم.

وفي الحديث من الفقه جواز أن يحلف الرجل على ما يظنّ، كما حلف جندب، ثم قال لنفسه: ما هذا الغضب؟ وذلك أنه بأن له أن الصواب ليس معه، فرجع إلى الصواب. انتهى ابن الجوزيّ رحمه الله

(1)

.

الظاهر أن مجيئه إلى الجرعة كان لاستقبال الأمير الذي ولاه عثمان رضي الله عنه، وهو سعيد بن العاص.

(فَإِذَا) هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني (رَجُلٌ جَالِسٌ) هو حذيفة رضي الله عنه،

(1)

"كشف المشكل" 1/ 389 - 391.

ص: 292

(فَقُلْتُ: لَيُهَرَاقَنَّ) بفتح اللام، وهي الموطئة للقسم؛ أي: الله ليُهراقنّ، بضمّ أوله، مبنيًّا للمفعول، مضارع أُهريق، وأصله أُريق، قال الفيّوميّ رحمه الله: رَاقَ الماءُ، والدمُ، وغيرُهُ ريقًا، من باب باع: انصبّ، ويتعدى بالهمزة، فيقال: أَرَاقَهُ صاحبه، والفاعل مُرِيقٌ، والمفعول مُرَاقٌ، وتبدل الهمزة هاء، فيقال: هَرَاقَهُ، والأصل: هَرْيَقَهُ وزانُ دحرجه، ولهذا تُفتح الهاء من المضارع، فيقال: يُهَريقه، كما تُفتح الدال من يُدحرجه، وتُفتح من الفاعل والمفعول أيضًا، فيقال: مُفَرِيقٌ، ومُهَرَاقٌ، قال امرؤ القيس [من الطويل]:

وَإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ

فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

والأمر: هَرِقْ ماءك، والأصل: هَرْيِقْ وزانُ دحرج، وقد يُجمع بين الهاء والهمزة، فيقال: أَهْرَاقَهُ يُهْرِيقُهُ، ساكن الهاء، تشبيهًا له بِأَسْطاع يُسطيع، كأن الهمزة زبدت عوضًا عن حركة الياء في الأصل، ولهذا لا يصير الفعل بهذه الزيادة خماسيًّا، "ودعا بذنوب، فَأُهْرِقَ" ساكن الهاء، وفي "التهذيب": من قال: أَهْرَقْتُ، فهو خطأ في القياس، ومنهم من يجعل الهاء كأنها أصل، ويقول: هَرَقْتُهُ هَرْقًا، من باب نَفَعَ، وفي الحديث:"إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهْرَاقُ الدِّمَاءَ" بالبناء للمفعول، و"الدماء" نُصِب على التمييز، ويجوز الرفع على إسناد الفعل إلي بها، والأصل: تُهْرَاقُ دماؤها، لكن جُعلت الألف واللام بدلًا عن الإضافة، كقوله تعالى:{عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]؛ أي: نكاحها. انتهى

(1)

.

والمعنى: والله ليُصبّنّ (الْيَوْمَ) ظرف لـ "يُهراق"، وكذا قوله:(هَا هُنَا)، وقوله:(دماءٌ) بالرفع على أنه نائب الفاعل لـ "يُهراق"، وإنما قال ذلك لعدم قبول الناس الأمير الذي أرسله الخليفة عثمان رضي الله عنه، فخاف أن يكون بينه وبينهم قتال.

(فَقالَ ذَاكَ الرَّجُلُ) الجالس: (كَلَّا)؛ أي: ارتدع عما قلت، فإنه لا يهراق الدم (وَاللهِ) أقسم الرجل على ما قاله، قال جندب:(قُلْتُ: بَلَى وَاللهِ) ليراقنّ الدماء، (قَالَ) الرجل:(كَلَّا وَاللهِ) لا يراق الدم، (قُلْتُ: بَلَى وَالله، قَالَ كَلَّ

(1)

"المصباح المنير" 1/ 248.

ص: 293

وَالله، إِنَّهُ)؛ أي: إن الذي حلفت عليه جازمًا بعدم وقوعه، وَيحْتَمل أن يكون الضمير للشأن؛ أي: إن الأمر والشأن (لَحَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَنِيهِ) والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك صريحًا، وَيحتمل أن يكون فهمًا فهمه من أن مقاتلة المسلمين فيما بينهم لا تقع إلَّا بقتل عثمان، فجزم أن القتال في ذلك الوقت لا يقع، والله تعالى أعلم.

قال جندب: (قُلْتُ) لذلك الرجل: (بئْسَ الْجَلِيسُ لِي)؛ أي: ساء الرجل المُجالِس لي، والمخصوص بالذمّ قوله:(أَنْتَ)، فـ "بئس" من أفعال الذمّ، كما أن "نِعم" من أفعال المدح، وقد بيّنهما ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

فِعْلَانِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَيْنِ

نِعْمَ وَبِئْسَ رَافِعَانِ اسْمَيْنِ

مُقَارِنَيْ "ألْ" أَو مُضَافَيْنِ لِمَا

قَارَنَهَا لا كـ "نِعْمَ عُقْبَى الْكُرَمَا"

يعني: أنه كان عندك في هذا الموضوع حديث، وسمعتني أحلف على ما يخالفه، فلم تخبرني بذلك الحديث في المرّة الأولى، حتى حلفت مرّتين: وكان المفروض من الجليس الطيب أن يخبر به في أول مرّة

(1)

.

وقوله: (مُنْذُ الْيَوْمِ) متعلّق بـ "الجليس"، ومعناه: في هذا اليوم؛ لأنَّ "منذ" إذا جرّت الحاضر كانت بمعنى "في"، كهذا الحديث، وإذا جرّت الماضي كانت بمعنى "من"، كما في قولك: ما رأيته منذ يوم الجمعة، قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَ"مُذْ" وَ"مُنْذُ" اسمَانِ حَيْثُ رَفَعَا

أَوأُوليَا الْفِعْلَ كـ "جِئْتُ مُذْ دَعَا"

وَأنْ يَجُرَّ فِي مُضِيٍّ فَكَـ "مِنْ". . . هُمَا وَفِي الْحُضُورِ مَعْنَى "فِي" اسْتَبِنْ

(تَسْمَعُنِي أُخَالِفُكَ) قال النوويّ رحمه الله: وقع في جميع نُسخ بلادنا المعتمدة: "أخالفك" بالخاء المعجمة، وقال القاضي: رواية شيوخنا كافّة بالحاء المهملة، من الْحَلِف الذي هو اليمين، قال: ورواه بعضهم بالمعجمة، وكلاهما صحيح، قال: لكن المهملة أظهر؛ لتكرر الإيمان بينهما. انتهى

(2)

.

(وَقَدْ سَمِعْتَهُ)؛ أي: الذي قلته من عدم وقوع القتال اليوم، (مِنْ

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 287.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 18.

ص: 294

رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم) وقوله: (فَلَا تَنْهانِي) بتقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: أفلا تنهاني عن مخالفتي لك، أو محالفتي؛ لأنَّ من كان عنده علم من النبيّ صلى الله عليه وسلم لا أحد يغلب، كما لأنه الحجة الدامغة، قال جندب:(ثُمَّ قُلْتُ) في نفسي: (مَا هَذَا الْغَضَبُ؟! "ما" استفهاميّة، والاستفهام للإنكار، يُنكر على نفسه في غضبه على رجل صحابيّ، ولفظ أحمد في "مسنده": "ثم قلت: ما لي وللغضب؟ قال: فتركت الغضب، وأقبلت أسأله

". قال: (فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ)؛ أي: على هذا الرجل، وقوله: (وَأَسْأَلُهُ) جملة حالية بتقدير مبتدأ؛ أي: وأنا أسأله عن شخصيَته؛ وذلك لأنَّ المضارع المثبَت إذا وقع حالًا لا يُقرن بالواو، كما قال في "الخلاصة":

وَذَاتُ بَدْءٍ بِمُضَارعٍ ثَبَتْ

حَوَتْ ضَمِيرًا وَمِنَ الْوَاوِ خَلَتْ

وَذَاتُ وَاوٍ بَعْدَهَا انْوِ مُبْتَدَا

لَهُ الْمُضَارعَ اجْعَلَنَّ مُسْنَدَا

(فَإِذَا الرَّجُلُ)"إذا" هي الفجائيّة؛ أي: ففاجأني أنه (حُذَيْفَة) بن اليمان الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [7/ 7243](2893)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 399)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 519)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(8) - (بَابٌ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسُرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7244]

(2894) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيَّ - عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَب، يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْه، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَة وَتِسْعُونَ، وَيَقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ لَعَلِّيَ أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو").

ص: 295

قال الجامع عفا الله عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل ثلاثة أبواب.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (تَقومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى يَحْسُرَ) بفتح أوله، وسكون الحاء المهملة، وكسر السين المهملة، وضمها، من بابَي ضرب، ونصر؛ أي ينكشف.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يحسر الفرات"؛ أي: يكشف، ومنه حَسَرت المرأة عن وجهها؛ أي: كشفت، والحاسر: الذي لا سلاح عليه، وكأن هذا إنما يكون إذا أخذت الأرض تقيء ما في جوفها، كما تقدّم في "الزكاة". انتهى

(1)

.

والمراد مِن حسر الفرات: أن ينكشف ماؤه، فيظهر في محلّه جبل من ذهب، وفي رواية حفص بن عاصم الآتية:"عن كنز من ذهب"، فيَحْتَمل أن يكون ما يظهر جبلًا حقيقةً فيه كنز من ذهب، ويَحْتَمل أن يكون كنزًا سُمّي في هذه الرواية جبلًا؛ لكثرة ما فيه من ذهب.

وأخرج ابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تَطْلع الرايات، السُّود من قِبَل المشرق، فيقتلونكم قتلًا لَمْ يُقتله قوم، ثم ذكر شيئًا لا أحفظه، فقال: فإذا رأيتموه، فبايعوه، ولو حبوًا على الثلج، فإنه خليفة الله المهديّ"

(2)

.

فهذا إن كان المراد بالكنز فيه: الكنز الذي في حديث الباب دلّ على أنه إنما يقع عند ظهور المهديّ، وذلك قبل نزول عيسى عليه السلام، وقبل خروج النار جزمًا، أفاده في "الفتح"

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 228 - 229.

(2)

"سنن ابن ماجه" 2/ 1367، وقال الحافظ البوصيريّ رحمه الله: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، رواه الحاكم في "المستدرك"، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

(3)

"الفتح" 13/ 81.

ص: 296

(الْفُرَاتُ) بضمّ الفاء، وتخفيف الراء: نهر مشهور، يكتب بالتاء المجرورة، وقيل: يجوز أن يكتب بالهاء، كالتابوت والتابوه، والعنكبوت والعنكبوه، قاله في "العمدة"

(1)

.

وقال الفيّوميّ: الفُرَاتُ: نهر عظيم، مشهور، يخرج من حدود الروم، ثم يمرّ بأطراف الشام، ثم بالكوفة، ثم بالْحِلَّة، ثم يلتقي مع دجلة في البطائح، ويصيران نهرًا واحدًا، ثم يصبّ عند عَبّادان، في بحر فارس، والفرات: الماء العذب، يقال: فَرُتَ الماءُ فُرُوتَةً، وزانُ سَهُلَ سُهُولة: إذا عَذُب، ولا يجمع إلَّا نادرًا على فِرْتَان، مثلُ غِرْبان. انتهى

(2)

.

(عَنْ جَبَلِ مِنْ ذَهَبٍ) وفي رواية: "عن كنز من ذهب". قال الحافظ: تسميته كنزًا باعتَبار حاله قبل أن ينكشف، وتسميته جبلًا للإشارة إلى كثرته.

(يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ)؛ أي: على أخذه، (فَيُقْتَلُ) بالبناء للمفعول، (مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَة وَتِسْعُونَ)؛ أي: ويبقى واحد، وفي رواية أبي سلمة عند ابن ماجه:"فيقتتل الناس عليه، فيُقتل من كل عشرة تسعة"، وهي رواية شاذّة، والمحفوظ رواية مسلم هنا، وسيأتي شاهده من حديث أبيّ بن كعب رضي الله عنه، ولو صحّت رواية ابن ماجه جُعلت على التقريب، وإلغاء الكسر في نسبة المقتولين إلى العشرة؛ لأنَّ تسعة وتسعين في مائة حينما تُذكر بالنسبة إلى العشرة تكون تسعة وكسرًا، والعرب من عادتها إلغاء الكسر

(3)

، وجَمَع الحافظ بين الروايتين بإمكان المجمع باختلاف تقسيم الناس إلى قسمين، والله تعالى أعلم.

(وَيقُولُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ)؛ أي: من الناس المتقاتِلِين؛ يعني: أنه يقتحم القتال مع ما يرى من شدّته؛ لأنه يرجو أن يكون هو الناجي، فيفوز بالكنز دون غيره. (لَعَلِّي أَكُونُ أَنَا الَّذِي أَنْجُو") مقتضى الظاهر أن يقول: ينجو بصيغة الغائب، قال الطيبيّ رحمه الله: هو من باب قوله:

أَنا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ

أي: أنا الذي ينجو، فنظر إلى المبتدأ، فحَمَل الخبر عليه، لا على

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 35/ 186.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 465.

(3)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 289.

ص: 297

الموصول الذي هو غائب، وفيه كناية؛ لأنَّ الأصل أن يقال: أنا الذي أفوز به، فعدل إلى "أنجو"؛ لأنه إذا نجا من القتل فاز بالمال، وملكه. انتهى

(1)

، والله، تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7244 و 7245 و 7246 و 7247](2894)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7119)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4313 و 43914)، و (الترمذيّ) في "صفة الجنّة"(2569 و 2570)، و (ابن ماجه) في، "الفتن"(4095)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20804)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 306 و 332 و 346 و 415)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(691). و 6692 و 6693 و 6694 و 6695)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4239)، والله، تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7245]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُريْعٍ، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَقَالَ أَبِي: إِنْ رَأَيْتَهُ فَلَا تَقْرَبَنَّهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ) العيشيّ - بالياء، والشين المعجمة - البصريّ، يكنى، أبا بكر، صدوقٌ [10](ت 231)(خ م س) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ فْيُ زُرَيْعٍ) - بتقديم الزاي، مصغّرًا - البصريّ، أبو معاوية العيشيّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 182)(ع) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(رَوْحُ) بن القاسم التميميّ الْعَنْبريّ، أبو غياث - بِالغين المعجمة، والمثلثة - البصريّ، ثقةٌ حافظ [6](141)(خ م د س ق) تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

و"سهيل" ذُكر قبله.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3438.

ص: 298

وقوله: (فَقَالَ أَبِي) هذا من قول سُهيل؛ يعني: أباه أبا صالح.

وقوله: (إِنْ رَأَيْتَهُ)؛ أي: رأيتَ الجبل من الذهب (فَلَا تَقْرَبَنَّهُ) كناية عن عدم الأخذ منه، فعبّر بعدم القرب مبالغة، وفي رواية حفص الآتية:"فمن حضره فلأ يأخذ منه شيئًا"، قيل: السبب في مَنْع الأخذ منه ما ينشأ عن أخذه من الفتنة والقتال، وقال القرطبيّ: النهي على أصله من التحريم؛ لأنه ليس مُلكًا لأحد، وليس بمعدن، ولا ركاز، فحقّه أن يكون في بيت المال، ولأنه لا يوصل إليه إلَّا بقتل النفوس، فيحرم الإقدام على أخذه. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: رواية روح بن القاسم عن سهيل هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7246]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ الله، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَن، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسُرَ عَنْ كنْزٍ مِن ذَهَبٍ، فَمَن حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو مَسْعُودٍ سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ) بن فارس الْكِنْديّ العسكريّ، نزيل الريّ، أحد الحفاظ، صدوقٌ، له غرائب، [10](235)(م) تقدم في "الإيمان" 5/ 121، من أفراد المصنّف.

2 -

(عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السَّكُونِيُّ) أبو مسعود الكوفيّ الْمُجَدَّر - بالجيم - صدوقٌ، صاحب حديث [8](ت 188)(ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 3/ 1593.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ) بن عمر الْعُمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

4 -

(خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن خبيب بن يساف الأنصاريّ، أبو الحارث المدنيّ، ثقةٌ [4](ت 132)(ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

(1)

"المفهم" 7/ 229.

ص: 299

5 -

(حَفْصُ بْنُ عَاصِمِ) بن عمر بن الخطاب العمريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 7.

و"أَبُو هُرَيْرَةَ" رضي الله عنه ذُكر قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من عبيد الله، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض: عبيد الله عن خبيب، عن حفص، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ) بكسر الشين المعجمة؛ أي: يقرب (الْفُرَاتُ)؛ أي: النهر المشهوي، وهو بالتاء، المجرورة على المشهور، ويقال: يجوز أن يُكتَب بالهاء، كالتابوت، والتابوه، والعنكبوت، والعنكبوه، أفاده الكمال ابن العديم في "تاريخه" نقلًا عمر، إبراهيم بن أحمد بن الليث. (أَنْ يَحْسرَ) بفتح أوله، وسكون ثانية، وكسر ثالثه، وضمّه، والحاء والسين مهملتان؛ أي: ينكشف (عَنْ كنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا") هذا يُشعر بأن الأخذ منه ممكن، وعلى هَذا فيجوز أن يكون دنانير، ويجوز أن يكون قِطَعًا، ويجوز أن يكون تِبْرًا

(1)

.

قال في "الفتح": وتسميته كنزًا باعتبار حاله قبل أن ينكشف، وتسميته جبل للإشارة إلى كثرته، ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة، رفعه:"تقيء الأرض أفلاذ كبدها، أمثال الأسطوان، من المذهب والفضة" فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قَتلت، ويجيء الساوق، فيقول: في هذا قُطعت يدي، ثم يَدَعُونه، فلا يأخذون منه شيئًا".

قال ابن التين: إنما نُهي عن الأخذ منه؛ لأنه للمسلمين، فلا يؤخذ إلَّا بحقه قال: ومن أخذه، وكثر المال نَدِم؛ لِأَخْذه ما لا ينفعه، وإذا ظهر جبل من ذهب كسد الذهب، ولم يُرَدْ.

(1)

"الفتح" 13/ 80.

ص: 300

قال الحافظ: وليس الذي قاله بِبَيِّن، والذي يظهر أن النهي عن أخذه لِمَا ينشأ عن أخذه من الفتنة، والقتال عليه.

وقوله: وإذا ظهر جبل من ذهب إلخ في مقام المنع، وإنما يتم ما زعم من الكساد أن لو اقتسمه الناس بينهم بالسوية، ووَسعهم كلهم، فاستغنوا أجمعين، فحينئذ تبطل الرغبة فيه، وأما إذا حواه قوم دون قوم، فحِرْصُ من لَمْ يحصل له منه شيء باق على حاله.

ويَحْتَمِل أن تكون الحكمة في النهي عن الأخذ منه؛ لكونه يقع في آخر الزمان عند في الحشر الواقع في الدنيا، وعند عدم الظهور، أو قلّته فلا ينتفع بما أُخذ منه، ولعل هذا هو السر في إدخال البخاري له في ترجمة خروج النار، قال: ثم ظهر لي رجحان الاحتمال الأول؛ لأنَّ مسلمًا أخرج هذا الحديث أيضًا من طريق أخرى عن أبي هريرة بلفظ: "يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فيُقتل عليه الناس، فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أكون أنا الذي أنجو".

وأخرج مسلم أيضًا عن أُبي بن كعب قال: "لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فإذا سمع به الناس ساروا إليه، فيقول من عنده: لئن تركنا الناس يأخذون منه ليذهبُنّ به كلِّه، قال: فيقتتلون عليه، فيُقتل من كل مائة تسعة وتسعون" فبَطَل ما تخيّله ابن التين، وتوجه التعقب عليه، ووضح أن السبب في النهي عن الأخذ منه ما يترتب على طلب الأخذ منه من الاقتتال، فضلًا عن الأخذ، ولا مانع أن يكون ذلك عند خروج النار للمحشر، لكن ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه.

وقد أخرج ابن ماجه عن ثوبان، رفعه:"قال: يُقتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة. . ." فذكر الحديث في المهديّ، فهذا إن كان المراد بالكنز فيه: الكنز الذي في حديث الباب دلّ على أنه إنما يقع عند ظهور المهديّ، وذلك قبل، نزول عيسى عليه السلام، وقبل خروج النار جزمًا، والله تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تخريجه، ولله الحمد والمنّة.

ص: 301

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7247]

(. . .) - (حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسُرَ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَمَنْ حَضَرَهُ، فَلَا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرَّحمن المدنيّ، ثقةٌ فقيهٌ [5] (ت 130) وقيل: بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ) ابن هُرْمُز، أبو داود المدنيّ، مولى ربيعة بن الحارث، ثقةٌ ثبتٌ فقيهٌ [3](ت 117)(ع) تقدم في "الإيمان" 23/ 192.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7248]

(2895) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ - وَاللَّفْظُ لأَبِي مَعْنٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِي الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا مَعَ أُبَيِّ بْنِ كعْبٍ، فَقَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ مُخْتَلِفَةً أَعْنَاقُهُمْ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ سَارُوا إِلَيْهِا، فَيَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ: لَئِنْ تَرَكْنَا النَّاسَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ لَيُذْهَبَنَّ بِهِ كُلِّه، قَالَ: فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْه، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَة وَتِسْعُونَ"، قَالَ أَبُو كامِلٍ فِي حَدِيثِهِ قَالَ: وَقَفْتُ أنا، وَأُبَيُّ بْنُ كعْبٍ فِي ظِلِّ أُجُمِ حَسَّانَ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ) البصريّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(أَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ) زيد بن يزيد الثقفيّ البصريّ، ثقةٌ [11](م) تقدم في "الإيمان" 57/ 328، من أفراد المصنّف.

ص: 302

3 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) بن عُبيد بن سُليم الْهُجَيميّ، أبو عثمان البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ [8](ت 186)(ع) تقدم في "الإيمان" 35/ 243.

4 -

(عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرِ) بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصاريّ المدنيّ، صدوقٌ رُمي بالقدر، ورُبّما وَهِمَ [6](ت 153)(خت م 4) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 4/ 1195.

5 -

(أَبُوهُ) جعفر بن عبد الله بن الحكم الأنصاريّ المدنيّ، ثقةٌ [3](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 22/ 187.

6 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ) الهلاليّ المدنيّ، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقةٌ فاضلٌ، أحد الفقهاء السبعة، من كبار [3] مات بعد المائة، وقيل: قبلها (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 489.

7 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلِ) بن الحارث بن عبد المطلب الهاشميّ، أبو محمد المدنيّ، أمير البصرة، له رؤية، ولأبيه وجدّه صحبة، قال ابن عبد البرّ: أجمعوا على ثقته [2] مات سنة تسع وسبعين، ويقال: سنة أربع وثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 96/ 516.

8 -

(أُبَيُّ بْنُ كَعْبِ) بن قيس بن عُبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاريّ الخزرجيّ، أبو المنذر، سيد القراء، ويكنى أبا الطفيل أيضًا، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، اختُلف في سنة موته اختلافًا كثيرًا، قيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 466.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف، وله فيه شيخان قرن بينهما؛ لاتحاد كيفيّة الأخذ والأداء منه، ومنهما، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من عبد الحميد، والباقون بصريون، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، والد عبد الحميد، وسليمان، وعبد الله بن الحارث، وسليمان من الفقهاء السبعة، وصحابيّه ذو مناقبة، فهو من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، وكان يسمّى سيّد القراء، وقرأ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: 1].

ص: 303

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ)؛ أنه (قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ) رضي الله عنه (فَقَالَ) أبيّ رضي الله عنه: (لَا) نافية، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَزَالُ النَّاسُ مُخْتَلِفَةً أَعْنَاقُهُمْ) قال القاضي عياض رحمه الله: المراد بالأعناق هنا: الرؤساء والكبراء، وقيل: الجماعات، من قولهم: جاءني عُنُق من الناس؛ أي: جماعة، ويَحْتَمِل أن يكون المراد الأعناق حقيقةً، وكنى باختلافها عن تطلّع أعناق، الرجال، وتشوّفها لحُطام الدنيا، ولفظ رواية الصلت بن عبد الله عند أحمد:"ألا تري، الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا"، وهو في التفسير الأخير أظهر

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وقد يكون المراد بالأعناق نفسها، وعبّر بها عن أصحابها، لا سيما وهي التي بها التطلع والتشوف للأشياء. انتهى

(2)

.

وقوله: (فِي طَلَبِ الدُّنْيَا) متعلّق بـ "مختلفة"، (قُلْتُ: أَجَلْ) كنَعَم وزنًا ومعنًى؛ أي: نعم مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا. (قَالَ) أُبيّ رضي الله عنه: (إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يُوشِكُ)؛ أي: يقرُب (الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسرَ) يَحتمل أن يكون من حسر الشيء يحسُره، من بابي نصر، وضرب: إذا كشفه، فيكون متعدّيًا، ويَحْتَمل أن يكون من حسر الشيءُ حُسُورًا إذا انكشف، والمعنى على الأول أنه لمّا انحسر ماؤه كشف ما فيه من جبل الذهب، وعلى الثاني أنه انكشف وذهب ماؤه، فانكشف، وظهو ما كان مخفيًّا به من جبل الذهب، وقوله:(عَنْ جَبَلٍ) متعلّق بـ "يحسر"، وقوله:(مِنْ ذَهَبٍ) بيان لـ "جبل"، (فَإِذَا سَمِعَ بِهِ)؛ أي: بانكشاف الجبل من النذهب، (النَّاسُ سَارُوا إِلَيْهِ)؛ أي: ذهبوا إليه؛ ليأخذوه، (فَيَقُولُ: مَنْ عِنْدَهُ)؛ أي: الناس الذين في ذلك لَمّا رأوا إقبال الناس عليه، ومجيئهم إليه، (لَئِنْ تَرَكْنَا) بفتح اللام، وهي الموطئة للقسم؛ أي: والله، لئن تركنا (النَّاسَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ)؛ أي: هذا الذهب، (لَيُذْهَبَنَّ) بالبناء للمفعول، (بِهِ كُلِّهِ) بالجرّ تأكيد للضمير، والمعنى: أننا لو تركنا الناس المقبلين عليه لأخذوه كلّه، ولا يبقى لنا منه شيء. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ) بالبناء للفاعل، (فَيُقْتَلُ) بالبناء للمفعول، (مِنْ كلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ") شخصًا.

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 290.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 19 - 20.

ص: 304

وقوله: (قَالَ أَبُو كَامِلٍ) فضيل بن حسين (فِي حَدِيثِهِ)؛ أي: في روايته لهذا الحديث، (قَالَ) عبد الله بن الحارث:(وَقَفْتُ أَنَا) ضمير منفصل أتى به ليُمكنه عطف ما بعده على الضمير المرفوع المتّصل، كما قال في "الخلاصة":

وَإِنْ عَلَى ضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَّصِلْ

عَطَفْتَ فَافْصِل بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلْ

(وَأُبَيُّ بْنُ كعْبٍ) بالرفع عطفًا على الفاعل (فِي ظِلِّ أُجُمِ حَسَّانَ) بضم الهمزة، والجيم، وهو الحصن، وجمعه آجام، كأُطُم وآطام، في الوزن، والمعنى، قاله النوويّ رحمه الله.

والمعنى: أن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه حدّث بهذا الحديث حينما كنّا واقفين في ظلّ حصن حسّان، ولعله حسّان بن ثابت، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أُبيّ بن كعب رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7248](2895)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 139)، و (ابنه) في "الزوائد"(5/ 139 و 140)، و (عبد بن حُميد) في "مسنده"(1/ 92)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6696)، وعلّقه (البخاريّ) في "التاريخ الكبير"(1/ 388)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7249]

(2896) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - وَاللَّفْظُ لِعُبَيْدٍ - قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا زُهيْرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا، وَقَفِيزَهَا، وَمَنَعَتِ الشَّأْمُ مُدْيَهَا، وَدِينَارَهَا، وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا، وَدِينَارَهَا، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ"، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَمُهُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ) المحامليّ، أبو محمدْ الكوفيّ العطار، ثقةٌ، من صغار [10](ت 228) أو بعدها بسنة (ي م س) تقدم في "فضائل الصحابة" 21/ 6304.

ص: 305

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، تقدّم قبل باب.

3 -

(يَحْيَى بْنُ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَوْلَى خَالِدِ بْنِ خَالِدٍ) أبو زكريا الكوفيّ،

ثقةٌ حافظ فاضلٌ، من كبار [9](ت 203)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

[تنبيه]: قوله: "مَوْلَى خَالِدِ بْنِ خَالِدٍ" هكذا في هذه الرواية، والذي في "التقريب" وأصله:"مولى آل أبي معيط"، وقال في "المشارق": قوله: "مولى خالد بن خالد" كذا لكافّة شيوخنا، ورواه مسلم، وعند الخشنيّ، عن الطبريّ:"مولى خالد بن يزيد". انتهى

(1)

.

4 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج الجعفيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالكوفيين، غير إسحاق، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا، وَقَفِيزَهَما) القفيز مكيال معروف لأهل العراق، قال الأزهريّ: هو ثمانية مكاكيك، والمكُّوك صاع ونصف، وهو خمس كيلجات

(2)

. (وَمَنَعَتِ الشَّأْمُ مُدْيَهَا، وَدِينَارَهَا) الْمُدْيُ بضم الميم، على وزن قُفْل: هو مكيال معروف لأهل الشام، قال العلماء: يسع خمسة عشر مَكُّوكًا. (وَمَنَعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا، وَدِينَارَهَما) الإِرْدَبّ: مكيال معروف لأهل مصر، قال الأزهريّ، وآخرون: يسع أربعة وعشرين صاعًا.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "منعت العراق درهمها إلخ" كذا الرواية

(1)

"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 1/ 493.

(2)

وبالتقدير المعاصر: القفيز الكبير: (45) كيلو غرامًا. راجع: "الإيضاحات العصريّة للمقاييس والمكاييل والأوزان والنقود الشرعيّة" لمحمد صبحي حسن حلاق ص 100 - 101.

ص: 306

المشهورة بغير "إذا"، فيكون ماضيًا بمعنى الاستقبال، كما قال تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]؛ أي: يأتي، وكقوله:{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116]: يعني: إذ يقول، ومثله كثير، وقد رواه ابن ماهان:"إذا منعت"، وهو أصل الكلام، غير أنه يحتاج إلى جواب "إذا"، ويَحْتَمِل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون الجواب: "وعُدتم من حيثما بدأتم"، وتكون الواو زائدة، كما قال امرئ القيس [من الطويل]:

فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى

(1)

أي: لمّا أجزنا انتحي، فزاد الواو، ويَحْتَمِل أن يكون جواب "إذا" محذوفًا، تقديره: إذا كانت هذه الأمور جاءت الساعة، أو ذهب الدين، ونحو ذلك، والله أعلم. انتهى

(2)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: قوله: "منعت العراق إلخ" المعنى: ستمنع، فلما كان إخبارًا عن متحتم الوقوع حَسُن الإخبار عنه بلفظ الماضي؛ تحقيقًا لكونه، يدلُّ عليه أنه في بعض الألفاظ:"كيف أنتم إذا لَمْ تجتبوا دينارًا، ولا درهمًا"، وقد كان بعض العلماء يقول: إنما منعوا هذا؛ لأنهم أسلموا، قال: وهذا إخبار عن إجماع الكل على الإسلام، وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ في حديث البخاريّ:"قال أبو هريرة: كيف أنتم إذا لَمْ تجتبوا دينارًا، ولا درهمًا؟، قيل: وكيف؟ قال: تنهتك ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشدّ الله قلوب أهل الذِّمة، فيمنعون ما في أيديهم".

وقال، الخطابيّ: معنى الحديث: أن هذه البلاد ستُفتح للمسلمين، ويوضع عليها الخراج شيئًا مقدّرًا بالمكاييل، والأوزان، وسيُمنع ذلك في آخر الزمان. انتهى

(3)

.

وقال النوويّ رحمه الله: وفي معنى "منعت العراق" وغيرها قولان مشهوران:

(1)

هذا صدر بيت، وعجزه:

بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ

(2)

"المفهم" 7/ 229 - 230.

(3)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 1030.

ص: 307

أحدهما: لإسلامهم، فتسقط عنهم الجزية، وهذا قد وُجد.

والثاني: وهو الأشهر، أن معناه: أن المعجم والروم يستولون على البلاد في آخر الزمان، فيمنعون حصول ذلك للمسلمين، وقد وَوَى مسلم هذا بعد هذا بورقات عن جابر رضي الله عنه:"قال: يوشك أن لا يجيء إليهم قفيز، ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قِبَل المعجم، يمنعون ذاك". وذكر في منع الروم ذلات بالشام مثله، وهذا قد وُجد في زماننا في العراق، وهو الآن موجود، وقيل: لأنهم يرتدّون في آخر الزمان، فيمنعون ما لزمهم من الزكاة وغيرها، وقيل: معناه أن الكفار الذين عليهم الجزية تقوى شوكتهم في آخر الزمان، فيمتنعون مما كانوا يؤدونه من الجزية والخراج، وغير ذلك. انتهى

(1)

.

(وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ)؛ أي: رجعتم على الحالة الأولى التي كنتم عليها، من فساد الأمر، وافتراق الكلمة، وغلبة الأهواء، وذهاب الدين، وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وَعُدْتم

إلخ" فهو بمعنى الحديث الآخر: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ"، وقد سبق شرحه في "كتاب الإيمان". انتهى

(2)

.

(وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ") كرّره ثلاث مرّات للتأكيد، (شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَدَمُهُ)؛ أي: صدّق بهذا الحديث، وشهد بصدقه كل جزء في أبي هريرة رضي الله عنه، ومعناه: أن هذا الحديث حقّ في نفسه، ولا بُدّ من وقوعه

(3)

.

وقال بعضهم: في تفسير المنع وجهان: أحدهما: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنهم سَيُسلمون، وسيسقط ما وُظِّف عليهم بإسلامهم، فصاووا مانعين بإسلامهم ما وظِّف عليهم، واستُدل على ذلك بقوله:"وَعُدْتم من حيث بدأتم"؛ لأنَّ بَدْأهم في علم الله، وفي ما قضى وقدّر، أنهم سَيُسلمون، فعادوا من حيث بدأوا، وقيل في قوله:"منعت العراق درهمها" الحديث أنهم يرجعون عن الطاعة، وهذا وجه، وقد استَحسن الأول بعض العلماء، وكان يكون هذا لولا

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 20.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 20.

(3)

"المفهم" 7/ 230.

ص: 308

الحديث الوارد الذي أفصح فيه برجوعهم عن الطاعة، أخرجه البخاريّ من حديث سعيد بن عمرو، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كيف أنتم إذا لَمْ تَجْتَبُوا دينارًا، ولا درهمًا؟ "، فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنًا يا أبا هريرة؟ قال: إي والذي نفس أبي هريرة بيده عن قول الصادق "المصدوق، قال: عم ذاك؟ قال: "تُنتهك ذمة الله، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيشدّ الله عز وجل قلوب أهل الذِّمة، فيَمنعون ما في أيديهم".

قال في "الفتح": قوله: "إذا لَمْ تجتبوا" من الجباية، بالجيم، والموحّدة، وبعد الألف تحتانية؛ أي: لَمْ تأخذوا من الجزية والخراج شيئًا.

وقوله: "تُنتهك" بضم أوله؛ أي: تُتناول مما لا يحل من الجور والظلم.

وقوله: "فيمنعون ما في أيديهم"؛ أي: يمتنعون من أداء الجزية، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [8/ 7249](2896)، و (أبو داود) في "الخراج"(3035)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 262)، و (ابن الجارود) في "المنتقى"(1/ 279)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 137)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(2/ 210 - 211)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيكون بعده، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله: تسمية النبيّ صلى الله عليه وسلم مكيال كل قوم باسمه المعروف عندهم دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرف كلام الناس، وإن بَعُدت أقطارهم، واختلفت عباراتهم، وقد ثبت أنه كان يخاطب كل قوم بلغتهم في غير موضيع، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار بأن أمور الدين، وقواعده يُترك العمل بها؛ لضعف القائم بها، أو لكثرة الفتن، واشتغال الناس بها، وتفاقم أمر المسلمين،

ص: 309

فلا يكون من يأخذ الزكاة، ولا الجزية، ممن وجبت عليه، فيمتنع من وجب عليه حقّ من أدائه، والله تعالى أعلم

(1)

.

3 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على رضاه صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه بما وظفه على الكفرة في الأمصار من الجزية ومقدارها.

4 -

(ومنهما): ما قاله في "الفتح": وفيه التوصية بالوفاء لأهل الذِّمة؛ لِمَا في الجزية التي تؤخذ منهم من نَفْع المسلمين، وفيه التحذير من ظُلمهم، وأنه متى وقع ذلك نقضوا العهد، فلم يَجتب المسلمون منهم شيئًا، فتضيق أحوالهم، وذكر ابن حزم أن بعض المالكية احتجّ بقوله:"منعت العراق درهمها. . ." الحديث، على أنَّ الأرض المغنومة لا تُقسم، ولا تباع، وأن المراد بالمنع: منع الخراج، وردّه بأن الحديث ورد في الإنذار بما يكون من سوء العاقبة، وأن المسلمين سيُمنعون حقوقهم في آخر الأمر، وكذلك وقع. انتهى

(2)

، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(9) - (بَابٌ فِي فَتْحِ قُسْطُنْطِينِيَّةَ، وَخُرُوجِ الدَّجَّال، وَنُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام

-)

قال المجد رحمه الله: وقُسْطَنطِينَةُ، أو قُسْطَنْطِينِيّةُ بزيادة ياء مشددة، وقد تضم الطاء الأولى منهما: دار مَلِك الروم، وفتحُها من أشراط الساعة، وتُسَمَّى، بالرومية: بُوزَنْطِيَا، وارتفاع سوره أحد وعشرون ذراعًا، وكنيستها مُستطيلة، وبجانبها عمود عالٍ في دور أربعة أبواع تقريبًا، وفي رأسه فرس من نحاس، وعليه فارس، وفي إحدى يديه كُرَة من ذهب، وقد فتح أصابع يده الأخرى مشيرًا بها، وهو صورة قسطنطين بانيها. انتهى

(3)

.

وقال الشارح المرتضى رحمه الله في "شرحه": وقُسطنطينَةُ، أو قسطنطية

(1)

"المفهم" 7/ 230.

(2)

"الفتح" 6/ 280.

(3)

"القاموس المحيط" 1/ 881.

ص: 310

بزيادة ياء مشددة، وقد تضم الطاء الأولى منهما، وأما القاف، فإنها مضمومة، كما في شروح الشفاء، وإن كان الإطلاق يوهم الفتح، فهي خمس لغات، ويروى أيضًا تخفيف الياء، كما في شروح الشفاء، فهي ست لغات، وقال ابن الجوزي في "تقويم البلدان": لا يجوز تخفيف أنطاكية، وهي مشددة أبدًا، كما لا يجوز تشديد القسطنطينية، وعدّ ذلك من أغلاط العوام، فتأمل. دار مَلِك الروم، وهي الآن دار ملك المسلمين، وفاتحها السلطان المجاهد الغازي أبو الفتوحات محمد بن السلطان مراد ابن السلطان محمد ابن السلطان بايزيد ابن السلطان مراد الأول بن أورخان بن عثمان تغمده الله تعالى برحمته، فهو الذي جعلها كرسيّ مملكته بعد اقتلاعه لها من يد الإفرنج، وكان استقراره في المملكة بعد أبيه في سنة (855)، كان مَلِكًا عظيمًا اقتفى أثر أبيه في المثابرة على دفع الفرنج، حتى فاق ملوك زمانه، مع وصفه بمزاحمة العلماء، ورغبته في لقائهم، وتعظيم من يَردُ عليه منهم، وله مآثر كثيرة من مدارس، وزوايا، وجوامع، توفي أوائل سنة (886) في توجهه منها إلى بُرصا، ودفن بالبريّة هناك، ثم حُوِّل إلى اسطنبول في ضريح بالقرب من أجل جوامعه بها، واستقر في المملكة بعده ولده الأكبر السلطان أبو يزيد المعروف بيلدرم، ومعناه: الْبَرْق، وركنى به عن الصاعقة، كما ذكره السخاويّ في "الضوء".

قلت،

(1)

: وهو جدّ سلطان زماننا الإمام المجاهد الغازي سلطان البرَّين والبحرين خادم الحرمين الشريفين. وفَتْحها من أشراط قيام الساعة، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق. . ." الحديث الآتي المذكور في الباب.

قال: وقد جاء ذِكر القسطنطينية أيضًا في حديث معاوية رضي الله عنه، وذلك أنه لمّا بلغه خبر صاحب الروم أنه يريد أن يغزو بلاد الشام أيام فتنة صِفِّين، كتب إليه يحلف بالله: لئن تممت على ما بلغني من عزمك لأصالحنّ صاحبي، ولأكونن مقدمته إليك، فلأجعلن القسطنطينية البخراء حممة سوداء، ولأنزعنك

(1)

القائل هو المرتضى صاحب "التاج".

ص: 311

من الملك انتزاع الإصطفلينة، ولأردّنك إِرِّيسًا من الأرارسة ترعى الدوابل، وتسمى بالرومية بُوزنطيا، بالضم، وتُعرف الآن باسطنبول، وإسلامِ بول، وفي معجم ياقوت: اصطنبول بالصاد، وارتفاع سوره أحد وعشرون ذراعًا، وكنيستها الله معروفة بأياصوفيا، مستطيلة، وبجانبها عمود عالٍ، في دور أربعة أبواع تقريبًا. وفي رأسه فرس من نحاس، وعليه فارس، وفي إحدى يديه كُرَة من ذهب، وقد فتح أصابع يده الأخرى مشيرًا بها، ويقال: هو صورة قسطنطين بانيها.

قلت

(1)

: وقد جُعلت هذه الكنيسة جامعًا عظيمًا، وأزيل ما كان فيه من الصور، حين فتحها، وفيه من الزخرف، والنقوش البديعة، والفُرُش المنيعة الآن ما يكلّ عنه الوصف، يتلى فيه القرآن آناء الليل وأطراف النهار، جعله الله عامرًا بأهل العلم ببقاء دولة الملوك الأبرار، والسلاطين الأخيار، وأقام بهم نصرة دين النبيّ المختار صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7250]

(2897) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ أَبِيه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاق، أَو بِدَابِقَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ منَ الْمَدِينَة، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا، قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ، فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ، لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أفضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ الله، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ، لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطُنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا همْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُون، إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ: إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِذَا جَاؤوا الشَّأْمَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَال، يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ، إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ

(1)

القائل المرتضى.

(2)

"تاج العروس" ص 4970.

ص: 312

مَرْيَمَ، فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ ذَابَ، كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاء، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ، حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِه، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ) الرازيّ، أبو يعلى، نزيل بغداد، ثقةٌ، سنيّ، فقيهٌ، طُاب للقضاء فامتنع، أخطأ من زعم أن أحمد رماه بالكذب [10](ت 211) على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 43.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177)(ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

والباقون ذُكروا في السند الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين من سليمان، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ) قال في "التاج": الرُّوم بالضم: جِيلٌ من ولد الرُّوم بن عِيصو بن إسحاق؛ سُمُّوا بِاسم جدّهم، قيل: كان لعيصو ثلاثون ولدًا، منهم الروم، ودخل في الروم طوائف من تَنُوخ، ونَهْد، وسليم، وغيرهم من غَسّان، كانوا بالشأم، فلما أجلاهم المسلمون عنها، دخلوا بلاد الروم، فاستوطنوها، فاختلطت أنسابهم. انتهى

(1)

.

(بِالأَعْمَاقِ) بفتح الهمزة، قال التوربشتيّ رحمه الله: العمق: ما بَعُد من أطراف المفاوز، وليس الأعماق ها هنا بجمع، وإنما هو اسم موضع بعينه، من أطراف

(1)

"تاج العروس" ص 7740.

ص: 313

المدينة. (أَو بِدَابِقَ) بفتح الموحّدة، وقد تكسر، ولا يُصرف، وقد يصرف، قال التوربشتيّ رحمه الله: هو بفتح الباء دار نخلة موضع سوق بالمدينة، وفي "المفاتيح": هما موضعان، و"أو" شك من الراوي، وقال الجزريّ: دابق بكسر الموحّدة، وهو الصواب، وإن كان عياض في "المشارق" ذكر فيه الفتح، ولم يذكر غيره، وهو موضع معروف من عمل حَلَب، ومرج دابق مشهور، قال صاحب "الصحاح": الأغلب التذكير والصرف؛ لأنه في الأصل اسم، قال: وقد يؤنث، ولا يصرف. انتهى، قال القاري: والذي يؤنثه، ولا يصرفه، يريد به البقعة. انتهى

(1)

.

وفي "القاموس": دابق كصاحبٍ، وهَاجَرَ - أي: منصرفًا، وغير منصرف -: قرية بحلب، وفي الأصل اسم نهر. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: وقد ذكر الحريريّ: "دابقًا" في البقاع التي سمع صرفها، فقال في "ملحته":

ولَيْسَ مَصْروفًا مِنَ الْبِقَاعِ

إِلَّا بِقَاعٌ جِئْنَ فِي السَّمَاعِ

مثْلُ حُنَيْنٍ وَمِنًى وَبَدْرِ

وَوَاسِطٍ وَدَابقٍ وَحِجْرِ

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "تنزل الروم بالأَعماق، أو بدابق": "الأعمال": جمع عمق - بضم العين، وفتحها -: وهي ما بَعُد من أطراف، المفاوز، قال رؤبة:

وَقَاتِمِ الأَعْمَاقِ خَاوِي الْمُخْتَرَقْ

و"دابق": اسم بلد، والأغلب عليه التذكير، والصرف؛ لأنَّه في الأصل: نهر، قال الراجز:

بِدَابِقٍ وَأَيْنَ مِنِّي دَابِقُ

وقد يؤنث، ولا يصرف، وهو بفتح الباء، وكذا وجدته مقيّدًا مصححًا في كتاب الشيخ، ويقال: بالكسر فيما أحسب. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(3)

.

(فَيَخْرُجُ) بالنصب عطفًا على "ينزل"، وبالرفع على الاستئناف، (إِلَيْهِمْ

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 399.

(2)

"القاموس" ص 413.

(3)

"المفهم" 7/ 231.

ص: 314

جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ) قال ابن الملك: قيل: المراد بها: حلب، والأعماق، ودابق، موضعان بقربه، وقيل: المراد بها: دمشق، وقال في "الأزهار": وأما ما قيل: من أن المراد بها مدينة النبيّ صلى الله عليه وسلم فضعيف؛ لأنَّ المراد بالجيش الخارج إلى الروم: جيش المهديّ، بدليل آخر الحديث، ولأن المدينة تكون خرابًا في ذلك الوقت

(1)

.

وقال صاحب "التكملة" بعدما نقل ما تقدّم: لعله يشير إلى ما رواه أبو داود عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعًا: "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح القسطنطينية خروج الدجال"، لكن ليس في ذلك الحديث أنه ليس بين خراب يثرب وخروج الملحمة فصلٌ، وقد تُذكر الأشياء في أشراط الساعة، وبينها فصل كبير. انتهى

(2)

.

(مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ) بيان للجيش، (يَوْمَئِذٍ) احتراز من زمنه صلى الله عليه وسلم، (فَإِذَا تَصَافُّوا) بي ششديد الفاء المضمومة، (قَالَتِ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا) علي بناء المبنيّ للفاعل، (نُقَاتِلْهُمْ) يريدون ذلك مخاتلة المؤمنين، ومخادعة بعضهم عن بعض، ويبغون تفريق كلمتهم، والمرادون بذلك هم الذين غزوا بلادهم، فسَبَوْا ذريتهم، كذا ذكره التوربشتيّ رحمه الله وهو الموافق للنُّسخ، والأصول، قال ابن الملك: ورُوي "سُبُوا" ببناء المجهول، قال القاضي: ببناء المعلوم وهو الصواب.

وقال النووي رحمه الله: قوله: "سبوا منا" رُوي سُبُوا على وجهين: فتح السين والباء، وضمهما، قال القاضي في "المشارق": الضم رواية الأكثرين، قال: وهو الصواب، قال النوويّ رحمه الله: كلاهما صواب؛ لأنهم سُبُوا أَوّلًا، ثم سَبَوْا الكفار، وهذا موجود في زماننا، بل معظم عساكر الإسلام في بلاد الشام ومصر سُبُوا، ثم هم اليوم بحمد الله يَسْبُون الكفار، وقد سبَوْهم في زماننا مرارًا

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 399.

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 294.

ص: 315

كثيرةً، يسبُون في المرة الواحدة من الكفار ألوفًا، ولله الحمد على إظهار الإسلام، وإعزازه. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الرواية الصحيحة في "سَبَوا" بفتح السين والباء؛ أي: الذين أصالوا منا سبيًا، وقد قيّده بعضهم بضم السين والباء، وليس بشيء؛ لأنَّ قول المسلمين في جوابهم: لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا، يعنون أنهم منهم في الأنساب والدين، فلو أن الروم طلبوا مَن سُبي منهم لَمَا، قالوا لهم ذلك مطلقًا. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: الأصحّ ما سبق عن النوويّ: من جواز ضبط "سبوا" بالوجهين، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال التوربشتيّ: والأظهر أن هذا القول منهم يكون بعد الملحمة الكبرى التي تدور رحاها بين الفئتين بعد المصالحة والمناجزة لقتال عدوّ يتوجه إلى المسلمين، وبعد غزوة الروم لهم، وذلك قبل فتح قسطنطينية، فيطأ الروم أرض العرب حتى ينزل بالأعماق، أو بدابق، فيسألون المسلمين أن يخلّوا بينهم وبين من سبى ذريتهم، فيردّون الجواب على ما ذَكره في هذا الحديث بقوله:(فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لَا وَاللهِ لَا) تأكيد لـ "لا" الأُولى توسَّط بينهم القَسَم، فهو كقوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} الآية [النساء: 65]. (نُخَلِّي بَيْنَكمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا) المسلمين، (فَيُقَاتِلُونَهُمْ)؛ أي: يقاتل المسلمون الكفرة (فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ)؛ أي: ثلث المسلمين، (لَا يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِيمْ أَبَدًا) كناية عن موتهم على النمر، وتعذيبهم على التأبيد.

وقال القرطبيّ: قوله: "لا يتوب الله عليهم أبدًا"؛ أي: لأنَّهم فَرّوا مر، الزحف، حيثما لا يجوز لهم الفرار، فلا يتوب الله عليهم؛ أي: لا يلهمهم إياها، ولا يُعينهم عليها، بل يُصِرّون على ذنبهم ذلك، ولا يندمون عليه، ويجوز أن يكون معنى ذلك: أنه تعالى لا يقبل توبتهم، وإن تابوا، ويكونون هؤلإء ممن شاء الله أن لا تقبل توبتهم؛ لعظيم جرمهم. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: لا يخفى أن الوجه الأول هو الصواب، والثاني

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 21.

ص: 316

بعيد؛ لأنَّ من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها، أو قبل الغرغرة قَبِل الله توبته؛ للنصوص الواضحة في ذلك، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

(وَيُقتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ) برفع "أفضلُ" على تقدير مبتدأ؛ أي: هم، وفي نسخة بالنصب على أنه حال، (وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ)؛ أي: الثلث الباقي من المسلمين، (لَا يُفْتَنُونَ أَبَدًا)؛ أي: لا يُبتَلَون ببلية، أو لا يمتحنون بمقاتلة، أو لا يعذَّبون أبدًا، ففيه إشارة إلى حُسن خاتمتهم، (فَيَفْتَتِحُونَ) الفاء تعقيبية، أو تفريعية، قال ابن الملك: وفي نسخة: "فيفتحون" بتاء واحدة، وهو الأصوب؛ لأن الافتتاح أكثر ما يُستعمل في معنى الاستفتاح، لا يقع موقع الفتح، قال القاري: سبق مثل هذا في كلام التوربشتيّ، لكن الظاهر أن فيه إيماء إلى أن الفتح كان بمعالجة تامّة، وفي "القاموس": فتح، كمنع ضدّ أَغلق، كفتَّحَ، وافتتح، والفتح: النصر، وافتتاح دار الحرب، والاستفتاح: الاستنصار والافتتاح

(1)

.

والمعنى: فيأخذون من أيدي الكفار (قُسْطُنْطِينِيَّةَ) هي بضمّ القاف، وسكون السين، وضم الطاء الأولى، وكسر الثانية، وبعدها ياء ساكنة، ثم نون، قال النوويّ رحمه الله: هكذا ضبطناه ها هنا، وهو المشهور، ونقل القاضي رحمه الله في "المشارق" عن المتقنين زيادة ياء مشدّدة بعد النون، قال القاري: ونُسخ "المشكاة" متفقة على، ما قاله عياض، وفي بعض النُّسخ زيادة ياء مخففة بدل ياء مشدّدة، فقد قال الجزريّ: ثم نون، ثم ياء مخففة، وحَكَى بعضهم تشديدها، وقال آخرون: بحذفها، ونقله عياض عن الأكثرين، ثم هي مدينة مشهورة أعظم مدائن الروم، قال الترمذيّ: والقُسطنطينية قد فُتحت في زمن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتُفتح عند خروج الدجال، قال الحجازيّ رحمه الله في "حاشية الشفاء": قُسطنطينة، وقُسطنطينيّة، ويروى بلام التعريف: دار مَلِك الروم، وفيها ست لغات، فتح الطاء الأُولي، وضمها، مع تخفيف الياء الأخيرة، وتشديدها، مع حذفها، وفتح النون، وهذه بضم الطاء أكثر استعمالًا، والقاف مضموم بكل حال. انتهى

(2)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 973.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 399.

ص: 317

(فَبَيْنَمَا هُمْ)؛ أي: المسلمون، (يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ، قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتونِ) أراد الشجر المعروف، والجملة حال، دالّة على كمال الأمن. (إِذ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ)؛ أي: نادى بصوت رفيع، (إِنَّ الْمَسِيحَ) بكسر الهمزة؛ لِمَا في النداء من معنى القول، ويجوز فتحها؛ أي: أعلمهم، والمراد بالمسيح: الدَّجّال. (قَدْ خَلَفَكُمْ) بتخفيف اللام؛ أي: قام مقامكم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "قد خلفكم في أهليكم" كذا الرواية الجيّدة مخففة اللام، بغير ألف؛ أي: بشرّ، يقال: خلفك الرجل في أهلك بخير، أو بشرّ، وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:"من خَلَف غازيًا في أهله بخير فقد غزا"، متّفقٌ عليه، وقد رواه بعضهم:"خالفكم"، والأول أجود؛ لأنَّ خالف يتعدى بـ "إلى"، وخلف يتعدى بـ "في"، ورَدُّ خالف إلى خَلَف يجوز. انتهى

(1)

.

(فِي أَهْلِيكُمْ)؛ أي: في ذراريكم، كما في رواية، (فَيَخْرُجُونَ)؛ أي: يخرج جيش المدينة من قسطنطينية، (وَذَلِكَ)؛ أي: القول من الشيطان (بَاطِلٌ)؛ أي: كذب وزور، (فَإِذَا جَاؤوا الشَّأْمَ) الظاهر أن المراد به القدس منه؛ لِمَا في، بعض الروايات من التصريح به. (خَرَجَ)؛ أي: الدجّال، (فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ) بضم أوله، وكسر ثانية، من الإعداد؛ أي: يستعدون، ويتهيؤون (لِلْقِتَالِ)؛ أي: لقتال الدجال، وقوله:(يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ) بدل من "يُعدون"، أو حال، (إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ)؛ أي: إذ أقام المؤذّن لأجل الصلاة التي حضرت في ذلك، الوقت، وهي صلاة الصبح، (فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) عليها السلام؛ أي: ينزل من السّماء، على منارة مسجد دمشق، فيأتي القدس، (فَأَمَّهُمْ) عَدَل إلى الماضي؛ تحقيقًا للوقوع، وإشعارًا بجواز عطف الماضي على المضارع، وعكسه؛ أي: أَمَّ عيسى عليه السلام المسلمين في تلك الصلاة، ومن جملتهم المهديّ، وفي رواية:"قَدَّم المهديّ"، معللًا بأن الصلاة إنما أقيمت لك، وإشعارًا بالمتابعة، وأنه غير متبوع استقلالًا، بل هو مقرِّر، ومؤيّد، ثم بعد ذلك يؤم بهم على الدوام، فقوله:"فأمهم" فيه تغليب، أو تركيب مجازيّ؛ أي: أمر إمامهم بالإمامة، ويكون الدجال حينئذٍ محاصرًا للمسلمين. (فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ) بالرفع على

(1)

"المفهم" 7/ 232.

ص: 318

الفاعليّة؛ أي: إذا رأى الدجّال عيسى، (ذَابَ)؛ أي: شرع في الذّوَبان (كمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاء، فَلَوْ تَرَكَهُ)؛ أي: لو ترك عيسى عليه السلام الدجال، ولم يقتله (لَانْذَابَ)؛ أي: لسال بنفسه، واضمحلّ (حَتَّى يَهْلِكَ) بنفسه بالكلية دون أن يقتله عيسى عليه السلام، (وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ)؛ أي: بيد عيسى عليه السلام، (فَيُرِيهِمْ)؛ أي: يري الناس الحاضرين عيسى عليه السلام، وقال القاري: فيريهم؛ أي: يري عيسى عليه السلام، أو الله سبحانه وتعالى المسلمين، أو الكافرين، أو جميعهم، (دَمَهُ)؛ أي: دم الدجال (فِي حَرْبَتِهِ")؛ أي: في حربة عيسى عليه السلام، وهو رُمح صغير، وقد روى الترمذيّ عن مُجَمِّع بن جارية مرفوعًا:"يقتل ابن مريم الدجال بباب لدّ"، والمشهور أنه من أبواب مسجد القدس، وفي "النهاية": هو موضع بالشام، وقيل: بفلسطين، ذكره السيوطيّ في شرحه للترمذيّ، ولعل الدجال يهرب من بيت المقدس بعد ما كان محاصرًا، فيلحقه عيسى عليه السلام في أحد الأماكن، فيقتله، والله تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [9/ 7250](2897)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 529)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(15/ 224)، و (المقرئ الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(9/ 1115)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أعظم معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيكون في أمته من علامات الساعة.

2 -

(ومنها): أن من علامات الساعة فتح القسطنطينيّة، وهذا الفتح غير الفتح الذي وقع فتحها على يد محمد الفاتح من سلاطين آل عثمان في جمادى الأولى سنة (857 هـ)، بل المراد هنا: فتح المهديّ لها آخر الزمان، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): بيان نزول عيسى عليه السلام من السماء في ذلك الوقت.

ص: 319

4 -

(ومنها): أن عيسى عليه السلام إذا نزل ينزل بين الأذان والإقامة، فإذا أقيمت الصلاة أمر المهديّ أن يؤمّ الناس في تلك الصلاة؛ إظهارًا لكرامة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما نزل تابعًا لشرعه صلى الله عليه وسلم، ومقرّرًا، ومؤيِّدًا، لا أنه يعمل بالإنجيل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:"كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم، وإمامكم منكم"، وفي رواية:"وأَمّكم منكم"، وفي رواية:"وأَمَّكم بكتاب ربّكم"، وفي رواية:"فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فيقول أميرهم: تعالَ صلّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمةَ الله هذه الأمة"، وفي رواية:"وقال ابن أبي، ذئب، أحد رواته: تدري ما أَمَّكم منكم؟ قلت: تخبرني، قال: فأَمَّكم بكتاب، ربكم تبارك وتعالى، وسُنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم"

(1)

.

5 -

(ومنها): بيان معجزة عيسى عليه السلام حيث إن الدجال الجبّار مع تجبّره يذوب كما يذوب الملح في الماء بمجرّد رؤيته، ولو تركه لذاب كلّه دون أن يمسّه، ولكن الله عز وجل جعل موته بقتله، فيقتله بحربته، حتى يرى الناس دمه عل حربته، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(10) - (بَابٌ تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7251]

(2898) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْث، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُلَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرُّومُ أَكثَرُ النَّاسِ"، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ، قَالَ: أقولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا، إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ

(2)

، وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ، وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ، وَيَتِيمٍ، وَضَعِيفٍ، وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ، وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ).

(1)

"صحيح مسلم" 1/ 137.

(2)

وفي نسخة: "عند مصيبة".

ص: 320

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ) المصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ) أبو محمد المصريّ الحافظ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ) الإمام المجتهد المصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُوسَى بْنُ عُلَيٍّ) - بالتصغير - ابن رَبَاح - بموحّدة - اللَّخْميّ، أبو عبد الرحمن المصريّ، صدوق، رُبَّما أخطأ [7](ت 163) وله نيّف وسبعون سنةً (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 42/ 1873.

5 -

(أَبُوهُ) عُليّ بن رَباح بن قَصِير - ضدِّ الطويل - اللَّخْميّ، أبو عبد الله المصريّ، ثقةٌ، والمشهور فيه عُليّ - بالتصغير - وكان يغضب منها

(1)

، من كبار [3] مات سنة بضع عشرة ومائة (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 42/ 1873.

6 -

(الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ) هو: المستورد بن شدّاد بن عمرو القرشيّ الْفِهْريّ، صحابيّ ابن صحابيّ رضي الله عنهما، حجازيّ، نزل الكوفة، ومات سنة خمس وأربعين (خت م 4) تقدم في "الفضائل" 9/ 5965.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمصريين، غير الصحابيّ، فكوفيّ، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب الخمسة إلا نحو ثمانية أحاديث، ولا رواية له في البخاريّ أصلًا

(2)

.

شرح الحديث:

عن مُوسَى بْنِ عُلَيٍّ (عَنْ أَبِيهِ) عُليّ بن رباح، أنه (قَالَ: قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ) بكسر الراء، بصيغة اسم الفاعل، (الْقُرَشِيُّ)؛ أي: المنسوب إلى قبيلة قريش المشهورة، (عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) رضي الله عنه المتوفّى سنة نيّف وأربعين، وقيل: بعد الخمسين، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 57/ 328. (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

قيل: سبب تسميته بعُليّ بالتصغير أن بني أميّة إذا سمعوا بمولود يسمّى عَليًّا قتلوه، فبلغ ذلك رباحًا، فقال: هو عُليّ بضم العين، ذكره في "تهذيب التهذيب".

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 8/ 375 - 378.

ص: 321

يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرُّومُ أَكثَرُ النَّاسِ) لعل المراد من الروم النصارى؛ لأن أهل الروم يومئذ نصاري، وقد تحقّق ذلك باتساع دينهم في الآفاق، ويكثرون بقرب يوم القيامة، قال القاضي عياض: هذا الحديث ظهر صدقه، فإنهم اليوم أكثر مَن في العالم، إلَّا من يأجوج ومأجوج، فإنهم عَمَروا من الشام إلى منقطع أرض الأندلس، واتسع دين النصرانيّة اتساعًا لَمْ تتسعه أمة، وكل ذلك بقضاء الله تعالى وقدره. انتهى

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ)؛ أي: للمستورد رضي الله عنه: (عَمْرٌو)؛ أي: ابن العاص رضي الله عنه، (أَبْصِرْ) بقطع الهمزة أمْر من الإبصار؛ أي: تيقّن (مَا تَقُولُ)؛ أي: تَذْكره من الحديث. (قَالَ) المستورد: (أَقولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لست أقوله من عندي، وإنما هو من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته منه. (قَالَ) عمرو: والله (لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ) الذي قلته فيهم من أن الساعة تقوم، وهم أكثر الناس، فهم أحقّ بذلك؛ لأنَّ عندهم ما يستحقّون به ذلك، وهي الخصال الأربعة، كما بيّنها بقوله:(إِنَّ فِيهِمْ) بكسر الهمزة؛ لوقوعها في جملة تعليليّة، ويَحْتَمِل أن تكون بفتحها بتقدير حرف التعليل؛ أي: لأنَّ فيهم (لَخِصَالًا) بكسر الخاء المعجمة: جمع خَصْلة، بفتح، فسكون، قال المجد رحمه الله: الْخَصْلة: الْخَلَّةُ، والفضيلة، والرّذِيلة، أو قد غلب على الفضيلة. انتهى

(2)

، والمراد هنا: الفضيلة. (أَرْبَعًا) محمودة، فلذلك كانوا أكثر الناس، قال الأبيّ: وهو مدح لتلك الأوصاف، لا أنَّها مدح لهم من حيث اتّصافهم.

قال الجامع عفا الله عنه: لا معنى لهذا الكلام؛ لأنَّها إذا كانت صفة مدح، فمن اتّصف بها يكون ممدوحًا، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

قال: وَيحْتَمل أنه إنما ذكرها من حيث إنها سبب لكثرتهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: وَصْف عبد الله بن عمرو لهم بما وَصَفهم به من تلك، الأوصاف الجميلة إنما كانت غالبة على الروم الذين أدرك هو زمانهم، وأما ما في الوجود منهم اليوم فهم أنحس الخليقة، وأركسهم، وهم موصوفون بنقيض تلك الأوصاف. انتهى

(3)

.

(1)

"شرح الأبيّ" 7/ 246.

(2)

"القاموس المحيط" ص 374.

(3)

"المفهم" 7/ 236.

ص: 322

ويستفاد منه أنه لا بأس بمدح الأوصاف الحسنة، وإن تحلّى بها الكفّار؛ لحضّ المحسلمين على الأخذ بها؛ لأنهم أهلها، وأحقّ الناس بها، والحقّ ضالّة المؤمن

(1)

، والله تعالى أعلم.

ثم فصّل تلك الخصال بقوله: (إِنَّهُمْ)؛ أي: الروم، (لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ)؛ أي: أصبرهم عند وقوع فتنة، وابتلائهم بها، (وَأَسْرَعُهُمْ إفَاقَةً) يقال: أفاق المجنون إفاقةً: رجع إليه عقله، (بَعْدَ مُصِيبَةٍ) وفي بعض النُّسخ:"عند مصيبة"، (وَأَوْشَكُهُمْ)؛ أي: أسرعهم (كَرَّةً)؛ أي: رجوعًا إلى عدوهّم، (بَعْدَ فَرَّةٍ)؛ أي: بعد فرارهم عنهم؛ يعني: أن جيشهم بعد صولته، وانهزامه سريع الرجوع والهجوم على عدوه، (وَخَيْرُهُمْ)؛ أي: أشفق الناس (لِمِسْكينٍ)؛ أي: فقير، (وَيَتِيمٍ) هو الذي مات أبوه، فيقومون بإصلاح حاله، (وَضَعِيفٍ) في الخلقة، كالزَّمَن، والأعمى، والأعرج، أو بالمرض، (وَخَامِسَةٌ)؛ أي: ولهم أيضًا خصلة خامسة لهذه الأربعة، وكأنه تذكّرها بعد أن عدّها أربعة، وقوله:(حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ) إنما وصفها به مع أن الأربعة كذلك؛ لكونها عزيزة في الناس، (وَ) بيّن الخامسة بقوله:(أَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ) يَحْتَمِل أن يكون المعنى: أنهم يمنعون الناس عن أن يظلموا الملوك، أو أنهم يمنعون الملوك أن يظلموا الناس، وأخرجه أحمد في "مسنده" ولم يذكر:"وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة"، بل جعل الخامسة رابعة، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(إلى مسألة الأولى): حديث المستورد بن شدّاد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [10/ 7251 و 7252](2898)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 230)، و (البزّار) في "مسنده"(8/ 390)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(20/ 309 و 310) و"الأوسط"(1/ 73)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(8/ 229)،

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 200.

ص: 323

و (المقرئ الداني) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1118)، وفوائده تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7252]

(. . .) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التُّجِيبِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْب، حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ، أَنَّ عَبْدَ الْكَرِيمِ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ، أَنَّ الْمُسْتَوْرِدَ الْقُرَشِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَقُومُ السَّاعَةُ، وَالرُّومُ أَكثَرُ النَّاسِ"، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الَّتِي تُذْكَرُ عَنْكَ، أَنَّكَ تَقُولُهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ: قُلْتُ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَقَالَ عَمْرٌو: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ، إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ، وَأَجْبَرُ النَّاسِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ، وَخَيْرُ النَّاسِ لِمَسَاكِينِهِمْ، وَضُعَفَائِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو شُرَيْحٍ) عبد الرَّحمن بن شُريح بن عبيد الله الْمَعَافريّ - بفتح الميم، والمهملة - الإسكندرانيّ، ثقةٌ فاضلٌ، لَمْ يصب ابن سعد في تضعيفه [7](ت 167)(ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 16.

2 -

(عَبْدُ الكَرِيمِ بْنُ الْحَارِثِ) بن يزيد الحضرميّ، أبو الحارث، المصريّ، ثقةٌ عابدٌ [6](م س) تقدم في "الإمارة" 50/ 4931.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (وَأَجْبَرُ النَّاسِ عِنْدَ مُصِيبَةٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في معظم الأصول: "وأجبر" بالجيم، وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور، وفي رواية بعضهم:"وأصبر" بالصاد، قال القاضي: والأول أَولى؛ لمطابقة الرواية الأخرى: "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة"، وهذا بمعنى:"أجبر"، وفي بعض النسخ:"أخبر" بالخاء المعجمة، ولعل معناه: أخبرهم بعلاجها، والخروج منها. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "وأجبر الناس" كذا رواية الجمهور، وهو من جَبَرت العظم والرّجل: إذا شددت مفاقره، وقد فُسّر معنى هذه الرواية في

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 23 - 24.

ص: 324

الرواية الأخرى التي قال فيها: "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة"، ووقع لبعضهم:"أصبر الناس" بدل: "أجبر الناس"، والأول أصحّ، وأحسن. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: هذا الحديث مما استدركه الدارقطنيّ على مسلم، وقال: عبد الكريم لَمْ يُدرك المستورد، فالحديث مرسل؛ أي: منقطع.

قال النوويّ: لا استدراك على مسلم في هذا؛ لأنه ذكر الحديث في الطريق الإول من رواية عُليّ بن رَباح، عن أبيه، عن المستورد متصلًا، وإنما ذكر الثاني، متابعةً، وقد سبق أنه يُحْتَمَل في المتابعة ما لا يُحْتَمَل في الأصول، وسبق أيضًا أن مذهب الشافعيّ، والمحققين أن الحديث المرسل إذا رُوي من جهة أخرْق متصلًا احتُجّ به، وكان صحيحًا، وتبينّا برواية الاتصال صحة رواية الإرسال، ويكونان صحيحين، بحيث لو عارضهما صحيح جاء من طريق واحد، وتعذر الجمع قدَّمناهما عليه. انتهى كلام النوويّ رحمه الله وهو تحقيقٌ حسن، وقد تقدّم في "شرح المقدّمة" جواب الحافظ رشيد الدين ابن العطّار رحمه الله في "غرره"، فراجعه تستفد، وبالله تعالى التوفيق

(2)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(11) - (بَابُ إِقْبَالِ الرُّومِ فِي كَثْرَةِ الْقَتْلِ عِنْدَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ)

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7253]

(2899) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، كِلَاهُمَا عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ - وَاللَّفْظُ لِابْنِ حُجْرٍ - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَي، إِلَّا يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ جَاءَتِ السَّاعَةُ، قَالَ: فَقَعَدَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى

(1)

"المفهم" 7/ 236.

(2)

"غرر الفوائد" 1/ 197، وهو في "قرة عين المحتاج شرح مقدّمة صحيح مسلم بن الحجاج" 1/ 157.

ص: 325

لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ - فَقَالَ: عَدُوُّ يَجْمَعُونَ لأَهْلِ الْإِسْلَام، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلَامِ، قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمُ الْقِتَالِ، رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَيَشْتَرِطُ المُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقتَتِلُونَ، حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ، وَهَؤُلَاءِ، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْت، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتَلُونَ حَتَّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هَؤُلَاء، وَهَؤُلَاء، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى، الشُّرْطَةُ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِع، نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَام، فَيَجْعَلُ اللهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً - إِمَّا قَالَ: لَا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا - حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ، فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ، كَانُوا مِائَةً، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ، أَو أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَيُقْبِلُونَ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، أَو مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ"، قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابرٍ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو بَكرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة الكوفيّ، تقدّم قبل ثلاثة أبواب.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تميمة كيسان السَّخْتيانيّ، تقدّم قبل خمسة أبواب.

ص: 326

5 -

(حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ) العدويّ أبو نصر البصريّ، ثقةٌ عالمٌ، توقف فيه ابن سيرين لدخوله في عمل السلطان [3](ع) تقدم في "الحيض" 21/ 791.

6 -

(أَبُو قَتَادَةَ الْعَدَوِيُّ) البصريّ، اسمه تَميم بن نُدير - بنون مصغرًا - وقيل: ابن زبير، وقيل: اسمه ندير بن قنفذ، ثقةٌ [2] وقيل: إن له صحبةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

7 -

(يُسَيْرُ) - بالتصغير - (ابْنُ جَابِرِ) بن عمرو، أو ابن جابر الكوفيّ، وقيل: أصله أُسير، فسُهّلت الهمزة، مختلف في نسبته، قيل: كِنْديّ، وقيل غير ذلك، ولى رؤية، ثقةٌ [2] مات سنة خمس وثمانين، وقيل: إن ابن جابر آخر تابعيّ (خ م قد س) تقدم في "الزكاة" 47/ 2470.

8 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ) رضي الله عنه، تقدّم قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى شيخيه، فالأول كوِفيّ، والثاني مروزيّ، وسوى ابن مسعود رضي الله عنه فكوفيّ، وفيه أربعة من التابعين روى بعضهم عن بعض؛ أيوب عن حميد، عن أبي قتادة، عن يسير، وأن صحابيّه رضي الله عنه من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ) - بضم الياء، وفتح السين المهملة - وفي رواية شيبان بن فروخ: عن أُسير بهمزة مضمومة، وهما قولان مشهوران في اسمه. (قَالَ: هَاجَتْ)؛ أي: هبّت (رِيحٌ حَمْرَاءُ) قال القرطبيّ رحمه الله: أي: شديدة، احمرّ بها السحاب، ويبست لها الشجر، وانكشفت الأرض، فظهرت حمرتها. انتهى

(1)

.

(بِالْكُوفَة، فَجَاءَ رَجُلٌ) لَمْ يُعرف اسمه، وقوله:(لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى) صفة لـ "رجل"، و"الهِجِّيرَى" بكسر الهاء، والجيم المشدّدة، مقصور الألف؛ أي: شأنه، ودأبه ذلك، والْهِجّيرى بمعنى الْهِجِّير، قاله النوويّ رحمه الله

(2)

.

(1)

"المفهم" 7/ 233.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 24.

ص: 327

وقال المجد رحمه الله. هذا هِجّيراهُ، وإِهْجِيراهُ، وإِهْجِيراؤُهُ - بالمدّ والقصر -، وهِجّيرُهُ، كَسِكِّيت، وأُهْجورَتُهُ بالضمّ، وهِجْرِيَّاه، وإِجريّاهُ؛ أي: دَأْبُهُ، وشأنُهُ، وعادته. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "هِجّيرًا" كذا رويته: "هِجّيرًا " على وزن فِعّيلًا، وهو تقييد أبي الفتح الشاشيّ، والتميميّ، وقيّدها العذريّ:"هِجّير" على وزن خَمّير، قال: وكلاهما لغة صحيحة، قال الجوهريّ: الْهِجِّير مثل الْفِسِّيق: الدأب، والعادة، وكذلك الْهِجِّيرَي، والإِهِجِيري، يقال: ما ؤال ذلك هِجِّيراه، وإِهْجيراه، وإِجْريّاه؛ أي: دأبه، وعادته

(2)

، قال غيره: وهِجِّيرى أفصحها. انتهى

(3)

.

(إِلَّا يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ)؛ أي: إلَّا هذا القول، والمعنى: أن ذلك الرجل جاء إلى مجلس ابن مسعود رضي الله عنه، وليس له كلام. إلَّا قوله: "يا عبد الله بن مسعود

إلخ"؛ أي: يكرّر، ويردّد هذا الكلام. (جَاءَتِ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، وإنما قال ذلك استدلالًا بتغيّر الجوّ بسبب الريح الحمراء. (قَالَ) يُسير:(فَقَعَدَ) ابن مسعود رضي الله عنه (وَكَانَ مُتَّكِئًا)؛ أي: مستندًا إلى، شيء، قال الفيّوميّ رحمه الله: اتَّكَأَ وزنه افتعل، ويُستعمل بمعنيين. أحدهما: الجلوس مع التمكن، والثاني: القعود مع تمايل معتمدًا على أحد الجانبين، وقال أيضًا: تَوَكَّأ على عصاه: اعتمد عليها، واتّكَأَ: جلس متمكِّنًا، وفي التنزيل:{وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]؛ أي: يجلسون، وقال:{وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31]؛ أي: مجلسًا يجلسن عليه، قال ابن الأثير: والعامة لا تعرف الاتكاءَ إلَّا الميل في القعود، معتمدًا على أحد الشقين، وهو يستعمل في المعنيين جميعًا، يقال: اتَّكأ: إذا أسند ظهره، أو جنبه إلى شيء، معتمدًا عليه، وكلّ من اعتَمَد على شيء، فقد اتَّكَأ عليه، وقال السَّرَقُسْطِيُّ، [أيضًا]: أَتْكَاتُهُ: أعطيته ما يتكئ عليه؛ أي: ما يجلس عليه، والتاء مبدلة من واو، والاسم: التُّكَأَةُ، مثالُ رُطَبَةٍ. انتهى

(4)

.

(1)

"القاموس المحيط" ص 637 بزيادة من "شرحه".

(2)

"الصحاح" ص 1088.

(3)

"المفهم" 7/ 233.

(4)

"المصباح المنير" 1/ 76، 2/ 671.

ص: 328

(فَقَالَ) ابن مسعود رضي الله عنه: (إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ) ظاهر هذا أن الحديث موقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، لكن سيأتي أنه إنما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول آخر الحديث: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم

إلخ"، فهو مرفوع، فتنبّه. (حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ)؛ أي: من كثرة المقتولين، وقيل: من كثرة المال، قال القاري: والأول أصحّ، كذا في "الأزهار"، وقيل: حتى يوجد وقت لا يُقسم فيه ميراث؛ لعدم من يعلم الفرائض، وأقول: لعل المعنى أنا يُرفع الشرع، فلا يقسم ميراث أصلًا، أو لا يقسم على وفق الشرع، كما هو مشاهد في زماننا، ويَحْتَمِل أن يكون معناه: أنه من قلة المال، وكثرة الفقراء، لا يُقسم ميراث بين الورثة، إما لعدم وجود شيء، أو لكثرة الديون المستغرقة، أو لأنَّ أصحاب الأموال تكون ظَلَمة، فيرجع مالهم إلى بيت المال، فلا يبقى لأولادهم نصيب في المال، ويؤيده قوله:(وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ) ببناء الفعل للمجهول؛ أي: ولا يفرح أحد بغنيمة إما؛ لعدم العطاء، أو ظلم الظَّلَمة، إما للغش والخيانة، فلا يتهنأ بها أهل الديانة. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا الله عنه: عندي أن معنى الحديث: أنه لا يُقسم ميراث بين الناس؛ لعدم من يرغب إليه حيث يُقتل الجيش إلَّا قليلًا؛ وكذا لا يُفرح بالغنيمة، لنفس المعنى، فهذا هو الذي يدلّ عليه آخر الحديث، كما سيأتي، فتأمله بالإمعان، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ قَالَ)؛ أي: أشار ابن مسعود رضي الله عنه (بِيَدِهِ هَكَذَا - وَنَحَّاهَا)؛ أي: وجهها (نَحْوَ الشَّأْمِ -)؛ أي: إلى جهة الشام (فَقَالَ: عَدُوٌّ) مبتدأ، سوّغه قصد الإبهام، أو وصفه بمقدّر؛ أي: عظيم، وخبره قوله:(يَجْمَعُونَ) جيشًا، وأسلحة، وَيحْتَمل أن يكون التقدير: هناك عدوّ (لأَهْلِ الْإِسْلَامِ)؛ أي: لمقاتلتهم، ووقع في بعض النُّسخ:"لأهل الشام" بدل "أهل الإسلام"، والمراد بهم المسلمون، (وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ)؛ أي: يستعدّون لهم بالجيش والأسلحة، قال يسير:(قُلْتُ) لابن مسعود: (الرُّومَ) بالنصب على أنه مفعول مقدّم لي (تَعْنِي)؛ أي: أتقصد بقولك: عدوّ يجمعون أهل الروم؟ (قَالَ) ابن

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 403.

ص: 329

مسعود: (نَعَمْ) إياهم أريد، (وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكمُ الْقِتَالِ) بين ذلك العدوّ وبين المسلمين، وقوله:(رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ) فاعل لمقدّر؛ أي: تقع كرّة قويّة، ورجعة كثيرة بعد الفرار، أو صولة شديدة، كما في "النهاية". (فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ)؛ أي: يقتطعون، ويُهَيِّؤون، ويُعِدّون، قال النوويّ رحمه الله: قوله: "فيشترط" ضبطوه بوجهين: أحدهما: "فيشترط" بمثناة تحتُ، ثم شين ساكنة، ثم مثناة فوقُ، والثاني:"فيتَشَرّط" بمثناة تحتُ، ثم مثناة فوقُ، ثم شين مفتوحة، وتشديد الراء. انتهى

(1)

.

(شُرْطَةً) بضم الشين، وسكون الراء: طائفة من الجيش، تتقدم للقتال، وتشهد الوقعة، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم كالعلامة للجيش

(2)

.

وقال المجد رحمه الله: الشّرْطَةُ بالضم: واحِدُ الشُّرَط، كصُرَدٍ، وهُمْ أولُ كَتِيبَةٍ تَشْهَدُ الحَربَ، وتَتَهَيَّأ للمَوْتِ، وطائِفَةٌ من أعوانِ الوُلَاةِ معروفة، وهو شُرْطِيٌّ، كتُرْكِيّ، وجُهَنِيّ، سمّوا بذلك؛ لأَنَّهُمْ أعْلَمُوا أنْفُسَهم بعَلَاماتٍ يُعْرَفُونَ بها. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الشرطة": بضم الشين، وهي هنا: أوّل طائفة من الجيش، تقاتل، ومنه الشّرطان لنجمين؛ لتقدّمهما أوّل الربيع، وقيل: إنهم سُمّوا بذلك؛ لعلامات يتميّزون بها، والأشراط: العلامات، وهذا هو الأعرف، ويحجز بينهم الليل؛ أي: يحول بينهم وبين القتال بسبب ظُلمته، والحاجز: هو الفاصل بين شيئين، ويفيء هؤلاء؛ أي: يرجع، ونَهَدَ إليهم؛ أي: تقدَّم، ومنه سمِّي الثدي؛ لأنَّه متقدّم في الصدر. انتهى

(4)

.

وقوله: (لِلْمَوْتِ) متعلّق بصفة لـ "شرطة"؛ أي: معدّة، ومهيّاة للموت، والمعنى أنهم يعزمون على هذه الطائفة أنَّها (لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً) على عدوّها، فإما أن تنتصر، وإما أن تموت.

وقال القاري: جملة "لا ترجع" صفة "شرطة" كاشفة، مبيّنة، موضحة،

(1)

"شرح النوويّ" 24/ 18.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 403.

(3)

"القاموس المحيط" ص 869.

(4)

"المفهم" 7/ 233.

ص: 330

والمعنى: أن المسلمين يبعثون مقدمتهم على أنَّ لا ينهزموا، بل يتوقفوا، ويثبتوا إلى أن يُقتَلوا، أو يَغلبوا. انتهى

(1)

.

(فَيَقْتِلُونَ)؛ أي: الفريقان من العدوّ الروم، ومن المسلمين (حَتَّى يَحْجُزَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، وكسره، من بابي نصر، وضرب؛ أي: يحول، ويمنع، (بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ)؛ أي: ظلامه، (فَيَفِيءُ)؛ أي: يرجع (هَؤُلَاءِ) المسلمون إلى معسكرهم، (وَهَؤُلَاءِ) الروم إلى معسكرهم، (كُلٌّ)؛ أي: كل واحد من الفريقين (غَيْرُ غَالِبٍ) لمقاتليه، واستشكل هذا مع قوله:(وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ) لأنه إذا فنيت الشرطةٍ: صارت مغلوبة، والأخرى غالبة، ويُجاب بأن عدم الغلبة إنما هو بالنسبة للعسكر العظيم، فإن هلاك الشرطة لا يستلزم كون العسكر مغلوب، والله تعالى أعلم.

(ثُمَّ يَشْتَرِطُ)؛ أي: يقتطع (الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً) ثانية (لِلْمَوْتِ)؛ أي: تتقدّم للقتال حتى تموت، (لَا تَرْجِعُ) إلى جيشها (إِلَّا غَالِبَةً) لعدوّها، (فَيَقْتَتِلُونَ) في اليوم الثاني (حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ)؛ أي: يرجع (هَؤُلَاء، وَهَؤُلَاء، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبا، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ) الثانية أيضًا. (ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ)؛ أي: يقتطعون للمرّة الثَّالثة (شُرْطَةً لِلْمَوْت، لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا)؛ أي: يدخلوا في المساء، (فَيَفِيءُ هَؤُلَاء، وَهَؤُلَاء، كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ) الثالثة، (فَإِذَا كَانَ) تامّة؛ أي: جاء (يَوْمُ الرَّابِعِ) هكذا النُّسخ بإضافة "يوم" إلى "الرابع"، فيكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، ووقع في مختصر القرطبيّ بلفظ:"اليوم الرابع"، وهو واضح. (نهيدَ) بفتح النون، والهاء؛ أي: نهض وتقدّم، والنهود في الأصل: الارتفاع، ومنه نهود الثديين. (إِلَيْهِمْ)؛ أي: إلى الروم الكَفّار، (بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ)؛ أي: ما تبقّى من الجيش بعد فناء تلك الشرطة، (فَيَجْعَلُ اللهُ الدَّبْرَةَ)؛ أي: الدائرة، والهزيمة، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "الدَّبْرة" كذا لكافّتهم، بالباء الموحّدة الساكنة، ورواه العذريّ:"الدائرة" ومعنا هما متقارب، قال الأزهريّ: الدائرة: الدولة تدور على الأعداء، والدَّبْرة:

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 403.

ص: 331

النصر، والظفر، يقال: لمن الدائرة؛ أي: الدولة، وعلى من الدّبْرة؛ أي: الهزيمة، قاله الهرويّ. انتهى

(1)

.

(عَلَيْهِمْ)؛ أي: على الروم الكفّار، (فَيَقْتُلُونَ) بالبناء للفاعل؛ أي: يقتل المسلمون الرومَ، وقوله:(مَقْتَلَةً) مفعول مطلق من غير بابه، أو بحذف زوائده، ونظيره قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، والمعنى: مقاتلة عظيمة، قال يسيرٌ:(إِمَّا قَالَ) ابن مسعود: (لَا يُرَى مِثْلُهَا) بلفظ: "لا"؛ أي: لا يُبصر في مستقبل الزمان مثل تلك المقتلة، (وَإِمَّا قَالَ) ابن مسعود:(لَمْ يُرَ مثْلُهَا)؛ أي: بلفظ "لَمْ" التي لنفي الماضي؛ أي: في الزمان الماضي، (حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ) بكسر الهمزة، وتفتح، قاله القاري. (لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ) بفتح الجيم، والنون؛ أي: نواحيهم، (فَمَا يُخَلِّفُهُمْ) من التخليف؛ أي: يجعلهم خلف، ظهره، ويتجاوزهم (حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا) لطول المسافة، والمراد: أنه يكثر القتلي، وتكون جنائزهم مبثوثة إلى مسافة بعيدة جدًّا، بحيث لو أراد طائر أن يطير في سائر ونواحيهم لا يستطيع ذلك في طيرانه الواحد، ولو فعل ذلك لخرّ ميتًا. وذلك لكون جثثهم تجاوزت إلى مسافة بعيدة مترامية الأطراف، أو لعدم تحمّله نتَنَهم.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "جنباتهم" بجيم، ثم نون، مفتوحتين، ثم باء موحّدة؛ أي: نواحيهم، وحكى القاضي عن بعض رواتهم:"بجثمانهم" بضم الجيم، وإسكان المثلثة؛ أي: شخوصهم، وقوله:"فما يخلفهم" هو بفتح الخاء المعجمة، وكسر اللام المشدّدة؛ أي: يجاوزهم، وحكى القاضي عن بعض، رواتهم:"فما يلحقهم"؛ أي: يلحق آخرهم. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بجنباتهم" كذا رواية الجماعة، وهي جمع جنَبة، وهي الجانب، ووقع لبعضهم:"بجثمانهم"؛ أي: بأشخاصهم، والجثمان، والآل، والطلَل، والشخص، كلّها بمعنى، فأمَّا الجثّة فتقال على، الجالس، والنائم. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 234.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 234.

(3)

"المفهم" 7/ 234.

ص: 332

وقال القاري رحمه الله: قوله: "حتى إن الطائر ليمرّ"؛ أي: ليريد المرور "بجنباتهم"؛ أي: بنواحيهم، "فما يخلفهم" بكسر اللام المشدّدة، من خَلَّفت فلانًا ورائي: إذا جعلته متأخرًا عنك، والمعنى: فلا يجاوزهم، "حتى يخر" بكسر معجمة وتشديد راء؛ أي: حتى يسقط الطائر "ميتًا" بتشديد التحتية، ويخفف.

وقال المظهر رحمه الله: يعني: يطير الطائر على أولئك الموتى، فما يصل إلى آخرهم حتى يخرّ، ويسقط ميتًا من نتنهم، أو من طول مسافة مَسقط الموتى.

وقال الطيبيّ: والمعنى الثاني ينظر إلى قول البحتري في وصف بِرْكَة:

لَا يَبْلُغُ السَّمَكُ الْمَحْصُورُ غَايَتَهَا

لِبُعْدِ مَا بَيْنَ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا

(1)

(فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ كَانُوا مِائَةً، فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ) المعنى: أن جماعة من الذين حضروا القتال، وكانوا أبناء أب واحد، أو جدّ واحد يريدون أن يعدّوا أنفسهم، فلا يجدون من بقي منهم إلَّا واحدًا في مائة، ويجدون باقيهم مقتولين.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "فيتعاد" بصيغة المعلوم، وقيل: بالمجهول، من باب التفاعل، والمعنى يَعُدّ بنو الأب؛ أي: جماعة حضروا تلك الحرب كلهم أقارب، كانوا مائة، فلا يجدونه الضمير المنصوب لمائة، بتأويل المعدود، أو العدد؛ أي: فلا يجدون عددهم، أو لبني الأب؛ لأنه ليس بجمع حقيقةً لفظًا، بل معنى، كذا قيل، والحاصل أن بني الأب بمعنى القوم، والقوم مفرد اللفظ جمع المعنى، فَرُوعِيَ كلٌّ منهما، حيث قال:"فلا يجدونه بقي منهم إلَّا الرجل الواحد"، وخلاصة المعنى: أنهم يَشرَعون في عدّ أنفسهم، فيشرع كل جماعة في عدّ أقاربهم، فلا يجدون من مائة إلَّا واحدًا، وزُبدته أنه لَمْ يبق من مائة إلَّا واحد. انتهى

(2)

.

(فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ) بالبناء للمفعول، (أَوأَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ) بالبناء للمفعول أيضًا، قال القاري: قوله: "فبأي غنيمة يُفرح" الفاء تفريعية، أو فصيحية، قال الطيبيّ رحمه الله: هو جزاء شرط محذوف، أُبْهِم أَوّلًا في قوله: "إن

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3428.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 403.

ص: 333

الساعة لا تقوم - حتى لا يُقسَم ميراث، ولا يُفرَح بغنيمة" حيث أطلقه، ثم بيّنه بقوله: "عَدُوٌّ يَجمَعون

إلخ" بأن ذلك مقيّد بهذه الصفة، فحينئذ يصحّ أن يقال: فإذا كان كذلك، فبأي غنيمة يُفرَح، أوأيّ ميراث، والظاهر أنه بالرفع؛ أي: فأيّ ميراث يُقسم، و"أو" للتنويع، وفي النسخ بالجرّ، فالمعنى: فبأيّ ميراث تقع القسمة، وتأخير الميراث مع تقدمه سابقًا نظيره قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] الآية

(1)

.

(فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا)؛ أي: المسلمون، (بِبَأْسٍ) بموحّدة، وهمزة ساكنة، وتبدل؛ أي: بحرب شديد.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إذ سمعوا بناس هم أكثر" بِنون، وسير، مهملة، كذا للعذريّ، وكذا قرأته، وعند غيره:"بباس" بباء موحّدة، و"أكبر" بباء موحدة أيضًا، وهو الحرب الشديد، والأمر الهائل، قال بعض المشايخ: وهو الصواب، وتصححه رواية أبي داود:"إذ سمعوا بأمر أكبر من ذلك"

(2)

.

(هُوَ أَكْبَرُ)؛ أي: أعظم (مِنْ ذَلِكَ)؛ أي: مما سبق، والمراد بالبأس: أهله، (فَجَاءَهُمُ)؛ أي: المسلمين، (الصَّرِيخُ) فَعِيل من الصُّراخ، وهو الصوت. أي: صوت المستصرخ، وهو المستغيث، (إِنَّ الدَّجَّالَ) بفتح "أن"، ويكسر، (قَدْ خَلَفَهُمْ) بتخفيف اللام؛ أي: قعد مكانهم (فِي ذَرَارِيِّهِمْ) بتشديد الياء؛ أي: أولادهم، وفي رواية:"في أهليهم"(فَيَرْفُضُونَ)، بضم الفاء، وكسرها، من بابي نصر، وضرب؛ أي: يتركون، ويلقون (مَا فِي أَيْدِيهِمْ)؛ أي: من الغنيمة، وسائر الأموال؛ فزعًا على الأهل، والعيال، (وَيُقْبِلُونَ) من الإقبال؛ أي: ويتو جهون إلى الدجال، (فَيَبْعَثُونَ)؛ أي: يرسلون (عَشْرَ فَوَارِسَ) جمع فارس؛ أي: رجل راكبِ فرسٍ، وهو جمع غير قياسيّ؛ لأنَّ فَوَاعِل لا يكون جمعًا لوصف على فاعل؛ إذا المذكّر عاقل، وإنما يجمع المؤنّث، كحائض، أو المذكر غير العاقل، كصاهل، كما أشار إلى ذلك في "الخلاصة" بقوله:

فَوَاعَلٌ لِفَوْعَلِ وَفَاعَلِ

وَفَاعِلَاءَ مَعَ نَحْوِ كَاهِلِ

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 403.

(2)

"المفهم" 7/ 234.

ص: 334

وَحَائِضٍ وَصَاهِلٍ وَفَاعِلَهْ

وَشَذَّ فِي الْفَارِسِ مَعْ مَا مَاثَلَهْ

حال كون العشرة (طَلِيعَةً) هو من يُبعث لِيَطَّلع على حال العدوّ، كالجاسواس، فعيلة بمعنى فاعلة، يستوي فيه الواحد، والجمع. وإنما قال:"عشر" نظرًا إلى أن الفوارس طلائع، قاله القاري؛ يعني: أنه إنما ذكّر العدد؛ لكون معنى المعدود مؤنّثًا، وهو الطلائع، جمع طليعة، فيذكّر العدد له، ووقع في معظم نُسخ "صحيح مسلم" بلفظ:"عشرة فوارس" نظرًا للفظ الفوارس؛ لأنه جمع فارس، وهو مذكّر، فيؤنّث العدد له، فتنبّه، وإلى هذه القاعدة أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيثما قال:

ثَلَاثَةً بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ

فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ

فِي الضدِّ جَرِّدْ وَالْمُمَيِّزَ اجْرُرِ

جَمْعًا بِلَفْظِ قِلَّةٍ فِي الأَكْثَرِ

(قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم) هذا هو الذي قدّمت أنه دليل على أنَّ الحديث مرفوع، وليس موقوفًا على ابن مسعود رضي الله عنه، فتنبّه. ("إِنِّي لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ)؛ أي: أسماء العشرة (وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ) فيه مع كونه من المعجزات دلالةٌ على أنَّ علمه تعالى محيط بالكليات، والجزئيات، من الكائنات، وغيرها. (هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ) احتراز من الملائكة. (يَوْمَئِذٍ)، وقوله:(أَو مِنْ خَيرِ فَوَارِسَ) الظاهر أن "أو" هنا للشكّ من الراوي، ابن مسعود، أو من دونه، والله تعالى أعلم. (عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ").

وقوله: (قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ) غرضه منه بيان اختلاف شيخيه: ابن أبي شيبة، وعليّ بن حجر، فقال عليّ:"يسير بن جابر" بالياء، وقال ابن أبي شيبة:"أسير بن جابر" بالهمزة بدل الياء، وقد ذكرت هذا الاختلاف، في ترجمته، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [11/ 7253 و 7254 و 7255](2899)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20812)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(392)،

ص: 335

و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 138 - 139)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 384 - 385 و 435)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 164 و 259)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6786)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 476 - 477)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4247) وفوائده تُعلم مما سبق، والله تعالى أعلم،

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7254]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَهَبَّتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِه، وَحَدِيثُ ابْنُ عُلَيَّةَ أَتَمُّ، وَأَشْبَعُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيُّ) هو: محمد بن عُبيد بن حِسَاب - بكسر الحاء، وتخفيف السين المهملتين - الْغُبَريّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 238)(م د س) تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: قوله: "الْغُبَريّ" - بضم المعجمة، وتخفيف الموحّدة المفتوحة -: نسب إلى غُبَر بن غَنْم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، بطن من يشكر، قاله في "اللباب"

(1)

.

2 -

(حَمَّادُ بْنُ زيدٍ) أبو إسماعيل البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ) فاعل "ساق" ضمير حمّاد بن زيد.

[تنبيه]: رواية حماد بن زيد عن أيوب السختيانيّ هذه لَمْ أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7255]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي: ابْنَ الْمُغِيرَةِ - حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ - يَعْنِي: ابْنَ هِلَالٍ - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 374.

ص: 336

قَالَ: كُنْتُ

(1)

فِي بَيْتِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَالْبَيْتُ مَلَآنُ، قَالَ: فَهَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ) أبي شيبة الْحَبَطيّ الأُبُلّيّ، أبو محمد صدوقٌ يَهِم، ورُمي بالقدر، قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا، من صغار [9](5 أو 236) وله بضع وتسعون سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 12/ 157.

2 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ) الْقَيسيّ مولاهم البصريّ، أبو سعيد، ثقةٌ ثقةٌ، قاله يحيى بن معين [7] أخرج له البخاريّ مقرونًا، وتعليقًا (165)(ع) تقدم في "الإيمان" 3/ 111.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوا": (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ) فاعل "ذكر" ضمير سليمان بن المغيرة.

أتنبء]: رواية سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال هذه لَمْ أجد من ساقها، فلينظر، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(12) - (بَابُ مَا يَكُونُ مِنْ فُتُوحَاتِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ الدَّجَّالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7256]

(2900) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ، عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فَوَافَقُوهُ عِنْدَ أَكَمَةٍ، فَإِنَّهُمْ لَقِيَامٌ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ، قَالَ فَقَالَتْ لِي نَفْسِي: ائْتِهِمْ، فَقُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، لَا يَغْتَالُونَهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ: لَعَلَّهُ نَجِيٌّ مَعَهُمْ، فَأَتَيْتُهُمْ، فَقُمْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، قَالَ: فَحَفِظْتُ مِنْهُ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ، أَعُدُّهُنَّ فِي يَدِي،

(1)

وفي نسخة: "كنا".

ص: 337

قَالَ: "تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَب، فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ، فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ، فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ، فَيَفْتَحُهُ

(1)

اللهُ"، قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْن سَعِيدٍ) تقدّم قبل بابين.

2 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد الضبيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرِ) بن سُويد اللَّخْميّ، حليف بني عديّ الكوفيّ، ويقال له: الفَرَسيّ بفتح الفاء والراء، ثم مهملة: نسبة إلى فرس له سابقٍ، كان يقال له: الْقِبْطيّ بكسر القاف، وسكون الموحّدة، وربما قيل ذلك أيضًا لعبد الملك، ثقةٌ فصيح، عالم، تغيّر حفظه، وربما دلّس [4](ت 136) وله مافة وثلاث سنين (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 296.

4 -

(جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ) بن جُنادة - بضم الجيم، بعدها نون - السُّوائيّ - بضم المهملة، والمدّ - الصحابي ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، نزل الكوفة، ومات بها بعد سنة سبعين (ع) تقدم في "الحيض" 24/ 808.

5 -

(نَافِعُ بْنُ عُتْبَةَ) بن أبي وقّاص بن أهيب بن عبد مناف بن زُهْرة الزهريّ، صحابيّ أسلم يوم الفتح، وروى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث الباب فقط، وروى عنه جابر بن سمرة، وهو ابن عمته، ومات أبوه قبل الفتح كافرًا.

تفرّد به المصنّف، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلَّا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن صحابيّه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلَّا هذا الحديث، عند مسلم، وابن ماجه

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "فيفتحها الله".

(2)

راجع: "تحفة الأشراف" 9/ 4.

ص: 338

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعِ بْنِ عُتْبَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ) لَمْ تُسمّ هذه الغزوة. (قَالَ) نافع: (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ)؛ أي: جهة مغرب، المدينة، (عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ) هي لباس أهل البادية، والجملة في محل نَصْب على الحال، (فَوَافَقُوهُ) قال القرطبيّ: وقفوا أمامه، فوقف لهم، أو استدعوا منه ذلك، (عِنْدَ أَكَمَةٍ) بفتحات: هي القطعة الغليظة من الرمل، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الأَكَمَةُ: تَلّ، وقيل: شُرْفةٌ كالرابية، وهو ما اجتَمَع من الحجارة في مكان واحد، ورُبّما غَلُظ، وربما لَمْ يَغْلَظ، والجمع أَكَمٌ، وأَكَمَاتٌ، مثلُ قَصَبَةٍ، وقَصَبٍ، وقَصَبَاتٍ، وجمع الأَكَمِ إِكَامٌ، مثلُ جَبَل وجِبال، وجمع الإِكَامِ أُكُمٌ، بضمتين، مثلُ كِتاب وكُتُب، وجمع الأُكُمِ آكَامٌ، مثلُ عُنُق وأَعناق. انتهى

(2)

.

(فَإِنَّهُمْ لَقِيَامٌ)؛ أي: قائمون على أقدامهم أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ) أمامهم. (قَالَ) نافع بن عُتبة:(فَقَالَتْ لِي نَفْسِي)؛ أي: حدّثتني نفسي، فقال لي:(ائْتِهِمْ)؛ أي: جئهم (فَقُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ) صلى الله عليه وسلم (لَا يَغْتَالُونَهُ)؛ أي: لئلا يقتلونه صلى الله عليه وسلم غِيلة، وهي القتل في غفلة، والمعنى أن نافعًا رضي الله عنه حدّث نفسه بأنه ينبغي له أن يأتي القوم، فيحجز بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم من أجلاف البوادي، فيُخشى أن يقتلوه غِيلة. (قَالَ) نافع:(ثُمَّ قُلْتُ) لنفسي: (لَعَلَّهُ)؛ أي: لعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم (نَجِيٌّ مَعَهُمْ)؛ أي: مُناجٍ؛ أي: متحدّث مع هؤلاء القوم سرًّا، ولا يريد أن أطّلع على سرّه، لكنه وجح عنده الإتيان؛ لشدّة خوفه منهم عليه صلى الله عليه وسلم، كما قال:(فَأَتَيْتُهُمْ)؛ أي: القوم، (فَقُمْتُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ) صلى الله عليه وسلم؛ ليحفظه، وإنما وجح لديه الإتيان مع خوفه أن يكون مناجيًا لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديثه معهم سرًّا لا يريد أن يطَّلع عليه غيرهم لمنعه من القيام بينهم وبينه، فلمّا لَمْ يمنعه ظهر أن مناجاته ليست سرًّا من الأسرار. (قَالَ) نافع:(فحَيفِظْتُ) بكسر الفاء، من باب عَلِمَ، (مِنْهُ)؛ أي: من النبيّ صلى الله عليه وسلم (أَرْبَعَ

(1)

"المفهم" 7/ 237.

(2)

"المصباح المنير" 1/ 18.

ص: 339

كَلمَاتٍ)؛ أي: أربع جُمَل، ففيه إطلاق الكلمة على الكلام، كما ابن مالك في "الخلاصة":

وَكِلْمَةٌ بِهَا كَلَامُ قَدْ يُؤَمّ

وقوله: (أَعُدُّهُنَّ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من باب نصر؛ أي: أُحصي تلك الكلمات الأربع (فِي يَدِي) إنما فعل ذلك ليضبطهنّ، ولا ينساهنّ. (قَال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:("تَغْزُونَ) أيَّتُها الأمة (جَزِيرَةَ الْعَرَبِ) قد سبق تفسيرها وتحريرها، ومجمله على ما حُكي عن مالك: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن، فالمعنى بقية الحزيرة، أو جميعها، بحيث لا يُترك كافر فيها، قاله القاري رحمه الله

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: جزيرة العرب: أرضهم التي نشؤوا فيها، وسمّيه، جزيرة؛ لأنَّها مجزورة بالبحار والأنهار؛ أي: مقطوعة بها، والجزر: هو القطع، وقيل: لأنَّها جُزرت بالبحار التي أحدقت بها، وقد تقدَّم القول فيها في "الجهاد"

(2)

.

(فَيَفْتَحُهَا اللهُ) قال القرطبيّ رحمه الله: هذا الخطاب وإن كان لأولئك القوم الحاضرين، فالمراد هم ومن كان على مثل حالهم، من الصحابة، والتابعين الذين فُتحت بهم تلك الأقاليم المذكورة، ومن يكون بعدهم من أهل هذا الدين الذين يقاتلون في سبيل الله تعالى إلى قيام الساعة. ويرجع معنى هذا الحديث إلى الحديث الآخر الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على إلى حقّ، ظاهرين، لا يضرّهم من خذلهم إلى قيام الساعة"، رواه أحمد، والترمذيّ

(3)

.

(ثُمَّ) تغزون (فَارِسَ) جيل من الناس معروف، أو اسم لبلادهم، (فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ) تقدّم قريبًا، (فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ، فَيَفْتَحُهُ اللهُ") وفي نسخة: "فيفتحها الله"، قال القرطبيّ رحمه الله: وقد وقع في بعض النسخ: "فيفتحه" بضمير المذكر، فيَحْتَمِل أنه يعني بذلك: قَتْل الدجال نفسهِ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 51.

(2)

"المفهم" 7/ 238.

(3)

"المفهم" 7/ 237.

ص: 340

الذي يكون على يدي عيسى ابن مريم عليه السلام، كما تقدَّم، وكما يأتي، ويَحْتَمِل أن يعود على ملكه، ووجدته في أصل الشيخ:"فيفتحها الله"، بضمير المونّث، فيعني بذلك مملكته، أو أرضه التي يَغلب عليها. انتهى

(1)

.

(قَالَ) جابر بن سمرة: (فَقَالَ نَافِعٌ)؛ أي: ابن عتبة: (يَا جَابِرُ لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ)؛ يعني: أن خروج الدجال لا يكون لَا بعد فتح الروم؛ لِمَا دلّ عليه هذا الحديث.

والحديث أيضًا من معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر بما سيقع بعده، وقد وقع بعضا"، وسيقع الباقي أيضًا؛ لأنه خبره حقّ لا يتخلّف؛ لأنه لا ينطق عن الهوي، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث نافع بن عتبة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [12/ 7256](2900)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4091)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 337 و 338)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 146 - 147)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 426)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(4/ 93)، و (ابن قانع) في "معجم الصحابة"(3/ 139)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6672 و 6809)، وعلّقه (البخاريّ) في "التاريخ الكبير"(8/ 81 - 82)، والله تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(13) - (بَابٌ فِي الآيَاتِ الَّتى تَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ)

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7257]

(2901) - (حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ - وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ - قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ

(1)

"المفهم" 7/ 238.

ص: 341

الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّاز، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الْغِفَارِيّ، قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: "مَا تَذَاكَرُونَ؟

(1)

"، قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قَالَ: "إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ

(2)

قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ"، فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّالَ، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ: خَسْفٌ بِالْمَشْرِق، وَخَسْف بِالْمَغْرِب، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَن، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابَن راهويه الحنظليّ المروزيّ، تقدّم أيضًا، قريبًا.

3 -

(ابْنُ أبِي عُمَرَ الْمَكَّيُّ) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المَكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) أبو محمد الكوفيّ، ثم المكيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

5 -

(فُرَاتٌ الْقَزَّازُ) ابن أبي عبد الرَّحمن الكوفيّ، ثقةٌ [5](ع) تقدم في "الصلاة" 28/ 976.

6 -

(أبو الطُّفَيْلِ) عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثيّ، ورُبّما سُمي عمرًا، وُلد عام أحد، ورأى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عن أبي بكر، فمن بعده، وعُمِّر إلى أن مات سنة عشر ومائة على الصحيح، وهو آخر من مات من الصحابة رضي الله عنهم، قاله مسلم وغيره (ع) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 7/ 1631.

7 -

(حُذَيْفَةُ بْنُ أَسِيدٍ) - بفتح الهمزة - (الْغِفَارِيُّ) أبو سَرِيحة - بمهملتين، مفتوح الأول - الصحابيّ، من أصحاب الشجرة، مات سنة اثنتين وأربعين (م 4) تقدم في "القدر" 1/ 6702.

(1)

وفي نسخة: "ما تذكرون".

(2)

وفي نسخة: "حتى تروا".

ص: 342

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيات المصنف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم، ثم فضل؛ لِمَا أسلفته غير مرَّة، وفيه رواية صحابيّ عن صحابيّ، وأن أبا الطفيل آخر من مات من الصحابة على الإطلاق، وأن حذيفة رضي الله عنه من المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلَّا نحو خمسة أحاديث، وليس له في البخاريّ رواية أصلًا

(1)

، والله تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) بفتح الهمزة (الْغِفَارِيِّ) بكسر الغين المعجمة، وتخفيف الفاء: نسبة إلى غِفار بن مُليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، كما قاله في "اللباب"

(2)

. (قَالَ) حُذيفة رضي الله عنه: (اطّلعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) بتشديد الطاء، أصله اطتلع، فأُبدلت تاء الافتعال طاء؛ لوقوعها بعد حرف الإطباق، وهو الطاء، كما قال في "الخلاصة":

طَا تَا افْتِعَالٍ رُدَّ إِثْرَ مُطْبَقِ

فِي ادَّانَ وَازْدد وَادَّكر دالًا بَقِي

أي: أشرف النبيّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْنَا) معاشر الصحابة (وَ) الحال (نَحْنُ نَتَذَاكَرُ)؛ أي: نتدارس شأن الساعة. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("مَا تَذَاكَرُونَ؟ ") أصله تتذاكرون، فحُذفت منه إحدى التاءين؛ تخفيفًا، كما في {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، و" {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّبنُ الْعِبَرْ"

ووقع في بعض النسخ: "ما تذكرون؟ "(قَالُوا)؛ أي: الصحابة المسؤولون، وفيه التفات؛ إذ الأصل أن يقول: قلنا: (نَذكُرُ السَّاعَةَ)؛ أي: أمر القيامة، واحتمال قيامها في أي ساعة من الساعات. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("إِنَّهَا)؛ أي: الساعة التي تتذاكرونها، ويَحْتَمِل أن تكون "ها" ضمير القصّة، وهو ضمير الشأن؛ أي: إن الشأن والقصّة، والأول أقرب. (لَنْ تَقُومَ) الساعة (حتَّى تَرَوْنَ)

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 3/ 19 - 21.

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 387.

ص: 343

وفي بعض النسخ: "حتى تروا" بحذف النون، وهو الوجه؛ لأنَّ ما بعد حتى يُنصب "أن" مضمرة وجوبًا بعدها؛ إذا كان مستقبلًا، كما هنا، قال في "الخلاصة":

وَتِلْوَ "حَتَّى" حَالًا أَو مؤَوَّلَا

بِهِ ارْفَعَنَّ وَانْصِبِ الْمُسْتَقْبَلَا

(قَبْلَهَا)؛ أي: قبل قيام الساعة (عَشْرَ آيَاتٍ)؛ أي: علامات، وإنما اقتصر عليها مع أن الآياتِ أكثر من ذلك بكثير كما في أخبار أخرى؛ لأنها أكبرها

(1)

. (فَذَكَرَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيات تلك العشر (الدُّخَانَ) بالتخفيف، بدل ممن عشرًا، أو خبر مبتدأ محذوف، وقال الطيبيّ: هو الذي ذكر في قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، وذلك كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى. ويؤيده ما قال ابن مسعود رضي الله عنه، وهو عبارة عما أصاب قريشًا من القحط، حتى يُرَى الهواء لهم كالدخان، لكن قال حذيفة: هو على حقيقته؛ لأنه سئل عنه، فقال:"يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلة، والمؤمن يصير كالزكام، والكافر كالسكران"، فقوله: يصير كالزكام" أي: كصاحب الزكام، أو مصدر بمعنى المفعول؛ أي: كالمزكوم، أو هو من باب المبالغة، كرجل عدل

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هذا الحديث يؤيد قول من قال: إن الدخان دخان يأخذ بأنفاس الكفار، ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام، وأنه لَمْ يأت بعدُ، وإنما يكون قريبًا من قيام الساعة، وقد سبق في "كتاب بدء الخلق" قول من قال هذا ا، وإنكار أكبر، مسعود عليه، وأنه قال: إنما هو عبارة عما نال قريشًا من القحط، حتى كانوا يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان، وقد وافق ابن مسعود جماعةٌ، وقال بالقول الآخر حذيفة، وابن عمر، والحسن، ورواه حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يمكث في الأرض أربعين يومًا، ويَحْتَمِل أنهما دخانان؛ للجمع بين هذه الآثار. انتهى

(3)

.

(وَالدَّجَّالَ) من الدّجْل، وهو السحر؛ أي: المسيح، فإنه سَيّاح يقطع

(1)

"فيض القدير" 2/ 344.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 103 - 104.

(3)

"شرح مسلم" 28/ 18.

ص: 344

نواحي الأرض في زمن قليل. (وَالدَّابَّةَ) التي تجلو وجه المؤمن بالعصى، وتَخْطم أنف الكافر، قال النوويّ رحمه الله: هي الدابّة المذكورة في قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ} الآية [النمل: 82]، قال المفسرون: هي دابة عظيمة تخرج من صَدْع في الصفا، وعن ابن عمرو بن العاص أنها الجساسة المذكورة في حديث الدجال. انتهى

(1)

.

قيل: للدابة ثلاث خرجات: أيام المهدي، ثم أيام عيسى عليه السلام، ثم بعد طلوع الشمس من مغربها، ذكره ابن الملك

(2)

.

(وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) قال المناويّ: لا يقدح فيه قول الهيوليين: إن الفلكيات بسيطة لا تختلف، ولا يتطرق إليها خلاف ما هي عليه؛ لأنه لا مانع من انطباق منطقة البروج على معدل النهار، بحيث يصير المشرق مغربًا، وعكسه

(3)

، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} [الحشر: 6].

(وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم) من السماء إلى الأرض حَكَمًا عدلًا؛ أي: المنضم إلى ظهور المهدي الأعظم، فهو من باب الاكتفاء، وسيأتي عند مسلم في "باب ذكر الدجّال" من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه مرفوعًا:"فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق، بين مهرودتين، واضعًا كفيه على أجنحة ملكين؛ إذا طأطأ رأسه قَطَر، وإذا رفعه تحدّر منه جُمان كاللؤلؤ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلَّا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طَرْفه، فيطلبه، حتى يدركه بباب لُدّ، فيقتله. . ." الحديث.

وفرب"النهاية": "لُدّ" هو موضع بالشام، وقيل: بفلسطين، وفي "القاموس":"لُدّ" بالضم قرية بفلسطين، يَقتل عيسى عليه السلام الدجال عند بابها. انتهى.

(وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) بألف فيهما، وبهمزة؛ أي: سدّهما، وخروجهما منه، وقد تقدّم الكلام فيهما مستوفًى. (وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ) معنى خسف المكان: ذهابه في الأرض، وغيوبته فيها

(4)

، قيل: قد وُجد الخسف في مواضع، لكن يَحْتَمِل

(1)

شرح مسلم" 18/ 28.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 104.

(3)

"فيض القدير" 2/ 344.

(4)

"فيض القدير" 2/ 344.

ص: 345

أن يكون المراد بالخسوف الثلاثة قدرًا زائدًا على ما وُجد، كأن يكون أعظم مكانًا، وقدرًا

(1)

. (خَسْفٌ بِالْمَشْرِق، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِب، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ) قال القاري رحمه الله: بالرفع في الثلاثة على تقدير أحدُها، أو منها، ولو رُوي بالجرّ لكان له وجه من البدلية. انتهى

(2)

.

قال المناويّ: جزيرة العرب هي: مكة، والمدينة، واليمامة، واليمن، علر، ما حُكي عن مالك رحمه الله سُميت به؛ لأنه يحيط بها بحر الهند، وبحر القُلزُم، ودجلة، والفرات. انتهى

(3)

.

(وَآخِرُ ذَلِكَ)؛ أي: ما ذُكر من الآيات، (نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ) وفي رواية "تخرج من أرض الحجاز"، قال القاضي عياض: لعلها ناران، تجتمعان، تحشران الناس، أو يكون ابتداء خروجها من اليمن، وظهورها من الحجاز، ذكره القرطبيّ رحمه الله. ثم الجمع بينه وبين ما في البخاريّ من أن أول أشراط الساعة نار تخرج من المشرق إلى المغرب، بأن آخريتها باعتبار ما ذُكر من، الآيات، وأوليتها باعتبار أنَّها أول الآياتِ التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلًا، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذُكر معها، فإنه يبقى مع كل آية منها أشياء من أمور الدنيا، كذا ذكره بعض المحققين

(4)

.

(تَطْرُدُ)؛ أي: تسوق تلك النار (النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ) بفتح الشين،

وتكسر؛ أي: إلى مجمعهم، وموقفهم، قيل: المراد من المحشر: أرض الشام؛ إذ صحّ في الخبر أن الحشر يكون في أرض الشام، لكن الظاهر أن المراد أن يكون مبتدؤه منها، أو تجعل واسعة تَسَعُ خَلْق العالم فيها.

وقال المناويّ رحمه الله: "إلى محشرهم"؛ أي: محل حشرهم للحساب، وهو الشام، قال الخطابيّ: هذا قبل قيام الساعة، يُحشر الناس أحياءً إلى الشام، بدليل قوله:"تبيت معهم حيث باتوا، وتَقيل معهم حيث قالوا"، وهذا الحشر آخر الأشراط، كما في هذا الحديث، وما ورد مما يخالفه مؤَّول.

وقال الحافظ رحمه الله: ويترجح من مجموع الأخبار أن أول الآياتِ المُؤْذِنة

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 104.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 104.

(3)

"فيض القدير" 2/ 344.

(4)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 104.

ص: 346

بتغيير أحوال العالم الأرضي: الدجال، فنزول عيسى عليه السلام، فخروج يأجوج ومأجوج، وكلها سابقة على طلوع الشمس، وأولها المُؤْذِن بتغيير أحوال العالم العلويّ: طلوع الشمس، وخروج الدابة في يومه، أو يقرب منه، وأول أشراط الساعة: نار تخرج من المشرق. انتهى.

قال الجامع عفا الله عنه: رَمَزَ بعضهم لترتيب هذه الآياتِ بقوله: "مَدْعِي طَد"، فالميم المهديّ، والدال الدجّال، والعين عيسى عليه السلام، والياء يأجوج ومأجوج، والطاء طلوع الشمس من مغربها، والدال الأخيرة دابّة الأرض، والله تعالى أعام.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حُذيفة بن أَسِيد رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: هذا الإسناد مما استدركه الدارقطنيّ، وقال: ولم يرفعه غير فرات عن أبي الطفيل، من وجه صحيح، قال: ورواه عبد العزيز بن رُفيع، وعبد الملك بن ميسرة، موقوفًا. هذا كلام الدارقطنيّ، وقد ذكر مسلم رواية ابن رفيع موقوفةً كما قال، ولا يقدح هذا في الحديث، فإن عبد العزيز بن رفيع ثقةٌ حافظ متَّفقٌ على توثيقه، فزيادته مقبولة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله.

قال الجامع عفا الله عنه: جواب النوويّ عن مسلم فيما اعتُرض عليه صحيح، لكن قوله: "فإن عبد العزيز

إلخ" سهو منه، أو من النسّاخ، فإن الذي رَفَعه هو فرات القزّاز، كما كلام الدراقطنيّ، وأما عبد العزيز فقد وقفه، فتنبّه.

ومما يؤيّد الرفع دون الوقف أن له شواهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال ستًّا. . ." الحديث يأتي في مسلم.

ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن أول الآياتِ خروجًا طلوع الشمس. . ." الحديث يأتي لمسلم، وغير ذلك

(1)

.

(1)

راجع ما كتبه الشيخ ربيع المدخليّ حفظه الله تعالى في دراسته ص 435 - 437.

ص: 347

والحاصل: أن الحديث صحيح مرفوعًا، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [13/ 7257 و 7258 و 7259 و 7260 و 7261](2901)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4311)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2183)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 424)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4041)، و (ابن المبارك) في "الزهد"(1/ 560)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 6 و 7)، و (الحميديّ) في "مسنده"(827)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1067)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 163)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6791 و 6843)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(3029 و 3030 و 3031 و 3032 و 3033)، و (الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(2/ 258)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(1/ 355)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 917 و 919)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4250)، والله تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع من أشراط الساعة الكبرى، وهي هذه العشرة:"الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك، نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم".

2 -

(ومنها): ما قيل: إن أول الآياتِ الدخان، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، ثم طلوع الشمس من مغربها، فإن الكفار يُسْلِمون في زمن عيسى عليه السلام حتى تكون الدعوة واحدة، ولو كأنه، الشمس طلعت من مغربها قبل خووج الدجال، ونزوله، لَمْ يكن، الإيمان مقبولًا من الكفار، فالواو لمطلق الجمع، فلا يرد أن نزوله قبل، طلوعها، ولا ما ورد أن طلوع الشمس أول الآياتِ.

وقال في "فتح الودود": قيل: أول الآياتِ الخسوفات، ثم خروج الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم الريح التي، تقبلض عندها أرواح أهل الإيمان، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها، ثم تخرج دابة الأرض، ثم يأتي الدخان.

ص: 348

قال صاحب "فتح الودود": والأقرب في مثله التوقف، والتفويض إلى عالمه. انتهى

(1)

.

وذكر القرطبي في "تذكرته" مثل هذا الترتيب، إلَّا أنه جعل الدجال مكان الدخان.

وذكر البيهقي عن الحاكم مثل ترتيب القرطبيّ، وجعل خروج الدابة قبل طلوع الشمس من مغربها، فالظاهر، بل المتعيّن هو ما قال "صاحب فتح الودود" من أن الأقرب في مثله هو التوقف، والتفويض إلى عالمه

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: ما أجود هذا التحقيق، فالواجب على العاقل في مثل هذه النصوص تفويض تفاصيلها، وحقائقها إلى من أنزلها إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم الذي جعل الله عز وجل بيان ما أنزله إليه، فقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} الآية [النحل: 44]، فهو صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد الله من غيره بلا شكّ ولا ريب، والله تعالى أعلم.

3 -

(ومنها): أنه يؤخذ من إثبات طلوع الشمس من مغربها الردّ على أصحاب الهيئة، ومن وافقهم أن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة، لا يختلف مقتضياتها، ولا يتطرق إليها تغيير ما هي عليه، قال الكرمانيّ رحمه الله: وقواعدهم منقوضة، ومقدماتهم ممنوعة، وعلى تقدير تسليمها، فلا امتناع من انطباق منطقة البروج التي هي مُعَدَّل النهار، بحيث يصير المشرق مغربًا، وبالعكس

(3)

، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7258]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّاز، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: كَانَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غُرْفَةٍ، وَنَحْنُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا، فَقَالَ:"مَا تَذْكرُونَ؟ "، قُلْنَا: السَّاعَةَ، قَالَ: "إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَكُونُ حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ:

(1)

"عون المعبود" 11/ 289.

(2)

"عون المعبود" 11/ 289.

(3)

"الفتح" 11/ 355 - 356.

ص: 349

خَسْفٌ بِالْمَشْرِق، وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَب، وَالدُّخَانُ، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الأَرْضِ، وَيَأْجُوجُ وَمَأجُوجُ، وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنَارٌ تَخْرجٌ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ، تَرْحَلُ النَّاسَ"، قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، مِثْلَ ذَلِكَ، لَا يَذْكُرُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَاشِرَةِ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ الآخَرُ: وَرِيحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي الْبَحْرِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ بن نصر بن حسّان العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا، قريبًا.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجّاج، تقدّم قريبًا.

4 -

(عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ) المكيّ، نزيل الكوفة، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ

إلخ) موصول بالسند السابق، وليس معلّقًا، فلشعبة إسنادان:

أحدهما: عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّاز، عَنْ أَبِي الطُّفَيْل، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلخ مرفوعًا.

والثاني: عن عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، مِثْلَ، ذَلِكَ، لكن لَا يَذْكُرُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بل جعله موقوفًا.

قال الجامِع عفا الله عنه: قد تقدّم انتقاد الدارقطنيّ على مسلم بهذا الموقوف، وإعلاله المرفوع به، والجواب عنه بأن الرفع أصحّ، فلا انتقاد على مسلم فيه، فتنبّه، والله تعالى أعلم.

وقوله: (حَتَّى تَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ)"تكون" هنا تامّة؛ أي: حتى تقع، وتو، جد.

وقوله: (وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ)؛ أي: أقصى أرضها، وهو غير منصرف، وقيل: منصرف باعتبار البقعة، والموضع، ففي "المشارق": عدن

ص: 350

مدينة مشهورة باليمن، وفي "القاموس": عدن - محركة - جزيرة باليمن

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "من قعرة عدن" هكذا هو في الأصول: "قعرة" بالهاء، والقاف مضمومة

(2)

.

قال الجامع عفا الله عنه: هكذا ضبط النوويّ القاف بالضمّ، والذي تقتضيه عبارة "القاموس" جواز الوجهين: الفتح، والضمّ، فتنبه، والله تعالى أعلم.

قال: ومعناه: من أقصى قعر أرض عدن، وعدن مدينة معروفة مشهورة باليمن، قال الماورديّ: سُمِّيت عدنًا من العدون، وهي الإقامة؛ لأنَّ تُبّعًا كان يحبس فيها أصحاب الجرائم، وهذه النار الخارجة من قعر عدن واليمن، هي الحاشرة للناس، كما صرّح به في الحديث، أما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي بعده:"لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز، تضيء أعناق الإبل ببصرى"، فقد جعلها القاضي عياض حاشرةً، قال: ولعلهما ناران يجتمعان لحشر الناس، قال: أو يكون ابتداء خروجها من اليمن، ويكون ظهورها، وكثرة قوّتها بالحجاز. انتهى.

قال النوويّ رحمه الله بعد نقل كلام القاضي هذا: وليس في الحديث أن نار الحجاز متعلقة بالحشر، بل هي آية من أشراط الساعة، مستقلة، وقد خرجت في زماننا نار بالمدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، وكانت نارًا عظيمةً جدًّا، من جنب المدينة الشرقيّ، وراء الحرّة، تواتر العلم بها عند جميع الشام، وسائر البلدان، وأخبرني من حضرها من أهل المدينة. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

وقوله: (تَرْحَلُ النَّاسَ) وفي رواية: "تسوق الناس"؛ أي: تطردهم النار، وقال النوويّ: قوله: "ترحل الناس" هو بفتح التاء، وإسكان الراء، وفتح الحاء المهملة المخففة، هكذا ضبطناه، وهكذا ضبطه الجمهور، وكذا نقل القاضي

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 103.

(2)

قال في "القاموس": الْقُعْرة بالضمّ: الْوَهْدة. اهـ.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 28.

ص: 351

عن روايتهم، ومعناه: تأخذهم بالرحيل، وتزعجهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الضبط الذي ذكره النوويّ، وعزاه إلى الجمهور عندي محلّ نظر؛ لأن رَحَلَ ثلاثيًّا لازم، وليس متعدّيًا إذا كان بالمعنى المراد هنا، فالضبط الصحيح أن يكون بضمّ أوله، وتشديد الحاء، من الترحيل، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي الْعَاشِرَةِ. . . إلخ) هذا من كلام شعبة، يقول: قال لي أحد الشيخين، وهما فرات، وعبد العزيز، في بيان الخصلة: هي نزول عيسى عليه السلام، وقال الآخر: هي ريح تُلقي الناس في البحر.

وقوله: (وَرِيْحٌ تُلْقِي النَّاسَ فِي الْبَحْرِ)؛ أي: تهبّ شديدة، فترميهم في البحر، ولعل الجمع بينهما -أي: بين هذه الرواية التي فيها: "ترحّل الناس"- أن المراد بالناس: الكفار، وأن نارهم تكون منضمة إلى ريح شديدة الجري سريعة التأثير، في إلقائها إياهم في البحر، وهو موضع حشر الكفار، أو مستقر الفجار، كما ورد أن البحر يصير نارًا، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} [التكوير: 6] بخلاف نار المؤمنين، فإنها لمجرد التخويف، بمنزلة السوط مهابة لتحصيل السَّوق إلى المحشر، والموقف الأعظم

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7295]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّد -يَعْنِي: ابْنُ جَعْفَرٍ- حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَرِيْحَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غُرْفَةٍ، وَنَحْنُ تَحْتَهَا نَتَحَدَّثُ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، بِمِثْلِهِ، قَالَ شُعْبَةُ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: تَنْزِلُ مَعَهُمْ إِذَا نَزَلُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ، قَالَ أَحَدُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَالَ الآخَرُ: رِيحٌ تُلْقِيهِمْ فِي الْبَحْرِ).

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 28.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 103.

ص: 352

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلهم تقدّموا قرييًا.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ) فاعل "ساق" ضمير محمد بن جعفر؛ أي: ساق محمد بن جعفر الحديث بمثل حديث معاذ بن معاذ.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ. . . إلخ)؛ أي: وأظن فراتًا قال في روايته: (تَنْزِلُ)؛ أي: تلك النار (مَعَهُمْ)؛ أي: مع الناس (إِذَا نَزَلُوا) في مكان للاستراحة أو نحوه.

وقوله: (وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا)؛ أي: تستريح في وقت القائلة، يقال: قال يقيل قَيْلًا، وقَيْلُولةً: نام نصفَ النهار، والقائلة وقت القيلولة، وقد تُطلق على القيلولة، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ شُعْبَةُ: وَحَدَّثَنِي رَجُلٌ. . . إلخ) قال الرشيد العطّار رحمه الله في "غُرر الفوائد"(38): وهذا الرجل المبهم اسمه هو فيما يظهر لي: عبد العزيز بن رُفيع المكيّ، وقد بيّن ذلك غير واحد من الثقات في روايتهم لهذا الحديث عن شعبة، منهم: معاذ بن معاذ العنبريّ، وأبو النعمان الحكم بن عبد اللَّه العجليّ، فإنهما روياه عن شعبة، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي الطفيل، عن أبي سَرِيحة موقوفًا، وأخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث مَن سمّينا عن شعبة، عن عبد العزيز بإسناده موقوفًا، ثم ذكر قول الدارقطنيّ في "التتبّع"، وقال: فتبيَّن بما ذكرناه أن هذا الحديث من هذا الوجه متّصل الإسناد إلى أبي سَرِيحة رضي الله عنه، ولكنه موقوف عليه. انتهى كلام العطّار رحمه الله

(2)

.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(16188)

- حدّثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن فُرات، عن أبي الطفيل، عن أبي سَرِيحة، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في غرفة، ونحن تحتها نتحدّث، قال: فأشرف علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال:"ما تذكرون؟ " قالوا: الساعةَ، قال: "إن الساعة لن تقوم حتى ترون عشر آيات: خسف بالمشرق،

(1)

"المصباح المنير" 2/ 521.

(2)

"غُرر الفوائد" رقم (38).

ص: 353

وخسف بالمغرب، وخسف في جزيرة العرب، والدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونار تخرج من قعر عدن، تُرَحِّل الناس -فقال شعبة: سمعته، وأحسبه قال-: تنزل معهم حيث نزلوا، وتقيل معهم حيث قالوا".

قال شعبة: وحدّثثي بهذا الحديث رجل، عن أبي الطفيل، عن أبي، سَرِيحة، ولم يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال أحد هذين الرجلين:"نزول عيسى ابن مريم"، وقال الآخر:"ريح تُلقيهم في البحر". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7260]

(. . .) - (وَحَدَّثنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ فُرَاتٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الطُّفَيْلِ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ، فَأَشْرَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَابْنِ جَعْفَرٍ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) أبو موسى الْعَنَزيّ المعروف بالزَّمِن البصريّ، أحد. مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعِجْلِي) البصريّ القيسيّ، أو الأنصاريّ، ثقةٌ، له أوهام [9](خ م ت س) تقدم في "التوبة" 7/ 6979.

والباقون تقدموا قريبًا.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: رواية أَبي النُّعْمَانِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7261]

(. . .) - (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ بِنحْوِهِ، قَالَ: وَالْعَاشِرَةُ نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، قَالَ شُعْبَةُ: وَلَمْ يَرْفَعْهُ عَبْدُ العَزِيزِ).

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 4/ 7.

ص: 354

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلهم تقدّموا، وغرضه بيان متابعة عبد العزيز لفرات، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(14) - (بَاب لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7262]

(2902) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيِّبِ؛ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ (ح) وَحَدَّثَنِي عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى").

رجال هذا الإسناد: عشرة:

وكلُّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله بالنسبة للأول، ومن سُباعيّاته بالنسبة للثاني، وأن أوائله مسلسل بالمصريين، وأواخره بالمدنيين، وفيه رواية الراوي عن أبيه، عن جدّه، وتابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيّب أحد الفقهاء السبعة، وأنه أحد ما قيل: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رحمه الله سبق الكلام فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ؛ (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ) سعيد (بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، (تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى تَخْرُجَ) بفتح أوله، وضمّ ثالثه، من الخروج، (نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ) قال القرطبيّ رحمه الله في "التذكرة": قد خرجت نار

ص: 355

بالحجاز بالمدينة، وكان بدؤها زلزلةٌ عظيمةٌ في ليلة الأربعاء، بعد العتمة، الثالث من جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة، واستمرّت إلى ضحى النهار يوم الجمعة، فسكنت، وظهرت النار بقريظة بطرف الحرّة، تُرَى في صورة البلد العظيم، عليها سور محيط، عليه شراريف، وأبراج، ومآذن، وتُرَى رجال يقودونها، لا تمرّ على جبل إلا دكّته، وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك، مثل النهر أحمر، وأزرق، له دويّ كدويّ الرعد، يأخذ الصخور بين يديه، وينتهى إلى محط الركب العراقيّ، واجتمع من ذلك ردمٌ صار كالجبل العظيم، فانتهت النار إلى قرب المدينة، ومع ذلك فكان يأتي المدينة نسيم بارد، وشوهد لهذه النار غليان كغليان البحر، وقال لي بعض أصحابنا: رأيتها صاعدة في الهواء، من نحو خمسة أيام، وسمعت أنها رؤيت من مكة، ومن جبال بصرى.

وقال النوويّ: تواتر العلم بخروج هذه النار عند جميع أهل الشام.

وقال أبو شامة في "ذيل الروضتين": وردت في أوائل شعبان سنة أربع وخمسين كُتُب من المدينة الشريفة، فيها شرح أمر عظيم حدَث بها، فيه تصديق لِمَا في "الصحيحين"، فذكر هذا الحديث، قال: فأخبرني بعض من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكُتُب، فمن الكتب، فذكر نحو ما تقدم.

ومن ذلك أن في بعض الكتب: ظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة في شرقيّ المدية نار عظيمة، بينها وبين المدينة نصف يوم، انفجرت من الأرض، وسال منها واد من نار، حتى حاذى جبل أُحد.

وفي كتاب آخر: انبجست الأرض من الحرّة بنار عظيمة، يكون قدرها مثل مسجد المدينة، وهي برأي العين من المدينة، وسال منها وأدٍ يكون مقداره أربع فراسخ، وعوضه أربع أميال، يجري على وجه الأرض، ويخرج منه مهاد؛ وجبال صغار.

وفي كتاب آخر: ظهر ضوؤها إلى أن رأوها من مكة، قالا: ولا أقدر أصف عِظَمها، ولها دويّ، قال أبو شامة: ونظم الناس في هذا أشعارًا، ودام أمرها أشهرًا، ثم خَمَدت، والذي ظهر لي أن النار المذكورة في حديث الباب، هي التي ظهرت بنواحي المدينة، كما فهمه القرطبيّ وغيره، وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى.

ص: 356

وقد وقع في بعض بلاد الحجاز في الجاهلية نحو هذه النار التي ظهرت بنواحي المدينة، في زمن خالد بن سنان العبسيّ، فقام في أمرها، حتى أخمدها، ومات بعد ذلك في قصة له، ذكرها أبو عبيدة معمر بن المثنى في "كتاب الجماجم"، وأوردها الحاكم في "المستدرك" من طريق يعلى بن مهديّ، عن أبي عوانة، عن أبي يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رجلًا من بني عبس يقال له: خالد بن سنان، قال لقومه: إني أطفي عنكم نار الحدثان، فذكر القصة، حفيها فانطلق، وهي تخرج من شقّ جبل من حرّة يقال لها: حرة أشجع، فذكر القصة في دخوله الشقّ، والنار كأنها جبل سقر، فضربها بعصاه، حتى أدخلها، وخرج، ذكره في "الفتح"

(1)

.

(تُضِيءُ أَعْنَاقَ الإِبِلِ بِبُصْرَى") قال ابن التين رحمه الله: يعني: من آخرها يبلغ ضوؤها إلى الإبل التي تكون ببصري، وهي من أرض الشام، وأضاء يجيء لازمًا، ومتعديًا، يقال: أضاءت النارُ، وأضاءت النارُ غيرها، و"بُصْرَى" بضم الموحّدة، وسكون المهملة، مقصورًا: بلد بالشام، وهي حَوْران

(2)

.

وقال أبو البقاء: "أعناق" بالنصب على أن "تضيء" متعدٍّ، والفاعل "النارُ"؛ أي: تجعل على أعناق الإبل ضوءًا، قال: ولو رُوي بالرفع لكان متجهًا؛ أي: تضيء أعناق الإبل به، كما جاء في حديث آخر:"أضاءت له قصور الشام".

وقد وردت في هذا الحديث زيادة من وجه آخر، أخرجه ابن عديّ في "الكامل" من طريق عمر بن سعيد التنوخيّ، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يرفعه:"لا تقوم الساعة حتى يَسِيل وأدٍ من أودية الحجاز بالنار، تضيء له أعناق الإبل ببصرى"، وعُمر ذكره ابن حبان في "الثقات"، ولَيّنه ابن عديّ، والدارقطنيّ، وهذا ينطبق على النار المذكورة التي ظهرت في المائة السابعة.

وأخرج أيضًا الطبرانيّ في آخر حديث حذيفة بن أَسِيد المتقدّم: وسمعت

(1)

"الفتح" 16/ 555 - 556، "كتاب الفتن" رقم (7118).

(2)

بفتح الحاء، وسكون الواو.

ص: 357

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من رُومان، أو ركوبة، تضيء منها أعناق الإبل ببصرى".

قال الحافظ: و"ركوبة" ثنية صعبة المرتقى في طريق المدينة إلى الشام، مَرّ بها النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ذكره البكريّ، و"رومان" لم يذكره البكريّ، ولعل المراد: رُومة البئر المعروفة بالمدينة، فجمع في هذا الحديث بين النارين، وأن إحداهما تقع قبل قيام الساعة، مع جملة الأمور التي أخبر بها الصادق صلى الله عليه وسلم، والأخرى هي التي يعقبها قيام الساعة بغير تخلل شيء آخر، وتَقدَّم الثانية على الأُولى في الذكر لا يضرّ. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [14/ 7262](2952)، و (البخاريّ) في "الفتن"(71118)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 443)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6839)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(5/ 996)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4251)، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(15) - (بَابٌ فِي سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَعِمَارَتهَا قَبْلَ السَّاعَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7263]

(2953) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ إِهَابَ، أَوْ يَهَابَ"، قَالَ زُهَيْرٌ: قُلْتُ لِسُهَيْلٍ: فَكَمْ ذَلِكَ

(2)

مِنَ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا مِيلًا).

(1)

"الفتح" 16/ 555 - 556.

(2)

وفي نسخة: "وكم ذلك؟ ".

ص: 358

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بكير البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(الأَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ) الشاميّ، نزيل بغداد، يكنى أبا عبد الرحمن، ويُلَقّب شاذان، ثقةٌ [9] مات في أول سنة ثمان ومائتين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1552.

3 -

(زُهَيْرُ) بن معاوية بن حُديج، أبو خيثمة الجعفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، وقبل أربعة أبواب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبغداديين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَبْلُغُ الْمَسَاكِنُ إِهَابَ، أَوْ يَهَابَ") قال القرطبيّ رحمه الله: الأول بكسر الهمزة، والثاني بالياء المكسورة، عند أكثرهم، وعند ابن عيسى:"أو نِهَاب"، بالنون المكسورة، وهو موضع بينه وبين المدينة القَدْر الذي كَنَى عنه سهيل بكذا كذا ميلًا، وقد تقدّم: أن من أهل اللسان من حَمَل هذا على الأعداد المعطوفة التي أوَّلها إحدى وعشرون، وآخرها تسعة وتسعون، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بأن الناس يكثرون بالمدينة، ويتّسعون في مساكنها، وبنيانها، حتى يصل بنيانهم ومساكنهم إلى هذا الموضع، وقد كان ذلك -واللَّه تعالى أعلم- في مدة بني أمية، ثم بعد ذلك تناقص أمرها إلى أن أقفرت جهاتها، كما تقدّم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الظاهر أنها عادت الآن في الوقت الحاضر إلى هذا الحدّ، بل تجاوزته، كما لا يخفى على من حقّق النظر فيها، واللَّه تعالى أعلم.

وقال ياقوت في "معجم البلدان": إهاب بالكسر: موضع قرب المدينة، ذكره في خبر الدجال في "صحيح مسلم"، قال: بينهما كذا وكذا؛ يعني من

(1)

"المفهم" 7/ 243.

ص: 359

المدينة، كذا جاءت الرواية فيه عن مسلم على الشك:"أو يهاب" بكسر الياء عند الشيوخ كافّة، وبعض الرواة قال بالنون:"نِهاب"، ولا يُعرف هذا الحرف، في غير هذا الحديث. انتهى

(1)

.

وقال ابن الأثير: هو موضع قرب المدينة، شرّفها اللَّه تعالى. انتهى

(2)

.

(قَالَ زُهَيْرٌ)؛ أي: ابن معاوية: (قُلْتُ لِسُهيْلٍ)؛ أي: ابن أبي صالح: (فَكَمْ ذَلِكَ) وفي نسخة: "وكم ذلك"؛ أي: كم يكونَ مقدار بُعد مسافة إهاب، أو يهاب (مِنَ المدِينَةِ؟ قَالَ) سهيل: (كَذَا وَكَذَا

(3)

مِيلًا) "الميل" بكسر الميم: عند العرب مقدار مَدَى البصر من الأرض، قاله الأزهريّ، وعند القدماء من أهل الهيئة: ثلاثة آلاف ذراع، وعند الْمُحْدَثين: أربعة آلاف ذراع، والخلاف، لفظيّ؛ لأنهم اتة غوا على أن مقداره ست وتسعون ألف إصبع، والإصبع ست، شُعَيرات بطن كلّ واحدة إلى الأخرى، ولكن القدماء يقولون: الذراع اثنتان وثلاثون إصبعًا، والمحدَثون يقولون: أربع وعشرون إصبعًا، فإذا قُسم الميل، على رأي القدماء كل ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع، وإن قُسم على رأي المحدَثين أربعًا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(4)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الميل بالتقدير المعاصر يكون (1848) مترًّا

(5)

، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله، أخرجه هنا [15/ 7263](2903) ولم أجد من أخرجه غيره، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"معجم البلدان" 1/ 283.

(2)

"لسان العرب" 1/ 806.

(3)

قال صاحب "التكملة": ولم أطّلع في شيء من الكتب على تحديد هذا المكان، بالضبط، أو على تحديد جهاته. اهـ. 6/ 213.

(4)

"المصباح المنير" 2/ 588.

(5)

راجع: "الإيضاحات العصريّة للمقاييس، والمكاييل، والأوزان، والنقود الشرعيّة" ص 71 لمحمد صبحي بن حسن حلاق.

ص: 360

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7264]

(2904) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَتِ السَّنَةُ بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا، وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا").

رجال هل الإسناد: خمسةٌ

1 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن محمد بن عبد اللَّه بن عبدٍ القاريّ -بتشديد التحتانية- المدنيّ، نزيل الإسكندرية، حليف بني زُهْرة، ثقةٌ [8](181)(خ م د ت س) تقدم في "الإيمان" 35/ 245.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل بابين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَتِ السَّنَةُ)؛ أي: القحط الشديد، قال في "النهاية": السنة: الجدب، وهي من الأسماء الغالبة، ويقال: أسنتوا: إذا أجدبوا، قلبوا لامها تاء. (بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا)؛ أي: بأن لا ينزل عليكم المطر، (وَلَكِنِ) بالتخفيف، (السَّنَةُ)؛ أي: القحط والجدب (أَنْ تُمْطَرُوا، وَتُمْطَرُوا) بالبناء للمفعول، وكرّره للتأكيد والتكثير، (وَلَا تُنْبِتُ الأَرْضُ شَيْئًا") قال القاضي: المعنى: أن القحط الشديد ليس بأن لا تمطروا، بل بأن تمطروا، ولا تنبت الأرض شيئًا، وذلك لأنَّ حصول الشدّة بعد توقّع الرخاء، وظهور مخائله، وأسبابه أفظع مما إذا كان اليأس حاصلًا من أول الأمر، والنفس مترقّبة لحدوثها. انتهى.

قال الشاعر [من الطويل]:

أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْ نَدَاكَ غَمَامَةٌ

أَضَاءَ لَنَا بَرْقٌ وَأَبْطَا رَشَاشُهَا

فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسَ طَامِعٌ

وَلَا غَيْثُهَا يَهْمِي فَيَرْوِي عِطَاشُهَا

(1)

وقال القرطبيّ رحمه الله: أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "ليست السَّنَة ألا تُمطروا": أن

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 4/ 1326 - 1327.

ص: 361

الأحق باسم السَّنَة والجدب أن يتوالى المطر، حتى تغرق الأرض، ويفسد ما عليها بكثرته، وتواليه، وإنما كان هذا أحقّ بالاسم؛ لأنه أمنع من التصرف، وأضيق للحال، وأعدم للقوت، وأسرع في الهلاك، وأسلوب هذا الحديث كأسلوب قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس"، وقوله:"ليس المسكين بالطوّاف عليكم"، إلى غير ذلك مما في بابه. انتهى.

وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد: "إن السَّنَة ليس بأن لا يكون فيها مطر. . . "، المراد بالسنة: القحط، ومنه تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} الآية [الأعراف: 130]، وليس المراد نفي كونه سنة من حيث اللغة، ولكن المراد أن عدم إنبات الأرض بسبب عدم المطر قحط عاديّ، لا عجب فيه، وإنما العجب من قحط ينشأ من عدم إنبات الأرض بالرغم من كون السماء تمطر وتمطر، وفيه إشارة إلى أن مثل ذلك سيقع بقرب من القيامة، قاله صاحب "التكملة"

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: مناسبة إيراد المصنّف رحمه الله لهذا الحديث هنا بين علامات الساعة إشارة إلى أن عدم إنبات الأرض مع وجود المطر من الفتن التي تكون عند قرب الساعة، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [15/ 7264](2904)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(1/ 198)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 342 و 358)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(995)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 687)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(3/ 363)، واللَّه تعالى أعلم.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 213 - 214.

ص: 362

(16) - (بَابُ الْفِتْنَةِ مِنَ الْمَشْرِقِ، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7265]

(2905) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُسْتَقبِلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُ:"أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) ذكر في السند الماضي.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحِ) بن مهاجر التجيبيّ المصريّ

(1)

مولاهم المصري، ثقة ثَبْت من العاشرة، مات سنة اثنتين وأربعين (م ق) تقدم في "الإيمان" 16/ 168.

3 -

(اللَّيْثُ) بن سعد الإمام المشهور، ذُكر قبل باب.

4 -

(نَافِعٌ) مولى ابن عمر المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

5 -

(ابْنُ عُمَرَ) عبد اللَّه رضي الله عنهما، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من رباعيّات المصنّف رحمه الله، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما من العبادلة الأربعة، ومن المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ يَقُولُ: "أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ)؛ أي: البلاء والشر والمحنة، قال أبو عمر بن عبد البرّ رحمه الله: الفتنة ههنا بمعنى الفِتَنِ؛ لأن الواحدة ههنا تقوم مقام الجميع في الذِّكر؛ لأن الألف واللام في الفتنة ليسا إشارة إلى معهود، وإنما هما إشارة إلى الجنس، مثل قوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]،

(1)

تقريب التهذيب 1/ 478.

ص: 363

فأخبره صلى الله عليه وسلم عن إقبال الفتن من ناحية المشرق، وكذلك أكثر الفتن من المشرق انبعثت، وبها كانت، نحو الْجَمَل، وصِفِّين، وقَتْل الحسين، وغير ذلك، مما يطول ذكره، مما كان بعد ذلك من الفتن بالعراق، وخراسان إلى اليوم، وقد كانت الفتن في كل ناحية من نواحي الإسلام، ولكنها بالمشرق أكثر، ومثل هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم:"إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم، كمواقع القَطْر".

وقد يَحْتَمِل أن تكون الفتنة في هذا الحديث معناها الكفر، وكانت المشرق يومئذ دار كفر، فأشار إليها، والفتنة لها وجوه في اللغة، منها العذاب، ومنها الإحراق، ومنها الحروب التي تقع بين الناس، ومنها الابتلاء والامتحان، وغير ذلك، على حسبما قد ذكره أهل اللغة. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

(هَا هُنَا) مشيرًا إلى المشرق، (أَلَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا) كرّره للتأكيد، (مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ") قال الداوديّ: للشمس قرن حقيقةً، ويَحْتَمِل أن يريد بالقرن: قوّة الشيطان، وما يستعين به على الإضلال، وهذا أوجه، وقيل: إن الشيطان يقرن رأسه بالشمس عند طلوعها؛ ليقع سجود عَبَدتها له، قيل: ويَحْتَمِل أن يكون للشمس شيطان تطلع الشمس بين قرنيه، وقال الخطابيّ: القرن: الأمة من الناس، يَحْدُثون بعد فناء آخرين، وقرن الحيّة أن يضرب المثل فيما لا يُحْمَد من الأمور، وقال غيره: كان أهل المشرق يومئذ أهل كفر، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتنة تكون من تلك الناحية، فكان كما أخبر، وأول الفتن كان من قِبَل المشرق، فكان ذلك سببًا للفرقة بين المسلمين، وذلك مما يحبه الشيطان، ويفرح به، وكذلك البدع نشأت من تلك الجهة.

وقال الخطابيّ: نَجْد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نَجْده بادية الراق، ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النجد ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة. انتهى.

قال الحافظ: وعُرِف بهذا وَهَاء ما قاله الداوديّ: إن نجدًا من ناحية

(1)

"التمهيد" لابن عبد البرّ رحمه الله-17/ 12.

ص: 364

العراق، فإنه توهَّم أن نجدًا موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمى المرتفع نجدًا، والمنخفض غورًا. انتهى

(1)

، وهو تحقيق نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "العمدة": ذهب الداوديّ إلى أن للشيطان قرنين على الحقيقة، وذكر الهرويّ أن قرنيه ناحيتي رأسه، وقيل: هذا مَثَل؛ أي: حينئذ يتحرك الشيطان، ويتسلط، وقيل: القرن القوة؛ أي: تطلع حين قوة الشيطان، وإنما أشار صلى الله عليه وسلم إلى المشرق؛ لأن أهله يومئذ كانوا أهل كفر، فأخبر أن الفتنة تكون من تلك الناحية، وكذلك كانت هي وقعة الجمل، ووقعة صفين، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد والعراق، وما ورائها من المشرق، وكانت الفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات البين قَتْل عثمان رضي الله عنه، وكان صلى الله عليه وسلم يُحَذِّر من ذلك، ويُعَلِّم به قبل وقوعه، وذلك من دلالات نبوّته صلى الله عليه وسلم. انتهى

(2)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله في"المشارق" عند قوله: "من قبل المشرق": الأظهر هنا قول من قال: إنه مشرق الأرض، وبلاد فارس، وكسرى، وما وراءها، بدليل قوله:"من حيث تطلع الشمس"، وبدليل معاني الحديث، من طلوع الفتن، والبدع منها، الذي يدل عليه قوله:"قرن الشيطان" وقد فسرناه، وقيل: أراد بلاد نجد، وربيعة، ومضر، بدليل أنه قد جاء ذلك مبيَّنًا في حديث آخر، فالوجهان صحيحان، ونجد، وبلاد مضر، وربيعة، وفارس، وما وراءها، كله مشرق من المدينة، والشرق، والمشرق سواء. انتهى كلام عياض رحمه الله

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [16/ 7265 و 7266 و 7267 و 7268 و 7269

(1)

"الفتح" 16/ 503 - 504، "كتاب الفتن" رقم (7093).

(2)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 35/ 156.

(3)

"مشارق الأنوار على صحاح الآثار" 2/ 499.

ص: 365

و 7270] (2905)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3104) و"بدء الخلق"(3279) و"المناقب"(3511) و"الطلاق"(5296) و"الفتن"(7092 و 7093)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2268)، و (مالك) في "الموطّأ"(2/ 975) و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(21016)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 18 و 23 و 50 و 92 و 111)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(5449)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(1648 و 1649)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(1/ 122)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه عَلَمًا من أعلام نبوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لإخباره بالغيب، عما يكون بعده.

2 -

(ومنها): ذمّ البلدان التي يشيع فيها الفساد، ويتمرّد أهلها.

3 -

(ومنها): ما قاله ابن عبد البرّ رحمه الله: إشارة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واللَّه أعلم- إلى ناحية المشرق بالفتنة؛ لأن الفتنة الكبرى التي كانت مفتاح فساد ذات، البين هي قَتْل عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهي كانت سبب وقعة الجمل وحروب صفّين كانت في ناحية المشرق، ثم ظهور الخوارج في أرض نجد، والعراق، وما وراءها من المشرق.

قال أبو عمر: رَوينا عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: أول الفتن قتل عثمان رضي الله عنه، وآخرها الدجال، ومعلوم أن أكثر البدع إنما ظهرت، وابتُدأت من المشرق، وإن كان الذين المتتلوا بالجمل وصفّين منهم كثير من أهل الحجاز والشام، فإن الفتنة وقعت في ناحية المشرق، فكانت سببًا إلى افتراق كلمة المسلمين، ومذاهبهم، وفساد نيّات كثير منهم إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة، واللَّه أعلم. وعن مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد الخروج إلى العراق، فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين، فإن بها تسعة أعشار السِّحر، وبها فسقة الجنّ، وبها الداء العضال.

قال أبو عمر: سئل مالك عن الداء العضال، فقال: الهلاك في الدِّين.

وأما السِّحر فمنسوب إلى أرض بابل، وهي من العراق، وتُنسب أيضًا إلى مصر.

ص: 366

وأما فسقة الجن فهذا لا يُعرف إلا بتوقيف ممن يجب التسليم له، وذلك معدوم في هذه القصة.

ولأهل الكوفة والبصرة روايات رواها علماؤهم في فضائلها، ذكر أبو بكر بن أبي شيبة وغيره كثيرًا منها، ولم تختط الكوفة، ولا البصرة إلا برأي عمر رضي الله عنه؛ ونزلها جماعة من كبار الصحابة، وكان بها العلماء والعبّاد والفضلاء وأهل الأدب والفقهاء وأهل العلم، وهذا أشهر، وأغرب من أن يحتاج إلى استشهاد؛ لأنه عِلْمٌ ظاهر، وعِلْمُ فسقة الجن عِلْم باطن، وكل آية تعرف لناحيتها فضلًا تنشره إذا سئلت عنه، وتطلب العيب لمن عابها، ومن طلب عيبًا وجده، والفاضل حيث كان فهو فاضل، والمفضول الساقط حيث كان من البلدان لا تصلحه بلدة؛ لأن الأرض لا تقدس صاحبها، وإنما يقدس المرء عمله، وإن من مدح بلدة وذم أخرى يحتاج إلى توقيف ممن يجب التسليم له، على أنه لا مدح ولا ذم لبلدة، إلا على الأغلب من أحوال أهلها، وأما على العموم فلا، وقد عمَّ البلاء والفتن اليوم في كل جهة من جهات الدنيا. انتهى كلام ابن عبد البرّ رحمه الله

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7266]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى (ح) وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، كُلُّهُمْ عَنْ يَحْيَى الْقَطَّانِ، قَالَ الْقَوَارِيرِيُّ: حَدَّثَنِي يَحيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عِنْدَ بَابِ حَفْصَةَ، فَقَالَ بِيَد نَحْوَ الْمَشْرِقِ:"الْفِتْنَةُ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْالعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ"، قَالَهَا مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا، وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) أبو سعيد البصريّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](235) على الأصح، وله خمس وثمانون سنةً (خ م د س) تقدم في "المقدمة" 6/ 75.

(1)

"الاستذكار" 8/ 519.

ص: 367

2 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ) بن يحيى اليشكريّ، أبو قُدامة السَّرَخْسِيّ، نزيل نيسابور، ثقةٌ مأمونٌ سنيّ [10](ت 241)(خ م س) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

3 -

(يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ) بن فَرُّوخ -بفتح الفاء، وتشديد الراء المضمومة، وسكون الواو، ثم معجمة- التميميّ، أبو سعيد القطان البصريّ، ثقةٌ متقنٌ حافظٌ إمامٌ قدوةٌ، من كبار [9](ت 198) وله ثمان وسبعون سنةً (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 385.

4 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ) العمريّ المدنيّ الفقيه، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب وقبل بابين.

وقوله: (قَامَ عِنْدَ بَابِ حَفْصَةَ) وفي رواية عبيد اللَّه بن سعيد: "عند باب عائشة"، ولا تعارض بينهما؛ لتقارب بابيهما، فتنبّه.

وقوله: (فَقَالَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) معنى "قال": أشار، ففيه إطلاق القول على الفعل، وهو شائع في استعمالهم، وما أكثره في الأحاديث.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7267]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْمَشْرِقِ: "هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب، غير:

1 -

(سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمر بن الخطّاب المدنيّ، وقد تقدّم قريبًا.

والحديث متَّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبل حديث، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7268]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِ

ص: 368

عَائِشَةَ، فَقَالَ:"رَأْسُ الْكُفْرِ مِنْ هَا هُنَا، مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ"؛ يَعْنِي: الْمَشْرِقَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ) العجليّ، أبو عمار اليماميّ، أصله من البصرة، صدوق يَغْلَط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب [5] مات قبيل الستين ومائة (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 12/ 155.

والباقيان ذُكرا قبله.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (فَقَالَ: "رَأْسُ الْكُفْرِ مِنْ هَا هُنَا)؛ أي: في جهة المشرق، قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "رأس الكفر. . . إلخ" إشارة إلى من نبّه عليه من أهل نجد، وربيعة، ومُضر؛ لأنهم الذين عاندوا النبوّة، وقَسَوْا عن إجابة الحقّ، وقبول الدعوة، وهم بالصفة التي وَصَفَ أهل خيل وإبل، وأصحابُ وَبَر، ونجدٌ مشرقٌ من المدينة، أو من تبوك على ما ذُكِر أنه قال بعض هذا الحديث بتبوك.

والمراد برأس الكفر: مُعظمه، وشرّه، وقد تأوّل بعضهم أنه قال ذلك، وأهل المشرق يومئذ أهل كفر، وأن مراده بقوله:"رأس الكفر نحو المشرق" فارس، وما ذكرناه أَولى؛ لقوله في الحديث:"أهل الوبر قبل مطلع الشمس"، وفارس ليسوا أهل وَبَر، وقوله:"من ربيعة ومضر"، وأن الموصوفين بعد ذلك بالجفاء والخيلاء هم أولئك لا غيرهم، ويؤيّده قوله في الحديث الآخر:"اللَّهُمَّ اشدُد وطأتك على مضر"، قال في الحديث:"وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له"، ويكون هذا الكفر ما كانوا عليه من عداوة الدين والتعصّب عليه، ويعضده حديث ابن عمر رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال:"اللَّهُمَّ بارك لنا في يمننا، وفي شامنا"، قالوا: يا رسول اللَّه: وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: "هنالك

ص: 369

الزلازل، والطاعون، وبها يطلع قرن الشيطان"، رواه البخاريّ. انتهى كلام القاضي

(1)

، وهو بحث نفيسٌ.

وقال في "الفتح": وفي ذلك إشارة إلى شدّة كفر المجوس؛ لأن مملكة الفُرْس، ومن أطاعهم من العرب كانت من جهة المشرق بالنسبة إلى المدينة، وكَانوا في غاية القسوة والتكبّر والتجبّر حتى مزّق مَلِكهم كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم أن يُمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق، فمزّق اللَّه تعالى مُلْكهم

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: ما سبق عن القاضي أقرب وأحسن من هذه، فتأمّله بالإنصاف، واللَّه تعالى أعلم.

وقال الطيبيّ رحمه اللَّه تعالى: قوله: "رأس الكفر نحو المشرق" نحو قوله: "رأسُ الأمر الإسلام"؛ أي: ظهور الكفر من قبل المشرق، والمراد باختصاص المشرق به: مزيد تسلّط الشيطان على أهل المشرق، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، ويكون حين يخرج الدجّال من المشرق؛ فإنه منشأ الفتن العظيمة، ومثار الْكَفَرة التُّرْك. انتهى.

وقال ابن عبد البرّ رحمه الله: أما قوله: "رأس الكفر نحو المشرق" فهو أن أكثر الكفر وأكبره كان هناك؛ لأنهم كانوا قومًا لا كتاب لهم، وهم فارس، ومن وراءهم، ومن لا كتاب له فهو أشدّ كفرًا من أهل الكتاب؛ لأنهم لا يعبدون شيئًا، ولا يتبعون رسولًا، فهذا -واللَّه أعلم- معنى قوله:"رأس الكفر نحو المشرق". انتهى

(3)

.

وقوله: (مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ") تقدّم شرحه في الحديث الذي قبله، وقوله:(يَعْنِي: الْمَشْرِقَ)؛ أي: يقصد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "ها هنا" جهة المشرق، وهذه العناية توضيح من بعض الرواة، ويَحْتمل أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما، أو من دونه، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى القول فيه مستوفًى، وللَّه الحمد والمنّة.

(1)

"إكمال المعلم" 1/ 311 - 312.

(2)

راجع: "الفتح" 6/ 424، "كتاب بدء الخلق" رقم (3300).

(3)

"التمهيد" لابن عبد البر 18/ 142.

ص: 370

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7269]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ -يَعْنِي: ابْنَ سُلَيْمَانَ- أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُشِيرُ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَيَقُولُ: "هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا، هَا إِنَّ الْفِتْنَةَ هَا هُنَا -ثَلَاثًا- حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ نُمَيْرٍ) هو: محمد بن عبد اللَّه بن نُمير الْهَمْدانيّ الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الرازيّ، أبو يحيى، كوفي الأصل، ثقةٌ فاضلٌ [9] (ت 200) وقيل: قبلها (ع) تقدم في "الزكاة" 43/ 2429.

3 -

(حَنْظَلَةُ) بن أبي سفيان، واسمه الأسود بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية الْجُمَحيّ المكيّ، ثقةٌ حجةٌ [6](ت 151)(ع) تقدم في "الإيمان" 5/ 123.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (يُشِيرُ بِيَدِهِ. . . إلخ) جملة حاليّة من المفعول، وكذا قوله:"ويقول".

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، وللَّه الحمد.

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7270]

(. . .) - (حدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكيعِيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبَانَ- قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ، سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَا هُنَا -وَأَوْمَأَ

(1)

بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ"، وَأَنْتُمْ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى الَّذِي قَتَلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُ، {وَقَتَلْتَ نَفْسًا

(1)

وفي نسخة: "وأومى بيده".

ص: 371

فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: عَنْ سَالِمٍ لَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ) هو: عبد اللَّه بن عمر بن محمد بن أبان رجلٌ صالح بن عمير الأمويّ مولاهم، ويقال له: الجعفيّ، نسبة إلى خاله حسين بن عليّ، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، مُشْكُدانة -بضم الميم، والكاف، بينهما شين معجمة ساكنة، وبعد الألف نون- وهو وعاء المسك بالفارسية، صدوقٌ، فيه تشيع [10](ت 239)(م د س) تقدم في "الاستسقاء" 5/ 2088.

2 -

(وَاصِلُ بْنُ عَيبْدِ الأَعْلَى) بن هلال الأسديّ، أبو القاسم، أو أبو محمد الكوفيّ، ثقةٌ [10](ت 244)(م 4) تقدم في "الطهارة" 12/ 587.

3 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ الْوَكيعِيُّ) أحمد بن عمر بن حفص بن جهم بن واقد الكِنْديّ، أبو جعفر الجلّاب -بالجيم- ثقةٌ [10](235)(م ل) تقدم في "الصيام" 29/ 2694.

[تنبيه]: قوله: (الْوَكيعِيُّ) بفتح الواو، وكسر الكاف: نسبة إلى وكيع، قيل له: الوكيعيّ؛ لأنه رحل إلى وكيع بن الجرّاح، وأكثر عنه، قاله في "اللباب"

(1)

.

4 -

(ابْنُ فُضَيْلٍ) هو: محمد بن فُضيل بن غزوان الضبيّ مولاهم، أبو عبد الرحمن الكوفيّ، صدوقٌ عارف، رُمي بالتشيع [9](ت 195)(ع) تقدم في "الإيمان" 63/ 358.

5 -

(أَبُوهُ) فُضيل بن غَزْوان -بفتح الغين المعجمة، وسكون الزاي- ابن جرير الضبيّ مولاهم، أبو الفضل الكوفيّ، ثقةٌ، من كبار [7] مات بعد سنة أربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 78/ 405.

والباقيان ذُكرا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه ثلاثة من الشيوخ قرن بينهم؛

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 371 - 372.

ص: 372

لاتحاد كيفيّة الأخذ، والأداء منه ومنهم، وأنه مسلسل بالكوفيين إلى والد ابن فضيل، والباقيان مدنيّان، وفيه سالم أحد الفقهاء السبعة على بعض الأقوال، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما، وتقدّم القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

عن فُضيل بن غزوان؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ، وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ)"ما أسألكم"، و"أركبكم" صيغتان للتعجّب، والمراد أنكم تكثرون السؤال عن الأشياء الصغيرة، مما يدلّ على الورع حتى عن الصغائر، ولكنكم تكثرون ارتكاب الكبائر، وهي إثارة الفتن، والتفريق بين المسلمين، والخروج على الأئمة، وكان ذلك كلّه معروفًا من أهل العراق

(1)

.

ونظير قول سالم هذا ما وقع لأبيه ابن عمر رضي الله عنهما، فقد أخرج البخاريّ في "صحيحه"، عن ابن أبي نُعْم، قال: كنت شاهدًا لابن عمر، وسأله رجل عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:"هما ريحانتاي من الدنيا"

(2)

.

قال سالم: (سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَا هُنَا -وَأَوْمَأَ)؛ أي: أشار النبيّ (بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِق) وهذا يدلّ على أنَّ سالمًا: يَحْمل جهة المشرق في حديث الباب على العراق، وهو راوي الحديث، فيكون أقرب إلى الصواب، واللَّه تعالى أعلم.

(مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا) بالتثنية، (الشَّيْطَانِ") تقدّم شرحه. (وَأَنْتُمْ) معاشر أهل العراق (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)؛ أي: تتقاتلون ظلمًا، ولا تبالون بذلك، وهذا مناف لسؤالكم عن الصغيرة، (وَإِنَّمَا قَتَلَ مُوسَى) عليه السلام (الَّذِي قَتَلَ) بحذف العائد، وهو كثير في الكلام، كما قال في "الخلاصة":

(1)

"تكمل فتح الملهم" 6/ 316.

(2)

"صحيح البخاريّ" 5/ 2234.

ص: 373

.

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيْرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ

بِفِعْلٍ أَوْ وَصفٍ كَـ "مَنْ نَرْجُو يَهِبْ"

أي: الذي قتله (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ خَطَأً) نعت لمصدر محذوف؛ أي: قتلًا خطأً، (فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لَهُ)؛ أي: لموسى ({وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}).

غرض سالم رحمه الله بذكر قصّة موسى عليه السلام أنه إنما قتل القبطيّ خطأ، ولم يتعمّد قتله، ولكنه أصابه الغمّ من أجل ذلك، كما ذكره اللَّه عز وجل في الآية المذكورة، وأنتم تقتلون المسلمين قصدًا وعمدًا، ومع ذلك لا تغتمون على هذه المقاتلة، ولا تمتنعون منها.

وإنما ذكر سالم هذه الآية الكريمة استدلالًا على أنَّ موسى عليه السلام كان أصابه الغمّ من أجل قَتْله القبطيّ، مع أنه قتله خطأ، فكيف أنتم تقتلون المسلمين عمدًا، ولا تبالون، وهذا ارتكابكم الكبائر، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: قال إمام المفسّرين ابن جرير الطبريّ رحمه الله في "تفسيره"؛ وقوله تعالى: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا} ؛ يعني جلّ ثناؤه بذلك: قَتْله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى.

وقوله: {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} يقول تعالى ذِكره: فنجّيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مَدْين، فلم يصلوا إلى قتلك وقَوْدك.

وكان قَتْله إياه فيما ذُكر خطأ، ثم أورد حديث سالم المذكور هنا.

قال: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارًا.

ثم أخرج الطبريّ عن سعيد بن جبير، قال: سألت عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، عن قول اللَّه لموسى:{وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فسألته على الفتون ما هي؟ فقال لي: استأنف النهار يا ابن جبير، فإن لها حديثًا طويلًا قال: فلما أصبحت غدوت على ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني، قال: فقال ابن عباس: تذاكر فرعون وجلساؤه ما وعد اللَّه إبراهيم أن يجعل في ذرّيته أنبياء وملوكًا، فقال بعضهم: إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك وما يشكّون، ولقد كانوا يظنون أنه

ص: 374

يوسف بن يعقوب؛ فلما هلك قالوا: ليس هكذا كان اللَّه وعد إبراهيم، فقال فرعون: فكيف ترون؟ قال: فأتمروا بينهم، وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالًا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه؛ فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم، وأن الصغار يذبحون، قالوا: يوشك أن تفنوا بني إسرائيل، فتصيرون إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر، فيقلّ أبناؤهم، ودَعُوا عامًا لا تقتلوا منهم أحدًا، فتشبّ الصغار مكان من يموت من الكبار، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم، فتخافون مكاثرتهم إياكم، ولن يقلّوا بمن تَقتلون، فأجمعوا أمرهم على ذلك.

فحملت أمّ موسى بهارون في العام المقبل الذي لا يُذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة، حتى إذا كان العام المقبل حملت بموسى، فوقع في قلبها الهمّ والحزن، وذلك من الفتون يا ابن جبير، مما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به، وأوحى اللَّه إليها:(وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم، فلما ولدته فعلت ما أمرت به، حتى إذا توارى عنها ابنها أتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما صنعت بابني لو ذبح عندي، فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه فأخذنه، فهممن أن يفتحن الباب، فقال بعضهن لبعض: إن في هذا مالًا وإنا إن فتحناه لَمْ تصدّقنا امرأة فرعون بما وجدنا فيه، فحملنه كهيئته لم يحرّكن منه شيئًا، حتى دفعنه إليها؛ فلما فتحته رأت فيه الغلام، فألقي عليه منها محبة لم يلق مثلها منها على أحد من الناس، (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا) من كلّ شيء إلا من ذِكر موسى، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا إلى امرأة فرعون بشفارهم، يريدون أن يذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبير، فقالت للذباحين: انصرفوا عني، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل، فآتي فرعون فأستوهبه إياه، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم، وإن أمر بذبحه لم ألُمكم، فلما أتت به فرعون قالت:(قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه، فقال: والذي يُحلف

ص: 375

به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت به، لهداه اللَّه به كما هدى به امرأته، ولكن اللَّه حَرَمه ذلك، فأرسلت إلى من حولها من كل أنثى لها لبن، لتختار له ظئرًا، فجعل كلما أخذته امرأة منهم لترضعه لم يقبل ثديها، حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت، فحَزَنها ذلك، فأمرت به فأُخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تصيب له ظئرًا يأخذ منها، فلم يقبل من أحد، وأصبحت أمّ موسى، فقالت لأخته: قصّيه واطلبيه، هل تسمعين أبيه ذكرًا، أحيٌّ ابني، أو قد أكلته دواب البحر وحيتانه؟ ونسيت الذي كان اللَّه وعدها، فبصرت، به أخته عن جُنُب وهم لا يشعرون، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤورات: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فأخذوها وقالوا: وما يدريك ما نُصحهم له، هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك، وذلك من الفتون يا ابن جُبير، فقالت: نُصحهم له وشفقتهم عليه، رغبتهم في ظؤورة المَلِك، ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر، فجاءت، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، فانطلق البُشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا، فأرسلت إليها، فأُتيت بها وبه، فلما رأت ما يصنع بها قالت: امكثي عندي حتى ترضع ابني هذا فإني لم أحبّ حبه شيئًا قطّ، قال: فقالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي، فيضيع، فإن طابت نفسك أن تعطينيه، فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرًا فعلت، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أمّ موسى ما كان اللَّه وعدها، فتعاسرت على امرأة فرعون، وأيقنت أن اللَّه تبارك وتعالى منجز وعده، فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته اللَّه نباتًا حسنًا، وحَفِظه لِمَا قضى فيه، فلم يزل بنو إسرائيل وهم مجتمعون في ناحية المدينة يمتنعون به من الظلم والسخرة التي كانت فيهم.

فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى: أزيريني ابني، فوعدتها يومًا تزيرها إياه فيه، فقالت لخواصها وظؤورتها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ليرى ذلك، وأنا باعثة أمينة تحصي كل ما يصنع كلّ إنسان منكم، فلم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فلما دخل عليها نَحَلته وأكرمته، وفرحت

ص: 376

به، وأعجبها ما رأت من حُسن أثرها عليه، وقالت: انطلقن به إلى فرعون، فلينحله، وليكرمه، فلما دخلوا به عليه جعلته في حجره، فتناول موسى لحية فرعون حتى مدّها، فقال عدوّ من أعداء اللَّه: ألا ترى ما وعد اللَّه إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه، وذلك من الفتون يا ابن جُبَير، بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به، فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون، فقالت: ما بدا لك في هذا الصبيّ الذي قد وهبته لي؟ قال: ألا ترين يزعم أنه سيصرعني ويعلوني فقالت: اجعل بيني وبينك أمرًا تعرف فيه الحق، أنت بجمرتين ولؤلؤتين، فقرّبهنّ إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين علمت أنه يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين، فاعلم أن أحدًا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرّب ذلك إليه، فتناول الجمرتين، فنزعوهما منه مخافة أن تحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى؟ فصرفه اللَّه عنه بعدما قد همّ به، وكان اللَّه بالغًا فيه أمره.

فلما بلغ أشدّه، وكان من الرجال، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة، حتى امتنعوا كلّ امتناع، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة، إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من بني إسرائيل، والآخر من آل فرعون، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني، فغضب موسى واشتدّ غضبه؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل، وحفظه لهم، ولا يعلم الناس إلا أنما ذلك من قِبَل الرضاعة غير أمّ موسى، إلا أن يكون اللَّه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره؛ فوكز موسى الفرعوني فقتله، وليس يراهما أحد إلا اللَّه والإسرائيلي، فقال موسى حين قتل الرجل:(هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) ثُمَّ قَالَ: (رَبِّ، إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) الأخبار، فأتى فرعون، فقيل له: إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلًا من آل فرعون، فخُذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم في ذلك، فقال: ابغوني قاتله ومن يشهد عليه؛ لأنه لا يستقيم أن يقضي بغير بيِّنة ولا ثبت، فطلبوا له ذلك؛ فبينما هم يطوفون لا يجدون ثَبَتًا، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونيًا، فاستغاثه الإسرائيلي على

ص: 377

الفرعوني، فصادف موسى وقد ندم على ما كان منه بالأمس وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، قال للإسرائيلي لِمَا فعل بالأمس واليوم:(إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) فنظر الإسرائيلي موسى بعدما قال، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني، فخاف أن يكون بعدما قال له:(إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) أن يكون إياه أراد، ولم يكن أراده، وإنما أراد الفرعوني، فخاف الإسرائيلي، فحاجَز الفرعوني فقال:(يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ) وإنما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله، فتتاركا؛ فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول: أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ فأرسل فرعون الذباحين، فسلك موسى الطريق الأعظم، فطلبوه وهم لا يخافون أن يفوتهم. وجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة، فاختصر طريقًا قريبًا حتى سبقهم إلى موسى، فأخبره الخبر، وذلك من الفتون يا ابن جُبير.

وعن مجاهد، قوله:{فُتُونًا} قال: بلاءً، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفًا. انتهى كلام ابن جرير رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ) شيخه الثالث في السند (فِي رِوَايَتِهِ) لهذا الحديث (عَنْ سَالِمٍ)؛ أي: رواه بـ "عن"، و (لَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ) كما شيخاه: عبد اللَّه بن عمر بن أبان، وواصل بن عبد الأعلى، فإنهما صرّحا بالسماع.

والحديث متّفقٌ عليه، دون قصّة سالم، وقد مضى تخريجه، وللَّه تعالى الحمد والمنّة.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"تفسير الطبري" 18/ 305 - 310.

ص: 378

(17) - (بَابٌ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَعْبُدَ دَوْسٌ ذَا الْخَلَصَةِ)

أما دوس فهو: ابن عُدْثان -بضم العين المهملة، وبعد الدال الساكنة مثلثة- ابن عبد اللَّه بن زهران بن كعب بن الحارث بن نصر بن الأزد، بطن كبير من الأزد، يُنسب إليهم خلق كثير، قاله في "اللباب"

(1)

.

وأما ذو الخلصة -فبفتح الخاء المعجمة، واللام، بعدها صاد مهملة- وحَكَى ابن دُريد فتح أوله، وإسكان ثانيه، وحَكَى ابن هشام ضمها، وقيل: بفتح أوله وضم ثانيه، والأول أشهر، والخلصة نبات له حَبّ أحمر، كخرز العقيق، وذو الخلصة اسم للبيت الذي كان فيه الصنم، وقيل: اسم البيت: الخلصة، واسم الصنم: ذو الخلصة، وحَكَى المبرِّد أن موضع ذي الخلصة صار مسجدًا جامعًا لبلدة يقال لها: العَبَلات، من أرض خثعم، ووَهِم من قال: إنه كان في بلاد فارس، قاله في "الفتح"

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7271]

(2906) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ"، وَكَانَتْ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتَبَالَةَ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ) النيسابوريّ الحافظ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمّام، أبو بكر الصنعانيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مَعْمَرُ) بن راشد، أو أبو عروة اليمنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 513.

(2)

"الفتح" 8/ 71.

ص: 379

والباقون ذُكروا قبل بابين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنِ الزُّهْرِيِّ) وفي رواية الإسماعيليّ: "حدَّثَنِي الزهريّ"، (عَن) سعيد (بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى تَضْطَرِبَ)؛ أي: يضرب بعضها بعضًا، (أَلَيَاتُ) بفتح الهمزة، واللام: جمع أَلْية بالفتح أيضًا، مثل جَفْنة وجَفَنات، والألية: العجيزة، وجمعها أعجاز، و"ألياتُ" مضاف إلى (نِسَاءِ دَوْسِ) بفتح الدال، وإسكان الواو، آخره سين مهملة، القبيلة المشهورة، وهي قبيلة أَبي هريرة رضي الله عنه، (حَوْلَ ذِي الْخَلَصةِ") وفي رواية البخاريّ:"على ذي الخلصة"، (وَكَانَتْ)؛ أي: ذو الخلصة، أنثها لاكتسابها التأنيث من المضاف إليه، (صَنَمًا) الصَّنَمُ -بفتحتين-: يقال: هو الوَثَن المتخذ من الحجارة، أو الخشب، ويُروَى عن ابن عباس، ويقال: الصَّنَمُ: المتخذ من الجواهر المعدنية، التي تذوب، والوَثَنُ: هو المتخذ من حجر، أو خشب، وقال ابن فارس: الصَّنَمُ: ما يُتخذ من خشب، أو نحاس، أو فضة، والجمع: أَصْنَامٌ. انتهى

(1)

.

(تَعْبُدُهَما) تقدّم وجه تأنيثها، (دَوْسٌ) القبيلة المذكورة، (فِي الْجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: في الأيام التي كانت قبل الإسلام، وأما بعد الإسلام فقد هدمها جرير بن عبد اللَّه البجليّ رضي الله عنه، فقد أخرج الشيخان عن جرير رضي الله عنه قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ألا تُريحني من ذي الخلصة"، وكان بيتًا في خثعم، يسمى الكعبة اليمانية، فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري، حتى رأيت أثر أصابعه في صدري، وقال:"اللَّهُمَّ ثبّته، واجعله هاديًا مهديًّا"، فانطلق إليها، فكسرها، وحرّقها، ثم

(1)

"المصباح المنير" 1/ 349.

ص: 380

بعث إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال رسول جرير: والذي بعثك بالحقّ ما جئتك حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبارك في خيل أحمس، ورجالها خمس مرات.

وفي رواية للبخاريّ: "وذو الخلصة طاغيةُ دوس التي كانوا يعبدون".

وقوله: (بِتَبَالَةَ) -بفتح المثناة، وتخفيف الموحّدة، وبعد الألف لام، ثم هاء تأنيث- قرية بين الطائف واليمن، بينهما ستة أيام، وهي التي يُضرب بها المثل، فيقال: أهون من تبالة على الحجاج رحمه الله، وذلك أنها أول شيء وَلِيَهُ، فلما قَرب منها سأل من معه عنها، فقال: هي وراء تلك الأكمة، فرجع، فقال: لا خير في بلد يسترها أكمة، وكلام صاحب "المطالع" يقتضي أنهما موضعان، وأن المراد في الحديث غير تبالة الحجاج، وكلام ياقوت يقتضي أنها هي، ولذلك لم يذكرها في المشترك، وعند ابن حبان من هذا الوجه، قال معمر: إن عليه الآن بيتًا مبنيًا مغلقًا.

وقال ابن التين: فيه الإخبار بأن نساء دوس يركبن الدواب من البلدان إلى الصنم المذكور، فهو المراد باضطراب ألياتهن.

قال الحافظ: ويَحْتَمِل أن يكون المراد: أنهنّ يتزاحمن بحيث تضرب عجيزة بعضهنّ الأخرى، عند الطواف حول الصنم المذكور.

وفي معنى هذا الحديث ما أخرجه الحاكم، عن عبد اللَّه بن عمر قال:"لا تقوم الساعة حتى تَدافَع مناكب نساء بني عامر على ذي الخلصة"، وابن عديّ من رواية أبي معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة، رفعه:"لا تقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعزى".

قال ابن بطال: هذا الحديث وما أشبهه ليس المراد به أن الدين ينقطع كله في جميع أقطار الأرض، حتى لا يبقى منه شيء؛ لأنه ثبت أن الإسلام يبقى إلى قيام الساعة، إلا أنه يضعف، ويعود غريبًا كما بدأ، ثم ذكر حديث:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق. . . " الحديث، قال: فتبيّن في هذا الحديث تخصيص الأخبار الأخرى، وأن الطائفة التي تبقى على الحقّ تكون ببيت المقدس، إلى أن تقوم الساعة، قال: فبهذا تأتلف الأخبار.

وتعقّبه الحافظ، قائلًا: ليس فيما احتَجّ به تصريح إلى بقاء أولئك إلى

ص: 381

قيام الساعة، وإنما فيه حتى يأتي أمر اللَّه، فيَحْتَمِل أن يكون المراد بأمر اللَّه ما ذُكر من قبض من بقي من المؤمنين، وظواهر الأخبار تقتضي أن الموصوفين بكونهم ببيت المقدس أن آخرهم من كان مع عيسى عليه السلام، ثم إذا بعث اللَّه الريح الطيبة، فقبضت روح كل مؤمن، لم يبق إلا شرار الناس.

وقد أخرج مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، وسائر الآيات العظام، وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك، إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة، وهو عند أحمد.

وفي مرسل أبي العالية: "الآيات كلُّها في ستة أشهر".

وعن أبي هريرة: "في ثمانية أشهر".

وقد أورد مسلم عقب حديث أبي هريرة من حديث عائشة ما يشير إلى بيان الزمان الذي لم يقع فيه ذلك، ولفظه:"لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات، والعزى -وفيه- يبعث اللَّه ريحًا طيبة، فَتَوفَّى كلَّ من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم".

وعنده في حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، رفعه:"يخرج الدجال في أمتي. . . الحديث -وفيه- فيبعث اللَّه عيسى ابن مريم، فيطلبه، فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ثم يرسل اللَّه ريحًا باردةً من قِبَل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال حبة من خير، أو إيمان إلا قبضته -وفيه- فيبقى شرار الناس في خِفّة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثل لهم الشيطان، فيأمرهم بعبادة الأوثان، ثم يُنفخ في الصُّور".

فظهر بذلك أن المراد "بأمر اللَّه" في حديث: "لا تزال طائفة": وقوع الآيات العظام التي يعقبها قيام الساعة، ولا يتخلف عنها إلا شيئًا يسيرًا.

ويؤيده حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما، رفعه:"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقّ، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم الدجال"، أخرجه أبو داود، والحاكم.

قال: ويؤخذ منه صحة ما تأولته، فإن الذين يقاتلون الدجال يكونون بعد قتله مع عيسى عليه السلام، ثم تُرسل عليهم الريح الطيبة، فلا يبقى بعدهم إلا الشرار، كما تقدم.

ص: 382

قال: ووجدت في هذا مناظرة لعقبة بن عامر، ومحمد بن مسلمة، فأخرج الحاكم من رواية عبد الرحمن بن شِماسة، أن عبد اللَّه بن عمرو قال:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شرّ من أهل الجاهلية" فقال عقبة بن عامر: عبدُ اللَّه أعلم ما يقول، وأما أنا فسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:"لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر اللَّه، ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم"، حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، فقال عبد اللَّه: أَجَلْ، ويبعث اللَّه ريحًا ريحها ريح المسك، ومسّها مسّ الحرير، فلا تترك أحدًا في قلبه مثقال حبة من إيمان، إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة".

فعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة: "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم هم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ

(1)

رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره الحافظ رحمه الله تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا.

خلاصته: أنه لا تنافي بين قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تأتيهم الساعة، وهم على ذلك"، وبين قصّة الريح الليّنة، فإن تلك الريح هي الساعة في حقّهم، فهم يقومون على القتال في سبيل اللَّه إلى أن تهبّ تلك الريح، فتقبض أرواح جميعهم، فعند ذلك يبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، فلا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، وهذا فضل اللَّه تعالى عظيم، حيث لا يرى المؤمن أهوال قيام الساعة، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 7271](2906)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7116)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20795)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 271)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6749)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(77 و 78)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 166)، و (الدانيّ) في "السنن

(1)

"الفتح" 13/ 77.

ص: 383

الواردة في الفتن" (4/ 829)، و (نعيم بن حمّاد) في "الفتن" (2/ 600)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة" (4285)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7272]

(2907) - (حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقاشِيُّ -وَاللَّفْظُ لأَبِي مَعْنٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْد الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} [الصف: 9] أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا، قَالَ:"إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الأَسْوَدُ بْنُ الْعَلَاءِ) بن جارية -بالجيم- الثقفيّ، ويقال له: سُويد، ثقةٌ [6](م س) تقدم في "الحدود" 12/ 4465.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين، و"خالد بن الحارث" هو: الهُجيميّ، و"أبو سلمة" هو: ابن عبد الرحمن بن عوف.

شرح الحديث:

(عَنْ عَائِشَةَ) أم المؤمنين رضي الله عنها؛ أنها (قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا) نافيةٌ، ولذا رُفع الفعل بعدها، (يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ)؛ أي: لا تنتهي الدنيا (حَتَّى تُعْبَدَ) بالبناء للمفعول، (اللَّاتُ وَالْعُزَّى") اسما صنمين، قال الواحديّ وغيره: وكانوا ويشتقون لها أسماء من أسماء اللَّه تعالى، فقالوا من اللَّه: اللات، ومن العزيز العزّي، وهي تأنيث الأعزّ بمعنى العزيزة، ومناة من مَنَى اللَّه الشيءَ: إذا قدّره. قرأ الجمهور: {اللَّاتَ} [النجم: 19] بتخفيف التاء، فقيل: هو مأخوذ من اسم اللَّه سبحانه كما تقدّم، وقيل: أصله: لات يليت، فالتاء

ص: 384

أصلية، وقيل: هي زائدة، وأصله لوى يلوي؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتّون عليها، ويطوفون بها. واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء، ووقف عليها الكسائي بالهاء، واختار الزجاج، والفراء الوقف بالتاء؛ لاتباع رسم المصحف، فإنها تُكتب بالتاء، وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، ومنصور بن المعتمر، وأبو الجوزاء، وأبو صالح، وحميد:{اللَّاتَ} بتشديد التاء، ورُويت هذه القراءة عن ابن كثير، فقيل: هو اسم رجل كان يلتّ السويق، ويطعمه الحاج، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل. قال مجاهد: كان رجلًا في رأس جبل يتخذ من لبنها وسمنها حَيْسًا، ويُطعم الحاج، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه. وقال الكلبي: كان رجلًا من ثقيف له صِرْمة غنم، وقيل: إنه عامر بن الظرب العدواني، وكان هذا الصنم لثقيف، وفيه يقول الشاعر:

لا تنْصُروا اللاتَ إنَّ اللَّهَ مُهْلِكُها

وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ

قال في "الصحاح": و {اللَّاتَ} اسم صنم لثقيف، وكان بالطائف، وبعض العرب يقف عليها بالتاء، وبعضهم بالهاء. {وَالْعُزَّى} [النجم: 19]: صنم قريش، وبني كنانة. قال مجاهد: هي شجرة كانت بغطفان، وكانوا يعبدونها، فبعث إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقطعها، وقيل: كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة. وقال سعيد بن جبير: العزى: حجر أبيض كانوا يعبدونه. وقال قتادة: هي بيت كان ببطن نخلة. {وَمَنَاةَ} [النجم: 20]: صنم بني هلال. وقال ابن هشام: صنم هذيل وخزاعة. وقال قتادة: كانت للأنصار. انتهى

(1)

.

قال عائشة رضي الله عنها: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ)"إن" مخفّفة من الثقيلة، ولذا وقعت بعدها اللام لعدم عملها، كما قال في "الخلاصة":

وَخُفِّفَتْ "إِنَّ" فَقَلَّ الْعَمَلُ

وَتَلْزَمُ اللَّامُ إِذَا مَا تُهْمَلُ

(لأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ) سبحانه وتعالى قوله: ({هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)}).

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 7/ 70 - 71.

ص: 385

قال أبو جعفر الطبريّ رحمه الله: يقول تعالى ذكره: اللَّه الذي يأبى إلا إتمام دينه، ولو كره ذلك جاحدوه، ومنكروه، (الذي أرسل رسوله)، محمدًا صلى الله عليه وسلم (بالهدى)؛ يعني: ببيان فرائض اللَّه على خلقه، وجميع اللازم لهم (و) بـ (دين الحق) وهو الإسلام، (ليظهره على الدين كله)، يقول: ليُعلي الإسلام على الملل كلها، (ولو كره المشركون)، باللَّه ظهورَه عليها.

ثم ذكر اختلاف أهل التأويل في معنى قوله: (ليظهره على الدين كله) فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى عليه السلام، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً، وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائعَ الدين كلها، فيطلعه عليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:(ليظهره على الدين كله)، قال: ليُظهر اللَّه نبيّه صلى الله عليه وسلم على أمر الدين كله، فيعطيه إيّاه كله، ولا يخفى عليه منه شيء، وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك. انتهى

(1)

.

(أَنَّ ذَلِكَ) المذكور في الآية من ظهور الإسلام على الأديان كلها يكون (تَامًّا) مستمرًّا إلى يوم القيامة، تعني أنها فَهِمت من هذه الآية الكريمة أن المسلمين لن يُغلبوا أبدًا، ولن يعود الكفر بعدما أظهر اللَّه تعالى الإسلام على جميع الأديان، فـ (قَالَ) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:("إِنَّهُ) الضمير للشأن؛ أي: إن الحال والشأن، (سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ) الذي فهمته، من ظهور الإسلام على الأديان كلها (مَا شَاءَ اللَّهُ) كونه.

حاصل الجواب: أن ما دلّت عليه الآية من ظهور الإسلام على الدين كلّه ليس قضيّة دائمة مستمرّة إلى يوم القيامة، بل هي مغيّبات بما بيّنه بقوله:(ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ) سبحانه وتعالى (رِيحًا طَيِّبَةً) في رائحتها، ليّنة في هبوبها، (فَتَوَفَّى) أصله فتتوفَّى، فحُذفت منه إحدى التاءين؛ تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وقوله:{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ} [القدر: 4]، كما قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصَرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وقوله: (كُلَّ مَنْ) بالنصب على المفعوليّة، (فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ)؛ أي: فيموت بسببها كل مؤمن، (فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ) من الكفرة،

(1)

"تفسير الطبريّ" 14/ 214 - 215.

ص: 386

والمنافقين، (فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ")؛ أي: وهو عبادة الأصنام، كما قال في أول الحديث:"لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللاتُ والعزى"، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عائشة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [17/ 7272 و 7273](2907)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(4564)، و (الحاكم) في "المستدرك"(7/ 134)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 181)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(4/ 830)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7273]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ -وَهُوَ الْحَنَفِيُّ- حَدَّثَنَا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ) عبد الكبير بن عبد المجيد بن عُبيد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [9](ت 204)(ع) تقدم في "الصلاة" 49/ 1136.

والباقيان ذُكرا في الباب، والباب الماضى.

[تنبيه]: رواية أبي بكر الحنفيّ عن عبد الحميد بن جعفر هذه ساقها أبو يعلى رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(4564)

- حدّثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة، حدّثنا أبو بكر الحنفيّ، حدّثني عبد الحميد بن جعفر، عن الأسود بن العلاء، عن أبي سلمة، عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لن يذهب الليل والنهار حتى يُعبد اللاتُ والعزى" قالت: قلت: يا رسول اللَّه، فقد كنتُ أظن حين قال اللَّه:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 33] وأن ذلك تامًّا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "سيكون من ذلك ما شاء اللَّه، ثم يبعث اللَّه ريحًا طيبةً، فتَقبِض روح من كان في قلبه

ص: 387

مثقال حبة من خردل من خير، ويبقى الآخرون، فيرجعون إلى دين آبائهم". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(18) - (بَابُ بَيَانِ أُمُورٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا تَقَدَّمَ تَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7274]

(157)

(2)

- (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُل بِقَبْرِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ) إمام دار الهجرة، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد اللَّه بن ذكوان المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(الأَعْرَجُ) عبد الرحمن بن هُرْمُز المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

والباقيان ذُكرا في البابين الماضيين.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين، غير شيخه، فبغلانيّ، وقد دخلا المدينة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأنه أحد ما قيل: إنه أصحّ أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أكثر من روى الحديث في دهره.

(1)

"مسند أبي يعلى" 8/ 47.

(2)

هذا مكرّر، هكذا جعله مكرّرًا، وهو غير صحيح، فإن الحديث الذي مضى بهذا الرقم غير هذا الحديث سندًا ومتنًا، فلتراجعه لترى الصواب، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 388

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، (تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ) المراد بهما الجنس، فهما في قوة النكرة، ويمكن أن يراد بهما الاستغراق، فكل فرد في هذا الاستحقاق. (فَيَقُولُ: يَما لَيْتَنِي مَكَانَهُ")؛ أي: ميتًا، وفي الرواية التالية: "وليس به الدّين" بكسر الدال "إلا البلاء"؛ أي: الحامل له على التمني ليس الدِّين، بل البلاء، وكثرة المحن، والفتن، وسائر الضراء.

وقال في "الفتح": قوله: "فيقول: يا ليتني مكانه"؛ أي: كنتُ ميتًا، قال ابن بطال: تَغَبُّط أهل القبور، وتمنّي الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدِّين بغلبة الباطل وأهله، وظهور المعاصي والمنكر. انتهى.

قال الحافظ: وليس هذا عامًّا في حق كل أحد، وإنما هو خاصّ بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لِمَا يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه، أو أهله، أو دنياه، وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه في رواية أبي حازم، عن أبي هريرة، عند مسلم:"لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر، فيتمرغ عليه، ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين، إلا البلاء".

وذِكر الرجل فيه للغالب، وإلا فالمرأة يُتصور فيها ذلك، والسبب في ذلك ما ذُكر في رواية أبي حازم أنه يقع البلاء، والشدة، حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء، فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده، وبهذا جزم القرطبيّ، وذكره عياض احتمالًا، وأغرب بعض شرّاح "المصابيح"، فقال: المراد بالدِّين هنا العادة، والمعنى أنه يتمرغ على القبر، ويتمنى الموت في حالة ليس المتمرّغ فيها من عادته، وإنما الحامل عليه البلاء.

وتعقبه الطيبيّ بأن حمل الدِّين على حقيقته أَولى؛ أي: ليس التمني والتمرغ لأمر مر أصابه من جهة الدِّين، بل من جهة الدنيا.

وقال ابن عبد البرّ: ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن هذا القدر سيكون؛ لشدة تنزل بالناس

ص: 389

من فساد الحال في الدِّين، أو ضعفه، أو خوف ذهابه، لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال.

قال الحافظ: وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدِّين فلا.

وقد ذكره عياض احتمالًا أيضًا، وقال غيره: ليس بين هذا الخبر وحديث، النهي عن تمني الموت معارضةٌ؛ لأن النهي صريح، وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل، ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار عما سيقع.

قال الحافظ: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: "وليس به الدِّين، إنما هو البلاء"، فإنه سيق مساق الذمّ والانكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسب الدِّين، لكان محمودًا.

ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدِّين عن جماعة من السلف، قال النوويّ: لا كراهة في ذلك، بل فعله خلائق من السلف، منهم عمر بن الخطاب، وعيس الغفاريّ، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم.

ثم قال القرطبيّ: كأن في الحديث إشارةً إلى أن الفتن والمشقة المبالغة ستقع حتى يخفّ أمر الدِّين، ويقل الاعتناء بأمره، ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه، ومعاش نفسه، وما يتعلق به، ومن ثَمَّ عَظُم قدر العبادة أيام الفتنة، كما أخرج مسلم من حديث مَعْقِل بن يسار، رفعه:"العبادة في الْهَرْج، كهجرة إليّ".

ويؤخذ من قوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل" أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادًا، بل فيه إشارة إلى قوّة هذا التمني؛ لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده، قد يذهب ذلك التمني، أو يخفّ، عند مشاهدة القبر، والمقبور، فيتذكر هول المقام، فيضعف تمنّيه، فإذا تمادى على ذلك دلّ على تأكد أمر تلك الشدة عنده، حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر، وتذكّر ما فيه من الأهوال عن استمراره على تمني الموت.

وقد أخرج الحاكم من طريق أبي سلمة قال: "عُدت أبا هريرة، فقلت:

ص: 390

اللَّهُمَّ اشف أبا هريرة، فقال: اللَّهُمَّ لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فَمُت، والذي نفسي بيده ليأتينّ على العلماء زمانٌ الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، وليأتين أحدهم قبر أخيه، فيقول: ليتني مكانه".

وفي "كتاب الفتن" من رواية عبد اللَّه بن الصامت، عن أبي ذرّ قال:"يوشك أن تمر الجنازة في السوق على الجماعة، فيراها الرجل، فيهز رأسه، فيقول: يا ليتني مكان هذا، قلت: يا أبا ذرّ: إن ذلك لمن أمر عظيم، قال: أَجَلْ"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7274 و 7275](157)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7115 و 7121)، و (مالك) في "الموطّأ"(1/ 241)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 378)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 236 و 530)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6707)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(2/ 453 و 454)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان أن من أشراط الساعة التي لا بدّ من وقوعها مرور الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه، وهذا إن لم يكن قد وقع فهو واقع لا محالة، وليس يلزم أن يكون في كل البلدان، ولا في كل الأزمنة، ولا لجميع الناس، بل يصدق هذا بأن يتفق لبعضهم في بعض الأقطار، وقد ذكر ابن عبد البرّ، والقاضي عياض أن ذلك قد وقع.

2 -

(ومنها): أنه يَحْتَمِل أن يكون سبب هذا التمني ما يُرى من البلاء، والمحن، والشدائد، والفتن، فيَرى الموت الذي هو أعظم المصائب أهون مما هو فيه، فيتمنى المصيبة الهيّنة في اعتقاده، ويَحْتَمِل أن يكون سببه ما يرى من

(1)

"الفتح" 16/ 548 - 549، "كتاب الفتن" رقم (7115).

ص: 391

تغيير الشريعة، وتبديل الدين، فيتمنى الموت لسلامة دينه، وقد ذكر الاحتمالين القاضي عياض، والثاني منهما مردود؛ لقوله في الرواية الأخرى:"وليس به الدِّين إلا البلاء"؛ أي: لا يحمله على ذلك أمر الدين، وإنما يحمله عليه البلاء، وقد جزم ابن عبد البر بهذا الاحتمال المردود، فقال: ظن بعض الناس أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وقال: في هذا إباحة تمنيه، وليس كما ظن، وإنما هذا خبر أن ذلك سيكون؛ لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين، وضعفه، وخوف ذهابه، لا لضرر ينزل بالمؤمن في جسمه. انتهى.

قال وليّ الدين: وقد عرفت أن رواية مسلم من طريق أبي حازم تردّه.

[فإن قلت]: إذا لم يكن كذلك فما الجمع بينه وبين النهي عن تمني الموت؟

[قلت]: لا معارضة بينهما حتى يحتاج إلى الجمع؛ لأن هذا الحديث إخبار عن شدةٍ تحصل، ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه الحكم على هذا التمني بشيء، لا بتحريم، ولا كراهة، ولا إباحة، فالحديث إنما سيق للإخبار عما سيقع، وأما حكم التمني فمأخوذ من حديث آخر، وجزم أبو العباس القرطبيّ بالاحتمال الأول الراجح، ثم قال: وكأن هذا إشارة إلى أن أكثر الفتن والمشقات والأنكَاد قد أذهبت الدِّين من أكثر الناس، أو قلَّلت الاعتناء به من الذي يتمسك بالدين عند هجوم الفتن، ولذلك عَظُم قَدْر العبادة في حالة الفتن، حتى قال:"العبادة في الهرْج كهجرة إليّ". انتهى

(1)

.

3 -

(ومنها): أن قوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل" الظاهر أن ذكر الرجل في الموضعين خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، فالمرأة في ذلك كالرجل، ويَحْتَمِل أنه إنما يحصل هذا التمني للرجال خاصة، فإنهم الذين يُبْتَلون بالشدائد، والمحن، ويظهر فيهم ثمرة الفتن، بخلاف النساء، فإنهن محجوبات في الأغلب، لا يَصْلَين نار الفتن، قال الشاعر:

كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا

وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ

(1)

"المفهم" 7/ 245.

ص: 392

4 -

(ومنها): أنه قد يُفْهَم من الحديث أن هذا التمني لا يَعرِض للإنسان إلا عند رؤية القبر، وذلك قد يدلّ على خفة هذا التمني، وعدم تأكده، فلو تأكد لاستحضره من غير رؤية القبر.

ويَحْتَمِل أن يقال: هذا أبلغ؛ لأن الإنسان قد يتمنى الموت من غير استحضار لهيئته وصورته، فإذا استحضره وتصوّره، وشاهد الموتي، ورأى القبور نفر من هذا الأمر، وأحب الحياة، ولم يعد يتمنى الموت، ولمّا كان الرجل مستمرًّا على تمني الموت مع ذلك، دل على تأكد هذا الأمر، وقوته عنده، إذ لم يصرفه عنه ما شاهد من وحشة القبور، وفي تلك الرواية التي عند مسلم مبالغة في ذلك الأمر، وهو أنه يتمرغ على القبر، وذلك يدل على تأكد تمنّيه، وشدة تعلقه به، واللَّه أعلم

(1)

.

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7275]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانَ بْنِ صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبَانَ- قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ، فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَني

(2)

كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ، إِلَّا الْبَلَاءُ").

رجال هذا الإسناد: ستّةٌ:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الرِّفَاعِيُّ) هو: محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجليّ، أبو هشام الكوفيّ، قاضي المدائن، ليس بالقويّ، من صغار [10] وذكره ابن عديّ في شيوخ البخاريّ، وجزم الخطيب بأن البخاريّ روى عنه، لكن قد قال البخاريّ: رأيتهم مُجْمِعين على ضَعْفه، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين (م د ق) تقدم في "الزكاة" 18/ 2341.

2 -

(أَبُو إِسْمَاعِيلَ) أو أبو مُنَين -بنونين، مصغّرًا- يزيد بن كيسان

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 3/ 238 - 240.

(2)

وفي نسخة: "يا ليتني مكان".

ص: 393

اليشكريّ الكوفيّ، صدوق يخطئ [6](بخ م 4) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

3 -

(أَبُو حَازِمٍ) سلمان الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ [3] مات على رأس المائة (ع) تقدم في "الإيمان" 9/ 142.

والباقون ذُكروا في البابين الماضيين.

وقوله: (فَيَمَرَّغُ عَلَيْهِ) الظاهر أنه منصوب بالعطف على "يمرّ"، وكذا "يقول"، وضُبط بالقلم بالرفع، وله وجه، وهو أن يقدّر له مبتدأ؛ أي: فهو يتمرَّغ ويقول، والتمرّغ: التقلّب، يقال: تمرّغ؛ أي: تقلّب، وتلوّى من وجع يجده، قاله المجد.

وقوله: (وَلَيْس بِهِ الدِّينُ، إِلَّا الْبَلَاءُ") قال المظهر: الدِّين هنا العادة، "وليس" في موضع الحال من الضمير في "يتمرغ"؛ يعني: يتمرغ على رأس القبر، ويتمنى الموت في حال ليس التمرغ من عادته، وإنما حَمَل عليه البلاء.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفسيره الدِّين بالعادة غير صحيح، بل الصواب أنه الدّين على حقيقته؛ أي: ليس ذلك التمرغ والتمني لأمر أصابه من جهة الدِّين، وإنما هو من جهة الدنيا، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله قبله، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7276]

(2908) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ يَزِيدَ -وَهُوَ ابْنُ كيْسَانَ- عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ

(1)

قُتِلَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِّيُّ) محمد بن يحيى بن أبي عمر، تقدّم قريبًا.

2 -

(مَرْوَانُ) بن معاوية الفزاريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

(1)

وفي نسخة: "في أيّ شيء".

ص: 394

والباقون ذُكروا قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ)؛ أي: يوم عظيمٌ، فيه شرّ جسيم، (لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ) بالبناء للفاعل؛ أي: قَتَلَ المقتولَ، هل يجوز قتله أم لا؟ (وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ) نفسه، أو أهله (عَلَى أَيِّ شَيْءٍ) وفي نسخة:"في أيّ شيء"، (قُتِلَ") بالبناء للمفعول؛ أي: هل بسبب شرعيّ، أو بغيره؟ زاد في الرواية التالية:"فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ " قَالَ: "الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"؛ أي: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم ما سبب وقوع القتل بحيث لا يَعرف القاتل، ولا المقتول بسببه؟ قال: الهرج؛ أي: الفتنة، والاختلاطات الكثيرة الموجبة للقتل المجهول، والمعنى: أن سببه ثوران الهرج بالكثرة، وهيجانه بالشدة، وقوله:"القاتل والمقتول في النار"، أما القاتل فلقتله مسلمًا، وأما المقتول فلأنه كان حريصًا على قَتْل مسلم أيضًا ولكنه لم يجد الفرصة، قال النوويّ رحمه الله: أما القاتل فظاهر، وأما المقتول، فإنه أراد قَتْل صاحبه، وفيه دلالة للمذهب الصحيح المشهور أن من نوى المعصية، وأصرّ على النية يكون آثمًا، وإن لم يفعلها، ولم يتكلم بها. انتهى.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7276 و 7277](2908)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنفه"(7/ 487)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(3/ 526)، و (الرافعيّ) في "أخبار قزوين"(3/ 106)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7277]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ، وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، منْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَذْهَبُ

ص: 395

الدُّنْيَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ

(1)

قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ"، فَقِيلَ: كيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "الْهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبَانَ: قَالَ: هُوَ يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ

(2)

، لَمْ يَذْكُرِ الأَسْلَمِيَّ).

رجال هذا الإسناد: ستّة:

وكلهم ذُكروا قبله، غير:

1 -

(أَبِي إِسمَاعِيلَ الأَسْلَمِيِّ) فهو بشير بن سلمان الكنديّ الكوفيّ، والد الحكم، ثقةٌ يُغْرِب [6](بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 46/ 1889.

[تنبيه]: قال النوويّ رحمه الله: وفي الرواية: "حدّثنا محمد بن فضيل، عن أبي إسماعيل الأسلميّ، عن أبي حازم"، ثم قال مسلم:"وفي رواية أبان: قال: هو يزيد بن كيسان، عن أبي إسماعيل، لم يذكر الأسلميّ". هكذا هو في النُّسخ، ويزيد بن كيسان هو أبو إسماعيل، وفي الكلام تقديم وتأخير، ومراده: وفي رواية ابن أبان قال: عن أبي إسماعيل، هو يزيد بن كيسان، وظاهر اللفظ يوهم أن يزيد بن كيسان يرويه عن أبي إسماعيل، وهذا غلط، بل يزيد بن كيسان هو أبو إسماعيل، ووقع في بعض النُّسخ:"عن يزيد بن كيسان؛ يعني: أبا إسماعيل" وهذا يوضح التأويل الذي ذكرناه، وقد أوضحه الأئمة بدلائله كما ذكرته، قال أبو عليّ الغسانيّ: اعلم أن يزيد بن كيسان يكنى أبا إسماعيل، وأن بشير بن سلمان يكنى أبا إسماعيل الأسلميّ، وكلاهما يروي عن أبي حازم، فقد اشتركا في أحاديث عنه، منها هذا الحديث، رواه مسلم أَوّلًا عن يزيد بن كيسان، ثم رواه عن رواية أبي إسماعيل الأسلميّ، إلا في رواية ابن أبان، فإنه جعاله عن يزيد بن كيسان أبي إسماعيل، ولهذا لم يذكر الأسلميّ في نسبه، واللَّه أعلم. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(3)

.

(1)

وفي نسخة: "فيما" في الموضعين.

(2)

هذا غلط، والصواب يعني:"أبا إسماعيل"، وسيأتي الكلام عليه، فتنبّه.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 34 - 35.

ص: 396

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عبارة الحافظ أبي عليّ الجيّاني الغسّاني رحمه الله في "تقييده":

قال مسلم: حدّثنا ابن أبي عمر المكيّ إلخ، ثم عقّب بعده بإسناد آخر، فقال: نا عبد اللَّه بن عمر بن أبان، وواصل بن عبد الأعلى، قالا: نا محمد بن فُضيل، عن أبي إسماعيل الأسلميّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا.

قال: وفي رواية ابن أبان قال: هو يزيد بن كيسان؛ يعني: أبا إسماعيل، لم يذكر الأسلميّ.

هكذا وقع في النُّسخ، يريد مسلم أن شيخيه اختلفا، فقال واصل: عن ابن فضيل، عن أبي إسماعيل الأسلميّ -يعني به: بشير بن سلمان- وقال عبد اللَّه بن عمر بن أبان: عن ابن فُضيل، عن أبي إسماعيل، ولم يذكر الأسلميّ؛ يعني به: يزيد بن كيسان.

وهذا يحتاج إلى مقدّمة نذكرها هنا، وهي أن نعلم أن يزيد بن كيسان اليشكريّ يُكنى أبا إسماعيل، وأن أبا إسماعيل الأسلميّ رجل آخر اسمه بشير بن سلمان، وكلاهما روى عن أبي حازم، وقد اشتركا في غير حديث عن أبي حازم الأشجعيّ، وقد بيّن ذلك أبو محمد بن الجارود في كتاب "الكنى" له، فقال: أبو إسماعيل بشير بن سلمان كوفيّ عن أبي حازم، روى عنه زهير، ومحمد بن فُضيل.

ثم قال بعد هذا: أبو إسماعيل يزيد بن كيسان اليشكريّ، عن أبي حازم، كناه عبد الواحد.

قال أبو محمد بن الجارود: وقد اشترك بشير أبو إسماعيل الأسلميّ، وأبو إسماعيل يزيد بن كيسان اليشكريّ في غير حديث، ثم ذكر منها عدّة أحاديث.

منها: ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة: أن رجلًا أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إني تزوّجت امرأةً من النصارى على ثماني أواقي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كأنما تَنْحِتون الفضّة من عُرْض هذا الجبل"، رواه مسلم.

ومنها: حديث آخر يرويه أبو حازم عن أبي هريرة: أن عمر خرج من

ص: 397

بيته، وذكر ذهاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر إلى بيت رجل من الأنصار وقوله لهما:"ما أخرجكما؟ " قالا: الجوع. . . الحديث بطوله، رواه مسلم.

ومنها: ما رواه أبو حازم عن أبي هريرة في تعريس النبيّ صلى الله عليه وسلم بطريق مكة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضى ركعتي الفجر بعدما طلعت الشمس، رواه مسلم.

ومنها: حديث أبي حازم عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسه بيده لن تذهب الدنيا حتى يتمرّغ الرجل على القبر، فيقول: ليتني صاحب، هذا القبر"، رواه مسلم.

ذكر ابن الجارود هذه الأحاديث عن أبي إسماعيل الأسلميّ، وأبي إسماعيل اليشكريّ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

وخرّج مسلم من هذه الأحاديث المشترك فيها، مما لم يذكره ابن الجارود: حديث فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} [الإخلاص: 1] من حديث يزيد بن كيسان، وبشير أبي إسماعيل، كلاهما عن أبي حازم، عن أبي هريرة، رواه مسلم.

ثم قال أبو محمد: فقد بان بما ذكرنا من الدلائل أن أبا إسماعيل بشيرًا غير أبي إسماعيل يزيد، وإن اتّفقا في الرواية؛ لأن بشيرًا هو ابن سلمان الأسلميّ، وأبو إسماعيل: يزيد بن كيسان.

قال أبو عليّ: فكذلك هذا الحديث الواقع في "كتاب الفتن" أخرجه مسلم أَوّلًا من حديمشا يزيد بن كيسان، ثم أخرجه بعد ذلك من حديث أبي إسماعيل الأسلميّ، إلا في رواية عبد اللَّه بن عمر بن أبان، فإنه جعله عن يزيد بن كيسان أبي إسماعيل، ولذلك لم يذكر الأسلميّ في نسبه، واللَّه أعلم. انتهى كلام الحافظ الغسّاني رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكر الحافظ أبو عليّ الغسّاني بحث نفيس جدًّا.

خلاصته: أن هذا الحديث رواه مسلم عن كل من يزيد بن كيسان، وبشير بن سلمان، وكلاهما يُكنى أبا مسلم، ففي رواية ابن أبي عمر صرّح بأنه يزيد بن كيسان، وفي رواية عبد اللَّه بن عمر بن أبان، وواصل بن عبد الأعلى، قالا: حدثنا محمد بن فضيل، عن أبي إسماعيل، ثم اختلف شيخا مسلم،

ص: 398

فواصل زاد "الأسلميّ"، فبان أنه بشير بن سلمان، وأما ابن أبان فقال: عن أبي إسماعيل هو يزيد بن كيسان، ولم يذكر الأسلميّ، فصرّح أنه يزيد بن كيسان، ولذا لم يَزِد الأسلميّ.

والحاصل أن أبا إسماعيل في رواية واصل هو بشير، وفي رواية ابن أبان هو يزيد.

وأما قوله أخيرًا: "عن أبي إسماعيل" فغلط صريح، والصواب: يعني: أبا إسماعيل، كما هو موجود في بعض النُّسخ، فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى وليّ التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7278]

(2909) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ؛ لأَبِي بَكْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زِيادِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(زِيَادُ بْنُ سَعْدِ) بن عبد الرحمن الخراسانيّ، نزيل مكة، ثم اليمن، ثقةٌ، ثبتٌ، قال ابن عيينة: كان أثبت أصحاب الزهريّ [6](ع) تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر المكيّ، و"سعيد" هو: ابن المسيِّب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسل بالمكيين، غير ابن أَبي شيبة، فكوفيّ، والثاني مسلسلٌ بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ، عن تابعيّ، وفيه ابن المسيِّب من الفقهاء السبعة، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه رأس المكثرين السبعة، روى (5374) من الأحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ سَعِيد) بن المسيِّب رحمه الله؛ أنه (سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (يَقُولُ عَنِ

ص: 399

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ) بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديد الراء المكسورة، من التخريب، أو بضم، فسكون، وتخفيف راء مكسورة، من الإخراب، قال الفيوميّ رحمه الله: خَرب المنزل -بكسر الراء، من باب تعب-، فهو خَرَابٌ، ويتعدّى بالهمزة، والتضعيف، فيقال: أخربته، وخرّبته. انتهى.

وهذا التخريب عند قُرب القيامة، حيث لا يبقى في الأرض أحد يقول: اللَّه، اللَّه.

(الْكَعْبَةَ) اسم بيت اللَّه الحرام، سمّيت بذلك؛ لنتوئها، وقيل: لتربيعها، وارتفاعها. (ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ) بضم السين المهملة، وفتح الواو تثنية سُويقة، وهي تصغير الساق، وهي مؤنثة، فلذا ظهرت التاء في تصغيرها؛ لأن التصغير، والتكسير، والضمير تردّ الكلمات إلى أصولها، كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة"، حيث قال:

وَيُعْرَفُ التَّقدِيرُ بِالضَّمِيرِ

وَنَحْوِهِ كَالرَّدّ فِي التَّصْغِيرِ

وإنما صغّر الساقين لأن الغالب على سُوق الحبشة الدقّة، والحُمُوشة؛ أي: له ساقان دقيقتان.

قال الطيبيّ رحمه الله: سرّ التصغيير الإشارة إلى أن مثل هذه الكعبة المعظّمة يَهتك حرمَتَها مثل هذا الحقير الذميم الخلقة. ويَحْتَمِل أن يكون الرجل اسمه ذلك، أو أنه وَصْف له؛ أي: رجل دقيق الساقين، رقيقهما جدًّا، والحبشة، وإن كان شأنهم دقة السوق، لكن هذا يتميّز بمزيد من ذلك. انتهى.

(مِنَ الحَبشَةِ) -بفتحات- قال في "القاموس": الْحَبَشُ، والْحَبَشَةُ، والأُحْبُش بضم الباء جنس من السودان، والجمع: حُبْشَان، وأحابيش. انتهى. قال الرشاطيّ: وهم من وَلَدِ كوش بن حام، وهم أكثر ملوك السودان، وجميع ممالك السودان ويعطون الطاعة للحبش. وقال أبو حنيفة الدِّينوريّ: كان أولاد حام سبعة إخوة، كأولاد سام: السند، والهند، والزنج، والقبط، والحبش، والنوبة، وكنعان، فأخذوا ما بين الجنوب، والدبور، والصبا

(1)

.

وقد وقع هذا الحديث عند أحمد (2/ 351) من طريق سعيد بن سمعان،

(1)

"عمدة القاري" 8/ 73.

ص: 400

عن أبي هريرة رضي الله عنه بأتمّ من هذا السياق، ولفظه:"يُبايَعُ لرجل بين الركن والمقام، ولم يستحلّ هذا البيت إلا أهلُهُ، فإذا استحلّوه، فلا تسأل عن هَلَكَة العرب، ثم تأتي الحبشة، فيخربونه خَرَابًا لا يُعمَر بعده أبدًا، وهم الذين يستخرجون كنزه".

ولأبي قرّة في "السنن" من وجه آخر عن أبي هريرة، مرفوعًا:"لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة"، ونحوه لأبي داود من حديث عبد اللَّه عمرو بن العاص. وزاد أحمد، والطبرانيّ من طريق مجاهد، عنه:"فيسلبُها حليتها، ويجرّدها من كسوتها، كأني انظر إليه أُصيلع، أُفيدع، يضرب عليها بمسحاته، أو بمعوله". وللفاكهيّ من طريق مجاهد نحوه، وزاد:"فلما هدم ابن الزبير الكعبة جئت انظر إليه هل أرى الصفة التي قال عبد اللَّه بن عمرو، فلم أرها"

(1)

.

قال القرطبيّ: قيل: إن خرابه يكون بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحة"، وذلك بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح. انتهى.

ووقع عند أحمد (2/ 315) من طريق ابن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "في آخر الزمان يظهر ذو السويقتين على الكعبة"، قال: حسبت أنه قال: "فيهدمها".

قال الحافظ: قيل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه يخالف قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} الآية [العنكبوت: 67]، ولأن اللَّه حبس عن مكة الفيل، ولم يمكّن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلّط عليها الحبشة، بعد أن صارت قبلة للمسلمين؟.

وأجيب بأن ذلك محمول على أنه يقع في آخر الزمان، قرب قيام الساعة، حيث لا يبقى في الأرض أحدٌ يقول: اللَّه، اللَّه، كما ثبت في "صحيح مسلم":"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: اللَّه اللَّه".

ولهذا وقع في رواية سعيد بن سمعان: "لا يُعمَر بعده أبدًا". وقد وقع

(1)

"الفتح" 4/ 259.

ص: 401

قبل ذلك فيه من القتال، وغزو أهل الشام له في زمن يزيد بن معاوية، ثم من بعده في وقائع كثيرة، من أعظمها وقعة القرامطة بعد الثلاثمائة، فقتلوا من المسلمين في المطاف من لا يُحصى كثرةً، وقلعوا الحجر الأسود، فحوّلوه إلى بلادهم، ثم أعادوه بعد مدّة طويلة، ثم غُزي مرارًا بعد ذلك. وكلّ ذلك لا يعارض قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} الآية [العنكبوت: 67]؛ لأن ذلك إنما وقع بأيدي المسلمين، فهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم:"ولن يستحلّ هذا البيت إلا أهله". فوقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهو من علامات نبوّته، وليس في الآية ما يدلّ، على استمراو الأمر المذكور فيها. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

.

وقال العينيّ رحمه الله ما ملخّصه: لا يلزم من قوله: {حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] أن يكون ذلك دائمًا في كل الأوقات، بل إذا حصل له حرمة، وأمْن في وقت ما صَدَق عليه هذا اللفظ، وصحّ المعنى، ولا يعارضه ارتفاع ذلك المعنى في وقت آخر. وقال: والحكم بالحرمة، في قوله صلى الله عليه وسلم:"وقد عادت حرمتها إلى يوم القيامة" لا يرتفع إلى يوم القيامة، وأما وقوع الخوف فيها، وترك الحرمة، فقد وُجد ذلك في أيام يزيد وغيره كثيرًا.

وقال عياض: {حَرَمًا آمِنًا} ؛ أي: إلى قرب القيامة. وقيل: يختصّ منه قصّة ذي السويقتين.

وقال ابن الجوزيّ: إن قيل: ما السرّ في حراسة الكعبة من الفيل، ولم تُحرس في الإسلام مما صنع بها الحجاج، والقرامطة، وذو السويقتين؟.

فالجواب: أن حبس الفيل كان من أعلام النبوة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ودلائل رسالته لتأكيد الحجة عليهم بالأدلة التي شوهدت بالبصر قبل الأدلة التي ترى بالبصائر، وكان حكم الحبس أيضًا دلالة على وجود الناصر. ذكره العينيّ

(2)

.

وقد عقد الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه" بابًا بقوله: "باب قول اللَّه تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} [المائدة: 97] "، ثم أورد فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عنه هذا.

قال الحافظ رحمه الله: كأنه يشير إلى أن المراد بقوله: {قِيَامًا} [المائدة: 97]؛

(1)

"الفتح" 4/ 259.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 73.

ص: 402

أي: قوامًا، وأنها ما دامت موجودة فالدين قائم، فلهذه النكتة أورد في الباب قصّة هدم الكعبة في آخر الزمان.

وقال العينيّ رحمه الله: أشار به إلى أن قيام أمور الناس، وانتعاش أمر دينهم ودنياهم بالكعبة، يدلّ عليه قوله تعالى:{قِيَامًا لِلنَّاسِ} ، فإذا زالت الكعبة على يدي ذي السويقتين تختلّ أمورهم، فلذلك أورد حديث أبي هريرة فيه. انتهى.

ثم ترجم البخاريّ "باب هدم الكعبة"، وذكر فيه طرف حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يغزو جيش الكعبة، فيخسف بهم. . . "، وأورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور في الباب، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرًا حجرًا".

قال الحافظ: فيه إشارة إلى أن غزو الكعبة سيقع، فمرة يهلكهم اللَّه قبل الوصول إليها، وأخرى يمكّنهم، والظاهر أن غزو الذين يخربونه متأخر عن الأول.

وقال العينيّ: غزو الكعبة المذكور في حديث عائشة مقدمة لهدمها؛ لأن غزوها يقيم مرتين، ففي الأُولى هلاكهم، وفي الثانية هدمها. انتهى، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا مُتَّفَقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7278 و 7279 و 2780](2909)، و (البخاريّ) في "الحج"(1591 و 1596)، و (أبو داود) في "سننه"(4/ 114)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(2905) وفي "الكبرى"(3887)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(5/ 136)، وأخرجه (أحمد) في "مسنده"(2/ 310 و 417)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 47)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1146)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6751)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(5/ 325)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(4/ 340)، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 403

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7279]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّويقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل باب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيأن مسألتيه، قبله، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7280]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ -يَعْنِي: الدّرَاوَرْدِيَّ- عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ذُو السُّويقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ يُخَرِّبُ بَيْتَ اللَّهِ عز وجل").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَبْدُ العَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ) عبد العزيز بن محمد بن عُبيد الدّراورديّ، أبو محمد الْجُهنيّ مولاهم المدنيّ، صدوق، كان يحدّث من كُتُب غيره فبخطئ، قال النسائيّ: حديثه عن عبيد اللَّه العمري منكر [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

2 -

(ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ) الدِّيليّ بكسر الدال المهملة، بعدها تحتانية، المدنيّ، ثقةٌ [6](ت 135)(ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.

3 -

(أَبُو الْغَيْثِ) سالم مولى ابن مطيع المدنيّ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 269.

والباقيان ذُكرا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7281]

(2910) - (وَحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ العَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-

ص: 404

قَالَ: "لَا تقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ، يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد هو الإسناد المذكور قبله.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا) نافية، (تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرج رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، ولكن جوّز القرطبيّ أن يكون جهجاه الذي وقع ذِكره في مسلم بعد هذا.

[تنبيه]: قال في "الفتح": اختُلف في نَسَب قحطان، فالأكثرون أنه ابن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، وقيل: هو من ولد هود عليه السلام، وقيل: ابن أخيه، ويقال: إن قحطان أول من تكلم بالعربية، وهو والد العرب المتعرّبة، وأما إسماعيل فهو والد العرب المستعربة، وأما العرب العاربة فكانوا قبل ذلك، كعاد، وثمود، وطسم، وجديس، وعمليق، وغيرهم، وقيل: إن قحطان أول من قيل له: أبيت اللعن، وعِمْ صباحًا، وزعم الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذريّة إسماعيل، وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل؛ وهو ظاهر قول أبي هريرة المتقدّم في قصة هاجر، حيث قال وهو يخاطب الأنصار: فتلك أمكم يا بني ماء السماء، قال الحافظ رحمه الله: هذا هو الذي يترجح في نقدي، ثم وجّه ترجيحه عنده، فراجع كلامه في "الفتح"

(1)

.

(يَسُوقُ) قحطان النَّاسَ (بِعَصَاهُ) قال القرطبيّ في "التذكرة": قوله: "يسوق الناس بعصاه" كناية عن غَلَبته عليهم، وانقيادهم له، ولم يُرِدْ نفس العصا، لكن في ذِكرها إشارة إلى خشونته عليهم، وعَسَفه بهم، قال: وقد قيل: إنه يسوقهم بعصاه حقيقة، كما تُساق الإبل والماشية؛ لشدة عنفه، وعدوانه، قال: ولعله جهجاه المذكور في الحديث التالي، وأصل الجهجاه: الصياح، وهي صفة تناسب ذِكر العصا.

وتعقّبه الحافظ بأنه يردّ هذا الاحتمال إطلاق كونه من قحطان، فظاهره أنه من الأحرار، وتقييده في جهجاه بأنه من الموالي.

(1)

"الفتح" 8/ 170، "كتاب المناقب" رقم (3517).

ص: 405

وقال في موضع آخر: قوله: "يسوق الناس بعصاه" هو كناية عن المُلك، شبّه بالراعي، وشبّه الناس بالغنم، ونكتة التشبيه: التصرف الذي يملكه الراعي في الغنم، وهذا الحديث يدخل في علامات النبوة من جملة ما أخبر به صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه، ولم يقع بعدُ.

وقد روى نعيم بن حماد في "الفتن" من طريق أرطاة بن المنذر أحد التابعين من أهل الشام، أن القحطاني يخرج بعد المهديّ، ويسير على سيرة المهديّ، وأخرج أيضًا من طريق عبد الرحمن بن قيس بن جابر الصدفيّ، عن أبيه، عن جدّه، مرفوعًا:"يكون بعد المهديّ القحطانيّ، والذي بعثني بالحقّ ما هو دونه"، وهذا الثاني مع كونه مرفوعًا ضعيف الإسناد، والأول مع كونه موقوفًا أصلح إسنادًا منه، فإن ثبت ذلك فهو في زمن عيسى ابن مريم؛ لِمَا تقدم أن عيسى عليه السلام إذا نزل يجد المهديّ إمام المسلمين، وفي رواية أرطاة بن المنذر: أن القحطانيّ يعيش في المُلك عشرين سنةً.

واستُشكل ذلك كيف يكون في زمن عيسى يسوق الناس بعصاه، والأمر إنما هو لعيسى.

ويجاب بجواز أن يقيمه عيسى نائبًا عنه في أمور مهمة عامة. انتهى

(1)

.

[تنبيه]: ذكر ابن هشام في "كتاب التيجان" -كما قال الحافظ- ما يُعرف منه إن ثبت اسم القحطانيّ، وسيرته، وزمانه، فذكر أن عمران بن عامر كان ملِكًا متوَّجًا، وكان كاهنًا معمَّرًا، وأنه قال لأخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا لمّا حضرته الوفاة: إن بلادكم ستخرب، وإن للَّه في أهل اليمن سخطتين، ورحمتين، فالسخطة الأولى هدم سدّ مأرب، وتخرب البلاد بسببه، والثانية غلبة الحبشة على أرض اليمن، والرحمة الأولى بعثة نبي من تهامة، اسمه محمد، يُرسل بالرحمة، ويغلب أهل الشرك، والثانية إذا خَرِب بيتُ اللَّه يبعث اللَّه رجلًا يقال له: شعيب بن صالح، فيُهلك من خربه، ويخرجهم حتى لا يكون بالدنيا ايمان إلا بأرض اليمن. انتهى.

قال الحافظ: وقد تقدم في "الحج" أن البيت يُحَجّ بعد خروج يأجوج

(1)

"الفتح" 8/ 172 - 173، "كتاب المناقب" رقم (3517).

ص: 406

ومأجوج، وتقدم الجمع بينه وبين حديث:"لا تقوم الساعة حتى لا يُحَجَّ البيت"، وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة، فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خرّبت البيت خرج عليهم القحطانيّ، فأهلكهم، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى عليه السلام بعد خروج يأجوج ومأجوج، وهلاكهم، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى، ويتأخر أهل اليمن بعدها.

ويمكن أن يكون هذا مما يفسَّر به قوله: "الإيمان يمان"؛ أي: يتأخر الإيمان بها بعد فَقْده من جميع الأرض.

وقد أخرج مسلم حديث القحطانيّ عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين، فلعله رمز إلى هذا

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7281](2910)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3517) و"الفتن"(7117)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 388)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 417)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(12/ 308)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(5/ 1015 و 1016)، و (نعيم بن حماد) في "الفتن"(1/ 382)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7282]

(2911) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الكَبيرِ بْنُ عَبْدِ المَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْحَكَمِ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَهْجَاهُ"، قَالَ مُسْلِمٌ: هُمْ أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ: شَرِيكٌ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ، وَعُمَيْرٌ، وَعَبْدُ الكَبِيرِ، بَنُو عَبْدِ المَجِيدِ).

(1)

"الفتح" 16/ 553.

ص: 407

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ) أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قبل أربعة أبواب.

2 -

(عُمَرُ بْنُ الْحَكَمِ) بن رافع بن سنان المدنيّ الأنصاريّ، حليف الأوس، ثقةٌ [3](خت م د ت س) تقدم في "الرضاع" 17/ 3648.

والباقون ذُكروا في الباب وقبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأن شيخه هو أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وتقدّموا غير مرّة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي) لا تنقضي الدنيا، ولا تقوم الساعة (حَتَّى يَمْلِكَ) بكسر الميم، من باب ضرب، (رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْجَهْجَاهُ") قال النوويّ: بِهاءين، وفي بعض النسخ: "الجهجا" بحذف الهاء التي بعد الألف، والأول هو المشهور. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ولعل هذا الرجل القحطانيّ هو الذي يقال له: الجهجاه، وأصل الجهجهة: الصياح بالسَّبُع؛ ليكفّ، يقال: جهجهت بالسبع؛ أي،: زجرته بالصياح، ويقال: تَجَهْجَه عني؛ أي: انتهِ. انتهى

(2)

.

ثم ذكر المصنّف رحمه الله فائدة تتعلّق بالإسناد المذكور، فقال:(قَالَ مُسْلِمٌ)، أي: ابن الحجّاج، صاحب الكتاب، والظاهر أنه من كلامه، ويَحْتَمِل أن يكون ملحقًا من الرواة عنه، والأول أقرب. (هُمْ أَرْبَعَةُ إِخْوَةٍ) جملة من مبتدأ وخبره؛ أي: هؤلاء الذين أذكرهم أربعة إخوة، ثم فسّرهم بقوله:(شَرِيكٌ) وما عُطف عليه بدل تفصيل من مجمل؛ أي: من "أربعة إخوة"، وهو: ابن عبد المجيد ليس من رجال "التقريب"، وأصله. (وَعُبَيْدُ اللَّهِ) بن عبد المجيد، ليس من

(1)

"شرح النووي" 18/ 36.

(2)

"المفهم" 7/ 247.

ص: 408

رجال "التقريب" وأصله أيضًا. (وَعُمَيْرُ) بن عبد المجيد، ليس من رجال "التقريب" وأصله أيضًا. (وَعَبْدُ الكَبِيرِ) المذكور في هذا السند، وقوله:(بَنُو عَبْدِ المَجِيدِ) خبر لمحذوف؛ أي: هم بنو عبد المجيد.

والغرض من هذا أنه لما وقع في سنده عبد الكبير بن عبد المجيد، أبو بكر الحنفيّ أراد أن يزيد فائدة، وهي أن له ثلاثة إخوة من أب واحد، فذكرهم، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7282](2911)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2228)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 329)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(5/ 964)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7283]

(2912) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد هو الذي تقدّم قبل أربعة أحاديث.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ) بالجيم، وتشديد النون: جمع مِجَنّ، وهي الترسة. (الْمُطْرَقَةُ)؛ أي: التي أُلبست الأطرقة من الجلود، وهي الأغشية، تقول: طارقت بين النعلين: أي: جعلت إحداهما على الأخرى، وقال الهرويّ: هي التي أُطرقت بالْعَصَب؛ أي: أُلبست به، قاله في "الفتح"

(1)

.

(1)

"الفتح" 7/ 198 - 199.

ص: 409

وقال في "العمدة": "المطرقة" بضم الميم، وسكون الطاء المهملة، وفتح الراء، قال الخطابيّ: هي التي أُلبست الأطرقة من الجلود، وهي الأغشية منها، شَبَّه عرض وجوههم، ونتوء وَجَنَاتهم بظهور الترس.

والأطرقة: جمع طِرَاق، وهو جلدة تُقَدَّر على قدر الدرقة، وتلصق عليها.

وقال القاضي البيضاويّ: شبّه وجوههم بالترس؛ لِبَسْطها، وتدويرها، وبالمطرقة لغلظها، وكثرة لحمها.

وقال الهرويّ: الْمُجانّ المطرقة: هي التي أُطرقت بالعصب؛ أي: ألبست به، وقيل: المطرقة هي التي ألبست الطراق، وهو الجلد الذي يغشاه، ويعمل هذا حتى يبقى كأنه ترس على ترس، وقال ابن قرقول: قال بعضهم: الأصوب فيه المطرَّقة بتشديد الراء، وهو ما ركّب بعضه فوق بعض. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: أما المجانّ: فبفتح الميم، وتشديد النون: جمع مِجَنّ بكسر الميم، وهو الترس، وأما المطرقة فبإسكان الطاء، وتخفيف الراء، هذا هو الفصيح المشهور في الرواية، وفي كتب اللغة، والغريب، وحُكِي فتح الطاء، وتشديد الراء، والمعروف الأول، قال العلماء: هي التي أُلبست العقب، وأُطرقت به طاقة فوق طاقة، قالوا: ومعناه تشبيه وجوه الترك في عرضها، وتدوير وَجَنَاتها بالترس المطرقة. انتهى

(2)

.

(وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ") بفتحتين، أو بفتح، فسكون، قيل: المراد به طول شعورهم، حتى تصير أطرافها في أرجلهم موضع النعال، وقيل: المراد أن نعالهم من الشعر، بأن يجعلوا نعالهم من شعر مضفور، وزعم ابن دحية أن المراد به: القندس الذي يلبسونه في الشرابيش، قال: وهو جلد كلب الماء، قال المباركفوري: والظاهر هو القول الثاني، يدل على ذلك رواية مسلم الآتية بلفظ:"يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر"

(3)

.

وقال في "الفتح": قوله: "ينتعلون نعال الشعر" هذا والحديث الذي بعده ظاهر في أن الذين ينتعلون الشعر غير التُّرك، وقد وقع للإسماعيلي من طريق

(1)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 21/ 429.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 36.

(3)

"تحفة الأحوذيّ" 6/ 382.

ص: 410

محمد بن عباد، قال: بلغني أن أصحاب بَابَك كانت نعالهم الشعر، قلت: بابك بموحدتين مفتوحتين، وآخره كاف، يقال له: الْخُرَّميّ بضم المعجمة، وتشديد الراء المفتوحة، وكان من طائفة من الزنادقة، استباحوا المحرمات، وقامت لهم شوكة كبيرة في أيام المأمون، وغلبوا على كثير من بلاد العجم، كطبرستان، والريّ، إلى أن قُتل بابك المذكور في أيام المعتصم، وكان خروجه في سنة إحدى ومائتين، أو قبلها، وقَتْله في سنة اثنتين وعشرين. انتهى

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7283 و 7284 و 7285 و 7286 و 7287](2912)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2928 و 2929) و"المناقب"(3587 و 3590)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4303)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2215)، و (النسائيّ) في "المجتبى"(6/ 44 - 45)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4097)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20782)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(5/ 92)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1101)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6743 و 6744 و 6745 و 6846)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 176) و"الدلائل"(6/ 336)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4243)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): ما قاله المهلّب رحمه الله: في هذا الحديث علامة للنبوة، وأنه سيبلغ مُلك أمته غاية المشارق التي فيها هؤلاء القوم، على ما ذُكِر في غير هذا الحديث، وكذلك خلقة وجوههم بالعيان عريضة، وسائر ما وَصَفهم به كما وَصَفهم.

(1)

"الفتح" 7/ 198.

ص: 411

2 -

(ومنها): مشروعيّة التشبيه للشيء بغيره إذا كان فيه شَبَه منه من جهةٍ مّا، وإن خالف في غير ذلك. انتهى.

3 -

(ومنها): ما قاله النوويّ رحمه الله: هذه الأحاديث كلها معجزات لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقد وُجد قتال هؤلاء الترك بجميع صفاتهم التي ذكرها صلى الله عليه وسلم صغار الأعين، حُمْر الوجوه، ذُلْف الأنوف، عراض الوجوه، كأن وجوههم المجانّ المطرقة، ينتعلون الشعر، فوُجدوا بهذه الصفات كلها في زماننا، وقاتلهم المسلمون مرّات، وقتالهم الآن، ونسأل اللَّه الكريم إحسان العاقبة للمسلمين في أمرهم، وأمر غيرهم، وسائر أحوالهم، وإدامة اللطف بهم، والحماية، وصلى اللَّه على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. انتهى

(1)

.

4 -

(ومنهما): ما قيل: هذا الحديث يعارض حديث: "واتركوا الترك ما تركوكم"، فكيف يُجمع بينهما؟.

[أجيب]: بأنه لا تنافي بينهما؛ إذ النهي مشروط بقوله: "ما تركوكم"

(2)

، فمفهومه أنهم إذا لم يَتركوا لم يُتركوا، بل يُقاتَلون، وقد وعد اللَّه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، وقد وقع ذلك للمسلمين الذين قاتلوا الترك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما سجّلته كُتُب، التواريخ، وكما وقع في وقعة عين جالوت وغيرها، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7284]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَقُوَمُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلَكُمْ أُمَّةٌ يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ، وُجُوهُهُمْ مِثْلُ الْمَجَانِّ الْمُطْرَقَةِ".

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم في هذا الباب قبل أربعة أحاديث.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 38.

(2)

أخرجه النسائي وغيره، وحسّنه الشيخ الألبانيّ رحمه الله.

ص: 412

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله في الحديث الماضي، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7285]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا قَوْمًا صِغَارَ الأَعْيُنِ، ذُلْفَ الآنُفِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

وقواء: (نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ) قال القرطبيّ: أي: يصنعون من الشعر حبالًا، ويصنعون منه نعالًا، كما يصنعون منه ثيابًا. قال: هذا ظاهره، ويَحْتَمِل أن يريد بذلك أن شعورهم كثيفة طويلة، فهي إذا سدلوها كاللباس، وذوائبها لوصولها إلى أرجلهم كالنعال. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه تعالى عنه: هذا الاحتمال الأخير بعيد من معنى الحديث جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (ذُلْفَ الآنُفِ)؛ أي: صغارها، والعرب تقول: أملح النساء الذُّلْف، وقيل: الذلف الاستواء في طرف الأنف، وقيل: قِصَر الأنف، وانبطاحه، قاله في "الفتح".

وقال النوويّ رحمه الله: هو بالذال المعجمة، والمهملة، لغتان المشهور المعجمة، وممن حكى الوجهين فيه صاحبا "المشارق"، و"المطالع" قالا: رواية الجمهور بالمعجمة، وبعضهم بالمهملة، والصواب: المعجمة، وهو بضم الذال، وإسكان اللام: جمع أذلف، كأحمر وحُمْر، ومعناه: فُطْس الأنوف، قصارها، مع انبطاح، وقيل: هو غَلَظ في أرنبة الأنف، وقيل: تطامن فيها، وكله متقارب. انتهى

(2)

.

(1)

"المفهم" 7/ 247.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 37.

ص: 413

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ذُلْف الأنوف" ويروى: الآنف، فالأول جمع الكثرة كفلس وفلوس، والثاني جمع قلّة، كأفلس، ويُجمع أيضًا على آناف، وأنف كل شيء أوّله، والذلف في الإنسان بالذال المعجمة: صغر الأنف، واستواء الأرنبة، وقصرها، وقيل: تطامن الأرنبة، والأول أعرف، وأشهر، تقول: رجل أذلف بَيِّن الذلف، وقد ذَلَف. والمرأة ذلفاء، من نساء ذُلْف، ولا شك في أن هذه الأوصاف هي أوصاف الترك غالبًا، وقد سماهم النبيّ صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى، فقال:"يقاتل المسلمون الترك"، وهذا الخبر قد وقع على نحو ما أخبر، فقد قاتلهم المسلمون في عراق العجم مع سلطان خوارزم رحمه الله وكان اللَّه قد نصره عليهم، ثم رجعت لهم الكرّة، فغلبوا على عراق العجم وغيره، وخرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا اللَّه، ولا يردّهم عن المسلمين إلا اللَّه، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج، أو مقدمتهم، فنسأل اللَّه تعالى أن يُهلكهم، ويبيد جَمْعهم، ولما علم النبيّ صلى الله عليه وسلم لي عددهم، وكثرتهم، وحدّة شوكتهم قال صلى الله عليه وسلم:"اتركوا الترك ما تركوكم"، لكنا نرجو من فضل اللَّه تعالى النصر عليهم، والظفر بهم، وذلك لِمَا رواه أبو داود من حديث عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"تقاتلكم الترك، قوم صغار الأعين"، قال: يعني: الترك، قال: تسوقونهم ثلاث مرار حتى تلحقونهم بجزيرة العرب، فأمَّا في السياقة الأُولى فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية فينجو بعض، ويهلك بعض، وأما في الثالثة فيُصطلمون

(1)

"

(2)

.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7286]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ، قَوْمًا وُجُوهُهُمْ كَالْمَجَانِّ الْمُطْرَقَةِ، يَلْبَسُونَ الشَّعَرَ، ويَمْشُونَ فِي الشَّعَرِ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل بابين.

(1)

من الاصطلام؛ أي: يستأصلون.

(2)

"المفهم" 7/ 247 - 248.

ص: 414

وقوله: (حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ التُّرْكَ) اختُلف في أصل الترك، فقال الخطابيّ: هم بنو قنطوراء، أَمَة كانت لإبراهيم عليه السلام، وقال كراع: هم الديلم، وتعقّب بأنهم جنس من الترك، وكذلك الغزّ، وقال أبو عمرو: هم من أولاد يافث، وهم أجناس كثيرة، وقال وهب بن منبه: هم بنو عم يأجوج ومأجوج، لَمّا بني ذو القرنين السدّ كان بعض يأجوج ومأجوج غائبين، فتُركوا، لم يدخلوا مع قومهم، فسُمُّوا الترك، وقيل: إنهم من نسل تُبَّع، وقيل: من ولد افريدون بن سام بن نوح، وقيل: ابن يافث لصلبه، وقيل: ابن كومى بن يافث، ذكره في "الفتح"

(1)

.

والحديث قد مضى البحث فيه مستوفًى، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7287]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، وَأَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُقَاتِلُونَ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ قَوْمًا، نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ المُطْرَقَةُ، حُمْرُ الْوُجُوهِ، صِغَارُ الأَعْيُنِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو كُرَيْبٍ) محمد بن العلاء، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدّم قريبًا.

2 -

(وَكِيعُ) بن الجرّاح، أبو سفيان الرؤاسي، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُو أُسَامَةَ) حماد بن أسامة القرشيّ مولاهم الكوفيّ، مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ، رُبّما دَلَّس، من كبار [9](ت 201) وهو ابن ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 51.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) الأحمسيّ مولاهم البجليّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 303.

5 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ مخضرمٌ [2] ويقال: لها رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين

(1)

"الفتح" 6/ 104.

ص: 415

بالجنّة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاز المائة، وتغير (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 475.

و"أبو هريرة رضي الله عنه" ذُكر قبله.

وقوله: (حُمْرُ الْوُجُوهِ) بضمّ الحاء المهملة، وسكون الميم: جمع أحمر، قال النوويّ: أي بِيض الوجوه، مشوبة بحمرة. انتهى، وقال القاري: حُمر الوجوه؛ أي: مر، شدة حرارة باطنهم، وغليان الغضب في أجوافهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تفسير القاري هذا محلّ نظر، واللَّه تعالى أعلم

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى البحث فيه مستوفًى، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7288]

(2913) - (حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ -وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ- قَالَا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: يُوشِكُ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ، وَلَا دِرْهَمٌ، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ، يَمْنَعُونَ ذَاكَ، ثُمَّ قَالَ: يُوشِكَ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لَا يُجْبَى إِلَيْهِمْ دِينَارٌ، وَلَا مُدْيٌ، قُلْنَا: مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ قِبَلِ الرُّومِ، ثُمَّ سَكَتَ هُنَيَّةً، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا"، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي نَضْرَةَ، وَأَبِي الْعَلَاءِ: أَتَرَيَانِ أَنَّهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ؟ فَقَالَا: لَا).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ) السعديّ المروزيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن عليّة، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(الْجُرَيْرِيِّ) بالضمّ سعيد بن إياس، أبو مسعود البصريّ، ثقةٌ، اختَلَط قبل موته بثلاث سنين [5] مات سنة أربع وأربعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 40/ 266.

(1)

"مرقاة المفاتيِح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 392.

ص: 416

5 -

(أَبُو نَضْرَةَ) -بنون وضاد معجمة ساكنة- المنذر بن مالك بن قُطَعة الْعَبديّ الْعَوَقيّ البصريّ مشهور بكنيته، ثقةٌ [3] مات سنة ثمان، أو تسع ومائة (خت م غ) تقدم في "الإيمان" 6/ 127.

6 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) بن عمرو بن حرام الأنصاريّ، ثم السَّلَميّ -بفتحتين- الصحابيّ ابن الصحابي رضي الله عنهما، غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفي رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه جابر بن عبد اللَّه صحابيّ ابن صحابيّ، وهو من المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي نَضْرَةَ) المنذر بن مالك العوفيّ؛ أنه (قَالَ: كُنَّا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) رضي الله عنهما (فَقَالَ) جابر رضي الله عنه: (يُوشِكُ) مضارع أوشك؛ أي: يقرب (أَهْلُ الْعِرَاقِ أَنْ لَا يُجْبَئ) بالبناء للمفعول، يقال: جبيتُ المالَ والخراجَ أجبيه جِبايَةً: جمعته، وجبوته أجبوه جِباوة مثله، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (إِلَيْهِمْ قَفِيزٌ) مكيال معروف لأهل العراق، قال الأزهريّ: هو ثمانية مكاكيك، والمكّوك صاع ونصف. (وَلَا دِرْهَمٌ)؛ أي: من زكاة، ولا خَراج. (قُلْنَا) معاشر الحاضرين لجابر رضي الله عنه:(مِنْ أَيْنَ ذاكَ؟)؛ أي: من أيّ سبب يكون ذلك المنع؟ (قَالَ) جابر: (مِنْ قِبَلِ الْعَجَمِ)؛ أي: من جهة ملوك، وجيوش العجم من الفرس، وغيرهم، (يَمْنَعُونَ ذَاكَ)؛ أي: دفع حقوق المسلمين للمسلمين ظلمًا وعدوانًا، (ثُمَّ قَالَ) جابر رضي الله عنه:(يُوشِكَ أَهْلُ الشَّأْمِ أَنْ لَا يُجْبَئ إِلَيْهِمْ دِينَارٌ، وَلَا مُدْيٌ) بضمّ الميم، وسكون الدال المهملة، آخره ياء، بوزن قُفْل: مكيال معروف لأهل الشام يسع خمسة عشر مكّوكًا. (قُلْنَا) لجابر: (مِنْ أَيْنَ ذَاكَ؟) المنع، (قَالَ: مِنْ قِبَلِ الرُّومِ) حيث يمنعون.

(1)

"المصباح" 1/ 91.

ص: 417

وحاصل المعنى: أن معظم بلدان المسلمين سيسيطر عليها الكفّار، ويمنعون من وصول حقوق المسلمين إليهم في العراق، والشام، وغير ذلك وقد تقدّم البحث، في هذا في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه في "باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من ذهب"، وباللَّه تعالى التوفيق.

(ثُمَّ سَكَتَ) وفي بعض النسخ: "أسكت" بالهمزة، قال النوويّ رحمه الله: أما أسكت فهو بالألف في جميع نُسخ بلادنا، وذكر القاضي أنهم رووه بحذفها، وإثباتها، وأشار إلى أن الأكثرين حذفوها، وسكت، وأسكت لغتان، بمعنى صَمَتَ، وقيل: أسكت بمعنى أطرق، وقيل: بمعنى أعرض. انتهى

(1)

.

وقوله: (هُنَيَّةً)؛ أي: قليلًا، قال النوويّ:"هنيّة" بتشديد الياء، بلا همز، قال القاضي: رواه لنا الصدفيّ بالهمزة، وهو غلط، ويقال فيها أيضًا: هُنيهة.

وقال الفيّوميّ رحمه الله: الْهَنُ خفيفُ النون: كناية عن كل اسم جنس، والأنثى هَنَةٌ، ولامها محذوفة، ففي لغة هي هاء، فيصغّر على هُنَيْهَةٍ، ومنه يقال: مكث هُنَيْهَةً؛ أي: ساعة لطيفة، وفي لغة هي واو، فيصغّر في المؤنث على هُنَيَّةٍ، والهمز خطأ؛ إذ لا وجه له، وجمعها هَنَوَاتٌ، وربما جُمعت هَنَاتٍ على لفظها، مثل عِدَاتٍ. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَالَ) جابر رضي الله عنه بعد سكوته: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا) وفي رواية: "يحثو المالَ حثيًا"، قال أهل اللغة: يقال: حثيت أحثي حثيًا، وحثوتُ أحثو حَثْوًا، لغتان، وقد جاءت اللغتان في هذا الحديث، وجاء مصدر الثانية على فعل الأُولى، وهو جائز من باب قوله تعالى:{وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)} [نوح: 17]، والحثو: هو الْحَفْن باليدين، قال النوويّ رحمه الله: هذا الحثو الذي يفعله هذا الخليفة، يكون لكثرة الأموال، والغنائم، والفتوحات، مع سخاء نفسه. انتهى

(3)

.

وقوله: (لَا يَعُدُّهُ عَدًّا") مصدر مؤكّد، ووقع في بعض النسخ:"عَدَدًا" والعدد بمعنى المعدود، وهذا الخليفة هو المهديّ، كما تدّل عليه بعض الروايات.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 38.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 641.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 19.

ص: 418

(قَالَ) الْجُريريّ: (قُلْتُ لأَبِي نَضْرَةَ) المنذر بن مالك الراوي عن جابر رضي الله عنه، (وَأَبِي الْعَلَاءِ) يزيد بن عبد اللَّه بن الشّخِّير -بكسر الشين، وتشديد الخاء المعجمتين- العامريّ البصريّ، ثقة [2](ت 111) أو قبلها، وكان مولده في خلافة عمر، فوَهِم من زعم أن له رؤية، روى له الجماعة، تقدّمت ترجمته في "الحيض" 20/ 783.

(أَتَرَيَانِ) بفتح التاء، ويجوز ضمها: أي: أتظنّان (أَنَّهُ)؛ أي: أن الخليفة الذي يحثي المال حثيًا، ولا يعدّه عدًّا (عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) الأمويّ الخليفة الراشد المتوفّى في رجب سنة (101) تقدّمت ترجمته في "المقدمة" 6/ 46. (فَقَالَا: لَا)؛ أي: لا نظنّه عمر؛ لعدمٍ مطابقة الحديث له؛ لأنه قال: "يكون في آخر أمتي"، وعمر في أولها، وأيضًا فعمر لم يُذكر بالحثي المذكور؛ لأنه لم تكثر عنده الأموال، وإنما ينطبق هذا على المهديّ المنتظر، حيث يفيض المال في وقته، ويستغني كلّ أحد، حتى إن رب الصدقة ليهمّه من يقبل صدقته، كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، وأيضًا فقد صرّح في بعض الأحاديث بأنه المهديّ، كما يأتي قريبًا، فتعيّن حَمْله عليه، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7288 و 7289](2913)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 3 و 38 و 48 - 49 و 317 و 333)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6682)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 501)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(6/ 330)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يحثي المال حثيًا"؛ أي: يصبّه صبّ، يقال: حثى يحثي حثيًا، وحثا يحثو حثوًا، وقد وقع الفعلان في مسلم، والمصدر حَثْيًا بفتح الحاء، وإسكان الثاء، وضبط عن أبي بحر: حثِيًّا بكسر الثاء، وتشديد الياء، وليس بمعروف، وإنما نفى أبو نضرة أن يكون هذا

ص: 419

الخليفة هو عمرَ بن عبد العزيز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "في آخر أمتي"، وذلك لا يصدق على زمن عمر بن عبد العزيز، إلا بالتوسّع البعيد، ولأنه لم يَصُبّ المال كما جاء في هذا الحديث، وقد روى الترمذيّ، وأبو داود أحاديث صحيحة في هذا الخليفة، وسمّياه بالمهديّ، فروى الترمذيّ عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يَملك العرب رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي"، قال: حديث حسنٌ صحيحٌ. وخرّجه أبو داود، وزاد فيه:"يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت ظلمًا، وجورًا".

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتى يلي رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي"، قال: حديث حسنٌ صحيحٌ.

ومن حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: خشينا أن يكون بعد نبيّنا حدث، فسألناه، فقال:"إن في أمتي المهديّ، يخرج يعيش خمسًا، أو سبعًا، أو تسعًا -زيد الشاكّ- قال: قلنا: وما ذاك؟ قال: سنين، قال: فيجيء إليه الرجل، فيقول: يا مهديّ أعطني، يا مهديّ أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله"، قال: هذا حديث حسن.

وروى أبو داود من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "المهديّ في أمتي: أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطًا وعدلًا، كما مُلئت جورًا وظلمًا، يَملك سبع سنين"

(1)

.

ورَوى أيضًا أبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هاربًا إلى مكة، فيأتيه ناسٌ من أهل مكة، فيخرجونه، وهو كارهٌ، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويُبعث إليه بعث من أهل الشام، فيُخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام، وعصائب أهل العراق، فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قُريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثًا، فيظهرون عليهم، وذلك بعثُ كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيَقْسِم المالَ، ويعمل في الناس بسُنّة

(1)

حديث حسن، رواه أبو داود برقم (4285).

ص: 420

نبيّهم، ويُلقي الإسلام بِجِرّانه إلى الأرض، فيلبث سبع سنين، ثم يُتوفَّى، ويصلي عليه المسلمون"

(1)

.

وفي رواية: "تسع سنين"، فهذه أخبار صحيحة، ومشهورة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم تدلّ على خروج هذا الخليفة الصالح في آخر الزمان، وهو يُنتظر؛ إذ لم يُسمع بمن كملت له جميع تلك الأوصاف التي تضمنتها تلك الأخبار. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(2)

، وهو تحقيقٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7289]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -يَعْنِي: الْجُرَيْرِيَّ- بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثلاثة:

1 -

(عَبْدُ الوَهَّابِ) بن عبد المجيد بن الصّلت الثقفيّ، أبو محمد البصريّ، ثقةٌ، تغيّر قبل موته بثلاث سنين [8](ت 194) عن نحو من ثمانين سنةً (ع)"تقدم في "الإيمان" 17/ 173.

والباقيان ذُكرا في الباب وقبله.

[تنبيه]: رواية عبد الوهاب الثقفي عن سعيد الْجُريريّ هذه ساقها ابن عساكر رحمه الله في "تاريخه"، فقال:

أخبرنا

(3)

أبو القاسم عليّ بن إبراهيم الحسيني، أنبأ رشأ بن نظيف المقرئ، أنا الحسن بن إسماعيل بن محمد بن أحمد بن مروان المالكيّ، نا يحيى بن أبي طالب، نا عبد الوهاب، نا الجريريّ، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه أنه قال: يوشك أن لا يجبى من العراق دينار، ولا درهم، قالوا: ومما ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال: تمنعهم العجم، قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: يوشك أن لا يجبى من الشام دينار، ولا درهم، ولا مُدْيٌ، قالوا: ومن أين ذاك يا أبا عبد اللَّه؟ قال: تمنعهم الروم، وقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يكون في

(1)

رواه أبو داود برقم (4286) وهو ضعيف، في سنده مجهول.

(2)

"المفهم" 7/ 253 - 254.

(3)

غير مرقم.

ص: 421

آخر هذه الأمة خليفة يحثي المال حثيًا". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7290]

(2914) - (حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي: ابْنَ الْمُفَضَّلِ- (ح) وَحَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ -يَعْنِي: ابْنَ عُلَيَّةَ- كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ خُلَفَائِكُمْ خَلِيفَة يَحْثُو الْمَالَ حَثْيًا، لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ:"يَحْثِي الْمَالَ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ) البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، طُلب للقضاء، فامتنع [10](250) أو بعدها (ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

2 -

(بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ) بن لاحق الرَّقَاشيّ -بقاف، وشين معجمة- أبو إسماعيل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ عابدٌ [8](ت 6 أو 187)(ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 145.

3 -

(سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ) بن مَسْلمة الأزديّ، ثم الطاحيّ، أبو مسلمة البصريّ القصير، ثقةٌ [4](ع) تقدم في "الإيمان" 88/ 466.

4 -

(أَبُو سَعِيدٍ) سعد بن مالك بن سِنان بن عُبيد الأنصاريّ الخدري الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، واستُصغر بأُحُد، ثم شهد ما بعدها، وروى الكثير، مات بالمدينة سنة ثلاث، أو أربع، أو خمس وستين، وقيل: سنة أربع وسبعين (ع) تقدّم في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 485.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

وقوله: (لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا) هكذا في كثير من النُّسخ، فيكون بمعنى معدودًا، كما في "المصباح"، وفي بعضها:"عدًّا"، فيكون مصدرًا مؤكّدًا.

وشرح الحديث تقدّم، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(1)

"تاريخ مدينة دمشق" 2/ 213 - 214.

ص: 422

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7290](2914)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 48 و 60 و 96)، و (نعيم بن حمّاد) في "الفتن"(1/ 358)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7291]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ خَلِيفَةٌ، يَقْسِمُ الْمَالَ، وَلَا يَعُدُّهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الصَّمَدِ بنُ عَبْدِ الوَارِثِ) بن سعيد الْعَنْبريّ مولاهم التَّنُّوريّ، أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

2 -

(أَبُوهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عُبيدة التَّنُّوريّ البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند الْقُشيريّ مولاهم، أبو بكر، أو أبو محمد البصريّ، ثقةٌ متقنٌ [5] (ت 140) وقيل: قبلها (خت م 4) تقدم في "الإيمان" 27/ 221.

والباقون ذُكروا في الباب.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7292]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو مُعَاوِيَةَ) محمد بن خازم الضرير الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

ص: 423

[تنبيه]: رواية أبي معاوية عن داود بن أبي هند هذه لم أجد من ساقها، فليُنظَر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7293]

(2915) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ حِينَ جَعَلَ يَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، وَيَقُولُ: "بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ فِئَةٌ بَاغِيةٌ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبل أربعة أبواب، و"أبو مسلمة" هو: سعيد بن يزيد بن مسلمة الطاحيّ.

وقوله: (أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي) هو أبو قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ) سعيد بن يزيد الطاحيّ البصريّ القصير؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ) المنذر بن مالك (يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) سعد بن مالك بن سِنان رضي الله عنهما (قَالَ: أَخْبرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي) هو: أبو قتادة الأنصاريّ، كما في الرواية التالية. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ) هو ابن ياسر بن عامر بن مالك الْعَنْسيّ -بنون ساكنة، وسين مهملة- أبو اليقظان، مولى بني مخزوم الصحابيّ الجليل المشهور، من السابقين الأولين، بدريّ قُتل مع علي رضي الله عنهما بصِفّين سنة سبع وثلاثين. أخرج له الجماعة، وتقدّمت ترجمته في "الحيض" 27/ 824.

(حِينَ جَعَلَ)؛ أي: شرع (يَحْفِرُ) بكسر الفاء، من باب ضرب، (الْخَنْدَقَ) كجعفر: حفيرٌ حول أسوار المدن، قال ابن دُريد: فارسيّ معرّب كنده، وقد تكلمت به العرب، قال الراجز:

لَا تَحْسَبَنَّ الْخَنْدَقَ الْمَحْفُورَا

يَدْفَعُ عَنْكَ الْقَدَرَ الْمَقْدُورَا

والجمع: الخنادق، قال عمارة بن طارق:

يَحُطّ بِالْعَبْدِ الشَّدِيدِ الْعَاتِقِ

مِثْلَ حطَاطِ الْبَغْلِ فِي الْخَنَادِقِ

ص: 424

والمراد: الخندق الذي حُفر حول المدينة بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان الذي أشار بذلك سلمان الفارسيّ رضي الله عنه فيما ذكر أصحاب المغازي، منهم أبو معشر قال: قال سلمان للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خَندقنا علينا، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق حول المدينة، وعَمِل فيه بنفسه ترغيبًا للمسلمين، فسارعوا إلى عمله، حتى فرغوا منه، وجاء المشركون، فحاصروهم، وكان ذلك في شوّال سنة أربع من الهجرة، على ما قاله موسى بن عقبة، ورجحه البخاريّ، وقيل: في شوّال سنة خمس، وبه قال ابن إسحاق، وغيره من أهل المغازي

(1)

.

(وَجَعَلَ)؛ أي: شرع النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَمْسَحُ رَأْسَهُ)؛ أي: يمسح الغبار من رأس عمّار، وفي حديث أبيّ رضي الله عنه قال: كنا ننقل لَبِن المسجد لبنةً لبنةً، وكان عمار ينقل لبنتين، لبنتين، فمرّ به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومسح عن رأسه الغبار، وقال:"وَيْحَ عمار، تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى اللَّه، ويدعونه إلى النار"، رواه البخاريّ.

وقوله: "يدعوهم" الضمير لقَتَلَته.

[فإن قيل]: كان قَتْله بصفين، وهو مع عليّ رضي الله عنه، والذين قتلوه مع معاوية رضي الله عنه، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟.

فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون، لا لوم عليهم في اتّباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة: الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار رضي الله عنه يدعوهم إلى طاعة عليّ رضي الله عنه، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم، قاله في "الفتح"

(2)

.

(وَيَقُولُ) صلى الله عليه وسلم في حال مسحه رأسه: ("بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ)؛ أي: يا بؤسَه، وما يلقاه، وشدّةَ حاله، قاله في "المشارق"

(3)

، وقال ابن الأثير رحمه الله: كأنه ترحم له من الشدّة التي يقع فيها. انتهى

(4)

.

(1)

راجع: "الفتح" 9/ 182 - 183، "كتاب المغازي" رقم (4097).

(2)

"الفتح" 1/ 542.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 75.

(4)

"النهاية في غريب الأثر" 1/ 89.

ص: 425

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بؤس ابن سمية" هو منادى مضاف، محذوف منه حرف النداء، تقديره: يا بؤس ابن سميّة، وهي أمّ عمّار، والبأس، والبؤس، والبأساء: المكروه، والضرر، وفي الرواية الأخرى:"يا ويس ابن سُميّة"، وفي البخاريّ:"يا ويح ابن سمية"، وكلاهما بمعنى التفجع، والترحّم، والويل: بمعنى الهلكة، هذا هو الصحيح، وقد تقدّم الخلاف فيهما. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: المعنى: يا بؤس عمار احضري هذا أوانكِ، نادى بؤسه، وأراد نداءه، ولذلك خاطبه بقوله:"تقتلك الفئة الباغية" يريد معاوية وقومه، فإنه قُتل يوم صفّين، واتُّسع في حذف "يا"، وهي لا تُحذف عن أسماء الأجناس، كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" بقوله:

وَغَيْرُ مَنْدُوبٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا

جَا مُسْتَغَاثًا قَدْ يُعَرَّى فَاعْلَمَا

وَذَاكَ فِي اسْمِ الْجِنْس وَالْمُشَارِ لَهْ

قَلَّ وَمَنْ يَمْنَعْهُ فَانْصُرْ عَاذِلَهْ

انتهى كلام الطيبيّ رحمه الله

(2)

بزيادة.

[تنبيه]: سُميّة المذكورة في هذا الحديث هي والدة عمّار بن ياسر رضي الله عنهم، قال في "الإصابة": سمَيّة بنت خُبّاط -بمعجمة مضمومة، وموحدة ثقيلة، ويقال: بمثناة تحتانية- وعند الفاكهيّ: سمية بنت خَبَط -بفتح أوله بغير ألف- مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم، والدة عمار بن ياسر، كانت سابعة سبعة في الإسلام، عذّبها أبو جهل، وطعنها في قُبُلها، فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، وكان ياسر حليفًا لأبي حذيفة، فزوّجه سُمَيَّة، فولدت عمارًا، فأعتقه، وكان ياسر، وزوجته، وولده منها، ممن سبق إلى الإسلام، قال ابن إسحاق في "المغازي": حدّثني رجال من آل عمار بن ياسر، أن سمية أم عمار عذبها آل بني المغيرة على الإسلام، وهي تأبى غيره، حتى قتلوها، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمر بعمار، وأمه، وأبيه، وهم يعذَّبون بالأبطح في رمضاء مكة، فيقول:"صبرًا يا آل ياسر موعدكم الجنة".

(1)

"المفهم" 7/ 258.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3764.

ص: 426

وقال مجاهد: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، وخبّاب، وصهيب، وعمار، وسُمية، فأما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فمنعهما قومهما، وأما الآخرون فأُلبسوا أدراع الحديد، ثم صُهِروا في الشمس، وجاء أبو جهل إلى سُمية فطعنها بحربة، فقتلها، أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة، عن جرير، عن منصور، عن مجاهد، وهو مرسل صحيح السند.

وأخرج ابن سعد بسند صحيح عن مجاهد، قال: أول شهيد في الإسلام سمية، والدة عمار بن ياسر، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة، ولمّا قُتل أبو جهل يوم بدر قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمار:"قتل اللَّه قاتل أمك". انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، وفي رواية:"ويس، أو يا ويس"، وفي رواية:"قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية".

أما الرواية الأولى فهو "بؤس" بباء موحدة مضمومة، وبعدها همزة، والبؤس، والبأساء: المكروه، والشدّة، والمعنى: يا بؤس ابن سمية، ما أشدّه، وأعظمه.

وأما الرواية الثانية فهي "وَيْس" بفتح الواو، وإسكان المثناة، ووقع في رواية البخاريّ:"وَيْحَ" كلمة ترحّم، وويس تصغيرها، أي: أقل منها في ذلك، قال الهرويّ:"ويح" يقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، فيترحم بها عليه، ويُرْثَى له، وويل لمن يستحقها، وقال الفراء: ويح، وويس، بمعنى ويل، وعن عليّ رضي الله عنه: ويح باب رحمة، وويل باب عذاب، وقال: ويح كلمة زجر لمن أشرف على الهلكة، وويل لمن وقع فيها، واللَّه أعلم.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (تَقْتُلُكَ فِئَةٌ)؛ أي: طائفة، وجماعة (بَاغِيةٌ")؛ أي: خارجة على الإمام الحقّ، مخالفة له، وهي جماعة معاوية رضي الله عنه.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "تقتلك فئة باغية" بيان لقوله: "بؤس ابن سُميّة"، وكان من الظاهر أن يقال:"تقتله"، ولكن لما كان المراد بهذا البؤس نفسه استقام ذلك. انتهى

(2)

.

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 7/ 712.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 12/ 3764.

ص: 427

وقال النوويّ رحمه الله: والفئة: الطائفة، والفِرقة، قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن عليًّا رضي الله عنه كان مُحِقًا مصيبًا، والطائفة الأخرى بُغاة، لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم لذلك، كما قدمناه في مواضع، منها هذا الباب. انتهى

(1)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ عمن هو خير منه، وهو أبو قتادة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (إلى مصنّف) هنا [18/ 7293 و 7294](2915)، و (البخاريّ) في "الصلاة"(447) وفي "الجهاد"(2812)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2168)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 3 و 22 و 28 و 90 - 91)، و (ابن سعد) في "الطبقات"(3/ 252 - 253)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7078 و 7079)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن فيه معجزةً ظاهرةً لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أوجه: منها أن عمارًا يموت قتيلًا، وأنه يقتله مسلمون، وأنهم بُغاة، وأن الصحابة يتقاتلون، وأنهم يكونون فرقتين: باغية، وغيرها، وكل هذا قد وقع مثل فلق الصبح، صلّى اللَّه وسلّم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. انتهى

(2)

.

2 -

(ومنهما): أن في هذا الحديث عَلَمًا من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعليّ ولعمار رضي الله عنهما، وردًّا على النواصب الزاعمين أن عليًّا لم يكن مصيبًا في حروبه.

3 -

(ومنها): أن في رواية البخاريّ زيادة في آخر الحديث، ونصها:"قال: يقول عمار: أعوذ باللَّه من الفتن"، فيه دليل على استحباب الاستعاذة من

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 40.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 40.

ص: 428

الفتن، ولو عَلِم المرء أنه متمسك فيها بالحقّ؛ لأنها قد تفضي إلى وقوع من لا يرى وقوعه، قال ابن بطال رحمه الله: وفيه ردّ للحديث الشائع: لا تستعيذوا باللَّه من الفتن، فإن فيها حصاد المنافقين، وقد سئل ابن وهب قديمًا عنه، فقال: إنه باطل.

4 -

(ومنهما): أن حديث: "تقتل عمارًا الفئة الباغية" رواه جماعة من الصحابة، منهم: قتادة بن النعمان، وأم سلمة، وأبو هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعثمان بن عفان، وحذيفة، وأبو أيوب، وأبو رافع، وخزيمة بن ثابت، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو اليَسَر، وعمار نفسه، وكلها عند الطبرانيّ وغيره، وغالب طرقها صحيحة، أو حسنة، وفيه عن جماعة آخرين يطول عدّهم، قاله في "الفتح"

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): قال في "الفتح": قوله: "ويقول -أي: في تلك الحال-: ويح عمار" هي كلمة رحمة، وهي بفتح الحاء، إذا أضيفت، فإن لم تُضِف جاز الرفع، والنصب، مع التنوين فيهما.

قال: فإن قيل: كان قَتْله بصفين، وهو مع عليّ، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟.

فالجواب: أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون، لا لوم عليهم في اتّباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة: الدعاء إلى سببها، وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة عليّ، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم.

وقال ابن بطال تبعًا للمهلّب: إنما يصح هذا في الخوارج الذين بَعث إليهم عليّ عمارًا يدعوهم إلى الجماعة، ولا يصح في أحد من الصحابة، وتابعه على هذا الكلام جماعة من الشراح، قال الحافظ: وفيه نَظَر من أوجه:

أحدهما: أن الخوارج إنما خرجوا على علي بعد قَتْل عمار، بلا خلاف بين أهل العلم بذلك، فإن ابتداء أمر الخوارج كان عقب التحكيم، وكان

(1)

"الفتح" 2/ 189 - 190.

ص: 429

التحكيم عقب انتهاء القتال بصفين، وكان قتل عمار قبل ذلك قطعًا، فكيف يبعثه إليهم عليّ بعد موته؟

ثانيها: أن الذين بعث إليهم عليّ عمارًا إنما هم أهل الكوفة، بعثه يستنفرهم على قتال عائشة، ومن معها قبل وقعة الجمل، وكان فيهم من الصحابة جماعة، كمن كان مع معاوية وأفضل، فما فرّ منه المهلّب وقع في مثله، مع زيادة إطلاقه عليهم تسمية الخوارج، وحاشاهم من ذلك.

ثالثها: أنه شَرَح على ظاهر ما وقع في هذه الرواية الناقصة، ويمكن حمله على أن المراد بالذين يدعونه إلى النار: كفار قريش، كما صرح به بعض الشراح، لكن وقع في رواية ابن السكن، وكريمة، وغيرهما، وكذا ثبت في نسخة الصغاني ألتي ذكر أنه قابلها على نسخة الفربري التي بخطه زيادة توضح المراد، وتفصح، بأن الضمير يعود على قَتَلته، وهم أهل الشام، ولفظه:"ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم. . ." الحديث.

واعلم أن هذه الزيادة لم يذكرها الحميديّ في "الجمع"، وقال: إن البخاري لم يذكرها أصلًا، وكذا قال أبو مسعود، قال الحميديّ: ولعلها لم تقع للبخاريّ، أو وقعت، فحذفها عمدًا، قال: وقد أخرجها الإسماعيليّ، والْبَرْقانيّ في هذا الحديث.

قال الحافظ: ويظهر لي أن البخاري حذفها عمدًا، وذلك لنكتة خفيّة، وهي أن أبا سعيد الخدريّ اعترف أنه لم يسمع هذه الزيادة من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنها في هذه الرواية مدرجة، والرواية التي بيّنت ذلك، ليست، على شرط البخاريّ.

وقد أخرجها البزار من طريق داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، فذكر الحديث في بناء المسجد، وحَمْلهم لبنة لبنة، وفيه: فقال أبو سعيد: فحدثني أصحابي، ولم أسمعه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية". انتهى. وابن سمية هو عمار، وسمية اسم أمه، وهذا الإسناد على شرط مسلم، وقد عيّن أبو سعيد من حدثه بذلك، ففي مسلم، والنسائيّ من طريق أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: حدّثني من هو خير مني، أبو قتادة، فذكره، فاقتصر البخاريّ على القَدْر الذي سمعه

ص: 430

أبو سعيدى من النبيّ صلى الله عليه وسلم دون غيره، وهذا دالّ على دقة فهمه، وتبحره في الاطلاع على علل الأحاديث.

وفي هذا الحديث زيادة أيضًا لم تقع في رواية البخاريّ، وهي عند الإسماعيليّ، وأبي نعيم في "المستخرج" من طريق خالد الواسطيّ، عن خالد الحذاء، وهي: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا عمار ألا تَحْمِل كما يحمل أصحابك؟ " قال: إني أريد من اللَّه الأجر. انتهى ما في "الفتح"

(1)

.

(المسألة الخامسة): قال القرطبيّ رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم لعمّار بن ياسر رضي الله عنهما: "تقتلك فئة باغية"، وفي لفظ آخر:"الفئة الباغية" هذه شهادة من النبيّ صلى الله عليه وسلم على فئة معاوية بالبغي، فإنهم هم الذين قتلوه، فإنه كان بعسكر عليّ بصِفّين، وأبلى في القتال بلاء عظيمًا، وحرّض أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على قتال معاوية وأصحابه، قال أبو عبد الرحمن السَّلميّ: شهدنا مع عليّ صفين، فرأيت عمّار بن ياسر رضي الله عنهما لا يأخذ في ناحية من أودية صفين، إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه، كأنه عَلَم لهم، قال: وسمعته يقول يومئذ لهاشم بن عتبة: يا هاشم تقدّم، الجنة تحت الأبارقة

(2)

، اليوم ألقى الأحبّة، محمّدًا وحزبه، واللَّه لو هزمونا حتى يبلغوا بنا شغفات هجر لعلمنا أنا على الحقّ، وأنهم على الباطل، ثم قال:

نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ

فَالْيَوْمَ نَضْرِبْكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ

ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ

وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ

أَوْ يَرْجِعُ الْحَقَّ إِلَى سبِيلِهِ

قال: فلم أر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قُتلوا في موطن ما قُتلوا يومئذ، وقال عبد الرحمن بن أبزى: شهدنا صفين مع عليّ رضي الله عنه في ثمانمائة ممن بايع بيعة الرضوان، قُتل منهم ثلاثة وستون، منهم عمّار بن ياسر.

وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين قال: ثم حمل عمّار بن ياسر، فحمل عليه ابن جزء السكسكيّ، وأبو الغادية الفزاريّ، فأمَّا

(1)

"الفتح" 2/ 188 - 189، "كتاب الصلاة" رقم (447).

(2)

الأبارقة: السيوف.

ص: 431

أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جزء فاحتز رأسه، وكان سنّه وقت قُتل نيّفًا على تسعين سنة، وكانت صفين في ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين، ودَفَنه عليّ رضي الله عنه في ثيابه، ولم يغسله كما فُعل بشهداء أُحُد.

ولمّا ثبت أن أصحاب معاوية قتلوا عمّارًا صدق عليهم خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم البغاة، وأن عليًّا رضي الله عنه هو الإمام الحق.

ووجه ذلك واضح، وهو أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالإمامة من كلّ من كان على وجه الأرض في ذلك الوقت، من غير نزاع من معاوية، ولا من غيره، وقد انعقدت بيعته بأهل الحلّ والعقد، من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأهل دار الهجرة، فوجب على أهل الشام والحجاز والعراق وغيرهم مبايعته، وحرمت عليهم مخالفته، فامتنعوا عن بيعته، وعملوا على مخالفته، وكانوا له ظالمين، وعن سبيل الحق ناكبين، فاستحقوا اسم البغي الذي شهد به عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يُنجيهم من هذا تأويلاتهم الفاسدة، فإنها تحريفات، عن سنن الحق حائدة.

نقل الأخباريون أن معاوية رضي الله عنه تأوّل الخبر تأويلين:

أحدهما: أنه قال بموجب الخبر، فقال: نحن الباغية لدم عثمان رضي الله عنه.

وثانيهما: أنه قال: إنما قتله من أخرجه للقتل، وعَرَّضه له، وهذان التأويلان فاسدان.

أما بيان فساد الأول، فالبغي -وإن كان أصله المطلب- فقد غلب عُرْف استعماله في اللغة والشرع على التعدّي والفساد، ولذلك قال اللغويون، أبو عبيد وغيره: البغي: التعدّي، وبغى الرجل على الرجل: استطال عليه، وبغت السماء: اشتدّ مطرها، وبغى الجرح: وَرِم، وترامى إلى فساد، وبغى الوالي: ظَلَم، وكلُّ مجاوزة، وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء: بغيٌ، وبرئ جرحه على بغي، وهو أن يبرأ وفيه شيء من نَغَل، وعلى هذا فقد صار الحال في البغي كالحال في الصلاة، والدّابة، وغير ذلك من الأسماء العرفية التي إذا سمعها السامع سبق لفهمه المعنى العرفي المستعمل، لا الأصلي الذي قد صار كالمطّرح، كما بيّناه في الأصول، وإلى حَمْل اللفظ على ما قلناه صار عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيره يوم قُتل عمّار، وأكثر أهل العصر، ورأوا: أن ذلك التأويل تحريف.

ص: 432

سلّمنا نفي العرف، وأن لفظ الباغية صالح للطلب، وللتعدّي، لكن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الفئة الباغية في هذا الحديث في معرض إظهار فضيلة عمّار رضي الله عنه، وذم قاتليه، ولو كان المقصود البغي الذي هو مجرد المطلب لمَا أفاد شيئًا من ذلك، وقد أفادهما بدليل مساق الحديث، فتأمله بجميع طرقه تجده كذلك.

وأيضًا فلو كان ذلك هو المقصود لكان تخصيص قتلة عمّار بالبغي الذي هو المطلب ضائعًا، لا فائدة له؛ إذ عليّ وأصحابه طالبون للحقّ ولقتلة عثمان، لو تفرغوا لذلك، وتمكنوا منه، وإنما منعهم من ذلك معاوية وأصحابه بما أبدوا من الخلاف، ومن الاستعجال، مع قول عليّ لهم: ادخلوا فيما دخل فيه الناس، ونطلب قتلة عثمان، ونقيم عليهم كتاب اللَّه، فلم يلتفتوا لهذا، ولا عرّجوا عليه، ولكن سبقت الأقدار، وعظمت المصيبة بقتيل الدار.

وأما فساد التأويل الثاني فواضحٌ لأنَّه عَدْل عمن وُجد القتل منه إلى من لا تصح نسبته إليه؛ إذ لم يُجبَر عمّار على الخروج، بل هو خرج بنفسه وماله مجاهدًا في سبيل اللَّه، قاصدًا لقتال من بغى على الإمام الحقّ، وقد نقلنا ما صدر عنه في ذلك، وحاشَ معاوية رضي الله عنه عن مثل هذا التأويل، والعهدة على الناقل، بل قد حُكي عن معاوية رضي الله عنه أنه قال عندما جاءه قاتل عمّار برأسه: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "بشِّر قاتل ابن سمية بالنار"، فلما سمع القاتل ذلك قال: بئست البشارة، وبئست التحفة، وأنشد في ذلك شعرًا، واللَّه أعلم بحقيقة ما جرى من ذلك، وقد تقدّم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الخوارج:"تقتلهم أَوْلى الطائفتين بالحقّ"، والقاتل لهم هو عليّ رضي الله عنه، وأصحابه. انتهى كلام القرطبيّ

(1)

رحمه الله.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة المسألة أننا نقول: عليّ رضي الله عنه، وأصحابه هم أهل الحقّ، والذين قاتلوهم فيهم كبار أصحاب رسول اللَّه، فالواجب أن نعتذر عنهم بأنهم مجتهدون، أخطؤوا في اجتهادهم، وهذا هو السلامة كل السلامة، وهي مقدّمة على كلّ شيء، فلا نخوض في القضيّة بأكثر من هذا، ورحم اللَّه عز وجل الإمام العدل، والناطق بالعدل، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حيث قال حين سئل عما جرى بينهم: تلك دماء قد طهّر اللَّه منها سيوفنا، فلا

(1)

"المفهم" 23/ 97.

ص: 433

نقذّر بها ألسنتنا، أو كما قال، وهذا هو آخر المطاف، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} [آل عمران: 8]، "اللَّهُمَّ فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شرّ نفسي، ومن شر الشيطان وشِرْكه، وأن أقترف على نفسي سوءًا، أوْ أجرّه إلى مسلم"، آمين.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7294]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ عَبَّادٍ الْعَنْبَرِيُّ، وَهُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّ فِي حَدِيثِ النَّضْرِ: أَخْبَرَنِي مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو قَتَادَةَ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ: قَالَ: أُرَاهُ يَعْنِي أَبَا قَتَادَةَ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ: وَيَقُولُ: "وَيْسَ"، أَوْ يَقُولُ:"يَا وَيْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ").

رجال هذا الإسناد: أحد عشر:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ عَبَّادٍ الْعَنْبَرِيُّ) هو: محمد بن معاذ بن عباد بن معاذ بن نصر بن حسان العنبريّ البصريّ، وقد يُنسب إلى جدّه، صدوقٌ يَهِمُ [10].

روى عن أبيه معاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، وأبي عوانة، وغيرهم.

وروى عنه مسلم، وأبو داود، وأحمد بن إبراهيم الدَّورقيّ، وغيرهم.

قال أبو حاتم: صدوقٌ ليس به بأسٌ، وقال أبو جعفر العقيليّ: في حديثه وَهَمٌ، وقال الآجريّ عن أبي داود: أراه مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وأورد له العقيلي حديثًا رفعه لابن عباس:"الإيمان بالقدر نظام التوحيد"، فقال العقيليّ: والصواب موقوف، وقال الذهبيّ: هذا لا يقتضي ضعفه.

انفرد به المصنّف، وأبو داود، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث

(1)

.

(1)

وأما نقله في "التهذيب" عن "الزهرة" أنه روى عنه مسلم ثلاثة أحاديث، ففيه نظر لا يخفى، فليس له فيه إلا هذا الحديث، كما هو المذكور في برنامج الحديث للكتب التسعة.

ص: 434

2 -

(هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) بن الْفُرات الأسديّ، أبو حمزة البصريّ، ثقةٌ [10](ت 235) على الصحيح (م) تقدم في "الإيمان" 55/ 324.

3 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ) الْهُجيميّ البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه الحنظليّ المروزيّ، تقدّم قبل أربعة أبواب.

5 -

(إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورِ) بن بَهْرَام الْكَوْسج، أبو يعقوب التميميّ المروزيّ، ثقةٌ ثبتٌ [11](ت 251)(خ م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 12/ 156.

6 -

(مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ) العدويّ مولاهم، أبو أحمد المروزيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ [10] (239) وقيل: بعد ذلك (خ م ت س ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

7 -

(مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ) بن إسماعيل السَّلَميّ البخاريّ، نزيل مرو، ثقة

(1)

[11](م) تقدم في "الصيام" 39/ 2754، من أفراد المصنّف.

8 -

(النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ) المازنيّ، أبو الحسن النحويّ البصريّ، نزيل مرو، ثقةٌ، ثبتٌ، من كبار [9](ت 204) وله اثنتان وثمانون سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 39.

9 -

(أَبو قَتَادَةَ) الأنصاريّ هو الحارث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن رِبْعيّ -بكَسر الراء، وسكون الموحدة، بعدها مهملة- ابن بُلْدُمة -بضم الموحدة، والمهملة، بينهما لام ساكنة- السَّلَميّ -بفتحتين- الصحابيّ الشهير، شهِد أُحُدًا، وما بعدها، ولم يصح شهوده بدرًا، ومات رضي الله عنه سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، والأول أصحّ، وأشهر (ع) تقدم في "الطهارة" 18/ 619.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ) ضمير التثنية لخالد بن الحارث، والنضر بن شُميل؛ أي: رويا عن شعبة بن الحجّاج.

وقوله: (أَبُو قَتَادَةَ) بدل من "من هو".

(1)

هذا أَولى من قوله في "التقريب": مقبول، فقد روى عنه جماعة، وأخرج له مسلم في "الصحيح" ووثقه ابن حبّان، والذهبيّ في "الميزان" 4/ 15، ولم يجرحه أحد، فتنبّه.

ص: 435

وقوله: (أُرَاهُ يَعْنِي أَبَا قَتَادَةَ) بضم الهمزة، وتُفتح؛ أي: قال أبو نضرة: أظنّ أبا سعيد يقصد بقوله: "من هو خير مني" أبا قتادة الأنصاريّ.

وقوله: (وَيَقُولُ: "وَيْسَ")؛ أي: بحذف حرف النداء.

وقوله: (أَوْ يَقُولُ: "يَا وَيْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ")؛ أي: بإثبات حرف النداء.

[تنبيه]: أما رواية النضر بن شُميل عن شعبة، فقد ساقها النسائيّ رحمه الله في "الكبرى"، فقال:

(8548)

- أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدّثنا النضر بن شُميل، عن شعبة، عن أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: حدّثني من هو خير مني أبو قتادة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"بؤسًا لك يا ابن سمَيّة -ومسح الغبار عن رأسه- تقتلك الفئة الباغية". انتهى

(1)

.

وأما رواية خالد بن الحارث عن شعبة، فلم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7295]

(2916) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ (ح) وَحَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ عُقْبَةُ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: سَمِعْتُ خَالِدًا، يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَمَّارٍ:"تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ").

رجال هذا الإسناد: تسعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عمرِو بْنِ جَبَلَةَ) هو: محمد بن عمرو بن عَبّاد بن جَبَلة بن أبي رَوّاد الْعَتَكِيّ -بفتح العين المهملة، والمثناة- أبو جعفر البصريّ، صدوق [11](ت 234)(م د) تقدم في "الإيمان" 63/ 348.

2 -

(عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمِّيُّ) هو: عقبة بن مُكْرَم -بضم الميم، وسكون الكاف، وفتح الراء- أبو عبد الملك البصريّ، ثقةٌ [11] مات في حدود الخمسين ومائتين (م د ت ق) تقدم في "الإيمان" 27/ 220.

(1)

"السنن الكبرى" 5/ 156.

ص: 436

[تنبيه]: قوله: (الْعَمّيّ) بفتح العين المهملة وتشديد الميم: نسبة إلى العم، وهو بطن من تميم، وهم ولد مرّة بن وائل بن عمرو بن مالك بن فهم بن غَنْم بن دوس، يقال لهم: بنو العمّ، قاله في "اللباب"

(1)

.

3 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ) هو: محمد بن أحمد بن نافع العبديّ البصريّ، تقدّم قريبًا.

4 -

(خَالِدُ) بن مِهْران، أبو المنازل -بفتح الميم، وقيل: بضمها، وكسر الزاي- البصريّ الحذّاء، ثقةٌ حافظٌ يرسل [5] أشار حماد بن زيد إلى أن حفظه تغير لَمّا قَدِم من الشام، وعاب عليه بعضهم دخوله في عمل السلطان (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 144.

5 -

(سَعِيدُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ) البصريّ، أخو الحسن البصريّ، ثقةٌ [3] مات سنة مائة (ع) تقدم في "اللباس والزينة" 25/ 5528.

6 -

(أُمُّهُ) خيرة أم الحسن البصريّ مولاة أم سلمة، ثقة

(2)

[2](م 4) تقدمت في "الأشربة" 8/ 5221.

7 -

(أُمُّ سَلَمَةَ) هند بنت أبي أمية المخزوميّة أم المؤمنين رضي الله عنها، تقدّمت قريبًا.

والباقيان تقدّما.

وشرح الحديث مضى قبله، وفيه مسألتان:

(المسألة الأولى): حديث أم سلمة رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7295 و 7296 و 7297](2916)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(5/ 155 و 156)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 289 و 300 و 311 و 315)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 363)، و (ابن الجعد) في "مسنده"(1/ 182)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(8/ 189) وفي "الاعتقاد"(1/ 375)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(7/ 197 و 198)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/ 359.

(2)

هذا هو الحقّ؛ لأنها روى عنها جماعة، وأخرج لها مسلم في "صحيحه"، ووثقها ابن حبّان، ولم يتكلّم عليها أحد، فهي ثقة، وأما ما قاله في "التقريب": مقبولة، فليس بمقبول، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 437

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7296]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الوَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، وَالْحَسَنِ عَنْ أُمِّهِمَا، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار البصريّ الإمام المشهور، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة هذه ساقها البيهقيّ رحمه الله في "الاعتقاد"، فقال:

أخبرنا أبو الحسين عليّ بن محمد السبعينيّ النيسابوريّ، ثنا أبو العباس الأصمّ، ثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا شعبة، عن خالد الحذّاء، عن سعيد بن أبي الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية".

قال الأصمّ: وحدّثنا إبراهيم بن مرزوق، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن خالد الحذاء، عن الحسن بن أبي الحسن، عن أمه، عن أم سلمة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعمار:"تقتلك الفئة الباغية". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7297]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(ابْنُ عَوْنٍ) عبد اللَّه بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ فاضلٌ، من أقران أيوب في العلم، والعمل، والسنّ [5](ت 150) على الصحيح (ع) تقام في "شرح المقدّمة" جـ 1 ص 303.

(1)

"الاعتقاد" 1/ 374 - 375.

ص: 438

والباقون ذُكروا في الباب، و"إسماعيل بن إبراهيم" هو: ابن عليّة.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد.

وبالمسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7298]

(2917) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يُهْلِكُ أُمَّتِي هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ"، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: "لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(أَبُو التَّيَّاحِ) -بمثناة، ثم تحتانية ثقيلة، وآخره جاء مهملة- يزيد بن حُميد الضُّبَعي البصريّ مشهور بكنيته، ثقةٌ ثبتٌ [5](ت 128)(ع) تقدم في "الطهارة" 27/ 659.

2 -

(أَبُو زُرْعَةَ) بن عمرو بن جرير بن عبد اللَّه البجليّ الكوفيّ، قيل: اسمه هَرِمٌ، وقيل: عمرو، وقيل: عبد اللَّه، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جريرٌ، ثقةٌ [3](ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 106.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "يُهْلِكُ) بضمّ حرف المضارعة، من الإهلاك، وقوله:(أُمَّتِي) منصوب على المفعوليّة، (هَذا الحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ") قال القرطبيّ رحمه الله: الحي: القبيل، وأشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قبيل قريش، وهو يريد بعضهم، وهم الغِلْمة المذكورون في حديث البخاريّ بلفظ:"هلكة أمتي، على يدي غِلمة من قريش"، كما أنه لم يُرد بالأمة جميع أمته من أولها إلى آخرها، بل من كان موجودًا من أمته في ولاية أولئك الغِلْمة، وكان

ص: 439

الهلاك الحاصل من هؤلاء لأمته في ذلك العصر إنما سببه أن هؤلاء الأغيلمة لِصِغَر أسنانهم لم يتحنّكوا، ولا جرّبوا الأمور، ولا لهم محافظة على أمور الدين، وإنما تصرّفهم على مقتضى غلبة الأهواء، وحِدّة الشباب. انتهى

(1)

.

وفي رواية: "هَلَكة أمتي" بفتح الهاء واللام؛ أي: هلاكهم، قال القاري: والمراد بالأمة هنا: الصحابة؛ لأنهم خيار الأمة، وأكابر الأئمة، وقوله:"على يدي" تثنية مضافة إلى "غلمةٍ، من قريش" بكسر الغين جمع غلام؛ أي: على أيدي الشُّبّان الذين ما وصلوا إلى مرتبة كمال العقل، والأحداث السنّ الذين لا مبالاة لهم بأصحاب الوقار، وأرباب النُّهَى، والظاهر أن المراد: ما وقع بين عثمان رضي الله عنه وقَتَلته، وبين عليّ والحسين رضي الله عنهما، ومن قاتَلهم، وقال المظهر: لعله أراد بهم الذين كانوا بعد الخلفاء الراشدين، مثل يزيد، وعبد الملك بن مروان، وغيرهما. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: سيأتي عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يبيّن المراد بهؤلاء، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه "كان يمشي في السوق، ويقول: اللَّهُمَّ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان"، قال الحافظ: وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، فإن يزيد بن معاوية استُخلف فيها، وبقي إلى سنة أربع وستين، فمات، ثم ولي ولده معاوية، ومات بعد أشهر. انتهى

(3)

.

[تنبيه]: وقع في بعض الروايات بلفظ: "أُغيلمة"، وهو تصغير غِلمة على غير مكبّره، فكأنهم قالوا: أغلمة، ولم يقولوه، كما قالوا: أَصيبية بتصغير صِبية. وبعضهم يقول: غُليمة على القياس، وقد تقدّم القول في الغلام، وأن أصله فيمن لم يحتلم، ثم قد يُتوسع فيه، ويقال على الحديث السنّ، وإن كان قد احتلم، وعلى هذا جاء في هذا الحديث، قاله القرطبيّ رحمه الله

(4)

.

(قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث: (فَمَا تَأْمُرُنَا؟)؛ أي: فبأيّ شيء تأمرنا أن نتمسّك به في ذلك الزمان؟

(1)

"المفهم" 7/ 254.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 17.

(3)

"الفتح" 16/ 443.

(4)

"المفهم" 7/ 255.

ص: 440

(قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم جوابًا لسؤالهم هذا: ("لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ") جواب "لو" محذوف، تقديره: لكان خيرًا، ونحو ذلك، ويجوز أن تكون "لو" للتمني، فلا تحتاج إلى جواب

(1)

، والمعنى: أتمنّى أن يعتزلهم الناس، ويبتعدوا عنهم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لو أن الناس اعتزلوهم"، لو: معناها التمني؛ أي: ليت الناس اعتزلوهم، فيه دليل على إقرار أئمة الجور، وتَرْك الخروج عليهم، والإعراض عن هَنَات، ومفاسد، تصدر عنهم، وهذا ما أقاموا الصلاة، ولم يصدر منهم كفر بَوَاح عندنا من اللَّه فيه برهان، كما قدمناه في "كتاب الإمامة"، وهؤلاء الأغيلمة كان أبو هريرة رضي الله عنه يعرف أسماءهم، وأعيانهم، ولذلك كان يقول: لو شئت قلت لكم: هم بنو فلان، وبنو فلان، لكنّه سكت عن تعيينهم مخافة ما يطرأ من ذلك من المفاسد، وكأنهم -واللَّه تعالى أعلم- يزيد بن معاوية، وعبيد اللَّه بن زياد، ومن تنزّل منزلتهم، من أحداث ملوك بني أمية، فقد صدر عنهم من قَتْل أهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسبيهم، وقتل خيار المهاجرين، والأنصار بالمدينة، وبمكة، وغيرها، وغيرُ خافٍ ما صدر عن الحجاج، وسليمان بن عبد الملك، ووَلَدِه من سفك الدماء، وإتلاف الأموال، وإهلاك خيار الناس بالحجاز، والعراق، وغير ذلك. انتهى

(2)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية) في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7298 و 7299](2917)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3604 و 3605) و"الفتن"(7058)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(1/ 327)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 324 و 520 و 536)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(1/ 358)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6712 و 6713)، و (البيهقيّ) في "الدلائل"(6/ 464)، و (الطبرانيّ) في "الصغير"(1/ 334)، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"عمدة القاري" 16/ 139.

(2)

"المفهم" 7/ 254 - 255.

ص: 441

(المسألة الثالثة): قال الإمام البخاريّ رحمه الله في "صحيحه": باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء".

(6649)

- حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: أخبرني جدّي، قال: كنت جالسًا مع أبي هريرة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: "هَلَكَةُ أمتي على يدي غلمة من قريش"، فقال مروان: لعنة اللَّه عليهم غلمةً، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان، وبني فلان لفعلت، فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان، حين مُلِّكوا بالشام، فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا، قال لنا: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم. انتهى.

قال في "الفتح": زاد في بعض النُّسخ لأبي ذرّ: "من قريش"، ولم يقع لأكثرهم، وقد ذكره في الباب من حديث أبي هريرة بدون قوله:"سفهاء"، وذكر ابن بطال أن على بن معبد أخرجه؛ يعني: في "كتاب الطاعه والمعصية"، من رواية سماك، عن أبي هريرة، بلفظ:"على رؤوس غلمة سفهاء من قريش"، قال الحافظ: وهو عند أحمد، والنسائيّ من رواية سماك، عن أبي ظالم، عن أبي هريرة:"إن فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش". هذا لفظ أحمد، عن عبد الرحمن بن مهديّ، عن سفيان، عن سماك، عن عبد اللَّه بن ظالم، وتابعه أبو عوانة، عن سماك، عند النسائيّ، ورواه أحمد أيضًا عن زيد بن الحباب، عن سفيان، لكن قال: مالك، بدل عبد اللَّه، ولفظه: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: أخبرني حِبِّي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم قال: "فساد أمتي على يدي غلمة سفهاء من "قريش"، وكذا أخرجه من طريق شعبة، عن سماك.

وقوله في الترجمة: "أغيلمة" تصغير غِلمة، جمع غلام، وواحد الجمع المصغر: غُلَيِّم بالتشديد، يقال للصبي حين يولد إلى أن يحتلم: غلام، وتصغيره غُلَيِّم، وجَمْعه غلمان، وغِلْمة، وأُغيلمة، ولم يقولوا: أغلمة مع كونه القياس، كأنهم استغنوا عنه بغِلْمة، وأغرب الداوديّ فيما نقله عنه ابن التين فضبط أغيلمة بفتح الهمزة، وكسر الغين المعجمة، وقد يُطلق على الرجل المستحكم القوة غلام؛ تشبيهًا له بالغلام في قوته، وقال ابن الأثير: المراد

ص: 442

بالأغيلمة هنا: الصبيان، ولذلك صغّرهم، قلت

(1)

: وقد يطلق الصبيّ والغُلَيِّم بالتصغير على الضعيف العقل، والتدبير، والدين، ولو كان محتلمًا، وهو المراد هنا، فإن الخلفاء من بني أمية لم يكن فيهم من استُخلف وهو دون البلوغ، وكذلك من أَمَّروه على الأعمال، إلا أن يكون المراد بالأغيلمة: أولاد بعض من استُخلف، فوقع الفساد بسببهم، فنُسب إليهم، والأَولى الحمل على أعمّ من ذلك.

وقوله: "أخبرني جدي" هو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية، وأبوه عمرو بن سعيد هو المعروف بالأشدق، قتله عبد الملك بن مروان لمّا خرج عليه بدمشق بعد السبعين.

وقوله: "كنت جالسًا مع أبي هريرة" كان ذلك زمن معاوية، قوله:"ومعنا مروان" هو ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية الذي ولي الخلافة بعد ذلك، وكان يلي لمعاوية إمرة المدينة تارةً، وسعيد بن العاص والد عمرو يليها لمعاوية تارةً.

وقوله: "سمعت الصادق المصدوق" المراد به النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وقوله: "هلكة أمتي" في رواية المكي: "هلاك أمتي"، وفي رواية عبد الصمد:"هلاك هذه الأمة"، والمراد بالأمة هنا: أهل ذلك العصر، ومن قارَبَهم، لا جميع الأمة إلى يوم القيامة.

وقوله: "على يدي غلمة" كذا للأكثر بالتثنية، وللسرخسيّ، والكشميهنيّ:"أيدي" بصيغة الجمع، قال ابن بطال: جاء المراد بالهلاك مبينًا في حديث آخر لأبي هريرة، أخرجه عليّ بن معبد، وابن أبي شيبة من وجه آخر، عن أبي هريرة، رفعه:"أعوذ باللَّه من إمارة الصبيان، قالوا: وما إمارة الصبيان؟ قال: إن أطعتموهم هلكتم - أي: في دينكم، وإن عصيتموهم أهلكوكم" - أي: في دنياكم بإزهاق النفس، أو بإذهاب المال، أو بهما.

وفي رواية ابن أبي شيبة: "أن أبا هريرة كان يمشي في السوق، ويقول: اللَّهُمَّ لا تدركني سنة ستين، ولا إمارة الصبيان". وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، فإن يزيد بن معاوية استُخلف فيها،

(1)

القائل هو: الحافظ.

ص: 443

وبقي إلى سنة أربع وستين، فمات، ثم وَليَ ولده معاوية، ومات بعد أشهر.

وهذه الرواية تخصص الرواية المذكورة في هذا الباب بلفظ: "يهلك الناس هذا الحي من قريش" وأن المراد بعض قريش، وهم الأحداث منهم، لا كلهم، والمراد أنهم يُهلكون الناس بسبب طلبهم المُلك، والقتال لأجله، فتفسد أحوال الناس، ويكثر الخبط بتوالي الفتن، وقد وقع الأمر كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

وأما قوله: "لو أن الناس اعتزلوهم" محذوف الجواب، وتقديره: لكان أَولى بهم، والمراد باعتزالهم: أن لا يداخلوهم، ولا يقاتلوا معهم، ويفروا بدينهم من الفتن، ويَحْتَمِل أن يكون "لو" للتمني، فلا يحتاج إلى تقدير جواب.

ويؤخذ من هذا الحديث استحباب هجران البلدة التي يقع فيها إظهار المعصية، فإنها سب وقوع الفتن التي ينشأ عنها عموم الهلاك، قال ابن وهب عن مالك: تُهْجَر الأرض التي يُصنع فيها المنكر جهارًا، وقد صنع ذلك جماعة من السلف.

وقوله: "فقال مروان: لعنة اللَّه عليهم غلمةً" في رواية عبد الصمد: "لعنة اللَّه عليهم من أغيلمة"، وهذه الرواية تفسر المراد بقوله في رواية المكيّ:"فقال مروان: غلمة" كذا اقتصر على هذه الكلمة، فدلت رواية الباب أنها مختصرة من قوله:"لعنة اللَّه عليهم غلمة"، فكان التقدير: غلمة عليهم لعنة اللَّه، أو ملعونون، أو نحو ذلك، ولم يُرِد التعجب، ولا الاستثبات.

وقوله: "فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول: بني فلان، وبني فلان، لفعلت"، في رواية الإسماعيليّ:"من بني فلان، وبني فلان لقلت"، وكأن أبا هريرة كان يعرف أسماءهم، وكان ذلك من الجراب الذي لم يُحَدِّث به أبو هريرة رضي الله عنه، وقال في حقّه:"لو حَدّثت به لقطعتم هذا البلعوم"

(1)

.

وقوله: "فكنت أخرج مع جدّي" قائل ذلك عمرو بن يحيى بن سعيد بن

(1)

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بهذا إلى ما أخرجه البخاريّ في "كتاب العلم" من "صحيحه" عن أبي هريرة قال: "حَفِظت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعاءين، فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البلعوم". انتهى.

ص: 444

عمرو، وجدّه سعيد بن عمرو، وكان مع أبيه لمّا غَلَب على الشام، ثم لما قُتل تحول سعيد بن عمرو إلى الكوفة، فسكنها إلى أن مات.

وقوله: "حين مُلِّكوا الشام"؛ أي: وغيرها لما وَلُوا الخلافة، وإنما خُصت الشام بالذكر؛ لأنها كانت مساكنهم من عهد معاوية.

وقوله: "فإذا رآهم غلمانًا أحداثًا"، قال الحافظ رحمه الله: هذا يقوي الاحتمال الماضي، وأن المراد أولاد من استُخلف منهم، وأما تردده في أيهم المراد بحديث أبي هريرة، فمن جهة كون أبي هريرة لم يُفصح بأسمائهم، قال: والذي يظهر أن المذكورين من جملتهم، وأن أولهم يزيد، كما دلّ عليه قول أبي هريرة:"رأس الستين، وإمارة الصبيان"، فإن يزيد كان غالبًا ينتزع الشيوخ من إمارة البلدان الكبار، ويوليها الأصاغر من أقاربه.

وقوله: "قلنا أنت أعلم" القائل له ذلك أولاده، وأتباعه، ممن سمع منه ذلك، وهذا مشعر بأن هذا القول صدر منه في أواخر دولة بني مروان، بحيث يمكن عمرو بن يحيى أن يسمع منه ذلك، وقد ذكر ابن عساكر أن سعيد بن عمرو هذا بقي إلى أن وَفَد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وذلك قبيل الثلاثين ومائة.

ووقع في رواية الإسماعيليّ أن بين تحديث عمرو بن يحيى بذلك، وسماعه له من جده سبعين سنة.

قال ابن بطال: وفي هذا الحديث أيضًا حجة لِمَا تقدم من ترك القيام على السلطان، ولو جار؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم أبا هريرة بأسماء هؤلاء، وأسماء آبائهم، ولم يأمرهم بالخروج عليهم، مع إخباره أن هلاك الأمة على أيديهم؛ لكون الخروج أشدّ في الهلاك، وأقرب إلى الاستئصال من طاعتهم، فاختار أخف المفسدتين، وأيسر الأمرين.

[تنبيه]: يُتعجب من لعن مروان الغلمة المذكورين، مع أن الظاهر أنهم من وَلَدِه، فكأن اللَّه تعالى أجرى ذلك على لسانه؛ ليكون أشدّ في الحجة عليهم، لعلهم يتّعظون، وقد وردت أحاديث في لعن الحَكَم والد مروان، وما وَلَد، أخرجها الطبرانيّ وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيّد، ولعل المراد

ص: 445

تخصيص الغلمة المذكورين بذلك، قاله في "الفتح"

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7299]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، فِي هَذَا الْإِسْنَادِ، فِي مَعْنَاهُ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ) أحمد بن إبراهيم بن كثير بن زيد النُّكْريّ -بضم النون- البغداديّ، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 246)(م د ت ق) تقدم في "المقدمة" 6/ 67.

[تنبيه]: قوله: (الدَّوْرَقِيُّ) بفتح الدال، وسكون الواو، وفتح الراء، آخره قاف، نسبة إلى بلد بفارس، وقيل: بخوزستان، وهو أصحّ، ونسبة أيضًا إلى لُبس القلانس الدورقيّة، وقد اختُلف في نسبة أحمد بن إبراهيم هذا، وأخيه يعقوب، فقيل: إن أصلهما من فارس، وقيل: نُسبا إلى لبس القلانس الدورقيّة، وقيل: كان الإنسان إذا نَسَك في ذلك الزمان قيل له: دورقيّ، وكان أبوهما قد تنسّك، فقيل له: دورقيّ، قاله في "اللباب"

(2)

.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) هو: أحمد بن عثمان بن أبي عثمان عبد النور بن عبد اللَّه بن سنان، يُكْنَى أبا عثمان البصريّ، ويُلَقَّب أبا الجوزاء -بالجيم، والزاي- ثقة [11](246)(م ت س) تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

[تنبيه]: قوله: (النَّوْفَلِيُّ) بفتح النون، وسكون الواو: نسبة إلى أحد أجداده

(3)

.

3 -

(أَبُو دَاوُدَ) سليمان بن داود بن الجارود الطيالسيّ، تقدّم قريبًا.

و"شعبة" بن الحجّاج ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي داود عن شعبة هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 16/ 441 - 444، "كتاب الفتن" رقم (7058).

(2)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 512.

(3)

"اللباب في تهذيب الأنساب" 3/ 332.

ص: 446

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7300]

(2918) - (حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ أَبِي عُمَرَ- قَالَا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ مَاتَ كِسْرَى، فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) ابن محمد بن بُكير البغداديّ، تقدّم قبل بابين.

والباقون ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خُماسيّات المصنّف رحمه الله، وهو مسلسلٌ بالمدنيين من الزهريّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ مَاتَ كِسْرَى) بكسر الكاف، ويجوز الفتح، وهو لقبٌ لكل من وَلِيَ مملكة الفرس، وقيصر لقب لكل من وَلِيَ مملكة الروم، قال ابن الأعرابيّ: الكسر أفصح في كسرى، وكان أبو حاتم يختاره، وأنكر الزجاج الكسر على ثعلب، واحتج بأن النسبة إليه كَسرويّ بالفتح، ورَدّ عليه ابن فارس بأن النسبة قد يُفتح فيها ما هو في الأصل مكسور، أو مضموم، كما قالوا في بني تغلب، بكسر اللام: تَغْلَبيّ، بفتحها، وفي سَلِمة كذلك، فليس فيه حجة على تخطئة الكسر، واللَّه أعلم، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال النوويّ: قال المطرِّز، وابن خالويه، وآخرون من الأئمة، كلامًا متداخلًا، حاصله أن كل من مَلَك المسلمين يقال له: أمير المؤمنين، ومن مَلَك الروم: قيصر، ومن مَلَك الحبشة: النجاشيّ، ومن مَلَك اليمن: تُبَّع، ومن مَلَك حِمْيَر: القَيْل، بفتح القاف، وقيل: القَيل أقلّ درجة من الْمَلِك. انتهى.

(1)

"الفتح" 8/ 295، "كتاب المناقب" رقم (3618).

ص: 447

(قَدْ مَاتَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ) ظاهر هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قاله بعد موت كسرى، بخلاف قوله في قيصر، فإنه قاله في حياته، وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه الآتي:"إِذَا هَلَكَ كِسْرَى، فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ"، وهو ظاهر في كونه قاله في حياته، ويوافق الرواية الأولى ما وقع عند البخاريّ عن أبي بكرة رضي الله عنه قال:"لمّا بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد مَلّكوا عليهم بنت كسرى، قال: لن يفلح قوم وَلَّوا أمرهم امرأة".

فظاهر الروايتين التنافي، وجَمَع بينهما أبو العباس القرطبيّ بأن أبا هريرة سمع ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما قبل موت كسرى، بلفظ:"إذا هلك كسرى"، والأخرى بعد موته، بلفظ:"قد مات كسرى"، وقال القرطبي إنه بعيد، ثم قال: ويَحْتَمِل أن يفرق بين الموت والهلاك، فيقال: إن موت كسرى قد وقع في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأخبر عنه بذلك، وأما إهلاك مُلكه فلم يقع إلا بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وموت أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في خلافة عمر رضي الله عنه.

وقال وليّ الدين رحمه الله: الظاهر أن قوله في تلك الرواية: "قد مات كسرى" من الإخبار عن الشيء قبل وقوعه؛ لتحقق وقوعه، كما في قوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] فعبَّر عن المستقبل بالماضي؛ لتحقق وقوعه، وتتفق الروايتان، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ما قاله وليّ الدين في وجه الجمع هو الأرجح.

قال الحافظ رحمه الله: وهذا الجمع أَولى؛ لأن مخرج الروايتين متّحدٌ، فحَمْله على التعدد على خلاف الأصل، فلا يصار إليه، مع إمكان هذا الجمع، واللَّه أعلم. انتهى

(2)

.

وحاصله: أن قوله صلى الله عليه وسلم: "مات كسرى" لا يعارض قوله: "إذا هلك كسرى"؛ لأن إلّا أول إخبار بما سيقع، عبّر عنه بالماضي عن المستقبل؛ لتحقّق وقوعه، وللتفاؤل به، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 243.

(2)

"الفتح" 8/ 296.

ص: 448

(وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ، فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ) قال النوويّ: قال الشافعيّ، وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، فأعلم صلى الله عليه وسلم بانقطاع مُلكهما في هذين الإقليمين، وكان كما قال.

فأما كسرى فانقطع مُلكه، وزالت مملكته من جميع الأرض، وتمزق مُلكه كلَّ مُمَزَّق، واضمحلّ بدعوة النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وأما قيصر فانهزم من الشام، ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلادهما، واستقرت للمسلمين، وللَّه الحمد، وأنفق المسلمون كنوزهما في سبيل اللَّه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزات ظاهرة. انتهى

(1)

.

ونقل القاضي عياض ذلك عن أهل العلم، والحديثُ المشار إليه في تفريق مُلك كسرى، رواه البخاريّ في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث بكتابه إلى كسرى مع عبد اللَّه بن حُذافة السهميّ، فأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزّقه -فحسبت أن ابن المسيِّب قال-: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يمزَّقوا كلَّ مُمَزَّق".

وحَكَى القاضي أبو بكر ابن العربيّ في معناه قولين:

أحدهما: أن معناه: لا يعود للروم، ولا للفرس مُلك، قال: وهذا يصح في كسرى، وأما الروم فقد أنبأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ببقاء مُلكهم إلى نزول عيسى عليه السلام، وقد سبق حديث المستورد بن شدّاد القرشي رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "تقوم الساعة، والروم أكثر الناس".

القول الثاني: أن معناه: إذا هلك كسرى وقيصر فلا يكون بعدهما مثلهما، قال: وكذلك كان، وهذا أعمّ، وأتمّ.

قال وليّ الدين: ومما انقرض، ولم يَعُدْ بقاؤه اسم قيصر؛ لأن ملوك الروم لا يُسَمَّون الآن بالأقاصرة، وذهب ذلك الاسم عن ملكهم، فصدق أنه لا قيصر بعده ذلك الأول، وظهر بذلك أن قوله:"لا كسرى" على ظاهره مطلقًا، وأما قوله:"لا قيصر" ففيه أربع احتمالات: لا قيصر بالشام، لا قيصر كما كان، لا قيصر في الاسم، لا قيصر مطلقًا، ولا يصح هذا الرابع؛ لمخالفته

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 42 - 43.

ص: 449

للواقع، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال الخطابيّ: معناه: فلا قيصر بعده يملك مثل ما يملك، وذلك أنه كان بالشام، وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نُسُك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا كان قد دخله، إما سرًّا، وإما جهرًا، فانجلى عنها قيصر، واستُفتحت خزائنه، ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعده.

ووقع في رواية للبخاريّ بلفظ: "هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده، وليهلكن قيصر". قيل: والحكمة فيه أنه قال ذلك لمّا هلك كسرى بن هرمز كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه: "قال: بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملّكوا عليهم امرأة. . ." الحديث، وكان ذلك لمّا مات شيرويه بن كسرى، فأَمّروا عليهم بنته بُوران، وأما قيصر فعاش إلى زمن عمر سنة عشرين على الصحيح، وقيل: مات في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، والذي حارب المسلمين بالشام ولده، وكالن يلقّب أيضًا قيصر.

وعلى كل تقدير فالمراد من الحديث وقع لا محالة؛ لأنهما لم تبق مملكتهما على الوجه الذي كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ) بالبناء للمفعول، وفي رواية:"لتُقسمنّ"، (كُنُوزُهُمَا)؛ أي: كنوز كسرى، وقيصر، (فِي سَبِيلِ اللَّهِ") قال وليّ الدين رحمه الله: فيه أمران وقعا، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقُسمت كنوزهما في سبيل اللَّه على المجاهدين، ثم أنفقها المجاهدون في سبيل اللَّه، والمراد به: الغزو. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

(1)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 243.

(2)

"الفتح" 8/ 296.

(3)

"طرح التثريب في شرح التقريب" 7/ 243.

ص: 450

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7300 و 7301 و 7302](2918)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(3027) و"فرض الخمس"(3120) و"المناقب"(3618) و"الأيمان والنذور"(6630)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2216)، و (همام بن منبه) في "صحيفته"(30)، و (الشافعيّ) في "مسنده"(2/ 186)، و (عبد الرّزّاق) في "مصنّفه"(20814 و 20815)، و (الحميديّ) في "مسنده"(1094)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2580)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 233 و 240 و 313)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(509)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6689)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(10/ 284)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 177) و"الدلائل"(4/ 393)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(3728 و 3729)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم ظاهرة حيث أخبر بأن كسرى وقيصر سيزول مُلكهما، ولن يرجع لهما مرّة أخرى، فكان كما أخبر به.

2 -

(ومنها): ما قيل: إن فيه دليلًا على أن الغنيمة للمجاهدين، وهو كذلك، إلا أنه يُخرَج منها الخمس، كما نص عليه الكتاب العزيز.

3 -

(ومنها): ما قيل: قد استُشكل هذا الحديث مع بقاء مملكة الفرس؛ لأن آخرهم قُتل في زمان عثمان رضي الله عنه، واستُشكل أيضًا مع بقاء مملكة الروم.

وأجيب عن ذلك بأن المراد: لا يبقى كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، وهذا منقول عن الشافعيّ رحمه الله قال: وسبب الحديث أن قريشًا كانوا يأتون الشام والعراق تجارًا، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما؛ لدخولهم في الإسلام، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك لهم تطييبًا لقلوبهم، وتبشيرًا لهم بأن مُلكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين.

4 -

(ومنها): ما قيل: الحكمة في أن قيصر بقي مُلكه، وإنما ارتفع من الشام، وما والاها، وكسرى ذهب مُلكه أصلًا ورأسًا: أن قيصر لمّا جاءه كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم قَبِله، وكاد يُسلم، وكسرى لمّا أتاه كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مزّقه، فدعا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يمزق مُلكه كل ممزق، فكان كذلك، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 451

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7301]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ (ح) وَحَدَّثَنِي ابْنُ رَافِعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِإِسْنَادِ سُفْيَانَ، وَمَعْنَى حَدِيثِهِ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

وكلّهم ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنِ الزُّهْرِيِّ) ضمير التثنية ليونس بن يزيد الأيليّ، ومعمر بن راشد، فكلاهما رويا هذا الحديث عن الزهريّ بإسناد سفيان بن عيينة، وبمعنى حاديثه.

[تنبيه]: أما رواية يونس عن الزهريّ، فقد ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقالا:

(3422)

- حدّثنا يحيى بن بكير، حدّثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: وأخبرني ابن المسيِّب، عن أبي هريرة، أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لتُنْفَقَنّ كنوزهما في سبيل اللَّه". انتهى

(1)

.

وأما رواية معمر عن الزهريّ، فقد ساقها عبد الرزّاق رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(20814)

- أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهريّ، عن ابن المسيِّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يذهب كسرى فلا يكون كسرى بعده، ويذهب قيصر فلا يكون قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7302]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1325.

(2)

"مصنف عبد الرزاق" 11/ 388.

ص: 452

أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَكَ كِسْرَى، ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وَقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ، ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ، وَلَتُقْسَمَنَّ

(1)

كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(هَمَّامُ بْنُ مُنَبِّهٍ) الأبناويّ الصنعانيّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (هَلَكَ كِسْرَى) جملة خبرية؛ أي: سيهلك مُلكه، وإنما عبر عنه بالماضي؛ لتحقق وقوعه، وقربه، أو دعاء، وتفاؤل.

وقوله: (ثُمَّ لَا يَكُونُ كِسْرَى بَعْدَهُ) ورُوي بتنوين كسرى حيث أُريدَ به التنكير "بعده"؛ أي: بعد كسرى الموجود في زمنه صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يملك مُلك كسرى كافر، بل يملكه المسلمون بعده إلى يوم القيامة.

وقوله: (وَقَيْصَرُ) وهو مَلك الروم، وهو مبتدأ خبره قوله:(لَيَهْلِكَنَّ) والتغاير بينهما للتفنن، أو عطف على كسرى، وأتى بقوله: ليهلكن للتأكيد، مع زيادة المبالغة المستفادة من لام القسم، ونون التأكيد.

وقوله: (ثُمَّ لَا يَكُونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ) بالوجهين؛ أي: قيصر آخر بعده؛ أي: بعد الأول، قال الطيبيّ رحمه الله: هلاك كسرى وقيصر كانا متوقعين، فأخبر عن هلاك كسرى بالماضي؛ دلالة على أنه كالواقع، بناء على إخبار الصادق، وأتى في الإخبار عن قيصر بلام القَسَم في المضارع، وبني الكلام على المبتدأ والخبر؛ إشعارًا لاهتمامه بالاعتناء بشأنه، وأنه أطلب منه، وذلك أن الروم كانوا سكان الشام، وكان في فتحه أشدّ رغبة، ومن ثَمَّ غزا تبوك، وهو من الشام.

قال القاري رحمه الله: لمّا كان هلاك كسرى قبل قيصر بحسب وقائع الحال، ناسب أن يعبِّر عن الأول بالماضي، وعن الثاني بالاستقبال. انتهى

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "ولتنفقنّ".

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 395.

ص: 453

وقوله: (وَلَتُقْسَمَنَّ) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"ولتنفقنّ"، (كُنُوزُهُمَا)؛ أي: كنز كل منهما، (فِي سَبِيلِ اللَّهِ") عز وجل.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام شرحه، وبيان مسائله قبله، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7303]

(2919) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا هَلَك، كِسْرَى، فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ"، فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَوَاءً).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه قبل خمسة أبواب، وهو من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كلاحقه، وهو (438) من رباعيّات الكتاب، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد، و"عبد الملك بن عمير" هو: الفرسيّ القبطيّ.

وقوله: (فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير جابر بن سمرة رضي الله عنه.

وقوله: (سَوَاءً) منصوب على الحال؛ أي: حال كونهما مستويين.

[تنبيه]: حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا ساقه البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2953)

- حدّثنا إسحاق، سمع جريرًا، عن عبد الملك، عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل اللَّه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7304]

(. . .) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَأَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، كَنْزَ آلِ كِسْرَى الَّذِي فِي الأَبْيَضِ"، قَالَ قُتَيْبَةُ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَشُكَّ).

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1135.

ص: 454

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ) بن أوس بن خالد الذُّهْليّ البكريّ الكوفيّ، أبو المغيرة، صدوقٌ، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بأخرة، فكان رُبّما تلقن [4](ت 123)(خت م 4) تقدم في "الإيمان" 64/ 365.

والباقودن ذُكروا في الباب وقبله، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين البصريّ، و"أبو عوانة" هو وضّاح بن عبد اللَّه اليشكريّ، والسند من رباعيّات المصنّف رحمه الله، كسابقه، وهو (439) من رباعيّات الكتاب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ) بن جُنادة الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَتَفْتَحَنَّ) بالبناء للفاعل، والفاعل قوله:(عِصَابَةٌ) بكسر العين المهملة، وتخفيف الصاد المهملة؛ أي: جماعة (مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وقال في "المرقاة" قوله: "لتفتحنّ" بفتح الحاء، وفي نسخة صحيحة -أي: من

المصابيح- "لتفتتحنّ". قال التوربشتيّ رضي الله عنه: وجدناه في أكثر نُسخ "المصابيح" بتاءين بعد الفاء، ونحن نرويه عن كتاب مسلم بتاء واحدة، وهو أمثل معنًى؛ لأن الافتتاح أكثر ما يُستعمل بمعنى الاستفتاح، فلا يقع موقع الفتح في تحقيق الأمر، ووقوعه، والحديث إنما ورد في معنى الإخبار عن الكوائن، والمعنى: لتأخذن عِصابة -بكسر العين، أي: جماعة من المسلمين، "كنز آل كسرى" بكسر الكاف، ويفتح، والآل مقحم، أو المراد به أهله، وأتباعه، "الذي في الأبيض"، قال القاضي رحمه الله: الأبيض قصر حَصِين كان بالمدائن، وكانت الفرس تسميه سفيد كرشك، والآن بُني مكانه مسجد المدائن، وقد أُخرج كنزه في أيام عمر رضي الله عنه، وقيل: الحصن الذي بهمذان بناه دارين دار، يقال له: شهرستان. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عصابة من المسلمين": العصابة: الجماعة من الناس، والطير، والوحش، سمّوا بذلك؛ لأنهم يشدّ بعضهم بعضًا،

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 395.

ص: 455

والعصْب: هو الشدّ، والْعُصْبة: ما بين العشرين إلى الأربعين، وإنما أطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم على المفتتحين كنز كسرى: عصابة، وإن كانوا عساكر بالنسبة إلى عدد عدوهم، وجيوشه، فإنَّهم كانوا بالنسبة إليهم قليلًا، ويَحْتَمِل أن يريد بالعصابة: الجماعة السابقة لفتح القصر الأبيض دون الجيش كله، فإنَّ اللَّه لما هَزَم الفرس، وجيوشهم العظيمة على يدي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وعسكره، وكان عدد مَن معه يوم فتح القادسية ستة آلاف، أو سبعة آلاف، على ما ذكره محمد بن جرير الطبريّ، فرّ المنهزمة من الفرس إلى المدائن منزل كسرى، فتبعهم المسلمون إلى أن وصلوا إلى دجلة، وهي تَقذف بالزبد، فاقتحمها المسلمون فرسانًا ورجّالة، خائضين يتحدّث بعضهم مع بعض، فلما رأى ذلك الفرس هالهم ذلك، فتخففوا بما أمكنهم من المال، والذخائر النفيسة، وفرّوا، ولم يبق فيها إلا من ثَقُل عن الفرار، ودخل المسلمون المدائن، وفيها القصر الأبيض الذي فيه إيوان كسرى، وأمواله، وذخائره النفيسة التي لم يُسمع بمثلها، قال أهل التاريخ: كان في البيت الأبيض ثلاثة آلاف ألف ألف ألف -ثلاث مرات- غير أن رستمًا لمّا فرّ منهزمًا حَمَل معه نصف ما كان في بيوت الأموال، وترك النصف الآخر، فملّكه اللَّه المسلمين، فأصاب الفارس من فيء المدائن اثنا عشر ألفًا، ولمّا دُخل القصر الأبيض وجدوا فيه ملابس كسرى، وحليته، وبساطه الذي ما سُمع في العالمين بمثله، فجاؤوا بكل ذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكان ذلك كله مُظهرًا لصدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للعيان، بحيث يضطر إليه كل إنسان. انتهى

(1)

.

وقوله: (أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)"أو" هنا للشكّ من الراوي، وهو أبو كامل الْجَحْدريّ. (كَنْزَ آلِ كِسْرَى) "الكنز": هو المال المدفون تسميةً بالمصدر، والجمع: كُنوزٌ، مثلُ فلس وفُلوس

(2)

. (الَّذِي فِي الأَبْيَضِ") "؛ أي: الذي في قصره الأبيض، أو قُصوره، ودُوره الْبِيض

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 260 - 261.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 542.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 43.

ص: 456

وقوله: (قَالَ قُتَيْبَةُ) بن سعيد شيخه الأول في السند: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَشُكَّ)؛ يعني: أن الشك في قوله: "من المسلمين" أو "من المؤمنين" من شيخه أبي كامل، وأما قتيبة فلم يشكّ، بل جزم بقوله:"من المسلمين"، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سَمُرة رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7303 و 7304 و 7305](2919)، و (البخاريّ) في "فرض الخمس"(3121) و"المناقب"(3619) و"الأيمان والنذور"(6629)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 89 و 92 و 99 و 100 و 103)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 561)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(2/ 219)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(13/ 441)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6690)، و (الطحاويّ) في "شرح مشكل الآثار"(511 و 512)، و (البيهقيّ) في "الكبرى"(9/ 177)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7305]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

[تنبيه]: رواية شعبة عن سماك بن حرب هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(21023)

- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لن يبرح هذا الدين قائمًا، يقاتل عليه عصابة من المسلمين، حتى تقوم الساعة". انتهى.

ص: 457

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7306]

(2920) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ- عَنْ ثَوْرٍ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ- عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"سَمِعْتُمْ بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ، فَإِذَا جَاؤُوهَا نَزَلُوا، فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ، وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ، قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ أَحَدُ جَانِبَيْهَا"، قَالَ ثَوْرٌ: لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: "الَّذِي فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ يَقُولُوا

(1)

الثَّانِيَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ، ثُمَّ يَقُولُوا

(2)

الثَّالِثَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ لَهُمْ، فَيَدْخُلُوهَا، فَيَغْنَمُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ، إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ، فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ، فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ، وَيَرْجِعُونَ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد نفسه تقدّم في هذا الباب، و"عبد العزيز" هو: الدراورديّ، و"أبو الغيث" هو: سالم مولى ابن مطيع المدنيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَمِعْتُمْ)؛ أي: أسمعتم، فهو بتقدير همزة الاستفهام، (بِمَدِينَةٍ جَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَرِّ، وَجَانِبٌ مِنْهَا فِي الْبَحْرِ؟ ") قيل: هذه المدينة قسطنطينية، الظاهر أنها غيرها؛ لأن قسطنطينية تُفتح بالقتال الكثير، وهذه المدينة تُفتح بمجرد التهليل والتكبير. (قَالُوا)؛ أي: الصحابة الحاضرون مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم حين حدّث بهذا الحديث: (نَعَمْ) سمعنا بها (يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا تَقُومُ السَّاعَةُ)؛ أي: القيامة، (حَتَّى يَغْزُوَهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ بَنِي إِسْحَاقَ) بن إبراهيم الخليل عليه السلام قال المظهر: هم من أكراد الشام، هم من بني، إسحاق النبيّ عليه السلام، وهم مسلمون. انتهى. وهو يَحْتَمِل أن

(1)

وفي نسخة: "ثم يقول".

(2)

وفي نسخة: "ثم يقول".

ص: 458

يكون معهم غيرهم من بني إسماعيل، وهم العرب، أو غيرهم من المسلمين، واقتصر على ذكرهم تغليبًا لهم على من سواهم، ويَحْتَمِل أن يكون الأمر مختصًّا بهم. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "من بني إسحاق" هكذا صحّت الرواية عند الجميع، وفي الأمهات، قال القاضي أبو الفضل: قال بعضهم: المعروف المحفوظ: من بني إسماعيل، وهو الذي يدلّ عليه الحديث، وسياقه؛ لأنَّه إنما يعني به: العرب والمسلمين، بدليل الحديث الذي سماها فيه في مسلم، وأنها: القسطنطينية، وإن لم يصفها بما وصفها به هنا.

قال القرطبيّ: وهذا فيه بُعد من جهة اتفاق الرواة والأمهات على بني إسحاق، فإذًا المعروف خلاف ما قال هذا القائل.

ويمكن أن يقال: إن الذي وقع في الرواية صحيح، غير أنه أراد به العرب، ونَسَبهم إلى عمهم، وأطلق عليهم ما يُطلق على ولد الأب، كما يقال ذلك في الخال، حتى قد قيل: الخال أحد الأبوين -واللَّه تعالى أعلم-.

وأما قوله: إن هذه القرية هي القسطنطينية، فينبغي أن يبحث عن صفتها، هل توافق ما وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه المدينة أم لا؟.

وأما ما ذكره مسلم من حديث القسطنطينية فهو ما تقدّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي قال في أوله: "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق"، قال فيه:"فيقاتلهم المسلمون، فينهزم ثلث، ويُقتل ثلث، ويفتح الثلث القسطنطينية، فبينما هم يقسمون الغنائم، قد علّقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم".

وظاهر هذا يدلّ على: أن القسطنطينية، إنما تُفتح بالقتال، وهذا الحديث يدلّ على أنها تُفتح بالتهليل والتكبير، فقول بعضهم فيه بُعد.

والحاصل: أن القسطنطينية لا بدّ من فتحها، وأن فتحها من أشراط الساعة، على ما شَهِدت به أخبار كثيرة، منها: ما ذكرناه آنفًا.

ومنها: ما خرّجه الترمذيّ من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 410.

ص: 459

قال: "الملحمة العظمى، وفتح القسطنطينية، وخروج الدّجال في سبعة أشهر"، وقال: هذا حديث حسنٌ صحيح.

وفيه عن أنس بن مالك: أن فتح القسطنطينية مع قيام الساعة، هكذا رواه موقوفًا، قال محمد

(1)

: هذا حديث غريب، والقسطنطينية: هي مدينة الروم، تُفتح عند خروج الدّجال، والقسطنطينية قد فتحت في زمان بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبيّ: وعلى هذا فالفتح الذي يكون مقارنًا لخروج الدجّال هو الفتح المراد بهذه الأحاديث؛ لأنَّها اليوم بأيدي الروم -دمّرهم اللَّه تعالى- واللَّه بتفاصيل هذه الوقائع أعلم. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما سبق أنه اختُلف في هذه الرواية بلفظ: "من بني إسحاق"، والصحيح أنها صحيحة، وأنهم من إسحاق، ولا ينافي ما ثبت أن العرب يفتحون القسطنطينية؛ لأن فتحها يتكرّر، فمرّة يفتحها العرب، ثم يُسلم أهلها، وهم العجم، فيفتحونها مرّة أخرى، ولا بُعد في ذلك.

على أنه يمكن أن يكون ذِكر بني إسحاق على التغليب، فأكثر الجيش من بني إسحاق، وفيه أجناس أخرى، فالعدد غير مراد بعينه.

وقد كتب أخونا الفاضل سالم بن صالح العماريّ في هذا البحث رسالة حقّق فيها الموضوع، وثبّت الرواية بلفظ:"من بني إسحاق"، فأجاد وأفاد، جزاه اللَّه تعالى خيرًا.

(فَإِذَا جَاؤُوهَا)؛ أي: المدينة، (نَزَلُوا)؛ أي: حواليها محاصرين أهلها، (فَلَمْ يُقَاتِلُوا بِسِلَاحٍ)، وقوله:(وَلَمْ يَرْمُوا بِسَهْمٍ) تخصيص بعد تعميم؛ لتأكيد إفادة عموم النفي، وقوله:(قَالُوا) استئناف، أو حال، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ) بصيغة المضارع، (أَحَدُ جَانِبَيْهَا")؛ أي: أحد طرفي سور المدينة.

(قَالَ ثَوْرٌ:)؛ أي: ابن زيد الديلي الراوي عن أبي الغيث، (لَا أَعْلَمُهُ)؛ أي: لا أعلم أبا الغيث (إِلَّا قَالَ: "الَّذِي فِي الْبَحْرِ)؛ أي: إلا قال: فيسقط

(1)

يعني: البخاريّ.

(2)

"المفهم" 7/ 249 - 250.

ص: 460

أحد جانبيها الذي في البحر، (ثُمَّ يَقُولُوا) هكذا في بعض النُّسخ بإسقاط نون الرفع، دون ناصب، أو جازم، وهو لغة، لا ضرورة، قال ابن مالك رحمه الله في "الكافية الشافية" مشيرًا إلى قاعدة نون الرفع:

بِالنُّونِ رَفْعُ نَحْوِ "يَذْهَبُونَا"

وَ"تَذْهَبَانِ" ثُمَّ "تَذْهَبِينَا"

وَاحْذِفْ إِذَا جَزَمْتَ أَوْ نَصَبْتَا

كَـ "لَمْ تَكُونَا لِتَرُومَا سُحْتَا"

وَحَذْفُهَا فِي الرَّفْعِ قَبْلَ "نِي" أَتَى

وَالْفَكُّ وَالإِدْغَامُ أَيْضًا ثَبَتَا

وَدُونَ "نِي" فِي الرَّفْعِ حَذْفَهَا حَكَوْا

فِي النَّثْرِ وَالنَّظْمِ وَمِمَّا قَدْ رَوَوْا

"أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي

وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي"

وفي النسخة الهنديّة: "ثم يقول" بلا واو الجمع، فيكون الفاعل ضمير الجيش؛ أي: ثم يقول الجيش (الثَّانِيَةَ)؛ أي: المرّة الثانية، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيَسْقُطُ جَانِبُهَا الآخَرُ)؛ أي: الذي في البرّ، (ثُمَّ يَقُولُوا) على التوجيه السابق، وفي الهنديّة:"ثم يقول"، (الثَّالِثَةَ)؛ أي: المرّة الثالثة، (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَيُفَرَّجُ) بتشديد الراء المفتوحة، من التفريج؛ أي: فيفتح، وقوله:(لَهُمْ) نائب فاعل "يفرّج"، (فَيَدْخُلُوهَا، فَيَغْنَمُوا) هكذا بحذف النون فيهما، وقد مرّ توجيهه آنفًا، وفي الهنديّة:"فيدخلونها، ويغنموا" بإثباتها في الأول، وحذفها من الثاني، (فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْمَغَانِمَ)؛ أي: يريدون الاقتسام، ويشرعون فيه (إِذْ جَاءَهُمُ الصَّرِيخُ)؛ أي: المنادي المستغيث، (فَقَالَ: إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَرَجَ) وخَلَفَكم في ذراريّكم، (فَيَتْرُكُونَ كُلَّ شَيْءٍ)؛ أي: من الغنائم، وغيرها من الأنفال، (وَيَرْجِعُونَ") مسرعين لمقاتلة الدجال، وإنقاذ الأهل والعيال، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7306 و 7307](2920)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 523)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1144)، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 461

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7307]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ) هو: محمد بن محمد بن مرزوق الباهليّ البصريّ ابن بنت مهديّ بن ميمون، نُسب لجده مرزوق، صدوق، له أوهام [11](ت 248)(م ت ق) تقدم في "الحج" 59/ 3184.

2 -

(بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ) -بفتح الزاي- هو: بشر بن عمر بن الحكم الأزديّ، أبو محمد البصريّ، ثقة [9](ت 7 أو 209)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 93.

3 -

(سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ) التيميّ مولاهم، أبو محمد، وأبو أيوب المدنيّ، ثقةٌ [8](ت 177) ع) تقدم في "الإيمان" 14/ 160.

و"ثور" ذُكر قبله.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ)"في" بمعنى الباء؛ أي: حدّث بهذا الإسناد الذي مرّ، وهو: عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه، بمثل حديث عبد العزيز بن محمد الدراورديّ.

[تنبيه]: رواية سليمان بن بلال عن ثور بن زيد هذه ساقها الحاكم رحمه الله في "المستدرك"، فقال:

(8469)

- حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الربيع بن سليمان، ثنا عبد اللَّه بن وهب، أخبرني سليمان بن بلال، عن ثور بن زيد، عن أبي الغيث، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "هل سمعتم بمدينة جانب منها في البرّ، وجانب منها في البحر؟ " فقالوا: نعم يا رسول اللَّه، قال: "لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق، حتى إذا جاؤوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم -قال-: فيقولون: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، فيسقط أحد جانبيها -قال ثور-: ولا أعلمه إلا قال: جانبها الذي يلي البرّ

(1)

،

(1)

هكذا النسخة، وهو مخالف لِمَا في مسلم بلفظ:"الذي في البحر"، فليُحرّر.

ص: 462

ثم يقولون الثانية: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقولون الثالثة: لا إله إلا اللَّه واللَّه أكبر، فيفرّج لهم، فيدخلونها، فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم، إذا جاءهم الصريخ، أن الدجال قد خرج، فيتركون كل شيء، ويرجعون"، يقال: إن هذه المدينة هي القسطنطينية، قد صحت الرواية أن فتحها مع قيام الساعة. انتهى.

[7308]

(2921) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَتُقَاتِلُنَّ الْيَهُودَ، فَلَتَقْتُلُنَّهُمْ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ، فَتَعَالَ، فَاقْتُلْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ) العبديّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ حافظٌ [9](ت 203)(ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 107.

والباقون ذُكروا في الباب، وقبل باب، و"عبيد اللَّه" هو: ابن عمر العمريّ.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالمدنيين من عبيد اللَّه، والباقيان كوفيّان، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وفيه ابن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة، والمكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَتُقَاتِلُنَّ) خطاب للحاضرين، والمراد غيرهم من أمته صلى الله عليه وسلم، فإن هذا إنما يكون إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام فإن المسلمين يكونون معه، واليهود مع الدجال.

وفي الرواية الآتية: "تقاتلكم اليهود، فتسلطون عليهم"، وفي رواية أحمد من طريق أخرى عن سالم، عن أبيه:"ينزل الدجال هذه السبخة -أي: خارج المدينة- ثم يسلط اللَّه عليه المسلمين، فيقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة والحجر، فيقول الحجر والشجرة للمسلم: هذا يهوديّ، فاقتله".

وعلى هذا فالمراد بقتال اليهود: وقوع ذلك إذا خرج الدجال، ونزل

ص: 463

عيسى عليه السلام، وكما وقع صريحًا في حديث أبي أمامة في قصة خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، وفيه:"وراء الدجال سبعون ألف يهوديّ، كلهم ذو سيف، مُحَلًّى، فيدركه عيسى عند باب لُدّ، فيقتله، وينهزم اليهود، فلا يبقى شيء مما يتوارى به يهوديّ إلا أنطق اللَّه ذلك الشيء، فقال: يا عبد اللَّه -للمسلم- هذا يهوديّ، فتعال، فاقتله، إلا الغرقد، فإنها من شجرهم"، أخرجه ابن ماجه مطوّلًا، وأصله عند أبي داود، ونحوُه في حديث سمرة عند أحمد، بإسناد حسن، وأخرجه ابن منده في "كتاب الإيمان" من حديث حذيفة بإسناد صحيح، قاله في "الفتح"

(1)

.

(الْيَهُودَ) قال الفيّوميّ رحمه الله: يقال: هم يهود غير منصرف؛ للعلميّة ووزن الفعل، ويجوز دخول الألف واللام، فيقال: اليهود، وعلى هذا فلا يمتنع التّنوين؛ لأنه نُقل عن وزن الفعل إلى باب الأسماء، والنّسبة إليه يَهُودِيٌّ، وقيل: اليهوديُّ زسبة إلى يهودا بن يعقوب؛ هكذا أورد الصغانيّ يَهُودَا في باب المهملة. انتهى

(2)

.

(فَلَتَقْتُلُنَّهُمْ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ)؛ أي: ينطق الحجر حقيقةً، فيقول: يا مسلم هذا يهوديّ، وقيل: هو مجازٌ، وهو ضعيف، والأول هو الصواب.

(يَا مُسْلِمُ) وفي الرواية الآتية: "يا مسلم، يا عبد اللَّه"، (هَذَا يَهُودِيٌّ، فَتَعَالَ، فَاقْتُلْهُ")"تَعَالَ" أمْر من تَعَالَى يَتَعَالَى، قال الفيّوميّ رحمه الله: وأصله أن الرجل العالي كان ينادي السافل، فيقول: تَعَالَ، ثم كَثُر في كلامهم حتى استُعمل بمعنى هَلُمّ مطلقًا، وسواء كان موضع المدعوّ أعلى، أو أسفل، أو مساويًا، فهو في الأصل لمعنى خاصّ، ثم استُعمل في معنى عامّ، ويتصل به الضمائر باقيًا على فتحه، فيقال: تَعَالَوا، تَعَالَيَا، تَعْالَينْ، وربما ضُمّت اللام مع جمع المذكر السالم، وكسرت مع المؤنثة، وبه قرأ الحسن البصريّ في قوله تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا} [آل عمران: 64]؛ لمجانسة الواو. انتهى

(3)

، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 8/ 271 - 272، "كتاب المناقب" رقم (3593).

(2)

"المصباح المنير" 2/ 642.

(3)

"المصباح المنير" 2/ 428.

ص: 464

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7308 و 7309 و 7310 و 7311](2921)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2925) و"المناقب"(3593)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2236)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 122)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6806)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4246)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع عند نزول عيسى عليه السلام من تكلم الجماد، والإخبار، والأمر بقتل اليهود، وإظهاره إياهم في مواضع اختفائهم، وسيقع طبق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): ظهور الآيات قرب قيام الساعة، من كلام الجماد، من شجر، وحجر، وظاهره أن ذلك ينطق حقيقة، وما قيل: إنه مجازٌ، بأن يكون المراد أنهم لا يفيدهم الاختباء، فضعيف، فتنبّه.

3 -

(ومنها): أن فيه إشارةً إلى بقاء شريعة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن ينزل عيسى عليه السلام، فإنه الذي يقاتل الدجال، ويستأصل اليهود الذين هم تَبَع الدجال، على ما ورد من طريق أخرى، واللَّه تعالى أعلم.

4 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "تقاتلكم اليهود" جواز مخاطبة الشخص والمراد غيره، ممن يقول بقوله، ويعتقد اعتقاده؛ لأنه من المعلوم أن الوقت الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم لم يأت بعدُ، وإنما أراد بقوله:"تقاتلون" مخاطبة المسلمين الذين يأتون بعد الصحابة بدهر طويل، لكن لمّا كانوا مشتركين معهم في أصل الإيمان ناسب أن يخاطبوا بذلك.

5 -

(ومنها): أنه يستفاد منه أن الخطاب الشفاهي يعم المخاطبين ومن بعدهم، وهو متفق عليه من جهة الحكم، وإنما وقع الاختلاف فيه في حكم الغائبين، هل وقع بتلك المخاطبة نفسها، أو بطريق الإلحاق؟ وهذا الحديث يؤيّد من ذهب إلى الأول، وهو الحقّ، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 465

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7309]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبل باب، و"عبيد اللَّه بن سعيد" هو: أبو قُدامة السرخسيّ، و"يحيى" هو: ابن سعيد القطّان، و"عبيد اللَّه" هو: العمريّ.

[تنبيه]: راوية يحيى القطان عن عبيد اللَّه هذه ساقها المقرئ الدانيّ رحمه الله في "السنن المرويّة في الفتن"، فقال:

(447)

- حدّثنا أحمد بن محمد بن بدر، قال: حدّثنا الحسين بن محمد، قال: حدّثنا محمد بن هشام، قال: حدّثنا يحيى بن سعيد، قال: حدّثنا عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"ليقتلن، حتى إن الحجر ليقول: يا مسلم هذا يهوديّ ورائي، تعال، فاقتله". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7310]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَقْتَتِلُونَ أَنْتُمْ وَيَهُودُ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، تَعَالَ، فَاقْتُلْهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب الْعُمَريّ المدنيّ، ضعيف [6](خت ق م د ت ق) تقدم في "النكاح" 22/ 3542.

[فإن قلت]: كيف أخرج مسلم لعمر بن حمزة مع كونه ضعيفًا؟

[قلت]: لم يُخرج له أصالة، وإنما أخرج له متابعة، ويُغتفر في المتابعة ما لا يُغتفر في الأصول، كما غير مرّة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

2 -

(سَالِمُ) بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطّاب الفقيه المدنيّ، تقدّم قبل باب.

(1)

"السنن الواردة في الفتن" 4/ 869.

ص: 466

والباقون ذُكروا في الباب، و"أبو أسامة" هو: حمّاد بن أسامة الكوفيّ.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7311]

(. . .) - (حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُقَاتِلُكُمُ الْيَهُودُ، فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم ذُكروا في الباب.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسائله، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7312]

(2922) - (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ- عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ، أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ، فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه في هذا الباب، فليُتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ)؛ أي: غالبهم، أو المعنى: فيغلبونهم، (حَتَّى يَخْتَبِئَ)؛ أي: يختفي (الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ، أَوِ الشَّجَرُ)؛ أي: كلاهما، أو أحدهما، (يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ) جمعًا بين الوصفين؛ لزيادة التعظيم. (هَذَا)؛ أي: تنبّه، فإن ذا (يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ، فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ) استثناء من الشجر، وهو نوع شجر، وشوك، يقال له: العوسج، وفي "النهاية": هو ضَرْب من شجر العضاه، وشجر الشوك،

ص: 467

والغرقدة واحدته، ومنه قيل لمقبرة أهل المدينة: بقيع الغرقد؛ لأنه كان فيه غرقد، وقُطع

(1)

. (فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ") أضيف إليهم بأدنى ملابسة، قيل: هذا يكون بعد خروج الدجال حين يقاتل المسلمون من تبعه من اليهود، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7312](2922)، و (البخاريّ) في "الجهاد"(2926)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 317)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(4/ 870)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7313]

(2923) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ كَذَّابِينَ"، وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ: قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: آنْتَ

(2)

سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ يَحْيَى) التميميّ النيسابوريّ الإمام، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُو الأَحْوَصِ) سلّام بن سُليم الحنفيّ مولاهم، الكوفيّ، ثقةٌ متقنٌ، صاحب حديث [7](ت 179)(ع) تقدم في "الإيمان" 4/ 115.

والباقون ذُكروا في الباب.

شرح الحديث:

(عَنْ جَابرِ بْنِ سَمُرَةَ) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ كَذَّابِينَ") قال المظهر: أراد منه كثرة الجهل، وقلة العلم، والإتيان.

(1)

"النهاية في غريب الأثر" 3/ 362.

(2)

وفي نسخة: "أنت".

ص: 468

بالموضوعات من الأحاديث، وما يفترونه على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمِل أن يراد به: ادعاء النبوة، كما كان في زمانه، وبَعد زمانه، وأن يراد بهم جماعة يدّعون أهواء فاسدة، ويسندون اعتقادهم الباطل إليه، كأهل البدع كلهم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره المظهر من الاحتمالات فيه نظر لا يخفى، والصحيح أنه مفسّر بحديث آخر؛ لأن الرواية يفسّر بعضها بعضًا، قال القرطبيّ رحمه الله: هذا يفسّره الحديث الآخر الذي قال فيه: "لا تقوم السَّاعة حتى يخرج ثلاثون، كذّابون، كلهم يزعم أنه نبيّ، وأنا خاتم النبيين".

زاد في الرواية التالية: "قَالَ جَابِرٌ: فَاحْذَرُوهُمْ".

(وَزَادَ فِي حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ) سلام بن سليم، (قَالَ) سماك:(فَقُلْتُ لَهُ)؛ أي: لجابر بن سمرة رضي الله عنهما، (آنْتَ) هكذا بمدّ الهمزة، وأصلها أأنت، فأبدلت الثانية مدًّا، وفي بعض النسخ:"أنت" بهمزة واحدة، وهو بتقدير الاستفهام، (سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ) جابر:(نَعَمْ) سمعته منه، وإنما سأله مع أنه صرّح في الحديث بأنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، من باب التأكّد، والاطمئنان، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن سمرة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7313 و 7314](2923)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 96 و 87 و 88 و 94 و 101)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7314]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ، قَالَ سِمَاكٌ: وَسَمِعْتُ أَخِي، يَقُولُ: قَالَ جَابِرٌ: فَاحْذَرُوهُمْ).

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 75 - 76.

ص: 469

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب.

قوله: (قَالَ سِمَاكٌ: وَسَمِعْتُ أَخِي) لم أجد من سمّى أخاه هذا، ولا من ترجم له، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (مِثْلَهُ)؛ أي: مثل الحديث الماضي في رواية أبي الأحوص، وأبي معاوية.

وقوله: (قَالَ جَابِرٌ: فَاحْذَرُوهُمْ)؛ يعني: أن هذا الكلام لجابر بن سمرة رضي الله عنهما موقوفًا عليه، زاده بعد حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم، زيادة في التحذير، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية شعبة عن سماك هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(20852)

- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، قال: سمعت جابر بن سمرة قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن بين يدي الساعة كذابين"، قال سماك: وسمعت أخي يقول: قال جابر: فاحذروهم. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7315]

(157) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ زُهَيْرٌ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -وَهُوَ ابْنُ مَهْدِيٍّ- عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ، كَذَّابُونَ، قَرِيبٌ

(2)

مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

والباقون ذُكروا في الباب.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 5/ 88.

(2)

وفي نسخة: "قريبًا".

ص: 470

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أنه (قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ) بضم أوله؛ أي: يخرج، وليس المراد بالبعث معنى الإرسال المقارن للنبوة، بل هو كقوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [مريم: 83]. (دَجَّالُونَ) هو فعّال بفتح أوله، وتشديد ثانيه، من الدّجْل، وهو التغطية، وسُمّي الكذابُ دجّالًا؛ لأنه يُغَطِّي الحق بباطله، ويقال: دَجَلَ البعيرَ بالقَطِران: إذا غطاه، والإناءَ بالذهب: إذا طلاه، وقال ثعلب: الدجال الممَوِّه، سيفٌ مُدَجَّل: إذا طُلي، وقال ابن دُريد: سّمي دجالًا؛ لأنه يغطى الحقّ بالكذب، وقيل: لضربه نواحي الأرض، يقال: دَجَلَ مخففًا، ومشدّدًا: إذا فَعَلَ ذلك، وقيل: بل قيل ذلك؛ لأنه يغطي الأرض، فرجع إلى الأول، وقال القرطبيّ في "التذكرة": اختُلف في تسميته دجّالًا على عشرة أقوال، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال أيضًا: الدجل: التغطية، والتمويه، ويطلق على الكذب أيضًا، فعلى هذا يكون قوله:(كَذَّابُونَ) تأكيدًا.

وقال في "العمدة": قوله: "حتى يُبعث"؛ أي: حتى يظهر "دجالون" جمع دجال؛ أي: خلّاطون بين الحق والباطل، مُمَوِّهون، والفرق بينهم وبين الدجال الأكبر، أنهم يدّعون النبوة، وهو يدّعي الإلهية، لكنهم كلهم مشتركون في التمويه، وادعاء الباطل العظيم، وقد وُجد كثير منهم، فضحهم اللَّه، وأهلكهم. انتهى

(2)

.

وقوله: (قَرِيبٌ) بالرفع على الصفة، وفي بعض النسخ:"قريبًا" بالنصب على الحال من النكرة؛ لكونها موصوفةً، كما قال في "الخلاصة":

وَلَمْ يُنَكَّرْ غَالِبًا ذُو الْحَالِ إِنْ

لَمْ يَتَأَخَّرْ أَوْ يُخَصَّصْ أَوْ يَبِنْ

مِنْ بَعْدِ نَفْي أَوْ مُضَاهِيهِ كَـ "لَا

يَبْغِي امْرُؤٌ عَلَى امْرِئ مُسْتَسْهِلَا"

وقال في "العمدة": قوله: "قريب" مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛

(1)

"الفتح" 16/ 574، "كتاب الفتن" رقم (7122).

(2)

"عمدة القاري" 24/ 215.

ص: 471

أي: عددهم قريب، قال الكرمانيّ: أو منصوب مكتوب بلا ألف على اللغة الربيعية. انتهى

(1)

.

(مِنْ ثَلَاثِينَ) كذا في هذه الرواية بأنهم قريبٌ من ثلاثين، وقد جزم بأنهم ثلاثون في رواية أبي داود، فقد أخرج في "سننه" عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالون، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه"، وفي رواية:"حتى يخرج ثلاثون كذابًا دجالًا، كلهم يكذب على اللَّه، وعلى رسوله".

وروى أبو يعلى بإسناد حسن عن عبد اللَّه بن الزبير تسمية بعض الكذابين المذكورين بلفظ: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابًا، منهم مسيلمة، والعنسيّ، والمختار".

وقد ظهر مصداق ذلك في آخر زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة باليمامة، والأسود العنسيّ، باليمن، ثم خرج في خلافة أبي بكر طُليحة بن خُويلد، في بني أسد بن خزيمة، وسَجَاح التميمية، في بني تميم، وفيها يقول شبيب بن ربعي، وكان مؤدبها [من البسيط]:

أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا

وَأَصْبَحَ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا

وقُتل الأسود قبل أن يموت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقُتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة، ومات على الإسلام على الصحيح، في خلافة عمر، ونُقل أن سجاح أيضًا تابت، وأخبار هؤلاء مشهورة عند الأخباريين.

ثم كان أول من خرج منهم: المختار بن أبي عبيد الثقفيّ، غَلَب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتبعهم، فقَتَل كثيرًا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه، فأحبه الناس، ثم إنه زين له الشيطان أن ادَّعَى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه، فروى أبو داود الطيالسيّ بإسناد صحيح عن رفاعة بن شدّاد، قال: كنت أبْطنَ شيء بالمختار، فدخلت عليه يومًا، فقال: دخلت، وقد قام جبريل قبلُ من هذا الكرسيّ.

(1)

"عمدة القاري" 24/ 215.

ص: 472

وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن، عن الشعبيّ أن الأحنف بن قيس أراه كتاب المختار إليه، يذكر أنه نبيّ.

وروى أبو داود في "السنن" من طريق إبراهيم النخعيّ قال: قلت لعَبِيدة بن عمرو: أترى المختار منهم؟ قال: أما إنه من الرؤوس، وقُتل المختار سنة بضع وستين.

ومنهم: الحارث الكذّاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، فقُتل.

وخرج في خلافة بني العباس جماعة، وليس المراد بالحديث من ادَّعَى النبوة مطلقًا، فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك عن جنون، أو سوداء، وإنما المراد: من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا، وقد أهلك اللَّه تعالى من وقع له ذلك منهم، وبقي منهم من يُلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الأكبر، ذكره في "الفتح"

(1)

.

وقال في "العمدة": وقد وقع في حديث ثوبان بالجزم أنهم ثلاثون، وهو:"سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبيّ، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي"، أخرجه أبو داود، والترمذيّ، وصححه ابن حبان، وروى أبو يعلى من حديث عبد اللَّه بن عمرو:"بين يدي الساعة ثلاثون دجالًا كذابًا"، وكذا رواه أحمد من حديث عليّ رضي الله عنه، والطبرانيّ من حديث ابن مسعود، وروى أحمد، والطبرانيّ من حديث سمرة المصدّر بالكسوف، وفيه:"ولا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابًا، آخرهم الأعور الدجال".

وروى الطبراني من حديث عبد اللَّه بن عمرو: "لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابًا"، وسنده ضعيف، وكذا عند أبي يعلى من حديث أنس، وهو أيضًا ضعيف، وهو وإن ثبت فمحمول على المبالغة في الكثرة، لا على التحديد.

وروى أحمد بسند جيد عن حذيفة: "يكون في أمتي دجالون كذابون، سبعة وعشرون منهم أربع نسوة، وإني خاتم النبيين، ولا نبي بعدي"

(2)

.

وممن ظهر في هذه العصور المتأخّرة من هؤلاء الدجّالين مرزا غلام

(1)

"الفتح" 6/ 617.

(2)

"عمدة القاري" 24/ 215.

ص: 473

أحمد القادياني في الهند، ولا يزال أتباعه مبثوثين في العالم اليوم، فهو من الدجاجلة الذين أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بخروجهم، فصَدَق ما أخبر به

(1)

، أعاذنا اللَّه من شرّهم آمين.

وقوله: (كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ") ظاهر في أن كلًّا منهم يَدّعي النبوة، وهذا هو السرّ في قوله في الحديث الآخر:"وإني خاتم النبيين"، ويَحْتَمِل أن يكون الذين يدّعون النبوة منهم ما ذكر من الثلاثين، أو نحوها، وأن من زاد على العدد المذكور يكون كذابًا فقط، لكن يدعو إلى الضلالة، كغلاة الرافضة، والباطنية، وأهل الوحدة، والحلولية، وسائر الفرق الدعاة إلى ما يُعلم بالضرورة أنه خلاف ما جاء به محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن في حديث عليّ رضي الله عنه عند أحمد:"فقال عليّ لعبد اللَّه بن الكواء: وإنك لمنهم"، وابن الكواء لم يدّع النبوة، وإنما كان يغلو في الرفض

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [18/ 7315 و 7316](157)، و (البخاريّ) في "المناقب"(3609)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4333 و 4334)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2218)، و (همام بن منبّه) في "صحيفته"(25)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 237)، و (وابن حبّان) في "صحيحه"(6651)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4244)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7316]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَعِثَ).

(1)

راجع: "تكملة فتح الملهم" 6/ 240.

(2)

"الفتح" 16/ 568، "كتاب الفتن" رقم (7121).

ص: 474

قال الجامع عفا اللَّه عنه: تقدّم هذا الإسناد نفسه في هذا الباب، فتنبّه.

وقوله: (بِمِثْلِهِ)؛ أي: بمثل حديث الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقوله: (غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ) الضمير لهمّام بن منبّه.

وقوله: (يَنْبَعِثَ) مطاوع بعثه؛ أي: ينبعث بنفسه، ويدّعي نبوّته بترّهاته، وأباطله.

[تنبيه]: رواية همّام بن منبّه عن أبي هريرة رضي الله عنه هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2218)

- حدّثنا محمود بن غيلان، حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن همام بن مُنَبِّه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى ينبعث دجالون، كذابون، قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه"، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(19) - (بَابُ ذِكْرِ ابْنِ صَيَّادٍ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7317]

(2924) - (حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَرْنَا بِصِبْيَانٍ، فِيهِمُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَفَرَّ الصِّبْيَانُ، وَجَلَسَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَرِبَتْ يَدَاكَ، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَقَالَ: لَا، بَلْ تَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ذَرْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ يَكُنِ الَّذِي تَرَى، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ").

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 498.

ص: 475

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُثْمَانُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ) أبو الحسن الكوفيّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) ابن راهويه، تقدّم في الباب الماضي.

3 -

(جَرِيرُ) بن عبد الحميد، تقدّم أيضًا في الباب الماضي.

4 -

(الأَعْمَشُ) سليمان بن مهران، تقدّم قريبًا.

5 -

(أَبُو وَائِلٍ) شقيق بن سلمة الكوفيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

6 -

(عَبْدُ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه، تقدّم أيضًا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير إسحاق، فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وفيه ابن مسعود من أكابر الصحابة رضي الله عنهم، ذو مناقب جمّة.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) بن مسعود رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَرْنَا بِصِبْيَانٍ) بكسر الصاد، وضمّها: جمع صبيّ، كما في "القاموس"، وقوله:(فِيهِمُ ابْنُ صَيَّادٍ) جملة في محلّ جرّ صفة لـ "صبيان"، (فَفَرَّ الصِّبْيَانُ)؛ أي: هربوا هيبة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (وَجَلَسَ ابْنُ صَيَّادٍ) أي لم يفرّ معهم؛ لجراءته، وعناده، (فَكَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ ذَلِكَ) أي جلوس ابن صيّاد، وعدم فراره كسائر الصبيان؛ لكون ذلك يدلّ على عناده. (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"تَرِبَتْ يَدَاكَ) أي افتقرت يداك، ولصِقتا بالتراب، قال في "النهاية": يقال: تَرِب الرجلُ: إذا افتقر؛ أي: لَصِق بالتراب، وأترب: إذا استغنى، وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، ولا وقوع الأمر به، قال: وكثيرًا تَرِدُ للعرب، ألفاظ ظاهرها الذم، وإنما يريدون بها المدح، كقولهم: لا أب لك، ولا أُمّ لك، ولا أرض لك، ونحو ذلك. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لكن المقام هنا يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم يريد حقيقة

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 4/ 174.

ص: 476

الدعاء عليه؛ لأنه مُعادٍ، وكافر يدّعي الرسالة لنفسه، فهو كافر مستحقّ للعن، فتأمل، واللَّه تعالى أعلم.

(أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ) ابن صيّاد: (لَا)؛ أي: لا أشهد بذلك، (بَلْ تَشْهَدُ) أنت يا محمد (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه: (ذَرْنِي)؛ أي: اتركني (يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَتَّى أَقْتُلَهُ)؛ أي: كي أقتله؛ لأنه يستحقّ القتل لكفره، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يَكُنِ الَّذِي تَرَى)؛ أي: تعتقد أنه الدجال الذي يفتن الناس، (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ")؛ أي: لأن الذي يقتله هو عيسى عليه السلام، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7317 و 7318](2924)، و (أحمد) في "مسنده"(1/ 380 و 457)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(15/ 186)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 499)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(9/ 104)، و (البزّار) في "مسنده"(5/ 110)، و (الشاشيّ) في "مسنده"(2/ 76)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1193 و 1200)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أن ابن صياد هذا يقال له: ابن صياد، وابن صائد، وسُمي بهما في هذه الأحاديث، واسمه: صاف، قال العلماء: وقصته مشكلة، وأمره مشتبه، في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور، أم غيره؟ ولا شك في أنه دجال من الدجاجلة، قال العلماء: وظاهر الأحاديث أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوحَ إليه بأنه المسيح الدجال، ولا غيره، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره، ولهذا قال لعمر رضي الله عنه:"إن يكن هو فلن تستطيع قتله"، وأما احتجاجه هو بأنه مسلم، والدجال كافر، وبأنه لا يولد للدجال، وقد وُلد له هو، وأنه لا يدخل

ص: 477

مكة والمدينة، وأن ابن صياد دخل المدينة، وهو متوجه إلى مكة، فلا دلالة له فيه! لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت فتنته، وخروجه في الأرض.

ومن اشتباه قصته، وكونه أحدَ الدجاجلة الكذابين قوله للنبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتشهد أني رسول اللَّه"، ودعواه أنه يأتيه صادق وكاذب، وأنه يرى عرشًا فوق الماء، وأنه لا يَكره أن يكون هو الدجال، وأنه يعرف موضعه، وقوله: إني لأعرفه، وأعرف مولده، وأين هو الآن، وانتفاخه حتى ملأ السِّكّة، وأما إظهاره الإسلام، وحجه، وجهاده، وإقلاعه عما كان عليه فليس بصريح في أنه غير الدجال.

قال الخطابي: واختَلف السلف في أمره بعد كِبَره، فرُوي عنه أنه تاب من ذلك القول، ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس، وقيل لهم: اشهدوا.

قال: وكان ابن عمر وجابر فيما رُوي عنهما يحلفان أن ابن صياد هو الدجال، لا يشكان فيه، فقيل لجابر: إنه أسلم، فقال: وإن أسلم، فقيل: إنه دخل مكة، وكان في المدينة، فقال: وإن دخل.

ورَوَى أبو داود في "سننه" بإسناد صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرّة، وهذا يُبْطل رواية من روى أنه مات بالمدينة، وصُلي عليه.

وقد روى مسلم في هذه الأحاديث أن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما حلف باللَّه تعالى أن ابن صياد هو الدجال، وأنه سمع عمر رضي الله عنه يحلف على ذلك عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكره النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه كان يقول: واللَّه ما أشك في أن ابن صياد هو المسيح الدجال.

قال البيهقيّ في كتابه "البعث والنشور": اختَلَف الناس في أمر ابن صياد اختلافًا كثيرًا، هل هو الدجال؟، قال: ومن ذهب إلى أنه غيره احتج بحديث تميم الداريّ في قصة الجساسة الذي ذكره مسلم بعد هذا، قال: ويجوز أن تُوافق صفة ابن صياد صفة الدجال، كما ثبت في "الصحيح" أن أشبه الناس بالدجال عبد العزى بن قطن، وليس هو هو.

ص: 478

قال: وكان أمر ابن صياد فتنةً ابتلى اللَّه تعالى بها عباده، فعصم اللَّه تعالى منها المسلمين، ووقاهم شرها.

قال: وليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقول عمر، فيَحْتَمِل أنه صلى الله عليه وسلم كان كالمتوقف في أمره، ثم جاءه البيان أنه غيره، كما صرح به في حديثا تميم. هذا كلام البيهقيّ، واختار أنه غيره.

وقدّمنا أنه صحّ عن عمر، وعن ابن عمر، وجابر رضي الله عنه أنه الدجال، واللَّه أعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن التوقّف في شأن ابن صيّاد هذا هو الأرجح؛ لقوة أدلّة الجانبين، فمثل هذا يُتوقّف فيه، ويفوّض أمره إلى العالم الخبير، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "العمدة": وفي "كتاب الفتوح" لسيف: لمّا نزل النعمان على السوس، أعياهم حصارها، فقال لهم القسيسون: يا معشر العرب إن مما عهد علماؤنا، وأوائلنا أن لا يفتح السوس إلا الدجال، فإن كان فيكم تستفتحونها، فإن لم يكان فيكم فلا، قال: وصاف ابن صياد في جند النعمان، وأتى باب السوس غضبان، فدقه برجله، وقال: انفتح، فتقطعت السلاسل، وتكسرت الأغلاق، وانفتح الباب، فدخل المسلمون

(2)

.

وقال ابن التين: والأصح أنه ليس هو؛ لأن عينه لم تكن ممسوحة، ولا عينه طافية، ولا وُجدت فيه علامة. انتهى

(3)

.

2 -

(ومنها): ما ذكره في "العمدة" بصيغة الأسئلة والأجوبة:

السؤال الأول: كيف سكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمن يدعي النبوة كاذبًا؟ وكيف تركه بالمدينة يساكنه في داره، ويجاوره فيها؟

وأجيب بأن هذا فتنة امتحن اللَّه بها عباده المؤمنين، وقد امتُحن قوم موسى في زمانه بالعجل، فافتتن به قوم، وهلكوا، ونجا من هداه اللَّه تعالى،

(1)

"تحفة الأحوذيّ" 6/ 427.

(2)

هذه قصّة لا سند لها، فالظاهر عدم صحّتها.

(3)

"عمدة القاري" 8/ 173.

ص: 479

وعصمه منهم، وقال الخطابيّ: والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفاءهم، وذلك أنه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبينهم كتابًا صالحهم فيه على أن لا يهاجُوا، وأن يُتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم، أو دخيلًا في جملتهم، وقيل: لأنه كان من أهل الذمة، وقيل: لأنه كان دون البلوغ، وهو ما اختاره عياض، فلم تَجْر عليه الحدود.

السؤال الثاني: لِمَ اشتغل به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولِمَ حاور معه المحاورات المذكورة؟.

وأجيب بأنه كان يبلغه ما يدعيه من الكهانة، ويتعاطاه من الكلام في الغيب، فامتحنه ليعلم حقيقة حاله، ويُظهر أمره الباطل للصحابة، وأنه كاهن ساحر، يأتيه الشيطان، فيلقي على لسانه ما تلقيه الشياطين للكهنة.

السؤال الثالث: رَوَى الترمذيّ وغيره من حديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وقد إنذر أمته الأعور الكذاب، ألا أنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه: ك ف ر"؛ قال: هذا حديث صحيح.

وفي رواية مسلم: "الدجال مكتوب بين عينيه: ك ف ر" أي كافر، وفي لفظ له:"يقرؤه كل مسلم"، وفي حديث عبد اللَّه بن عمر:"ما من نبيّ إلا قد أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه. . . " الحديث، رواه مسلم، وقد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهديّ، وأن عيسى؛ يقتله إلى غير ذلك، فما وجه إنذار الأنبياء عليهم السلام أمتهم عنه؟.

وأجيب بأن المراد به تحقيق خروجه؛ يعني: لا يشكّون في خروجه، فإنه يخرج لا محالة، ونبّهوا على فتنبّه، فإن فتنبّه عظيمة جدًّا تُدهش العقول، وتحيّر الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، وقلة مكثه.

[فإن قلت]: لم خصّ النبيّ نوحًا عليه السلام بالذكر؟.

[قلت]: لأنه عليه السلام مقدَّم المشاهير من الأنبياء عليهم السلام كما قدّمه في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13].

3 -

(ومنها): أن أحاديث هذا الباب حجة لمذهب أهل الحقّ في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى اللَّه تعالى عباده به، وأقدره على أشياء من مقدورات اللَّه تعالى، من إحياء الميت الذي يقتله، وظهور زَهْرة الدنيا

ص: 480

والخصب معه، واتباع كنوز الأرض له، وأمْر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة اللَّه تعالى ومشيئته، ثم يعجزه اللَّه تعالى بعد ذلك، فلا يقدر على شيء من ذلك، ثم يقتله عيسى ابن مريم -عليهما الصلاة والسلام- وأبطل أمْره الخوارج، والجهمية، وبعض المعتزلة، وزعم الجبائيّ ومن وافقه أنه صحيح الوجود، لكن ما معه مخارق، وخيالات، لا حقيقة لها؛ ليفرق بينه وبين النبيّ.

وأجيب عنه بأنه لا يدعي النبوة، فيحتاج إلى فارق، وإنما يدعي الألوهية، وهو مكذَّب في ذلك؛ لسمات الحدوث فيه، ونقص صورته، وعَوَره، وتكفيره المكتوب بين عينيه، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغترّ به إلا رعاع الناس؛ لشدة الحاجة، والفاقة، وسدّ الرمَق، أو خوفًا من أذاه، وتقيةً.

4 -

(ومنها): أن فيه دليلًا على صحة إسلام الصبيّ، فإنه صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام، ولكن لشقاوته ما وُفّق له.

5 -

(ومنها) أن فيه دليلًا على صلابة عمر رضي الله عنه، وقوة دينه، ودفاعه عنه.

6 -

(ومنها): أن فيه دلالةً على التثبت في أمر النهي، وأنه لا تستباح الدماء إلا بيقين

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الرابعة): ذكر في "الفتح" فوائد تتعلَّق بالدجّال، سبق بعضها، ولكن فيها فوائد وزوائد نفسية، فلنذكرها؛ لنفاستها، قال:

ومما يُحتاج إليه في أمر الدجال: أصله، وهل هو ابن صياد، أو غيره؟ وعلى الثاني، فهل كان موجودًا في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو لا؟ ومتى يخرج؟ وما سبب خروجه؟ ومن أين يخرج؟ وما صفته؟ وما الذي يدّعيه؟ وما الذي يظهر عند خروجه من الخوارق حتى تكثر أتباعه؟ ومتى يهلك؟ ومن يقتله؟.

فأما الأول: فقد ثبت في حديث جابر رضي الله عنه أنه كان يحلف أن ابن صياد هو الدجال.

وأما الثاني: فمقتضى حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم الداري الذي أخرجه مسلم أنه كان موجودًا في العهد النبويّ، وأنه محبوس في بعض الجزائر.

(1)

"عمدة القاري" 8/ 172 - 174.

ص: 481

وأما الثالث: ففي حديث النوّاس بن سمعان عند مسلم أنه يخرج عند فتح المسلمين القسطنطينية.

وأما سبب خروجه، فأخرج مسلم في حديث ابن عمر، عن حفصة رضي الله عنهم أنه يخرج من غضبة يغضبها.

وأما من أين يخرج؟ فمن قِبَلِ المشرق جزمًا، ثم جاء في رواية أنه يخرج من خُراسان، أخرج ذلك أحمد، والحاكم، من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وفي أخرى أنه يخرج من أصبهان، أخرجها مسلم.

وأما صفته فمذكورة في أحاديث الباب.

وأما الذي يدّعيه فإنه يخرج أوّلًا، فيدعي الإيمان والصلاح، ثم يدّعي النبوة، ثم يدّعي الإلهية، كما أخرج الطبرانيّ من طريق سليمان بن شهاب، قال: نزل عليّ عبد اللَّه بن المعتمر، وكان صحابيًّا، فحدّثني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الدجال ليس به خفاء، يجيء من قبل المشرق، فيدعو إلى الدين، فيُتَّبَع، ويَظهر، فلا يزال حتى يَقْدَم الكوفة، فيظهر الدين، ويَعمل به، فيُتَّبع، ويحث على ذلك، ثم يدعي أنه نبيّ، فيفزع من ذلك كل ذي لبّ، ويفارقه، فيمكث بعد ذلك، فيقول: أنا اللَّه، فتغشى عينه، وتُقطع أذنه، ويُكتب بين عينيه كافر، فلا يخفى على كل مسلم، فيفارقه كل أحد من الخلق في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان"، وسنده ضعيف.

[تنبيه]: اشتَهَر السؤال عن الحكمة في عدم التصريح بذكر الدجال في القرآن، مع ما ذُكر عنه من الشر، وعِظَم الفتنة به، وتحذير الأنبياء منه، والأمر بالاستعاذة منه حتى في الصلاة.

وأجيب بأجوبة:

أحدها: أنه ذُكر في قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] فقد أخرج الترمذيّ، وصححه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رفعه:"ثلاثة إذا خرجن لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها".

الثاني: قد وقعت الإشارة في القرآن إلى نزول عيسى ابن مريم في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]، وفي قوله

ص: 482

تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61]، وصح أنه الذي يقتل الدجال، فاكتفى بذكر أحد الضدين عن الآخر، ولكونه يُلَقَّب المسيح، كعيسى لكن الدجال مسيح الضلالة، وعيسى مسيح الهدى.

الثالث: أنه تُرك ذكره احتقارًا.

وتُعُقّب بذكر يأجوج ومأجوج، وليست الفتنة بهم بدون الفتنة بالدجال، والذي قبله.

وتُعُقّب بأن السؤال باقٍ، وهو ما الحكمة في ترك التنصيص عليه؟.

وأجاب شيخنا الإمام البلقينيّ بأنه اعتَبَر كل من ذُكر في القرآن من المفسدين، فوجد كل من ذُكر إنما هم ممن مضى، وانقضى أمره، وأما من لم يجيء بعدُ فلم يذكر منهم أحدًا. انتهى.

وهذا يُنتقض بيأجوج ومأجوج، وقد وقع في تفسير البغويّ أن الدجال مذكور في القرآن في قوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وأن المراد بالناس هنا: الدجال، من إطلاق الكل على البعض، وهذا إن ثبت أحسن الأجوبة، فيكون من جملة ما تكفل النبيّ صلى الله عليه وسلم ببيانه، والعلم عند اللَّه تعالى.

وأما ما يظهر على يده من الخوارق فسيأتي بيانها في الأحاديث الطويلة التي يوردها مسلم -إن شاء اللَّه تعالى-.

وأما متى يهلك؟ ومن يقتله؟ فإنه يهلك بعد ظهوره على الأرض كلها، إلا مكة والمدينة، ثم يقصد بيت المقدس، فينزل عيسى عليه السلام، فيقتله، أخرجه مسلم، وفي حديث هشام بن عامر: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من الدجال"، أخرجه الحاكم، وعند الحاكم من طريق قتادة، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أَسِيد، رفعه:"إنه يخرج -يعني: الدجال- في نقص من الدنيا، وخفة من الدين، وسوء ذات بَيْن، فيَرِدُ كل منهل، وتُطوى له الأرض. . . " الحديث.

وأخرج نعيم بن حماد في "كتاب الفتن" من طريق كعب الأحبار، قال: يتوجه الدجال، فينزل عند باب دمشق الشرقيّ، ثم يُلتمس فلا يُقدر عليه، ثم يُرى عند المياه التي عند نهر الكسوة، ثم يُطلب فلا يدرى أين توجه؟ ثم يَظهر

ص: 483

بالمشرق، فيعطى الخلافة، ثم يُظهر السحر، ثم يدعي النبوة، فتتفرق الناس عنه، فيأتي النهر، فيأمره أن يسيل إليه، فيسيل، ثم يأمره أن يرجع، فيرجع، ثم يأمره أن ييبس، فييبس، ويأمر جبل طور وجبل زيتا أن ينتطحا، فينتطحا، ويأمر الريح أن تُثير سحبًا من البحر، فتمطر الأرض، ويخوض البحر في يوم ثلاث خوضات، فلا يبلغ حقويه، وإحدى يديه أطول من الأخرى، فيمد الطويلة في البحر، فتبلغ قعره، فيخرج من الحيتان ما يريد".

وأخرج أبو نعيم في ترجمة حسان بن عطية أحد ثقات التابعين من "الحلية" بسند حسن، صحيح إليه، قال:"لا ينجو من فتنة الدجال إلا اثنا عشر ألف رجل، وسبعة آلاف امرأة"، وهذا لا يقال من قِبَل الرأي، فيَحْتَمِل أن يكون مرفوعًا، أرسله، ويَحْتَمِل أن يكون أخذه عن بعض أهل الكتاب. انتهى، ما في "الفتح"

(1)

، وهو بحث مفيدٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7318]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو كُرَيْبِ -وَاللَّفْظُ لأَبِي كُرَيْبٍ- قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: أَخْبَرَنَا أَبُوَ مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ بِابْنِ صَيَّادٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا"، فَقَالَ: دُخٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي، فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ، فَإِنْ يَكُنِ الَّذِي تَخَافُ لَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم ذُكروا في الباب وقبله.

وقوله: (قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا) على وزن فَعِيل، ويروى:"خبأت لك خبأ" على وزن فعل، وكلاهما صحيح، بمعنى الشيء الغائب المستور: أي: أضمرت لك "سورة الدخان"، واختُلف في هذا المخبّا ما هو؟ فقال القرطبيّ:

(1)

"الفتح" 16/ 574 - 576.

ص: 484

الأكثر على أنه أضمر له في نفسه: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] قال الداوديّ: كان في يده سورة الدخان مكتوبة، وقال الخطابيّ: لا معنى للدخان هنا؛ لأنه ليس مما يُخبأ في كفّ، أو كُمّ، بل الدخ: نبْت موجود بين النخيل والبساتين. وقال أبو موسى المدينيّ في كتابه "المغيث": وقيل: إن الدجال يقتله عيسى عليه السلام بجبل الدخان، فيَحْتَمِل أن يكون أراده. انتهى.

وقال صاحب "التلويح": وفيه نظر من حيث أنا وجدنا ما قاله تخرّصًا مسندًا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من طريق صحيحة، قال أحمد في "مسنده": حدّثنا محمد بن سابق، حدّثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر، فذكره مرفوعًا مطوّلًا

(1)

.

وقوله: (فَقَالَ: دُخٌّ) قال أبو موسى: بضم الدال، وفتحها، لغتان، وقال الكرمانيّ: بضم الدال وتشديد الخاء: الدخان، وهو لغة فيه، وقال النوويّ: المشهور في كتب اللغة والحديث ضمّها فقط، واعتُرض عليه بأن ابن سِيدَهْ، وأبا التيانيّ، وأبا المعالي، وصاحب "مجمع الغرائب" حكوا الفتح، حاشا الجوهريّ، فإنه نصّ على الضم، ولم يذكر غيره.

ورُدّ عليه بأن حكاية هؤلاء الفتح لا يستلزم نفي الضم، كما أن ذِكر الجوهريّ الضم لا يستلزم نفي الفتح.

وقال القرطبيّ: وجدته في كتاب الشيح: "الدخ" ساكن الخاء مصححًا عليه، وكأنه على الوقف، قال: وأما الذي في الشِّعر فمشدد الخاء، وكذلك قرأته في الحديث.

وقال ابن قرقول: الدخ لغة في الدخان، لم يستطع ابن صياد أن يُتم الكلمة، ولم يهتد من الآية الكريمة إلا لهذين الحرفين على عادة الكهان، من اختطاف بعض الكلمات من أوليائهم من الجنّ، أو من هواجس النفس، ولهذا قال له:"اخسأ، فلن تعدو قَدْرك" أي لست بنبيّ، ولن تجاوز قدرك، وإنما أنت كاهن، فلن تجاوز يعني قَدْر الكهان

(2)

.

وقوله: ("اخْسَأْ) في الأصل لفظ يُزجر به الكلب، ويطرد، من خسأت

(1)

"عمدة القاري" 8/ 171.

(2)

"عمدة القاري" 8/ 171.

ص: 485

الكلبَ خسأً: طردته، وخسأ الكلبُ نفسُه يتعدى، ولا يتعدى، واخسأ أيضًا وهو خطاب زجر، واستهانة؛ أي: اسكت صاغرًا مطرودًا.

وقوله: (فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ") بنصب "تعدو" بـ "لن"، وقال السفاقسيّ: وقع هنا "فلن تعد" بغير واو، وقال القزاز هي لغة لبعض العرب، يجزمون بـ "لن"، مثل "لم" وقال ابن مالك: الجزم بـ "لن" لغة حكاها الكسائيّ، وقيل: حُذفت الواو تخفيفًا، وقيل:"لن" بمعنى "لا"، أو "لم" بالتأويل، وقال ابن الجوزيّ: يعني، لا يبلغ قدرك أن تطالع الغيب من قِبل الوحي المخصوص بالأنبياء عليهم السلام، ولا من قبيل الإلهام الذي يدركه الصالحون، وإنما كان الذي قاله من شيء ألقاه الشيطان إليه، إما لكون النبيّ تكلم بذلك بينه وبين نفسه، فسمعه الشيطان، وإما أن يكون الشيطان سمع ما يجري بينهما من السماء؛ لأنه إذا قُضي القضاء في السماء تكلمت به الملائكة عليهم السلام، فاسْتَرَقَ الشيطان السمع، وإما أن يكون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حدّث بعض أصحابه بما أضمر، ويدل على ذلك قول عمر رضي الله عنه: وخبّأ له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فالظاهر أنه أعلم الصحابة بما يخبّأ له، وإنما فعل ذلك به ليختبره عن طريقة الكهان، وليتعيّن للصحابة حاله وكذبه

(1)

.

وقوله: (فَإِنْ يَكُنِ الَّذِي تَخَافُ لَنْ تَسْتَطِيعَ قَتْلَهُ") وفي رواية البخاريّ: "إن يكنه فلن تسلّط عليه"، فقوله:"إن يكنه" هذا الضمير المتصل في يكنه هو خبر "يكن"، وقد وُضع موضع المنفصل، واسمها مستتر فيها، ويروى: إن يكن هو، وهو الصحيح؛ لأن المختار في خبر "كان" هو الانفصال، وعلى تقدير هذه الرواية لفظ "هو" تأكيد للضمير المستتر، و"كان" تامة، أو وضع "هو" موضع "إياه"، أي إن يكن إياه؛ أي: الدجال.

قوله: "وإن لم يكنه"؛ أي: وإن لم يكن هو دجالًا فلا خير في قتله.

وقال في "الفتح": قوله: "فلن تعدو قدرك"؛ أي: لن تجاوز ما قدر اللَّه فيك، أو مقدار أمثالك من الكهان.

(1)

"عمدة القاري" 8/ 171.

ص: 486

قال العلماء: استَكشف النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره ليبيّن لأصحابه تمويهه؛ لئلا يلتبس حاله على ضعيف لم يتمكن في الإسلام.

ومحصّل ما أجاب به النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له على طريق الفرض والتنزل: إن كنت صادقًا في دعواك الرسالة، ولم يختلط عليك الأمر، آمنت بك، وإن كنت كاذبًا، وخلط عليك الأمر فلا، وقد ظهر كذبك، والتباس الأمر عليك، فلا تعدو قَدْرك.

وقوله: "إن يكن هو" كذا للأكثر، وللكشميهنيّ:"إن يكن" على وصل الضمير، واختار ابن مالك جوازه، ثم الضمير لغير مذكور لفظًا، وقد وقع في حديث ابن مسعود عند أحمد:"إن يكن هو الذي تخاف، فلن تستطيعه"، وفي مرسل عروة عند الحارث بن أبي أسامة:"إن يكن هو الدجال".

وقوله: "فلن تسلط عليه" في حديث جابر: "فلست بصاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم". وقوله: "وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله". قال الخطابيّ: وإنما لم يأذن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قتله مع ادّعائه النبوة بحضرته؛ لأنه كان غير بالغ، ولأنه كان من جملة أهل العهد، قال الحافظ: الثاني هو المتعيّن، وقد جاء مصرحًا به في حديث جابر، عند أحمد، وفي مرسل عروة:"فلا يحل لك قتله"، قال: ثم إن في السؤال عندي نظرًا؛ لأنه لم يصرح بدعوى النبوة، وإنما أوهم أنه يدعي الرسالة، ولا يلزم من دعوى الرسالة دعوى النبوة، قال اللَّه تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية [مريم: 83]. انتهى

(1)

.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى تمام البحث فيه، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7319]

(2925) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لَقِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَقَالَ هُوَ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ،

(1)

"الفتح" 6/ 173.

ص: 487

وَكُتُبِهِ، مَا تَرَى؟ "، قَالَ: أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ، وَمَا تَرَى؟ "، قَالَ: أَرَى صَادِقَيْنِ، وَكَاذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ، وَصَادِقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لُبِسَ عَلَيْهِ، دَعُوهُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سَالِمُ بْنُ نُوحِ) بن أبي عطاء البصريّ، أبو سعيد العطار، صدوقٌ، له أوهام [9] مات بعد المائتين (بخ م د ت س) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 51/ 1518.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي، و"الْجُريريّ" هو: سعيد بن إياس البصريّ، و"أبو نضر" هو: المنذر بن مالك بن قُطَعة العبديّ، و"أبو سعيد" هو الخدريّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين، غير الصحابيّ، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وشيخه أحد التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه من المكثرين السبعة، روى (1170) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالك الْخُدريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: لَقِيَهُ) أي ابن صيّاد، هكذا الرواية بالضمير دون تقدّم مرجعه، ولكن بيّنه في الرواية التالية، حيث قال:"لقي نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن صائد. . . "، ويَحتمل أن يكون اختصره من حديث طويل، فيه ذِكر ابن صيّاد، واللَّه تعالى أعلم.

(رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ) النبويّة، (فَقَالَ لَهُ) أي لابن صيّاد (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ ") صلى الله عليه وسلم، زاد في رواية:"أشهد إنك رسول الأميين"؛ يعني: العرب، وفيه إشعار بأن اليهود الذين كان ابن صياد منهم كانوا معترفين ببعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لكن يدّعون أنها مخصوصة بالعرب، وفساد حجتهم واضح جدًّا؛ لأنهم إذا أقروا بأنه رسول اللَّه استحال أن يكذب، على اللَّه، فإذا ادّعَى أنه رسوله إلى العرب وإلى غيرها تعيَّن

ص: 488

صِدقه، فوجب تصديقه

(1)

.

(فَقَالَ هُوَ) أي ابن صيّاد للنبيّ صلى الله عليه وسلم: (أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟) وفي رواية الترمذيّ: "فقال: أتشهد إنت أني رسول اللَّه"، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ) وفي رواية: "آمنت باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر"، وفي حديث ابن عمر الآتي: "آمنت باللَّه ورسله"، والمعنى إني آمنت برسل اللَّه تعالى، ولست منهم، قيل: إنما لم يصرح النبيّ صلى الله عليه وسلم بالإنكار عليه في دعوى رسالته؛ لأن ابن صيّاد لم يصرح بدعواها، وإنما سأله على طريق الاستفهام، حيث قال: أتشهد أني رسول اللَّه؟، ويحتمل أنه أعاد سؤال النبيّ صلى الله عليه وسلم تهكمًا، ولم يقصد دعوى الرسالة، فاحتاط صلى الله عليه وسلم في الردّ عليه، واللَّه أعلم.

قال الزين ابن الْمُنَيِّر رحمه الله: إنما عَرَض النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام على ابن صياد بناءً على أنه ليس الدجال المحذَّر منه.

وتعقّبه الحافظ، فقال: ولا يتعيّن ذلك، بل الذي يظهر أن أمره كان محتملًا، فأراد اختباره بذلك، فإن أجاب غلب ترجيح أنه ليس هو، وإن لم يُجب تمادى الاحتمال، أو أراد باستنطاقه إظهار كذبه المنافي لدعوى النبوة، ولمّا كان ذلك هو المراد أجابه بجواب منصف، فقال:"آمنت باللَّه، ورسله".

وقال القرطبيّ: كان ابن صياد على طريقة الكهنة، يُخبر بالخبر، فيصحّ تارة، ويفسد أخرى، فشاع ذلك، ولم ينزل في شأنه وحي، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم سلوك طريقة يختبر حاله بها؛ أي: فهو السبب في انطلاق النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه.

وقد روى أحمد من حديث جابر رضي الله عنه: "قال: ولدت امرأة من اليهود غلامًا ممسوحة عينه، والأخرى طالعة ناتئة، فأشفق النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الدجال"، وللترمذيّ عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا:"يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عامًا لا يولد لهما، ثم يولد لهما غلام أضرّ شيء، وأقله منفعةً، قال: ونَعَتَهما، فقال: أما أبوه فطويل، ضرب اللحم، كأن أنفه منقار، وأما أمه ففرضاخة" أي بفاء مفتوحة، وراء ساكنة، وبمعجمتين، والمعنى أنها ضخمة

(1)

"الفتح" 6/ 172.

ص: 489

طويلة اليدين، قال،: فسمعنا بمولود بتلك الصفة، فذهبت أنا والزبير بن العوام، حتى دخلنا على أبويه؛ يعني: ابن صياد، فإذا هما بتلك الصفة.

ولأحمد، والبزار من حديث أبي ذر، قال:"بعثني النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمه، فقال: سلها كم حملت به؟ فقالت: حملت به اثني عشر شهرًا، فلما وقع صاح صياح الصبي ابن شهر". انتهى.

فكأن ذلك هو الأصل في إرادة استكشاف أمره

(1)

.

(مَا تَرَى؟ ") وفي رواية: "ماذا ترى؟، قال ابن صياد: يأتيني صادق، وكاذب".

(قَالَ) ابن صيّاد: (أَرَى عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ) وفي رواية: "فقال: أرى حقًّا وباطلًا، وأرى عرشًا على الماء"، ولأحمد:"أرى عرشًا على البحر، حوله الحيتان"، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"تَرَى عَرْشَ إِبْلِيسَ عَلَى الْبَحْرِ) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَا تَرَى؟ ")؛ أي: غير ما ذكرته، (قَالَ) ابن صيّاد:(أَرَى صَادِقَيْنِ، وَكَذِبًا، أَوْ كَاذِبَيْنِ، وَصَادِقًا)؛ أي: يأتيني شخصان يخبراني بما هو صِدق، وشخص يخبرني بما هو كذب، قال القاريّ: والشك من ابن الصياد في عدد الصادق والكاذب يدل على افترائه، إذ المؤيَّد من عند اللَّه لا يكون كذلك. انتهى

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: ويَحْتَمل أن يكون الشكّ من الرواة، واللَّه تعالى أعلم.

(فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) لأصحابه: ("لُبِسَ عَلَيْهِ) بضم اللام، وكسر الموحّدة المخففة، ولو شُدِّدت لأفادت التأكيد والتكثير؛ أي: خُلط عليه الأمر في كهانته، وفي حديث أبي الطفيل عند أحمد:"فقال: تعوّذوا باللَّه من شرّ هذا".

(دَعُوهُ")؛ أي: فاتركوه، فإنه لا يحدّث بشيء يصلح أن يعوّل عليه، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"الفتح" 6/ 172.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 50.

ص: 490

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7319](2925)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(4/ 517)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 97)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1194)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7320]

(2926) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَقِيَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ صَائِدٍ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَابْنُ صَائِدٍ

(1)

، مَعَ الْغِلْمَانِ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْجُرَيْرِيِّ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ) بن عربيّ البصريّ، ثقةٌ [10] (ت 248) وقيل: بعدها (م 4) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى) الصنعانيّ البصريّ، ثقةٌ [10](ت 245)(م قد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 92/ 503.

3 -

(مُعْتَمِرُ) بن سليمان التيميّ، أبو محمد البصريّ، يُلَقَّب الطفيل، ثقةٌ، من كبار [9](ت 187) وقد جاوز الثمانين (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

4 -

(أَبُوه) سليمالن بن طَرْخان التيميّ، أبو المعتمر البصريّ، نزل في بني تيم، فنُسب إليهم، ثقة عابدٌ [4](ت 143) وهو ابن سبع وتسعين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْجُرَيْرِيِّ) فاعل "ذَكَرَ" ضمير سليمان بن طرخان.

(1)

وفي نسخة: "ابن صيّاد".

ص: 491

[تنبيه]: رواية أبي نضرة عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذه ساقها ابن حبّان رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(6784)

- أخبرنا عمر بن محمد الْهَمْدانيّ، قال: حدّثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: لقي نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم ابن صائد، ومعه أبو بكر وعمر، قال: وابن صائد مع الغلمان، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أتشهد أني رسول اللَّه؟ " قال: أتشهد أني رسول اللَّه؟ فقال نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "آمنت باللَّه، وبرسوله"، قال: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما ترى؟ " قال: أرى عرشًا على الماء، فقال صلى الله عليه وسلم:"ترى عرش إبليس على البحر"، قال:"انظر ما ترى؟ " قال: أرى صادقين وكاذبين، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لُبس على نفسه فدعاه

(1)

". انتهى

(2)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7321]

(2927) - (حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ صَائِدٍ إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لِي: أَمَا قَدْ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ، يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ، أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقَدْ وُلِدَ لِي، أَوَ لَيْسَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَلَا مَكَّةَ؟ "، قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَقَدْ وُلِدْتُ بالْمَدِينَةِ، وَهَذَا

(3)

أَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي فِي آخِرِ قَوْلِهِ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ مَوْلِدَهُ، وَمَكَانَهُ، وَأَيْنَ هُوَ؟، قَالَ: فَلَبَسَنِي).

رجال هذا الإسناد: ستةٌ:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى البصريّ الساميّ -بالمهملة- أبو محمد، وكان يغضب إذا قيل له: أبو همام، ثقةٌ [8](ت 189)(ع) تقدم في "الطهارة" 5/ 557.

(1)

أي: اتركاه، والأمر لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(2)

"صحيح ابن حبان" 15/ 187.

(3)

وفي نسخة: "وها أنا".

ص: 492

3 -

(دَاوُدُ) بن أبي هند البصريّ، تقدّم في الباب الماضي.

والباقون ذُكروا قبله.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين غير الصحابيّ رضي الله عنه، فمدنيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعىّ، وفيه أبو سعيد رضي الله عنه سبق القول فيه قريبًا.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: صَحِبْتُ) بكسر الحاء، من باب عَلِم، (ابْنَ صَائِدٍ إِلَى مَكَّةَ)؛ أي: متوجهين إليها، (فَقَالَ لِي: أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، (قَدْ لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ) حُذف مفعوله للتفخيم والتهويل، أي: شيئًا عظيمًا، وخطيرًا، ثم بيّنه بقوله:(يَزْعُمُونَ أَنِّي الدَّجَّالُ)؛ أي: ولست إياه، وقال بعضهم قوله:"يزعمون" استئناف، كأنه لما قال:"قد لقيت"، قيل له: ماذا تشكو منهم؟ فقال: "يزعمون"، أو حال من فاعل لقيت؛ أي: حال كونهم يزعمون أني الدجال، ويترددون في أمري، ويشكّون فيه، وأنت تعلم أن الأمر على خلاف ذلك. (أَلَسْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"إِنَّهُ) أي الدجال الذي يأتي في آخر الزمان (لَا يُولَدُ لَهُ؟ "، قَالَ) أبو سعيد:(قُلْتُ: بَلَى) سمعته يقول ذلك. (قَالَ) ابن صائد: (فَقَدْ وُلِدَ لِي)؛ أي: فلست بدجال، (أَوَ لَيْسَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"لَا يَدْخُلُ) الدجال الآتي آخر الزمان (الْمَدِينَةَ) النبويّة (وَلَا مَكَّةَ؟ "، قُلْتُ: بَلَى) سمعته يقول ذلك. (قَالَ) ابن صائد: (فَقَدْ وُلِدْتُ بِالْمَدِينَةِ، وَهَذَا أَنَا) وفي نسخة: "وها أنا ذا"(أُرِيدُ مَكَّةَ، قَالَ) أبو سعيد: (ثُمَّ قَالَ لِي) ابن صائد: (يحيى آخِرِ قَوْلِهِ)؛ أي: كلامه الذي تكلّم به في ذلك الوقت، (أَمَا وَاللَّهِ، إِنِّي لأَعْلَمُ مَوْلِدَهُ)؛ أي: زمان ولادة الدجال (وَمَكَانَهُ) الذي وُلد فيه، (وَأَيْنَ هُوَ) الآن، زاد في رواية:"وأعرف أباه وأمه"، قال القاري: هذا يَحْتَمِل أن يكون فيه كاذبًا، أو صادقًا. (قَالَ) أبو سعيد:(فَلَبَسَنِي) بتخفيف الموحّدة المفتوحة، قال النوويّ رحمه الله: هو بالتخفيف: أي جعلني

ص: 493

ألتبس في أمره، وأشكّ فيه، قال القاري: يعني حيث قال أوّلًا: اعلم أنا مسلم، ثم ادعى الغيب بقوله: إني لأعلم، ومن ادعى علم الغيب فقد كفر، فالتبس عليّ إسلامه وكفره، وقال ابن الملك:"فلبّسني" من التلبيس: أي التخليط، حيث لم يبيّن مولده، وموضعه، بل تركه ملتبسًا، فلبّس عليّ، أو معناه: أوقعني في الشك بقوله: وُلد لي، وبدخوله المدينة ومكة، وكان يظنّ أنه الدجال، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7321 و 7322 و 7323](2927)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2246)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 26 و 43 و 79 و 97)، و (أبو بكر الشيبانيّ) في "الآحاد والمثاني"(4/ 268)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(/6/ 1195)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7322]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، قَالَا: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ لِيَ ابْنُ صَائِدٍ، وَأَخَذَتْنِي مِنْهُ ذَمَامَةٌ: هَذَا عَذَرْتُ النَّاسَ، مَا لِي وَلَكُمْ، يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ؟ أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ يَهُودِيٌّ؟ "، وَقَدْ أَسْلَمْتُ، قَالَ: "وَلَا يُولَدُ لَهُ؟ "، وَقَدْ وُلِدَ لِي، وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ؟ "، وَقَدْ حَجَجْتُ، قَالَ: فَمَا زَالَ حَتَّى كَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِيَّ قَوْلُهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الآنَ حَيْثُ هُوَ، وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ: وَقِيلَ لَهُ: أَيَسُرُّكَ أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟ قَالَ: فَقَالَ: لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ مَا كَرِهْتُ).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد هو الذي سبق قبل حديث.

وقوله: (وَأَخَذَتْنِي مِنْهُ ذَمَامَةٌ) بالذال المعجمة المفتوحة، ثم ميم مخفّفة:

ص: 494

أي: حياء وإشفاق، من الذمّ واللوم

(1)

، والجملة حاليّة؛ أي: وقد أخذتني منه، أي من مصاحبته، والمشي معه ذامة؛ أي: استحياء، وإشفاق من لوم الناس، وذمهم لي على مصاحبته.

وقوله: (هَذَا) مفعول لمحذوف، أي أفهم هذا، أو مبتدأ خبره محذوف، أي هذا هو الشأن والأمر، وهذا هو المسمّى عند علماء البلاغة بالتخلّص، أو الاقتضاب، وهو الانتقال من أسلوب الكلام إلى آخر

(2)

.

وقوله: (عَذَرْتُ النَّاسَ)؛ أي: جعلت عامتهم معذورين فيما يقولون: إني الدجال؛ لجهلهم بما قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوصاف الدجال.

وقوله: (مَا لِي وَلَكُمْ، يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ؟)؛ أي: أيّ شيء ثبت لكم في قولكم: إني دجال، وقد تعرفون حقيقة الأمر بسبب أنه صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئًا من علاماته الظاهرة إلا وقد بيّنه لكم، وسمعتموه، وعرفتم أنها ليست منطبقة عليّ، كما ترون، فما لكم في موافقة العوامّ في هذا الأمر؟، ثم بيّن لهم تلك العلامات بقوله:

(أَلَمْ يَقُلْ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّهُ)؛ أي: الدجال الموعود به آخر الزمان (يَهُودِيٌّ؟ "، وَقَدْ أَسْلَمْتُ، قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("وَلَا يُولَدُ لَهُ؟ "، وَقَدْ وُلِدَ لِي، وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَيْهِ مَكَّةَ؟ ")؛ أي: دخولها، (وَقَدْ حَجَجْتُ)؛ أي: قصدت الحج، لا أنه قال ذلك بعد رجوعه من الحجّ؛ لأن الحوار جرى بينه وبين أبي سعيد رضي الله عنه في طريق الحج من المدينة إلى مكة، كما بُيّن في الرواية التالية، حيث قال:"أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة".

(قَالَ) أبو سعيد: (فَمَا زَالَ) ابن صائد يعدّد أشياء (حَتَّى كَادَ)؛ أي: أوشك وقرب (أَنْ يَأْخُذَ فِيَّ)؛ أي: يؤثّر في قلبي (قَوْلُهُ) هذا حتى أصدّقه فيما يقول: إنه ليس بدجّال.

(قَالَ) أبو سعيد: (فَقَالَ لَهُ) فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة؛ إذ الأصل أن يقول: فقال لي، (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، (وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ الآنَ) أي في

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 51.

(2)

راجع: "الكوكب الوهّاج" 26/ 213.

ص: 495

الوقت الحاضر (حَيْثُ هُوَ)؛ أي: المكان الذي فيه الدجال الموعود به آخر الزمان (وَأَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، قَالَ) أبو سعيد: (وَقِيلَ لَهُ)؛ أي: قال قائل لابن صائد، ويَحتمل أن يكون القائل هو أبو سعيد، أو بعض الحاضرين:(أَيَسُرُّكَ) وتستبشر به (أَنَّكَ ذَاكَ الرَّجُلُ؟) أي لو كنت إياه، فهل ترضى بذلك؟، وتُسرّ به؟ (قَالَ) أبو سعيد:(فَقَالَ) ابن صائد: (لَوْ عُرِضَ عَلَيَّ) بالبناء للمفعول؛ أي: لو قُدّر أن عُرض عليّ أن أكون أنا هو، (مَما) نافية، (كَرِهْتُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، أي لم أكن كارهًا ذلك.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "قال"؛ أي: أبو سعيد، "وقيل له"؛ أي: لابن صياد، "أيسرك"؛ أي: أيوقعك في السرور، ويفرحك، ويعجبك، "أنك ذلك الرجل"؛ أي: أن تكون الدجال، "قال"؛ أي: أبو سعيد، "فقال"؛ أي: ابن صياد: "لو عُرِض علي" بصيغة المجهول؛ أي: لو عُرِض عليّ ما جُبل في الدجال من الإغواء، والخديعة، والتلبيس، "ما كَرِهت"؛ أي: بل قبلت، والحاصل رضاه بكونه الدجال، وهذا دليل واضح على كفره، كذا ذكره المظهر، وغيره من الشراح. انتهى

(1)

.

وقال القاضي عياض رحمه الله: إن هذه الأشياء اتّفقت لابن صيّاد بعد أن كَبِر، وبعد موته صلى الله عليه وسلم، وأنه حج البيت، وحفظ الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وذكره الطبريّ وغيره في عداد الصحابة، لكن ظهرت منه في هذه الأحاديث أمور بعضها كفر، كقوله:"لو عرض عليّ ما كرِهتُ"، فإن من رضي لنفسه دعوى الألوهيّة، وحالة الدجّال فهو كافر، وبعضها يُشعر أنه الدجّال، كقوله:"إني أعرفه، وأعرف مولده، وأين هو؟ " زاد الترمذيّ: "وأين هو الساعة من الأرض؟ "، فإن هذه كالنصّ أنه هو، وما لبّس به من أنه أسلم، فقد يكفر فيما يُستقبل، أو يكون إسلامه تقيّةً، وهو منافق، وكذلك لا حجة له في دخول المدينة ومكة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أخبر أنه لا يدخلها أيام فتنبّه، وكذلك قوله: لا يولد له يَحْتَمِل أنه أيام خروجه، وإن استبعده الأبيّ لِمَا في الرواية الأخرى أنه عقيم، واللَّه تعالى أعلم

(2)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 51.

(2)

راجع: "شرح الأبيّ" 7/ 260 - 261.

ص: 496

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7323]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ، أَخْبَرَنِي الْجُرَيْرِيُّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا حُجَّاجًا، أَوْ عُمَّارًا، وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، فَتَفَرَّقَ النَّاسُ، وَبَقِيتُ أَنَا وَهُوَ، فَاسْتَوْحَشْتُ مِنْهُ وَحْشَةً شَدِيدَةً، مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ، قَالَ: وَجَاءَ بِمَتَاعِهِ، فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَفَعَلَ، قَالَ: فَرُفِعَتْ لَنَا غَنَمٌ، فَانْطَلَقَ، فَجَاءَ بعُسٍّ، فَقَالَ: اشْرَبْ أَبَا سَعِيدٍ، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، وَاللَّبَنُ حَارٌّ، مَا بِي إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ، أَوْ قَالَ: آخُذَ عَنْ يَدِهِ، فَقَالَ: أَبَا سَعِيدٍ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آخُذَ حَبْلًا، فَأُعَلِّقَهُ بِشَجَرةٍ، ثُمَّ أَخْتَنِقَ، مِمَّا يَقُولُ لِيَ النَّاسُ، يَا أَبا سَعِيدٍ، مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَسْتَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ كَافِرٌ؟ "، وَأَنَا مُسْلِمٌ، أَوَ لَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هُوَ عَقِيمٌ، لَا يُولَدُ لَهُ؟ "، وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بِالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَلَا مَكَّةَ؟ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَأَنَا أُرِيدُ مَكَّةَ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: حَتَّى كِدْتُ أَنْ أَعْذِرَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُهُ، وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ، وَأَيْنَ هُوَ الآنَ؟ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ).

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الإسناد نفسه هو الذي تقدّم قبل ثلاثة أحاديث، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: خَرَجْنَا) من المدينة، حال كوننا (حُجَّاجًا)؛ أي: محرمين بالحجّ، (أَوْ عُمَّارًا)؛ أي: أو محرمين بالعمرة، و"أو" للشك، والظاهر أنها من أبي نضر، أو ممن دونه، وقوله:(وَمَعَنَا ابْنُ صَائِدٍ) هو ابن صيّاد، والجملة حاليةّ. (قَالَ) أبو سعيد:(فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا)

ص: 497

للاستراحة (فَتَفَرَّقَ النَّاسُ)؛ أي: رِفقتنا في الأشجار طلبًا لظلّها، (وَبَقِيتُ) بكسر القاف، (أَنَا) أكّده بالضمير المنفصل؛ ليمكنه العطف بلا ضعف، كما مرّ غير مرّة، وقوله:(وَهُوَ) عطف الضمير الفاعل، (فَاسْتَوْحَشْتُ)؛ أي: نفرت نفسي (مِنْهُ)؛ أي: من مجالسته، (وَحْشَةً شَدِيدَةً)، وقوله:(مِمَّا يُقَالُ عَلَيْهِ) تعليل لاستيحاشه منه؛ أي: إنما استوحشت منه لأجل ما يقول الناس فيه، من أنه الدجّال. (قَالَ) أبو سعيد:(وَجَاءَ) ابن صائد (بِمَتَاعِهِ، فَوَضَعَهُ مَعَ مَتَاعِي، فَقُلْتُ: إِنَّ الْحَرَّ شَدِيدٌ، فَلَوْ وَضَعْتَهُ تَحْتَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ) مشيرًا إلى شجرة قريبة منهما؛ أي: لكان خيرًا، فـ "لو" شرطيّة، جوابها مقدّر، كما ذكرته، ويَحْتَمِل أن تكون للتمنّي، فلا جواب لها؛ أي: أتمنى أن تضع متاعك تحت تلك الشجرة. (قَالَ) أبو سعيد: (فَفَعَلَ) ابن صائد ما أشرت به إليه، من وَضْع متاعه تحت الشجرة المشار إليها. (قَالَ) أبو سعيد:(فَرُفِعَتْ) بالبناء للمفعول؛ أي: ظهرت، وكُشفت، (لَنَا غَنَمٌ) قال الفيّوميّ رحمه الله: الغَنَمُ اسم جنس، يُطلق على الضأن، والمعز، وقد تُجمع على أَغْنَامٍ، على معنى قُطَعانات من الغنم، ولا واحد لِلْغَنَمِ من لفظها، قاله ابن الأنباريّ، وقال الأزهريّ أيضًا: الغَنَمُ الشاء، الواحدة شاة، وتقول العرب: راح على فلان غَنَمَانِ؛ أي: قَطِيعان من الغَنَمِ، كل قطيع منفرد بمرعى، وراعٍ، وقال الجوهريّ: الغَنَمُ اسم مؤنثٌ موضوع لجنس الشاء، يقع على الذكور، والإناث، وعليهما، ويُصَغَّر، فتدخل الهاء، ويقال: غُنَيْمَةٌ؛ لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين، وصُغِّرت فالتأنيث لازم لها. انتهى

(1)

.

(فَانْطَلَقَ) ابن صائد إلى تلك الغنم (فَجَاءَ) عطف على مقدّر؛ أي: فحلب، فجاء، والظاهر أن عادة أصحاب الغنم السماح لابن السبيل أن يحلب غنمهم، ويشرب، وقوله:(بِعُسٍّ) بضمّ العين، وتشديد السين المهملتين: القدح الكبير، والجمع عِسَاس، مثلُ سِهام، وربّما قيل: أَعساس، مثلُ قُفْل وأقفال

(2)

. (فَقَالَ) ابن صائد لأبي سعيد: (اشْرَبْ) يا (أَبَا سَعِيدٍ)، قال أبو سعيد:(فَقُلْتُ) له: لا أشرب، ثم علّل ذلك بقوله:(إِنَّ الْحَرَّ)؛ أي: حرّ الجوّ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 455.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 409.

ص: 498

(شَدِيدٌ، وَاللَّبَنُ حَارٌّ)؛ أي: فيجتمع عليّ حرارتان، ولا أستطيع ذلك، قال أبو سعيد:(مَا بِي)؛ أي: ليس بي شيء مما أردّ به لبنه (إِلَّا أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشْرَبَ عَنْ يَدِهِ)؛ أي: إلا كراهية الشرب عن يد ابن صائد؛ لِمَا يقول فيه الناس، وقوله:(أَوْ قَالَ)"أو" هنا للشك من الراوي، أبي نضرة، أو غيره؛ أي: أو قال أبو سعيد: ما بي إلا أني أكره (آخُذَ عَنْ يَدِهِ)؛ أي: يد ابن صائد؛ لِما ذُكر. (فَقَالَ) ابن صائد لمّا ردّ عليه لبنه، وأبى أن يشرب عن يده، فظهر له أن ذلك بسبب ما يقال فيه من أنه الدجّال. (أَبَا سَعِيدٍ)؛ أي: يا أبا سعيد، (لَقَدْ هَمَمْتُ)؛ أي: قصدت (أَنْ آخُذَ حَبْلًا) من الحبال (فَأُعَلِّقَهُ) بالنصب عطفًا على "آخذ"، (بِشَجَرَةٍ)؛ أي: أربطه بها، (ثُمَّ أَخْتَنِقَ) بالنصب أيضًا لِمَا ذُكر؛ أي: أخنق نفسي، وأموت، وذلك (مِمَّا يَقُولُ لِيَ النَّاسُ)؛ أي: من أجل ما يتكلّمون فيّ من أني أنا الدجال، ثم قال:(يَا أَبَا سَعِيدٍ، مَنْ خَفِيَ) بكسر الفاء، من باب تعب؛ أي: من استتر (عَلَيْهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بسبب عدم سماعه له، فـ "من" شرطيّة، جوابها مقدّر؛ أي: من خفي عليه حديثه صلى الله عليه وسلم، فهو معذور، وقوله:(مَا خَفِيَ عَلَيْكُمْ)"ما" نافية؛ أي: لم يَخْفَ عليكم حديثه صلى الله عليه وسلم، ويَحْتَمل كون "ما" استفهاميّة للإنكار؛ أي: أيّ شيء خفي عليكم، وقوله:(مَعْشَرَ الأَنْصَارِ) منصوب على الاختصاص؛ أي: أخصّ جماعة الأنصار، أو هو منادى حُذف منه حرف النداء؛ أي: يا معشر الأنصار، (أَلَسْتَ) بتاء الخطاب، وهو لأبي سعيد، (مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هو ممن أكثر الرواية عنه صلى الله عليه وسلم، حتى عُدّ من المكثرين السبعة من الصحابة رضي الله عنهم، ويقال: إنه روى (1170) حديثًا. (أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)"رسول اللَّه" تنازعاه "ليس"، و"قال"، ويَحْتَمل أن يكون اسم "ليس" ضمير الشأن؛ أي: ليس هو؛ أي: الشأن، (هُوَ)؛ أي: الدجال الآتي آخر الزمان (كَافِرٌ) كما سيأتي قوله صلى الله عليه وسلم: "مكتوب بين عينيه كافر"، (وَأَنَا مُسْلِمٌ)؛ أي: فلست إياه، فكيف تتهمني مع العامة الذين لا يعرفون الأحاديث؟ (أَوَ لَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"هُوَ"؛ أي: الدجال الموعود (عَقِيمٌ) بفتح، فكسر: هو الذي لا يولد له، يُطلق على الذكر والأنثى

(1)

، فقوله:(لَا يُولَدُ لَهُ") تفسير

(1)

"المصباح المنير" 2/ 423.

ص: 499

لـ "عقيم"، (وَقَدْ تَرَكْتُ وَلَدِي بالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ، وَلَا مَكَّةَ؟ " وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ) وقد وُلدت، وعشت فيها، (وَأَنَا) الآن (أُرِيدُ مَكَّةَ) للحجّ؛ أي: فلست أنا هو. (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه (حَتَّى) غاية لكثرة احتجاجاته على عدم كونه هو الدجال الموعود به آخر الزمان، أي إلى أن (كِدْتُ) بكسر الكاف؛ أي: قاربت، قال الفيّوميّ رحمه الله: كَادَ يفعل، كذا يَكَادُ، من باب تَعِب: قارب الفعل، قال ابن الأنباريّ: قال اللغويون: "كِدتُ أفعل" معناه عند العرب: قاربت الفعل، ولم أفعل، و"ما كِدْتُ أفعل" معناه: فعلت بعد إبطاء، قال الأزهريّ: وهو كذلك، وشاهِدُه قوله تعالى:{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] معناه: ذبحوها بعد إبطاء؛ لتعذّر وجدان البقرة عليهم، وقد يكون "ما كِدْتُ أفعل" بمعنى ما قاربت. انتهى

(1)

.

(أَنْ أَعْذِرَهُ) فيه اقتران خبر "كاد" بـ "أن"، وهو قليل، والغالب عدم اقترانها، كالآية المذكورة، قال في "الخلاصة":

وَكَوْنُهُ بِدُونِ "أَنْ" بَعْدَ "عَسَى"

نَزْرٌ وَ"كَادَ" الأَمْرُ فِيهِ عُكِسَا

وقوله: "أعذره" بفتح أوله، أو ضمّه، وكسر الذال المعجمة؛ أي: أقبل عذره، قال الفيّوميّ رحمه الله: عَذَرْتُهُ فيما صنع عَذْرًا، من باب ضَرَب: رفعت عنه اللوم، فهو مَعْذُورٌ؛ أي: غير ملوم، والاسم: العُذْرُ، وتُضم الذال للإتباع، وتُسَكَّن، والجمع: أَعْذَارٌ، والمَعْذِرَةُ، والعُذْرَى بمعنى العُذْرِ، وأَعْذَرْتُهُ بالألف لغة، واعْتَذَرَ إليّ: طلب قبول مَعْذِرَتهِ، واعْتَذَرَ عن فعله: أظهر عُذْرَهُ، والمُعْتَذِرُ يكون محقًّا، وغير محقّ، واعْتَذَرْتُ منه بمعنى شكوته، وعَذَرَ الرجلُ، وأَعْذَرَ: صار ذا عيب، وفساد. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ قَالَ) ابن صائد بعد هذا كلّه: (أَمَا) أداة استفتاح وتنبيه، (وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُهُ)؛ أي: الدجال الموعود به، (وَأَعْرِفُ مَوْلِدَهُ، وَأَيْنَ هُوَ الآنَ؟ قَالَ) أبو سعيد لمّا سمع هذا منه: (قُلْتُ لَهُ: تَبًّا)؛ أي: هلاكًا، وخسرانًا (لَكَ سَائِرَ الْىَوْمِ) أي في باقي اليوم، أو في جميع اليوم، ونصب "تبًّا" بفعل مقدّر، فهو

(1)

"المصباح المنير" 2/ 545.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 398.

ص: 500

إما نصب على المصدر، والمعنى: تَبّ تَبًّا، أو بإضمار فعل؛ أي: ألزمك اللَّه هلاكًا وخسرانًا، وقوله:"سائر اليوم"؛ أي: في باقي الأوقات، أو في جميع الأيام، قال التوربشتيّ رحمه الله: من ذهب في "سائر" إلى البقية، فإنه غير مصيب؛ لأن الحرف من السير، لا من السور، وفي أمثالهم في اليأس من الحاجة: أسائر اليوم، وقد زال الظهر، قال الطيبيّ رحمه الله: وفيه نظر؛ لأنه قال صاحب "النهاية": السائر مهموز الباقي، والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح، وقد تكررت هذه اللفظة في الحديث، وكلها بمعنى باقي الشيء، ويدل على تصحيح ما في "النهاية" ما في "أساس البلاغة"، فإنه أورده في باب السين مع الهمزة، قائلًا: سأر الشارب في الإناء. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "تبًّا لك سائر اليوم"؛ أي: خسرانًا، وهلاكًا لك في باقي اليوم، وهو منصوب بفعل مضمر، متروك الإظهار. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "تبًّا لك سائر اليوم"؛ أي: خسارًا لك دائمًا؛ لأن اليوم هنا يراد به الزمان، و"تبًّا" منصوب بفعل مضمر، لا يُستعمل إظهاره؛ أي: لقيت تبًّا؛ أي: تبابًا، أو صادفت، أو لقّاه اللَّه تبابًا. انتهى

(3)

.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تمام البحث فيه، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7324]

(2928) - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرٌ -يَعْنِي ابْنَ مُفَضَّلٍ- عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَائِدٍ: "مَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ؟ "، قَالَ: دَرْمَكَة بَيْضَاءُ، مِسْكٌ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ:"صَدَقْتَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا في الباب الماضي، و"أبو مسلمة" هو: سعيد بن يزيد القصير البصريّ، و"أبو نضرة" هو: المنذر بن مالك.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 318.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 52.

(3)

"المفهم" 7/ 270.

ص: 501

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) الخدريّ رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِابْنِ صَائِدٍ) هو ابن صيّاد: ("مَا) استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء (تُرْبَةُ الْجَنَّةِ؟ ")؛ أي: ترابها، قَالَ:(دَرْمَكَةٌ) خبر لمحذوف؛ أي: هي درمكة، وقوله:(بَيْضَاءُ) صفة لـ "درمكة"، وقوله:(مِسْكٌ) خبر بعد خبر، (يَا أَبَا الْقَاسِمِ) قال النوويّ: قال العلماء: معناه: أنها في البياض دَرْمكة، وفي الطيب: مسك، والدَّرْمك بوزن جعفر: هو الدقيق الْحُوَّارَى الخالص البياض، وذكر مسلم الروايتين في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد عن تربة الجنة، أو ابن صياد سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال القاضي: قال بعض أهل النظر: الرواية الثانية أظهر. انتهى

(1)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "درمكة"، في "القاموس": الدَّرْمَك كجعفر: دقيق الْحُوَّارَى، والتراب الناعم، وقوله:"بيضاء" صفة مؤكدة، وفي "النهاية": الدرمكة: الدقيق الْحُوَّارَى، شبّه تربة الجنة بها؛ لبياضها، ونعومتها، وبالمسك لطيبها. انتهى، ويقال: دقيقٌ حُوَّارَى، بضم الحاء، وتشديد الواو، وفتح الراء: هو ما حُوِّر؛ أي: بُيِّض من الطعام. انتهى

(2)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("صَدَقْتَ") تصديق منه صلى الله عليه وسلم لابن صياد حيث أخبر بالواقع، ولعله سمع مما في التوراة؛ لأنه يهوديّ، ثم إن الرواية التالية عكست القصّة، فجعلت السائل هو ابن صيّاد، والمسؤول هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المناسب، كما استظهره بعضهم؛ لأنه أليق بجنابه صلى الله عليه وسلم، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف،) هنا [19/ 7324 و 7325](2928)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 4 و 24 و 25 و 43)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 28)،

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 52.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 50.

ص: 502

و (أبو يعلى) في "مسنده"(2/ 422)، و (عبد بن حميد) في "مسنده"(876)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7325]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ ابْنَ صَيَّادٍ، سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ تُرْبَةِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: "دَرْمَكَةٌ بَيْضَاءُ مِسْكٌ خَالِصٌ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم ذُكروا في الباب، وقبله، والحديث من أفراد المصنّف، وقد سبق شرحه، وبيان مسألتيه قبله.

وقوله: (مسك) خبر ثان، و (خالص) صفة له.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7326]

(2929) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَحْلِفُ بِاللَّهِ، أَنَّ ابْنَ صَائِدٍ الدَّجَّالُ، فَقُلْتُ: أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ، يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ، عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ) البصريّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(أَبُوهُ) معاذ بن معاذ العنبريّ البصريّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الزهريّ المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ) بن عبد اللَّه بن الْهُدير بالتصغير التيميّ المدنيّ، ثقةٌ فاضلٌ [3](ت 130) أو بعدها (ع) تقدم في "الطهارة" 11/ 584.

والباقيان ذُكرا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سداسيّات المصنّف رحمه الله، وأن نصفه الأول مسلسلٌ بالبصريين، والثاني بالمدنيين، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وقال في "الفتح": رواية سعد

ص: 503

عن ابن المنكدر من رواية الأقران لأنه من طبقته

(1)

، وفيه جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أحد المكثرين السبعة، روى (1540) حديثًا.

[فائدة]: قال الحافظ رحمه الله: أخرج مسلم حديث الباب عن عبيد اللَّه بن معاذ بلا واسطة، وهو أحد الأحاديث التي نزل فيها البخاريّ عن مسلم، أخرجها مسلم عن شيخ، وأخرجها البخاريّ بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ، وهي أربعة أحاديث، ليس في الصحيح غيرها بطريق التصريح، وفيه عدّة أحاديث نحو الأربعين، مما يتنزل منزلة ذلك، قال: وقد أفردتها في جزء، جمعت ما وقع للبخاريّ من ذلك، فكان أضعاف أضعاف ما وقع لمسلم، وذلك أن مسلمًا في هذه الأربعة باق على الرواية عن الطبقة الأولى، أو الثانية من شيوخه، وأما البخاريّ، فإنه نزل فيها عن طبقته العالية بدرجتين.

مثال ذلك من هذا الحديث: أن البخاريّ إذا روى حديث شعبة عاليًا كان بينا، وبينه راو واحد، وقد أدخل بينه وبين شعبة فيه ثلاثة، وأما مسلم فلا يروي حديث شعبة بأقُل من واسطتين.

والحديث الثاني من الأربعة مضى في تفسير "سورة الأنفال"، أخرجه عن أحمد، وعن محمد بن النضر النيسابوريينّ، عن عبيد اللَّه بن معاذ أيضًا، عن أبيه، عن شعبة بسند آخر، وأخرجه مسلم عن عبيد اللَّه بن معاذ نفسه.

والحديث الثالث: أخرجه في آخر "المغازي" عن أحمد بن الحسن الترمذيّ، عن أحمد بن حنبل، عن معتمر بن سليمان، عن كهمس بن الحسن، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه، في عدد الغزوات، وأخرجه مسلم عن أحمد بن حنبل، بهذا السند، بلا واسطة.

والحديث الرابع: وقع في "كتاب كفارة الأيمان" عن محمد بن عبد الرحيم، وهو الحافظ المعروف بصاعقة، عن داود بن رشيد، عن الوليد بن مسلم، عن أبي غسّان محمد بن مطرّف، عن زيد بن أسلم، عن علي بن الحسين بن علي بن سعيد بن مُرجانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه في فضل العتق. وأخرجه مسلم عن داود بن رُشيد نفسه، وهذا مما نزل فيه البخاريّ عن طبقته

(1)

"الفتح" 17/ 251.

ص: 504

درجتين؛ لأنه يروي حديث ابن غسّان بواسطة واحدة، كسعيد بن أبي مريم، وهنا بينهما ثلاث وسائط، وقد أشرت لكل حديث من هذه الأربعة في موضعه، وجمعتها هنا تتميمًا للفائدة. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ) التابعيّ الكبير، روى عنه الثوريّ، ومالك، وغيرهما، وهو ممن جمع بين العلم، والزهد، والعبادة؛ أنه (قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَحْلِفُ)؛ أي: شاهدته حين حلف (بِاللَّهِ أَنَّ) بفتح الهمزة على تقدير الجارّ؛ أي: على أن إلخ، (ابْنَ صَائِدٍ) بوزن ظالم، وفي رواية عند البخاريّ:"إن ابن الصيّاد"، قال في "الفتح": كذا لأبي ذرّ بصيغة المبالغة، ووقع عند ابن بطال مثله، لكن بغير ألف ولام، وقوله:(الدَّجَّالُ) خبر "إن"، قال ابن المنكدر:(فَقُلْتُ) لجابر: (أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ) على أن ابنٍ صائد هو الدجّال؟؛ أي: أتحلف مع أنه أمر مظنون، غير مجزوم به؟ (قَالَ) جابر رضي الله عنه مبيّنًا متمسّكه:(إنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ) بن الخطّاب رضي الله عنه (يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ)؛ أي: على كون ابن صائد هو الدجّال، (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فسمعه (فَلَمْ يُنْكِرْهُ)؛ أي: حَلِفه على ذلك، (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم)، فثبت لديّ بذلك أنه هو، قال في "العمدة": وإنما حلف عمر رضي الله عنه بالظنّ، ولعله سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو فهمه بالعلامات والقرائن.

[فإن قلت]: جاء في خبره أن عمر رضي الله عنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: دَعْني أضرب عنقه، فقال:"إن يكن هو فلن تسلَّط عليه، وإن لم يكن فلا خير لك في قتله"، فهذا يدلّ على شكه فيه، وترك القطع عليه أنه الدجال.

[قلت]: يمكن أن يكون هذا الشك منه كان متقدمًا على يمين عمر بأنه الدجال، ثم أعلمه اللَّه تعالى أنه الدجال.

وجواب آخر أن الكلام، وإن خرج مخرج الشك، فقد يجوز أن يراد به

(1)

"الفتح" 17/ 250 - 251، "كتاب الاعتصام" رقم (7355).

ص: 505

اليقين والقطع، كقوله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، وقد عَلِم اللَّه تعالى أن ذلك لا يقع منه، فإنما خرج هذا منه على المتعارف عند العرب في مخاطبتها، قال الشاعر [من الطويل]:

أَيَا ظَبْيَةَ الْوَعْسَاءِ بَيْنَ جَلاجِلٍ

(1)

وَبَيَنَ النَّقَا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سَالِمِ

(2)

وقال القاري رحمه الله: قوله: "سمعت عمر يحلف على ذلك"؛ أي: على أن ابن الصياد الدجال عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فلم ينكره النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ أي: ولو لم يكن صحيحًا لأنكره، ولَمَا سكت عنه، قيل: لعل عمر أراد بذلك أن ابن الصياد من الدجالين الذين يخرجون، فيدّعون النبوة، أو يُضلون الناس، ويَلبِسون الأمر عليهم، لا أنه المسيح الدجال؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم تردد حيث قال:"إن يكن هو، وإن لم يكن هو"، ولكن فيه أن الظاهر المتبادَر من إطلاق الدجال هو الفرد الأكمل، فالوجه حَمْل يمينه على الجواز عند غلبة الظن، واللَّه تعالى أعلم

(3)

.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7326](2929)، و (البخاريّ) في "الاعتصام"(7355)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4331)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): أنه استدلّ به جماعة على جواز اليمين بالظنّ، وأنه لا يشترط فيها اليقين، قال النوويّ رحمه الله: وهذا متفق عليه عند أصحابنا، حتى لو رأى بخط أبيه الميت أن له عند زيد كذا، وغلب على ظنه أنه خطه، ولم يتيقن جاز الحلف على استحقاقه. انتهى

(4)

.

2 -

(ومنها): أن البخاريّ رحمه الله احتجّ به على أن ترك النبيّ صلى الله عليه وسلم الإنكار

(1)

بالفتح اسم موضع.

(2)

"عمدة القاري شرح صحيح البخاريّ" 35/ 471.

(3)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 53.

(4)

"شرح النوويّ" 18/ 53.

ص: 506

على شيء حجةٌ، فقال: "باب من رأى ترك النكير

(1)

من النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة"، قال في "الفتح": وقد اتفقوا على أن تقرير النبيّ صلى الله عليه وسلم لِمَا يُفعل بحضرته، أو يقال، وَيطّلع عليه بغير إنكار قال على الجواز؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يَحْتَمِل في حق غيره مما يترتب على الإنكار، فلا يقرّ على باطل، فمن ثم قال: لا من غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن سكوته لا يدل على الجواز، وأشار ابن التين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتيّ، وإن الناس اختلفوا، فقالت طائفة: لا يُنسب لساكت قول؛ لأنه في مهلة النظر، وقالت طائفة: إن قال المجتهد قولًا وانتشر لم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه، فهو حجة، وقيل: لا يكون حجة، حتى يتعدد القيل به، ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نصّ كتاب، أو سُنَّة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النصّ، واحتج من منع مطلقًا أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية، فمنهم من كان يُنكر على غيره، إذا كان القول عنده ضعيفًا، وكان عنده ما هو أقوى منه من نصّ كتاب أو سُنَّة، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلًا على الجواز؛ لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم، فسكت، لتجويز أن يكون ذلك القول صوابًا، وإن لم يظهر له وجهه. انتهى

(2)

.

3 -

(ومنها): أن جابرًا رضي الله عنه لمّا سمع عمر رضي الله عنه يحلف عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكر عليه فهم منه جواز العمل به، ولكن بقي أن شرط العمل بالتقرير أن لا يعارضه التصريح بخلافه، فمن قال، أو فعل بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم شيئًا فأقرّه دلّ ذلك على الجواز، فإن قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أو فَعَل خلاف ذلك دل على نَسْخ ذلك التقرير، إلا إن ثبت دليل الخصوصية.

قال ابن بطال رحمه الله بعد أن قرر دليل جابر رضي الله عنه، فإن قيل: تقدم أن عمر رضي الله عنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد: دعني أضرب عنقه، فقال:"إن يكن هو فلن تسلَّط عليه"، فهذا صريح في أنه تردد في أمره؛ يعني: فلا يدل سكوته عن إنكاره عند حَلِف عمر على أنه هو، قال: وعن ذلك جوابان:

(1)

النكير -بفتح النون، وزن عظيم-: المبالغة في الإنكار.

(2)

"الفتح" 17/ 249 - 255، "كتاب الاعتصام" رقم (7355).

ص: 507

أحدهما: أن الترديد كان قبل أن يُعلمه اللَّه تعالى بأنه هو الدجال، فلما أعلمه لم يُنكر على عمر حَلِفه.

والثاني: أن العرب قد تُخرج الكلام مخرج الشكّ، وإن لم يكن في الخبر شك، فيكون ذلك من تلطّف النبيّ صلى الله عليه وسلم بعمر في صرفه عن قتله. انتهى ملخصًا

(1)

.

4 -

(ومنها): أن البيهقيّ رحمه الله أجاب عن قصة ابن صياد بعد أن ذكر ما أخرجه أبو داود من حديث أبي بكرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يمكث أبَوَا الدجال ثلاثين عامًا لا يولد لهما، ثم يولد لهما غلام أعور، أضرّ شيء، وأقله نفعًا، ونَعَتَ أباه وأمه، قال: فسمعنا بمولود وُلد في اليهود، فذهبت أنا والزبير بن العوام، فدخلنا على أبويه، فإذا النعتُ، فقلنا: هل لكما من ولد؟ قالا: مكثنا ثلاثين عامًا لا يولد لنا، ثم وُلد لنا غلام أضرّ شيء، وأقله نفعًا. . . " الحديث.

قال البيهقيّ: تفرّد به عليّ بن زيد بن جُدعان، وليس بالقويّ.

قال الحافظ: ويوهي حديثه أن أبا بكرة إنما أسلم لمّا نزل من الطائف حين حوصرت سنة ثمان من الهجرة.

وفي حديث ابن عمر الذي في "الصحيحين" أنه صلى الله عليه وسلم لمّا توجه إلى النخل التي فيها ابن صياد كان ابن صياد يومئذٍ كالمحتلم، فمتى يدرك أبو بكرة زمان مولده بالمدينة، وهو لم يسكن المدينة إلا قبل الوفاة النبوية بسنتين؟ فكيف يتأتى أن يكون في الزمن النبويّ كالمحتلم؟ فالذي في "الصحيحين" هو المعتمَد، ولعل الوهم وقع فيما يقتضي تراخي مولد ابن صياد أو لا وَهْم فيه، بل يَحْتَمِل قوله: بلغنا أنه وُلد لليهود مولود على تأخر البلاغ، وإن كان مولده كان سابقًا على ذلك بمدة، بحيث يأتلف مع حديث ابن عمر الصحيح.

ثم قال البيهقيّ: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبيّ صلى الله عليه وسلم على حَلِف عمر، فيَحْتَمِل أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم كان متوقفًا في أمره، ثم جاءه المثبت من اللَّه تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداريّ، وبه تمسّك من جزم

(1)

"شرح البخاريّ" لابن بطال 10/ 386.

ص: 508

بأن الدجال غير ابن صياد، وطريقه أصحّ، وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال.

ثم أورد حديث فاطمة بنت قيس الآتي لمسلم في قصة تميم الداريّ، قال البيهقيّ: فيه أن الدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم، وكأن الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلا فالجمع بينهما بعيد جدًّا؛ إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شِبْه المحتلم، ويجتمع به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويسأله أن يكون في آخرها شيخًا كبيرًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر، موثقًا بالحديد، يستفهم عن خبر النبيّ هل خرج أو لا؟ فالأَولى أن يُحْمَل على عدم الاطلاع، أما عمر فيَحْتَمِل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصة تميم، ثم لمّا سمعها لم يَعُد إلى الحَلِف المذكور، وأما جابر فشهد حَلِفه عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستصحب ما كان اطلع عليه من عمر بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، لكن أخرج أبو داود من رواية الوليد بن عبد اللَّه بن جُميع، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر، فذكر قصة الجساسة والدجال بنحو قصة تميم، قال: قال -أي: الوليد-: فقال لي ابن أبي سلمة: إن في هذا شيئًا ما حفظته، قال: شهد جابر أنه ابن صياد، قلت: فإنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم، قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة. انتهى.

وابن أبي مسلمة اسمه عمر فيه مقال، ولكن حديثه حسن، ويُتَعقَّب به على من زعم أن جابرًا لم يطّلع على قصة تميم. انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: يتبيّن مما قرّره البيهقيّ رحمه الله فيما مضى من تحقيقه أن ابن صيّاد غير الدجال الموعود به آخر الزمان، لكنه أحد الدجاجلة الذين شملهم قوله صلى الله عليه وسلم:"وإن بين يدي الساعة دجالين، كذابين، قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه نبيّ"، فهو منهم يقينًا، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أنه قد تكلم ابن دقيق العيد رحمه الله على مسألة التقرير في أوائل "شرح الإلمام"، فقال ما ملخّصه: إذا أُخبر بحضرة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعيّ، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلًا على مطابقة ما في الواقع،

ص: 509

كما وقع لعمر في حَلِفه على ابن صياد هو الدجال، فلم ينكر عليه، فهل يدلّ عدم إنكاره على أن ابن صياد هو الدجال، كما فهمه جابر، حتى صار يحلف عليه، ويستند إلى حلف عمر، أو لا يدلّ؟ فيه نظرٌ، قال: والأقرب عندي أنه لا يدلّ؛ لأن مأخذ المسألة، ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة، إلا أن يدعي مُدّع أنه يكفي في وجوب البيان عدم تحقق الصحة، فيحتاج إلى دليل، وهو عاجز عنه، نَعَم التقرير يسوّغ الحَلِف على ذلك، على غلبة الظنّ؛ لعدم توقف ذلك، على العلم. انتهى ملخصًا.

قال الحافظ: ولا يلزم من عدم تحقق البطلان أن يكون السكوت مستوي الطرفين، بل يجوز أن يكون المحلوف عليه من قِسم خلاف الأَولى. انتهى

(1)

.

(المسألة الرابعة): قال الخطابيّ رحمه الله: اختَلَف السلف في أمر ابن صياد بعد كِبَره، فروي أنه تاب من ذلك القول، ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس، وقيل لهم: اشهدوا.

وقال النوويّ: قال العلماء: قصة ابن صياد مشكلة، وأمره مشتبه، لكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه في أمره بشيء، وإنما أُوحي إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء، بل قال لعمر:"لا خير لك في قتله"، الحديث.

وأما احتجاجاته هو بأنه مسلم إلى سائر ما ذَكَر، فلا دلالة فيه على دعواه؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما أخبر عن صفاته وقت خروجه آخر الزمان، قال: ومن جملة ما في قصته قوله للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول اللَّه، وقوله: إنه يأتيه صادق وكاذب، وقوله: إنه تنام عينه، ولا ينام قلبه، وقوله: إنه يرى عرشًا على الماء، وأنه لا يكره أن يكون الدجالَ، وأنه يعرفه، ويعرف مولده، وموضعه، وأين هو الآن.

قال: وأما إسلامه، وحجه، وجهاده، فليس فيه تصريح بأنه غير الدجال؛

(1)

"الفتح" 17/ 249 - 250.

ص: 510

لاحتمال أن يُختم له بالشرّ، فقد أخرج أبو نعيم الأصبهاني في "تاريخ أصبهان" ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال، فساق من طريق شُبيل -بمعجمة، وموحدة، مصغرًا، آخره لام -ابن عرزة -بمهملة، ثم زاي، بوزن ضَرْبة- عن حسان بن عبد الرحمن، عن أبيه قال:"لمّا افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهودية فرسخ، فكنا نأتيها، فنمتار منها، فأتيتها يومًا، فإذا اليهود يزفنون، ويضربون، فسألت صديقًا لي منهم، فقال: مَلِكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبِتُّ عنده على سطح، فصليت الغداة، فلما طلعت الشمس، إذ الرهج من قبل العسكر، فنظرت، فإذا رجل عليه قبة من ريحان، واليهود يزفنون، ويضربون، فنظرت، فإذا هو ابن صياد، فدخل المدينة، فلم يَعُدْ حتى الساعة".

قال الحافظ: وعبد الرحمن بن حسان ما عرفته، والباقون ثقات.

وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر، قال:"فقدنا ابن صياد يوم الحرّة"، وبسند حسن مضى التنبيه عليه، فقيل: إنه مات.

قال الحافظ: وهذا يُضعف ما تقدم أنه مات بالمدينة، وأنهم صلوا عليه، وكشفوا عن وجهه، ولا يلتئم خبر جابر هذا مع خبر حسان بن عبد الرحمن؛ لأن فتح أصبهان كان في خلافة عمر، كما أخرجه أبو نعيم في "تاريخه"، وبين قَتْل عمر، ووقعة الحرّة نحو أربعين سنة.

ويمكن الحمل على أن القصة إنما شاهدها والد حسان بعد فتح أصبهان بهذه المدة، ويكون جواب لِمَا في قوله: لمّا افتتحنا أصبهان محذوفًا، تقديره: صوت أتعاهدها، وأتردد إليها، فَجَرَتْ قصة ابن صياد، فلا يتّحد زمان فَتْحها وزمان دخول ابن صياد فيها.

وقد أخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعًا: "إن الدجال يخرج من أصبهان"، ومن حديث عمران بن حصين، أخرجه أحمد بسند صحيح، عن أنس، لكن عنده من يهودية أصبهان.

قال أبو نعيم في "تاريخ أصبهان": كانت اليهودية من جملة قُرى أصبهان، وإنما سمّيت اليهودية؛ لأنها كانت تختص بسكنى اليهود، قال: ولم تزل على ذلك إلى أن مصّرها أيوب بن زياد أمير مِصْر في زمن المهديّ ابن

ص: 511

المنصور، فسكنها المسلمون، وبقيت لليهود منها قطعة منفردة.

وأما ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "قال: يتبع الدجال سبعون ألفًا من يهود أصبهان"، فلعلها كانت يهودية أصبهان يريد: البلد المذكور؛ لا أن المراد جميع أهل أصبهان يهود، وأن القَدْر الذي يتبع الدجال منهم سبعون ألفًا.

قال الحافظ رحمه الله بعد أن ذكر في هذا الموضع كثيرًا من الآثار ما محصّله: ولشدة التباس الأمر في ذلك سلك البخاريّ مسلك الترجيح، فاقتصر على حديث جابر، عن عمر، في ابن صياد، ولم يُخرج حديث فاطمة بنت قيس في قصة تميم، وقد توهّم بعضهم أنه غريب فَرْد، وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس أبو هريرة، وعائشة، وجابر.

أما حديث أبي هريرة: فأخرجه أحمد من رواية عامر الشعبيّ عن المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه بطوله، وأخرجه أبو داود مختصرًا، وابن ماجه عقب رواية الشعبيّ عن فاطمة، قال الشعبيّ: فلقيت المحرر، فذكره، وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر، بن أبي هريرة:"قال: استوى النبيّ صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: حدّثني تميم، فرأى تميمًا في ناحية المسجد، فقال: يا تميم حدّث الناس بما حدثتني. . . " فذكر الحديث -وفيه-: "فإذا أحد منخريه ممدود، وإحدى عينيه مطموسة. . . " الحديث -وفيه-: "لأطأن الأرض بقدميَّ هاتين إلى مكة وطابا".

وأما حديث عائشة: فهو في الرواية المذكورة عن الشعبيّ، قال: ثم لقيت القاسم بن محمد، فقال: أشهد على عائشة حدّثتني كما حدثتك فاطمة بنت قيس.

وأما حديث جابر: فأخرجه أبو داود بسند حسن، من رواية أبي سلمة، عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم على المنبر: "إنه بينما أناس يسيرون في البحر، فنفد طعامهم، فرُفعت لهم جزيرة، فخرجوا يريدون الخبر، فلقيتهم الجساسة"، فذكر الحديث، وفيه سؤالهم عن نخل بيسان، وفيه أن جابرًا شهد أنه ابن صياد، فقلت: إنه قد مات، قال: وإن مات، قلت: فإنه أسلم، قال: وإن أسلم، قلت: فإنه دخل المدينة، قال: وإن دخل المدينة.

ص: 512

وفي كلام جابر إشارة إلى أن أمره مُلبس، وأنه يجوز أن يكون ما ظهر من أمره إذ ذاك لا ينافي ما تُوُقِّع منه بعد خروجه في آخر الزمان.

وقد أخرج أحمد من حديث أبي ذرّ: "لأن أحلف عشر مرار أن ابن صياد هو الدجال، أحب إليّ من أن أحلف واحدة أنه ليس هو"، وسنده صحيح.

ومن حديث ابن مسعود نحوه، لكن قال:"سبعًا" بدل "عشر مرات"، أخرجه الطبرانيّ، واللَّه أعلم

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم أن القول الراجح في شأن ابن صيّاد أنه ليس هو الدجال الموعود به آخر الزمان، لكنه دجال من الدجاجلة، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7327]

(2930 و 2931) - (حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَهْطٍ، قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدَهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ، حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لابْنِ صَيَّادٍ:"أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمَيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ فَرَفَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ:"آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَبِرُسُلِهِ"، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاذَا تَرَى؟ "، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ"، ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا"، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ذَرْنِي

(1)

"الفتح" 17/ 257 - 258.

ص: 513

يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ". وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الأَنَّصَارِيُّ إِلَى النَّخْلِ الَّتِي فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ، طَفِقَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشٍ، فِي قَطِيفَةٍ لَهُ، فِيهَا زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَتَّقِي بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ، وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ"، قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ

(1)

، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ:"إِنِّي لأُنْذِرُكُمُوهُ، مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ، تَعَلَّمُوا أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى لَيْس بِأَعْوَرَ"، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حَذَّرَ النَّاسَ الدَّجَّالَ: "إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ، أَوْ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ"، وَقَالَ: "تَعَلَّمُوا

(2)

أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ").

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد تقدّم هذا الإسناد نفسه في الباب الماضي، فتنبّه.

[تنييه]: قال الحافظ أبو عليّ الجيّاني في "تقييده": وقع هذا الإسناد في رواية أبي العلاء بن ماهان منقطعًا، ذكره عن الزهريّ، عن سالم، أن عمر بن الخطّاب، لم يذكر فيه عبد اللَّه بن عمر، والصواب قول من أسند. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما أشار إليه الجيّاني رحمه الله أنه وقع

(1)

وفي نسخة: "بما هو أهل".

(2)

وفي نسخة: "تعلمون".

(3)

"تقييد المهمل" 3/ 933.

ص: 514

اختلاف بين رواة "صحيح مسلم"، فرواه جمهورهم متّصلًا، فقالوا: "عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد اللَّه، عن عبد اللَّه بن عمر، أن عمر بن الخطّاب إلخ، وانفرد ابن ماهان، فأسقط ابن عمر، فجعله عن سالم أن عمر بن الخطاب، وهو منقطع؛ لأن سالمًا لم يشهد القصّة، والصواب قول الجمهور، فالحديث متّصل صحيح، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ)؛ أنه (أَخْبَرَهُ)؛ أي: أخبر ابن شهاب، (أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ عُمَرَ) رضي الله عنهما (أَخبَرَهُ)؛ أي: أخبر سالمًا، (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه (انْطَلَقَ)؛ أي: ذهب (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث فيه ثلاث قصص، هذه أولها، وقد ساقها مسلم هنا مساقًا واحدًا، وأما البخاريّ فقد ساقها في "الجهاد" تامّة، وقطعها في أبواب أخرى

(1)

. (فِي رَهْطٍ) هو: ما دون عشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة، وسكون الهاء أفصح من فتحها، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: الرَّهْطُ: من سبعة إلى عشرة، وما دون السبعة إلى الثلاثة نفر، وقال أبو زيد: الرَّهْطُ، والنَّفَرُ: ما دون العشرة من الرجال، وقال ثعلب أيضًا: الرَّهْطُ، وَالنَّفَرُ، وَالقَوْمُ، وَالمَعْشَرُ، وَالعَشِيرَةُ معناهم الجمع، لا واحد لهم من لفظهم، وهو للرجال دون النساء، وقال ابن السكيت: الرَّهْطُ، وَالْعَشِيرَةُ بمعنى، ويقال: الرَّهْطُ: ما فوق العشرة إلى الأربعين، قاله الأصمعيّ في "كتاب الضاد والظاء"، ونقله ابن فارس أيضًا، ورَهْطُ الرجل: قومه، وقبيلته الأقربونَ، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(2)

.

وفي الرواية التالية: "انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"، (قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ) بكسر القاف، وفتح الموحّدة؛ أي: جهته.

قال القرطبيّ رحمه الله: ويقال: ابن صائد، واسمه صاف، وكل ذلك في

(1)

راجع: "الفتح" 7/ 305 رقم (3055).

(2)

"المصباح المنير" 1/ 241، 242.

ص: 515

الحديث. قال الواقديّ: نَسَبه في بني النجار، وقيل: هو من اليهود، وكانوا حلفاء بني النجار، وكانت حاله في صغره حالة الكهّان يصدق مرَة، ويكذب مرارًا، ثم إنه أسلم لمّا كَبِر، وظهرت منه علامة الخير، من الحج، والجهاد مع المسلمين، ثم ظهرت منه أحوال، وسُمعت منه أقوال تشعر بأنه الدجال، وبأنه كافر، فقيل: إنه تاب، ومات بالمدينة، ووُقف على عينه هناك، وقيل: بل فُقد في يوم الحرّة، ولم يوقف عليه، وكان جابر، وابن عمر رضي الله عنهم يحلفان أنه الدجال، لا يشكان فيه، وعلى الجملة فأمره كله مُشْكِل على الأمة، وهو فتنة، ومحنة. انتهى

(1)

.

(حَتَّى وَجَدَهُ) قيل: "حتى" هنا حرف ابتداء، يُستأنف بعده الكلام، ويفيد انتهاء الغاية، وقوله:(يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ) بكسر الصاد، وضمها، حال من مفعول "وجده". (عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ) بفتح الميم، والغين المعجمة، ونُقل: معاوية بالضم، والعين المهملة، وهم بطن من الأنصار، "والأطم" بضمّ، وبضمتين: القصر، وكل حصن مبني بحجارة، وكل بيت مربع مسطح، والجمع: آطام، وأطوم، كذا في "القاموس"

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "عند أطم بني مغالة" هكذا هو في بعض النسخ "بني مغالة"، وفي بعضها:"ابن مغالة"، والأول هو المشهور، و"المغالة" بفتح الميم، وتخفيف الغين المعجمة، وذكر مسلم في رواية الحسن الحلوانيّ التي بعد هذه أنه "أطم بني معاوية" بضم الميم، وبالعين المهملة، قال العلماء: المشهور المعروف هو الأول، قال القاضي:"وبنو مغالة" كلُّ ما كان على يمينك إذا وقفت آخر البلاط، مستقبل مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، و"الأطم" بضم الهمزة والطاء: هو الحصين، جَمْعه: آطام. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: ويروى: "أطم ابن مغالة"، و"بني مغالة"، وكلاهما صحيح، وبنو مغالة بغين معجمة، وفي حديث ابن حميد، وفي حديث الحلواني: بني معاوية، والأول المعروف، وبنو مغالة: كل ما كان عن يمينك

(1)

"المفهم" 7/ 262، 263.

(2)

"القاموس المحيط" ص 51 - 52.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 53.

ص: 516

إذا وقفت آخر البلاط مستقبل مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبنو جَدِيلة ما كان عن يسارك، ومسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم في بني مغالة، قاله الزبير. وقال بعضهم: بنو مغالة حيّ من قضاعة، وبنو معاوية: هم بنو جَدِيلة. انتهى

(1)

.

(وَقَدْ قَارَبَ) جملة في محلّ نصب على الحال، (ابْنُ صَيَّادٍ يَوْمَئِذٍ الْحُلُمَ) بضمتين، أو بضمّ، فسكون؛ أي: البلوغ بالاحتلام وغيره، (فَلَمْ يَشْعُرْ) بضم العين، وفيه إشعار بأنهم جاؤوه على غفلة منه؛ أي: لم يتفطن بإتيانهم إليه، (حَتَّى ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ظَهْرَهُ)؛ أي: ظهر ابن صيّاد (بِيَدِهِ) الكريمة، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لِابْنِ صَيَّادٍ: "أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ "، فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيِّينَ) قال القاضي رحمه الله: يريد بهم العرب؛ لأن أكثرهم كانوا لا يكتبون، ولا يقرؤون، وما ذكره وإن كان حقًّا من قِبَل المنطوق، لكنه يشعر بباطل من حيث المفهوم، وهو أنه مخصوص بالعرب غير مبعوث إلى المعجم، كما زعمه بعض اليهود، وهو إن قصد به ذلك فهو من جملة ما يُلقي إليه الكاذب الذي يأتيه، وهو شيطانه. انتهى.

ويمكن أن يكون مسموعه من اليهود؛ لأنه منهم، أو هذا منه على طريقة الحكماء في زعمهم أنهم يستغنون عن الأنبياء، قاله القاري رحمه الله

(2)

.

وقال في "الفتح": فيه إشعار بأن اليهود الذين كان ابن صياد منهم كانوا معترفين ببعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لكن يدّعون أنها مخصوصة بالعرب، وفساد حجتهم واضح جدًّا؛ لأنهم إذا أقروا بأنه رسول اللَّه استحال أن يكذب على اللَّه، فإذا ادّعى أنه رسوله إلى العرب وإلى غيرها تعيَّن صِدقه، فوجب تصديقه. انتهى

(3)

.

(فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟) وفي حديث أبي سعيد عند الترمذيّ: "فقال: أتشهد أنت أني رسول اللَّه؟ "، (فَرَفَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر نُسخ بلادنا: "فرفضه"

(1)

"المفهم" 7/ 263.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

(3)

"الفتح" 7/ 305.

ص: 517

بالضاد المعجمة، وقال القاضي: روايتنا فيه عن الجماعة بالصاد المهملة، قال بعضهم: الرفص بالصاد المهملة: الضرب بالرجل، مثل الرفس بالسين، قال: فإن صحّ هذا فهو معناه، قال: لكن لم أجد هذه اللفظة في أصول اللغة، قال: ووقع في رواية القاضي التميميّ: "فرفضه" بضاد معجمة، وهو وَهَمٌ، قال: وفي البخاريّ من رواية المروزيّ: "فرقصه" بالقاف، والصاد المهملة، ولا وجه له، وفي البخاريّ في "كتاب الأدب":"فرفضه" بضاد معجمة، قال: ورواه الخطابيّ في غريبه: "فرصّه" بصاد مهملة؛ أي: ضَغَطَه حتى ضَمَّ بعضه إلى بعض، ومنه قوله تعالى:{بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].

قال النوويّ: ويجوز أن يكون معنى "رفضه" بالمعجمة؛ أي: ترك سؤاله الإسلام؛ ليأسه منه حينئذٍ، ثم شرع في سؤاله عما يرى، واللَّه أعلم. انتهى

(1)

.

وقال في "الفتح": قوله: "فرفضه" للأكثر بالضاد المعجمة؛ أي: تركه، قال الزين ابن الْمُنَيِّر: أنكرها القاضي، ولبعضهم بالمهملة؛ أي: دفعه برجله، قال عياض: كذا في رواية أبي ذرّ عن غير المستملي، ولا وجه لها، قال المازريّ: لعله رفسه بالسين المهملة؛ أي: ضربه برجله، قال عياض: لم أجد هذه اللفظة في جماهير اللغة، يعني بالصاد، قال: وقد وقع في رواية الأصيليّ بالقاف بدل الفاء، وفي رواية عبدوس:"فوقصه" بالواو والقاف. انتهى

(2)

.

(وَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَبِرُسُلِهِ") قال الطيبيّ رحمه الله: هو عطف على "فرصّه"، والكلام خارج على إرخاء العِنان؛ أي: آمنت باللَّه ورسله، فتفكر، هل أنت منهم؟ انتهى.

قال القاري: وفيه إيهام تجويز التردد في كونه من الرسل أم لا، ولا يخفى فساده، فالصواب أنه عمل بالمفهوم، كما فعله الدجال، فالمعنى: إني آمنت برسله، وأنت لست منهم، فلو كنت منهم لآمنت بك، وهذا أيضًا على الفرض والتقدير، أو قبل أن يعلم أنه خاتم النبيين، وإلا فبعد العلم بالخاتميّة فلا يجوز أيضًا الفرض والتقدير به، وقد صرّح بعض العلماء بأنه لو ادعى أحد

(1)

"شرط النوويّ" 18/ 54.

(2)

"الفتح" 4/ 137، "كتاب الجنائز" رقم (1354).

ص: 518

النبوة، فطلب منه شخص المعجزة كفر، وإنما لم يقتله مع أنه ادعى بحضرته النبوة؛ لأنه صبي، وقد نُهي عن قتل الصبيان، أو أن اليهود كانوا يومئذٍ مستمسكين بالذمة، مصالحين أن يُتركوا على أمرهم، وهو منهم، أو من حلفائهم، فلم تكن ذمة ابن الصياد لِتُنْقَض بقوله الذي قال، كذا قاله بعضهم.

وقال بعضهم: هذا يدل على أن عهد الوالد يجزئ عن ولده الصغير، وقيل: إنه ما ادعى النبوة صريحًا؛ لأن قوله: "أتشهد" استفهام لا تصريح فيه

(1)

.

(ثُمَّ قَالَ لَهُ)؛ أي: لابن صيّاد، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"مَاذَا تَرَى؟)؛ "ذا" زائدة، و"ما" استفهامية، أي ما تبصر وتُكاشف من الأمر الغيبي؟ انتهى.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: "ذا" زائدة، هذا أحد وجهيها، وهو أن تكون "ذا" ملغاة مركبة مع "ما"، والثاني أن تكون موصولة بمعنى "الذي"، وإلى هذا الوجهين أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَمِثْلُ "مَا""ذَا" بَعْدَ "مَا" اسْتِفْهَامِ

أَوْ "مَنْ" إِذَا لَمْ تُلْغَ فِي الْكَلَامِ

(قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: يَأْتِينِي صَادِقٌ)؛ أي: تارة يأتينى خبر صادق، أو مخبر صادق، (وَ) تارة يأتيني خبر (كَاذِبٌ) أو مخبر كاذب، وقال القاري: أي خبر صادق تارةً، وكاذب؛ أي: أخرى، أو مَلِك صادق، وشيطان كاذب، وقيل: حاصل السؤال أن الذي يأتيك ما يقول لك؟ ومجمل الجواب أنه يحدثني بشيء قد يكون صادقًا، وقد يكون كاذبًا

(2)

.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خُلِّطَ عَلَيْكَ الأَمْرُ") ببناء الفعل للمفعول، مشدّدًا للمبالغة والتكثير، ويجوز تخفيفه؛ أي: شُبِّه عليك الأمر؛ أي: الكذب بالصدق، قال النوويّ رحمه الله: أي ما يأتيك به شيطانك مخلَّط، قال الخطابيّ: معناه أنه كان له تارات يصيب في بعضها، ويخطئ في بعضها، فلذلك التبس عليه الأمر.

(ثُمَّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ)؛ أي: أخفيت، وأضمرت

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

ص: 519

(لَكَ) في نفسي (خَبِيئًا")؛ أي: شيئًا مُضمَرًا لتخبرني به، وفي رواية للبخاريّ:"إني، قد خبأت لك خِبْئًا". قال في "الفتح": "خبئًا" بكسر الخاء المعجمة، وبفتحها، وسكون الموحّدة، بعدها همز، وبفتح المعجمة، وكسر الموحدة، بعدها تحتانية ساكنة، ثم همز؛ أي: أخفيت لك شيئًا. انتهى.

قيل: إنما امتحنه بذلك ليُظهر إبطال حاله للصحابة، وأنه كاهن يأتيه الشيطان، فيلقي على لسانه، زاد في رواية أبي داود، والترمذيّ:"وخبّأ له: يوم تأتي السماء بدخان مبين"، والجملة حال بتقدير "قد"، أو بدونه، قال ابن كثير في "تفسيره": وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشَفَ على طريقة الكهان بلسان الجانّ، وهم يقرطمون العبارة، ولهذا قال:"هو الدخ"؛ يعني: الدخان، فعندها عرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مادته، وأنها شيطانية، فقال صلى الله عليه وسلم:"اخسأ، فلن تعدُوَ قَدْرك". انتهى

(1)

.

(فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ)؛ أي: الذي خبأته لي، (الدُّخُّ) بضم الدال المهملة، بعدها خاء معجمة، وحَكَى صاحب "المحكم" الفتح، ووقع عند الحاكم:"الزَّخّ" بفتح الزاي بدل الدال، وفسّره بالجماع، واتفق الأئمة على تغليطه في ذلك، ويردّه ما وقع في حديث أبي ذرّ:"فأراد أن يقول الدخان، فلم يستطع، فقال الدخ". وللبزار، والطبرانيّ في "الأوسط" من حديث زيد بن حارثة:"قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم خبّأ له سورة الدخان"، وكأنه أطلق السورة، وأراد بعضها، فإن عند أحمد، عن عبد الرزاق في حديث الباب:"وخبأت له: يوم تأتي السماء بدخان مبين".

وأما جواب ابن صياد بالدخّ، فقيل: إنه اندهش، فلم يقع من لفظ الدخان إلا على بعض

(2)

.

وقال النوويّ رحمه الله: هو بضم الدال، وتشديد الخاء المعجمة، وهي لغة في الدخان، ومعنى "خبأت": أضمرت لك اسم الدخان، والصحيح المشهور أنه أضمر له آية الدخان، وهي قوله تعالى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)} [الدخان: 10] قال القاضي عياض رحمه الله: وأصح الأقوال أنه

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 140.

(2)

"الفتح" 7/ 306.

ص: 520

لم يأت من الآية التي أضمرها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا بهذا اللفظ الناقص، على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب

(1)

.

(فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْسَأْ) بفتح السين، وسكون الهمزة: كلمة زجر، واستهانة؛ أي: امكث صاغرًا، أو ابعُد حقيرًا، واسكت مزجورًا، من الْخُسُوء، وهو زجر الكلب. (فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)؛ أي: قدر مثلك من الكهان الذين يحفظون من إلقاء شياطينهم ما يحفظونه مختلطًا صدقه بكذبه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لن تعدو قدرك"؛ أي: لن تُجاوز حالة الكهّان المتخرّصين الكذابين، لا يليق بك إلا ذلك، وإنَّما اختبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لينظر هل طريقته طريقة الكهان، أو لا؟ فظهر أنه كذلك، وأن الشياطين تلعب به، وتُلَبِّس عليه. انتهى

(2)

.

وقال القاري: "فلن تعدو" بضم الدال؛ أي: فلن تجاوز، "قدرك"؛ أي: القَدْر الذي يدركه الكهان، من الاهتداء إلى بعض الشيء، ذكره النوويّ. وقال الطيبيّ رحمه الله؛ أي: لا تتجاوز عن إظهار الخبيئات على هذا الوجه، كما هو دأب الكهنة إلى دعوى النبوة، فتقول: أتشهد أني رسول اللَّه؟

(3)

.

قال القاري: وحاصل الجملة، وزبدة المسألة: أنك وإن أخبرت عن الخبيء، فلن تستطيع أن تجاوز عن الحد الذي حُدّ لك، يريد أن الكهانة لا ترفع بصاحبها عن القَدْر الذي عليه هو، وإن أصاب في كهانته. انتهى

(4)

.

(فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ) رضي الله عنه، قال القاري: فيه التفات، أو تجريد، ويمكن أن يكون ابن عمر مصاحبًا لهم، ويدلّ عليه ما بعده:"فقال: قال عمر: يا رسول اللَّه أتأذن لي فيه؟ ". انتهى

(5)

.

(ذَرْنِي)؛ أي: اتركني (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَضْرِبْ عُنُقَهُ)؛ أي: أقتله، (فَقَالَ

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

(2)

"المفهم" 7/ 265.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3472.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

(5)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

ص: 521

لَهُ)؛ أي: لعمر، (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"إِنْ يَكُنْهُ)؛ أي: الدجال، قال القرطبيّ رحمه الله: وقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إن يكنه، فلن تسلَّط عليه إلخ" هذا يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتضح له شيء من أمر كونه هو الدجال أم لا، وليس هذا نقصها في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يعلم إلا ما أعلمه اللَّه عز وجل، وهذا مما لم يُعلمه اللَّه تعالى به، ولا هو مما تُرهِق إلى علمه حاجةٌ لا شرعية، ولا عاديّة، ولا مصلحيّة، ولعل اللَّه تعالى قد عَلِم في إخفائه مصلحة، فأخفاه، والذي يجب الإيمان به أنه لا بدّ من خروج الدجال يدعي الإلهية، وأنه كذّاب أعور، كما جاء في الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي قد حصلت لمن عاناها العلم القطعيّ بذلك. انتهى

(1)

.

ووقع في رواية للبخاريّ: "إن يكن هو"، قال في "الفتح": قوله: "إن يكن هو" كذا للأكثر، وللكشميهنيّ:"إن يكن" على وصل الضمير، واختار ابن مالك جوازه، ثم الضمير لغير مذكور لفظًا، وقد وقع في حديث ابن مسعود، عند أحمد:"إن يكون هو الذي تخاف، فلن تستطيعه"، وفي مرسل عروة عند الحارث بن أبي أسامة:"إن يكن هو الدجالَ". انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ: قال القاضي: قوله: "إن يكن هو" الضمير للدجال، ويدل عليه ما روي أنه في قال:"إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد"، و"هو" خبر "كان"، واسمها مستكنّ فيها، وكان حقه: إن يَكُنْه، فوضع المرفوع المنفصل موضع المنصوب المتصل، عكس قولهم: لولاه، ويَحْتَمِل أن يكون تأكيدًا للمستكنّ، والخبر محذوفًا على تقدير: إن يكن هو هذا، قال: ويجوز أن يقدَّر: إن يكن هو الدجالَ، و"هو" ضمير فصل، أو هو مبتدأ، والدجال خبره، والجمله خبر "كان". انتهى

(3)

. قال القاري: وعلى الأخير يكون في "يكن" ضمير الشأن، كما لا يخفى. انتهى

(4)

.

(1)

"المفهم" 7/ 265.

(2)

"الفتح" 7/ 307 - 308.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3472.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

ص: 522

(فَلَنْ تُسَلَّطَ) بالبناء للمفعول، (عَلَيْهِ) أي على قتله؛ يعني: أنك لا تقدر على إهلاكه؛ لأن المقدَّر أن قاتله عيسى عليه السلام، وفي حديث جابر رضي الله عنه:"فلست بصاحبه، إنما صاحبه عيسى ابن مريم".

(وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ") قال القرطبيّ: أي لأنه صبيّ حينئذٍ، وقيل: لأنه كان لقومه عهد من النبيّ صلى الله عليه وسلم كما عاهد يهود المدينة، أو لأنه من حلفاء بني النجار، كما تقدَّم. وهذا الضمير المتصل في "يكنه" هو خبرها وقد وُضع موضع المنفصل، واسمها مستتر فيها، ونحوه قول أبي الأسود الدّؤليّ [من الطويل]:

دَعِ الْخَمْرَ تَشْرَبْهَا الْغُوَاةُ فَإِنَّنِي

رَأَيْتُ أَخَاهَا مُغْنِيًا بِمَكَانِهَا

فَإِنْ لَا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ

أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا

أي: فإلّا يكن هو إياها، أو تكن هي إياه

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

ثم ذكر القصّة الثانية بقوله:

(وَقَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) وهو موصول بالإسناد الأول، وليس معلّقًا، ووقع في حديث جابر:"ثم جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وعمر، ونفر من المهاجرين والأنصار، وأنا معهم"، ولأحمد من حديث أبي الطفيل أنه حضر ذلك أيضًا

(2)

.

(سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَر) رضي الله عنهما (يَقُولُ: انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ) بعد ما تقدّم ذِكره من اجتماع النبيّ صلى الله عليه وسلم بابن صيّاد، ومناقشته له، وتبيّن كذبه. (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُبَيُّ بْنُ كعْبٍ الأَنْصَارِيُّ) برفع "أبيّ" بالعطف على ما قبله، ويجوز على أنه مفعول معه، (إِلَى النَّخْلِ) قال الفيّوميّ رحمه الله: النَّخْلُ اسم جمع، الواحدة نَخْلَة، وكل جَمْع بينه وبين واحده الهاء، قال ابن السكِّيت: فأهل الحجاز يؤنثون أكثره، فيقولون: هي التمر، وهي البرّ، وهي النخل، وهي البقر، وأهل نجد وتميم يذكِّرون، فيقولون: نَخْلٌ كريم، وكريمة، وكرائم، وفي التنزيل:{نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]، و {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7]، وأما النَّخِيلُ بالياء فمؤنّثة، قال أبو حاتم: لا اختلاف في ذلك. انتهى

(3)

.

(1)

"المفهم" 7/ 265 - 266.

(2)

"الفتح" 7/ 307 - 308.

(3)

"المصباحُ المنير" 2/ 596 - 597.

ص: 523

(الَّتِي فِيهَا)؛ أي: فيما بينها، أو في بستانها (ابْنُ صَيَّادٍ، حَتَّى إِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّخْلَ، طَفِقَ) بكسر الفاء: أي شرع، وأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (يَتَّقِي)؛ أي: يستتر (بِجُذُوعِ النَّخْلِ) جمع جَذْعٍ، بكسر، فسكون، وهو ساق النخلة، والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يتخبأ، ويستر نفسه عن ابن صياد؛ ليأخذه على غِرّة، وغفلة، فإن تلك الحالة أدلّ على بطلان الرهبان.

(وَهُوَ)؛ أي: النبيّ صلى الله عليه وسلم (يَخْتِلُ) بفتح أوله، وكسر ثالثه، وضمّه، يقال: ختله يَختله، من بابي ضرب، ونصر: خدعه، والذئب الصيد: تخفّى له، قاله المجد رحمه الله

(1)

، والجملة حاليّة.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "وهو يختل"؛ أي: يخدع ابن صياد، ويستغفله؛ ليسمع شيئًا من كلامه حتى يعلم هو والصحابة حاله في أنه كاهن، أم ساحر، ونحوهما، وفيه كَشْف أحوال مَن تُخاف مفسدته، وفيه كشف الإِمام الأمور المهمة بنفسه. انتهى

(2)

.

وقوله: (أَنْ يَسْمَعَ) مفعول "يختل"، (مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ)؛ أي: يعلم بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم، (فَرَآهُ)؛ أي: رأى ابنَ صيّاد (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ) جملة حاليّة من المفعول، (عَلَى فِرَاشٍ، فِي قَطِيفَةٍ)؛ أي: دِثار مُخَمَّل، وقيل: لِحَاف صغير، (لَهُ) أي لابن صيّاد، (فِيهَا) أي في تلك القطيفة (زَمْزَمَةٌ) قال النوويّ رحمه الله: قد وقعت هذه اللفظة في معظم نُسخ مسلم: "زمزمة" بزاءين معجمتين، وفي بعضها براءين مهملتين، ووقع في البخاريّ بالوجهين، ونقل القاضي عن جمهور رواة مسلم أنه بالمعجمتين، وأنه في بعضها:"رمزة" بِراء أوّلًا، وزاي آخرًا، وحَذْف الميم الثانية، وهو صوت خفيّ لا يكاد يُفهم، أو لا يُفهم. انتهى

(3)

.

(فَرَأَتْ أُمُّ ابْنِ صَيَّادٍ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَتَّقِي) جملة حاليّة، (بِجُذُوعِ النَّخْلِ، فَقَالَتْ لِابْنِ صَيَّادٍ: يَا صَافِ) بصاد مهملة، وفاء، وزان باغ، قاله في "الفتح"؛ أي: فهو منقوص، وقال القاري: صاف بالضم، وفي نسخة بالكسر،

(1)

"القاموس المحيط" ص 349.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 54 - 55.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 55.

ص: 524

على أن أصله صافي، فحذف الياء، واكتفي بالكسرة، ويؤيد الأول ظاهر قوله:"وهو اسمه"، ويمكن أن يكون الاسم بمعنى الوصف، فإنه قد يستعمل بالمعنى الأعمّ، من نحو اللقب، والعلم. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قوله: صاف بالضمّ، لا أظنّ هذا يصحّ روايةً، ولا دراية، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وفي حديث جابر: "فقالت: يا عبد اللَّه هذا أبو القاسم قد جاء"، وكأن الراوي عَبّر باسمه الذي تسمّى به في الإِسلام، وأما اسمه الأول فهو صاف

(2)

.

(وَهُوَ)؛ أي: صافٍ، (اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ)، وقوله:(هَذَا مُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم تمام مقول "قالت"، والمعنى: أن هذا الذي وراءك محمد صلى الله عليه وسلم، قد جاءك لاستماع سرّك، فتنبه له. (فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ)؛ أي: نهض من مضجعه، وقام، (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ")؛ أي: أظهر لنا من حاله ما نطّلع به على حقيقته، والضمير لأم ابن صياد؛ أي: لو لم تُعلمه بمجيئنا، لتمادى على ما كان فيه، فسمعنا ما نستكشف به أمره، قال الحافظ: وغفل بعض الشراح، فجعل الضمير لـ "الزمزمة"؛ أي: لو لم يتكلم بها لفهمنا كلامه، لكن عدم فهمنا لِمَا يقول كونه يُهمهم، كذا قال، والأول هو المعتمَد

(3)

.

ثم ذكر القصّة الثالثة، فقال:

(قَالَ سَالِمٌ)؛ أي: ابن عبد اللَّه، وهو أيضًا موصول بالسند الماضي، وليس معلّقًا. (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّاسِ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ) وفي نسخة: "بما هو أهلٌ". (ثُمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ) في ذكره الدجّال: " (إِنِّي لأُنْذِرُكُمُوهُ)؛ أي: لأحذّركم أن تغترّوا به، وبما يظهر على يديه من خوارق العادات؛ ابتلاء من اللَّه تعالى لعباده. (مَا) نافية، (مِنْ) زائدة (نَبِيٍّ) من الأنبياء قبلي (إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ) من الافتتان به، (لَقَدْ أَنْذَرَهُ نُوحٌ) عليه السلام (قَوْمَهُ) وفي حديث أبي عبيدة بن الجراح، عند أبي داود، والترمذيّ،

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 41.

(2)

"الفتح" 7/ 307 - 308.

(3)

"الفتح" 7/ 307 - 308.

ص: 525

وحسّنه: "لم يكن نبيّ بعد نوح إلا وقد أنذر قومه الدجال"، وعند أحمد:"لقد أنذره نوح أمته، والنبيون من بعده"، أخرجه من وجه آخر، عن ابن عمر.

وقد استُشكل إنذار نوح قومه بالدجال، مع أن الأحاديث قد ثبتت أنه يخرج بعد أمور ذُكرت، وأن عيسى يقتله بعد أن ينزل من السماء، فيحكمَ بالشريعة المحمدية.

والجواب: أنه كان وقتُ خروجه أُخفي على نوح؛ ومن بعده، فكأنهم أُنذروا به، ولم يُذكر لهم وقت خروجه، فحذروا قومهم من فتنته.

ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه: "إن يخرج، وأنا فيكم، فأنا حجيجه"، فإنه محمول على أن ذلك كان قبل أن يتبين له وقت خروجه، وعلاماته، فكان يُجَوِّز أن يخرج في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم بُيّن له بعد ذلك حاله، ووقت خروجه، فأخبر به، فبذلك تجتمع الأخبار.

وقال ابن العربيّ: إنذار الأنبياء عليه السلام قومهم بأمر الدجال تحذير من الفتن، وطمأنينة لها حتى لا يزعزعها عن حسن الاعتقاد، وكذلك تقريب النبي صلى الله عليه وسلم له زيادةٌ في التحذير، وأشار مع ذلك إلى أنهم إذا كانوا على الإيمان ثابتين، دَفَعوا الشُّبَهَ باليقين

(1)

.

(وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ) وفي رواية للبخاريّ: "ولكني سأقول لكم"، (فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ) قيل: إن السرّ في اختصاص النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور، مع أنه أوضح الأدلة في تكذيب الدجال، أن الدجال إنما يخرج في أمته، دون غيرها، ممن تقدم من الأمم، ودل الخبر على أن عِلم كونه يختص خروجه بهذه الأمة كان طُوِيَ عن غير هذه الأمة، كما طُوِي عن الجميع عِلم وقت قيام الساعة.

(تَعَلَّمُوا) قال النوويّ رحمه الله: اتَّفَق الرواة على ضبط "تَعَلَّمُوا" بفتح العين، واللام المشدّدة، وكذا نقله القاضي وغيره عنهم، قالوا: ومعناه: اعلموا، وتحققوا، يقال: تَعَلَّم -بفتحات مشدد اللام- بمعنى: اعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: "تعلّم" هذه هي التي تُعدّ مع أفعال القلوب التي

(1)

"الفتح" 16/ 582، "كتاب الفتن" رقم (7127).

ص: 526

المبتدأ والخبر على أنهما مفعولان لها، وهي التي في قول ابن مالك في "الخلاصة":

وَهَبْ تَعَلَّمْ وَالَّتِي كَصَيَّرَا

أَيْضًا بِهَا انْصِبْ مُبْتَدًا وَخَبَرَا

ومنه قول الشاعر [من الطويل]:

تَعَلَّم شِفَاءَ النَّفْسِ قَهْرَ عَدُوِّهَا

فَبَالِغْ بِلُطْفٍ فِي التَّحَيُّلِ وَالْمَكْرِ

(أَنَّهُ)؛ أي: الدجّال، (أَعْوَرُ) وفي رواية:"أعور العين اليمنى"، (وَأَنَّ اللَّهَ) بفتح الهمزة؛ لكونه معطوفًا على "أنه"، تبارك وتعالى لَيْسَ بِأَعْوَرَ") إنما اقتصر النبيّ صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة؛ لكون العَوَر أثرًا محسوسًا، يُدركه العالم والعاميّ، ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية، فإذا ادعى الربوبية، وهو ناقص الخلقة، والإله يتعالى عن النقص، عَلِم أنه كاذب.

(قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) الزهريّ، وهو موصول أيضًا بالسند السابق، وليس معلّقًا، (وَأَخْبَرَنِي عُمًرُ بْنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ) الخزرجيّ المدنيّ، ثقةٌ [3] أخطأ من عدّه في الصحابة (م 4) تقدّم في "الصيام" 41/ 2758. (أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) فيه أن جهالة الصحابة رضي الله عنهم لا تضرّ بصحّة الحديث؛ إذ كلّهم عدول، كما سبق غير مرّة. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَوْمَ حَذَّرَ النَّاسَ الدَّجَّالَ: "إِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ) زاد في الرواية الآتية: "ثم تهجاها، فقال: ك ف ر"، (يَقْرَؤُهُ مَنْ كَرِهَ عَمَلَهُ)؛ أي: من أنكر عمل الدجّال، وردّ عليه باطله، (أَوْ) للشك من الراوي؛ أي: أو قال: (يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ") وفي الرواية الآتية: "يقرأه كل مسلم"، وفي رواية:"يقرأه كل مؤمن، كاتبٍ، وغير كاتب"، وهذا إخبار بالحقيقة؛ لأن الإدراك في البصر يخلقه اللَّه تعالى للعبد كيف شاء، ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن ببصره، ولو كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافر، ولو كان يعرف الكتابة، إن هذا من أعاجيب صنع اللَّه سبحانه وتعالى؛ إظهارًا لدحض حجج هذا الطاغية، فلا يضلّ به إلا من كتب اللَّه عليه الشقاء المؤبد.

وقال النوويّ رحمه الله: الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة، جعلها اللَّه آيةً، وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره، وكذبه، وإبطاله، ويظهرها اللَّه تعالى لكل مسلم، كاتب، وغير كاتب، ويُخفيها عمن أراد شقاوته، وفتنته، ولا امتناع في ذلك، وذكر القاضي فيه خلافًا.

ص: 527

منهم من قال: هي كتابة حقيقة، كما ذكرنا، ومنهم من قال: هي مجاز، وإشارة إلى سمات الحدوث عليه، واحتج بقوله:"يقرأه كل مؤمن كاتب، وغير كاتب"، قال: وهذا مذهب ضعيف. انتهى كلام النوويّ رحمه الله

(1)

، وهو كلام نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَقَالَ) عطف على قوله: "قال يوم حذّر الناس"، أي قال صلى الله عليه وسلم:("تَعَلمُوا)؛ أي: اعلموا، وفي نسخة:"تعلمون"، وهو خبر بمعنى الأمر؛ أي: اعلموا (أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عز وجل حَتَّى يَمُوتَ") وعند ابن ماجه نحو هذه الزيادة من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وعند البزار من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كَذِبٌ؛ لأن رؤية اللَّه تعالى مقيدة بالموت، والدجال يدعي أنه اللَّه، ويراه الناس مع ذلك، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث ابن عمر رضي الله عنهما هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7327 و 7328 و 7329](2930 و 2931)، و (البخاريّ) في "الجنائز"(1354 و 1355) و"الأنبياء"(3337) و"الشهادات"(2638) و"الجهاد"(3055 و 3056 و 3057) و"الأدب"(6173 و 6174 و 6175) و"القدر"(16617) و"الفتن"(7127) و"الأدب المفرد"(958)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4329)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2235)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(20817 و 20819 و 20820)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 148 و 149)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6785)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1040 و 1041)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4255 و 4270)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 60.

ص: 528

1 -

(منها): بيان شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم في استكشاف أمر ابن صيّاد؛ لئلا تغترّ أمته بتلبيساته، وتمويهاته، فتضلّ عن سواء السبيل، قال العلماء: إنما استكشف النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره؛ ليبيّن لأصحابه تمويهه؛ لئلا يلتبس حاله على ضعيف لم يتمكن في الإِسلام.

ومحصل ما أجاب به النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال له على طريق الفرض والتنزل: إن كنت صادقًا في دعواك الرسالة، ولم يختلط عليك الأمر آمنت بك، وإن كنت كاذبًا، وخُلِّط عليك الأمر، فلا، وقد ظهر كذبك، والتباس الأمر عليك، فلا تعدو قَدْرك.

2 -

(ومنها): اهتمام الإِمام بالأمور التي يُخشى منها الفساد، والتنقيب عليها، وإظهار كذب المدعي الباطل، وامتحانه بما يكشف حاله، والتجسس على أهل الريب.

3 -

(ومنها): بيان أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه.

4 -

(ومنها): الرد على من يدعي الرجعة إلى الدنيا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إن يكن هو الذي تخاف منه، فلن تستطيعه"؛ لأنه لو جاز أن الميت يرجع إلى الدنيا لَمَا كان بين قتل عمر له حينئذٍ، وكون عيسى ابن مريم هو الذي يقتله بعد ذلك منافاةٌ، واللَّه أعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا قيل، ولكنه محلّ نظر؛ فإن الرجوع إلى الدنيا واقع، فقد كان عيسى عليه السلام يُحيي الموتى، وأحيى اللَّه عز وجل عزيرًا، ويأتي في قصّة الدجال أنه يقتل رجلًا، ثم يحييه، إلى غير ذلك من الأمثلة، فتنبّه، ولا تكن أسير التقليد، واللَّه تعالى أعلم.

5 -

(ومنها): أن فيه الردَّ على من يزعم أنه يرى اللَّه تعالى في اليقظة، تعالى اللَّه عن ذلك، ولا يَرِد على ذلك رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء؛ لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فأعطاه اللَّه تعالى في الدنيا القوة التي يُنعم بها على المؤمنين في الآخرة.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هكذا ذكر في "الفتح" رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا، وقد قدّمنا اختلاف العلماء في هذا، في "كتاب الإيمان"، وأن الصواب في ذلك عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم له؛ للأدلّة الكثيرة "الصحيحة" وبه قال جماهير

ص: 529

الصحابة رضي الله عنه، وقد ذكرت الأدلة مفصّلة، فراجع ذلك هناك، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

6 -

(ومنها): ما قاله القرطبيّ رحمه الله عند قوله: "وما من نبيّ إلا وقد أنذره قومه إلخ" قال: إنما كان هذا من الأنبياء عليهم السلام لِمَا علموا من عظيم فتنبّه، وشدة محنته، ولأنهم لمّا لم يُعيَّن لواحد منهم زمان خروجه، توقّع كل واحد منهم خروجه في زمان أمته، فبالغ في التحذير، وفائدة هذا الإنذار الإيمان بوجوده، والعزم على معاداته، ومخالفته، وإظهار تكذيبه، وصِدق الالتجاء إلى اللَّه تعالى في التعوّذ من فتنته، وهذا مذهب أهل السُّنَّة، وعامّة أهل الفقه والحديث، خلافًا لمن أنكر أمره، وأبطله من الخوارج، وبعض المعتزلة، وخلافًا للجبائيّ من المعتزلة، ومن وافقنا على إثباته من الجهمية وغيرهم، لكن زعموا أن ما عنده مخارق، وحِيَل، قال: لأنها لو كانت أمورًا صحيحة لكان ذلك إلباسًا للكاذب بالصادق، وحينئذٍ لا يكون فرق بين النبيّ والمتنبئ، وهذا هذيان، لا يُلتفت إليه، فإنَّ هذا إنما كان يلزم لو أن الدجال يدعي النبوة، وليس كذلك، فإنه إنما ادَّعَى الإلهية، وكَذِبُهُ في هذه الدعوى واضح للعقول؛ إذ أدلة حدوثه ونقصه، وفقره مُدرَك بأول الفطرة، بحيث لا يجهله من له أدنى فكرة، وقد زاد النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى إيضاحًا في هذا الحديث من ثلاثة أوجه:

[أحدها]: بقوله: "ولكن أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبيّ لقومه، إنه أعور، وإن اللَّه ليس بأعور"، وهذا تنبيه للعقول القاصرة، أو الغافلة، على أن من كان ناقصًا في ذاته، عاجزًا عن إزالة نقصه، لم يصلح لأن يكون إلهًا؛ لعجزه وضعفه، ومن كان عاجزًا عن إزالة نقصه كان أعجز عن نفع غيره، وعن مضرّته.

[وثانيها]: قوله: "إنه مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"، وهذا أمر مشاهد للحسّ يشهد بكذبه، وكفره.

[وثالثها]: قوله: "تَعَلَّموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت"، وهذا نصّ جليّ في أن اللَّه تعالى لا يُرى في هذه الدار، وهو موافق لقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]؛ أي: في الدنيا، ولقوله تعالى لموسى عليه السلام:{لَنْ تَرَانِي} الآية [الأعراف: 143]؛ أي: في الدنيا.

ص: 530

ولقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51].

وحاصل هذا أن الصادق قد أخبر أن اللَّه تعالى لا يراه أحد في الدنيا، والدجال يراه الناس، فليس بإله، وهذا منه صلى الله عليه وسلم نزول إلى غاية البيان، بحيث لا يبقى معه ريبة لإنسان، وقد تقدّم الخلاف في رؤية نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في "كتاب الإيمان"، وقد قلنا: إنه لم يثبت في الباب قاطعٌ يُعتمد عليه، والأصل التمسّك بما دلت هذه الأدلة عليه.

وقد تأوّل بعض الناس قوله صلى الله عليه وسلم: "مكتوب بين عينيه كافر"، وقال: معنى ذلك ما ثبت من سمات حَدَثِه، وشواهد عجزه، وظهور نقصه، قال: ولو كان على ظاهره وحقيقته لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر، وهذا عدولٌ، وتحريف لحقيقة الحديث من غير موجب لذلك، وما ذكره من لزوم المساواة بين المؤمن والكافر في قراءة ذلك لا يلزم لوجهين: أحدهما: أن اللَّه تعالى يمنع الكافر من إدراكه، لا سيما وذلك الزمان قد انحرفت فيه عوائد، فليكن هذا منها، وقد نَصّ على هذا في بعض طرقه، فقال:"يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"، وقراءة غير الكاتب خارقة للعادة.

وثانيهما: أن المؤمن إنما يدركه لتثبّته، ويقظته، ولسوء ظنه بالدجّال، وتخوّفه من فتنته، فهو في كل حال يستعيد النظر في أمره، ويستزيد بصيرة في كذبه، فينظر في تفاصيل أحواله، فيقرأ سطور كفره، وضلاله، ويتبيّن عين محاله، وأما الكافر فمصروف عن ذلك كله بغفلته وجهله، وكما انصرف عن إدراك نقص عوره، وشواهد عجزه، كذلك يُصرف عن فهم قراءة سطور كفره، ورمزه.

وأما الفرق بين النبيّ والمتنبئ: فالمعجزة لا تظهر على يدي المتنبئ؛ لأنَّه يلزم منه انقلاب دليل الصدق دليل الكذب، وهو محال، وللبحث فيها مجال في علم الكلام.

وأما من قال: إن ما يأتي به الدجال حِيَل ومخارق فهو معزول عن الحقائق؛ لأن ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم من تلك الأمور حقائق، لا يُحيل العقل شيئًا منها، فوجب إبقاؤها على حقائقها. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

وهو بحثٌ نفيسٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"المفهم" 23/ 107.

ص: 531

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7328]

(2930)

(1)

- (حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَا: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، حَتَّى وَجَدَ ابْنَ صَيَّادٍ غُلَامًا، قَدْ نَاهَزَ الْحُلُمَ، يَلْعَب مَعَ الْغِلْمَانِ، عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ، إِلَى مُنْتَهَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ يَعْقُوبَ قَالَ: قَالَ أَبِي -يَعْنِي فِي قَوْلِهِ-: لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ، قَالَ: لَوْ تَرَكَتْهُ أُمُّهُ بَيَّنَ أَمرَهُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، تقدّم قريبًا.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) المدنيّ، نزيل بغداد، تقدّم أيضًا قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهريّ تقدّم أيضًا قريبًا.

4 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ، تقدّم أيضًا قريبًا والباقون ذُكروا في الباب، وقبله.

وقوله: (قَدْ نَاهَزَ الْحُلُمَ)؛ أي: قارب البلوغ، والجملة صفة "غلامًا".

وقوله: (يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ) صفة بعد صفة، أو حال.

وقوله: (عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مُعَاوِيَةَ) هكذا في هذه الرواية، وتقدّم أن المشهور:"عند أطم بني مغالة"، فتنبّه.

وقوله: (وَسَاقَ الحدِيثَ إلخ) فاعل "ساق" ضمير صالح.

وقوله: (إِلَى مُنْتَهَى حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ ثَابِتٍ)؛ يعني: أن حديث صالح مثل حديث يونس ينتهي بانتهاء حديث عمر بن ثابت الأنصاريّ، وهو نهاية الحديث

(1)

مكرّر.

ص: 532

كله، والغرض منه أن صالحًا لم يُنقص من الحديث شيئًا، بل ساقه بتمامه، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَفي الْحَدِيثِ عَنْ يَعْقُوبَ) بن إبراهيم (قَالَ) أي يعقوب (قَالَ أَبِي) بإضافة لفظ "أَبٍ" إلى ياء المتكلّم؛ أي: قال أبي إبراهيم بن سعد إلخ، وهذا هو الصواب، فما وقع في النسخ المطبوعة بضبط القلم:"قال أُبيّ" بضم الهمزة، وتشديد الياء، فغلط صريح، وقع بسببه بعض الشرّاح في الخطأ

(1)

، فقال: أُبيّ بن كعب، وهذا مما لا معنى له هنا، فالصواب أن يعقوب يحدّث عن أبيه إبراهيم بن سعد أنه فسّر قوله صلى الله عليه وسلم:"لو تركته بيّن" -معناه: لو تركته أمه، ولم تنبّهه بحضور النبيّ صلى الله عليه وسلم، لبيّن أمره من الكهانة، وغيرها.

[تنبيه]: رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب هذه لم أجد من ساقها بتمامها، كما قال المصنّف، وإنما ساقها ابن منده رحمه الله في "الإيمان" إلى قوله:"بيّن"، فقال:

(1040)

- أخبرنا أحمد بن محمد بن زياد، ثنا عباس بن محمد الدُّوريّ، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، ثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، أخبرني سالم بن عبد اللَّه، أن عبد اللَّه بن عمر قال: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومعه رهط من أصحابه، فيهم عمر بن الخطاب، حتى وجد ابن صائد غلامًا، قد ناهز الحلم، يلعب مع الصبيان، عند أُطُم بني معاوية، فلم يشعر به ابن صائد، حتى ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ظهره، فقال:"أتشهد أني رسول اللَّه؟ " فقال ابن صياد: أشهد أنك رسول الأميين، أتشهد أني رسول اللَّه؟ فرفضه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقال:"آمنت باللَّه، ورسله"، ثم قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ماذا ترى؟ "، قال: يأتيني صادق، وكاذب، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"خلط عليك الأمر"، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني قد خبأت لك خبيئًا"، فقال ابن صياد: هو الدخّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اخسأ، فلن تعدو قدرك"، فقال عمر: ائذن لي فيه، فأضرب عنقه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن يك فلن تسلَّط عليه، وإن لم يكن إياه، فلا خير في قتله".

(1)

راجع: "شرح الهرري" 26/ 227.

ص: 533

وقال سالم: قال عبد اللَّه بن عمر: إنه قال: انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قِبَل ابن صياد، وحُدِّث أنه في نخل، فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم النخل طَفِق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوِع النخل، وابن صياد في قطيفة له، فيها زمزمة، قال: فرأت أم ابن صياد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت: أي صاف هذا محمد، فوشب ابن صياد، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"لو تركته بَيَّن". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7329]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، جَمِيعًا عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِابْنِ صَيَّادٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، عِنْدَ أُطُمِ بَنِي مَغَالَةَ، وَهُوَ غُلَامٌ، بِمَعْنَى حَدِيثِ يُونُسَ، وَصَالِحٍ، غَيْرَ أَنَّ عَبْدَ بْنَ حُمَيْدٍ لَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ في انْطِلَاقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَعَ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ).

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ) الْمِسْمَعيّ النيسابوريّ، نزيل مكة، ثقةٌ، من كبار [11] مات سنة بضع وأربعين ومائتين (م 4) تقدم في "المقدمة" 6/ 60.

والباقون تقدّموا قريبًا.

وقوله: (بِمَعْنَى حَدِيثِ يونُسَ، وَصَالِحٍ) يعني أن حديث معمر عن الزهريّ بمعني حديثهما عنه.

[تنبيه]: رواية معمر عن الزهريّ ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

(2890)

- حدّثنا عبد اللَّه بن محمد، حدّثنا هشام، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، أخبرني سالم بن عبد اللَّه، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخبره أن عمر انطلق في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قِبَل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع الغلمان، عند أطم بني مَغَالة، وقد قارب يومئذٍ ابن صياد يحتلم، فلم

(1)

"الإيمان لابن منده" 2/ 944 - 945.

ص: 534

يشعر، حتى ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"أتشهد أني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ " فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين، فقال ابن صياد للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول اللَّه؟ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "آمنت باللَّه ورسله"، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ماذا ترى؟ " قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خلط عليك الأمر"، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إني قد خبأت لك خبيئًا"، قال ابن صياد: هو الدخّ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اخسأ، فلن تعدو قدرك". قال عمر: يا رسول اللَّه ائذن لي فيه، أضرب عنقه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله".

قال ابن عمر: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بن كعب، يأتيان النخل الذي فيه ابن صياد، حتى إذا دخل النخل، طفق النبيّ صلى الله عليه وسلم يتقي بجذوع النخل، وهو يَخْتِل ابن صياد أن يسمع من ابن صياد شيئًا، قبل أن يراه، وابن صياد مضطجع على فراشه، في قطيفة له، فيها رمزة، فرأت أم ابن صياد النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو يتقي بجذوع النخل، فقالت لابن صياد: أي صاف، وهو اسمه، فثار ابن صياد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"لو تركته بَيَّنَ". انتهى

(1)

.

وأما رواية عبد بن حميد التي أشار إليها المصنّف، فقد ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه"، فقال:

(2249)

- حدّثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مَرّ بابن صياد، في نفر من أصحابه، فيهم عمر بن الخطاب، وهو يلعب مع الغلمان، عند أُطُم بني مَغَالة، وهو غلام، فلم يشعر، حتى ضرب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال:"أتشهد أني رسول اللَّه؟ "، فنظر إليه ابن صياد، قال: أشهد أنك رسول الأميين، ثم قال ابن صياد للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أتشهد أنت أني رسول اللَّه؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "آمنت باللَّه وبرسله"، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ما يأتيك؟ "، قال ابن صياد: يأتيني صادق، وكاذب، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"خُلِّط عليك الأمر"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إني خبأت لك خبيئًا"، وخبّأ له:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]

(1)

"صحيح البخاريّ" 3/ 1112.

ص: 535

فقال ابن صياد: هو الدخّ، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"اخسأ، فلن تعدو قدرك". قال عمر: يا رسول اللَّه ائذن لي، فأضرب عنقه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن يك حقًّا فلن تسلط عليه، وإن لا يكنه فلا خير لك في قتله".

قال عبد الرزاق: يعني الدجال، قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7330]

(2932) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ، فَانْتَفَخَ، حَتَّى مَلأَ السِّكَّةَ، فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حَفْصَةَ، وَقَدْ بَلَغَهَا، فَقَالَتْ، لَهُ: رَحِمَكَ اللَّه، مَا أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَائِدٍ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ غَضْبَةٍ يَغْضَبُهَا"؟).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(هِشَامُ) بن حَسّان الأزديّ الْقُردوسيّ -بالقاف، وضم الدال- أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ، من أثبت الناس في ابن سيرين، وفي روايته عن الحسن، وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما [6](ت 7 أو 148)(ع) تقدم في "المقدمة" 5/ 26.

والباقون كلهم تقدّموا قريبًا، و"أيوب" هو: السختياني.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر؛ أنه (قَالَ: لَقِيَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما (ابْنَ صَائِدٍ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ) النبويّة، (فَقَالَ لَهُ قَوْلًا أَغْضَبَهُ) ذلك القول، (فَانْتَفَخَ) ابن صائد (حَتَّى مَلأَ السِّكَّةَ) بكسر السين: الطريق، وجمعها سِكَكٌ، قال أبو عبيد: أصل السكة: الطريق المصطفة من النخل، قال: وسميت الأَزِقّة سكَكًا؛ لاصطفاف الدور فيها. انتهى

(2)

. (فَدَخَلَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى) أخته وشقيقته (حَفْصَةَ) بنت عمر بن الخطّاب رضي الله عنهم، (وَ) الحال أنه (قَدْ بَلَغَهَا) ما فعله ابن عمر بابن

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 519.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 57.

ص: 536

صائد حتى أغضبه، (فَقَالَتْ لَهُ) حفصة:(رَحِمَكَ اللَّهُ) جملة دعائيّة دالّة على جواز مثلها للأحياء، وإن كان العُرف الآن على خلاف ذلك، قاله القاري

(1)

. (مَا) استفهاميّة؛ أي: أيّ شيء (أَرَدْتَ مِنِ ابْنِ صَائِدٍ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا يَخْرُجُ)؛ أي: الدجّال الموعود به آخر الزمان، (مِنْ غَضْبَةٍ)؛ أي: لأجل غضبة، يتحلل بها سلاسله، (يَغْضَبُهَا") قال الطيبيّ: قيل: يغضبها في محل جرّ صفة لـ "غضبة"، والضمير للغضبة، وهو في محل نصب على المصدر؛ أي: إنه يغضب غضبة، فيخرج بسبب غضبه، والقصد الإشعار بشدة غضبه، حيث أوقع خروجه على الغضبة، وهي المرة من الغضب، ويَحْتَمِل جَعْله مفعولًا مطلقًا على رأي من يُجَوِّز كونه ضميرًا. انتهى

(2)

، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حفصة رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [19/ 7330 و 7331](2932)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 283 و 284)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(4/ 198 و 199)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6793)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(23/ 336 و 373) و"مسند الشاميين"(4/ 225)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(12/ 485)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1192)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7331]

(. . .) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ -يَعْنِي ابْنَ حَسَنِ بْنِ يَسَارٍ- حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: كَانَ نَافِعٌ يَقُولُ: ابْنُ صَيَّادٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: فَلَقِيَتُهُ، فَقُلْتُ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ تَحَدَّثُونَ أَنَّهُ هُوَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: قُلْتُ: كَذَبْتَنِي وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُكُمْ، أَنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَكُمْ مَالًا وَوَلَدًا، فَكَذَلِكَ هُوَ، زَعَمُوا الْيَوْمَ. قَالَ: فَتَحَدَّثْنَا، ثُمَّ فَارَقْتُهُ، قَالَ: فَلَقِيتُهُ لَقْيَةً أُخْرَى، وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ، قَالَ: فَقُلْتُ: مَتَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 430.

(2)

"فيض القدير" 3/ 8.

ص: 537

مَا أَرَى؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: قُلْتُ: لَا تَدْرِي وَهِيَ فِي رَأْسِكَ؟ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا فِي عَصَاكَ هَذِهِ، قَالَ: فَنَخَرَ كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ سَمِعْتُ، قَالَ: فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِي أَنِّي ضَرَبْتُهُ بِعَصًا، كَانَتْ مَعِي، حَتَّى تَكَسَّرَتْ، وَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ

(1)

، قَالَ: وَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَحَدَّثَهَا، فَقَالَتْ: مَا تُرِيدُ إِلَيْهِ؟ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ عَلَى النَّاسِ غَضَبٌ يَغْضَبُهُ؟ ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ حَسَنِ بْنِ يَسَارٍ) بتحتانية، ومهملة، ويقال: إنه من آل مالك بن يسار، أبو عبد اللَّه البصريّ، ثقةٌ [8](ت 188)(خ م س) تقدم في "الحج" 62/ 3201.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"ابن عون" هو: عبد اللَّه.

شرح الحديث:

(عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر؛ أنه (قَالَ) ابن عون: (كَانَ نَافِعٌ يَقُولُ: ابْنُ صَيَّادٍ) بالرفع مبتدأ خبره جملة قوله: (قَالَ) هذا مؤكد لـ "يقول"، ففاعله ضمير نافع؛ أي: قال نافع، وقوله:(قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما مقول "قال"، وقوله:(لَقِيتُهُ مَرَّتَيْنِ) مقول "قال ابن عمر"؛ أي: لقيت ابن صائد مرتين، وقوله:(قَالَ: فَلَقِيتُهُ) تفصيل للمرة الأولى، (فَقُلْتُ لِبَعْضِهِمْ) وفي رواية أحمد:"فأما مرّة فلقيته، ومعه بعض أصحابه، فقلت لبعضهم. . . ".

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فقلت لبعضهم إلخ" يعني لبعض من كان معه، والذي قال: لا واللَّه هو ذلك البعض الذي خاطبه، وله قال ابن عمر: كذبتني، ألا ترى أنه خاطبه بقوله: لقد أخبرني بعضكم، ولا يُتخيّل أن الخطاب لابن صياد؛ لأنه لم يتكلم معه في هذه اللُّقيا، وإنما تكلم معه في اللُّقية الأخرى. انتهى

(2)

.

(هَلْ تَحَدَّثُونَ) أصله: تتحدّثون، فحُذفت منه إحدى التاءين تخفيفًا، وقد

(1)

وفي نسخة: "وأنا واللَّه فما شعرت".

(2)

"المفهم" 7/ 270.

ص: 538

أسلفته غير مرّة. (أَنَّهُ) أي ابن صائد (هُوَ) أي رسول. (قَالَ) ذلك البعض المسؤول: (لَا وَاللَّهِ)؛ أي: لا نتحدّث به، ولا نقوله، ولا نعتقده. (قَالَ) ابن عمر:(قُلْتُ) له: (كَذَبْتَنِي)؛ أي: أخبرتني بالكذب، حيث قلت: لا واللَّه، (وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُكُمْ) يعني بعض أصحاب ابن صيّاد، (أَنَّهُ) أي ابن صيّاد (لَنْ يَمُوتَ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَكُمْ) أي أكثر أصحابه (مَالًا وَوَلَدًا، فَكَذَلِكَ هُوَ) أي ابن صيّاد (زَعَمُوا الْيَوْمَ) في اليوم الحاضر أنه أكثر أصحابه مالًا وولدًا، فقوله:"زعموا اليوم إلخ" فيه تقديم وتأخير؛ أي: فزعموا أنه كذلك اليوم؛ أي: فزعم أصحابه أن ابن صيّاد كان كذلك، أي كان اليوم أكثر أصحابه مالًا وولدًا، ولعلّ مراده: أن مثل هذا القول الجازم لا يقال إلا بالوحي، فقولكم هذا يدلّ على أنكم تزعمون فيه أنه يوحى إليه، قاله صاحب "التكملة"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "لن يموت حتى يكون أكثركم مالًا وولدًا" مثل هذا الخبر لا يُتوصل إليه إلا بالنقل، ولم يكن عندهم شيء يعتمدونه إلا الخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فهو مرفوع بالمعنى، لا باللفظ، فكأنه قال: أخبرني بعضكم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: التوجيه الذي ذكره صاحب "التكملة" قبلُ أشبه بسياق الحديث، فتأمله، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَ) ابن عمر: (فَتَحَدَّثْنَا) أي مع ذلك البعض، (ثُمَّ فَارَقْتُهُ) أي ابن صيّاد. (قَالَ) ابن عمر (فَلَقِيتُهُ) أي ابن صيّاد، (لَقْيَةً أُخْرَى) قال القاضي عياض في "المشارق": رويناه: لُقْية بضم اللام، قال ثعلب وغيره: يقولونه بفتحها، قال النوويّ: والمعروف في اللغة والرواية ببلادنا الفتح. انتهى

(3)

.

وقال القرطبيّ: "لُقية" كذا وقع لأكثرهم بالضمّ، والصواب فتح اللام؛ لأنَّه مصدر، ولم يحكه ثعلب إلا بالضمّ

(4)

.

وقوله: (وَقَدْ نَفَرَتْ عَيْنُهُ) قال النوويّ: بفتح النون، والفاء؛ أي: وَرِمت،

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 357 - 358.

(2)

"المفهم" 7/ 270 - 271.

(3)

"شرح النوويّ" 18/ 57.

(4)

"المفهم" 7/ 270 - 271.

ص: 539

ونتأن، وذكر القاضي أنه رُوي على أوجه أُخَر، والظاهر أنها تصحيف. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ: "نفرت" بالنون، والفاء المفتوحتين، رواية جماعة الشيوخ؛ أي: وَرِمت، وفي أصل القاضي التميميّ:"نقرت" و"فقئت" معًا، فقلت:"فُقئت" في الموضعين، وكتب على الأول بخطه:"نقرت" -بالنون، والقاف-. ورواه أبو عبد اللَّه المازريّ:"نفرت" بالفاء، وكلّها متقاربة، وأشبهها الأُولى، فإنَّ عينه في ذلك الوقت لم تكن مفقوءة؛ إذ لو كان ذلك لكان من أعظم الأدلة على أنه الدجّال، ولاستدل بذلك من قال: إنه هو على من خالفه في ذلك، ولم يَرِد ذلك، غير أنه قد حكى أبو الفرج ابن الجوزيّ أنه وُلد وهو أعور، مختون، مسرور، وهذا فيه نظر؛ لأن الظاهر من هذا الحديث أشهر مما ذَكَرَ.

ويَحْتَمِل أن يكون ذلك الورم مبتدأ فقء عينه، إن كان هو الدجال، واللَّه أعلم. وكون ابن عمر لم يشعر بضربه لابن صيّاد بالعصا حتى تكسّرت، كان ذلك، لشدة موجدته عليه، وكأنه تحقق منه أنه الدجّال. انتهى

(2)

.

(قَالَ) ابن عمر: (فَقُلْتُ) لابن صيّاد: (مَثَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ مَا أَرَى؟) من الورم، والنتوء؛ أي: متى ورمت، ونفرت؟ (قَالَ) ابن صيّاد:(لَا أَدْرِي) متى صار لها هذا؟ (قَالَ) ابن عمر: (قُلْتُ) له: (لَا تَدْرِي وَهِيَ في رَأْسِكَ؟) الكلام بتقدير همزة الاستفهام الإنكاريّ؛ أي: ألا تدري، ولا تعلم متى حصل لها هذا، وهي في رأسك؟ (قَالَ) ابن صيّاد:(إِنْ شَاءَ اللَّهُ خَلَقَهَا)؛ أي: العلة الموجودة في عيني، أو العين المعيبة، (فِي عَصَاكَ هَذِهِ) قال القاري: أي خلق هذه العلة، أو هذه العين المعيبة في عصاك التي في يدك، وأنت لا تدري، وهي، أقرب شيء إليك. انتهى

(3)

.

ونقل الطيبيّ عن القاضي البيضاويّ أنه قال: قول ابن صيّاد: "إن شاء اللَّه

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 57.

(2)

"المفهم" 7/ 271.

(3)

"مرقاة المفاتح" 9/ 430.

ص: 540

خلقها في عصاك" في جواب قوله: "لا تدري وهي في رأسك" إشارة إلى أنه يمكن أن تكون العين بحال لا يكون له شعور بحالها، فلم لا يجوز أن يكون الإنسان مستغرقًا في أفكاره بحيث يشغله عن الإحساس بها، والتذكر لأحوالها. انتهى

(1)

.

(قَالَ) ابن عمر: (فَنَخَرَ) قال المجد رحمه الله: نَخَرَ يَنْخِرُ، ويَنْخُرُ -من بابي ضرب، ونصر- نَخِيرًا: مدّ الصوت في خياشمه. انتهى

(2)

. وقوله: (كَأَشَدِّ نَخِيرِ حِمَارٍ) صفة مصدر محذوف؛ أي: نَخْرةً، كائنة كأشدّ نخرة حمار، وقوله:(سَمِعْتُ) صفة لـ "نخير" بتقدير العائد؛ أي: سمعته (قَالَ) ابن عمر: (فَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِي) الذين كانوا معي في ذلك المكان، (أَنِّي ضَرَبْتُهُ) أي ابن صيّاد (بِعَصًا، كَانَتْ مَعِي، حَتَّى تَكَسَّرَتْ) تلك العصا من شدّة الضرب، قال ابن عمر:(وَأَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ) وفي نسخة: "وأنا واللَّه فما شعرتُ"؛ أي: ما علمت أني ضربته بتلك العصا. (قَالَ) نافع: (وَجَاءَ) ابن عمر (حَتَّى دَخَلَ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ) حفصة رضي الله عنها (فَحَدَّثَهَا) بما جرى له مع ابن صيّاد، وجعل بعض الشرّاح الداخل على حفصة هو ابن صيّاد، وما ذكرته هو الذي يظهر لي، واللَّه تعالى أعلم. (فَقَالَتْ) أم المؤمنين رضي الله عنها:(مَا) استفهاميّة للإنكار؛ أي: أيّ شيء (تُرِيدُ إِلَيْهِ؟) أي من ابن صيّاد؟ (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم (قَدْ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يَبْعَثُهُ)؛ أي: يُخرج الدجال (عَلَى النَّاسِ) في آخر الزمان (غَضَبٌ يَغْضَبُهُ") يعني سبب خروجه للإفساد في الأرض أن بعض الناس يُغضبه، فبسببه يخرج، ويعيث في الأرض فسادًا، نسأل اللَّه تعالى أن يقينا من له شر فِتَنه آمين.

والحديث من أفراد المصنّف رحمه الله، وقد مضى تخريجه قبله، وللَّه الحمد.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3476.

(2)

"القاموس المحيط" ص 1270.

ص: 541

(20) - (بَابُ ذِكْرِ الدَّجَّالِ، وَصِفَتِهِ، وَمَا مَعَهُ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7332]

(169) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ، فَقَالَ:"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلَا وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وكلهم تقدّموا في البابين الماضيين، و"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة، و"عبيد اللَّه" هو: ابن عمر العمريّ، و"ابن نمير" هو: محمد بن عبد اللَّه بن نمير.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما؛ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَي النَّاسِ) أي بين الناس، فـ "ظهراني" بفتح الظاء المعجمة، وسكون الهاء، بلفظ التثنية؛ أي: جالسًا في وسط الناس، والمراد أنه جلس بينهم، مستظهرًا، لا مستخفيًا، وزيدت فيه الألف والنون تأكيدًا، أو معناه: أن ظهرًا منهم قُدّامه، وظهرًا خلفه، وكأنهم حَفُّوا به من جانبيه، فهذا أصله، ثم كَثُر، حتى استُعمل في الإقامة بين قوم مطلقًا، ولهذا زعم بعضهم أن لفظة:"ظهراني" في هذا الموضع زائدة، قاله في "الفتح"

(1)

. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ) معناه أن اللَّه سبحانه وتعالى منزّه عن سمات الحدوث، وعن جميع النقائص، وأن الدجال خَلْق من خلق اللَّه تعالى ناقص الصورة، فينبغي لكم أن تعلموا هذا، وتعلّموه الناس؛ لئلا يغترّ بالدجال من يرى تخييلاته، وما معه من الفتن. (أَلَا) أداة

(1)

"الفتح" 6/ 485.

ص: 542

استفتاح وتنبيه، (وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى) وفي رواية:"اليسرى"، وكلاهما صحيح، والعَوَر في اللغة العيب، وعيناه معيبتان عورًا، وأن إحداهما طافئة بالهمز، لا ضوء فيها، والأخرى طافية بلا همزة ظاهرة ناتئة، قاله النوويّ

(1)

.

(كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ") قال وليّ الدين رحمه الله: رُوي بالهمز، وبغير همز، فمن هَمَز فمعناه ذهب ضوءها، ومن لم يهمز فمعناه: ناتئة بارزة، ثم إن في هذه الرواية أنه أعور العين اليمنى، وهو المشهور، وفي رواية أخرى: أنه أعور العين اليسرى، وقد ذكرهما جميعًا مسلم في هذا الباب، وكلاهما صحيح، قال القاضي عياض: روينا هذا الحرف، وهو "طافية" عن أكثر شيوخنا بغير همز، وهو الذي صححه أكثرهم، وإليه ذهب الأخفش، ومعناه: ناتئة، كنتوء حبَّة العنب من بين صواحبها، وضَبَطه بعض شيوخنا بالهمزة، وأنكره بعضهم، ولا وجه لإنكاره، وقد وصف في الحديث بأنه ممسوح العين، وأنها ليست حَجْراء، ولا ناتئة، وأنها مطموسة، وهذه صفة حبة العنب إذا سأل ماؤها، وهذا يصحح رواية الهمز، وأما ما جاء في الأحاديث الأُخرى:"جاحظ العين، وكأنها كوكب"، وفي رواية:"لها حدقة جاحظة، كأنها نخاعة في حائط" فيصحح رواية ترك الهمز، لكن يجمع بين الأحاديث، وتصحح الروايات جميعًا بأن تكون المطموسة والممسوحة والتي ليست حجراء، ولا ناتئة، هي العوراء الطائفة بالهمز، وهي العين اليمنى، كما جاء هنا، وتكون الجاحظة، والتي كأنها كوكب، وكأنها نخاعة هي الطافية، بغير همز، وهي العين اليسرى، كما جاء في الرواية الأخرى، وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافئة بالهمز، وبتركه، وأعور اليمنى واليسرى؛ لأن كل واحدة منهما عوراء، فإن الأعور من كل شيء المعيب، لا سيما ما يختص بالعين، وكذا عيني الدجال معيبة، عوراء، فإحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها. انتهى كلام القاضي.

وحكاه عنه النوويّ، ثم قال: وهو في نهاية من الحُسن، وذكر ابن عبد البرّ أن حديث "أعور العين اليمنى" أثبت من جهة الإسناد، فأشار إلى

(1)

"شرط النوويّ" 18/ 60.

ص: 543

الترجيح، والجمعُ إن أمكَن مقدّم. انتهى كلام وليّ الدين رحمه الله

(1)

وهو تحقيق حسنٌ جدًّا، واللَّه تعالى أعلم.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الحديث متّفقٌ عليه، وقد تقدم تمام شرحه، وبيان مسائله في "كتاب الإيمان" برقم [81/ 432](169) فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7333]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ، وَأَبُو كَامِلٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ- عَنْ أَيُّوبَ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ -يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ- عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلهم تقدّموا قريبًا، و"أبو الربيع" هو: سليمان بن داود الزهرانيّ العتكيّ، و"أبو كامل" هو: فضيل بن حسين الجحدريّ، و"أيوب" هو السختيانيّ.

وقوله: (كِلَاهُمَا عَنْ نَافِعٍ) الضمير لأيوب، وموسى بن عقبة.

[تنبيه]: أما رواية أيوب عن نافع، فقد ساقها ابن منده رحمه الله في "الإيمان"، فقال:

(1046)

- أخبرنا محمد بن عبيد اللَّه بن أبي رجاء، ثنا موسى بن هارون (ح) وأخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب، ثنا محمد بن أيوب، قال: ثنا أبو الربيع سليمان بن داود، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال يومًا، فقال:"إنه أعور العين اليمنى، كأنها عنبة طافية". انتهى

(2)

.

وأما رواية موسى بن عقبة عن نافع، فقد ساقها أيضًا ابن منده رحمه الله في "الإيمان"، فقال:

(1)

"طرح التثريب" 5/ 394.

(2)

"الإيمان" لابن منده 2/ 947.

ص: 544

(1044)

- أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل، وعليّ بن نصر، قالا: ثنا محمد بن إسماعيل بن مهران، ثنا يوسف بن سليمان، ثنا حاتم بن إسماعيل (ح) وأخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، ثنا أبي، ثنا سويد بن سعيد، ثنا حفص بن ميسرة، حدّثني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكر بين ظهراني الناس كلامًا، فقال:"إن اللَّه ليس بأعور، وإن الدجال أعور، عينه كأنها عنبة طافية". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7334]

(2933) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، قالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ

(2)

أُمّتَهُ الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ، ألا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْس بِأَعْوَرَ، وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: ك ف ر").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين من أوله إلى آخره، وأن شيخيه من التسعة الذين روى عنهم الجماعة بلا واسطة، وقد تقدّموا غير مرّة، وفيه أنس رضي الله عنه من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ قَتَادَةَ) بن دِعامة السَّدُوسيّ؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أَنْذَرَ) وفي نسخة: "إلا قد أنذر"، (أُمَّتَهُ) وفي رواية للبخاريّ:"ما بُعث نبيّ إلا أنذر أمته الأعور الكذاب"، وفي لفظ:"ما بَعَث اللَّه من نبيّ. . . ". (الأَعْوَرَ الْكَذَّابَ) وقد سبق بيان وجه إنذار الأنبياء قومهم به مستوفًى قريبًا، فلا تنس. (أَلَا) بالتخفيف، أداة استفتاح وتنبيه،

(1)

"الإيمان" لابن منده 2/ 947.

(2)

وفي نسخة: "إلا قد أنذر".

ص: 545

(إِنَّهُ) أي: الدجال، (أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ) تقدّم أنه إنما اقتصر على هذا، مع أن أدلة الحدوث في الدجال ظاهرة؛ لكون العَوَر أثرًا محسوسًا يدركه العالم والعاميّ، ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقلية، فإذا ادعى الربوبية، وهو ناقص الخلقة، والإله يتعالى عن النقص، عُلم أنه كاذب، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (وَمَكْتُوب بَيْنَ عَيْنَيْهِ: ك ف ر") هكذا في هذه الرواية مفكّك الأحرف، وفي رواية البخاريّ:"وإن بين عينيه مكتوب: كافر"، قال في "الفتح": كذا للأكثر، وللجمهور:"مكتوبًا"، ولا إشكال فيه؛ لأنه إما اسم "إن" وإما حال، وتوجيه الأول أنه حُذف اسم "إن"، والجملة بعده مبتدأ وخبر، في موضع خبر "إن"، والاسم المحذوف إما ضمير الشأن، أو يعود على الدجال، ويجوز أن يكون "كافر" مبتدأ والخبر:"بين عينيه".

وعند مسلم من رواية محمد بن جعفر، عن شعبة "مكتوب بين عينيه: ك ف ر"، ومن طريق هشام، عن قتادة: حدّثني أنس بلفظ: "الدجال مكتوب بين عينيه: ك ف ر؛ أي: كافر"، ومن طريق شعيب بن الحبحاب، عن أنس: "مكتوب بين عينيه: كافر، ثم تهجاها: ك ف ر، يقرؤه كل مسلم" وفي رواية عمر بن ثابت، عن بعض الصحابة: "يقرؤه كل من كره عمله".

وكذا أخرجه الترمذيّ، وهذا أخصّ من الذي قبله.

وفي حديث أبي بكرة رضي الله عنه عند أحمد: "يقوؤه الأميّ والكاتب"، ونحوه في حديث معاذ، عند البزار، وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه:"يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب"، ولأحمد عن جابر:"مكتوب بين عينيه: كافر، مهجّاة"، ومثله عند الطبرانيّ من حديث أسماء بنت عُميس رضي الله عنها.

قال ابن العربيّ: في قوله: "ك ف ر" إشارة إلى أن فَعَلَ وفَاعِل من الكفر إنما يكتب بغير ألف، وكذا هو في رسم المصحف، وإن كان أهل الخط أثبتوا في فاعل ألفًا، فذاك لزيادة البيان، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

ص: 546

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7334 و 7335 و 7336](2933)، و (البخاريّ) في "الفتن"(7131) و"التوحيد"(7408)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4316 و 4317)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2245)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 173 و 206 و 207 و 229 و 276 و 290)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3016 و 3017 و 3092 و 3265)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6794)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7335]

(. . .) - (حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، وَابْنُ بَشَّارٍ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى- قَالَا: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الدَّجَّالُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: ك ف ر؛ أَيْ: كَافِرٌ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

وتقدّموا غير مرّة، و"هشام" هو الدستوائيّ، ومن لطائفه أنه مسلسل بالبصريين.

وقوله: (أَيْ كَافِرٌ") هذا تفسير للأحرف المفككة من أحد الرواة، أنس، أو غيره، قال الأبيّ رحمه الله: ذِكر الأحرف هكذا يدلّ على أن الكتابة حقيقة، لا مجاز، ولا كناية. انتهى.

وقال القاري رحمه الله: فيه إشارة إلى أنه داع إلى الكفر، لا إلى الرشد، فيجب اجتنابه، وهذه نعمة عظيمة من اللَّه سبحانه وتعالى على هذه الأمة، حيث أظهر رقم الكفر بين عينيه، كي يهتدي المؤمن، ولا يغترّ بما يظهر على يديه من خوارق العادات.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه قبله، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7336]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ الْحَبْحَابِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ"، ثُمَّ تَهَجَّاهَا: ك ف ر، "يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ").

ص: 547

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا غير مرّة. و"عفّان" هو: ابن مسلم الصفّار. و"عبد الوارث" هو: ابن سعيد التَّنُّوريّ البصريّ، ومن لطائفه أنه مسلسلٌ بالبصريين.

شرح الحديث:

(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ)؛ أي: طافئة عينه بالهمز، مطموسة لا ضوء فيها، (مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ"، ثُمَّ تَهَجَّاهَا)؛ أي: قرأه النبيّ صلى الله عليه وسلم مفكّكًا كما قال: (ك ف ر، "يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ") وفي رواية: "يقرؤه كل مؤمن كاتب، وغير كاتب" وهذا إخبار بالحقيقة، وذلك أن الإدراك في البصر يخلقه اللَّه للعبد كيف شاء، ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بغير بصره، وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافر، ولو كان يعرف الكتابة، كما يرى المؤمن الأدلة بعين بصيرته، ولا يراها الكافر، فيخلق اللَّه المؤمن الإدراك دون تعلّم؛ لأن ذلك الزمان تنخرق فيه العادات في ذلك.

ويَحْتَمِل قوله: "يقرؤه من كَرِه عمله" أن يراد به المؤمنون عمومًا، ويَحْتَمِل أن يختص ببعضهم ممن قوي إيمانه، وقال النوويّ: الصحيح الذي عليه المحققون أن الكتابة المذكورة حقيقة، جعلها اللَّه علامة قاطعة بكذب الدجال، فيُظهر اللَّه المؤمنَ عليها، ويُخفيها على من أراد شقاوته. وحَكَى عياض خلافًا، وأن بعضهم قال: هي مجاز عن سمة الحدوث عليه، وهو مذهب ضعيف، ولا يلزم من قوله:"يقرؤه كل مؤمن كاتب، وغير كاتب" أن لا تكون الكتابة حقيقة، بل يُقَدِّر اللَّه على غير الكاتب علم الإدراك، فيقرأ ذلك، وإن لم يكن سَبَق له معرفة الكتابة، وكأن السر اللطيف في أن الكاتب وغير الكاتب يقرأ ذلك لمناسبة أن كونه أعور يدركه كل من رآه، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وسبق البحث فيه مستوفى، وللَّه الحمد.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7337]

(2934) - (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا

ص: 548

أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، مَعَهُ جَنَّة وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّة، وَجَنَّتُهُ نَارٌ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

وقد تقدّموا غير مرّة. و"أبو معاوية" هو: محمد بن خازم الضرير. و"شقيق" هو: أبو وائل، ومن لطائفه أنه مسلسلٌ بالكوفيين، غير إسحاق بن راهويه، فمروزيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ حُذَيْفَةَ) بن اليمان رضي الله عنهما أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى) تقدّم الجمع بينه، وبين الرواية الأخرى:"أعور العين اليمنى" بأن العور معناه العيب، فعينه اليمنى طافئة بالهمز ذهب ضوؤها، فهي عوراء حقيقةً، وعينه اليسرى طافية بلا همز؛ أي: ظاهرة ناتئة، فهي عوراء، معيبة، فكلتاهما معيبتان.

وقال القرطبيّ رحمه الله: "الأعور": هو الذي أصابه في عينه عَوَرٌ، وهو العيب الذي يُذهب إدراكها، وهكذا صحّ في حديث حذيفة رضي الله عنه:"اليسرى"، وقد صحّ من حديث ابن عمر مرفوعًا:"أنه أعور عينه اليمنى، كأنها عنبة طافية"، ورواه الترمذيّ أيضًا وصحّحه، وهذا اختلاف يصعب الجمع فيه بينهما، وقد تكلّف القاضي أبو الفضل الجمع بينهما، فقال: جمعُ الروايتين عندي صحيح، وهو أن كل واحدة منهما عوراء من وجهٍ مّا؛ إذ العور في كل شيء: العيب، والكلمة العوراء: هي المعيبة، فالواحدة عوراء بالحقيقة، وهي التي وُصفت في الحديث بأنها ليست جَحْراء، ولا ناتئة، وممسوحة، ومطموسة، وطافئة -على رواية الهمز-، والأخرى عوراء؛ لعيبها اللازم لها؛ لكونها جاحظة، أو كأنها كوكب، أو كأنها عنبة طافية -بغير همز- وكل واحدة منهما يصحّ فيها الوصف بالعور بحقيقة العرف، والاستعمال، أو بمعنى العور الأصليّ الذي هو العيب.

قال القرطبيّ رحمه الله: وحاصل كلامه أن كل واحدة من عيني الدجال

ص: 549

عوراء، إحداهما بما أصابها حتى ذهب إدراكها، والثانية عوراء بأصل خلقتها معيبة، لكن يُبعد هذا التأويل أن كل واحدة من عينيه قد جاء وصفها في الروايات، بمثل ما وصفت به الأخرى من العور، فتأمله، فإنَّ تتبع تلك الألفاظ يطول. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا شكّ أن جَمْع القاضي عياض رحمه الله المتقدّم هو الظاهر في وجه الجمع، وما استبعده القرطبيّ ليس ببعيد؛ لأن الروايات التي تنافي هذا ليست صحيحة، وما يصحّ منها يقبل التأويل، فطريق الجمع هو الذي ذكره القاضي رحمه الله فتأمله بالإمعان، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله: (جُفَالُ الشَّعَرِ) بضم الجيم، وتخفيف الفاء؛ أي: كثيره، قال أبو عبيد: الْجُفال: الكثير الشعر. قال ذو الرمة يصف شعر امرأة [من الطويل]:

وَأَسْوَدَ كَالأَسَاوِدِ

(2)

مُسَبْكِرًا

عَلَى الْمَتْنَيْنِ مُنْسَدِرًا جُفَالَا

المسبكر: المسترسل، والمنسدر: المنتصب، وبعضهم يرويه: مُنْسَدِلًا

(3)

.

وشعر الدجال مع كثرته جَعْد قطط، وهو الشديد الجعودة الذي لا يمتدّ إلا باليد، كشعور السودان، وفي القطط لغتان: الفتح والكسر في الطاء الأولى، قاله القرطبيّ

(4)

.

(مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ") وفي رواية: "نهران"، وفي رواية:"ماء، ونار"، وفي رواية للشيخين:"إن الدجال يخرج، وإن معه ماءً ونارًا، فأما الذي يراه الناس ماء، فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارًا، فماء باردٌ عذبٌ، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارًا، فإنه ماء عذبٌ طيبٌ".

قال العلماء: هذا من جملة فتنبّه، امتَحَن اللَّه تعالى به عباده؛ ليحق الحقّ، ويبطل الباطل، ثم يفضحه، ويظهر للناس عَجْزه

(5)

.

وقال القاري: المعنى: أن اللَّه تعالى يجعل ناره ماء باردًا عذبًا على من

(1)

"المفهم" 7/ 274 - 275.

(2)

"الأساود": الحيّات.

(3)

"كشف المشكل" 1/ 394.

(4)

"المفهم" 7/ 275.

(5)

"شرح النوويّ" 18/ 61.

ص: 550

كذبه، وألقاه فيها غيظًا، كما جعل نار نمرود بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، ويجعل ماءه الذي أعطاه من صدّقه نارًا محرقة دائمة.

ومُجمله أن ما ظهر من فتنته ليس له حقيقة، بل تخيّل منه، وشعبذة، كما يفعله السحرة والمشعبذون، مع احتمال أن اللَّه تعالى يقلب ناره، وماءه الحقيقيان، فإنه على كل شيء قدير، فمن أدرك ذلك أي الدجال، أو ما ذُكر من تلبيسه منكم فليقع في الذي يراه نارًا؛ أي: فليختر تكذيبه، ولا يبالي بإيقاعه فيما يراه نارًا فإنه ماء عذب طيب؛ أي: في الحقيقة، أو بالقلب. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا داعي لقوله: بل تخيل، وشعبذة، بل الحقّ أنهما ماء حقيقةً، ونار حقيقة، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث حذيفة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه باللفظ الآتي.

أخرجه (المصنفّ) هنا [20/ 7337 و 7338 و 7339](2934)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3450) و"الفتن"(7130)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4315)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4122)، و (أحمد) في "مسنده"(5/ 383 و 397)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(15/ 133)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6799)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(17/ 642 و 643 و 644)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(4259)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7338]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ، مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ، أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ، وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، وَلْيُغَمِّضْ، ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ، فَيَشْرَبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، عَلَيْهَا ظَفَرَةٌ غَلِيظَةٌ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ").

(1)

"مرقاة المفاتيح" 15/ 483.

ص: 551

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلّهم تقدّموا غير مرّة، و"أبو مالك الأشجعيّ" هو: سعد بن طارق بن أشيم التابعيّ الكوفيّ، ومن لطائفه أن فيه رواية تابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأنه مسلسل بالكوفيين غير يزيد، فواسطيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ رِبْعِيِّ) بكسر الراء، وسكون الموحّدة، وكسر العين المهملة: اسم بلفظ النسب، وليس بنَسَب. (ابْنِ حِرَاشٍ) بحاء مهملة، وآخره شين معجمة، (عَنْ حُذَيْفَةَ) رضي الله عنه؛ أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ" قال القرطبيّ رضي الله عنه: هذا جواب قَسَم محذوف؛ أي: واللَّه لأنا أعلم؛ أي: إن الدجّال لا يعلم حقيقة ما معه من الجنة والنار، ولا من النهرين، أي أنه يظنهما كما يراهما غيره، فيظن جنته جنّة، وماءه ماء، وحقيقة الأمر على الخلاف من ذلك، فيكون قد لُبِّس عليه فيهما، والنبيّ صلى الله عليه وسلم قد عَلِم حقيقة كل واحد منهما، ولذلك بيّنه، فقال:"ناره ماء بارد"، وفي اللفظ الآخر:"فجنته نار، وناره جنة"، وهذا الكلام رواه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق، وقد رواه من طريق أخرى موقوفًا على حذيفة رضي الله عنه من قوله، وقد رواه أبو داود من حديث ربعيّ بن حِراش، قال:"اجتمع حذيفة، وأبو مسعود، فقال حذيفة: لأنا أعلم بما مع الدجال منه"

(1)

.

(مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ، أَحَدُهُمَا)؛ أي: أحد النهرين، (رَأْيَ الْعَيْنِ) منصوب بنزع الخافض؛ أي: في رأي العين، ونَظَرِها (مَاءٌ أَبْيَضُ، وَ) النهر (الآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ) أي رأي العين (نَارٌ تَأَجَّجُ)؛ أي: تتقد، وتتلهّب، وأصله: تتأجّج بتاءين، فحُذفت إحداهما تخفيفًا، كما في قوله تعالى:{نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، قال في "الخلاصة":

وَمَا بِتَاءَيْنِ ابْتُدِي قَدْ يُقْتَصرْ

فِيهِ عَلَى تَا كَـ "تَبَيَّنُ الْعِبَرْ"

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "رأي العين" منصوب على الظرف؛ أي: حين

(1)

"المفهم" 7/ 273.

ص: 552

رأي العين، أو في رأي العين، ويصحّ أن يقال فيه: إنه مصدر صدره محذوف، تقديره: تراه رأي العين، وكل ما يُظهره اللَّه على يدي الدجال من الخوارق للعادة محَنٌ، امتَحَن اللَّه بها عباده، وابتلاء ابتلاهم به؛ ليتميّز أهل التنزيه والتوحيد، بما يدل عليه العقل السديد، من استحالة الإلهية على ذوي الأجسام، وإن أتوا على دعواهم بامتثال تلك الطوامّ، أو ليغترّ أهل الجهل باعتقاد التجسيم، حتى يوردهم ذلك نار الجحيم، وفتنة الدجال من نحو فتنة أهل المحشر بالصورة الهائلة التي تأتيهم، فتقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون: نعوذ باللَّه منك، كما تقدّم في "الإيمان". ومقتضى روايتي حذيفة رضي الله عنه أن معه نهرين، وجنتين، وأنهما مختلفتان في المعنى، واللفظ؛ لأن النهر لا يقال عليه: جنة، ولا الجنة يقال عليها: نهر، هذا هو الظاهر، ويَحْتَمِل أن يقال: إن ذينك النهرين في جنة ونار، فحسن أن يُعبّر بأحدهما عن الآخر. انتهى

(1)

.

(فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في أكثر النُّسخ: "أدركنّ"، وفي بعضها:"أدركه"، وهذا الثاني ظاهر، وأما الأول فغريب من حيث العربية؛ لأن هذه النون لا تدخل على الفعل -يعني الماضي- قال القاضي: ولعله يدركن، يعني فعبره بعض الرواة. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "أدركنّ" كذا الرواية عند جميع الشيوخ، والصواب إسقاط النون؛ لأنه فعل ماض، وإنما تدخل هذه النون على الفعل المستقبل، كقوله:{فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41]، وقوله:{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} الآية [البقرة: 38]، ونحوه كثير. انتهى

(3)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: خلاصة ما تقدّم أن نون التوكيد بقسميها لا تدخل على الفعل الماضي، وإنما تدخل على المستقبل بشروط، كما أشار إلى ذلك ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

لِلفِعْلِ تَوكِيدٌ بِنُونَينِ هُمَا

كَنُونَي اذْهَبَنَّ وَاقْصِدَنْهُمَا

(1)

"المفهم" 7/ 273 - 274.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 61.

(3)

"المفهم" 7/ 274.

ص: 553

يُؤَكِّدَانِ افْعَل وَيَفْعَل آتِيَا

ذَا طَلَبٍ أَوْ شَرْطًا إِمَّا تَالِيَا

أَوْ مُثْبَتًا فِي قَسَمٍ مُسْتَقْبَلَا

وَقَلَّ بَعْدَ مَا وَلَمْ وَبَعْدَ لَا

وَغَيْرِ إِمَّا مِنْ طَوالِبِ الْجَزَا

. . . . . . . . . . . .

وأما قوله [من الكامل]:

دَامَنَّ سَعْدُكِ لَوْ رَحِمْتِ مُتَيَّمًا

لَوْلَاكِ لَمْ يَكُ لِلصَّبَابَةِ جَانِحَا

فشاذّ لا يقاس عليه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ) بضم أوله، وفتحه؛ أي: يظنّه (نَارًا، وَلْيُغَمِّضْ) من التغميض، وهو تغطية العينين بالأجفان؛ أي: ليطبّق عينيه (ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ)؛ أي: ليخفض (رَأْسَهُ) إلى ذلك الذي يراه نارًا (فَيَشْرَبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ)؛ أي: لأنه (مَاءٌ بَارِدٌ) وفي حديث سفينة عند أحمد، والطبرانيّ:"معه واديان: أحدهما جنة، والآخر نار، فناره جنة، وجنته نار"، وفي حديث أبي أمامة عند ابن ماجه:"وإن من فتنته أن معه جنة ونارًا، فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتُلي بناره، فليستغث باللَّه، وليقرأ فواتح "الكهف"، فتكون عليه بردًا وسلامًا".

قال الحافظ رحمه الله: وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئيّ بالنسبة إلى الرائي، فإما أن يكون الدجال ساحرًا، فيُخَيِّل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل اللَّه باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارًا، وباطن النار جنة، وهذا هو الراجح، وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يَؤُوْل أمره إلى دخول نار الآخرة، وبالعكس، ويَحْتَمِل أن يكون ذلك من جملة المحنة، والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار، فيظنها جنة، وبالعكس. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأرجح كما سبق عن الحافظ أن اللَّه تعالى يقلب جنته نارًا، وناره جنة، كما هو ظواهر هذه النصوص، فلا داعي إلى التكلّف بالتأويل البارد، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(وَإِنَّ الدَّجَّالَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ)؛ أي: مطموس ضوؤها، وإدراكها، فلا يبصر بها شيئًا. (عَلَيْهَا) أي على عينه (ظَفَرَةٌ) بفتحتين؛ أي: لحمة (غَلِيظَةٌ) قال

(1)

"الفتح" 16/ 588.

ص: 554

النوويّ رحمه الله: الظفرة بفتح الظاء المعجمة، والفاء: هي جلدة تُغَشِّي البصر، وقال الأصمعيّ: لحمة تنبت عند المآقي، وأنشد:

بِعَيْنِهَا مِنَ الْبُكَاءَ ظَفَرَةٌ

حَلَّ ابْنُهَا فِي السِّجْنِ وَسْطَ الْكَفَرَهْ

وقال صاحب "العين": هي جلدة تُغشي البصر، يقال: عين ظفرة، وقال ثابت: هي إن لم تُقطع غشيت بصر العين فيكون هذا من معنى مطموس العين، وقال غيره: هي علقة تخرج من العين، وهي بالظاء المعجمة المشالة. انتهى

(1)

.

(مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ) أي هو؛ أي: الدجّال كافر لا يؤمن باللَّه العظيم، (يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، كَاتِبٍ وَغَيْرِ كَاتِبٍ") أي يستوي في قراءته من كان أهلًا له، ومن لا، فكلاهما يقرآن ذلك المكتوب معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم، حيث تولّى اللَّه تعالى أمته، وحفظهم من كيده، كما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم:"فإن يخرج، وأنا بين ظهرانيكم، فأنا حجيج لكل مسلم، وإن يخرج من بعدي، فكلٌّ حجيجُ نفسه، واللَّه خليفتي على كل مسلم"، فقد أظهر اللَّه تعالى كرامته في حفظ كل مسلم، فهداه لقراءة أنه كافر، وإن لم يكتب قبل ذلك، أو يقرأ شيئًا من المكتوبات، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه في الذي قبله، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7339]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ (ح) وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ فِي الدَّجَّالِ:"إِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ، فَلَا تَهْلِكُوا"، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

(1)

"شرح الأبّيّ" 7/ 267 - 268.

ص: 555

رجال هذا الإسناد: عشرة:

وكلّهم تقدّموا قريبًا، و"عبد الملك بن عمير" هو: الفرسيّ الكوفيّ، و"أبو مسعود" هو: عقبة بن عمرو البدريّ الصحابيّ الشهير رضي الله عنه.

وقوله: (فَلَا تَهْلِكُوا) أيتها الأمة المرحومة لا تهلكوا باتباع هذا الضالّ المضلّ، فإن أمره بيّن، لا يهلك به إلا من هلك.

وقوله: (قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ) من قول ربعيّ بن حراش، كما يبيّنه ما بعده حيث قال:"انطلقت معه -أي: مع أبي مسعود- إلى حذيفة بن اليمان" إلى آخره.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه، وللَّه الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7340]

(2935) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ صَفْوَانَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَهُ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ لَهُ عُقْبَةُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الدَّجَّالِ، قَالَ: "إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، وَإِنَّ مَعَهُ مَاءً وَنَارًا، فَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءً، فَنَارٌ تُحْرِقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا، فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَاهُ نَارًا، فَإِنَّهُ مَاءٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ"، فَقَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا قَدْ سَمِعْتُهُ؛ تَصْدِيقًا لِحُذَيْفَةَ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شُعَيْبُ بْنُ صَفوَانَ) بن الربيع الثقفيّ، أبو يحيى الكوفيّ الكاتب، مقبول [7](م تم س) تقدم في "الجنائز" 9/ 2147.

والباقون ذُكروا قريبًا، و"أبو مسعود" هو البدريّ رضي الله عنه.

وقوله: (قَالَ: انْطَلَقْتُ مَعَهُ) فاعل "قال" ضمير ربعيّ بن حراش، وضمير "معه" لعقبة بن عمرو رضي الله عنه، والمعنى: أنه ربعيًّا انطلق مع أبي مسعود رضي الله عنه إلى حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه، وللَّه الحمد والمنّة.

ص: 556

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7341]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ -وَاللَّفْظُ لِابْنِ حُجْرٍ- قَالَ إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ: اجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: "لأَنَا بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ أَعْلَمُ مِنْهُ، إِنَّ مَعَهُ نَهْرًا مِنْ مَاءٍ، وَنَهْرًا مِنْ نَارٍ، فَأَمَّا الَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ نَارٌ مَاءٌ، وَأَمَّا الَّذِي تَرَوْنَ أَنَّهُ مَاءٌ نَارٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَأَرَادَ الْمَاءَ فَلْيَشْرَبْ مِنَ الَّذِي يَرَاهُ

(1)

أَنَّهُ نَارٌ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُهُ مَاءً"، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ: هَكَذَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقُولُ).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ) النعمان بن أشيم الأشجعيّ الكوفيّ، ثقةٌ رُمي بالنصب [4](ت 110)(خت م مد ت س ق) تقدم في "الإيمان" 68/ 378.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"جرير" هو: ابن عبد الحميد الضبيّ. و"المغيرة" هو: ابن مقسم الضبيّ الكوفيّ. و"إسحاق بن إبراهيم" هو: ابن راهويه.

وقوله: (فَقَالَ حُذَيْفَةُ) ظاهر هذه الرواية أن الحديث موقوف على حذيفة رضي الله عنه، لكن الروايات المتقدّمة بيّنت أنه إنما أخذه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7342]

(2936) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَهُ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجيءُ مَعَهُ مِثْلُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ، كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ").

(1)

وفي نسخة: "من الذي يرى".

ص: 557

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ) بن بَهْرام التميميّ، أبو أحمد، أو أبو عليّ، الْمَرُّوذيّ -بتشديد الراء، وبذال معجمة- نزيل بغداد، ثقة [9](213) أو بعدها بسنة، أو سنتين (ع) تقدم في "المساجد ومواضع الصلاة" 56/ 1543.

والباقون تقدّموا قريبًا، و"شيبان" هو: ابن عبد الرحمن النحويّ. و"يحيى" هو: ابن أبي كثير اليماميّ. و"أبو سلمة" هو: ابن عبد الرحمن بن عوف.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرحمن بن عوف؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا) أداة استفتاح وتنبيه، يلقى بها إلى المخاطب تنبيهًا له، وإزالة لغفلته. (أُخْبِرُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا) نافية، (حَدَّثَهُ نَبِيٌّ) من الأنبياء قبلي (قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ)؛ أي: الدجال (أَعْوَرُ) العين اليمنى، أو اليسرى، أو هما معًا على التوجيه المتقدّم. (وَإِنَّهُ)؛ أي: الدجال (يَجِيءُ مَعَهُ مِثْلُ الْجَنَّةِ) لمن آمن به، (وَالنَّارِ) لمن كفر به، (فَالَّتِي يَقُولُ: إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ) يقلبها اللَّه تعالى انتقامًا ممن آمن به، (وَإِنِّي أَنْذَرْتُكُمْ)؛ أي: خوّفتكم (بِهِ)؛ أي: بفتنة الدجّال كي لا يفتنكم، (كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ") إنما خصّ نوحًا بالذِّكر؛ لأنه أول من ذَكَره، وهو أول الرسل المذكورين في قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} الآية [الشورى: 13]، واللَّه تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7342](2936)، و (البخاريّ) في "الأنبياء"(3338)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(7/ 492)، و (اللالكائيّ) في "اعتقاد أهل السنّة"(7/ 1222)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 943)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1160)، واللَّه تعالى أعلم.

ص: 558

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7343]

(2937) - (حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ قَاضِي حِمْصَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ؛ أَنَّهُ يسَمِعَ النَّوَّاسَ بْنَ سَمْعَانَ الْكِلَابِيَّ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيُّ -وَاللَّفْظُ لَهُ- حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ، عَنْ عَبْدِ اَلرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ، وَرَفَّعَ، حَتَّى ظننَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ:"مَا شَأْنُكُمْ؟ "، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فِيهِ، وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقَالَ: "غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ، وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ، قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ

(1)

، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكهُ مِنْكُمْ

(2)

، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ "سُورَةِ الْكَهْفِ"، إِنَّهُ خَارجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا، وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا لَبْثُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: "أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: "لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ"، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟

(3)

قَالَ: "كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ، فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ، وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ، فَتُمْطِرُ، وَالأَرْضَ، فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ، فَيَدْعُوهُمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ،

(1)

وفي نسخة: "عينه عنبة طافئة".

(2)

وفي نسخة: "فمن أدرك".

(3)

وفي نسخة: "وأمى بيده".

ص: 559

فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ، لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كنُوزُهَا، كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا، مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ، فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ، رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ، فَيُقْبِلُ، وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ، يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ، شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ، حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ، قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى، بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ، فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّعَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى، كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ، إِلَّا مَلأَهُ زَهَمُهُمْ، وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا، كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ، فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا، لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ، وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الأَرْضَ

(1)

حَتَّى يَتْرُكهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي

(1)

وفي نسخة: "فيغسل اللَّه الأرض".

ص: 560

الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَفْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) بن شدّاد النسائيّ، نزيل بغداد، ثقةٌ ثبتٌ [10](ت 234) وهو ابن أربع وسبعين سنةً (خ م د س ق) تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) القرشيّ مولاهم، أبو العباس الدمشقيّ، ثقةٌ، لكنه كثير التدليس والتسوية [8] مات آخر سنة أربع، أو أول سنة خمس وتسعين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ، أبو عُتبة الشاميّ الدارانيّ، ثقةٌ [7] مات سنة بضع وخمسين ومائة (ع) تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

4 -

(يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ قَاضِي حِمْصَ) هو: يحيى بن جابر بن حسّان، وقال أبو بكر بن صدقة صاحب "تاريخ حمص": هو يحيى بن جابر بن حسان بن عمرو بن ثعلبة بن عديّ بن مُلاءة بن عوف بن أسد بن ربيعة بن سعد بن خُنيس بن جَدِيلة الطائيّ، أبو عمرو الحمصيّ القاضي، ثقةٌ، أرسل كثيرًا [6].

رَوَى عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، وصالح بن يحيى بن المقدام، ويزيد بن شُريح الحضرميّ، وأبي سَوْرة ابن أخي أبي أيوب، وغيرهم.

روى عنه الزُّبيديّ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وحبيب بن صالح قاضي حمص، وسليمان بن سليم، وصفوان بن عمرو، ومعاوية بن صالح، وأبو راشد التنُوخيّ.

قال الغلابي عن يحيى بن معين: كان قاضي حمص، وقال عثمان الدارميّ عن ابن معين: ثقة، وقال العجليّ: شاميّ تابعيّ ثقةٌ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات".

قال أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره: مات سنة ست وعشرين ومائة، وقيل: مات في خلافة الوليد بن يزيد.

ص: 561

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ) بجيم، وموحّدة، مصغّرًا، ابن نُفير -بنون، وفاء، مصغّرًا- الحضرميّ الحَمصيّ، ثقةٌ [4](118)(بخ م 4) تقدم في "الجنائز" 25/ 2232.

6 -

(أَبُوهُ) جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرِ بن مالك بن عامر الْحَضْرَمِيُّ الحمصيّ مخضرم ثقةٌ جليلٌ، ولأبيه صحبة، فكأنه هو ما وفد إلا في عهد عمر رضي الله عنه[2] مات سنة ثمانين، وقيل: بعدها (بخ م 4) تقدم في "الطهارة" 6/ 559.

7 -

(النَّوَّاسُ بْنُ سممْعَانَ الْكِلَابِيُّ) هو: النوّاس -بتشديد الواو، ثم مهملة- ابن سمعان بن خالد الأنصاريّ الصحابيّ المشهور، سكن الشام (بخ م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 43/ 1876.

8 -

(مَحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ -بكسر أوله، وسكون الهاء- الرَّازِيُّ) الْجَمّال -بالجيم- أبو جعفر، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 239) أو في التي قبلها (خ م د) تقدم في "الإيمان" 26/ 212.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات المصنّف رحمه الله، وله فيه شيخان فصل بينهما بالتحويل، وأنه مسلسل بالشاميين، غير شيخيه، فالأول نسائيّ، ثم بغداديّ، والثاني رازيّ، وفيه رواية الابن عن أبيه، وتابعيّ عن تابعيّ مخضرم، وأن صحابيّه من المقلّين في الرواية، فليس له في الكتب الستة إلا نحو خمسة أحاديث، في الكتب الخمسة، وليس له عند البخاريّ شيء

(1)

، واللَّه تعالى أعلم.

شرح الحديث:

(عَنِ النَّوَّاسِ) بفتح النون، وتشديد الواو، (ابْنِ سَمْعَانَ) بفتح السين، وكسرها؛ أنه (قَالَ: ذَكَرَ وَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الدَّجَّالَ)؛ أي: خروجه، وسائر أموره، وابتلاء الناس به، (ذَاتَ غَدَاةٍ)"ذات" مقحمة، والغداة بالفتح: الضحوة، وهي

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 9/ 59 - 61.

ص: 562

مؤنثة، قال ابن الأنباريّ: ولم يُسمع تذكيرها، ولو حملها حامل على معنى أول النهار جاز له التذكير، والجمع غَدَوات، قاله الفيّوميّ رحمه الله

(1)

. (فَخَفَّضَ فِيهِ، وَرَفَّعَ) قال النوويّ رحمه الله: هو بتشديد الفاء فيهما، وفي معناه قولان:

أحدهما: أن "خفّض" بمعنى حقّر، وقوله:"رفّع"؛ أي: عظّمه، وفخّمه، فمِن تحقيره وهوانه على اللَّه تعالى عَوَرُهُ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"هو أهون على اللَّه من ذلك"، وأنه لا يقدر على قتل أحد إلا ذلك الرجل، ثم يعجز عنه، وأنه يضمحل أمره، ويُقتل بعد ذلك هو وأتباعه، ومن تفخيمه، وتعظيم فتنبّه، والمحنة به هذه الأمور الخارقة للعادة، وأنه ما من نبيّ إلا وقد أنذره قومه.

والوجه الثاني: أنه خفّض من صوته في حال الكثرة فيما تكلم فيه، فخفض بعد طول الكلام والتعب؛ ليستريح، ثم رفّع ليبلغ صوته كل أحد. انتهى

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: بتخفيف الفاء؛ أي: أكثر من الكلام فيه، فتارة يرفع صوته؛ ليسمع من بَعُد، وتارة يخفض؛ ليستريح من تعب الإعلان، وهذه حالة المكثر من الكلام. وقيل: معناه: فحقّره، وصغّره، كما قال:"هو أهون على اللَّه من ذلك"، وتارة عظّمه، كما قال:"ليس بين يدي الساعة خلق أكبر من الدجّال"، والأول أسبق إلى الفهم، وقد رُوي ذلك اللفظ:"فخفّض فيه ورفّع" مشدّد الفاء، وهي للتضعيف، والتكثير. انتهى

(3)

.

(حَتَّى ظَنَنَّاهُ)؛ أي: الدجّال، (فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ)؛ أي: في قطعة من النخل قريبة إلينا، يعني أنه صلى الله عليه وسلم وصفه بصفات كثيرة حتى ظننا أنه مختف في مكان قريب منا، (فَلَمَّا رُحْنَا) بضمّ الراء بوزن قُلنا؛ أي: رجعنا (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم في الرواح؛ أي: في آخر النهار، (عَرَفَ) صلى الله عليه وسلم (ذَلِكَ) الظنّ الهائل (فِينَا، فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ("مَا شَأْنكُمْ؟ ")؛ أي: ما حالكم؟ (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً)؛ أي: غداة من الغدوات، (فَخَفَّضْتَ فِيهِ، وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ)؛ أي: فهذا هو الذي أثّر في قلوبنا، وأزعجنا، كما ترى، (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم:("غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ) قال القرطبيّ رحمه الله: "أخوفني" بنون الوقاية عند

(1)

"المصباح المنير" 2/ 443.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 63.

(3)

"المفهم" 23/ 113.

ص: 563

الجماعة، وهو وجه الكلام، وقد رُوي عن أبي بحر:"أخوفي"، بغير نون، وهي قليلة، حكاها ثابت، وقد وقع في الترمذيّ:"أخوف لي"، قال: وهو وجنه الكلام، وفيه اختصار؛ أي: غير الدجّال أخوف لي عليكم من الدجال، فحُذف للعلم به. انتهى

(1)

.

قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ بلادنا: "أخوفني" بنون بعد الفاء، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، قال: ورواه بعضهم بحذف النون، وهما لغتان صحيحتان، ومعناهما واحد، قال شيخنا الإمام أبو عبد اللَّه بن مالك رحمه الله: الحاجة داعية إلى الكلام في لفظ هذا الحديث، ومعناه.

فأما لفظه: لكونه تضمّن ما لا يُعتاد، من إضافة "أخوف" إلى ياء المتكلم، مقرونة بنون الوقاية، وهذا الاستعمال إنما يكون مع الأفعال المتعدية.

والجواب أنه كان الأصل إثباتها، ولكنه أصل متروك، فَنُبِّه عليه في قليل من كلامهم، وأنشد فيه أبياتًا، منها ما أنشده الفراء [من الوافر]:

فَمَا أَدْرِي فَظَنِّي كُلُّ ظَنِّي

أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي

يعني: شراحيل، فرخّمه في غير الندا للضرورة، وأنشد غيره [من الطويل].

وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي لِيُرْفَدَ خَائِبًا

فَإِنَّ لَهُ أَضْعَافَ مَا كَانَ أَمَّلَا

ولأفعل التفضيل أيضًا شَبَه بالفعل، وخصوصًا بفعل التعجب، فجاز أن تلحقه النون المذكورة في الحديث، كما لَحِقت في الأبيات المذكورة، هذا هو الأظهر في هذه النون هنا.

ويَحْتَمِل أن يكون معناه أخوف لي، فأُبدلت النون من اللام، كما أُبدلت في لَعَنَّ وعَنّ بمعنى لعلّ، وعَلَّ.

وأما معنى الحديث: ففيه أوجه:

أظهرها: أنه من أفعل التفضيل، وتقديره: غير الدجال أخوف مخوفاتي عليكم، ثم حذف المضاف إلى الياء، ومنه:"أخوفُ ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون": معناه: أن الأشياء التي أخافها على أمتي أحقها بأن تخاف الأئمة المضلون.

(1)

"المفهم" 7/ 276.

ص: 564

والثاني: بأن يكون "أخوف" من أخاف بمعنى خَوّف، ومعناه: غير الدجال أشدّ موجبات خوفي عليكم.

والثالث: أن يكون من باب وصف المعاني بما يوصف به الأعيان، على سبيل المبالغة، كقولهم في الشعر الفصيح: شِعْرٌ شاعرٌ، وخوف فلان أخوف من خوفك، وتقديره: خوف غير الدجال أخوف خوفي عليكم، ثم حذف المضاف الأول، ثم الثاني. انتهى كلام الشيخ ابن مالك رحمه الله

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكره ابن مالك رحمه الله بحثٌ نفيسٌ، وتحقيقٌ أنيسٌ.

وخلاصة المسألة أن النون المذكورة في قوله: "أخوفني" هي النون المسمّاة بنون الوقاية، وهي تلحق الأفعال دون الأسماء، وذلك لأن الأفعال إذا اتّصلت بها ياء المتكلّم يلزمها الكسر؛ لأجل الياء، والأفعال لا يدخلها الكسر، فجيء بالنون قبل الياء لأجل أن تكون الكسرة عليها، وهذا معنى ما أشار إليه ابن مالك في "الخلاصة" بقوله:

وَقَبْلَ يَا النَّفْسِ مَعَ الْفِعْلِ الْتُزِمْ

نُونُ وِقَايَةٍ وَلَيْسِي قَدْ نُظِمْ

وأما الأسماء فلا تحتاج إليها؛ لأنها تقبل الكسر، ولذا قلّ ما يصحبها من الأسماء، كالبيتين السابقين، وكهذا الحديث، واللَّه تعالى أعلم.

قال صلى الله عليه وسلم: (إِنْ يَخْرُجْ) الدجّال (وَ) الحال (أَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ)؛ أي: مخاصمه، ومجادله (دُونَكُمْ) أي دون الحاجة إليكم، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم يكفي أمته في دفع شرّ الدجال بإفحامه، وقَطْع حججه دون أن يحتاج إلى من يدفعه معه.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إن يخرج وأنا فيكم إلخ" هذا الكلام يدلّ على أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يتبيّن له وقت خروجه، غير أنه كان يتوقعه، ويقربه، وكذلك كان يقرّب أمره، حتى يظنوا أنه في النخل القريب منهم، و"حجيجه": محاجّه، ومخاصمه، وقاطعه بالحجَّة، بإظهار كذبه وإفساد قوله. انتهى

(2)

.

(وَإِنْ يَخْرُجْ، وَ) الحال أني (لَسْتُ فِيكُمْ)؛ أي: بموتي، (فَامْرُؤٌ) التنوين

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 64 - 65.

(2)

"المفهم" 7/ 276.

ص: 565

للتعميم، بدليل قوله:"واللَّه خليفتي على كل مسلم"، أي: فأيّ امرئ مسلم (حَجِيجُ نَفْسِهِ)؛ أي: مدافع عن نفسه، ولا يحتاج إلى غيره؛ لأن اللَّه تعالى ينصره، ويعينه عليه، كما قال:(وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى) دفع شرّه، ودحض حججه الباطلة عن (كُلِّ مُسْلِمٍ)؛ أي: ومسلمة.

قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فامرؤ حجيج نفسه"، أي: ليحتجّ كل امرئ عن نفسه بما أعلمته من صفته، وبما يدلّ العقل عليه من كذبه في دعوى الإلهية، وهو خبر بمعنى الأمر، وفيه التنبيه على النظر عند المشكلات، والتمسك بالأدلة الواضحات.

قال: قوله: "واللَّه خليفتي على كل مسلم": هذا منه صلى الله عليه وسلم تفويض إلى اللَّه تعالى في كفاية كل مسلم من تلك الفتن العظيمة، وتوكلٌ عليه في ذلك، ولا شكّ في أن من صحّ إسلامه في ذلك الوقت أنه يُكْفَى تلك الفتن؛ لصدق النبيّ صلى الله عليه وسلم في توكّله؛ لضمان اللَّه تعالى كفاية من توكّل عليه، بقوله:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الآية [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه مشقة ما توكّل عليه فيه، وموصله إلى ما يصلحه منه، ومع هذا فقد أرشد النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ما يقرؤه على الدجال، فَيُؤَمَّن من فتنته، وذلك عشر آيات من أول "سورة الكهف"، أو من آخرها، على اختلاف الرواية في ذلك، والاحتياط والحزم يقتضي أن يقرأ عشرًا من أولها، وعشرإً من آخرها، على أنه قد رَوَى أبو داود من حديث النوّاس رضي الله عنه:"فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنَّها جِوَارٌ لكم من فتنته"

(1)

. انتهى

(2)

.

وقال القاري رحمه الله: قوله: "فقال: إن يخرج، وأنا فيكم"؛ أي: موجود فيه، بينكم فرضًا وتقديرًا، "فأنا حجيجه" فَعِيل بمعنى الفاعل، من الحجة، وهي البرهان؛ أي: غالب عليه بالحجة، دونكم؛ أي: قُدّامكم، ودافِعُه عنكم، وأنا إمامكم، وأمامَكم، وفيه إرشاد إلى أنه كان في المحاجة معه غير محتاج إلى معاونة معاون من أمته، في غلبته عليه بالحجة، قال القاري: كذا ذكره الطيبيّ رحمه الله، والأظهر أنه يدفعه بنور النبوة، ويدفع خارق عادته الباطل

(1)

رواه أبو داود برقم (4321).

(2)

"المفهم" 7/ 276 - 277.

ص: 566

بمعجزاته المقرونة بالحقّ من غير دليل وبرهان؛ لأن بطلانه أظهر من الشمس عند أرباب العرفان، وأيضًا هو من المصممين على الباطل من دعوته، ولم يلتفت إلى المجادلة، وإثبات الأدلة، وإلا فبحمد اللَّه سبحانه وتعالى من يوجد في الأمة من يحقق الملة بالحجة، لا سيما خاتمة الأولياء، وهو المهديّ، وزبدة الأنبياء، وهو عيسى عليه السلام.

وحاصله أنه لا ينفع معه الكلام، فدَفْعه إما بإعدامه مع وجود النبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بذوبانه وقتله على يد عيسى؛ هذا ما ظهر لي سبحانه وتعالى.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: [فإن قيل]: أوَ ليس قد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهديّ، وأن عيسى عليه السلام يقتله إلى غير ذلك من الوقائع الدالة على أنه لا يخرج، ونبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، بل لا تراه القرون الأولى من هذه الأمة، فما وجه قوله:"إن يخرج وأنا فيكم"؟.

[قلت]: إنما سلك هذا المسلك من التورية؛ لإبقاء الخوف على المكلفين من فِتَنه، والالتجاء إلى اللَّه تعالى من شره؛ لينالوا بذلك من اللَّه، ويتحققوا بالشح على دينهم.

وقال المظهر: يَحْتَمِل أن يريد تحقق خروجه، والمعنى: لا تشكّوا في خروجه، فإنه سيخرج لا محالة، وأن يريد به: عدم علمه بوقت خروجه، كما أنه كان لا يدري متى الساعة.

قال الطيبيّ رحمه الله: والوجه الثاني من الوجهين هو الصواب؛ لأنه يمكن أن يكون قوله هذا قبل عِلْمه بذلك.

قال القاري: كان حقه أن يقول: هو الظاهر؛ ليطابق تعليله بقوله: لأنه يمكن؛ إذ مع الإمكان لا يقال في حق أحدهما: هو الصواب؛ لاحتمال الخطأ في كل واحد منهما، واللَّه تعالى أعلم بالصواب.

وخلاصة المعنى: أني إن كنت فيكم، فأكفيكم شرّه وقت خروجه، "وإن يخرج، ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه"، بالرفع؛ أي: فكل امرئ يحاجّه، ويحاوره، ويغالبه لنفسه، كذا قاله الطيبيّ رحمه الله؛ أي: ليدفع شره عن نفسه بما عنده من الحجة، كما قاله ابن الملك، لكن هذا على تقدير أنه يسمع الحجة، وإلا فالمعنى أن كل أحد يدفع عن نفسه شرّه بتكذيبه، واختيار صورة تعذيبه،

ص: 567

"واللَّه خليفتي على كل مسلم" يعني: أن اللَّه سبحانه وتعالى وليّ كل مسلم، وحافظه، فيعينه عليه، ويدفع شرّه، وهذا دليل على أن المؤمن الموقن لا يزال منصورًا، وإن لم يكن معه نبيّ، ولا إمام، ففيه ردّ على الإمامية من الشيعة. انتهى

(1)

.

(إِنَّهُ)؛ أي: الدجال، وهو استئنافٌ؛ بيان لبعض أحواله، وتبيانٌ لبعض ما يفيد في دفع شرّ أفعاله، (شَابٌّ) فيه إشعار بأنه غير ابن الصياد، وإيماء إلى أنه محروم من بياض الوقار، وثابت على اشتداد السواد في الظاهر الذي هو عنوان الباطن، من سواد الفؤاد. (قَطَطٌ) بفتح القاف، والطاء؛ أي: شديد جعودة الشعر، مباعد للجعودة المحبوبة، وفيه إيماء إلى استحباب تسريح الشعر؛ دفعًا للمشابهة بالهيئة البشيعة. (عَيْنُهُ طَافِئَةٌ) وفي نسخة:"عينه عنبة طافئة" بالياء، وتُهمز؛ أي: مرتفعة، وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "طافئة" رويناه بالهمز، وصحّحناه على من يوثق بعلمه، وقد سمعناه بغير همز، وبالوجهين ذكره القاضي أبو الفضل، فقال: هو اسم فاعل من طَفِئت النارُ تَطْفأ، فهي طافئة، وانطفأت فهي منطفئة، وأطفأتها فهي مطفأة، فكأن عينه كانت تُنير كالسراج، فانطفأت؛ أي: ذهب نورها، وهذا المعنى في هذه الرواية التي لم يذكر فيها "عنبة" واضح، ويبعد فيها ترك الهمز، وأما الرواية التي فيها:"كأنها عنبة طافية" فالأَولى ترك الهمز، فإنَّه شبّهها في استدارتها، وبروزها، كحبة العنب، وهو اسم فاعل من طفا يطفو: إذا علا -غير مهموز- فهي طافية؛ أي: قائمة جاحظة، كما جاء في بعض ألفاظ الحديث. وقد رَوَى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إني قد حدّثتكم عن الدّجّال حتى خشيتُ ألا تعقلوا، إن المسيح الدجّال رجل قصيرٌ، أفحج، جعدٌ، أعور، مطموس العين، ليست بناتئة، ولا جحراء"، وهذا الحديث يقتضي أن عينه ليست بالفاحشة النتوء، والجحوظ، ولا غائرة حتى كأنها في جُحر، بل متوسطة، بحيث يصدق عليها أنها قائمة، وجاحظة، واللَّه تعالى أعلم. وقد زاد عبادة في هذا الحديث من أوصافه أنه قصير، أفحج، والفحج: تباعد ما بين الساقين. انتهى

(2)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 484.

(2)

"المفهم" 7/ 277 - 278.

ص: 568

(كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ) بتشديد الموحّدة؛ أي: أمثّله (بِعَبْدِ الْعُزَّى) بضم العين، وتشديد الزاي، (ابْنِ قَطَنٍ) بفتحتين، وفي رواية للبخاريّ: أو أقرب الناس به شبهًا ابن قطن. قال الزهريّ: رجل من خزاعة هلك في الجاهلية، قال الحافظ: اسمه عبد العزى بن قَطَن بن عمرو بن جندب بن سعيد بن عائد بن مالك بن المصطلق، وأمه هالة بنت خويلد، أفاده الدمياطيّ، قال: وقال ذلك أيضًا عن أكثم بن أبي الْجَوْن، وأنه قال: يا رسول اللَّه هل يضرني شبهه؟ قال: "لا، أنت مسلم، وهو كافر" حكاه عن ابن سعد، والمعروف في الذي شبّه به صلى الله عليه وسلم أكثمَ: عمرُو بن لُحَيّ جدّ خُزاعة، لا الدجال، كذلك أخرجه أحمد وغيره. انتهى

(1)

.

قال الطيبيّ رحمه الله: لم يقل: كأنه عبد العزى؛ لأنه لم يكن جازمًا في تشبيهه به.

وتعقّبه القاري، فقال: لا شك في تشبيهه به، إلا أنه لما كان معرفة المشبه في عالم الكشف، أو المنام عَبَّر عنه بكأني، كما هو المعتبَر في تعبير حكاية الرؤيا، واللَّه تعالى أعلم.

ويمكن أن يقال: لمّا لم يوجد في الكون أقبح صورة منه، فلا يتم التشبيه من جميع الوجوه، بل ولا من وجه واحد، عدل عن صيغة الجزم، وعبّر عنه بما عبر عنه، ثم في صيغة الحال إشعار باستحضار صورة المآل. انتهى

(2)

.

(فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ

(3)

، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ "سُورَةِ الْكَهْفِ")؛ أي: أوائلها إلى {كَذِبًا} [الكهف: 5]؛ لدلالة تلك الآيات على معرفة ذات اللَّه تعالى، وصفاته، قال الطيبيّ رحمه الله: المعنى: أن قراءته أمان له من فتنته كما أمن تلك الفتية من فتنة دقيانوس الجبار، وفي رواية أبي داود:"فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جواركم من فتنته"، والجوار بكسر الجيم: الأمان؛ أي: إنها تحفظكم من فتنته، وضَبَطها بعضهم بفتح الجيم وزاي في

(1)

"الفتح" 8/ 83.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 484.

(3)

وفي نسخة: "فمن أدرك".

ص: 569

آخره، وهو الصكّ الذي يأخذه المسافر من السلطان، أو نوابه؛ لئلا يَتعرَّض لهم المترصدة في الطريق.

[تنبيه]: وردت روايات متعددة في هذا المعنى، فمنها:"من قرأها -أي: الكهف- كما أُنزلت كانت له نورًا من مقامه إلى مكة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدجال لم يسلَّط عليه"، رواه النسائيّ، والحاكم، في "مستدركه"، وصححه، من حديث أبي سعيد الخدريّ، واللفظ للنسائيّ، وقال: رَفْعه خطأ، والصواب أنه موقوف، وأخرج الطبرانيّ في "الأوسط" من حديث أبي سعيد أيضًا، واختُلف في رفعه، ووقفه أيضًا، ولفظه:"من قرأ سورة آخرها، ثم خرج الدجال لم يضرّه"، وروى مسلم، وأبو داود، عن أبي الدرداء، مرفوعًا:"من حَفِظ عشر آيات من أولها عُصم من الدجال"، وفي رواية أبي داود، والنسائيّ عنه:"من فتنة الدجال"، وفي رواية لمسلم، وأبي داواد عنه:"من حَفِظ عشر آيات"، وللنسائي عنه:"من قرأ العشر الأواخر من الكهف، عُصم من فتنة الدجال"، وفي رواية للترمذيّ عنه:"من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف، عُصم من فتنة الدجال"، وفي رواية لمسلم، والأربعة، عن النوّاس بن سمعان:"من أدرك الدجال فليقرأ عليه فواتحها" الحديث.

قال القاري رحمه الله: قيل: وجه الجمع بين الثلاث، وبين قوله:"من حَفِظ عشر آيات" أن حديث العشر متأخر، ومن عمل بالعشرة فقد عمل بالثلاث، وقيل: حديث الثلاث متأخر، ومن عُصم بثلاث، فلا حاجة إلى العشر، وهذا أقرب إلى أحكام النَّسخ.

وتعقبه القاري، قائلًا: أقول: بمجرد الاحتمال لا يحكم بالنسخ، مع أن النسخ إنما يكون في الإنشاء، لا في الإخبار، فالأظهر أن أقل ما يُحفظ به من شرّه قراءة الثلاث، وحفظها أَولى، وهو لا ينافي الزيادة، كما لا يخفى.

وقيل: حديث العشر في الحفظ، وحديث الثلاث في القراءة، فمن حفظ العشر، وقرأ الثلاث كُفي، وعُصم من فتنة الدجال، وقيل غير ذلك من الأقوال

(1)

،

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 490.

ص: 570

والأَولى أن قراءة الثلاث تكفي، ولكن الزيادة أَولى، واللَّه تعالى أعلم.

(إِنَّهُ)؛ أي: الدجال (خَارجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّاْمِ وَالْعِرَاقِ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا في نُسخ بلادنا: "خلة" بفتح الخاء المعجمة، واللام، وتنوين الهاء، وقال القاضي: المشهور فيه: "حلةَ" بالحاء المهملة، ونصب التاء، يعني غير منوّنة، قيل: معناه: سَمْتَ ذلك، وقُبَالتَهُ، وفي "كتاب العين": الحلة موضع حَزْن، وصخور، قال: ورواه بعضهم: "حُلّه" بضم اللام، وبهاء الضمير؛ أي: نزوله، وحلوله، قال: وكذا ذكره الحميديّ في الجمع بين "الصحيحين"، قال: وذكره الهرويّ: "خلة" بالخاء المعجمة، وتشديد اللام المفتوحتين، وفسّره بأنه ما بين البلدين، هذا آخر ما ذكره القاضي.

قال النوويّ: وهذا الذي ذكره عن الهرويّ هو الموجود في نُسخ بلادنا، وفي الجمع بين "الصحيحين" أيضًا ببلادنا، وهو الذي رجحه صاحب "نهاية الغريب"، وفسّره بالطريق بينهما. انتهى

(1)

.

وقال القاري: "إنه"؛ أي: الدجال، "خارج خلة" بفتح معجمة، وتشديد لام؛ أي: طريقًا واقعًا بين الشام والعراق، وأصله: الطريق في الرمل، وقال شارح: أي: من سبيل بينهما، ففيه إشارة إلى أنها منصوبة بنزع الخافض، ويؤيده ما في "النهاية"؛ أي: في طريق بينهما. انتهى

(2)

.

قال النووي رحمه الله: هكذا هو في نُسخ بلادنا: خلة بفتح الخاء المعجمة وتنوين التاء، وقال القاضي رحمه الله: المشهور فيه: حلة بالحاء المهملة ونصب التاء يعني غير منوّنة، ومعناه: سَمْت ذلك وقبالته، قلت: المناسب أن يكون هي الحلة قرية بناحية دجلة من بغداد، أهلها شر من في البلاد من العباد، قال: ورواه بعضهم حله بضم اللام وبهاء الضمير؛ أي: نزوله وحلوله. قال: وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين أيضًا ببلادنا.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنه خارج حَلّةً بين الشام والعراق": رويته، وقيّدته بفتح الحاء المهملة، وتشديد اللام، وهي رواية السجزيّ، وقيل: معنى

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 65.

(2)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 490.

ص: 571

ذلك: قُبالة، وسَمْتٌ. وفي "كتاب العين"، و"الحلّة": موضع حَزن وصخُور، وسقطت هذه الكلمة من رواية العذريّ. ورُوي عن ابن الحذاء:"حَلُّهُ" بضم اللام، وهاء الضمير؛ أي: نزوله، وحلوله، وكذا في كتاب التميميّ، وهكذا ذكره الحميديّ، ورواه الهرويّ في "غريبه":"خَلَّةً" بالخاء المعجمة مفتوحة، وتشديد اللام، وفسّره بأنه ما بين البلدتين، وقال غيره: هو الطريق في الرمل.

قال: وقد روى الترمذيّ من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: حدّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الدجّال يخرج من أرض بالمشرق، يقال لها: خُراسان يتبعه أفواجٌ، كأن وجوههم المجانّ المطرقة"، قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما، وهذا حديث حسن غريبٌ. ووجه الجمع بين هذا وبين الذي قبل،: أن مبتدأ خروج الدجّال من خُراسان، ثم يخرج إلى الحجاز فيما بين العراق والشام، واللَّه تعالى أعلم. انتهى

(1)

.

(فَعَاثَ يَمِينًا، وَعَاثَ شِمَالًا) بعين مهملة، وثاء مثلثة مفتوحة، وهو فعل ماض، والعيث: الفساد، أو أشد الفساد، والإسراع فيه، يقال منه: عاث يعيث، وحكى القاضي أنه رواه بعضهم:"فعاثٍ" بكسر الثاء منونة، اسم فاعل، وهو بمعنى الأول، قاله النوويّ

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "عاث يمينًا، وعاث شمالًا" رويناه بالعين المهملة، والثاء المثلثة، مفتوحةً، غير منوّنة، على أنه فعل ماضٍ، وبكسرها، وتنوينها، على أنه اسم فاعل، وهو بمعنى الفساد، يقال: عثا في الأرض يعثو: أفسد، وكذلك عَثِي -بالكسر- يَعْثَى، قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 183].

والمعنى: أن الدجال أفسد، أو مفسد يمينًا، وشمالًا، فـ "يمينًا، وشمالًا" ظرفًا لـ "عاث".

والمراد: يبعث سراياه يمينًا، وشمالًا، ولا يكتفي بالإفساد فيما يطؤه من البلاد، ويتوجه له من الأغوار والأنجاد، فلا يأمن من شرّه مؤمن، ولا يخلو

(1)

"المفهم" 7/ 278 - 279.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 65.

ص: 572

من فتنته موطن

(1)

، اللَّهُمَّ اكفنا شرّه، وجميع المسلمين.

(يَا عِبَادَ اللَّهِ)؛ أي: أيها المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان، أو أنتم أيها المخاطبون على فرض أنكم تدركون ذلك الأوان، (فَاثْبُتُوا")؛ أي: على دينكم، وإن عاقبكم، قال الطيبيّ رحمه الله: هذا من الخطاب العام، أراد به من يُدرك الدجال من أمته، ثم قيل: هذا القول منه صلى الله عليه وسلم استمالة لقلوب أمته، وتثبيتهم على ما يعاينونه من شرّ الدجال، وتوطينهم على ما هم فيه من الإيمان باللَّه تعالى، واعتقاده، وتصديق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "يا عباد اللَّه فاثبتوا": هذا من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم يأمر من لقي الدجّال أن يثبت، ويصبر، فإنَّ لُبثه في الأرض قليل، على ما يأتي، وأما من سمع به، ولم يلقه، فليبعد عنه، وليفرّ بنفسه، كما أخرجه أبو داود

(2)

من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من سَمِع بالدجّال فلينأ عنه، فواللَّه إن الرجل ليأتيه، وهو يحسب أنه مؤمن، فيتّبعه، مما يبعث به من الشبهات -أو- لِمَا يبعث به من الشبهات"

(3)

.

(قُلْنَا:) معاشرَ الحاضرين مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، (يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا لَبْثُهُ؟) بفتح اللام، وسكون الموحّدة؛ أي: ما قدر مكثه وتوقفه (فِي الأَرْضِ قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: ("أَرْبَعُونَ يَوْمًا) أما ما ورد في رواية: "يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة"، فقال البغويّ في "شرح السُّنَّة": إنه لا يصلح أن يكون معارضًا لرواية مسلم هذه، وعلى تقدير صحته لعل المراد بأحد المكثين، مكث خاصّ، على وصف معيَّن

(4)

، واللَّه تعالى أعلم.

(يَوْمٌ) أي: من تلك الأربعين (كَسَنَةٍ)؛ أي: مقدار عام في طول الزمان، أو في كثرة الغموم والأحزان، والصواب الأول. (وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ") قال القرطبيّ رحمه الله: ظاهر هذا أن اللَّه تعالى يَخرق العادة في تلك الأيّام، فيُبطئ بالشمس عن حركتها المعتادة في أول يوم من تلك

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3453.

(2)

رواه برقم (4319).

(3)

"المفهم" 7/ 279.

(4)

راجع: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 15/ 490.

ص: 573

الأيام، حتى يكون أوّل يوم كمقدار سنة معتادة، ويبطئ بالشمس حتى يكون كمقدار شهر، والثالث حتى يكون كمقدار جمعة، وهذا ممكن، لا سيما وذلك الزمان تنخرق فيه العوائد كثيرًا، لا سيما على يدي الدجّال.

وقد تأوّله أبو الحسين ابن المنادي على ما حكاه أبو الفرج ابن الجوزيّ، فقال: المعنى: يَهْجُم عليكم غمّ عظيم؛ لشدة البلاء، وأيام البلاء طوال، ثم يتناقص ذلك الغمّ في اليوم الثاني، ثم يتناقص في الثالث، ثم يعتاد البلاء، كما يقول الرجل: اليوم عندي سنة، كما قال:

وَلَيْلُ الْمُحِبِّ بِلَا آخِرِ

قال أبو الفرج: وهذا التأويل يردّه قولهم: "أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا، اقدروا له قدره".

والمعنى: قدّروا الأوقات للصلاة، غير أن أبا الحسين ابن المنادي قد طَعَن في صحة هذه اللفظات، أعني قولهم:"أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره"، فقال: هذا عندنا من الدسائس التي كادنا بها ذوو الخلاف علينا قديمًا، ولو كان ذلك صحيحًا لاشتهر على ألسنة الرواة، فإن حديث الدجال قد رواه ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وأُبَيّ بن كعب، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، وأبو مسعود البدريّ، وأنس بن مالك، وعمران بن حصين، ومعاذ بن جبل، ومُجَمِّع بن جارية رضي الله عنهم في آخرين، ولو كان ذلك لقوي اشتهاره، ولكان أعظم، وأقطع من طلوع الشمس من مغربها.

وتعقّبه القرطبيّ، فأجاد، حيث قال: هذه الألفاظ التي أنكرها هذا الرجل صحيحة في حديث النوّاس، أخرجها الترمذيّ من حديث النوّاس، وذكر الحديث بطوله، نحوًا مِمَّا خرّجه مسلم، وقال في الحديث: حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، وقد أخرجه أبو داود أيضًا من حديث عبد الرحمن بن يزيد المذكور، وذكر طرفًا من الحديث، ولم يذكره بطوله، فصحّ الحديث عند هؤلاء الأئمة، وانفراد الثقة بالحديث لا يخرم الثقة به؛ لأنَّه قد يسمع ما لا تسمعه الجماعة في وقت لا

ص: 574

يحضر غيره، وكم يوجد من ذلك في الأحاديث، وقد رواه قاسم بن أصبغ من حديث جابر بن عبد اللَّه على ما يأتي.

وتطريق إدخال المخالفين الدسائس على أهل العلم والتحرز والثقة بعيدٌ لا يُلتفت إليه؛ لأنه يؤدي إلى القدح في أخبار الآحاد، وإلى خرم الثقة بها، مع أن ما تضمّنته هذه الألفاظ أمورٌ ممكنة الوقوع في زمان خرق العادات، كسائر ما جاء مما قد صحّ، وثبت من خوارق العادات التي تظهر على يدي الدجال، مما تضمنه هذا الحديث وغيره، فلا معنى لتخصيص هذه الألفاظ بالإنكار، والكل ظنون مستندة إلى أخبار العدول، واللَّه أعلم بحقائق الأمور.

قال القاضي في قوله: "اقدروا له": هذا حُكم مخصوص بذلك اليوم، شَرَعه لنا صاحب الشرع، ولو وُكِلنا فيه لاجتهادنا لكافت الصلاة فيه عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. انتهى كلام القرطبيّ رحمه الله

(1)

، وهو تحقيقٌ مفيد، واللَّه تعالى أعلم.

وقال في "المرقاة": قال ابن الملك: قيل: المراد منه: أن اليوم الأول لكثرة غموم المؤمنين، وشدة بلاء اللعين يُرَى لهم كسنة، وفي اليوم الثاني يهون كيده، ويضعف أمره، فيُرى كشهر، والثالث يُرى كجمعة؛ لأن الحقّ في كل وقت يزيد قدرًا، والباطل ينقص حتى ينمحق أثرًا، أو لأن الناس كلما اعتادوا بالفتنة والمحنة يهون عليهم إلى أن تضمحل شدتها.

ولكن هذا القول مردود؛ لأنه غير مناسب لِمَا ذكر الراوي: "قلنا: يا رسول اللَّه، فذلك اليوم الذي كسنة -أي: مثلًا- أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره" بل هذا جار على حقيقته، ولا امتناع فيه؛ لأن اللَّه تعالى قادر على أن يزيد كل جزء من أجزاء اليوم الأول حتى يصير مقدار سنة خارقًا للعادة، كما يزيد في أجزاء ساعة من ساعات اليوم. انتهى.

وفيه أن هذا القول الذي قرره على المنوال الذي حرّوه لا يفيد إلا بسط الزمان، كما وقع له في قصة الإسراء، مع زيادة على المكان، لكن لا يخفى أن سبب وجوب كل صلاة إنما هو وقته المقدر من طلوع صبح، وزوال

(1)

"المفهم" 7/ 279 - 281.

ص: 575

شمس، وغروبها، وغيبوبة شفقها، وهذا لا يُتصور إلا بتحقق تعدد الأيام والليالي على وجه الحقيقة، وهو مفقود، فالتحقيق ما قاله الشيخ التوربشتيّ رحمه الله وهو أنه يشكل من هذا الفصل قوله:"يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة -مع قوله-: وسائر أيامه كأيامكم"، ولا سبيل إلى تأويل امتداد تلك الأيام علي أنها وصفت بالطول والامتداد؛ لِمَا فيها من شدّة البلاء، وتفاقم البأساء والضراء؛ لأنهم قالوا:"يا رسول اللَّه فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا. . . " الحديث، فنقول -وباللَّه التوفيق، ومنه المعونة في التحقيق-: قد تبين لنا بإخبار الصادق المصدوق -صلوات اللَّه تعالى وسلامه عليه- أن الدجال يُبحث معه من الشبهات، ويفيض على يديه من التمويهات، ما يسلب عن ذوي العقول عقولهم، ويخطف من ذوي الأبصار أبصارهم، فمن ذلك تسخير الشياطين له، ومجيئه بجنة ونار، وإحياء الميت على حسب ما يدعيه، وتقويته على من يريد إضلاله تارة بالمطر والعشب، وتارة بالأزمة والجدب، ثم لا خفاء بأنه أسحر الناس، فلم يستقم لنا تأويل هذا القول، إلا أن نقول إنه يأخذ بأسماع الناس، وأبصارهم حتى يُخَيَّل إليهم أن الزمان قد استمرّ على حالة واحدة، إسفار بلا ظلام، وصباح بلا مساء، يحسبون أن الليل لا يَمُدّ عليهم رُواقه، وأن الشمس لا تَطْوِي عنهم ضياءها، فيبقون في حيرة، والتباس من امتداد الزمان، ويدخل عليهم دواخل باختفاء الآيات الظاهرة في اختلاف الليل والنهار، فأمرهم أن يجتهدوا عند مصادفة تلك الأحوال، ويَقْدروا لكل صلاة قَدْرها إلى أن يكشف اللَّه عنهم تلك الغمة، هذا الذي اهتدينا إليه من التأويل، واللَّه الموفق لإصابة الحقّ.

وفي "شرح مسلم" للنوويّ رحمه الله: قالوا: هذا على ظاهره، وهذه الأيام الثلاثة طويلة على هذا القَدْر المذكور في الحديث، يدل عليه قوله:"وسائر أيامه كأيامكم"، وأما قوله:"اقدروا له قدره" فقال القاضي عياض وغيره: هذا حكم مخصوص بذلك اليوم، شَرَعه لنا صاحب الشرع، قالوا: ولولا هذا الحديث، ووُكلنا إلى اجتهادنا اقتصرنا على الصلاة عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام، ومعناه: إذا مضى بعد طلوع الفجر قَدْر ما يكون بينه وبين الظهر في كل يوم، فصلّوا الظهر، ثم إذا مضى بعده قَدْر ما يكون بينها وبين العصر،

ص: 576

فصلّوا العصر، فإذا مضى بعدها قدر ما يكون بينها وبين المغرب، فصلوا المغرب، وكذا العشاء، والصبح، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، وكذا حتى ينقضي ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلوات سَنَة فرائض، مؤداة في وقتها.

وأما الثاني الذي كشهر، والثالث الذي كجمعة، فيقاس على اليوم الأول في أنه يقدّر له كاليوم الأول، على ما ذكرناه. انتهى.

وحاصله أن الأوقات للصلوات أسباب، وتقديم المسبَّبات على الأسباب غير جائز، إلا بشرع مخصوص، كما يُقدم العصر على وقته بعرفات

(1)

.

(قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟) واحد (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("لَا) أي لا تكفي فيه صلاة يوم واحد، بل (اقْدُرُوا) بكسر الدال وضمّها، من بابي ضرب، ونصر، (لَهُ) أي لأداء الصلاة (قَدْرَهُ")؛ أي: قدره الذي كان له في سائر الأيام، كمحبوس اششبه عليه. (قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ)؛ أي: ما قدر إسراعه، أو كيفية إعجاله (فِي الأَرْضِ؟)؛ أي: في سيرها، وطيّ ساحتها، قال الطيبيّ رحمه الله: لعلهم علموا أن له إسراعًا في الأرض، فسألوا عن كيفيته، كما كانوا عالمين بلبثه، فسألوا عن كميته بقولهم:"ما لَبثه؟ " أي: ما مدة لبثه؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: ("كَالْغَيْثِ) المراد به هنا الغيم؛ إطلاقًا للسبب على المسبَّب؛ أي: يُسرع في الأرض إسراع الغيم، وقوله:(اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ) قال ابن الملك: حال، أو صفة للغيث، و"أل" فيه للعهد الذهني، والمعنى: أن هذا مثال لا يُدرك كيفيته، ولا يمكن تقدير كميته. (فَيَأْتِي)؛ أي: فيمرّ الدجال (عَلَى الْقَوْمِ، فَيَدْعُوهُمْ) على باطله (فَيُؤْمِنُونَ بِهِ)؛ أي: يصدّقونه على باطله (وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ)؛ أي: يطيعونه فيما يأمرهم به، (فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ)؛ أي: السحاب، (فَتُمْطِرُ) بالضمّ، من الإمطار؛ أي: تنزل غيثها، (وَالأَرْص)؛ أي: ويأمر الأرض (فَتُنْبِتُ) بالضمّ، من الإنبات، (فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ)؛ أي: فترجع بعد زوال الشمس إليهم (سَارِحَتُهُمْ)؛ أي: مواشيهم التي تذهب بالغدوة إلى مراعيها، (أَطْوَلَ ما كَانَتْ)؛ أي: السارحة من الإبل، ونصب "أطول" على الحالية، (ذُرًا) بضم الذال المعجمة، وحُكي كسرها، وفتح الراء، منوّنًا: جَمْع

(1)

"مرقاة المفاتيح" 15/ 490.

ص: 577

ذروة مثلثة، وهي أعلى السنام، وذروة كل شيء أعلاه، وهو كناية عن كثرة السِّمَن، وانتصاب "ذرًا" على التمييز. (وَأَسْبَغَهُ)؛ أي: أتمّه (ضُرُوعًا) بضم أوله: جمع ضرع، وهو الثدي، كناية عن كثرة اللبن، (وَأَمَدَّهُ)؛ أي: وأمدّ ما كانت، وهو اسم تفضيل من المدّ، (خَوَاصِرَ) جمع خاصرة، وهي ما تحت الجَنْب، ومدّها كناية عن الامتلاء، وكثرة الأكل.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فتغدو عليهم سارحتهم إلخ": تغدو: تبكر. والسارحة: المواشي التي تخرج للسرح، وهو الرعي، كالإبل، والبقر، والغنم. والذُّرى: جمع ذروة، وهي الأسنمة، وأسبغه: أطوله ضروعًا؛ لكثرة اللبن. وأمدّه خواصر: لكثرة أكلها، وخصب مرعاها. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ)؛ أي: قومًا آخرين، وفي العدول عن قوله:"على" بناءً على ما سبق إشعار بأن إتيانه على الأولين ضررٌ في الحقيقة، دون الآخرين

(2)

. (فَيَدْعُوهُمْ) أي إلى عبادته بدعواه الألوهيّة، (فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ) أي لا يقبلونه، أو يبطلونه بالحجة، (فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ) فيه إشارة إلى أنه ليس له قدرة الإجبار، قال تعالى جل جلاله:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] والمعنى فيصرفه اللَّه عنهم، (فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ) بضم الميم، وبالحاء؛ أي: داخلين في الْمَحْل، قال التوربشتيّ رحمه الله: أمحل القومُ: أصابهم المحل، وهو انقطاع المطر، ويبس الأرض من الكلأ، وقوله:(لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) بيان لإمحالهم، والحاصل أن القوم صاروا به مبتلين بأنواع من البلاء، والمحن، والضرّاء، ولكن اللَّه عز وجل أمدّهم بالصبر والثبات، وقوّة اليقين، فهم صابرون، راضون، شاكرون. (وَيَمُرُّ) الدجّال (بِالْخَرِبَةِ) بفتح الخاء، وكسر الراء، أو بكسر الخاء، وسكون الراء أو بكسر الراء؛ أي: بالأرض الخراب (فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي) بقطع الهمزة، من الإخراج، (كنُوزَكِ)؛ أي: مدفونك، أو معادنك، (فَتَتْبَعُهُ) الفاء فصيحية؛ أي: فتخرج، فتتبع الدجال (كُنُوزُهَا، كيَعَاسِيبِ النَّحْلِ)؛ أي: كما يتبع النحلُ اليعسوب، قال النوويّ رحمه الله: اليعاسيب ذكور النحل، هكذا فسَّره ابن قتيبة، وآخرون، قال القاضي رحمه الله:

(1)

"المفهم" 7/ 281.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 15/ 490.

ص: 578

المراد: جماعة النحل، لا ذكورها خاصّة، لكنه كنى عن الجماعة باليعسوب، وهو أميرها؛ لأنه متى طار تبعته جماعته، ومنه قيل للسيد: يعسوب، ففي الكلام نوع قلب؛ إذ حق الكلام: كنحل اليعاسيب، ولعل النكتة في جمع اليعاسيب، هو الإيماء إلى كثرة الكنوز التابعة، وأنه قُدِّر كأنه جَمْع باعتبار جوانبه، وأطرافه، والمراد: جَمْع من أمرائه، ووكلائه، وقال الأشرف: قوله: "كاليعاسيب" كناية عن سرعة اتّباعه؛ أي: تتبعه الكنوز بالسرعة، وقال الطيبيّ رحمه الله: إذا كان قوله: "كاليعاسيب" حالًا من الدجال فالخربة صفة البقاع، وإذا كان حالًا من الكنوز، فيجوز أن يكون الموصوف جمعًا، أو مفردًا. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: يعاسيب النحل: فُحولها، واحدها يعسوب، وقيل: أمراؤها، ووجه التشبيه: أن يعاسيب النحل يتبع كلَّ واحد منهم طائفة من النحل، فتراها جماعات في تفرقة، فالكنوز تتبع الدجال كذلك

(2)

.

(ثُمَّ يَدْعُو)؛ أي: يطلب الدجال (رَجُلًا) لم يُعرف، وقيل: هو الخضر عليه السلام، ولا يصحّ، كما سيأتي، حال كونه (مُمْتَلِئًا)؛ أي: تامًا كاملًا قويًا، وقوله:(شَبَابًا) تمييز عن النسبة، قال الطيبيّ رحمه الله: الممتلئ شبابًا هو الذي يكون في غاية الشباب، (فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ) أي غضبًا عليه؛ لإبائه قبول دعوته الألوهية، أو إظهارًا للقدرة، وتوطئة لخرق العادة، (فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ) بفتح الجيم، وتكسر؛ أي: قطعتين، متباعدتين، (رَمْيَةَ الْغَرَضِ)؛ أي: قَدْر حذف الْهَدَف، فهي منصوبة بمقدَّر، وفائدة التقييد به أن يظهر عند الناس أنه هلك بلا شبهة، كما يفعله السحرة، والمشعبذة، قال النوويّ رحمه الله: هو بفتح الجيم على المشهور، وحَكَى ابن دُريد كسرها، ومعنى رمية الغرض: أنه يجعل بين الجزلتين مقدار رمية الغرض، هذا هو الظاهر المشهور، وحكى القاضي هذا، ثم قال: وعندي أن فيه تقديمًا وتأخيرًا، وتقديره: فيصيبه إصابة رمية الغرض، فيقطعه جزلتين، والصحيح الأول، قال التوربشتيّ رحمه الله: أراد برمية الغرض:

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3453.

(2)

"المفهم" 7/ 282.

ص: 579

إما سرعة نفوذ السيف، وإما إصابة الْمَحَزّ، قال الطيبيّ رحمه الله: ويؤيده تأويل النوويّ قوله في الحديث الآخر: "ثم يمشي الدجال بين القطعتين"

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "فيقطعه جزلتين" هو بفتح الجيم، وحكاه ابن دُريد بكسرها، قال: والأَولى الفتح؛ لأن جزلتين هنا مصدر ملاقٍ في المعنى لـ "يقطعه"، فكأنه قال: قطعه قطعتين، أو جزله جَزلتين، وجزلة مصدر محدود لجزل جزلًا، وجزلةً، ويجوز الكسر على أنه اسم، يعني قَسَمه قطعتين وفرقتين، و"رميةَ الغرض" منصوب نصب المصدر؛ أي: كرمية الغرض في السرعة والإصابة، وقيل: جُعل بين القطعتين مثل رمية الغرض، وفيه بُعد، والأول أشبه. انتهى

(2)

.

(ثُمَّ يَدْعُوهُ)؛ أي: يطلب الدجّال الشاب الذي قطعه بالسيف لكي يأتيه، (فَيُقْبِلُ) الشابّ على الدجّال، وقوله:(وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ) جملة في محلّ نصب على الحال، ومعنى "يتهلّل": أي يتلألأ، ويضيء، وقوله:(يَضْحَكُ) جملة حاليّة من "وجهه".

(فَبَيْنَمَا هُوَ)؛ أي: الدجّال (كَذَلِكَ) أي: على تلك الحال، وذلك المنوال، (إِذْ بَعَثَ اللَّهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) عليهما الصلاة والسلام، فسبحان من يدفع المسيحَ بالمسيح، قال تعالى جل شأنه:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، (فَيَنْزِلُ) عيسى عليه السلام (عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ)"عند" ظرف لـ "ينزل"، وقوله:(شَرْقِيَّ دِمَشْقَ) بالنصب على الظرفية مضافًا إلى قوله: "دمشق" بكسر الدال، وفتح الميم، وتُكسر، وهو المشهور الآن بالشام، فإنه تحت ملكه، وذكر السيوطي في تعليقه على ابن ماجه أنه قال الحافظ ابن كثير: في رواية أن عيسى عليه السلام ينزل ببيت المقدس، وفي رواية بالأردنّ، وفي رواية بمسكر المسلمين.

قال: حديث نزوله ببيت المقدس عند ابن ماجه، وهو عندي أرجح، ولا ينافي سائر الروايات؛ لأن بيت المقدس شرقيّ دمشق، وهو معسكر المسلمين

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3453.

(2)

"المفهم" 7/ 282.

ص: 580

إذ ذاك، والأردنّ اسم الكورة، كما في "الصحاح"، وبيت المقدس داخل فيه، وإن لم يكن في بيت المقدس الآن منارة، فلا بدّ أن تَحْدث قبل نزوله، واللَّه تعالى أعلم.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق بين مهرودتين" أما المنارة فبفتح الميم، وهذه المنارة موجودة اليوم شرقيّ دمشق، ودمشق بكسر الدال، وفتح الميم، وهذا هو المشهور، وحكى صاحب "المطالع" كسر الميم، وهذا الحديث من فضائل دمشق، وفي "عند" ثلاث لغات: كسر العين، وضمها، وفتحها، والمشهور الكسر، وأما المهروذتان فروي بالدال المهملة، والذال المعجمة، والمهملة أكثر، والوجهان مشهوران للمتقدمين والمتأخرين، من أهل اللغة، والغريب، وغيرهم، وأكثر ما يقع في النُّسخ بالمهملة، كما هو المشهور، ومعناه: لابس مهروذتين؛ أي: ثوبين مصبوغين بوَرْس، ثم بزعفران، وقيل: هما شقتان، والشقة نصف الملاءة. انتهى

(1)

.

(بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ) بالدال المهملة، ويُعجم؛ أي: حال كون عيسى عليه السلام بينهما، بمعنى لابس حُلّتين مصبوغتين بورس، أو زعفران، قال النوويّ رحمه الله: روى بالدال المهملة، والذال المعجمة أكثر، والوجهان مشهوران للمتقدمين والمتأخرين، وأكثر ما يقع في النُّسخ بالمهملة، ومعناه: لابس ثوبين مصبوغين بالورس، ثم الزعفران. انتهى.

وقال ابن الأنباريّ: يروى بدال مهملة، أو معجمة؛ أي: بين مِخصرتين، على ما جاء في الحديث، ولا نسمعه إلا فيه، وكذلك أشياء كثيرة لم تُسمع إلا في الحديث، والمخصرة من الثياب التي فيها صفوة خفيفة، كذا في "النهاية"

(2)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بين مهرودتين": الرواية الصحيحة بالدال المهملة، والتاء المثناة من فوق، وبعض المحدّثين يقولها بالذال المعجمة، وحكى ابن الأنباريّ أنها تقال بهما، والمعروف الأول، وفي "الصحاح":

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 67.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 15/ 490.

ص: 581

هَرَدت الثوب: شققته، والْهِرْدى على وزن فِعْلى بكسر الهاء: نبت يُصبغ به، وثواب مهرود؛ أي: صُبغ أصفر.

ولمّا كان هذا هو المعروف في اللغة، اختَلَف الشارحون لهذا اللفظ في هذا الحديث، فقيل: إنا عيسى عليه السلام ينزل في شقي ثوب، والشقة نصف الْملاءة، أو في حلّتين، مأخوذ من الْهَرْد، وهو القطع والشقّ، وقال أكثرهم: في ثوبين مصبوغين بالصفرة، وكأنه الذي صُبغ بالْهِرْدَى. وقد اجترأ القتبيّ، وخطّأ النقلة في هذا اللفظ، وقال: هو عندي خطأ من النقلة، وأراه مَهْرُوَّتَين، يقال: هَرَيت العمامةَ: إذا لبستها صفراء، وكأن فعلت منه: هروت، وأنشدوا عليها [من الطويل]:

رَأَيْتُكَ هَرَّيْتَ الْعِمَامَةَ بَعْدَمَا

أَرَاكَ زَمَانًا حَاسِرًا لَمْ تُعَصّبِ

قال: إنما أراد: أنك لبست العمامة صفراء، كما يلبسها السادة، وكان السيد يعتم بعمامة صفراء، ولا يكون ذلك لغيره.

قال القرطبيّ: لقد صدق من قال في ابن قتيبة: هَجُوم، ولّاجٌ على ما لا يُحسن، وقد أخطأ ابن قتيبة فيما خَطّأ فيه الثقات، وأهل التقييد والثبت والعلم من وجهين:

أحدهما: حكمه بالخطأ وجرأته به على الأئمة الحفّاظ الثقات العلماء، فكان حقّه أن يتوقف إذا لم يجد محملًا لتلك اللفظة على النحو المرويّ.

وثانيهما: إن ما استدلّ به، لا حجَّة فيه، لوجهين قد أشار إليهما أبو بكر فيما حكاه الإمام أبو عبد اللَّه عنه، فقال: ما قاله خطأ؛ لأنَّ العرب لا تقول: هروت الثوب، لكن هريت، ولا يقال أيضًا هريت إلا في العمامة خاصّة، فليس له أن يقيس على العمامة؛ لأنَّ اللغة رواية.

قال القرطبيّ: والأصحّ قول الأكثر، ويشهد له ما قد وقع في بعض الروايات بدل "مهرودتين":"ممصّرتين"، والممصّرة من الثياب هي المصبوغة بالصفرة -واللَّه تعالى أعلم- انتهى

(1)

.

حال كون عيسى عليه السلام (وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ) وهذا بيان كيفية

(1)

"المفهم" 7/ 282 - 283.

ص: 582

نزوله، كما أن ما قبله بيان لكيفية لبسه وجماله، ثم بيّن له حالة أخرى بقوله:(إِذَا طَأْطَأَ) بهمزتين؛ أي: خفص (رَأْسَهُ قَطَرَ)؛ أي: عَرِقَ، (وَإِذَا رَفَعَهُ)؛ أي: رأسه، (تَحَدَّرَ) بتشديد الدال؛ أي: نزل (مِنْهُ)؛ أي: شعر رأسه، (جُمَانٌ)؛ أي: قطرات مثل الجمان، بضم الجيم، وتخفيف الميم، وتُشدّد: حَبّ يُتخذ من الفضة، وقال النوويّ: الجمان بضم الجيم، وتخفيف الميم: هي حبات من الفضة، تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار، والمراد: يتحدر منه الماء على هيئة اللؤلؤ في صفائه، فسمّي الماء جمانًا؛ لِشَبَهه به في الصفاء. انتهى.

(كَاللُّؤْلُؤِ)؛ أي: في الصفاء والبياض، ففي "النهاية": الجمان بضم الجيم، وتخفيف الميم: يتخذ من الفضة على هيئة اللآلئ الكبار، قال الطيبيّ رحمه الله: شبّهه بالجمان في الكِبَر، ثم شبّه الجمان باللؤلؤ في الصفاء والحسن، فالوجه أن يكون الوجه الكِبَر مع الصفاء والحسن.

وفي "القاموس": الجمان كغراب: اللؤلؤ، أو هنوات أشكال اللؤلؤ، وقيل: الجمان بتشديد الميم: اللؤلؤ الصغار، وبتخفيفها: حَب يُتخذ من الفضة، وقيل: المراد بالجمان في صفة عيسى عليه السلام: هو الحَب المتخذ من الفضة.

وقال القرطبيّ: قوله: "إذا طأطأ رأسه قطر"؛ أي: إذا خفض رأسه سال منه ماء، يعني به العرق، وهذا نحو مما قال في الحديث الذي تقدّم:"يقطر رأسه ماء، كأنما خرج من ديماس"؛ يعني: الحمّام.

وقوله: "إذا رفعه تحدّر منه جمانٌ كاللؤلؤ": الجمان: ما استدار من اللؤلؤ، والدرّ، ويستعار لكل ما استدار من الحلي، قاله أبو الفرج ابن الجوزيّ، شبّه قطرات العرق بمستدير الجوهر، وهو تشبيه واقع

(1)

.

(فَلَا يَحِلُّ) بكسر الحاء؛ أي: لا يمكن (لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ) بفتح الفاء، (إِلَّا مَاتَ) قال النوويّ: هكذا الرواية: "فلا يحل" بكسر الحاء، "نفسه" بفتح الفاء، ومعنى لا يحل: لا يمكن، ولا يقع، وقال القاضي: معناه عندي حقّ وواجب، قال: ورواه بعضهم بضم الحاء وهو وهم وغلط. قال

(1)

"المفهم" 7/ 284.

ص: 583

الطيبيّ رحمه الله: معناه لا يحصل، أو لا يحقّ أن يجد من ريح نفسه، وله حال من الأحوال إلا حال الموت، فقوله:"يجد" مع ما في سياقه فاعل "يحل" على تقدر "أن". انتهى

(1)

.

(وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ) قال القرطبيّ: "نفسه" بفتح الفاء، و"طرفه" بسكون الراء، وهو عينه، ويعني بذلك أن اللَّه تعالى قوّى نفس عيسى عليه السلام حتى يصل إلى المحل الذي يصل إليه إدراك بصره، فمعناه: أن الكفار لا يقربونه، وإنَّما يهلكون عند رؤيته، ووصول نفسه إليهم، تأييدًا من اللَّه له، وعصمةً، وإظهار كرامةٍ ونعمةٍ.

وقال القاري: "ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه" بسكون الراء؛ أي، لحظه، ولمحه، ويجوز كون الدجال مستثنى من هذا الحكم؛ لحكمة إراءة دمه في الحربة؛ ليزداد كونه ساحرًا في قلوب المؤمنين، ويجوز كون هذه الكرامة لعيسى أوّلًا حين نزوله، ثم تكون زائلة حين يرى الدجال؛ إذ دوام الكرامة ليس بلازم، وقيل: النفَس الذي يميت الكافر هو النفَس المقصود به إهلاك كافر، لا النفس المعتاد، فعدم موت الدجال؛ لعدم النفَس المراد، وقيل: المفهوم منه أن من وجد من نفس عيسى من الكفار يموت، ولا يفهم منه أن يكون ذلك أول وصول نفسه، فيجوز أن يحصل ذلك بهم بعد أن يريهم عيسى عليه السلام دم الدجال في حربته؛ للحكمة المذكورة.

قال: ثم من الغريب أن نفس عيسى عليه السلام تعلق به الإحياء لبعض، والإماتة لبعض. انتهى

(2)

.

(فَيَطْلُبُهُ)؛ أي: يطلب عيسى عليه السلام الدجّال (حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ) بضم اللام، وتشديد الدال مصروف: اسم جبل بالشام، وقيل: قرية من قرى بيت المقدس، وعليه اقتصر النوويّ، وزاد غيره: سُمّي به لكثرة شجره، وفي "النهاية": موضع بالشام، وقيل: بفلسطين، (فَيَقْتُلُهُ)؛ أي: الدجّال.

(ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْقَ مَرْيَمَ) - علي السلام - (قَوْمٌ، قَدْ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ)؛ أي: من

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3456.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 15/ 490.

ص: 584

شرّ الدجال، (فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ)؛ أي: يزيل عنها ما أصابها من غبار سفر الغزو، ووعثائه مبالغةً في إكرامهم، وفي التلطف بهم، أو المعنى: يكشف ما نزل بهم من آثار الكآبة والحزن على وجوطهم بما يَسُرّهم من خبره بقتل الدجال.

وقال القاضي عياض: يَحْتمل أن يكون هذا المسح حقيقة على ظاهره، فيمسح وجوههم تبركًا، وبرًّا، ويحتمل أنه إشارةٌ إلى كشف ما هم فيه من الشدّة والخوف. انتهى.

(وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ)؛ أي: بما أعدّه عز وجل لهم من الدرجات بصبرهم، ومصابرتهم على فتن الدجّال.

(فَبَيْنَمَا هُوَ) أي الشأن، أو عيسى عليه السلام (كَذَلِكَ، إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى) عليه السلام (إِنِّي) بكسر الهمزة، وفتحها، (قَدْ أَخْرَجْتُ)؛ أي: أظهرت (عِبَادًا لِي)؛ أي: جماعة منقادة لقضائي، (لَا يَدَانِ)؛ أي: لا قدرة، ولا طاقة (لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ) وإنما عبّر عن الطاقة باليد؛ لأن المباشرة والمدافعة إنما تكون باليد، وثنّى مبالغةً، كأن يديه معدومتان لعَجْزه عن دفعه، ويمكن أن يكون في التثنية إيماء إلى العجز عنهما جميعًا. (فَحَرِّزْ) من التحريز، مأخوذ من الحرز؛ أي: احفظ، وضمّ (عِبَادِي إِلَى الطُّورِ)؛ أي: اجعله لهم حرزًا، والطور هو الجبل المعروف.

وقال القرطبيّ: قوله: "لا يدان": أي لا قدرة لأحد على قتال يأجوج ومأجوج، يقال: لا يد لفلان بهذا الأمر؛ أي: لا قوة.

وقوله: "فحرِّز عبادي إلى الطور": هذه الرواية الصحيحة بالزاي؛ أي: ارتحل بهم إلى جبل يحرزون فيه أنفسهم، والطور: الجبل بالسريانية. ويَحْتَمِل أن يكون ذلك هو طور سيناء، وقد رواه بعضهم: حوِّز بالواو، ولم تقع لنا هذه الرواية، ومعناها واضح، وهو بمعنى الأُولى. انتهى

(1)

.

وقال النوويّ: قوله: "لا يدان" بكسر النون: تثنية يد، قال العلماء: معناه: لا قدرة، ولا طاقة، يقال: ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان؛ لأن

(1)

"المفهم" 7/ 285.

ص: 585

المباشرة والدفع إنما يكون باليد، وكأن يديه معدومتان؛ لعجزه عن دفعه، ومعنى حَرِّزهم إلى الطور؛ أي: ضمهم، واجعله لهم حرزًا، يقال: أحرزت الشيء أُحرزه إحرازًا: إذا حَفِظته، وضممته إليك، وصُنته عن الأخذ، ووقع في بعض النسخ:"حَزِّب" بالحاء والزاي، والباء؛ أي: اجمعهم، قال القاضي: ورُوي: حَوِّز بالواو، والزاي، ومعناه: نَحِّهم، وأزلهم عن طريقهم إلى الطور. انتهى.

(وَيَبْعَثُ)؛ أي: يُخرج (اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) بالهمزة، ودونها، وهما القبيلتان المعروفتان، تقدّم الكلام فيهما، وقوله:(وَهُمْ)؛ أي: جميع القبيلتين، على حدّ قوله تعالى:{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} [الحج: 19](مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) بفتحتين؛ أي: مكان مرتفِع من الأرض، (يَنْسِلُونَ) بفتح الياء، وكسر السين؛ أي: يسرعون.

وقال القرطبيّ: قد تقدّم القول في يأجوج ومأجوج في أول "كتاب الفتن"، والحدب: النشز من الأرض، وهي الآكام، والكداء، وينسلون: من النسلان، وهي مقاربة الخطو مع الإسراع، كمشي الذئب: إذا بادر، قاله القتبيّ. وقال الزجاج: ينسلون: يسرعون.

(فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ) بالإضافة، وبحيرة تصغير بحرة، وهي ماء مجتمع بالشام، طوله محشرة أميال، وطبرية بفتحتين: اسم موضع، وقيل: هي قصبة الأردن بالشام

(1)

.

(فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ، فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ)؛ أي: البحيرة، أو البقعة (مَرَّةً)؛ أي: وقتًا من الأوقات الماضية (مَاءٌ) كثير، (وَيُحْصَرُ) بالبناء للمفعول؛ أي: يُحبس (نَبِيُّ اللَّهُ عِيسَى) عليه السلام (وَأَصْحَابُهُ) المؤمنون في جبل الطور، (حَتَّى يَكُونَ)؛ أي: يصير من شدة المحاصرة والمضايقة (رَأْسُ الثَّوْرِ)؛ أي: البقر، مع كمال رخصه في تلك الديار، (لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ) قال التوربشتيّ رحمه الله؛ أي: تبلغ بهم الفاقة إلى هذا الحدّ، وإنما ذكر رأس الثور ليقاس البقية عليه في القيمة.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 388.

ص: 586

(فَيَرْغَبُ) أي إلى اللَّه، أو يدعو (نَبِيُّ اللَّهِ عِيسى) عليه السلام، فيه تنبيه نَبِيه على أن عيسى عليه السلام مع متابعته لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم باق على نبوّته. (وَأَصْحَابُهُ) قال القاضي: أي يرغبون إلى اللَّه تعالى في إهلاكهم، وإنجائهم عن مكابدة بلائهم، ويتضرعون إليه، فيستجيب اللَّه تعالى، فيهلكهم بالنغف، كما قال:(فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهُمُ)؛ أي: على يأجوج ومأجوج، (النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ) بفتح النون والغين المعجمة: هي دود يكون في أنوف الإبل والغنم، الواحدة نغفة، وهي وإن كانت محتقرة، فإتلافها شديد، ويقال للرجل الحقير: ما أنت إلا نغفة.

(فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى) كهلكى وزنًا ومعنى، وهو جمع فريس، كقتيل وقتلى، من فرس الذئب الشاة: إذا كسرها، وقتلها، ومنه فريسة الأسد. (كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) لكمال القدرة، وتعلق المشيئة، قال تعالى {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، قال التوربشتيّ رحمه الله: يريد أن القهر الإلهيّ الغالب على كل شيء يَفرسهم دفعة واحدة، فيصبحون قتلى، وقد نبّه بالكلمتين -أعني: النغف، وفرسى- على أنه سبحانه وتعالى يهلكهم في أدنى ساعة، بأهون شيء، وهو النغف، فيفرسهم فرس السبع فريسته، بعد أن طارت نعرة البغي في رؤوسهم، فزعموا أنهم قاتِلوا من في السماء

(1)

.

(ثُمَّ يَهْبِطُ) بكسر الموحّدة، من باب ضرب؛ أي: ينزل من الطور (نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى) عليه السلام (وَأَصْحَابُهُ) المؤمنون (إِلَى الأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الأَرْضِ) أي: في وجهها جميعًا، وهذا هو وجه العدول عن الضمير إلى الظاهر، فاللام في الأُولى للعهد، وفي الثانية للاستغراق، بدليل الاستثناء، وبه يتبيّن أن القاعدة المعروفة: أن المعرفة إذا أعيدت تكون عين الأُولى مبنية على الغالب، أو حيث لا قرينة صارفة

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: أشار بقوله: وبه يتبيّن إلخ إلى القاعدة التي ذكرها السيوطيّ رحمه الله في "عقود الجمان"، حيث قال:

ثُمَّ مِنَ الْقَوَاعِدِ الْمُشْتَهِرَهْ

إِذَا اتَتْ نَكِرَةٌ مُكَرَّرَهْ

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3456.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 9/ 388.

ص: 587

تَغَايَرَا وَإِنْ يُعَرَّفْ ثَانِ

تَوَافَقَا كَذَا الْمُعَرَّفَانِ

شَاهِدُهَا الَّذِي رَوينَا مُسْنَدَا

لَنْ يَغْلِبَ الْيُسْرَيْنِ عُسْرٌ أَبَدَا

وَنَقَضَ السُّبْكِيُّ ذِي بِأَمْثِلَهْ

وَقَالَ ذِي قَاعِدَةٌ مُسْتَشْكَلَهْ

قال الجامع: قد أجبت عن استشكال السبكي المذكور، فقلت:

قُلْتُ وَلَا اسْتِشْكَالَ إِذْ ذِي تُحْمَلُ

عَلَى الَّذِي يَغْلِبُ إِذْ تُسَتْعْمَلُ

(مَوْضِعَ شِبْرٍ، إِلَّا مَلأَهُ زَهَمُهُمْ) بفتح الزاي والهاء، وقد تضم الزاي، وتفسيره قوله:(وَنَتْنُهُمْ) بسكون التاء، قال التوربشتيّ رحمه الله: الزهم بالتحريك مصدر قولك: زَهِمت يدي بالكسر، من الزهومة، فهي زَهِمة؛ أي: دَسِمة، وعليه أكثر الروايات فيما أعلم، وفيه من طريق المعنى وهنٌ، وضم الزاي مع فتح الهاء أصح معنى، وهو جمع زُهمة؛ يعني: بضم الزاي وسكون الهاء، وهي الريح المنتنة.

وفي "القاموس": الزُّهومة، والزُّهمة بضمها: ريح لحمِ سمينٍ منتن، والزُّهْم بالضم: الريح المنتنة، وبالتحريك: مصدر زَهِمت يدي، كفَرِح، فهي زهمة؛ أي: دسمة. انتهى.

(فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى) عليه السلام (وَأَصْحَابُهُ) المؤمنون (إِلَى اللَّهِ) سبحانه وتعالى أن يزيل عنهم تلك الزهمة، (فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا) جمع طائر، وقد يقع على الواحد، والمراد هنا الأول، ولذا قال بعده:"فتحملهم". (كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ) بضم الموحّدة، وسكون الخاء المعجمة: نوع من الإبل؛ أي: طيرًا أعناقها في الطول والكبر كأعناق البخت، (فَتَحْمِلُهُمْ)؛ أي: تحمل تلك الطير يأجوج ومأجوج؛ أي: جُثثهم (فَتَطْرَحُهُمْ)؛ أي: ترميهم (حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ) من البحار، أو مما وراء الديار المعمورة. (ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا)؛ أي: عظيمًا (لَا يَكُنُّ) بفتح الياء، وضم الكاف، وتشديد النون، من كننتُ الشيءَ، من باب نصر؛ أي: سترته، أو بضمّ أوله وكسر ثانيه، من أكننت الشيء بهذا المعنى، والمفعول محذوف، والجملة صفة "مطرًا"؛ أي: لا يستر، ولا يصون شيئًا (مِنْهُ)؛ أي: من ذلك المطر، (بَيْتُ مَدَرٍ) بفتحتين: أي تراب وحجر، (وَلَا وَبَرٍ) بفتحتين؛ أي: صوف، أو شعر، والمراد: تعميم بيوت أهل البدو، والحضر،

ص: 588

قال النوويّ: أي لا يمنع من نزول الماء بيت المدر، وهو الطين الصلب، وقال القاضي: أي لا يحول بينه وبين مكان ما حائل، بل يعمّ الأماكن كلها.

وقال القرطبيّ: أي لا يستر من ذلك المطر؛ لكثرته بيت مبنيّ بالطين، وبيت شعر، ولا وبر.

(فَيَغْسِلُ) ذلك المطر (الأَرْضَ)؛ أي: وجهها كلها (حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ) بفتح الزاي واللام، وتُسكن، وبالفاء، وقيل: بالقاف، وهي المرآة، بكسر الميم، وقيل: ما يُتخذ لجمع الماء من المصنع، والمراد أن الماء يعم جميع الأرض، بحيث يرى الرائي وجهه فيه، قال النوويّ رحمه الله: روي بفتح الزاي واللام، وبالفاء، وبالقاف، ورُوي بضم الزاي، وإسكان اللام، وبالفاء، وقال القاضي رحمه الله: رُوي بالفاء، والقاف، وبفتح اللام، وبإسكانها، وكلها صحيحة.

قال: واختلفوا في معناها، فقال ثعلب، وأبو زيد، وآخرون: معناه كالمرآة، وحَكَى صاحب "المشارق" هذا عن ابن عباس أيضًا، شبّهها بالمرآة في صفائها، ونظافتها، وقيل: معناه كمصانع الماء؛ أي إن الماء يستنقع فيها حتى تصير الأرض كالمصنع الذي يجتمع فيه الماء، وقال أبو عبيدة: معناه الإجانة الخضراء، وقيل: كالصحفة، وقيل: كالروضة. انتهى

(1)

.

(ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي) أي: إلى أهلك (بَرَكَتَكِ) أي: من سائر نِعمك، (فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ) بكسر العين؛ أي: الجماعة، (مِنَ الرُّمَّانَةِ)؛ أي: ويشبعون منها (وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا) بكسر القاف؛ أي: بقشرها، قال النوويّ رحمه الله: هو مقعر قشرها، شبّهها بقحف الآدميّ، وهو الذي فوق الدماغ، وقيل: هو ما انفلق من جمجمته، وانفصل، وقيل: أراد نصف قشرها الأعلى، وهو في الأصل: العظم المستدير فوق الدماغ، وهو أيضًا إناء من خشب على مثاله، كأنه نصف صاع، واستعير هنا لِمَا يلي رأسها من القشرة، (وَيُبَارَكُ) بصيغة المجهول: أي توضع البركة، والكثرة (فِي الرِّسْلِ) بكسر الراء، وسكون السين؛ أي: اللَّبَن، (حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ) بكسر اللام، وتُفتح؛ أي: الناقة

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 69.

ص: 589

الحلوبة، قال النوويّ: اللقحة بكسر اللام، وفتحها لغتان مشهورتان، والكسر أشهر، وهي القريبة العهد بالولادة، وجمعها لِقَحٌ، بكسر اللام، وفتح القاف، كبِرْكَةٍ وبِرَك، واللقوح ذات اللبن، وجمعها لقاح. انتهى.

وقوله: (مِنَ الإِبِلِ) بيان للّقحة، (لَتَكْفِي)؛ أي: لبنها، (الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ) بهمز على زنة رجال، والعامة تبدل الهمز ياء: الجماعة من الناس، ولا واحد له من لفظة، والمراد به هنا: أكثر من القبيلة، كما أن القبيلة أكثر من الفخذ، وقال النوويّ: الفئام بكسر الفاء وبعدها همزة ممدودة: هي الجماعة الكثيرة، هذا هو المشهور المعروف في اللغة، وروايةِ الحديث، بكسر الفاء، وبالهمز، قال القاضي: ومفهم من لا يجيز الهمز، بل يقوله بالياء، وقال في "المشارق": وحكاه الخليل بفتح الفاء، قال: وذكره صاحب "العين" غير مهموز، وأدخله في حرف الياء، وحكى الخطابي أن بعضهم ذَكَره بفتح الفاء، وتشديد الياء، وهو غلط فاحش. انتهى

(1)

.

(وَاللِّقْحَةَ) بالنصب عطفًا على اسم "إن"؛ أي: إن اللقحة (مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ) بالنصب أيضًا؛ لِمَا ذُكر. (مِنَ الْغَنَم لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ) قال النوويّ: قال أهل اللغة: الفخذ: الجماعة من الأَقارب، وهو دون البطن، والبطن دون القبيلة، قال القاضي: قال ابن فارس: الفخذ هنا بإسكان الخاء، لا غير، فلا يقال: إلا بإسكانها، بخلاف الفخذ التي هي العضو، فإنها تكسر، وتسكن. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: الفخذ: دون القبيلة، وفوق البطن، قال الزبير بن بكار: العرب على ست طبقات: شعبٌ، وقبيلة، وعمارة، وبطن، وفخذ، وفصيلة، وما بينهما من الآباء، فإنَّها يعرفها أهلها، وسُمّيت بالشعوب؛ لأنَّ القبائل تتشعّب منها، وسمّيت القبائل بذلك؛ لأنَّ العمائر تقابلت عليها، فالشعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون، والبطون تجمع الأفخاذ. قال ابن فارس: لا يقال في فخذ النسب إلا بسكون

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 69.

ص: 590

الخاء، بخلاف الجارحة، تلك يقال بكسر الخاء، وسكونها، وبكسر الفاء أيضًا. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: قد أوصل بعضهم أنساب العرب إلى عشرة أقسام، فنظمت ذلك بقولي:

اعْلَمْ بِأَنَّ الْعُرْبَ فِي الأَنْسَابِ قَدْ

انْقَسَمَتْ عَشَرَةً فَاسْمَعْ تُفَدْ

جِذْمٌ فَجُمْهُورٌ فَشَعْبٌ فَقَبِيلْ

عَمَارَةٌ بَطْنٌ فَفَخْذٌ يَا نَبِيلْ

عَشِيرَةٌ فَصِيلَةٌ رَهْطٌ خَتَمْ

وَبَعْضُهُمْ خِلَافَ هَذَا قَدْ رَسَمْ

(فَبَيْنَمَا) ظرف متعلّق بـ "بعث"، و"ما" عوض عن المضاف إليه، وقوله:(هُمْ) مبتدأ خبره قوله (كَذَلِكَ)؛ أي: يتنعّمون بما فتح اللَّه عليهم من بركات الأرض، وقوله:(إِذْ) للمفاجأة؛ أي: بين أوقات يتنعمون في طيب عيش وسعة رزق فاجأهم أن (بَعَثَ اللَّهُ) عز وجل (رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ) بهمزة ممدودة: جمع إبط، (فَتَقْبِضُ) تلك الريح، أسند القبض إلى الريح مجازًا، (رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَكُلِّ مُسْلِمٍ) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع نُسخ مسلم: "وكلّ مَسلم" بالواو، يعني كان الظاهر أن يكون بأو التي للشك، فإنه لا فرق بين المؤمن والمسلم، فالمقصود المبالغة في التعميم، والتغاير باعتبار اختلاف الوصفين، كما في التنزيل:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية، أو بناء على الفرق اللغوي بينهما، من أن المراد بالمؤمن: المصدق، وبالمسلم: المنقاد، لكن لمّا كان أحدهما لا ينفع بدون الآخر، جُعل الموصوف بهما واحدًا، وأُطلق عليه كل واحد من الوصفين بطريق التساوي، أو لكون أحدهما غالبًا عليه في نفس الأمر.

وقال الطيبيّ رحمه الله: المراد بالتكرار هنا: الاستيعاب؛ أي: تقبض روح خيار الناس كلهم.

(وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ) بكسر الشين: جمع شرّ، (يَتَهَارَجُونَ)؛ أي: يختلطون (فِيهَا)؛ أي: في تلك الأزمنة، أو في تلك الأرض، (تَهَارُجَ الْحُمُرِ)؛

(1)

"المفهم" 7/ 286.

ص: 591

أي: كاختلاطها، ويتسافدون، وقيل: يتخاصمون، فإن الأصل في الهرج: القتل، وسرعة عَدْو الفرس، وهَرِج في حديثه؛ أي: خلط، وقال النوويّ رحمه الله: أي يجامع الرجل النساء علانية بحضرة الناس، كما يفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك، والهرج بإسكان الواء: الجماع، ويقال: هرج زوجته؛ أي: جامعها، يهرجها بفتح الراء، وضمها، وكسرها، (فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ") أي: لا على غيرهم، وسيأتي عند مسلم حديث:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس"، وقدا تقدّم له في "كتاب الإيمان" حديث:"لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: اللَّه اللَّه"، واللَّه تعالى أعلم.

مسائل تتعلّق بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث النوّاس بن سمعان رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [20/ 7343 و 7344](2937)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4321)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2240)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4126)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 181)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 538)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(1/ 356)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 933)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(15/ 54)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(2/ 219)، واللَّه تعالى أعلم.

(المسألة الثالثة): في فوائده:

1 -

(منها): بيان معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بما سيقع، وسيقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.

2 -

(ومنها): بيان شدّة اهتمام النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذكر الدجّال، وبيان ما يظهر علي يديه مما يفتن به الناس.

3 -

(ومنها): بيان عناية اللَّه سبحانه وتعالى وعظيم فضله على هذه الأمة حيث يدفع عن سوء هذا اللعين، فيستطيع كل مسلم أن يدفع عنه فتنة الدجال بإبطال حججه، ودحض تمويهاته.

ص: 592

4 -

(ومنها): بيان بعض ما يظهر على يدي الدجّال من الشبهات، كأمره السماء أن تمطر، والأرض أن تنبت في يوم واحد، ويستغني أتباعه بذلك، حتى إن من كان منهم فقيرًا في أول النهار يصير من الأثرياء آخر النهار.

5 -

(ومنها): أن في قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا قدره" لعل فيه إشارة إلى تيسر التقدير على المسلمين في ذلك الوقت، بوجود آلات التقدير كالساعة الموجودة الآن، أو نحو ذلك، واللَّه على كل شيء قدير.

6 -

(ومنها): التنويه بنزول عيسى عليه السلام رحمة من اللَّه لهذه الأمة حيث يقتل الدجال بباب لُدّ، فيريح المؤمنين، ويكتب الكافرين.

7 -

(ومنها): بيان خروج يأجوج ومأجوج، {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96].

8 -

(ومنها): بيان لُطف اللَّه تعالى بالمؤمنين حيث يأمر عيسى عليه السلام بأن يحرزهم بالطور.

9 -

(ومنها): بيان آية اللَّه تعالى في إهلاك يأجوج ومأجوج بإرسال النغف في رقابهم فيموتون موتة واحدة.

10 -

(ومنها): بيان الريح الطيبة التي تأتي آخر الزمان، فتقبض روح كل مؤمن، ومؤمنة، وهذا من فضل اللَّه تعالى على المؤمنين حتى لا يدركهم هول قيام الساعة، وهم أحياء.

11 -

(ومنها): بيان أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وهم الكفّار؛ إهانة لهم، وانتقامًا منهم، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7344]

(. . .) - (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ -قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي حَدِيثِ الآخَرِ- عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا

(1)

، وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ: "لَقَدْ كانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى

(1)

وفي نسخة: "نحو ما ذكرناه".

ص: 593

يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمَرِ، وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ: لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ، هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ، مَخْضُوبَةً دَمًا"، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ حُجْرٍ: "فَإِنِّي قَدْ أَنْزَلْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَيْ

(1)

لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ").

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المرزويّ، تقدّم قريبًا.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ) الأزديّ أبو إسماعيل الدمشقيّ، ثقة [8].

روى عن أبيه، وعمه يزيد، وإسماعيل بن عبيد اللَّه بن أبي المهاجر، ومحمد بن الحجاج الخولانيّ، وغيرهم.

وروى عنه الوليد بن مسلم، ومروان بن محمد، وسليمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن المبارك الصوريّ، وهشام بن عمار، وعلي بن حجر، وغيرهم.

قال الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين: لا بأس به، وكذا قال النسائيّ، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وكان أبوه أكبر منه بثلاث عشرة، أو أربع عشرة سنة.

أخرج له المصنّف، وأبو داود في "القدر"، والترمذيّ، والنسائيّ، وليس له عندهم إلا هذا الحديث.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِي حَدِيثِ الآخَرِ)؛ يعني: أن حديث عبد اللَّه بن عبد الرحمن، وحديث الوليد بن مسلم تداخلا، فلم يتميّز حديث أحدهما من حديث الآخر، ومثل هذا لا يضرّ؛ لأن كليهما ثقتان، وقد تقدّم نظيم هذا في حديث الزهريّ لقصّة الإفك، فلا تنس.

وقوله: (بِهذَا الإِسْنَادِ إلخ) يعني عن يحيى بن جابر الطائيّ، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه.

(1)

وفي نسخة: "لا يد".

ص: 594

وقوله: (وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ إلخ) فاعل "زاد" ضمير عليّ بن حجر.

وقوله: (ثُمَّ يَسِيرُونَ)؛ أي: يأجوج ومأجوج، (حَتَّى يَنْتَهُوا)؛ أي: يصلوا (إِلَى جَبَل الْخَمَرِ) بخاء، معجمة، وميم مفتوحتين، وقد فسّره الراوي بقوله:(وَهوَ جَبَل بَيْتِ المَقْدِسِ) والخمر في الأصل: هو الشجر الملتفّ الذي يستر مَن فيه.

(فَيَقُولُونَ: لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ)؛ أي: كل من ظهر منهم، وقد سبق أن عيسى عليه السلام قد حرّز المؤمنين في الطور، فلم يعلم به يأجوج ومأجوج.

وقوله: (هَلُمَّ) بمعنى أقبلوا، قال الفيّوميّ رحمه الله: هَلُمَّ كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء، كما يقال: تعال، قال الخليل: أصله لُمَّ، من الضم والجمع، ومنه: لمّ اللَّه شعثه، وكأن المنادي أراد: لُمَّ نفسك إلينا، و"هَا" للتّنبيه، وحُذفت الألف تخفيفًا لكثرة الاستعمال، وجُعلا اسمًا واحدًا، وقيل: أصلها: هَلْ أُمَّ؛ أي: قُصِد، فنُقلت حركة الهمزة إلى اللام، وسقطت، ثم جُعلا كلمة واحدة للدعاء، وأهل الحجاز ينادُون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث، والمفرد، والجمع، وعليه قوله تعالى:{وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} [الأحزاب: 18]، وفي لغة نجد تَلْحَقها الضمائرُ، وتطابق، فيقال: هَلُمِّي، وهَلُمَّا، وهَلُمُّوا، وهَلْمُمْنَ؛ لأنهم يجعلونها فعلًا، فيلحقونها الضمائر، كما يلحقونها قُم، وقوما، وقوموا، وقمن، وقال أبو زيد: استعمالها بلفظ واحد للجميع من لغة عُقيل، وعليه قيس بعدُ، وإلحاق الضمائح من لغة بني تميم، وعليه أكثر العرب، وتستعمل لازمة، نحو:{هَلُمَّ إِلَيْنَا} : أي: أقبل، ومتعدية، نحو:{هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150]؛ أي: أحضروهم. انتهى

(1)

.

وقوله: (فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)؛ أي: الملائكة.

وقوله: (فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ) قال القاري: الباء زائدة، (إِلَى السَّمَاءِ)؛ أي: يرمي يأجوج ومأجوج بسهامهم نحو السماء.

والنّشَّاب بضمّ النون، وتشديد الشين المعجمة، الواحدة نُشَّابَةٌ، وهي النبل، مشتق من نَشِبَ الشيءُ في الشيء، من باب تَعِبَ نُشُوبًا: عَلِق، فهو نَاشِبٌ

(1)

"المصباح المنير" 2/ 639 - 640.

ص: 595

وقوله: (مَخْضُوبَةً دَمًا)؛ أي: مصبوغة، و"دمًا" تمييز، وهذا مكر، واستدراج منه سبحانه وتعالى، مع احتمال إصابة سهامهم لبعض الطيور في السماء، فيكون فيه إشارة إلى إحاطة فسادهم بالسفليات والعلويات

(1)

.

وقوله: (لَا يَدَيْ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ)؛ أي: قال علي بن حجر: "لا يدي" بالتثنية بدل قولا زهير: "لا يدان"، و"يدي" منصوب على أنه اسم "لا" التي لنفي الجنس، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه من المثنى الذي رَفْعه بالألف، ونصبه وجرّه بالياء، وهو مضاف لـ "أحد"، واللام زائدة، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية عليّ بن حجر هذه ساقها الترمذيّ رحمه الله في "جامعه" بسند المصنّف، فقال:

(2240)

- حدّثنا عليّ بن حُجْر، أخبرنا الوليد بن مسلم، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، دخل حديث أحدهما في حديث الآخر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن يحيى بن جابر الطائيّ، عن عبد الرحمن بن جُبير عن أبيه جبير بن نُفير، عن النوّاس بن سَمعان الكلابيّ قال: ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الدجّال ذات غداة، فخفض فيه، ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، قال: فانصرفنا من عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم رجعنا إليه، فعَرَف ذلك فينا، فقال:"ما شأنكم؟ " قال: قلنا: يا رسول اللَّه ذكرت الدجال الغداة، فخفضت فيه، ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل، قال:"غير الدجال أخوف لي عليكم، إن يخرج وأنا فيكم، فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج، ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، واللَّه خليفتي على كل مسلم، إنه شابّ، قَطَطٌ، عينه طافئة، شبيه بعبد العزى بن قَطَن، فمن رآه منكم، فليقرأ فواتح سورة أصحاب الكهف -قال-: يخرج ما بين الشام والعراق، فعاث يمينًا، وشمالًا، يا عباد اللَّه اثبتوا"، قال: قلنا: يا رسول اللَّه وما لَبْثه في الأرض؟ قال: "أربعين يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قال: قلنا: يا رسول اللَّه أرأيت اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، ولكن اقدروا له". قال: قلنا: يا رسول اللَّه فما سرعته في الأرض؟ قال:

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 2.

ص: 596

"كالغيث استدبرته الريح، فيأتي القوم، فيَدْعُوهم، فيكذبونه، ويردّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فتتبعه أموالهم، ويصبحون ليس بأيديهم شيء، ثم يأتي القوم، فيدعوهم، فيستجيبون له، ويصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم، كأطول ما كانت ذُرًا، وأمدّه خواصر، وأدرّه ضروعًا، قال: ثم يأتي الخربة، فيقول لها: أخرجي كنوزك، فينصرف منها، فيتبعه كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلًا شابًّا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه، فيُقبل يتهلل وجهه، يضحك، فبينما هو كذلك، إذ هبط عيسى ابن مريم؛ بشرقيّ دمشق، عند المنارة البيضاء، بين مهرودتين، واضعًا يديه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قَطَر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللؤلؤ، قال: ولا يجد ريح نَفَسه -يعني أحد- إلا مات، وريح نَفَسه منتهى بصره، قال: فيطلبه حتى يدركه بباب لُدّ، فيقتله، قال: فيلبث كذلك ما شاء اللَّه، قال: ثم يوحي اللَّه إليه أن حَرِّز عبادي إلى الطور، فإني قد أنزلت عبادًا لي لا يَدَان لأحد بقتالهم، قال: ويبعث اللَّه يأجوج ومأجوج، وهم كما قال اللَّه:{مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96]، قال: فيمر أولهم ببحيرة الطبرية، فيشرب ما فيها، ثم يمر بها آخرهم، فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء، ثم يسيرون، حتى ينتهوا إلى جبل بيت مقدس، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هَلُمّ فلنقتل من في السماء، فيرمون بنُشّابهم إلى السماء، فيردّ اللَّه عليهم نشّابهم مُحَمَّرًا دمًا، ويُحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه، حتى يكون رأس الثور يومئذٍ خيرًا لأحدهم من مائة دينار لأحدكم اليوم، قال: فيرغب عيسى ابن مريم إلى اللَّه وأصحابه، قال: فيرسل اللَّه إليهم النَّغَفَ في رقابهم، فيصبحون فرسى موتى كموت نَفْس واحدة، قال: ويهبط عيسى وأصحابه، فلا يجد موضع شبر إلا وقد ملأته زَهْمتهم، ونَتْنهم، ودماؤهم، قال: فيرغب عيسى إلى اللَّه وأصحابه، قال: فيرسل اللَّه عليهم طيرًا كأعناق البخت، قال: فتحملهم، فتطرحهم بالْمَهْبَل

(1)

، ويستوقد المسلمون من قسيّهم، ونشّابهم، وجعابهم سبع سنين، قال: ويرسل اللَّه عليهم مطرًا، لا يُكِنّ

(1)

بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح الموحّدة: موضع، وقيل: مكان ببيت المقدس.

ص: 597

منه بيت وبر، ولا مدر، قال: فيغسل الأرض، فيتركها كالزلَفَة، قال: ثم يقال للأرض: أخرجي ثمرتك، ورُدّي بركتك، فيومئذٍ تأكل العصابة من الرُّمّانة، ويستظلون بقِحْفها، ويُبارَك في الرِّسْل، حتى إن الفئام من الناس ليكتفون باللِّقحة من الإبل، وإن القبيلة ليكتفون باللقحة من البقر، وإن الفخذ ليكتفون باللقحة من الغنم، فبينما هم كذلك، إذ بعث اللَّه ريحًا، فقبضت روح كل مؤمن، ويبقى سائر الناس يتهارجون، كما تتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة".

قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(21) - (بَابُ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ عَلَى الدَّجَّال، وَقَتْلِهِ الْمُؤْمِنَ، وَإِحْيَائِهِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7345]

(2938) - (حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ -وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ، وَالسِّيَاقُ لِعَبْدٍ- قَالَ: حَدَّثَنِي، وَقَالَ الآخَرَانِ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ -وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ أَبَا سَعِيَدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا قَالَ: "يَأْتِي، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فَيَنْتَهِي إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، هُوَ خَيْرُ النَّاسِ -أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ- فَيَقُولُ لَهُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، أَتَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لَا، قَالَ: فَيَقْتُلُهُ،

(1)

"جامع الترمذيّ" 4/ 511 - 513.

ص: 598

ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ، قَالَ: فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ".

قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام).

رجال هذا الإسناد: تسعة:

وكلهم تقدّموا غير مرّة.

1 -

(عَمْرٌو النَّاقِدُ) هو: عمرو بن محمد بن بُكير البغداديّ.

2 -

(الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيُّ) هو: الحسن بن عليّ بن محمد، نزيل مكة.

3 -

(عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ) الكسيّ.

4 -

(يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) الزهريّ المدنيّ، نزيل بغداد.

5 -

(أَبُوهُ) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدنيّ، نزيل بغداد.

6 -

(صَالِحُ) بن كيسان الغفاريّ مولاهم المدنيّ.

7 -

(ابْنُ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ المدنيّ.

8 -

(عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود، أبو عبد اللَّه المدنيّ.

9 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سِنان الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، و"عبيد اللَّه" أحد الفقهاء السبعة، والصحابيّ من المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمد بن مسلم الزهريّ؛ أنه قال: (أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود الفقيه المدنيّ، (أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ) سعد بن مالك رضي الله عنهما، (قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا حَدِيثًا طَوِيلًا عَنِ الدَّجَّالِ) قال في "الفتح": كذا ورد من هذا الوجه مبهمًا، وقد ورد من غير هذا الوجه عن أبي سعيد رضي الله عنه ما لعله يؤخذ منه ما لم يُذْكَر، كما في رواية أبي نضرة، عن أبي سعيد:"إنه يهوديّ، وإنه لا يولد له، وإنه لا يدخل المدينة، ولا مكة". أخرجه

ص: 599

مسلم، وفي رواية عطية، عن أبي سعيد، وفعه، في صفة عين الدجال، كما تقدم، وفيه:"ومعه مثل الجنة والنار، وبين يديه رجلان، يُنذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية دخل أوائله"، أخرجه أبو يعلى، والبزار، وهو عند أحمد بن منيع، مطولٌ، وسنده ضعيف، وفي رواية أبي الوداك، عن أبي سعيد، رفعه، في صفة عين الدجال أيضًا، وفيه:"معه من كل لسان، ومعه صورة الجنة خضراء، يجري فيها الماء، وصورة النار سوداء، تُدَخِّن". انتهى

(1)

.

(فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا) النبيّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: "يَأْتِي) ولفظ البخاريِّ: "يأتي الدجال"؛ أي: إلى ظاهر المدينة، (وَهُوَ) أي والحال أنه (مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ) بكسر النون: جمع نقب، وفي رواية البخاريِّ:"على أنقاب المدينة"، هو جمع نَقَب، بفتح النون، والقاف، بعدها موحدة، قال ابن وهب: المراد بها المداخل، وقيل: الأبواب، وأصل النقب: الطريق بين الجبلين، وقيل: الأنقاب: الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله تعالى:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: 36].

(فَيَنْتَهِي)؛ أي: يصل الدجّال (إِلَى بَعْضِ السِّبَاخِ) بكسر المهملة، وتخفيف الموحّدة: جمع سَبَخة، بفتحتين، وهي الأرض الرملة التي لا تُنبت؛ لملوحتها، وهذه الصفة خارج المدينة من غير جهة الحرّة (الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ)؛ أي: من قِبَل الشام، (فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، هُوَ خَيْرُ النَّاسِ -أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ-)"أو" للشكّ من الراوي، وفي رواية البخاريّ:"فيخرج إليه يومئذٍ رجل هو خير الناس، أو من خيار الناس"، وفي رواية أبي الوداك عن أبي سعيد الآتية عند مسلم:"فيتوجه قِبَله رجل من المؤمنين، فيلقاه مسالح الدجال، فيقولون: أوَ ما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فينطلقون به إلى الدجال بعد أن يريدوا قتله، فإذا رآه، قال: يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي رواية عطية: "فيدخل القرى كلها غير مكة والمدينة، حُرِّمتا عليه، والمؤمنون متفرقون في الأرض، فيجمعهم اللَّه، فيقول رجل منهم:

(1)

"الفتح" 16/ 592، "كتاب الفتن" رقم (7132).

ص: 600

واللَّه لأنطلقنّ، فلأنظرنّ هذا الذي أنذرناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فيمنعه أصحابه خشية أن يُفتتن به، فيأتي حتى إذا أتى أدنى مسلحة من مسالحه، أخذوه، فسألوه ما شأنه؟ فيقول: أريد الدجال الكذاب، فيكتبون إليه بذلك، فيقول: أرسلوا به إليّ، فلما رآه عرفه".

(فَيَقُولُ) ذلك الرجل (لَهُ)؛ أي: للدجّال، (أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ) وفي رواية عطية:"أنت الدجال الكذاب الذي أنذرناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وزاد:"فيقول له الدجال: لتطيعني فيما آمرك به، أو لأشقنّك شقتين، فينادي، يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب"، (فَيَقُولُ الدَّجَّالُ) لأتباعه الحاضرين لديه:(أَرَأَيْتُمْ)؛ أي: أخبروني (إِنْ قَتَلْتُ هَذَا) الرجل الذي حدّثكم بأني الدجال الكذّاب، (ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ) بعد قتله (أَتَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟)؛ أي: في أمر ألوهيتي، (فَيَقُولُونَ: لَا)؛ أي: لا نشكّ في ذلك، وفي رواية عطية:"ثم يقول الدجال لأوليائه"، وهذا يوضح أن الذي يجيبه بذلك أتباعه، ويردّ قول من قال: إن المؤمنين يقولون له ذلك؛ تَقِيّةً، أو مرادهم: لا نشكّ أي في كفرك، وبطلان قولك.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَقْتُلُهُ)؛ أي: يقتل الدجال ذلك الرجل (ثُمَّ يُحْيِيهِ) بعد قتله؛ استدراجًا من اللَّه عز وجل، وفي رواية أبي الوداك:"فيأمر به الدجال، فيُشبح، فيُشبع ظهره وبطنه ضربًا، فيقول: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به، فيوشر بالميشار من مفرقه، حتى يفرق بين رجليه، ثم يمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول: قم، فيستوي قائمًا"، وتقدّم في حديث النوّاس بن سَمعان:"فيدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين، ثم يدعوه، فيقبل، ويتهلل وجهه، يضحك"، وفي رواية عطية:"فيأمر به، فيُمَدّ برجليه، ثم يأمر بحديدة، فتوضع على عُجْب ذَنَبه، ثم يشقه شقتين، ثم قال الدجال لأوليائه: أرأيتم إن أحييت لكم هذا، ألستم تعلمون أني ربكم؟ فيقولون: نعم، فيأخذ عصًا، فضرب أحد شقيه، فاستوى قائمًا، فلما رأى ذلك أولياؤه صدّقوه، وأحبوه، وأيقنوا بذلك أنه ربهم"، وعطية ضعيف.

قال ابن العربيّ رحمه الله: هذا اختلاف عظيم، يعني في قتله بالسيف، وبالميشار، قال: فيُجمع بأنهما رجلان يقتل كلًّا منهما قِتلةً غير قِتلة الآخر.

ص: 601

قال الحافظ: كذا قال، والأصل عدم التعدد، ورواية الميشار تفسر رواية الضرب بالسيف، فلعل السيف كان فيه فُلول، فصار كالميشار، وأراد المبالغة في تعذيبه بالقتلة المذكورة، ويكون قوله:"فضربه بالسيف" مفسرًا لقوله: إنه نشره.

وقوله: "فيقطعه جزلتين" إشارة إلى آخر أمره لَمّا ينتهي نشره.

قال الخطابيّ: فإن قيل: كيف يجوز أن يُجري اللَّه الآية على يد الكافر، فإن إحياء الموتى آية عظيمة من آيات الأنبياء، فكيف ينالها الدجال، وهو كذّاب، مُفْتَرٍ، يدعي الربوبية؟.

فالجواب أنه على سبيل الفتنة للعباد؛ إذ كان عندهم ما يدلّ على أنه مبطل، غير محقّ في دعواه، وهو أنه أعور، مكتوب على جبهته كافر، يقرؤه كل مسلم، فدعواه داحضة مع وسم الكفر، ونقص الذات، والقدر؛ إذ لو كان إلهًا لأزال ذلك عن وجهه، وآيات الأنبياء سالمة من المعارضة، فلا يشتبهان.

وقال الطبريّ: لا يجوز أن تعطى أعلام الرسل لأهل الكذب، والإفك في الحالة التي لا سبيل لمن عاين ما أتى به فيها إلا الفصل بين المحقّ منهم والمبطل، فأما إذا كان لمن عاين ذلك السبيل إلى عِلم الصادق من الكاذب، فمن، ظهر ذلك على يده فلا ينكر إعطاء اللَّه ذلك للكذابين، فهذا بيان الذي أعطيه الدجال من ذلك، فتنة لمن شاهده، ومحنة لمن عاينه. انتهى.

وفي الدجال مع ذلك دلالة بينةٌ لمن عقل على كذبه؛ لأنه ذو أجزاء مؤلمة، وتأثير الصنعة فيه ظاهر، مع ظهور الآفة به، من عَوَر عينيه، فإذا دعا الناس إلى أنه ربهم، فأسوأ حال من يراه من ذوي العقول أن يعلم أنه لم يكن ليسوّي خلق غيره، ويعدله، ويحسّنه، ولا يدفع النقص عن نفسه، فأقل ما يجب أن يقول: يا من يزعم أنه خالق السماء والأرض صَوِّر نفسك، وعدّلها، وأزل عنها العاهة، فإن زعمت أن الرب لا يُحْدث في نفسه شيئًا، فأزل ما هو مكتوب بين عينيك.

وقال المهلَّب: ليس في اقتدار الدجال على إحياء المقتول المذكور ما يخالف ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: "هو أهون على اللَّه من ذلك"؛ أي: من أن يُمَكَّن من المعجزات تمكينًا صحيحًا، فإن اقتداره على قتل الرجل، ثم إحيائه لم

ص: 602

يستمر له فيه، ولا في غيره، ولا استضرّ به المقتول إلا ساعة تألمه بالقتل، مع حصول ثواب ذلك له، وقد لا يكون وجد للقتل ألمًا؛ لقدرة اللَّه تعالى على دفع ذلك عنه.

وقال ابن العربيّ: الذي يظهر على يد الدجال من الآيات، من إنزال المطر، والخصب على من يصدقه، والجدب على من يكذبه، واتباع كنوز الأرض له، وما معه من جنة ونار ومياه، تجري كل ذلك محنة من اللَّه، واختبارًا؛ ليهلك المرتاب، وينجو المتيقن، وذلك كله أمر مخوف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "لا فتنة أعظم من فتنة الدجال"، وكان يستعيذ منها في صلاته تشريعًا لأمته.

وأما قوله في الحديث الآخر عند مسلم: "غير الدجال أخوف لي عليكم" فإنما قال ذلك للصحابة؛ لأن الذي خافه عليهم أقرب إليهم من الدجال، فالقريب المتيقن وقوعه لمن يخاف عليه يشتد الخوف منه على البعيد المظنون وقوعه به، ولو كان أشدّ

(1)

.

(فَيَقُولُ) ذلك الرجل (حِينَ يُحْيِيهِ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي الآنَ) وفي رواية البخاريّ: "مني اليوم"، وفي رواية أبي الوداك:"ما ازددت فيك إلا بصيرةً، ثم يقول: يا أيها الناس إنه لا يَفعل بعدي بأحد من الناس"، وفي رواية عطية:"فيقول له الدجال: أما تؤمن بي؟ فيقول: أنا الآن أشدّ بصيرة فيك مني، ثم نادى في الناس، يا أيها الناس هذا المسيح الكذاب، من أطاعه فهو في النار، ومن عصاه فهو في الجنة".

ونقل ابن التين عن الداوديّ أن الرجل إذا قال ذلك للدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء، كذا قال، والمعووف أن ذلك إنما يحصل للدجال إذا رأى عيسى ابن مريم عليه السلام.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ") وفي رواية أبي الوداك: "فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاس، فلا يستطيع إليه سبيلًا"، وفي رواية عطية: "فقال له الدجال: لتطيعني أو لأذبحنك،

(1)

"الفتح" 16/ 592 - 594.

ص: 603

فقال: واللَّه لا أطيعك أبدًا فأمر به، فأُضجع، فلا يقدر عليه، ولا يتسلط عليه مرة واحدة"، زاد في رواية عطية: "فأخذ يديه ورجليه، فألقي في النار، وهي غبراء ذات دخان"، وفي رواية أبي الوداك: "فيأخذ بيديه، ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنه قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة"، زاد في رواية عطية: "قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ذلك الرجل أقرب أمتي مني، وأرفعهم درجة"، وفي رواية أبي الوداك:"هذا أعظم شهادة عند رب العالمين"، ووقع عند أبي يعلى وعبد بن حميد، من رواية حجاج بن أرطاة، عن عطية:"أنه يُذبح ثلاث مرات، ثم يعود ليذبحه الرابعة، فيضرب اللَّه على حلقه بصفيحة نحاس، فلا يستطيع ذبحه"، والأول هو الصواب.

ووقع في حديث عبد اللَّه بن عمرو، رفعه، في ذكر الدجال:"يدعو برجل لا يسلطه اللَّه إلا عليه. . . "، فذكر نحو رواية أبي الوداك، وفي آخره:"فيهوي إليه بسيفه، فلا يستطيعه، فيقول: أخروه عني"، وقد وقع في حديث عبد اللَّه بن معتمر:"ثم يدعو برجل فيما يرون، فيؤمر به، فيقتل، ثم يقطع أعضاءه كل عضو على حدة، فيفرق بينها، حتى يراه الناس، ثم يجمعها، ثم يضرب بعصاه، فإذا هو قائم، فيقول: أنا اللَّه الذي أُميت وأُحيي، قال: وذلك كله سِحر، سَحَر أعين الناس، ليس يعمل من ذلك شيئًا"، وهو سند ضعيف جدًّا.

وفي رواية أبي يعلى من الزيادة: "قال أبو سعيد: كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب؛ لِمَا نعلم من قوته، وجَلَده".

وقوله: (قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: يُقَالُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هُوَ الْخَضِرُ عليه السلام)"أبو إسحاق" هذا هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه النيسابوريّ المتوفى في رجب سنة (308 هـ)

(1)

، تلميذ الإمام مسلم، راوي كتابه هذا، ثم إن هذا الذي قاله من أن الرجل الذي يقتله الدجال، ثم يحييه أنه الخضر عليه السلام، وكذلك معمر في "جامعه" في إثر هذا الحديث، مما لا دليل عليه، وقد قدّمنا في مناقب الخضر أن الصحيح أنه ليس حيًّا في زمنه عليه السلام، فكيف بزمن الدجال؟ فلتراجع ترجمته، ولتقرأها بالإمعان، واللَّه المستعان.

(1)

تقدّمت ترجمته في "المقدّمة" 6/ 73.

ص: 604

وهذا الذي قلته من أن أبا إسحاق هو تلميذ مسلم، هو الذي قاله القاضي عياض، والنوويّ؛ وأبو العبّاس القرطبيّ، وخالف في ذلك أبو عبد اللَّه القرطبيّ تلميذ أبي العبّاس، في "تذكرته"، فقال: هو أبو إسحاق السبيعيّ، وقد ردّ عليه الحافظ في "الفتح"، ودونك عبارته، قال بعد إيراد النصّ المذكور: كذا أطلق، فظنّ القرطبيّ

(1)

أن أبا إسحاق المذكور هو السبيعيّ أحد الثقات من التابعين، ولم يُصِب في ظنه، فإن السند المذكور لم يجر لأبي إسحاق فيه ذِكر، وإنما أبو إسحاق الذي قال ذلك، هو إبراهيم بن محمد بن سفيان الزاهد، راوي "صحيح مسلم" عنه، كما جزم به عياض، والنوويّ، وغيرهما، وقد ذكر ذلك القرطبي في "تذكرته" أيضًا قبل ذلك، فكأن قوله في الموضع الثاني السبيعي سَبْق قلم، ولعل مستنده في ذلك ما قاله معمر في "جامعه" بعد ذكر هذا الحديث: قال معمر: بلغني أن الذي يقتل الدجال: الخضر، وكذا أخرجه ابن حبان من طريق عبد الرزاق، عن معمر، قال: كانوا يرون أنه الخضر، وقال ابن العربيّ: سمعت من يقول: إن الذي يقتله الدجال هو الخضر، وهذه دعوى لا برهان لها.

قال الحافظ: وقد تمسك من قاله بما أخرجه ابن حبان في "صحيحه" من حديث أبي عبيدة بن الجراح، رفعه، في ذكر الدجال:"لعله أن يدركه بعض من رآني، أو سمع كلامي. . . " الحديث، ويعكر عليه قوله في رواية مسلم المتقدّمة:"شابّ ممتلئ شبابًا"، ويمكن أن يجاب بأن من جملة خصائص الخضر أن لا يزال شابًّا، ويحتاج إلى دليل. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(2)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: كلام الحافظ هذا ليس اضحًا في تحقيق هذه المسألة إلا أن آخر كلامه، وهو قوله: ويحتاج إلى دليل، هو محور المسألة، فكلّ من قال: إنه الخضر نقول له: أين دليلك على هذا من النصوص الصحيحة؟، فكل ما ذكرتم إنما هي بلاغات، لا تغني شيئًا، والصواب من أقوال أهل العلم، وهو مذهب البخاريّ وغيره أن الخضر ليس حيًّا في

(1)

أراد أبا عبد اللَّه القرطبيّ صاحب "التذكرة"، وهو تلميذ لأبي العبّاس القرطبيّ.

(2)

"الفتح" 16/ 596.

ص: 605

زمنه صلى الله عليه وسلم، فكيف بعده؟ وأما الذي يدّعون حياته، فجلّ مستندهم أحاديث ساقطة، ورؤيا مناميّة -كما حقَّقها الحافظ في مؤلف له خاصّ بالخضر عليه السلام وكلها لا اعتماد عليها في إثبات هذه المسألة، فالحقّ أحقّ أن يتبع، ولتراجع ما تقدّم في ترجمة الخضر؛ في "المناقب"، تزدد علمًا، واللَّه تعالى الهادي إلى سواء السبيل.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [2/ 7345 و 7346 و 7347](2938)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1882) و"الفتن"(7132)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 485)، و (عبد الرزّاق) في "مصنّفه"(11/ 393)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 36)، و (الطبرانيّ) في "مسند الشاميين"(4/ 213)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 937)، و (ابن أبي عاصم) في "السنّة"(1/ 171)، و (الحاكم) في المستدرك" (4/ 581)، و (البغويّ) في "شرح السنّة" (15/ 59)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7346]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

وكلهم تقدّموا غير مرّة.

1 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ) السمرقنديّ، صاحب "السنن".

2 -

(أَيُو الْيمَانِ) الحكم بن نافع البهرانيّ الحمصيّ.

3 -

(شُعَيْبُ) بن أبي حمزة دينار، أبو بشر الحمصيّ.

و"الزهري" تقدم قبله.

وقوله: (فِي هَذَا الإِسْنادِ بِمِثْلِهِ) يعني الإسناد الذي قبله، وهو: عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة، عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه.

[تنبيه]: رواية شعيب عن الزهريّ هذه ساقها البخاريّ رحمه الله في "صحيحه"، فقال:

ص: 606

(6713)

- حدّثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهريّ، أخبرني عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، أن أبا سعيد قال: حدّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يومًا حديثًا طويلًا عن الدجال، فكان فيما يحدّثنا به، أنه قال:"يأتي الدجال، وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا، ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله، ثم يحييه، فيقول: واللَّه ما كنت فيك أشدّ بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7347]

(. . .) - (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ، مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَلْقَاهُ الْمَسَالِحُ مَسَالِحُ الدَّجَّالِ، فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟ فَيَقُولُ: أَعْمِدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ، قَالَ: فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟ فَيَقُولُ: مَا بِرَبِّنَا خَفَاءٌ، فَيَقُولُونَ: اقْتُلُوهُ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا دُونَهُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ، فَإِذَا رَآه الْمُؤْمِنُ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ بِهِ، فَيُشَبَّحُ، فَيَقُولُ: خُذُوهُ، وَشُجُّوهُ، فَيُوسَعُ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا، قَالَ: فَيَقُولُ: أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِي؟ قَالَ: فَيَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ الْكَذَّابُ، قَالَ: فَيُؤْمَرُ بِهِ، فَيُؤْشَرُ بِالْمِئْشَارِ مِنْ مَفْرِقِهِ، حَتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ يَمْشِي

(2)

الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: أَتُؤْمِنُ بِي؟ فَيَقُولُ: مَا ازْدَدْتُ فِيكَ إِلَّا بَصِيرَةً، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَا يَفْعَلُ بَعْدِي بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ،

(1)

"صحيح البخاري" 6/ 2608.

(2)

وفي نسخة: "ثم يمر الدجال".

ص: 607

قَالَ: فَيَأْخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ، فَيُجْعَلَ مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ نُحَاسًا، فَلَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، قَالَ: فَيَأْخُذُ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلقِيَ فِي الْجَنَّةِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحُمَّدُ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُهْزَاذَ) -بضم القاف، وسكون الهاء، ثم زاي- المروزيّ، ثقةٌ [11](ت 262)(م) تقدم في "المقدمة" 5/ 32، من أفراد المصنّف.

2 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ) بن جَبَلة -بفتح الجيم، والموحّدة- ابن أبي رَوّاد -بفتح الراء، وتشديد الواو- الْعَتَكيّ -بفتح المهملة، والمثناة- أبو عبد الرحمن المروزيّ الملقب عبدان، ثقةٌ حافظٌ [10](ت 221) في شعبان (خ م د ت س) تقدم في "المقدمة" 5/ 32.

3 -

(أَبُو حَمْزَةَ) السُّكّريّ، محمد بن ميمون المروزيّ، ثقةٌ فاضلٌ [7].

رَوَى عن أبي إسحاق، السَّبِيعيّ، وزياد بن عِلاقة، وعبد الملك بن عُمير، والأعمش، وعاصم الأحول، وعاصم بن بهدلة، ومنصور بن المعتمر، وقيس بن وهب، وغيرهم.

وروى عنه ابن المبارك، والفضل بن موسى السِّينانيّ، وعلي بن الحسن بن شقيق، وسلامة بن الفضل الأبرش، وعبدان بن عثمان، ونعيم بن حماد، وغيرهم.

قال الأثرم عن أحمد: ما بحديثه عندي بأس، وهو أحبّ إليّ حديثًا من حسين بن واقد، وقال الدُّوريّ: كان من ثقات الناس، ولم يكن يبيع السُّكّر، وإنه، سُمِّي السكريّ لحلاوة كلامه، وقال النسائيّ: ثقة، وقال حفص بن حميد عن ابن المبارك: حسين بن واقد ليس بحافظ، ولا يُترك حديثه، وأبو حمزة صاحب حديث، هذا أو نحوه، وقال سفيان بن عبد الملك: قال ابن المبارك: السكري، وابن طهمان صحيحا الكتاب، وقال عليّ بن الحسن بن شقيق: سئل عبد اللَّه عن الأئمة الذين يُقتدَى بهم، فذكر أبا بكر، وعمر، حتى انتهى إلى أبي حمزة، وأبو حمزة حيّ، وقال يحيى بن أكثم: سئل ابن المبارك عن

ص: 608

الاتّباع، فقال الاتباع ما كان عليه حسين بن واقد، وأبو حمزة، وقال العباس بن مصعب: كان مستجاب الدعوة، قال ابن أبي رِزْمة وغيره: مات سنة ست وستين ومائة، وقال بشر بن محمد السختيانيّ: مات سنة ثمان وستين ومائة، وقال ابن حبان: مات سنة سبع، أو ثمان، وقال ابن عبد البرّ في "التمهيد": ليس بقويّ، ذكره في ترجمة سُمَيّ، وقال النسائيّ: لا بأس بأبي حمزة، إلا أنه كان قد ذهب بصره في آخر عمره، فمن كتب عنه قبل ذلك جيّد، وذكره ابن القطان الفاسيّ فيمن اختلط.

أخرج له الجماعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

4 -

(قَيْسُ بْنُ وَهْبٍ) الْهَمْدانيّ الكوفيّ، ثقة [5].

روى عن أنس، وأنس عبد الرحمن السُّلميّ، وأبي الكَنُود الأزديّ، وأبي الوَدّاك، وغيرهم.

وروى عنه الثوريّ، وإسرائيل، وأبو حمزة السُّكّريّ، والجراح بن مَلِيح، والحسين بن واقد، وغيلان بن جامع، وغيرهم.

قال أحمد، وابن معين، والعجليّ: ثقةٌ، زاد أحمد: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعقوب بن سفيان: ثقة.

أخرج له المصنّف، وابن ماجه، وأبو داود، والترمذيّ، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

5 -

(أَبُو الْوَدَّاكِ) -بفتح الواو، وتشديد الدال، وآخره كاف- جَبْر بن نَوْف -بفتح النون، وآخره فاء- الْهَمْدانيّ -بسكون الميم- البِكاليّ -بكسر الموحّدة وتخفيف الكاف- الكوفيّ، صدوقٌ يَهِم [4](م د ت س ق) تقدم في "النكاح" 23/ 3554.

6 -

(أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ) سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنهما، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 485.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ) رضي الله عنه، أنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ، فَيَتَوَجَّهُ قِبَلَهُ) بكسر القاف، وفتح الموحدة؛ أي: إلى جانبه، (رَجُلٌ) عظيم القدر عند اللَّه تعالى، فالتنوين للتعظيم. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا الرجل لم

ص: 609

يُعرف، وما سبق، من أنه الخضر عليه السلام، فقد عرفت بطلانه، فتنبّه. (فَتَلْقَاهُ) أي تقابله، وتأخذه (الْمَسَالِحُ) بفتح الميم، وكسر اللام: جمع المسلحة، وهم القوم ذوو السلاح، يحفظون الثغور، وقوله:(مَسَالِحُ الدَّجَّالِ) مرفوع على الإبدال، وفيه إشارة إلى أن اللام عِوَض عن المضاف إليه، أو اللام للعهد

(1)

، قال القاضي رحمه الله: ولعل المراد به ههنا مقدمة جيشه، وأصلها موضع السلاح، ثم استعمل للثغر، فإنه تُعَدّ فيه الأسلحة، ثم للجند المترصدين، ثم لمقدمة الجيش، فإنهم من الجيش، كأصحاب الثغور ممن وراءهم من المسلمين

(2)

. (فَيَقُولُونَ لَهُ: أَيْنَ تَعْمِدُ؟) بكسر الميم، من باب ضرب؛ أي: تقصد، (فَيَقُولُ: أَعْمدُ إِلَى هَذَا الَّذِي خَرَجَ)؛ أي: خرج عن الحقّ، أو على الخلق، أو ظهر بالباطل، والإشارة للتحقير. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُونَ لَهُ: أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِرَبِّنَا؟) يعنون به الدجال، حيصسا وجدوا عنده الجاه والمال، (فَيَقُولُ) الرجل:(مَا بِرَبِّنَا)؛ أي: بربي وربكم، ففيه تغليب، أو: ما بربنا معشرَ المؤمنين (خَفَاءٌ) و"ما" نافية؛ أي: ليس يخفى علينا صفات ربنا عن غيره؛ لنعدل عنه إليه، أو لنترك الاعتماد عليه.

كما قال القائل [من المتقارب]:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ شَاهِدٌ

يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ

وأما ما عداه فآثار الحدوث عليه لائحة، وأنواع النقصان فيه واضحة، ومن أظهر الأدلة القطعية، أن المخلوقية تنافي الربوبية، والعبودية تناقض الألوهية، ما للتراب، ورب الأرباب، كيف والعيوب الظاهرة فيه تشهد لمن له أدني عقل، كما لا يخفى، وفيه إيماء إلى ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا يخفى عليكم، إن اللَّه ليس بأعور".

قال الطيبيّ رحمه الله: هذا تكذيب لهم، وبيان لتمويههم، وتلبيسهم؛ "أوَ ما يؤمن بربنا؟ "، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا يخفى عليكم، إن اللَّه ليس بأعور"

(3)

.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 7.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3459.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3459.

ص: 610

(فَيَقُولُونَ)؛ أي: فيما بينهم يقول بعضهم لبعض: (اقْتُلُوهُ) أي اقتلوا هذا الرجل الجاحد لربوبية ربنا، (فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: أَلَيْسَ قَدْ نَهَاكُمْ رَبُّكُمْ) الدجّال الكذّاب (أَنْ تَقْتُلُوا أَحَدًا) أي مِن قتلكم أحَدًا (دُونَهُ) أي دون علمه، وأمره، وإذنه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ إِلَى الدَّجَّالِ، فَإِذَا رَآه الْمُؤْمِنُ)؛ أي: أبصر الدجالَ الرجلُ الموقنُ، وقد عرف علاماته، (قَالَ) تذكيرًا للأمة، وتوهينًا للغُمة:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا الدَّجَّالُ الَّذِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: في أحاديثه أنه سيخرج في آخر الزمان. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ به)؛ أي: بضرب هذا الرجل، (فَيُشَبَّحُ) بضمّ أوله، وتشديد الموحّدة المفتوحة، مبنيًّا للمفعول؛ أي: يُمَدّ للضرب، وفي نسخة:"فيُشجّ"، (فَيَقُولُ) الدجال تأكيدًا، وتغليظًا، وتشديدًا:(خُذُوهُ)؛ أي: امسكوه أخذًا شديدًا، (وَشُجُّوهُ) بضم الشين المعجمة، وتشديد الجيم؛ أي: اكسروا رأسه، قال القاري: وفي نسخة -أي: من "المشكاة"-: "فشبحوه" بفتح الشين، وكسر الموحّدة، فحاء مهملة؛ أي: مُدّوه على بطنه، أو على قفاه، يقال: تشبّح الحرباء على العود؛ أي: امتد، وتشبيح الشيء: جَعْله عريضًا. انتهى

(1)

.

(فَيُوسَعُ) بسكون الواو، وفتح السين، مبنيًّا للمفعول، هكذا أفاد القاري. (ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ ضَرْبًا) منصوب على التمييز، يعني أنه يُكْثَر الضرب على ظهره وبطنه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم (فَيَقُولُ) الدجال لذلك الرجل بعدما عذّبه ظنًّا منه أنه سيستجيب له، (أَوَ مَا تُؤْمِنُ بِي؟)؛ أي: أتنكر ألوهيتي، وما تؤمن بربوبيتي؟ (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَقُولُ) الرجل المؤمن: (أَنْتَ الْمَسِيحُ)؛ أي: الذي يمسح الأرض سيرًا، أو الممسوح العين، (الْكَذَّابُ)؛ أي: كثير الكذب بادعائك ما ليس لك، وتمرّدك على ربّك الذي خلقك. (قال) صلى الله عليه وسلم:(فَيُؤْمَرُ بهِ)؛ أي: بنشره بالمنشار، (فيُؤْشَرُ) بضم، فسكون همز، ويبدل واوًا، ففتح شين؛ أي: فيقطع (بِالْمِئْشَارِ) بكسر الميم، وسكون الهمزة، وتبدل ياءً، وبالنون، في بعض النسخ، وهو آلة النشر، والقطع. (مِنْ مَفْرِقِهِ) بفتح الميم، وكسر الراء، وتُفتح؛ أي: من مبتدأ فرق رأسه، (حَتَّى يُفَرَّقَ) بصيغة المجهول، مخفّفًا، ومشدّدًا؛ أي: حتى يفصل بدنه قطعتين، واقعتين (بَيْنَ رِجْلَيْهِ)؛ أي: في طرفي قدميه.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 7.

ص: 611

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "يشبح" بشين معجمة، ثم باء موحّدة، وحاء مهملة، وكذا "شَبِّحوه"؛ أي: مُدُّوه على بطنه، وجاء أيضًا:"شُجّوه" بجيم مشددة، من الشج، وهو الجرح في الرأس، ثم قال: وهذه الرواية أصحّ عندنا، وقوله:"فيؤشر" الرواية فيه بالهمزة، و"المئشار" بهمز بعد الميم، وهو الأفصح، ويجوز تخفيف الهمز فيهما، فتُجعل في الأول واوًا، وفي الثاني ياء، ويجوز المنشار، بالنون، وعلى هذا يقال: نشرت الخشبة، و"مفرقه" بكسر الراء: وسطه، يعني وسط فرقه، أو وسط رأسه. انتهى

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يَمْشِي) وفي نسخة: "ثم يمرّ"(الدَّجَّالُ بَيْنَ الْقِطْعَتَيْنِ)؛ أي: الشقتين من الرجل؛ تخييلًا لتحقيق القتل، (ثُمَّ يَقُولُ) الدجّال (لَهُ)؛ أي: للرجل المقطوع قطعتين: (قُمْ، فَيَسْتَوِي قَائِمًا)؛ أي: يقوم بشرًا سويًّا، ما به شيء من آثار القطع. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(ثُمَّ يَقُولُ لَهُ) الدجال: (أَتُؤْمِنُ بِي؟)؛ أي: بعد أن رأيت ما فعلته فيك من الخوارق، (فَيَقُولُ) الرجل:(مَا) نافية، (ازْدَدْتُ فِيكَ) ما زدت في معرفتك بفعلك هذا من القتل، والإحياء (إِلَّا بَصِيرَةً)؛ أي: زيادة علم ويقين بأنك كاذب مموِّه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يَقُولُ) الرجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ)؛ أي: الدجال، (لَا يَفْعَلُ) بالبناء للفاعل؛ أي: الدجّال، ويَحْتَمِل أن يكون بالبناء للمفعول، وضمير "إنه" على هذا للشأن. (بَعْدِي) أي: بعدما فعل بي هذا الذي رأيتموه، (بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ) وفيه إخبار عن سلب القدرة الاستدراجية عنه، وتسليةٌ للناس في الخوف منه. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَأْخُذُهُ)؛ أي: الرجلَ (الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ) مرّة أخرى، (فَيُجْعَلَ) بالبناء للمفعول، (مَا بَيْنَ رَقَبَتِهِ إِلَى تَرْقُوَتِهِ) بفتح التاء، وسكون الراء، وضم القاف، وفتح الواو: العظم الذي بين ثَغْرة النحر والعاتق.

وقوله: (نُحَاسًا) مفعول ثان لـ "يُجعل"، والأول "ما" الموصولة؛ أي: يكون كالنحاس، لا يعمل فيه السيف، كما قال:(فَلَا يَسْتَطِيعُ) الدجال (إِلَيْهِ)؛ أي: إلى ذبح ذلك الرجل (سَبِيلًا)؛ أي: طريقًا يوصله إلى مراده.

قال القاري: وفي "شرح السُّنَّة": قال معمر: بلغني أنه يُجعل على حلقه

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 73.

ص: 612

صفحة نحاس، فلا يستطيع؛ أي: الدجال إليه؛ أي: إلى قتله، ولا يقدر على حصول مضرته سبيلًا، تمييز؛ أي: طريقًا من التعرض

(1)

.

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَيَأْخُذُ)؛ أي: الدجال (بِيَدَيْهِ) الرجل (وَرِجْلَيْهِ، فَيَقْذِفُ بِهِ)؛ أي: يرمي به في الهواء، (فَيَحْسِبُ) بكسر السين، وفتحها: أي: فيظنّ (النَّاسُ، أَنَّمَا قَذَفَهُ إِلَى النَّارِ، وَإِنَّمَا أُلْقِيَ فِي الْجَنَّةِ") قال القاري: قوله: "إنما قذفه إلى النار" في تأويل المصدر؛ أي: قذفه إليها، والأظهر ما اختاره الزمخشريّ من أن "أنما" بالفتح تفيد الحصر أيضًا، كما اجتمعا في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108]، ويؤيده قوله:"وإنما ألقي" بصيغة المجهول؛ أي: أُوقع في الجنة، واللام للعهد؛ أي: في بستان من بساتين الدنيا، ويمكن أن يرميه في النار التي معه، ويجعلها اللَّه عليه جنةً، كما جعلها اللَّه سبحانه وتعالى بردًا وسلامًا على إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وتصير تلك النار روضة وجنّة، وعلى كل تقدير، فلم يحصل له موت على يده، سوى ما تقدم. انتهى

(2)

.

قال أبو سعيد رضي الله عنه: (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا): أي: الرجل المؤمن الذي عذّبه الدجال، وألقاه أخيرًا في ناره، (أَعْظَمُ النَّاسِ شَهَادَةً) منصوب على التمييز، (عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ") ظرف لـ "شهادةً".

وقال القاري رحمه الله: وأما قول الراوي: "فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين" فالمراد بها قَتْله الأول، فتأمل، فإنه موضع الزلل، والخطل، والوجل، كما وقع فيه الطيبيّ رضي الله عنه بقوله:"فيحسب الناس أن الدجال قذفه فيما يزعم أنه ناره، وإنما ألقي في الجنة، وهي دار البقاء"، يدل عليه قوله:"هذا أعظم الناس شهادة"، ونحوه قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآية [آل عمران: 169، 170]؛ أي: يسرحون في ثمار الجنة.

قال القاري: أقول: فهذا مناقض لقوله: "إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس"، اللَّهُمَّ إلا أن يقال: المراد بقوله: "لا يفعل بعدي"؛ أي: بعد قتلي ثانيًا بأحد من الناس؛ أي: غيري، ولا يخفى بُعده، واللَّه تعالى أعلم.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 7.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 7.

ص: 613

قال الجامع عفا اللَّه عنه: لا يخفى على من تأمل أن المراد بقوله هنا "وإنما ألقي في الجنة" هو الذي تقدّم في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "معه جنة ونار، فناره جنّة، وجنّته نار"، فيُلقيه الدجال في ناره التي يدعي أنها نار، فإذا ألقاه فيها، قلبها اللَّه عز وجل له جنة، يتنعّم فيها المؤمن، واللَّه تعالى أعلم.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى تمام البحث فيه قبله، وللَّه الحمد والمنّة.

(22) - (بَابٌ فِي الدَّجَّالِ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ عز وجل

-)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7348]

(2939) - (حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُ، قَالَ: "وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ؟ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ، وَالأَنْهَارَ، قَالَ: "هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ الْعَبْدِيُّ) أبو عُمر الكوفيّ، ثقة [10].

روى عن الحمادين، وإبراهيم بن حميد الرؤاسيّ، وجعفر بن سليمان الضُّبعيّ، وخالد بن عمرو القرشيّ، ومحمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمدانيّ، وعيسى بن يونس، وغيرهم.

وروى له الترمذيّ، وابن ماجه، بواسطة، وأبو عبيدة بن أبي السفر، وأحمد بن حنبل، وعلي ابن المديني، وعباس العنبري، وعمرو بن عليّ الصيرفيّ، وغيرهم.

قال العجليّ: كوفيّ ثقة، وقال أبو حاتم: ثقةٌ رضيّ، وقال عبد الرحمن بن محمد الجزريّ: كان ثقةً، وذكره ابن حبان في "الثقات".

وقال مطين: مات لليلتين خلتا من جمادى الأولى سنة أربع وعشرين ومائتين، وكذا قال ابن سعد، وقال ابن عديّ: كان من خيار الناس.

ص: 614

أخرج له البخاريّ، والمصنّف، والترمذيّ، وابن ماجه، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

2 -

(إِبْرَاهيمُ بْنُ حُمَيْدٍ الرُّؤَاسِيُّ) هو: إبراهيم بن حُميد بن عبد الرحمن الرّؤَاسيّ -بضم الراء، وبعدها همزة- أبو إسحاق الكوفيّ، ثقة [8].

روى عن إسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة، وثور بن يزيد، وغيرهم.

وروى عنه شهاب بن عباد، ويحيى بن آدم، وزكريا بن عدي، وغيرهم. وثقه ابن معين، وأبو حاتم، والنسائي. مات سنة 178 هـ (خ م مدت س) وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

3 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ) البجليّ الأحمسيّ مولاهم، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ [4](ت 146)(ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 299.

4 -

(قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ) البجليّ، أبو عبد اللَّه الكوفيّ، مخضرم، ثقةٌ [2] ويقال: له رؤية، وهو الذي يقال: إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة المبشّرين بالجنّة، مات بعد التسعين، أو قبلها، وقد جاز المائة، وتغير (ع) تقدم في "شرح المقدمة" جـ 2 ص 475.

5 -

(الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ) بن مسعود بن مُعَتِّب الثقفيّ الصحابيّ المشهور، أسلم قبل الحديبية، وولي إِمْرة البصرة، ثم الكوفة، ومات رضي الله عنه سنة خمسين على الصحيح (ع) تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه هذا متفقٌ عليه، وقد مضى للمصنّف في "كتاب الآداب" برقم [7/ 5612](2152) وقد استوفيت شرحه، وبيان مسائله هناك، فراجعه تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

وقوله: ("وَمَا يُنْصِبُكَ مِنْهُ)"ما" استفهاميّة إنكاريّة، و"يُنصب" بضمّ أوله، وفتحه، من الإنصاب، أو النَّصَب، وهو التعب والمشقّة؛ أي: ما يشقّ عليك، ويُتعبك منه؟.

وقوله: (إِنَّهُ لَا يَضُرُّكَ") قال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "إنه لا يضرّك" يَحْتَمِل أن يريد: لأنك لا تُدرك زمان خروجه، ويَحْتَمِل أن يكون إخبارًا منه بأنه يُعْصَم من فتنته، ولو أدرك زمانه، واللَّه تعالى ورسوله أعلم. انتهى

(1)

.

(1)

"المفهم" 5/ 472.

ص: 615

وقوله: (يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَهُ الطَّعَامَ، وَالأَنْهَارَ) هذا يدلّ على أن المغيرة كان قد سمع هذا الأمر عن الدَّجال من غير النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يحققه، فعرض ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأجابه بقوله:"هو أهون على اللَّه من ذلك"، وظاهر هذا الكلام: أن الدَّجال لا يُمَكَّن من ذلك؛ لهوانه على اللَّه، وخسة قدره، غير أن هذا المعنى قد جاء ما يناقضه في أحاديث الدجال الآتية، فَيَحْتَمِل أن يكون هذا القول صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه بما في تلك الأحاديث، ويَحْتَمِل أن يعود الضمير إلى تمكين الدجال من أنهار الماء، وجبال الخبز؛ أي: فِعل ذلك على اللَّه هيّن، والأوَّل أسبق، والثاني لا يمتنع، واللَّه تعالى أعلم، قاله القرطبيّ رحمه الله

(1)

.

وقوله: (قَالَ: "هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ") قال القاضي عياض رحمه الله

(2)

: معناه: هو أهون من أن يَجعل ما يَخلقه على يديه مضلًّا للمؤمنين، ومشكّكًا لقلوب الموقنين، بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذءيا يقتله: ما كنت أشدّ بصيرةً مني فيك، لا أن قوله:"هو أهون على اللَّه من ذلك" إنه ليس شيء من ذلك معه، بل المراد: أهون من أن يجعل شيئًا من ذلك آيةً على صدقه، ولا سيما، وقد جُعل فيه آية ظاهرة في كَذِبه، وكفره، يقرأها من قرأ، ومن لا يقرأ، زائدة على شواهد كذبه، من حَدَثِه، ونقصه.

قال الحافظ: الحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع: "ومعه جبل من خبز، ونهر من ماء"، أخرجه أحمد، والبيهقيّ في "البعث" من طريق جُنادة بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: انطلقنا إلى رجل من الأنصار، فقلنا: حدّثنا بما سمعت من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الدجال، ولا تحدّثنا عن غيره، فذكر حديثًا فيه:"تُمْطَرُ الأرضُ، ولا يَنبُتُ الشجر، ومعه جنة، ونار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه جبل خبز. . . " الحديث بطوله، ورجاله ثقات، ولأحمد من وجه آخر عن جنادة، عن رجل من الأنصار:"معه جبال الخبز، وأنهار الماء"، ولأحمد من حديث جابر:"معه جبال من خبز، والناس في جَهد إلا من تبعه، ومعه نهران. . . " الحديث.

فدلّ ما ثبت من ذلك على أن قوله: "هو أهون على اللَّه من ذلك" ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يَجعل على يديه شيئًا من ذلك، بل هو على التأويل

(1)

"المفهم" 5/ 472.

(2)

"إكمال المعلم" 7/ 27.

ص: 616

المذكور، وقد تقدّم البحث بأتمّ مما هنا بالرقم المذكور، وباللَّه تعالى التوفيق.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7349]

(. . .) - (حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: مَا سَأَل أَحَدٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ، قَالَ: "وَمَا سُؤَالُكَ؟ "، قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَعَهُ جِبَالٌ مِنْ خُبْزٍ، وَلَحْمٍ، وَنَهَرٌ مِنْ مَاءٍ، قَالَ: "هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(سُرَيْجُ بْنُ يونُسَ) أبو الحارث المرّوذيّ، تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

2 -

(هُشَيْمُ) بن بشير الواسطيّ، تقدم في "المقدمة" 3/ 9.

والباقون ذُكروا قبله.

والحديث متّفقٌ عليه، وقد مضى الكلام فيه في الذي قبله.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7350]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ (ح) وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ (ح) وَحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ (ح) وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ (ح) وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ حُمَيْدٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ: فَقَالَ لِي: "أَيْ بُنَيَّ").

رجال هذا الإسناد:

كلّهم تقدّموا غير مرّة، و"وكيع" هو: ابن الجرّاح. و"جرير" هو: ابن عبد الحميد. و"ابن أبي عمر" هو: محمد بن يحيى بن أبي عمر العدنيّ، ثم المكيّ. و"سفيان" هو: ابن عيينة. و"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة.

وقوله: (كُلُّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ) ضمير الجماعة للخمسة المذكورين، وهم: وكيع، وجرير، وابن عيينة، ويزيد بن هارون، وأبو أسامة.

وقوله: (وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَزِيدَ) فاعل "زاد" ضمير ابن أبي شيبة، و"يزيد" هو ابن هارون.

ص: 617

[تنبيه]: روايات هؤلاء الخمسة قد تكلّمت عليها في "كتاب الأدب" بالرقم المذكور، فراجعها تستفد، وباللَّه تعالى التوفيق.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(23) - (بَابٌ فِي خُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَمُكْثِهِ فِي الأَرْضِ، وَنُزُولِ عِيسَى عليه السلام، وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ، وَذَهَابِ أَهْلِ الْخَيْرِ، وَالإِيمَانِ، وَبَقَاءِ شِرَارِ النَّاسِ، وَعِبَادَتِهِمُ الأَوْثَانَ، وَالنَّفْخِ فِي الصُّورِ، وَبَعْثِ مَنْ فِي الْقُبُورِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7351]

(2940) - (حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعودٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَجَاءَهُ رَجُلٌ

(1)

، فَقَالَ: مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ، تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَوْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهُمَا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا، يُحَرَّقُ الْبَيْتُ، وَيَكُونُ، وَيَكُونُ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي، فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ -لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا- فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، فَيَطْلُبُهُ، فَيُهْلِكُهُ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّأْمِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةِ مِنْ خَيْرٍ، أَوْ إِيمَانٍ، إِلَّا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ، لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَقْبِضَهُ"، قَالَ: سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ، وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ، لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، فَيَقُولُ: أَلَا

(1)

وفي نسخة: "وجاء رجل".

ص: 618

تَسْتَجِيبُونَ؟

(1)

فَيَقُولُونَ: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَلَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا، وَرَفَعَ لِيتًا، قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلُوطُ حَوْضَ إِبِلِهِ، قَالَ: فَيَصْعَقُ، وَيَصْعَقُ النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ، أَوْ قَالَ: يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا، كَأَنَّهُ الطَّلُّ، أَوِ الظِّلُّ -نُعْمَانُ الشَّاكُّ- فَتَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يُنْفَغُ فِيهِ أُخْرَى، فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ، ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} [الصافات: 24]، قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَذَاكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ").

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(النُّعْمَانُ بْنُ سَالِمٍ) الطائفيّ ثقة [4](م 4) تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 16/ 1694.

2 -

(يَعْقُوبُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ) أخو نافع، مقبول [3](م د س) تقدم في "الشعر" 1/ 5872.

3 -

(عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو) بن العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بالتصغير ابن سعد بن سهم السهميّ، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الرحمن، أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرّة، على الأصح بالطائف، على الراجح (ع) تقدم في "المقدمة" 4/ 18.

والباقون ذُكروا في الباب الماضي.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُداسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالبصريين إلى شعبة، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، وأن صحابيّه ابن صحابيّ، وهو أحد العبادلة الأربعة.

شرح الحديث:

(عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ)؛ أنه (قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ

(1)

وفي نسخة: "ألا تستحيون".

ص: 619

مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو) رضي الله عنهما (وَ) الحال أنه قد (جَاءَهُ رَجُلٌ) وفي نسخة: "وجاء رجلٌ"، ولم يسمّ ذلك الرجل. (فَقَالَ) ذلك الرجل لعبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما:(مَا هَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي تُحَدِّثُ بِهِ) الناسَ، ثم بيّن الحديث بقوله:(تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ)؛ أي: القيامة، (تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا؟) كناية شيء مبهم. (فَقَالَ) عبد اللَّه بن عمرو للرجل:(سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجّبًا من قول الرجل، (أَوْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ)"أو" في الموضعين للشكّ من الراوي، (أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهُمَا)؛ أي: نحو "سبحان اللَّه"، أو "لا إله إلا اللَّه"، كقوله: اللَّه أكبر، وإنما قال عبد اللَّه ذلك تعجبًا من اتهام الرجل له بالكذب على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم قال عبد اللَّه:(لَقَدْ هَمَمْتُ)؛ أي: واللَّه لقد قصدت (أَنْ لَا أُحَدِّثَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا)؛ أي: ما عشت في مستقبل الزمان، قال القرطبيّ رحمه الله: إنما قال ذلك عبد اللَّه؛ لأنهم نسبوا إليه ما لم يقل، فشقّ ذلك عليه، ثم إنَّه لمّا عَلِم أنه لا يجوز له ذلك، ذَكَر ما عنده من علم ذلك، فقال:(إِنَّمَا قُلْتُ) لكم (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ) من الزمن (أَمْرًا عَظِيمًا)؛ أي: فظيعًا مما يدلّ على قرب الساعة، فمن ذلك أنه (يُحَرَّقُ) من التحريق، أو الإحراق، (الْبَيْتُ) الكعبة؛ لأنه صار عَلَمًا لها بالغلبة، كما قال ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة":

وَقَدْ يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبْه

مُضَافٌ أَوْ مَصْحُوبُ "أَلْ" كَـ "الْعَقَبَهْ"

قال القرطبيّ رحمه الله: قد كان تحريق البيت في عهد ابن الزبير رضي الله عنهما، وذلك أن يزيد بن معاوية وجّه من الشام مسلم بن عقبة في جيش عظيم لقتال ابن الزبير، فنزل بالمدينة، وقاتل أهلها، وهزمهم، وأباحها ثلاثة أيّام، وهي وقعة الحرّة، وقد قدّمنا ذكرها، ثم سار يريد مكّة، فمات بقُديد، وولِيَ الجيش الحصين بن نُمير، وسار إلى مكة، فحاصر ابن الزبير، وأحرقت الكعبة، حتى انهدم جدارها، وسقط سقفها، وجاء الخبر بموت يزيد، فرجعوا. انتهى.

وكان عبدا اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما إذ ذاك حيًّا، وروي أنه توفّي أيام تلك الفتنة، واللَّه تعالى أعلم.

(وَيَكُونُ)؛ أي: من الفتن (وَيَكُونُ) يعني أنه يقول: كنت ذكرت أشياء من الفتن التي ستقع قبل قيام الساعة، فمنها ما ذكرت من تحريق البيت، ومنها الدجّال، كما ذكره بقوله:(ثُمَّ قَالَ) عبد اللَّه رضي الله عنه: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ

ص: 620

الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي)؛ أي: في آخرها قرب الساعة، (فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ) أبهمه لحكمة في ترك التمييز، أو نسيه الراوي، ولذا قال:"لا أدري أربعين يومًا، أو شهرًا، أو عامًا".

قال التوربشتيّ رحمه الله: "لا أدري -إلى قوله- فيبعث اللَّه عيسى" من قول الراوي، الظاهر أنه الصحابيّ، أي لم يزدني النبيّ صلى الله عليه وسلم على أربعين شيئًا، يبيّن المراد منها، فلا أدري أيًّا أراد بهذه الثلاثة. انتهى

(1)

.

(لَا أَدْرِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ شَهْرًا، أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا) يعني أنه لم يذكره تمييز العدد، بل أبهمه، لكن تبيّن برواية غيره، كالنوّاس بن سمعان رضي الله عنه أنه "يمكث أربعين يومًا، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم"، (فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عليه السلام، وقد سبق في حديث النوّاس أنه "ينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق".

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "فيبعث اللَّه عيسى ابن مريم"؛ أي: ينزله من السماء، حاكمًا بشرعنا، وقد سبق بيان هذا في "كتاب الإيمان"، قال القاضي رحمه الله: نزول عيسى عليه السلام، وقَتْله الدجال حقّ، وصحيحٌ عند أهل السُّنَّة؛ للأحاديث الصحيحة في ذلك، وليس في العقل، ولا في الشرع ما يبطله، فوجب إثباته، وأنكر ذلك بعض المعتزلة، والجهمية، ومن وافقهم، وزعموا أن هذه الأحاديث مردودة بقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نبي بعدي"، وبإجماع المسلمين أنه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وأن شريعته مؤبدة إلى يوم القيامة، لا تُنسَخ، وهذا استدلال فاسد؛ لأنه ليس المراد بنزول عيسى عليه السلام أنه ينزل نبيًا بشرع ينسخ شرعنا، ولا في هذه الأحاديث، ولا في غيرها شيء من هذا، بل صحت هذه الأحاديث هنا، وما سبق في "كتاب الإيمان"، وغيرها أنه ينزل حَكَمًا مُقسطًا، يحكم شرعنا، ويحيي من أمور شرعنا ما هَجرهُ الناس. انتهى

(2)

.

(كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ)؛ أي: كأن عيسى عليه السلام يشبه عروة بن مسعود بن مُعَتِّب -بالمهملة، والمثناة المشددة- ابن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 175.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 76.

ص: 621

عوف بن ثقيف الثقفيّ، وهو عمّ والد المغيرة بن شعبة، وأمه سُبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف أخت آمنة، كان أحد الأكابر من قومه، وقيل: إنه المراد بقوله عز وجل: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)} [الزخرف: 31]، فالمراد بالقريتين: مكة والطائف، وأرادوا: الوليد بن المغيرة من أهل مكة، وعروة بن مسعود الثقفيّ من أهل الطائف، وكانت له اليد البيضاء في تقرير صلح الحديبية، وذلك قبل أن يُسلم، وهو مستوفى في "صحيح البخاريّ".

شَهِد صلح الحديبية كافرًا، وقَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع، بعد عوده من الطائف، وأسلم، ثم عاد إلى قومه، ودعاهم إلى الإسلام، فقتلوه، وقيل له: ما ترى في دمك؟ قال: كرامة أكرمني اللَّه بها، وشهادة ساقها اللَّه إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قُتلوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم، فدفنوه معهم

(1)

.

(فَيَطْلُبُهُ)؛ أي: يطلب عيسى عليه السلام الدجال اللعين (فَيُهْلِكُهُ)؛ أي: فيدركه بباب لُدّ، فيقتله بحربته، (ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ، لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ) وعند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه:"فيدقُّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، فيهلك اللَّه في زمانه الملل كلها، إلا الإسلام، ويهلك اللَّه في زمانه المسيح الدجال، وتقع الآمنة على الأرض، حتى ترتع الأُسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصيبان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتوفَّى، ويصلي عليه المسلمون"

(2)

.

(ثُمَّ) بعد له مبع سنين (يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ) بكسر، ففتح؛ أي: من جهة (الشَّأْمِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ) وقوله: (أَوْ إِيمَانٍ) شكّ من الراوي، (إِلَّا قَبَضَتْهُ)؛ أي: أماتته تلك الريح، (حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبَدِ جَبَلٍ)؛ أي: وسطه، وداخله، وكبد كلّ شيء: وسطه، قاله النوويّ. (لَدَخَلَتْهُ)؛ أي: دخلت تلك الريح كبد الجبل

(1)

"الإصابة في تمييز الصحابة" 4/ 492 - 493.

(2)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 406.

ص: 622

(عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك الأحد، (حَتَّى تَقْبِضهُ)؛ أي: حتى تكون سببًا في قبض روحه؛ لأن قابض الروح هو الملِك، كما نصّ اللَّه عز وجل عليه في كتابه حيث قال:{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)} [السجدة: 11]. (قَالَ) عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما (سَمِعْتُهَا)؛ أي: هذه القصّة، أو تلك الريح، (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ) رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " (فَيَبْقَى) على الأرض بعد موت كل مؤمن بتلك الريح، (شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ) بكسر الخاء المعجمة، وتشديد الفاء، قال القاضي رحمه الله: المراد بخفة الطير: اضطرابها، وتنفرها بأدنى توهّم، شَبَّه حال الأشرار في تهتّكهم، وعدم وقارهم، وثباتهم، واختلال رأيهم، وميلهم إلى الفجور والفساد بحال الطير. (وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ)؛ أي: وفي عقولها الناقصة، جمع حُلم بالضم، أو جمع حِلم بالكسر، ففيه إيماء إلى أنهم خالون عن العلم والحلم، بل الغالب عليهم الطيش، والغضب، والوحشة، والإتلاف، والإهلال، وقلة الرحمة

(1)

.

وقال النوويّ: قال العلماء: معناه يكونون في سرعتهم إلى الشرور، وقضاء الشهوات، والفساد كطيران الطير، وفي العدوان، وظُلم بعضهم بعضًا في أخلاق السباع العادية. انتهى

(2)

.

(لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا)؛ أي لا يعملون بما أمر به الشرع، (وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا)؛ أي: لا يجتنبون منهيًّا من مناهي الشرع، بل يعكسون فيما يفعلون، (فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ)؛ أي: يتصور لهم بصورة إنسان، فكأن التشكل أقوى على التسلط في الضلالة من طريق الوسوسة، ولذا قَدَّم اللَّه سبحانه وتعالى شياطين الإنس في قول:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} الآية [الأنعام: 112](فَيَقُولُ) لهم: (أَلَا تَسْتَجِيبُونَ؟) بالجيم، من الاستجابة؛ أي: ألا تطيعوني فيما آمركم به، وفي بعض النسخ:"ألا تستحيون" بالحاء المهملة، من الاستحياء.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: هذا أصحّ رواية، يكون معناه: ألا تستحيون

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 175.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 76.

ص: 623

مني في ترك ما آمركم به؟، وليس المراد: الاستحياء من اللَّه تعالى، كما زعم القاري

(1)

، فتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(فَيَقُولُونَ) له: (فَمَا تَأْمُرُنَا؟)؛ أي: فأيّ شيء تأمرنا به حتى نطيعك؟ قال القاري: "ما" موصولة، أو استفهامية، والمعنى: فأيّ شيء تأمرنا لنطيعك فيه؟ (فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ) توسّلًا بها إلى رضا اللَّه عز وجل، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقال:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية [يونس: 18]، (وَهُمْ فِي ذَلِكَ)؛ أي: والحال أنهم فيما ذُكر من الأوصاف الردية، والعبادات الوثنية، (دَارٌّ رِزْقُهُمْ) بتشديد الراء؛ أي: نازل عليهم بكثرة، (حَسَنٌ عَيْشُهُمْ) قال القاري رحمه الله: الأول إشارة إلى الكمية، والثاني إلى الكيفية، أو الأول إيماء إلى كثرة الأمطار، وما يترتب عليه من الأنهار، وأثمار الأشجار، والثاني من جهة الأمن، وعدم الظلم، وكثرة الصحة، والغنى بالمال، والجاه

(2)

.

(ثُمَّ يُنْفَخُ) بالبناء للمفعول، (فِي الصُّورِ) هو قرن يُنفخ فيه، والنافخ هو إسرافيل عليه السلام، كما جاء في الحديث. (فَلَا يَسْمَعُهُ)؛ أي: النفخ في الصور، (أَحَدٌ إِلَّا أَصْغَى لِيتًا) بكشر اللام، قال التوربشتيّ رحمه الله: أي أمال صفحة عنقه خوفًا ودهشة، (وَرَفَعَ لِيتًا) والمراد منه هنا: أن السامع يصعق، فيصغي ليتًا، ويرفع ليتًا؛ أي: يصير رأسه هكذا، وكذلك شأن من يصيبه صيحة، فيشق قلبه، فأول ما يظهر منه سقوط رأسه إلى أحد الشقين، فأسند الإصغاء إليه إسناد الفعل الاختياري. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(وَأَوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ)؛ أي: النفخ، (رَجُلٌ يَلُوطُ) من باب قال؛ أي: يطيّن، ويصلح (حَوْضَ إِبِلِهِ) ليسقيها ماء نظيفًا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم:(فَيَصْعَقُ) من باب تَعِب؛ أي: يموت ذلك الرجل الذي يلوط حوض إبله لسماعه، (وَيَصْعَقُ)؛ أي: يموت (النَّاسُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ) عز وجل، وقوله:(أَوْ قَالَ) شكّ من الراوي، (يُنْزِلُ اللَّهُ مَطَرًا، كَأَنَّهُ الطَّلُّ) بفتح الطاء المهملة، وتشديد اللام؛ أي: المطر الضعيف، الصغير القطر، وقوله:(أَوِ الظِّلُّ) شكّ من الراوي، كما قال:(نُعْمَانُ) بن سالم (الشَّاكُّ) في أي لفظة قال يعقوب بن

(1)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 175.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 10/ 175.

ص: 624

عاصم، قال النوويّ: الأصحّ: الطلّ بالمهملة، وهو الموافق للحديث الآخر أنه كمنيّ الرجال، وقال القرطبيّ رحمه الله: هكذا شك، والأصح أنه الطل بالطاء المهملة، لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"ثم ينزل من السماء ماء"، وفي حديث آخر:"كمنيّ الرجال"، (فَتَنْيُتُ مِنْهُ)؛ أي: من ذلك المطر (أَجْسَادُ النَّاسِ)؛ أي: أجسامهم، (ثُمَّ يُنْفَخُ) "ثم" للترتيب مع التراخي؛ أي: ثم بعد مدّة من النفخة الأولى، قيل: هو أربعون سنة، (فِيهِ)؛ أي: في ذلك الصُّور، (أُخْرَى)؛ أي: نفخة أخرى، وهي النفخة الثانية، نفخة البعث والنشور، (فَإِذَا) نُفخ أخرى (هُمْ)؛ أي: الناس (قِيَامٌ)؛ أي: قائمون من قبورهم (يَنْظُرُونَ) ما يُفعل بهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، قائلين: من بعثنا من مرقدنا. (ثُمَّ) بعد قيامهم من قبورهم (يُقَالُ)؛ أي: ينادي المنادي، وهو إسرافيل عليه السلام، قائلًا:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمَّ)؛ أي: أقبلوا (إِلَى رَبِّكُمْ) تقدّم قريبًا أن هلمّ فيها لغتان: تستعمل بلفظ واحد، فيقال: هلم يا زيد، ويا زيدان، وزيدون إلى آخره، وتطابِق، فيقال: هلمّا، وهلمّوا إلى آخره. {وَقِفُوهُمْ} أي: قفوا الناس في الموقف ({إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ})؛ أي: لأنهم يُسألون عن أعمالهم، فيجازون عليها، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا، فشرّ.

وقال الشوكانيّ رضي الله عنه: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} أي: احبسوهم، يقال: وقفتُ الدابة أقفها وقفًا، فوقفتْ هي وقوفًا، يتعدّى، ولا يتعدّى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السَّوْق إلى جهنم؛ أي: وَقِفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، وجملة {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي: أي: مسؤولون عن أعمالهم، وأقوالهم، وأفعالهم. وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل: عن لا إله إلّا اللَّه، وقيل: عن ظلم العباد، وقيل: هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)} أي: أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضًا كما كنتم في الدنيا، وهذا توبيخ لهم، وتقريع وتهكم بهم، وأصله: تتناصرون، فطرحت إحدى التاءين تخفيفًا. قرأ الجمهور:{إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} بكسر الهمزة، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها، قال الكسائيّ: أي لأنهم، أو بأنهم. انتهى

(1)

.

(1)

"فتح القدير" للشوكانيّ رحمه الله 6/ 192.

ص: 625

(قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (ثُمَّ يُقَالُ)؛ أي: يقول اللَّه تعالى لآدم عليه السلام، كما تقدّم في "كتاب الإيمان" من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول اللَّه عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، قال: فذاك حين يشيب الصغير، {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2]، قال: فاشتد ذلك عليهم، قالوا: يا رسول اللَّه أينا ذلك الرجل؟ فقال: "أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفًا، ومنكم رجل. . . " الحديث.

(أَخْرِجُوا)؛ أي: افصلوا، وميّزوا (بَعْثَ النَّارِ)؛ أي: جماعتها، وحظّها، ونصيبها (فَيُقَالُ)؛ أي: يقول المأمورون بالإخراج: (مِنْ كَمْ؟)؛ أي: بأيّ نسبة نُخرج بعث النار من بين سائر الناس؟ (فَيُقَالُ) من قِبَل الرب سبحانه وتعالى: أخرجوا (مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ) شخصًا. (قَالَ) صلى الله عليه وسلم: (فَذَاكَ)؛ أي: ذلك اليوم الذي يقع فيه هذا، (يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِييبًا) ببناء "يوم" على الفتح؛ لإضافته إلى جملة، ويجوز إعرابه بالرفع؛ لكونه مضافًا إلى معرب، وبالوجهين قرئ قوله عز وجل:{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]، وإلى هذا أشار ابن مالك رحمه الله في "الخلاصة" حيث قال:

وَابْنِ أَوَ اعْرِبْ مَا كَإِذْ قَدْ أُجْرِيَا

وَاخْتَرْ بِنَا مَتْلُوَّ فِعْلٍ بُنِيا

وَقَبْلَ فِعْلٍ مُعْرَبٍ أَوْ مُبْتَدَا

أَعْرِبْ وَمَنْ بَنَى فَلَنْ يُفَنَّدَا

ومعنى {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]؛ أي: يصيّر الصبيان شيبًا بالكسر جمع أشيب؛ أي: أصحاب شيْب، وهو بالكسر: الشَّعر الأبيض، والولدان جمع وليد، وهو الصغير؛ أي: يجعل ذلك اليوم الصغار شيبًا، لشدّة هوله، وقيل: هذا على سبيل التمثيل والتهويل، والأول هو الصواب، واللَّه تعالى أعلم.

(وَذَلِكَ) اليوم أيضًا (يَوْمَ يُكْشَف عَنْ سَاقٍ) بفتح "يوم" ورفعه، كما مرّ آنفًا، والمراد بكشف الساق: هو كشف اللَّه سبحانه وتعالى عن ساقه؛ ففيه إثبات صفة الساق للَّه عز وجل على ما يليق بجلاله، وهو المذكور في الحديث الصحيح، من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: "يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء،

ص: 626

وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا. . . " قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث مخرَّج في "الصحيحين"، وفي غيرهما، من طرُق، وله ألفاظ، وهو حديث طويل مشهور. انتهى

(1)

.

وبالجملة فينبغي الإيمان بما دلّ عليه هذا الحديث، ولا التفات إلى ما كتبه الشرّاح المتأخّرون من التأويل، فإنه مخالف لِمَا عليه سلف الأمة، فإنهم يُثبتون للَّه عز وجل ما جاء في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة على ظاهره، وينزّهون اللَّه تعالى عن التشبيه والتمثيل، فمذهبهم الإثبات بلا تعطيل، ولا تأويل، ولا تشبيه، ولا تمثيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [23/ 7351 و 7352](2940)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4310)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(6/ 501)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4120)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 166)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(7353)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 543)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 958)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1289)، و (البيهقيّ) في "شعب الإيمان"(1/ 308) و"الاعتقاد"(ص 213 - 214)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(15/ 93)، واللَّه تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7352]

(. . .) - (وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يَعْقُوبَ بْنَ عَاصِمٍ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: إِنَّكَ تَقُولُ: إِنَّ السَّاعَةَ تَقُومُ إِلَى كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أُحَدِّثَكُمْ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ

(1)

"تفسير ابن كثير" 4/ 408.

ص: 627

تَرَوْنَ بَعْدَ قَلِيلٍ أَمْرًا عَظِيمًا، فَكَانَ حَرِيقَ الْبَيْتِ، قَالَ شُعْبَةُ: هَذَا، أَوْ نَحْوَهُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ:"فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، إِلَّا قَبَضَتْهُ"، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنِي شُعْبَةُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرَّاتٍ، وَعَرَضْتُهُ عَلَيْهِ).

رجل هذا الإسناد: ستة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) البصريّ، المعروف ببندار، أحد مشايخ الجماعة بلا واسطة، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ) المعروف بغندر البصريّ، ربيب شعبة، لازمه عشرين سنة، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلخ) فاعل "ساق" ضمير محمد بن جعفر.

وقوله: (وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: "فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، إِلَّا قَبَضَتْهُ") أراد به أن محمد بن جعفر ذكر الحديث بلا شك، فقال:"مثقال ذرّة من إيمان" ولم يذكر الشكّ، بخلاف معاذ بن معاذ، فإنه ذكر الشكّ، حيث قال:"مثقال ذرّة من خير، أو إيمان" بالشكّ، واللَّه تعالى أعلم.

[تنبيه]: رواية محمد بن جعفر عن شعبة هذه ساقها أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(6555)

- حدّثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود، سمعت رجلًا قال لعبد اللَّه بن عمرو: إنك تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا، قال: لقد هممت أن لا أحدثكم شيئًا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا، كان تحريق البيت، قال شعبة: هذا، أو نحوه، ثم قال عبد اللَّه بن عمرو: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي، فيلبث فيهم أربعين، لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين سنةً، أو أربعين ليلة، أو أربعين شهرًا، فيبعث اللَّه عز وجل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، كأنه عروة بن مسعود الثقفيّ، فيظهر، فيهلكه، ثم يلبث الناس

ص: 628

بعده سنين سبعًا، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل اللَّه ريحًا باردةً من قِبَل الشام، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان، إلا قبضته، حتى لو أن أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه، قال: سمعتها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويبقى شرار الناس في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفًا، ولا يُنكرون منكرًا، قال: فيتمثل لهم الشيطان، فيقول: ألا تستجيبون، فيأمرهم بالأوثان، فيعبدونها، وهم في ذلك دارّة أرزاقهم، حسنٌ عيشهم، ثم يُنفخ في الصُّور، فلا يسمعه أحد إلا أصغى له، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه، فيُصعق، ثم لا يبقى أحد إلا صُعق، ثم يرسل اللَّه، أو ينزل اللَّه قطرًا، كأنه الطَّلّ، أو الظل -نعمان الشاكّ- فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، قال: ثم يقال: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)} قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار، قال: فيقال: كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فيومئذ يُبعث الولدان شيبًا، ويومئذٍ يُكشف عن ساق". قال محمد بن جعفر: حدّثني بهذا الحديث شعبة مرات، وعرضت عليه. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7353]

(2941) - (حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

وكلهم تقدّموا غير مرّة، و"محمد بن بشر" هو: العبدي الكوفيّ. و"أبو حيّان" هو: يحيى بن حيّان التيميّ الكوفيّ. و"أبو زرعة" هو: ابن عمرو بن جرير البجليّ الكوفيّ.

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 166.

ص: 629

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالكوفيين، غير الصحابيّ، فمصريّ، ثم طائفيّ.

شرح الحديث:

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) رضي الله عنهما؛ أنه (قَالَ: حَفِظْتُ) بكسر الفاء، من باب علم، واشتهر على ألسنة العوامّ فتحها، فليُتنبّه. (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا)، وقوله:(لَمْ أَنْسَهُ) في محل نصب صفة "حديثًا"، (بَعْدُ) من الظروف المبنيّة على الضمّ؛ لقطعه جمن الإضافة، ونيّة معناها؛ أي: بعد سماعي إياه منه صلى الله عليه وسلم، وقوله:(سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) مستأنف استئنافًا بيانيًّا، وهو ما وقع جوابًا عن سؤال مقدّر، كأنه قيل له: ما هو الحديث الذي حفظته منه صلى الله عليه وسلم؟، فأجاب بقوله:"سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، حال كونه (يَقُولُ) وهذا الكلام له قصّة، بُيّنت في الرواية التالية، حيث قال:"عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: جَلَسَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمٍ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعُوهُ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ الآيَاتِ، أَنَّ أَوَّلهَا خُرُوجًا الدَّجَّالُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَمْ يَقُلْ مَرْوَانُ شَيْئًا، قَدْ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. . . " الحديث.

فقوله: "لم يقل مروان شيئًا"؛ أي: لم يقل شيئًا يُعتبر به، ويعتدّ.

وقال في "فتح الودود": يريد أن ما قاله باطل، لا أصل له، لكن نقل البيهقيّ عن الْحَلِيميّ أن أول الآيات ظهورًا الدجال، ثم نزول عيسى عليه السلام، ثم خروج يأجوج ومأجوج، ثم خروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وذلك لأن الكفار يُسلمون في زمان عيسى عليه السلام حتى تكون الدعوة واحدة، فلو كانت الشمس طلعت من مغربها قبل خروج الدجال، ونزل عيسى لم ينفع الكفار إيمانهم أيام عيسى، ولو لم ينفعهم لَمَا صار الدين واحدًا، ولذلك أَوَّلَ بعضهم هذا الحديث بأن الآيات: إما أمارات دالّة على قرب القيامة، وعلى وجودها، ومن الأول الدجال، ونحوه، ومن الثاني طلوع الشمس، ونحوه، فأولية طلوع الشمس إنما هي بالنسبة إلى القسم الثاني. انتهى

(1)

.

(1)

"عون المعبود" 11/ 286.

ص: 630

(إِنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ)؛ أي: العلامات التي تتقدّم قيام الساعة، وقوله:(خُرُوجًا) منصوب على التمييز؛ أي: من حيث الخروج، والظهور للناس، (طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى ابن مريم؛ قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بَشَر مشاهدتهم وأمثالهم مألوفة، فإن خروج الدابة على شكل غريب، غير مألوف، ومخاطبتها الناس، ووَسْمها إياهم بالإيمان، أو الكفر، فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية. انتهى

(1)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: فإن قيل: طلوع الشمس من مغربها ليس أول الآيات؛ لأن الدخان والدجال قبله.

قلنا: الآيات إما أمارات لقرب قيام الساعة، وإما أمارات دالة على وجود قيام الساعة وحصولها، ومن الأول الدخان، وخروج الدجال، ونحوهما، ومن الثاني ما نحن فيه من طلوع الشمس من مغربها، والرجفة، وخروج النار، وطردها الناس إلى المحشر، وإنما سمي أولًا؛ لأنه مبتدأ القِسم الثاني، ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها" حيث جعل طلوع الشمس من مغربها غاية لعدم قيام الساعة. انتهى

(2)

.

(وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى)؛ أي: وقت ارتفاع الشمس، قال القرطبيّ في "التذكرة": روى ابن الزبير أنها جُمعت من كل حيوان، فرأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيّل، وعنقها عنق النعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذَنَبها ذَنَب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل اثني عشر ذراعًا، ذكوه الثعلبيّ، والماورديّ، وغيرهما.

(1)

"عون المعبود" 11/ 286.

(2)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3449.

ص: 631

قال الجامع عفا اللَّه عنه: وصفُ الدابّة بهذه الصفات يحتاج إلى نقل صحيح، واللَّه تعالى أعلم.

وقال القاري: قوله: "وخروج الدابة" بالرفع عطفًا على "طلوع الشمس"، وهو خبرُ "أولُ" فيلزم أن يكون الأول متعددًا، ولهذا قال ابن الملك: ولعل الواو بمعنى "أو"، ويؤيده ما في روايةٍ أخرى:"أو خروج الدابة على الناس ضحى" بالتنوين؛ أي: وقت ارتفاع النهار، و"ما كانت":"ما" زائدة، وقعت قبل صاحبتها، "فالأخرى على أثرها" قريبًا؛ أي: حصولًا، أو وقوعها قريبًا. وقد تقدم ما يتعلق بتحقيق الترتيب بينهما. وقال ابن الملك: إن قيل كل منهما ليس بأول الآيات؛ لأن بعض الآيات وقع قبلهما، قلنا: الآيات إما أمارات دالة على قربها، فأولها بعثة نبيّنا، أو أمارات متوالية دالة على وقوعها قريبًا، وهي المرادة هنا، وأما حديث أن أولها خروج الدجال، فلا صحة له، كذا في جامع الأصول.

ثم الظاهر أن نسبة الأولية الحقيقية إليهما مبهمة، وأنها بالنسبة إلى أحدهما مجازية، ولذا قال:(وَأَيُّهُمَا) وفي لفظ: "فأيتهما" بالفاء، والتأنيث، (مَا) زائدة، (كَانَتْ)؛ أي: وأيّ الآيتين المذكورتين وقعت (قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا) بفتحتين، أو بكسر، فسكون؛ أي تحصل عقبها (قَرِيبًا").

قال الحليمي: طلوع الشمس يصلح أن يكون آية لأن الكفار يسلمون زمان عيسى حتى لا يكون إلا ملة واحدة، ولذلك أوَّلَ بعضهم هذا الحديث بأن الآيات إما أمارات دالة على قرب القيامة أو على وجودها. ومن الأول الدجال ونحوه، ومن الثاني طلوع الشمس ونحوه، فآية طلوع الشمس إنما هي بالنسبة إلى القسم الثاني. وقال ابن كثير: المراد في الحديث بيان أول الآيات الغير المألوفة لكونه بشرًا، فأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف، ومخاطبتها الناس ووَسْمها إياهم بالإيمان والكفر، فأمر خارج من مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية

(1)

.

(1)

"حاشية السندي على ابن ماجه" 7/ 431.

ص: 632

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7354]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: جَلَسَ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعُوهُ، وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنِ الآيَاتِ، أَنَّ أَوَّلَهَا خُرُوجًا الدَّجَّالُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لَمْ يَقُلْ مَرْوَانُ شَيْئًا، قَدْ حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا، لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ).

وقوله: (لَمْ يَقُلْ مَرْوَانُ شَيئًا)؛ أي كلامًا يُعتبَر.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7355]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: تَذَاكَرُوا السَّاعَةَ عِنْدَ مَرْوَانَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ ضُحًى).

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(24) - (بَابُ قِصَّةِ الْجَسَّاسَةِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7356]

(2942) - (حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، وَحَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ، كِلَاهُمَا عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ -وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ- حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ، شَعْبُ هَمْدَانَ، أَنَّهُ سَأَلَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ، فَقَالَ: حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِيهِ

(1)

مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا تُسْنِدِيهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ، فَقَالَتْ: لَئِنْ شِئْتَ لأَفْعَلَنَّ، فَقَالَ لَهَا: أَجَلْ، حَدِّثِينِي، فَقَالَتْ: نَكَحْتُ ابْنَ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ مِنْ خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ، فَأُصِيبَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا تَأَيَّمْتُ

(1)

وفي نسخة: "سمعته".

ص: 633

خَطَبَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَخَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَوْلَاهُ أُسَامَة بْنِ زَيْدٍ، وَكُنْتُ قَدْ حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ"، فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ: أَمْرِي بِيَدِكَ، فَأَنْكِحْنِي مَنْ شِئْتَ، فَقَالَ:"انْتَقِلِي إِلَى أُمِّ شَرِيكٍ"، وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ، فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ، فَقَالَ:"لَا تَفْعَلِي، إِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ، أَوْ يَنْكَشِفَ الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ، فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ، وَلَكِنِ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ"، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ فِهْرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنَ الْبَطْنِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَانْتَقَلْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتِي، سَمِعْتُ نِدَاءَ الْمُنَادِي مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُنَادِي:"الصَّلَاةَ جَامِعَةً"، فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الَّتِي

(1)

تَلِي ظُهُرَ الْقَوْمِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ:"لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ"، ثُمَّ قَالَ:"أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ "، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ، وَلَا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ، فَبَايَعَ، وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا، وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، مَعَ ثَلَاِثِينَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ، وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى

(2)

مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ، فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ، أَهْلَبُ، كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ، مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا مِنْهَا أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا، حَتَّى

(1)

وفي نسخة: "الذي".

(2)

وفي نسخة: "حين".

ص: 634

دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي، فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ، كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ

(1)

مِنْ دُبُرِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ، فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا، وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا، هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ

(2)

يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ

(3)

، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيّ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الأُمَيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قَالَ: أَقَاتَلَهُ

(4)

الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الأَرْضِ، فَلَا أَدَعَ قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ، وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا، يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلَائِكَةً، يَحْرُسُونَهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَطَعَنَ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ:"هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ"،

(1)

وفي نسخة: "لا ندري ما قبله".

(2)

وفي نسخة: "إنها".

(3)

وفي نسخة: "عن بحيرة طبرية".

(4)

وفي نسخة: "أقاتلته".

ص: 635

يَعْنِي الْمَدِينَةَ، "أَلَا هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟ "، فَقَالَ النَّاسُ: نَعَمْ، "فَإِنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيمٍ أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ الشَّامِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ، لَا، بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ"، وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ، قَالَتْ: فَحَفِظْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم).

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ) أبو عبيدة البصريّ، صدوق [11](252)(م ت س ق) تقدم في "الإيمان" 49/ 311.

2 -

(حَجَّاجُ ابْنُ الشَّاعِرِ) ابن يوسف الثقفيّ البغداديّ، تقدّم قريبًا.

3 -

(أَبُوهُ) عَبْدُ الصَّمَدِ بن عبد الوارث بن سعيد الْعَنْبَريّ مولاهم التَّنُّوري أبو سهل البصريّ، ثقةٌ ثبت في شعبة [9](ت 207)(ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 82.

4 -

(جَدُّهُ) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الْعَنْبريّ مولاهم، أبو عبيدة التَّنُّوريّ -بفتح المثناة، وتشديد النون- البصريّ، ثقةٌ ثبتٌ، رُمي بالقدر، ولم يثبت عنه [8](ت 180)(ع) تقدم في "الإيمان" 18/ 176.

5 -

(الْحُسَيْنُ بْنُ ذَكْوَانَ) المعلم المكتب الْعَوْذيّ -بفتح المهملة، وسكون الواو، بعدها معجمة- البصريّ، ثقةٌ ربّما وَهِم [6](ت 145)(ع) تقدم في "الإيمان" 19/ 179.

6 -

(ابْنُ بُرَيْدَةَ) هو: عبد اللَّه بن بُريدة بن الْحُصيب الأسلميّ، أبو سهل، المروزيّ، قاضيها، ثقةٌ [3] (ت 105) وقيل: بل (115) وله مائة سنة (ع) تقدم في "الإيمان" 1/ 102.

7 -

(عَامِرُ بْن شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ) -بفتح المعجمة- عامر بن شَرَاحيل، أبو عمرو الكوفيّ، ثقةٌ مشهورٌ فقيهٌ فاضلٌ [3] قال مكحول: ما رأيت أفقه منه، مات بعد المائة، وله نحو من ثمانين سنةً (ع) تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

8 -

(فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسِ) بن خالد الْفِهريّة، أخت الضحاك صحابية مشهورة، وكانت من المهاجرات الأُوَل، وعاشت إلى خلافة معاوية رضي الله عنهما (ع) تقدمت في "الطلاق" 6/ 3696.

ص: 636

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سباعيّات

(1)

المصنّف رحمه الله وأنه مسلسلٌ بالبصريين، غير حجاج فبغداديّ، والشعبيّ فكوفي، وفاطمة رضي الله عنها فمدنيّة، وابن بُريدة فمروزيّ، وفيه رواية تابعيّ عن تابعيّ، ابن بريدة عن الشعبيّ، وهو من رواية الأقران، وفيه قوله:"ابن بريدة" وهو يُطلق على سليمان، وعبد اللَّه ابني بريدة، ويميّز بالراوي، وقد نظمت ذلك بقولي:

ابْنُ بُرَيْدَةَ سُلَيْمَانُ كَذَا

أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالْفَرْقَ خُذَا

عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ إِنْ أَبْهَمَا

وَأَعْمَشٌ مُحَارِبٌ فَلْتَعْلَمَا

مُحَمَّدُ نَجْلُ جُحَادَةَ كَذَا

فَهْوَ سلَيْمَانُ وَنِعْمَ الْمُحْتَذَى

وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ إِنْ أَبْهَمَ قُلْ

إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ تَوْءَمُ الرَّجُلْ

فعلى هذا فابن بُريدة هنا هو عبد اللَّه؛ لِمَا ذكرناه، فتنبّه.

شرح الحديث:

(عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ ذَكْوَانَ) المعلم المكتب، أنه قال:(حَدَّثَنَا ابْنُ بُرَيْدَةَ) عبد اللَّه، كما أسلفته آنفًا، (حَدَّثَنِي عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ) بفتح الشين المعجمة، وسكون العين المهملة، وقوله:(شَعْبُ هَمْدَانَ) بيان إلى أن نسبة الشعبيّ هذا إلى شعب همدان -بفتح الهاء، وسكون الميم- بطن من هَمْدان، وهو شعب بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير، قاله في "اللباب".

والظاهر أنه إنما أضافه إلى همدان للاحتراز عما يضاف إلى غيره، ولكن لم أجد من ذكر غير هذا، فليُنظر، واللَّه تعالى أعلم.

(أَنَّهُ سَأَلَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسِ) بن خالد، من بني محارب بن فِهر بن مالك، وهي (أُخْتَ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ) الذي وَلي العراق ليزيد بن معاوية، وقُتِلَ بِمَرْجِ راهط، وهو من صغار الصحابة، وهي أسنّ منه، يقال: بعشر سنين، قَدِمت

(1)

فقول الشيخ الهرريّ: من ثمانيّاته فيه نظر، فتنبّه.

ص: 637

على أخيها الكوفةَ، وهو أميرها، فرَوَى عنها الشعبيّ قصّةَ الجسّاسة بطولها، فانفردت بها مطوّلة، وتابعها جابرٌ وغيره.

(وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ)؛ أي: النساء اللاتي هاجرن في أوائل الهجرة إلى المدينة، (فَقَالَ) الشعبيّ:(حَدِّثِينِي حَدِيثًا سَمِعْتِهِ) هذا هو الجاري على اللغة، ووقع في بعض النسخ:"سمعتيه" بزيادة الياء، وفيه إشكال. (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا تُسْنِدِيهِ إِلَى أَحَدٍ غَيْرِهِ) صلى الله عليه وسلم (فَقَالَتْ) فاطمة: (لَئِنْ شِئْتَ لأَفْعَلَنَّ)؛ أي: لأحدّثنّك حديثًا سمعته منه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة. (فَقَالَ) الشعبيّ (لَهَا)؛ أي: لفاطمة، (أَجَلْ) كنعم وزنًا ومعنًى، (حَدِّثِينِي) حديثًا بهذا الوصف. (فَقَالَتْ) فاطمة:(نَكَحْتُ ابْنَ الْمُغِيرَةِ) هو: أبو عمرو بن حفص بن المغيرة بن عبد اللَّه بن عمرو بن مخزوم القرشيّ المخزوميّ، زوج فاطمة بنت قيس، وهو ابن عمّ خالد بن الوليد بن المغيرة، وقيل: هو أبو حفص بن عمرو بن المغيرة، وأمه دُرّد بنت خُزَاعيّ الثقفيّة، وكان خرج مع عليّ إلى اليمن في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمات هناك، ويقال: بل رجع إلى أن شَهِد فتوح الشام، ذكر ذلك عليّ ابن رَبَاح، عن ناشرة بن سُميّ، سمعت عمر يقول: إني معتذرٌ لكم من عزل خالد بن الوليد، فقال أبو عمرو بن حفص: عزلت عنّا عاملًا استعمله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر القصّة، أخرجه النسائيّ، وقال البغويّ: سكن المدينة، أفاده في "الإصابة"

(1)

.

واختلفوا في اسمه، والأكثرون على أن اسمه عبد الحميد، وقال النسائيّ: اسمه أحمد، وقال آخرون: اسمه كنيته، قاله النوويّ

(2)

.

(وَهُوَ) ابن المغيرة (مِنْ خِيَارِ شَبَابِ قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ)؛ أي: يوم إذ تزوّجني، (فَأُصِيبَ فِي أَوَّلِ الْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ظاهر هذا الكلام أنه استُشهد في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك، فإنه لم يُستشهد في غزوة غزاها معه صلى الله عليه وسلم، فتأول بعض العلماء بأن المراد من قولها:"أُصيب" أنه أصيب بجراحات، لا أنه مات في الجهاد، وإنما ذكرته فاطمة لبيان فضائله، لا لسبب بينونتها منه، وذكر الحافظ في "الفتح" أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثه مع عليّ إلى

(1)

راجع: "الإصابة" 11/ 266.

(2)

"شرح النوويّ" 10/ 94 - 95.

ص: 638

اليمن، وذكر جماعة أنه مات هناك، فيصدق أنه أصيب في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أي: في طاعته، ولا يلزم من هذا أن تكون بينونتها منه بالموت، وإنما هو بالطلاق السابق على الموت، ولكن هذا التأويل لا يلتئم مع قولها:"في أول الجهاد"؛ لأن ذهابه إلى اليمن لا يصدق عليه أنه أول الجهاد، ثم إنه مخالف لقولها:"تأيمت"، فإن ظاهره أنها تأيّمت باستشهاد زوجها في الجهاد، وذكر جماعة من أهل السِّيَر أنه لم يمت في اليمن، بل بقي إلى خلافة عمر رضي الله عنه.

واستظهر صاحب "التكملة" أن هذا وَهَمٌ من بعض الرواة، وذلك لأنه روى هذا الحديث سيّار أبو الحكم عن الشعبيّ، كما سيأتي في الرواية التالية، فلم يذكر فيه إصابته في الجهاد، وإنما ذكر قول فاطمة:"طلقني بعلي ثلاثًا" فلعلها ذكرت فضائل زوجها، ومن جملتها كونه أصيب بجهاد معه صلى الله عليه وسلم، فلعلّ أحد الرواة ظنّ أن تأيمها كان بسبب موت زوجها في الجهاد، فذكره بالسياق المذكور، وقد ذكر الحافظ في "الفتح" احتمال كونه وهمًا. انتهى

(1)

.

(فَلَمَّا تَأَيّمْتُ) قال النوويّ رحمه الله: أي صرت أيّمًا، وهي التي لا زوج لها، قال العلماء: قولها: "فأصيب" ليس معناه أنه قُتل في الجهاد مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتأيمت بذلك، إنما تأيمت بطلاقه البائن، كما ذكره مسلم في الطريق الذي بعد هذا، وكذا ذكره في "كتاب الطلاق"، وكذا ذكره المصنفون في جميع كتبهم، وقد اختلفوا في وقت وفاته، فقيل: توفّي مع عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عقب طلاقها باليمن، حكاه ابن عبد البرّ، وقيل: بل عاش إلى خلافة عمر رضي الله عنه، حكاه البخاريّ في "التاريخ"، وإنما معنى قولها:"فأصيب"؛ أي: بجراحة، أو أصيب في ماله، أو نحو ذلك، هكذا تأوله العلماء، قال القاضي: إنما أرادت بذلك عَدّ فضائله، فابتدأت بكونه خير شباب قريش، ثم ذكرت الباقي. انتهى

(2)

.

وعبارة الحافظ رحمه الله في "الفتح": واتفقت الروايات عن فاطمة بنت قيس على كثرتها عنها أنها بانت بالطلاق، ووقع في آخر "صحيح مسلم" في حديث

(1)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 405 - 406.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 78 - 79.

ص: 639

الجسّاسة عن فاطمة بنت قيس: "نَكَحْتُ ابنَ المغيرة، وهو من خيار شباب، قريش يومئذ، فأصيب في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما تأيّمتُ خطبني أبو جهم. . . " الحديث، وهذه الرواية وَهَمٌ، ولكن أوّلها بعضهم على أن المراد بقولها:"أصيب"؛ أي: مات على ظاهره، وكان في بعث عليّ إلى اليمن، فيصدق أنه أُصيب في الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ أي: في طاعة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم من ذلك أن تكون بينونتها منه بالموت، بل بالطلاق السابق على الموت، فقد ذهب جمع جمّ إلى أنه مات مع عليّ باليمن، وذلك بعد أن أرسل إليها بطلاقها، فإذا جُمع بين الروايتين استقام هذا التأويل، وارتفع الوهم، ولكن يَبْعُد بذلك قول من قال: إنه بقي إلى خلافة عمر. انتهى

(1)

.

قال الجامع عفا اللَّه عنه: عندي أن كون هذه الرواية وهمًا من بعض الرواة هو الظاهر؛ لأن التأويل الذي ذكروه بعيد عن سياق الحديث، فليُتنبّه، واللَّه تعالى أعلم.

(خَطَبَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ) أحد العشرة المبشّرين بالجنّة المتوفّى سنة (132 هـ)، (فِي نَفَرٍ)؛ أي: مع جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، (مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) تقدّم في الطلاق من جملة من خطبها معاوية، وأبو الجهم.

قال النوويّ رحمه الله: ظاهره أن الْخِطبة كانت في نفس العدّة، وليس كذلك إنما كانت بعد انقضائها، كما صُرّح به في الأحاديث السابقة في "كتاب الطلاق"، فيتأول هذا اللفظ الواقع هنا على ذلك، ويكون قوله:"انتقلي إلى أم شريك" و"إلى ابن أم مكتوم" مقدّمًا على الْخِطبة، وعطف جملة على جملة من غير ترتيب. انتهى.

(وَخَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَوْلَاهُ)؛ أي: ليزوجني مولاه (أُسَامَةَ بْنِ زَيْد) بن شَرَاحيل الكلبيّ الأمير الصحابيّ ابن الصحابيّ، حِبّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حبّه رضي الله عنهما، أبي محمد، وأبي زيد، مات سنة (54 هـ) وهو ابن (75)، تقدّمت ترجمته في "الإيمان" 43/ 284.

قالت فاطمة: (وَكُنْتُ قَدْ حُدِّثْتُ) بالبناء للمفعول، أي: أخبرني بعض

(1)

"الفتح" 10/ 599.

ص: 640

الناس (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ أَحَبَّنِي فَلْيُحِبَّ أُسَامَةَ") تنويهًا بشرفه، ورفعة قَدْره، (فَلَمَّا كَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ) بعد أن أبدت كراهيتها له؛ لكونه مولى، ثم أعاد عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم مرارًا، فقالت له صلى الله عليه وسلم:(أَمْرِي بِيَدِكَ)؛ أي: جعلت أمر نكاحي بيدك، وتصرّفك، (فَأَنْكِحْنِي مَنْ شِئْتَ) أسامة أو غيره. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لها:("انْتَقِلِي)؛ أي: من المكان الذي أنت فيه؛ لأنها شَكَت إليه أنها في بيت خال، تخشى أن يُقتحم عليها، فأمرها بأن تنتقل (إِلَى) بيت (أُمِّ شَرِيكٍ") أم شريك هذه قرشيّةٌ عامريّةٌ، وقيل: إنها أنصاريّةٌ، واسمها غُزَيّة، وقيل: غُزيلة -بغين معجمة مضمومة، ثم زاي فيهما- وهي بنت داود بن عوف بن عمرو بن عامر بن رواحة بن حُجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لُؤيّ بن غالب، وقيل في نسبها غير هذا. قيل: إنها التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل: غيرها. انتهى

(1)

.

(وَأُمُّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ غَنِيَّةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) قال النوويّ: هذا قد أنكره بعض العلماء، وقال: إنما هي قرشية، من بني عامر بن لؤيّ، وقال آخرون: هما اثنتان: قرشية، وأنصارية. انتهى.

(عَظِيمَةُ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)؛ أي: إنها كثيرة النفقة في الخير، (يَنْزِلُ عَلَيْهَا الضِّيفَانُ) بالكسر جمع ضيف، (فَقُلْتُ: سَأَفْعَلُ)؛ أي: سأنتقل إلى بيتها. (فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم بعدما تذكّر أن بيت أم شريك لا يليق بها؛ لكثرة من يزورها من الرجال، فقال لها:("لَا تَفْعَلِي)؛ أي: لا تنتقلي إليها، ثم علّل ذلك بقوله:(إِنَّ أُمَّ شَرِيكٍ امْرَأَةٌ كَثِيرَةُ الضِّيفَانِ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسْقُطَ عَنْكِ خِمَارُكِ) الذي تستترين به، (أَوْ يَنْكَشِفَ)"أو" للتنويع، لا للشكّ، (الثَّوْبُ عَنْ سَاقَيْكِ، فَيَرَى الْقَوْمُ مِنْكِ بَعْضَ مَا تَكْرَهِينَ) أن يراه الأجانب.

ومعنى هذا الكلام: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يزورون أم شريك، ويُكثرون التردد إليها لصلاحها، وإنفاقها عليهم، فرأى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن على فاطمة من الاعتداد عندها حرجًا، من حيث إنه يلزمها التحفّظ من نَظَرهم إليها، ونَظَرها إليهم، وانكشاف شيء منها، وفي التحفّظ من هذا مع كثرة دخولهم، وتردّدهم

(1)

"شرح النوويّ" 10/ 96.

ص: 641

مشقّةٌ ظاهرةٌ، فأمرها بالاعتداد عند ابن أم مكتوم؛ لأنه لا يُبصرها، ولا يتردد إلى بيته من يتردّد إلى بيت أمّ شريك. انتهى.

(وَلَكِنِ انْتَقِلِي إِلَى ابْنِ عَمِّكِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) وقوله: (ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ") قال النوويّ: هكذا هو في جميع النسخ، وقوله:"ابن أم مكتوم" يكتب بألف؛ لأنه صفة لعبد اللَّه، لا لعمرو، فنسبه إلى أبيه عمرو، وإلى أمه أم مكتوم، فجمع نسبة إلى أبويه، كما في عبد اللَّه بن مالكٍ ابن بحينة، وعبد اللَّه بن أبيٍّ ابن سَلُول، ونظائر ذلك، وقد سبق بيان هؤلاء كلهم في "كتاب الإيمان". انتهى

(1)

.

وقيل: هو عمرو بن زائدة، أو ابن قيس بن زائدة. ويقال: زياد القرشيّ العامريّ الصحابيّ المشهور، قديم الإسلام، ويقال: اسمه الحصين، كان النبيّ صلى الله عليه وسلم استخلة على المدينة، مات في آخر خلافة عمر، تقدّمت ترجمته في "الصلاة" 4/ 849.

(وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ فِهْرِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مِنَ الْبَطْنِ الَّذِي هِيَ مِنْهُ) قال القاضي: المعروف أنه ليس بابن عمها، ولا من البطن الذي هي منه، بل من بني محارب بن فهر، وهو من بني عامر بن لؤيّ. انتهى.

وتعقّبه النوويّ، قائلًا: الصواب أن ما جاءت به الرواية صحيح، والمراد بالبطن هنا القبيلة، لا البطن الذي هو أخص منها، والمراد أنه ابن عمها مجازًا؛ لكونه من قبيلتها، فالرواية صحيحة، وللَّه الحمد. انتهى

(2)

.

(فَانْتَقَلْتُ إِلَيْهِ)؛ أي: إلى ابن أم مكتوم، (فَلَمَّا أنْقَضَتْ عِدَّتِي)؛ أي: انتهت مدّتها، وحللت للأزواج؛ أي: وزوّجني النبيّ صلى الله عليه وسلم أسامة رضي الله عنه، فقولها:(سَمِعْتُ) جواب "لمّا" مرتّب على ما ذكرته. (نِدَاءَ الْمُنَادِي)، وقولها:(مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) بدل من المنادي، أو عطف بيان له، (يُنَادِي:"الصَّلَاةَ جَامِعَةً") بنصبهما، ورفعهما، ونصب الأول، ورفع الثاني، وبالعكس، أربعة أوجه، فرَفْعهما على أنهما مبتدأ وخبر، ونَصْبهما على تقدير: احضروا الصلاةَ حال كونها جامعةً، ووفع الأول على تقدير: هذه الصلاة، ونصب الثاني على

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 80.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 80.

ص: 642

الحالية، وبالعكس على تقدير: احضروا الصلاةَ، وهي جامعة، وعلى جميع التقادير محل الجملة نصبٌ؛ لأنه مفعول "ينادي" محكيّ، لكونه في معنى القول.

وقال التوربشتيّ رحمه الله: وجه الرواية بالرفع أن يقدّر "هذه"؛ أي: هذه الصلاة جامعةٌ، ويجوز أن يخصب "جامعةً" على الحال، ولمّا كان هذا القول للدعاء إليها، والحث عليها كان النصب أجود، وأشبه بالمعنى المراد.

قالت: (فَخَرَجْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ) فيه جواز خروج المرأة إلى للصلاة في المسجد مع الرجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه"، وفي رواية:"إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد، فلا يمنعها". (فَصَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) الظاهر أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس، ويَحْتَمل أن تكون نافلة، أراد بها النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجتمع بسببها الناس حتى يسمعوا حديثه. (فَكُنْتُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ الّذِي) صفة لـ "صفّ"، ووقع في بعض النسخ بلفظ "التي"، وهو تصحيف، فتنبّه. (يلِي ظُهُورَ الْقَوْم)؛ أي: الرجال، وفيه أن صفّ النساء بعد صفّ الرجال. (فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاتَهُ)؛ أي: أدّاها وفرغ منها، (جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ)؛ أي: والحال أنه صلى الله عليه وسلم (يَضْحَكُ، فَقَالَ: "لِيَلْزَمْ) بفتح الزاي أي ليلتزم (كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلَّاهُ")؛ أي: موضع صلاته، فلا يتغير، ولا يتقدم، ولا يتأخر. (ثُمَّ قَالَ) صلى الله عليه وسلم:("أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟ ")؛ أي: بقول المنادي: "الصلاة جامعة"، (قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ)؛ أي: لأمر مرغوب فيه، من عطاء، كغنيمة، (وَلَا لِرَهْبَةٍ)؛ أي: ولا لخوف من عدو، (وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ) منسوب إلى جدّ له اسمه الدار، وهو تميم بن أوس بن خارجة، أبو رقيّة الصحابيّ المشهور، سكن بيت المقدس بعد قتل عثمان، قيل: مات سنة أربعين، تقدّمت ترجمته في "شرح المقدّمة" جـ 2 ص 486.

(كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًّا)؛ أي: معتقدًا دين النصارى، (فَجَاءَ) إليّ (فَبَايَعَ) على الإسلام (وَأَسْلَمَ)؛ أي: دخل في الإسلام، (وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا) هذا معدود في مناقب تميم؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم رَوَى عنه هذه القصّة، وفيه رواية الفاضل عن المفضول، ورواية المتبوع عن تابعه، وفيه قبول خبر الواحد، قاله النوويّ رحمه الله.

ص: 643

(وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ)؛ أي: عن شؤونه، وفتنه، ومحنه، ثم بيّن كيفية تحديثه له، فقال:(حَدَّثَنِي أَنَّهُ)؛ أي: تميمًا، (رَكِبَ) بكسرٍ الكاف، (فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ)؛ أي: كبيرة، لا زورق نهري، (مَعَ ثَلَاثِينَ رَجُالًا مِنْ لَخْمٍ) بفتح اللام، وسكون الخاء المعجمة مصروفٌ، وقد لا يصرف، قبيل معروفة، وكذا قوله:(وَجُذَامَ) بالجيم المضمومة.

وقال القاري رحمه الله: فهذا كما في حديث: "ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه"، وفيه إشعاو بأن كثرة الرواة لها دخل في قوة الإسناد، ولهذا قال على سبيل الاستشهاد، وطريق الاعتضاد:"حدّثني"، فهو من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر، وفيه إيماء إلى الردّ على الجاهل المكابر، حيث يتكبر عن أخذ العلم من أهل الخمول والأصاغر، وقد قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ، وقيل: كلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ بها، ومما يحكى من كلام عليّ رضي الله عنه: انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال، وللَّه درّ من قال في هذا المعنى، وأجاد في المقال [من الرجز]:

وَأَكْرِمِ الأُسْتَاذَ ذَا الإِرْشَادِ

فَإِنَّهُ أَبٌ لِكُلِّ شَادِي

وَاخْدُمْ لَهُ فَالاقْتِبَاسُ رِقُّ

وَإِنْ تَكُنْ كَالتَّبْرِ فَهوَ الْوَرْقُ

وَاسْتَفْتِهِ وَإِنْ يَكُنْ بَقَّالَا

وَانْظُرْ إِلَى الْمَقَالِ لَا مَنْ قَالَا

والمعنى: أن تميمًا حكى لي أنه وكب في سفينة بحرية؛ أي: لا برّية؛ احترازًا عن الإبل، فإنها تسمى سفينة البرّ، وقيل: أي مركبًا كبيرًا بحريًّا، لا زَوْرقًا صغيرًا نهريًّا

(1)

.

(فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ)؛ أي: دار بهم الموج (شَهْرًا)؛ أي: مقدار شهر، (فِي الْبَحْرِ) واللعب في الأصل: ما لا فائدة فيه من فعل، أو قول، فاستعير هنا لصدّ الأمواج السفنَ عن صوب المقصد، وتحويلها يمينًا وشمالًا. (ثُمَّ أَرْفَؤوا) بهمزتين؛ أي: قرّبوا السفينة، قال الأصمعيّ: أوفأت السفينة أُوفئها إرفاءً، وبعضهم يقول: أُرفيها بالياء على الإبدال، وهذا مَرْفأ السفن؛ أي: الموضع

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 17 بزيادة الأبيات.

ص: 644

الذي تُشَدّ إليه، وتوقف عنده. (إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ، حَتَّى مَغْرِبِ)؛ أي: إلى أن تغرب (الشَّمْسِ) وفي بعض النسخ: "حيث تغرب الشمس"(فَجَلَسُوا)؛ أي: بعدما تحولوا من المركب الكبير، (فِي أَقْرُب السَّفِينَةِ) بفتح الهمزة، وضم الراء: جمع قارب بكسر الراء، وفتحها، وهو أَشهر وأكثر، قال النوويّ: أقرب السفينة، هو بضم الراء، جمع قارب بكسر الراء، وفتحها، وهي سفينة صغيرة، تكون مع الكبيرة كالجنيبة، يتصرف فيها ركاب السفينة؛ لقضاء حوائجهم، وفي "النهاية": أما "أقرُب" فلعله جمع قارب، فليمس بمعروف في جمع فاعل أفعُل، وقد أشار الحميدي في "غريبه" إلى إنكار ذلك، وقال الخطابيّ: إنه جمع على غير قياس. (فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ) اللام للعهد: أي في الجزيرة التي هناك، (فَلَقِيَتْهُمْ)؛ أي: فرأتهم (دَابَّةٌ، أَهْلَبُ) الْهُلْب بضم، فسكون: الشَّعر، وقيل: ما غَلُظ من الشعر، وقيل: ما كَثُر من شعر الذَّنَب، وإنما ذُكِّر؛ لأن الدابة تطلق على الذكر والأنثى؛ لقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 38]، كذا قالوا، والأظهر أنه بتأويل الحيوان، ولذا قال:(كَثِيرُ الشَّعَرِ) وهو تفسير لِمَا قبله، وعطف بيان، ثم بيّنه زيادة تبيان حيث قال استئنافًا:(لَا يَدْرُونَ)؛ أي: لا يعرف الناس الحاضرون، (مَما قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ) بضمتين فيهما، قال الطيبيّ رحمه الله:"ما" استفهامية، و"يدرون" بمعنى يعلمون لمجيء الاستفهام تعليقًا، ولا بدّ من تقدير مضاف بعد حرف الاستفهام؛ أي: ما نسبة قُبُله من دُبُره، (مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ) من أجلها، وبسببها. (فَقَالُوا: وَيْلَكِ) أي ألزمك اللَّه الويل والهلاك، (مَا أَنْتِ؟) خاطبوها مخاطبة المتعجب المتفجع؛ أي: أيّ جنس أنت من الحيوان؟ قال القرطبيّ: اعتقدوا أنها مما لا يعقل، فاستفهموها بـ "ما"، ثم إنها بعد ذلك كلمتهم كلام من يعقل، فعنده ذلك رَهِبوا أن تكون شيطانة؛ أي: خافوا ذلك. (فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ) قال النوويّ رحمه الله: هي بفتح الجيم، فتشديد المهملة الأولى، قيل: سُمّيت بذلك؛ لتجسسها الأخبار للدجال، وجاء عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن. (قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ انْطَلِقُوا)؛ أي: اذهبوا (إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ) بفتح الدال، وسكون التحتية؛ أي: دير النصارى، ففي "المغرب": الدير صومعة الراهب، والمراد هنا: القصر، كما سيأتي، والجار

ص: 645

والمجرور حال، والعامل فيه اسم الإشارة، أو حرف التنبيه. (فَإِنَّهُ)؛ أي: الرجل الذي في الدير (إِلَى خَبَرِكُمْ) متعلق بقوله: (بِالأَشْوَاقِ) بفتح الهمزة: جمع شوق؛ أي: كثير الشوق، وعظيم الاشتياق، والباء للإلصاق، قال التوربشتيّ رحمه الله: أي شديد نزاع النفس إلى ما عندكم من الخبر، حتى كانت الأشواق ملصقة به، أو كأنه مهتم بها. (قَالَ) تميم رضي الله عنه:(لَمَّا سَمَّتْ)؛ أي: ذكرت ووصفت (لَنَا رَجُلًا فَرِقْنَا) بكسر الراء؛ أي: خفنا (مِنْهَا) أي: من تلك الدابّة (أَنْ تَكُونَ شَييْطَانَةً)؛ أي: كراهة أن تكون شيطانة، وأن يكون الرجل شيطانًا متعلقًا بها، وقال الطيبيّ رحمه الله:"أن تكون شيطانة" بدل من الضمير المجرور. (قَالَ) تميم: (فَانْطَلَقْنَا)؛ أي: ذهبنا (سِرَاعًا)؛ أي: حال كوننا مسرعين في الانطلاق، (حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ) قال بعضهم: دير النصارى أصله الواو. انتهى، والمعنى أن أصله: دار بالألف المبدلة من الواو، مأخوذًا من الدور؛ لكونه مدورًا، أو مُدار فيها، أو مدار المعيشة، والمبيت إليه، ثم أُبدلت الألف ياء للفرق، ومراده بقوله: دير النصارى أنه مثله، أو في الأصل يطلق عليه، وقد يطلق على بيت الخمر

(1)

. (فَإِذَا فِيه أَعْظَمُ إِنْسَانٍ)؛ أي: أكبره جثة، أو أهيبه هيئة، وقوله:(رَأَيْنَاهُ) صفة "إنسان" احتراز عمن لم يروه، ولما كان هذا الكلام في معنى: ما رأينا مثله صحّ قوله: (قَطُّ) الذي يختص بنفي الماضي، وهو بفتح القاف، وتشديد الطاء المضمومة، في أفصح اللغات، وقد تكسر، وقد يتبع قافه طاءه في الضم، وقد تخفف طاؤه، مع ضمها، وإسكانها، على ما في "المغني".

وقوله: (خَلْقًا) منصوب على التمييز، (وَأَشَدُّهُ)؛ أي: أقوى إنسان (وِثَاقًا) بفتح الواو، وتُكسر؛ أي: قيدًا من السلاسل والأغلال، على ما سيأتي. (مَجْمُوعَةٌ) بالنصب على الحال، أو بالرفع صفة لـ "أعظم"؛ أي: فإذا فيه أعظم إنسان مجموعةٌ (يَدَاهُ) مرفوع على أنه نائب الفاعل، (إِلَى عُنُقِهِ) متعلّق بـ "مجموعة"، وقوله:(مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ)؛ أي: الذي بين ركبتيه (إِلَى كَعْبَيْهِ) مجموع، ومغلول أيضًا (بِالْحَدِيدِ) يعني كانت يداه، وساقاه مجموعة إلى عنقه بالحديد.

(1)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 17.

ص: 646

وقال القاري رحمه الله: قوله: "ما بين ركبتيه إلى كعبيه" لمّا كان ظاهره أن يؤتى بالواو في أوله؛ ليكون المعنى: ومجموعة ساقاه عليه، ويكون قوله:"بالحديد" قيدًا لهما، قال الطيبيّ رحمه الله:"ما" موصولة مرفوعة المحل، والمعنى: مجموعة ساقاه بالحديد، وحذف "مجموعة" في الثاني؛ لدلالة الأُولى عليها

(1)

.

(قُلْنَا: وَيْلَكَ)؛ أي: ألزمك اللَّه الويل والهلاك، (مَا أَنْتَ؟)؛ أي: أيّ جنس أنت، إنسيّ، أم جنّيّ؟.

قال القاري رحمه الله: قوله: "ما أنت" استغربوه، فأوردوا "ما" مكان "من"، ويمكن أن يكون السؤال عن وصفه وحاله؛ إذ قد علموا أنه رجل، وقد يجيء "ما" بمعنى "من" كما حقِّق في قوله تعالى:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} [الشمس: 5]، أو روعي مشاكلة ما قبلها. انتهى

(2)

.

وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: "ما أنت؟ " كأنهم لمّا رأوا خلقًا عجيبًا خارجًا عما عهِدوه خفي عليهم حاله، فقالوا: ما أنت مكان من أنت، وكذلك قوله:"ما أنتم"؛ لأنه ما عهد أن إنسانًا يطرق ذلك المكان، نظيره في حديث أم زرع:"زوجي أبو زرع، وما أبو أبو زرع؟ ". انتهى

(3)

.

(قَالَ) الرجل: (قَدْ قَدَرْتُمْ)؛ أي: تمكنتم (عَلَى خَبَرِي)؛ أي: فإني لا أخفيه عنكم، فأحدثكم عن حالي، (فَأَخْبِرُونِي)؛ أي: عن حالكم، وما أسأله عنكم أوّلًا، وهذا معنى قوله:(مَا أَنْتُمْ؟) حيث لم يقل: من أنتم، ويمكن أن يكون طباقًا لقولهم، وجزاء لفعلهم، وقال ابن الملك: أي من أنتم؟ أو ما حالكم؟ (قَالُوا) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة، ويمكن أن يكون التقدير: قال بعضنا، ففيه تغليب للغائبين على الحاضرين. (نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ، رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ، فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ)؛ أي: هاج، وجاوز حده المعتاد، وقال الكسائيّ: الاغتلام أن يتجاوز الإنسان ما حُدّ له من الخير والمباح.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3463 - 3464.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 21.

(3)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3464.

ص: 647

(فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا)؛ أي: منعنا من الوصول إلى المقصد، (ثُمَّ أَرْفَأْنَا)؛ أي: ألجأنا (إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا)؛ أي: في أقرُب السفينة، وهي الصغار، (فدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْنَا) بكسر القاف؛ أي: استقبلتنا (دَابَّةٌ أَهْلَبُ)؛ أي: غليظة الشَّعر، (كَثِيرُ الشَّعَرِ، لَا يُدْرَى) بالبناء للمفعول، وفي نسخة:"لا ندري"، (مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ، مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمِدُوا) بكسر الميم؛ أي: اقصدوا (إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ) بالفتح؛ أي: القصر الكبير، (فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا)؛ أي: مسرعين، (وَفَزِعْنَا)؛ أي: خفنا (مِنْهَا)؛ أي: من تلك الدابّة، (وَلَمْ نَأْمَنْ) من باب تعب، (أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ) الرجل: (أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ) بفتح الموحّدة، وسكون التحتية، وهي قرية بالشام، وقال ياقوت: بيسان بالفتح، ثم السكون، وسين مهملة، ونون: مدينة بالأردنّ بالغور الشامي، ويقال: هي لسان الأرض، وهي بين حَوْاران وفلسطين، وبها عين الفلوس، يقال: إنها من الجنة، وهي عين فيها ملوحة يسيرة، جاء ذكرها في حديث الجساسة، قال: وتوصف بكثرة النخل، وقد رأيتها مرارًا، فلم أر فيها غير نخلتين حائلتين، وهو من علامات خروج الدجال، وهي بلدة وبئة حارّة، أهلها سُمُر الألوان، جُعْد الشعور؛ لشدة الحر الذي عندهم.

وقال أيضًا: وبيسان أيضًا موضع معروف بأرض اليمامة، والذي أراه أن هذا الموضع هو الموصوف بكثرة النخل؛ لأنهم إنما احتجّوا على كثرة نخل بيسان بقول أبي دواد الإياديّ [من الخفيف]:

نَخَلَاتٌ مِنْ نَخْلِ بَيْسَانَ أَيْنَعْـ

ــنَ جَمِيعًا وَنَبْتُهُنَّ تُؤَامُ

وَتَدَلَّتْ عَلَى مَنَاهِلِ بُرْدٍ

وَفليجٌ من دونها وسنامُ

(1)

(قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟)؛ أي: تطلب خبر بيسان، (قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا، هَلْ يُثْمِرُ؟) نخلها، (قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ) يثمر، (قَالَ: أَمَا) بالتخفيف: أداة استفتاح وتنبيه، (إِنَّه)؛ أي: إن الشأن والحال، وفي نسخة:"إنها"، أو الضمير

(1)

"معجم البلدان" 1/ 527.

ص: 648

للنخل؛ إذ هو اسم جمع يذكّر، ويؤنّث، كما أسلفنا البحث عنه مستوفًى. (يُوشِكُ أَنْ لَا تُثْمِرَ، قَالَ) الرجل: (أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ) بفتحتين، والبحيرة تصغير البحر، وفي "القاموس": الطبرية محركة: قصبة الأردنّ، والنسبة إليها طبراني. (قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيّ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ)؛ أي: يفنى، وينفد. (قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ) بزاي معجمة مضمومة، ثم غين معجمة مفتوحة، ثم راء، وهي بلدة معروفة في الجانب القبليّ من الشام، قاله النوويّ

(1)

.

وقال القاري: "زُغر" بزاي، فغين معجمتين، فراء، كزُفَر: بلدة بالشام، قليلة النبات، قيل: عدم صرفه للتعريف والتأنيث؛ لأنه في الأصل اسم امرأة، ثم نُقل، يعني ليس تأنيثه باعتبار البلدة والبقعة، فإنه قد يذكّر مثله، ويصرف باعتبار البلد والمكان. انتهى

(2)

.

(قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ)؛ أي: في عينه، أو تلك العين، فاللام للعوض عن المضاف إليه، أو للعهد. (مَاءٌ)؛ أي: كثير؛ لقوله: (وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا)؛ أي: أهل تلك العين، أو البلدة، وهي الأظهر؛ لقوله:(بِمَاءِ الْعَيْنِ) بماء العين. (قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا) الظاهر أن جوابه على طبق ما سبق، وهو أما إنها يوشك أن لا يبقى فيها ماء يزرع به أهلها، وفي الأسئلة المذكورة، وأجوبتها المسطورة، إشارة إلى أنها علامات لخروجه، وأمارات لذهاب بركتها بشآمة ظهوره، ووصوله. ولمّا كانت هذه الأسئلة توطئة لِمَا بعدها (قَالَ)؛ أي: الدجال معرضًا عن الجواب الثانى، وبادر إلى السؤال المقصود، وهو ظهور محمد صلى الله عليه وسلم المحمود، (أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الأُمَيِّينَ)؛ أي: العرب، (مَا فَعَلَ؟) بفتحتين؛ أي: ما صنع بعدما بُعث، قال ابن الملك في "شرح المشارق": أراد الدجال بالأميين: العرب؛ لأنهم لا يكتبون، ولا يقرؤون غالبًا، وإنما أضاف نبيّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم إليهم طعنًا عليه بأنه مبعوث إليهم خاصّة، كما زعم بعض اليهود، أو بأنه غير مبعوث إلى ذوي الفطنة، والكياسة، والعقل، والرياسة. (قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، وَنَزَلَ يَثْرِبَ)؛ أي: هاجر إلى المدينة. (قَالَ: أَقَاتَلَهُ). وفي نسخة:

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 81.

(2)

"مرقاة المفاتيح" 16/ 21.

ص: 649

"أقاتلته"(الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ) قاتَلَته، (قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟) في مقاتلته لهم، (فَأَخْبَرْنَاهُ، أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ، وَأَطَاعُوهُ)؛ أي: امتثلوا ما أمرهمِ به، (قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟) بتقدير الاستفهام، (قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاك)؛ أي: طاعتهم له (خَيْرٌ لَهُمْ)، وقوله:(أَنْ يُطِيعُوهُ) في تأويل المصدر بدل من اسم "إنّ"، يعني أن طاعتهم له خير لهم من مخالفته.

قال الطيبيّ رحمه الله: المشار إليه؛ أي بقوله. "إن ذاك" ما يُفهم من قوله: "وأطاعوه"، وقوله:"أن يطيعوه" جاء لمزيد البيان، ويجوز أن يكون المشار إليه: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، و"خير" إما خبر لـ "ذلك" مسند إلى "أن يطيعوه"، وعلى هذا لا يكون بمعنى التفضيل، أو يكون "أن يطيعوه" مبتدأ، و"خير" خبره، مقدمًا، عليه، والجملة خبر "إن".

وقال التوربشتيّ رحمه الله: فإن قيل: يُشبه هذا القول قول مَن عَرَف الحقّ، والمخذول من البعد من اللَّه بمكان، لم يُر له فيه مساهم، فما وجه قوله هذا؟.

قلنا: يَحْتَمِل أنه أراد به الخير في الدنيا؛ أي: طاعتهم له خير لهم، فإنهم إن خالفوه اجتاحهم، واستأصلهم، ويَحْتَمِل أنه من باب الصرفة، صرفه اللَّه تعالى الطعن فيه، والتكبر عليه، وتَفَوّه بما ذُكر عنه، كالمغلوب عليه، والمأخوذ عليه، فلا يستطيع أن يتكلم بغيره؛ تأييدًا لنبيّه صلى الله عليه وسلم، والفضل ما شَهِدت به الأعداء. انتهى

(1)

.

(وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي إِنِّي) بكسر الهمزة، وفتحها، (أَنَا الْمَسِيحُ) الدجّال، قال الفيّوميّ: المَسِيحُ الدَّجَّالُ صاحب الفتنة العظمى، قال ابن فارس: المَسِيحُ الذي مُسح أحد شِقَّي وجهه، ولا عين له، ولا حاجب، وسُمّي الدجال مَسِيحًا؛ لأنه كذلك، ومنه درهم مَسِيحٌ؛ أي: أطلس، لا نقش عليه

(2)

.

(وَإِنَّي) بالكسر والفتح أيضًا، (أُوشِكُ)؛ أي: أقرب (أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ، فَأَسِيرَ فِي الأَرْضِ، فَلَا أَدَعَ) بالنصب في الثلاثة، وجُوّز رفعها؛ أي: فلا أترك (قَرْيَةً إِلَّا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) ظرف لـ "أسير"، وعدم

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3464.

(2)

"المصباح المنير" 2/ 572.

ص: 650

الترك إشعارٌ بقوة سياحته التي هي أحد وجوه تسميته بالمسيح، على أن فعيل بمعنى الفاعل؛ لكون سياحته مرورًا كالمسح. (غَيْرَ مَكَّةَ) استثناء من القرية التي وقعت نكرة في سياق النفي المنصبّ عليه الاستثناء المفيد للاستغراق، (وَطَيْبَةَ) عطف على "مكة"، وهي بفتح الطاء، وسكون التحتية، فموحدة من أسماء المدينة النبويّة على صاحبها أفضل الصلاة، وأزكى التحيّة. (فَهُمَا)؛ أي: مكة وطيبة (مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ)؛ أي: ممنوعتان عليّ دخولهما، وقوله:(كِلْتَاهُمَا) تأكيد لـ "هُما"، ثم بيّن سبب المنع بقوله:(كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً، أَوْ) للشك من الراوي، أي أو قال:(وَاحِدًا مِنْهُمَا، اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا) بفتح الصاد وتُضم؛ أي: مجردًا عن الغمد، قال بعضهم: الصلت بالفتح، والضم، مصدر بمعنى الفاعل، أو المفعول، حال عن المَلَك، أو السيف؛ أي: مُصلِتًا، أو مُصلَتًا، من قولهم: أصلت سيفه؛ أي: جرّده من غلافه. (يَصُدُّنِي عَنْهَا)؛ أي: يمنعني عن كل واحدة منهما، وهو استئنافٌ بيانيّ، أو حال، والضمير للملَك، أو السيف مجازًا. (وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ) بفتح النون، وسكون القاف؛ أي: طريق، أو باب (مِنْهَا)؛ أي: من كل واحدة منهما، (مَلَائِكَةً، يَحْرُسُونَهَا)؛ أي: يحفظونها عن الآفات، والبليّات، من غير ذلك الملَك، والظاهر أنه جبريل عليه السلام؛ لِمَا تقدم، واللَّه تعالى أعلم.

(قَالَتْ) فاطمة رضي الله عنها: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَ) الحال أنه قد (طَعَنَ)؛ أي: ضرب (بِمِخْصَرَتِه) بكسر الميم وفتح الصاد؛ أي: بعصاهِ، وفي "الفائق": المخصرة: هي قضيب يشير به الخطيب، أو الملِك إذا خاطب، وقال التوربشتيّ: المخصرة كالسوط، وكل ما اختصر الإنسان بيده، فأمسكه، من عصًا، ونحوها، فهو مخصرة. انتهى

(1)

. (فِي الْمِنْبَرِ)؛ أي: عليه، فـ "في" بمعنى "على"، كقوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. ("هَذِهِ طَيْبَةُ) الجملة مقول لـ "قال"، وما بينهما حال معترضة بين الفاعل والمفعول، وقوله:(هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ") كررها ثلاثًا للتأكيد، (يَعْنِي الْمَدِينَةَ)؛ أي: يريد النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: "هذه" الموضوعة للإشارة المحسوسة: المدينة المحروسة.

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3464.

ص: 651

قال التوربشتيّ رحمه الله: لمّا وافق هذا القول ما كان حدّثهم به، أعجبه ذلك، وسُرّ به، فقال:("أَلَا)؛ أي: انتبهوا، (هَلْ كُنْتُ حَدَّثْتُكُمْ ذَلِكَ؟ ")؛ أي: مثل هذا الحديث، (فَقَالَ النَّاسُ) الحاضرون لخطابه صلى الله عليه وسلم:(نَعَمْ)؛ أي: حدّثتنا بذلك، قال صلى الله عليه وسلم:("فَإنَّهُ أَعْجَبَنِي حَدِيثُ تَمِيم أَنَّهُ وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْهُ، وَعَنِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ، أَلَا)؛ أي: انتبهوا، (إِنَّهُ)؛ أي: الدجال، (فِي بَحْرِ الشَّامِ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ) قيل: لما حدّثهم بقول تميم الداريّ لم يَرَ أن يبيّن لهم موطنه. ومجلسه كل التبيين؛ لِمَا رأى في الإلباس من المصلحة، فردّ الأمر فيه إلى، التردد بين كونه في بحر الشام، أو بحر اليمن، ولم تكن العرب يومئذٍ تسافر إلا في هذين البحرين، ويَحْتَمِل أنه أراد ببحر الشام ما يلي الجانب الشاميّ، وببحر اليمن ما يلي الجانب اليمانيّ والبحر واحد، وهو الممتدّ على أحد جوانب جزيرة العرب، ثم أضرب عن القولين، مع حصول اليقين في أحدهما، فقال:(لَا، بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هُوَ)؛ أي: هو، و"ما" زائدة، أو موصولة، بمعنى الذي؛ أي: الجانب الذي هو فيه، قال القاضي رحمه الله: لفظة "ما" هنا زائدة صلة للكلام، وليست بنافية، والمراد إثبات أنه في جهة المشرق، قال، التوربشتيّ رحمه الله: ويَحْتَمِل أن يكون خبرًا، أي الذي هو فيه، أو الذي هو يخرج منه. (مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ، مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ"، وَأَوْمَأَ) بهمزتين؛ أي: أشار (بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ) قال الأشرف: يمكن أنه كان شاكًّا في موضعه، وكان، في ظنه أنه لا يخلو عن هذه المواضع الثلاثة، فلما ذكر بحر الشام، وبحر اليمن، تيقن له من جهة الوحي، أو غلب على ظنه أنه من قِبَل المشرق، فنفى، الأولين، وأضرب عنهما، وحقق الثالث. انتهى.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "ألا إنه في بحر الشام إلخ" هذا كله كلام ابتدئ على الظن، ثم عرض الشك، أو قصد الإبهام، ثم بقي ذلك كله، وأضرب عنه بالتحقيق، فقال:"لا، بل من قِبَل المشرق"، ثم أكد ذلك بـ "ما" الزائدة، وبالتكرار اللفظيّ، فـ "ما" فيه زائدة، لا نافية، وهذا لا بُعد فيه؛ لأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بشر يظن، ويشك، كما يسهو وينسى، إلا أنه لا يتمادى، ولا يُقَرّ، على شيء من ذلك، بل يُرشد إلى التحقيق، ويسلك به سواء الطريق. والحاصل من هذا أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن الدجال المذكور في بحر الشام؛ لأنَّ تميمًا

ص: 652

إنما ركب في بحر الشام، ثم عرض له أنَّه في بحر اليمن؛ لأنَّه يتصل ببحر متصل ببحر اليمن، فيجوز ذلك، ثم أطلعه العليم الخبير على تحقيق ذلك، فحقق، وأكّد. انتهى

(1)

.

(قَالَتْ) فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: (فَحَفِظْتُ هَذَا) الحديث بطوله (مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: فلم أسمعه من غيره، وإنما قالت هذا؛ لأن الشعبيّ شرط عليها أن تحدّثه بما سمعت من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما حدّثته أكّدت له أن هذا مما سمعته منه صلى الله عليه وسلم مباشرة، دون أيّ واسطة، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 7356 و 7357 و 7358 و 7359](2942)، و (أبو داود) في "الملاحم"(4325 و 4327)، و (الترمذيّ) في "الفتن"(2253)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 481)، و (ابن ماجه) في "الفتن"(4125)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 373)، و (ابن راهويه) في "مسنده"(5/ 220)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(24/ 958) و"الأوسط"(5/ 125)، و (ابن منده) في "الإيمان"(1058)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6787 و 6788)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(15/ 65)، وفوائد الحديث تقدّمت في "كتاب الطلاق" برقم [6/ 3696](1480)، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7357]

(. . .) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثيُّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ الْهُجَيْمِيُّ، أَبُو عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ، حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا الشَّعْبِيُّ، قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبٍ، يُقَالُ لَهُ: رُطَبُ ابْنِ طَابٍ، وَأَسْقَتْنَا

(2)

سَوِيقَ سُلْتٍ، فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَيْنَ تَعْتَدُّ؟ قَالَتْ:

(1)

"المفهم" 7/ 300 - 301.

(2)

وفي نسخة: "وسقتنا".

ص: 653

طَلَّقَنِي بَعْلِي ثَلَاثًا، فَأَذِنَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَعْتَدَّ فِي أَهْلِي، قَالَتْ: فَنُودِيَ فِي النَّاسِ: "إِنَّ الصَّلَاةَ جِامِعَةً"، قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ فِيمَنِ انْطَلَقَ مِنَ النَّاسِ، قَالَتْ: فَكُنْتُ فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ مِنَ النِّسَاءِ، وَهُوَ يَلِي الْمُؤَخَّرَ مِنَ الرِّجَالِ، قَالَتْ: فَسَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ، فَقَالَ:"إِنَّ بَنِي عَمٍّ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَكِبُوا فِي الْبَحْرِ"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ: قَالَتْ: فَكَأَنَّمَا أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْوَى بِمِخْصَرَتِهِ إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَ:"هَذِهِ طَيْبَةُ"؛ يَعْنِي: الْمَدِينَةَ).

رجال هذا الإسناد: ستة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ) البصريّ، تقدّم غير مرّة.

2 -

(خَالِدُ بْنُ الْحَارِثَ الْهُجَيْمِيُّ، أَبُو عُثْمَانَ) البصريّ، تقدّم أيضًا غير مرّة.

3 -

(قُرَّةُ) بن خالد السَّدُوسيّ البصريّ، تقدّم أيضًا غير مرّة.

4 -

(سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ) العنَزيّ، واسم أبيه وردان، وقيل: ورد، وقيل غير ذلك، تقدم في "الإيمان" 25/ 209.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَأَتْحَفَتْنَا بِرُطَبٍ، يُقَالُ لَهُ: رُطَبُ ابْنِ طَابٍ)؛ أي: ضيّفتنا بنوع من التمر يقال له: رطب ابن طاب، وهو نوع من أنواع تمور المدينة، ويقال: إن أنواع تمورها مائة وعشرون نوعًا.

وقوله: (وَأَسْقَتْنَا) وفي نسخة: "سقتنا"، وكلاهما لغتان، وردتا في القرآن الكريم، قال الله تعالى:{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21]، وقال:{لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16].

وقوله: (سَوِيقَ سُلْتٍ) بضم السين المهملة، وسكون اللام، آخره تاء مثناة فوقُ: حبّ يشبه القمح، ويشبه الشعير، كذا فسّره النوويّ، وجعله في "القاموس" نوعًا من الشعير.

وقولها: (طَلَّقَنِي بَعْلِي ثَلَاثًا) تقدّم أنه طلّقها آخر تطليقات ثلاث.

وقوله: ("إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةً") أما "الصلاة" هنا ففيها النصب فقط؛ لأنها اسم "إنّ"، وأما "جامعة" ففيها وجهان: الرفع على الخبريّة لـ "إن"، والنصب، على الحاليّة، والخبر محذوف؛ أي: محضورة.

ص: 654

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ) الفاعل ضمير سيّار أبي الحكم.

[تنبيه]: رواية سيّار أبي الحكم عن الشعبيّ هذه ساقها الطيالسيّ رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(1646)

- حدّثنا أبو داود، قال: حدّثنا قُرّة بن خالد، حدّثنا سيار أبو الحكم، عن الشعبيّ، قال: دخلنا على فاطمة بنت قيس، فأتحفتنا برطب، يقال له: ابن طاب، وسَقَتنا سويق سُلْت، فسألناها عن المطلقة ثلاثًا أين تعتدّ؟ فقالت: أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اعتدّ في أهلي إلى الحول، ويومئذٍ، نودي في الناس:"الصلاة جامعة"، فخرجت فيمن خرج من النساء، وكنت في الصف المقدَّم مما يلي الصف المؤخَّر من الرجال، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن بني عمّ تميم الداري ركبوا البحر، وإن سفينتهم قذفتهم إلى ساحل من سواحل البحر، وهناك دابة يواريها شعرها، قالوا: فلما دخلنا عليها قالت: أنا الجساسة، ثم قالت: إن في ذلك الدَّير من هو إلى رؤيتكم بالأشواق، فدخلنا، فإذا رجل مكبل في الحديد بضرورة، فقال: أخَرَج صاحبكم؟ يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقلنا: نعم، قال: فاتبعوه، ثم قال: أخبروني عن نخل بيسان، أيُطعم؟ قلنا: نعم، قال: أخبروني عن بُحيرة طبرية، أكثيرة الماء هي؟ قلنا: نعم، قال: أخبروني عن عين زُغَر، أكثيرة الماء؟ قلنا: نعم، قال: أما إني لو قد خرجت لوطئت البلاد كلها، غير مكة، وطيبة". قالت فاطمة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بمخصرته: ألا وهذه طيبة، يومئ إلى أرض المدينة، ومكة. انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7358]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ، قَالَا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ غَيْلَانَ بْنَ جَرِيرٍ، يُحَدِّثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بنْتِ قَيْسٍ، قَالَتْ: قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَكِبَ الْبَحْرَ، فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَتُهُ، فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهَا، يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَقِيَ إِنْسَانًا يَجُرُّ شَعَرَهُ، وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَقَالَ

(1)

"مسند الطيالسيّ" 1/ 228.

ص: 655

فِيهِ: ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَدْ أُذِنَ لِي

(1)

فِي الْخُرُوجِ قَدْ وَطِئْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا غَيْرَ طَيْبَةَ، فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ، فَحَدَّثَهُمْ، قَالَ:"هَذِهِ طَيْبَةُ، وَذَاكَ الدَّجَّالُ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ) نزيل مكة، تقدم في "المقدمة" 4/ 24.

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النَّوْفَلِيُّ) البصريّ، يلقّب أبا الجوزاء، تقدم في "الإيمان" 65/ 369.

3 -

(وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ) أبو العباس البصريّ، تقدم في "الإيمان" 50/ 315.

4 -

(أَبُوهُ) جرير بن حازم بن زيد الأزديّ، أبو النضر البصريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 81.

5 -

(غَيْلَانُ بْنُ جَرِيرٍ) الْمِعْوَليّ الأزديّ البصريّ، تقدم في "الطهارة" 15/ 598.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ) الفاعل ضمير غيلان بن جرير.

وقوله: (فَتَاهَتْ بِهِ سَفِينَتُهُ)؛ أي: ضلّت عن الطريق بسبب كثرة اضطراب الموج.

وقوله: (فَسَقَطَ إِلَى جَزِيرَةٍ)؛ أي: وصل إليها.

وقوله: (فَأَخْرَجَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى النَّاسِ)؛ أي: أخرج تميمًا الداريّ، فحدّث الناس بالحديث، وظاهره أنه حدّث بنفسه، ويَحتمل أن المراد أنه بعدما انتهى صلى الله عليه وسلم عن الحديث، قال له: أهكذا يا تميم؟، فقال: نعم، فسمى تصديقه حديثًا، والله تعالى أعلم.

وقوله: ("وَذَاكَ الدَّجَّالُ") هذا تصريح من النبيّ صلى الله عليه وسلم بكونه دجالًا، ولم يقع هذا التصريح إلا في هذه الطريق، وهو يدلّ على أن الدجّال لا يزال مشدودًا بجزيرة إلى أن يخرج في آخر الزمان، أما كون الناس لم يَصِلوا إليه حتى الآن، فلم يثبت أنهم قد وصلوا إلى كل مكان من الجزائر، ويَحْتَمل أيضًا أن الله تعالى جعله مخفيًّا عن أعين الناس، وإنما أظهره مرّة لتميم وأصحابه لتصديق إخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم فقط، والله تعالى أعلم، قاله صاحب "التكملة"

(2)

.

(1)

وفي نسخة: "لو أذن لي".

(2)

"تكملة فتح الملهم" 6/ 414.

ص: 656

[تنبيه]: رواية غيلان بن جرير، عن الشعبيّ هذه ساقها ابن منده رحمه الله في "الإيمان"، فقال:

(1060)

أخبرنا علي بن محمد بن نصر، وأحمد بن إسحاق، قالا: ثنا محمد بن أيوب، ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا جرير بن حازم، قال: سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، قالت: قَدِم على النبيّ صلى الله عليه وسلم تميم الداريّ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ركب البحر، فقامت بهم سفينتهم، فسقط إلى جزيرة، فخرج يلتمس الماء، فلقي إنسانًا يجرّ شعره، فقال: من أنت؟ قالت: أنا الجساسة، قال: فأخبرينا، قالت: ما أنا بمخبركم، ولا مستخبركم، ولكن عليكم بهذه الجزيرة، فدخلناها، فإذا رجل مُقيّد إلى أرنبته، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن ناس من العرب، فقال: ما فعل هذا النبيّ الذي خرج فيكم؟ قالوا: صدّقه الناس، فآمنوا به، ونصروه، وقاتلوا معه، قال: أما إن ذلك خير لهم، ثم قال: ما فعلت عين زُغَر، فأخبرناه عنها، ثم قال: ما فعل بيسان؟، فقالوا: قد أطعم، فوثَبَ، وقد كاد أن يخرج من وراء الحائط، ثم قال: أما إنه لو أُذن لي في الخروج، لقد وطئت الأرض كلها، غير طيبة. قال: فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فحدثهم، فقال:"هذه طيبة، وذاك الدجال". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7359]

(. . .) - (حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ - يَعْنِي: الْحِزَامِيَّ - عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ حَدَّثَنِي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ، أَنَّ أُنَاسًا مِنْ قَوْمِهِ، كَانُوا فِي الْبَحْرِ فِي سَفِينَةٍ لَهُمْ، فَانْكَسَرَتْ بِهِمْ، فَرَكِبَ بَعْضُهُمْ عَلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ، فَخَرَجُوا إِلَى جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ"، وَسَاقَ الْحَدِيثَ).

(1)

"الإيمان لابن منده" 2/ 955.

ص: 657

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ) محمد بن إسحاق الصاغانيّ البغدادي، تقدم في "الإيمان" 4/ 116.

2 -

(يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) هو: يحيى بن عبد الله بن بُكير، نُسب لجدّه، المصريّ، تقدم في "الإمارة" 13/ 4785.

3 -

(الْمُغِيرَةُ الْحِزَامِيُّ) ابن عبد الرحمن المدنيّ، تقدم في "الطهارة" 26/ 653.

4 -

(أَبُو الزِّنَادِ) عبد الله بن ذكوان المدنيّ، تقدم في "المقدمة" 5/ 30.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (وَسَاقَ الْحَدِيثَ) فاعل "ساق" ضمير أبي الزناد.

[تنبيه]: رواية أبي الزناد عن الشعبيّ هذه ساقها الداني المقرئ رحمه الله في "السنن الواردة في الفتن"، فقال:

(625)

- حدّثنا عبيد الله بن سلمة بن حزم المكتب، قال: حدّثنا عمر بن محمد الحضرميّ قال: حدّثنا محمد بن محمد بن أحمد بن عيسى الخياش إملاء قال: حدّثنا أبو الزنباع روح بن الفرج، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير قال: حدّثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن الشعبيّ، عن فاطمة بنت قيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قعد على المنبر، فقال:"أيها الناس حدّثني تميم الداريّ، أن ناسًا من قومه كانوا في البحر، في سفينة لهم، فانكسرت بهم، فركب بعضهم على لوح من ألواح السفينة، فخرجوا إلى جزيرة في البحر، فإذا هم بامرأة شعثاء، شعثة، لها شعر منكر، فقالوا لها: ما أنت؟ فقالت: أنا الجساسة، قالت: أتعجبون مني؟ قالوا: نعم، قا لت: فادخلوا القصر، فدخلوا، فإذا هم بشيخ مربوط بسلاسل، فسألهم من هم؟ فأخبروه، فقال لهم: ما فعلت عين زُغَر؟ وما فعلت البحيرة؟ ونخلات بيسان؟ فأخبروه، قال: فوالذي أحلف به، لا تبقى أرض إلا وطئتها بقدمي هذه، إلا طابة"، فقال: قالوا: يا رسول الله وهذه طيبة. انتهى

(1)

.

(1)

"السنن الواردة في الفتن" 6/ 1145 - 1147.

ص: 658

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7360]

(2943) - (حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرٍو

(1)

- يَعْنِي الأَوْزَاعِيَّ - عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ، صَافِّينَ تَحْرُسُهَا، فَيَنْزِلُ بِالسَّبَخَةِ، فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ) المروزيّ، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

2 -

(الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ) أبو العبّاس الدمشقيّ، تقدم في "الإيمان" 10/ 148.

3 -

(أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ) عبد الرحمن بن عمرو الإمام المشهور، تقدم في "المقدمة" 5/ 28.

4 -

(إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ؛ المدنيّ ابن أخي أنس رضي الله عنه، تقدم في "الطهارة" 30/ 667.

5 -

(أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) الصحابيّ المشهور رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وفيه أنس رضي الله عنه أحد المكثرين السبعة، روى (2286) حديثًا.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريّ، أنه قال:(حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ)"من" زائدة زيدت لإفادة العموم، (إِلَّا سَيَطَؤُهُ)؛ أي: يدوسه، ويدخله، ويفسده (الدَّجَّالُ) هو على ظاهره وعمومه، عند الجمهور، وشذّ ابن حزم، فقال: المراد: إلا يدخله

(1)

وفي نسخة: "ابن عمرو".

ص: 659

بعثه وجنوده، وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد؛ لِقِصَر مدته، وغفل عما اثبت في "صحيح مسلم" أن بعض أيامه يكون قَدْر السنة، قاله في "الفتح"

(1)

.

واشتقاق الدجال من الدجل، وهو الكذب، والخلط، وهو كذّاب، خلّاط، ويُجمع الدجال على دجالين، ودجاجلة في التكسير، وقيل: هو مأخوذ من الدجل، وهو طلي البعير بالقطران؛ سمي بذلك؛ لأنه يغطي الحقّ بسحره، وكذبه، كما يغطي الرجل جرب بعيره بالدجالة، وهو القطران، وقيل: سُمي به؛ لضربه نواحي الأرض، وقطعه لها، يقال: دَجَل الرجل إذا فعل ذلك، وقيل: هو من الدجل بمعنى التغطية، وقال ابن دريد: كلُّ شيء غطيته، فقد دجلته، ومنه سميت دجلة؛ لانتشارها على الأرض، وتغطيتها ما فاضت عليه، وقيل: معناه: المموِّه، قاله ثعلب، ذكره في "العمدة"

(2)

.

(إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ) بالنصب على الاستثناء، يعني لا يطؤهما الدجال، وذكر الطبريّ من حديث عبد الله بن عمرو:"إلا الكعبة، وبيت المقدس"، وزاد أبو جعفر الطحاويّ:"ومسجد الطور"، ورواه من حديث جُنادة بن أبي أمية، عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات:"فلا يبقى له موضع إلا ويأخذه، غير مكة، والمدينة، وبيت المقدس، وجبل الطور، فإن الملائكة تطرده عن هذه المواضع"، ذكره في "العمدة"

(3)

.

(وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا)؛ أي: أنقاب كلّ واحدة منهما، والأنقاب: جمع نَقب، بفتح النون، وهو جمع قلة، وجمع الكثرة: نقاب، وقال ابن وهب: الأنقاب مداخل المدينة، وقيل: هي أبوابها، وفوهات طرقها التي يدخل إليها منها، وقال الداوديّ: هي الطرق التي يسلكها الناس، ومنه قوله عز وجل:{فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: 36]، وقال أبو المعاني: النقب: الطريق في الجبل، وكذلك النقب، والمنقب، والمنقبة، عن يعقوب، وقال ابن سيده: النقب والنقب في أيّ شيء كان، نقبه ينقبه نقبًا، وعن القزاز: ويقال أيضًا: نقب بكسر النون، وضَبْط ابن فارس بالسكون يقتضي أن لا يكون جمعه أنقابًا،

(1)

"الفتح" 5/ 199، "كتاب فضائل المدينة" رقم (1881).

(2)

"عمدة القاري" 10/ 242.

(3)

"عمدة القاري" 10/ 244.

ص: 660

كما رواه أبو هريرة، وإنما يجمع على نِقاب، كما رواه أبو سعيد، وفيه برهان عظيم، ظهرت صحته ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم للمدينة

(1)

.

(إِلَّا عَلَيْهِ)؛ أي: على ذلك النقب، (الْمَلَائِكَةُ، صَافِّينَ) حال من الملائكة، وهو جمع صافّ من صَفَّ، (تَحْرُسُهَا)؛ أي: يحفظون أهلها، وفي رواية للبخاريّ:"يحرسونها"، والجملة حال، وهي من الأحوال المتداخلة. (فَيَنْزِلُ)؛ أي: الدجال بعد أن منعته الملائكة من الدخول فيها، (بِالسَّبَخَةِ) بكسر الباء صفة، وهي الأرض التي تعلوها الملوحة، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر، وبفتحها اسم، وهو موضع قريب من المدينة.

وقال المجد رحمه الله: السَّبَخَة محرّكةً، ومسكّنةً: أرض ذات نَزٍّ، ومِلْحٍ، جمعه سِباخ. انتهى

(2)

.

(فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ) زاد في رواية البخاريّ: "بأهلها"، فينزل؛ أي: الدجال السبخة، و"ترجف" بضم الجيم؛ أي: تضطرب بأهلها أي ملتبسة بهم، وقيل: الباء للتعدية؛ أي: تحركهم، وتزلزلهم (ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ) بفتح الجيم، قال في "الفتح": والجمع بين قوله: "ترجف ثلاث رجفات" وبين قوله في الحديث الآخر: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال".

وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد، والحاكم، رفعه:"يجيء الدجال، فيصعد أُحُدًا، فيتطلع، فينظر إلى المدينة، فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى هذا القصر الأبيض، هذا مسجد أحمد، ثم يأتي المدينة، فيجد بكل نقب من نقابها مَلكًا، مُصلِتًا سيفه، فيأتي سبخة الجرف، فيضرب رُواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى منافق، ولا منافقة، ولا فاسق، ولا فاسقة، إلا خرج إليه، فتخلص المدينة، فذلك يوم الخلاص".

وفي حديث أبي الطفيل، عن حذيفة بن أَسِيد:"وتُطْوَى له الأرض طيّ فَرْوة الكبش، حتى يأتي المدينة، فيغلب على خارجها، ويُمنع داخلها، ثم يأتي إيليا، فيحاصر عصابة من المسلمين".

وحاصل ما وقع به الجمع أن الرعب المنفيّ هو الخوف، والفزع، حتى

(1)

"عمدة القاري" 10/ 244.

(2)

"القاموس" ص 587.

ص: 661

لا يحصل لأحد فيها بسبب نزوله قربها شيء منه، أو هو عبارة عن غايته، وهو غَلَبَته عليها، والمراد بالرجفة: الإرفاق، وهو إشاعة مجيئه، وأنه لا طاقة لأحد به، فيسارع حينئذٍ إليه من كان يتصف بالنفاق، أو الفسق، فيظهر حينئذٍ تمام أنها تنفي خبثها. انتهى

(1)

.

(يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ") وفي رواية البخاريّ: "فيخرج الله كلّ كافر، ومنافق"، قال في "الفتح":"ثم ترجف المدينة"؛ أي: يحصل لها زلزلة بعد أخرى، ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصًا في إيمانه، ويبقى بها المؤمن الخالص، فلا يسلَّط عليه الدجال، ولا يعارض هذا ما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنه لا يدخل المدينة رعب الدجال؛ لأن المراد بالرعب: ما يحدث من الفزع من ذِكره، والخوف من عتوّه، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة؛ لإخراج من ليس بمخلص، وحَمَل بعض العلماء الحديث الذي فيه أنها تنفي الخبث على هذه الحالة، دون غيرها، وقد تقدم أن الصحيح في معناه أنه خاص بناس، وبزمان، فلا مانع أن يكون هذا الزمان هو المراد، ولا يلزم من كونه مرادًا نفي غيره. انتهى

(2)

.

وفيه معجزة ظاهرة للنبيّ صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن أمر سيكون قطعًا، وفيه بيان فضل المدينة، وفضل أهلها المؤمنين الخالصين، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [24/ 7360 و 7361](2943)، و (البخاريّ) في "فضائل المدينة"(1881) و"الفتن"(7124)، و (النسائيّ) في "الكبرى"(2/ 485)، و (أحمد) في "مسنده"(3/ 191 و 238)، و (ابن أبي شيبة) في "مصنّفه"(12/ 181 و 15/ 143)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6803)، و (الداني) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1163)، و (البغويّ) في "شرح السنّة"(2022) وفوائده تقدّمت في "فضائل المدينة"، ولله الحمد والمنّة.

(1)

"الفتح" 13/ 94.

(2)

"الفتح" 5/ 199 - 200.

ص: 662

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7361]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: فَيَأْتِي سَبَخَةَ الْجُرُفِ، فَيَضْرِبُ رُوَاقَهُ، وَقَالَ: فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ) هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان الكوفيّ، تقدم في "المقدمة" 1/ 1.

2 -

(يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ) المؤدّب البغدادي، تقدم في "الإيمان" 1/ 105.

3 -

(حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ) بن دينار أبو سلمة البصريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 80.

والباقيان ذُكرا قبله.

وقوله: (فَذَكَرَ نَحْوَهُ) فاعل "ذكر" ضمير حماد بن سلمة، أي ذكر نحو حديث الأوزاعيّ.

وقوله: (سَبَخَةَ الْجُرُفِ، فَيَضْرِبُ رِوَاقَهُ) الجرف بضم الجيم والراء، بعدها فاء: مكان بطريق المدينة، من جهة الشام على ميل، وقيل: على ثلاثة أميال، والمراد بالرواق بالكسر، والضمّ، ككتاب، وغُراب: الفسطاط، ولابن ماجه من حديث أبي أمامة:"نزل عند الطريق الأحمر عند منقطع السبخة".

[تنبيه]: رواية حمّاد بن سلمة عن إسحاق بن عبد الله هذه ساقها ابن أبي شيبة رحمه الله في "مصنّفه"، فقال:

(32428)

- حدّثنا يونس بن محمد، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الدجال يَطوي الأرض كلها، إلا مكة والمدينة، قال: فيأتي المدينة، فيجد بكل نقب من أنقابها صفوفًا من الملائكة، فيأتي سَبَخَة الجُرُف، فيضرب رُواقه، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل منافق، ومنافقة". انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مصنف ابن أبي شيبة" 6/ 406.

ص: 663

(25) - (بَابٌ فِي بَقِيَّةِ أَحَادِيثِ الدَّجَّالِ)

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7362]

(2944) - (حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ عَمِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا، عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ").

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ) بَشِير التُّرْكيّ، أبو نصر البغدادي، الكاتب، ثقة [10](ت 235) وهو ابن ثمانين سنةً (م د س) تقدم في "الإيمان" 38/ 255.

2 -

(يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ) بن واقد الحضرميّ، أبو عبد الرحمن الدمشقيّ القاضي، ثقةٌ، رُمي بالقدر [8](ت 183) على الصحيح، وله ثمانون سنةً (ع) تقدم في "الإيمان" 46/ 294.

والباقون ذُكروا قبل حديث.

شرح الحديث:

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن أبي طلحة الأنصاري (عَنْ عَمِّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ) رضي الله عنه (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ("يَتْبَعُ الدَّجَّالَ) بفتح أوله، وسكون ثانيه، وفتح ثالثه، وقيل: من الاتّباع بتشديد التاء؛ أي: يطيع الدجال (مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ) بفتح الهمزة، وتُكسر، وفتح الفاء: بلد معروف من بلاد الأرفاض، قال النوويّ رضي الله عنه: يجوز فيه كسر الهمزة، وفتحها، وبالباء، والفاء. انتهى. وفي "المشارق" بفتح الهمزة، وقيّدها أبو عبيد العكبري بكسر أوله، وأهل خراسان يقولونها بالفاء، مكان الباء، وفي "القاموس": الصواب أنها أعجمية، وقد يكسر همزها، وقد يبدل باؤها فاء، وفي "المغني" بكسر الهمزة، وفتحها، وبفاء مفتوحة في أهل الشرق، وباء موحدة في الغرب. انتهى.

قال القاري: وبه يُعلم أن أصفهان اثنان، فيطابق ما نقله ابن الملك من

ص: 664

أنه قيل: المراد منه أصفهان خراسان، لا أصفهان الغرب، لكن في قوله: أصفهان خراسان مسامحة؛ لأن أصفهان إنما هو في العراق، ولكن لما كان خراسان في جهة الشرق أيضًا، وكان أشهر من العراق أضيف إليه بأدنى ملابسة. انتهى

(1)

.

(سَبْعُونَ أَلْفًا) قال النوويّ رحمه الله: هكذا هو في جميع النُّسخ ببلادنا: "سبعون" بسين، ثم باء موحّدة، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، قال: وفي رواية ابن ماهان: "تسعون ألفًا" بالتاء المثناة قبل السين، والصحيح المشهور الأول. انتهى

(2)

. (عَلَيْهِمُ الطَّيَالِسَةُ") جمع طيلسان بفتح اللام، وكسرها، قال الخليل: ولم أسمع فِيعلان بالكسر غيره، وأكثر ما يأتي فيعلان مفتوحًا، أو مضمومًا، ولم يعرف الأصمعي الكسر، قاله في "المشارق"

(3)

.

وقال القاري رحمه الله: "الطيالسة" بفتح الطاء، وكسر اللام: جمع طيلسان، وهو ثوب معروف، وفي "القاموس": الطيلس، والطيلسان مثلثة اللام، عن عياض وغيره: معرَّب، أصله تالسان، جَمْعه الطيالسة، والهاء في الجمع للعجمة، واستُدلّ بهذا الحديث على ذمّ لُبسه، ورواه السيوطي في رسالة سماها:"طيّ اللسان عن الطيلسان". انتهى

(4)

.

وقال الحافظ رحمه الله في "الفتح":. ونازع ابن القيم في "كتاب الهدي" من استدلّ بحديث التقنع على مشروعية لبس الطيلسان، بأن التقنع غير التطيلس، وجزم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يلبس الطيلسان، ولا أحد من أصحابه، ثم على تقدير أن يؤخذ من التقنع بأنه صلى الله عليه وسلم لم يتقنع إلا لحاجة، ويردّ عليه حديث أنس:"كان صلى الله عليه وسلم يكثر القناع"، وقد ثبت أنه قال:"من تشبّه بقوم فهو منهم"، كما أخرجه أبو داود، من حديث ابن عُمر رضي الله عنهما، وعند الترمذيّ من حديث أنس:"ليس منّا من تشبّه بغيرنا"، وقد ثبت عند مسلم من حديث النوّاس بن سمعان في قصة الدجال:"يتبعه اليهود، وعليهم الطيالسة"، وفي حديث أنس أنه رأى قومًا عليهم الطيالسة، فقال: كأنهم يهود خيبر.

(1)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 13.

(2)

"شرح النوويّ" 18/ 85 - 86.

(3)

"مشارق الأنوار" 1/ 324.

(4)

"مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" 16/ 13.

ص: 665

وعورض بما أخرجه ابن سعد بسند مرسل: "وُصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطيلسان، فقال: هذا ثوب لا يُؤَدَّى شكره"، وإنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون الطيالسة من شعارهم، وقد ارتفع ذلك في هذه الأزمنة، فصار داخلًا في عموم المباح، وقد ذكره ابن عبد السلام في أمثلة البدعة المباحة، وقد يصير من شعائر قوم، فيصير تركه من الإخلال بالمروءة، كما نبَّه عليه الفقهاء أن الشيء قد يكون لقوم، وتركه بالعكس، ومثّل ابن الرفعة ذلك بالسُّوقيّ، والفقيه في الطيلسان. انتهى كلام الحافظ رحمه الله

(1)

، وهو بحث نفيسٌ والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أنس بن مالك رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله

(2)

.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 7362](2944)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6798)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(6/ 1157 و 1158)، و (أبو نعيم) في "الحلية"(6/ 77)، و (ابن عساكر) في "تاريخ دمشق"(6/ 31 و 27/ 1167 و 52/ 360)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7363]

(2945) - (حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ؛ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ شَرِيكٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ"، قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "هُمْ قَلِيلٌ").

رجال هذا الإسناد: ستّة:

1 -

(هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) أبو موسى الحمال البغداديّ، تقدم في "الإيمان" 64/ 361.

(1)

"الفتح" 10/ 275.

(2)

فما قاله الشيخ الهرري من أن البخاري أخرجه برقم (3450) غير صحيح، بل هو من أفراد مسلم، فتنبّه.

ص: 666

2 -

(حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ) الأعور المصّيصيّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 94.

3 -

(ابْنُ جُرَيْجٍ) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكيّ، تقدم في "الإيمان" 6/ 129.

4 -

(أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم بن تدرس الأسديّ المكيّ، تقدم في "الإيمان" 4/ 119.

5 -

(جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن عمرو بن حرام السَّلَميّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، تقدم في "الإيمان" 4/ 117.

6 -

(أُمُّ شَرِيكٍ) العامريّة، ويقال: الدوسيّة، ويقال: الأنصاريّة، اسمها غُزيّة، ويقال: غُزيلة، صحابيّة، ويقال: إنها الواهبة (خ مت س) تقدمت في "قتل الحيات" 2/ 5828.

شرح الحديث:

عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنه قال: (حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ) محمد بن مسلم؛ (أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ) رضي الله عنهما (يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ شَرِيكٍ) العامريّة رضي الله عنها (أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَفِرَّنَّ) بنون التوكيد، واللام للقسم؛ أي: والله ليهربنّ (النَّاسُ)؛ أي: المؤمنون، (مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ) فرارًا من فتنته، (قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ) رضي الله عنها (يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟) قال الطيبيّ رحمه الله: الفاء في جواب شرط محذوف إذا كان هذا حال الناس، فأين المجاهدون في سبيل الله تعالى، الذابّون عن حريم الإسلام، المانعون عن أهله صولة أعداء الله، فكنى عنها بها

(1)

. (قَالَ) النبيّ صلى الله عليه وسلم: ("هُمْ)؛ أي: العرب يومئذٍ (قَلِيلٌ")؛ أي: فلا يقدرون عليه، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أم شريك رضي الله عنها هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 7363 و 7364](2945)، و (الترمذيّ) في

(1)

"الكاشف عن حقائق السنن" 11/ 3460.

ص: 667

"الفتن"(3930)، و (أحمد) في "مسنده"(6/ 462)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6797)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(25/ 249)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7364]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ).

رجال هذا الإسناد: أربعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) العبديّ البصريّ المعروف ببندار، تقدم في "المقدمة" 2/ 2.

2 -

(عَبْدُ بنُ حُمَيْدِ) بن نصر الكسّيّ، تقدم في "الإيمان" 7/ 131.

3 -

(أَبُو عَاصِمٍ) الضحّاك بن مخلد النبيل، تقدم في "الإيمان" 6/ 129. و"ابن جريج" ذُكر قبله.

[تنبيه]: رواية أبي عاصم عن ابن جريج هذه لم أجد من ساقها، فليُنظر، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7365]

(2946) - (حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ - يَعْنِي ابْنَ الْمُخْتَارِ - حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ رَهْطٍ مِنْهُمْ أَبُو الدَّهْمَاءِ، وَأَبُو قَتَادَةَ، قَالُوا: كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، نَأْتِي

(1)

عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ، فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: إِنَّكُمْ لَتُجَاوِزُونِي إِلَى رِجَالٍ مَا كَانُوا بِأَحْضَرَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ بِحَدِيثِهِ مِنِّي، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ").

رجال هذا الإسناد: ثمانية:

1 -

(زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ) أبو خيثمة النسائيّ، ثم البغداديّ، تقدم في "المقدمة" 2/ 3.

(1)

وفي نسخة: "فنأتي".

ص: 668

2 -

(أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ) أبو إسحاق البصريّ، تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 4/ 1609.

3 -

(عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ) الدبّاغ البصريّ، مولى حفصة بنت سيرين، تقدم في "صلاة المسافرين وقصرها" 14/ 1674.

4 -

(أَيُّوبُ) بن أبي تيمية كيسان السّختيانيّ البصريّ، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 305.

5 -

(حُمَيْدِ بْنِ هِلَالِ) بن هُبيرة العدويّ، أبو نصر البصريّ، تقدم في "الحيض" 21/ 791.

6 -

(أَبُو الدَّهْمَاءِ) - بفتح الدال المهملة، وسكون الهاء، والمدّ - قِرْفة - بكسر أوله، وسكون الراء، بعدها فاء - ابن بُهيس - بموحدة، وهاء مفتوحة، مصغرًا - الْعَدَويّ البصريّ، ثقة [3].

روى عن هشام بن عامر الأنصاريّ، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب، ورجل من أهل البادية له صحبة.

وروى عنه حميد بن هلال العدويّ.

وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وقال العجليّ: بصريّ تابعيّ ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات".

أخرج له المصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث، وعند أبي داود حديث عمران:"من سمع بالدجال، فلينأ عنه"، وعند الباقين في الدفن، وعند النسائيّ أيضًا فيمن ترك شيئًا اتقاء الله.

7 -

(أَبُو قَتَادَةَ) الْعَدَويّ

(1)

البصريّ، اسمه تميم بن نُذير مصغّرًا، وقيل: ابن زُبير، وقيل: اسمه نُذير بن قنفذ، ثقةٌ [2]، وقيل: له صحبة (م د س) تقدم في "الإيمان" 14/ 165.

(1)

قد أخطأ أصحاب برنامج الحديث للكتب التسعة حيث ترجموا هنا لأبي قتادة الأنصاريّ الحارث بن ربعيّ الصحابيّ المشهور، والصواب أنه العدويّ التابعيّ البصريّ، فتنبّه.

ص: 669

8 -

(هِشَامُ بْنُ عَامِرِ) بن أمية بن الْحَسْحَاس بن مالك بن عامر بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاريّ الصحابيّ ابن الصحابيّ رضي الله عنهما، يقال: كان اسمه شهابًا، فغيّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكن البصرة، ومات بها، رَوى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنه ابنه سعد، وحميد بن هلال، وأبو الدَّهْماء قِرْفة بن بُهيس الْعَدَويّ، وأبو قتادة الْعَدويّ، ومعاذة العدوية، وأبو قلابة الجرميّ، وقيل: لم يسمع منه، قلت: وذكر أبو حاتم أن رواية حميد بن هلال عنه أيضًا مرسلة، وقد عاش هشام إلى زمن زياد.

أخرج له البخاريّ في "الأدب المفرد"، والمصنّف، والأربعة، وليس له في هذا الكتاب إلا هذا الحديث.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من سُباعيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسلٌ بالبصريين، سوى زُهير، كما اسبق، وفيه ثلاثة من التابعين روى بعضهم عن بعض، وأن صحابيّه ابن صحابيّ رضي الله عنهما ومن المقلّين من الرواية، فليس له في الكتب إلا حديثان فقط، هذا عند مسلم، وحديث:"جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقالوا: أصابنا قرح وجهد. . ." الحديث عند الأربعة

(1)

.

شرح الحديث:

(عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ) العدويّ البصريّ، (عَنْ رَهْطٍ) بفتح الراء، وسكون الهاء، ويجوز فتحها: الجماعة ما دون العشرة من الرجال، ليس فيهم امرأة. (مِنْهُمْ أَبُو الدَّهْمَاءِ) قِرفة بن بُهيس، (وَأَبُو قَتَادَةَ) العدويّ تميم بن نُذير، وقيل: غيره. (قَالُوا: كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ) الأنصاري رضي الله عنهما، وقوله (نَأْتِي) جملة حاليّة، وفي نسخة:"فنأتي"(عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ) رضي الله عنهما؛ أي: ليسمعوا حديثه، (فَقَالَ) هشام بن عامر رضي الله عنه (ذَاتَ يَوْمٍ)؛ أي: يومًا من الأيام: (إِنَّكُمْ لَتُجَاوِزُونِي إِلَى رِجَالٍ مَا كَانُوا بِأَحْضَرَ)؛ أي: أكثر حضورًا (لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)؛ أي: لمجالسه المباركة (مِنِّي، وَلَا أَعْلَمَ)؛ أي: أكثر علمًا (بِحَدِيثِهِ مِنِّي)؛ يعني:

(1)

راجع: "تحفة الأشراف" 9/ 71 - 72.

ص: 670

أن هؤلاء الناس يتركونه إلى من لا يكون أكثر علمًا، ولا صحبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم منه يريد بذلك عمران، ونحوه، وفي رواية الحاكم:"فقال هشام: إن هؤلاء يجتازون إلى رجل، قد كنا أكثر مشاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وأحفظ عنه".

قال الجامع عفا الله عنه: هذا الذي قاله هشام بن عامر رضي الله عنهما هو عين النصيحة، وهو عين الإنصاف، وليس من باب الحسد، ولا الاستخفاف بقدر عمران رضي الله عنه، وإنما هو إرشاد لهؤلاء الذين قصّروا، وتركوا الاستفادة منه، واتّجهوا إلى غيره، مع أنه أعلى منه، وهكذا ينبغي للعالم إذا رأى من طلاب العلم تقصيرًا في الاستفادة منه، واشتغالًا بغيره ممن ليس في درجته علمًا، أو علوّ سند، فينبههم على تقصيرهم، ولا يتوهّم أن هذا يكون حسدًا، أو مدحًا للنفس، أو نحو ذلك، فقد قال يوسف عليه السلام:{إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، فمدح نفسه بالحفظ والعلم؛ ليستفيد منه الناس، فهكذا ينبغي للعالم أن يتأسّى به، وله في ذلك الأجر العظيم، والله تعالى أعلم.

(سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا) نافية، (بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ) عليه السلام (إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ خَلْقٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ") قال النوويّ رحمه الله: المراد أكبر فتنةً، وأعظم شوكةً، وقال المناويّ رحمه الله: أي لا يوجد في هذه المدة المديدة أمرٌ أكبرُ؛ أي: مخلوق أعظم شوكةً من الدجال؛ لأن تلبيسه عظيم، وتمويهه، وفتنته كَقِطَع الليل البهيم، تدع اللبيب حيرانًا، والصاحي الفطن سكرانًا، لكن ما يظهر من فتنته ليس له حقيقة، بل تخييل منه، وشعبذة، كما يفعله السحرة، والمتشعبذون. انتهى

(1)

.

وقال ابن الجوزيّ رحمه الله: فيه وجهان:

أحدهما عِظَم خَلْقه، فقد أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا محمد بن سابق، قال: أخبرنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال، وله حمار يركبه، عَرْض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا".

(1)

"فيض القدير" 5/ 433.

ص: 671

والثاني: عِظَم فتنته، فإنه يقتل شخصًا، ثم يحييه، ومعه مثال جنة ونار، ويأمر السماء فتمطر، فيما يرى الناس، إلى غير ذلك من الفتن. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث هشام بن عامر رضي الله عنهما هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 7365 و 7366](2946)، و (أحمد) في "مسنده"(4/ 19)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 573)، و (الطبرانيّ) في "الكبير"(22/ 174)، و (أبو يعلى) في "مسنده"(3/ 126) وفي "المفاريد"(1/ 68)، و (الدانيّ) في "السنن الواردة في الفتن"(1/ 226)، و (نعيم بن حماد) في "الفتن"(2/ 518)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7366]

(. . .) - (وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ مِن قَوْمِهِ، فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ، قَالُوا: كُنَّا نَمُرُّ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ إِلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُخْتَارٍ، غَيْرَ أنَّهُ قَالَ: "أَمْرٌ أَكْبَرُ مِنَ الدَّجَّالِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ) بن ميمون السمين البغداديّ، تقدم في "الإيمان" 1/ 104.

2 -

(عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ) أبو عبد الرحمن القرشيّ مولاهم، تقدم في "المقدمة" 6/ 97.

3 -

(عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو) أبو وهب الأسديّ الجزريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 96.

(1)

"كشف المشكل من حديث الصحيحين" ص 1146.

ص: 672

والباقون ذُكروا قبله.

وقوله: (بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُخْتَارٍ) يعني أن حديث عبيد الله بن عمرو عن أيوب السختيانيّ مثل حديث عبد العزيز بن المختار عنه.

(غَيْرَ أنَّهُ قَالَ إلخ) فاعل "قال" ضمير عبيد الله بن عمرو.

[تنبيه]: رواية عبيد الله بن عمرو الرقّي عن أيوب السختيانيّ هذه ساقها المقرئ الدانيّ رحمه الله في "السنن الواردة في الفتن"، فقال:

(25)

- حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد قراءةً عليه، قال: حدّثنا أبو الحسن عليّ بن محمد بن زيد العلويّ الكوفيّ، قال: حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان المعروف بمطين، قال: حدّثنا عيسى بن سالم البغداديّ، قال: حدّثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقّيّ، عن أيوب، عن حميد بن هلال، عن ثلاثة رهط من قومه، منهم أبو قتادة، قال: كنا نَمُرّ على هشام بن عامر إلى عمران بن حصين، فقال: إنكم لتجاوزونني إلى رجال ما كانوا أحضر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولا بأعلم بأحاديثه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة فتنة أكبر من الدجال، قد أكل الطعام، ومشى في الأسواق". انتهى

(1)

.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7367]

(2947) - (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ - يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ - عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا

(2)

: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ) المقابريّ، أبو زكريّاء البغداديّ، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

2 -

(قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ) الثقفيّ، أبو رجاء البغلانيّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 50.

(1)

"السنن الواردة في الفتن" 1/ 225.

(2)

وفي نسخة: "ستة".

ص: 673

3 -

(ابْنُ حُجْرٍ) هو عليّ بن حجر السعديّ المروزيّ، تقدم في "المقدمة" 2/ 6.

4 -

(إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ) بن أبي كثير الأنصاريّ المدنيّ القارئ، تقدم في "الإيمان" 2/ 110.

5 -

(الْعَلَاءُ) بن عبد الرحمن الحرقيّ مولاهم، أبو شِبْل المدنيّ، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

6 -

(أَبُوهُ) عبد الرحمن بن يعقوب الجهنيّ الْحُرقيّ مولاهم، المدنيّ، تقدم في "الإيمان" 8/ 135.

7 -

(أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، تقدم في "المقدمة" 2/ 4.

[تنبيه]: من لطائف هذا الإسناد:

أنه من خماسيّات المصنّف رحمه الله، وأنه مسلسل بالمدنيين، غير شيوخه، وفيه رواية الابن عن أبيه، وفيه أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره، وهو رأس المكثرين السبعة.

شرح الحديث:

(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه؛ (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا)؛ أي: اعملوا الأعمال الصالحات، واشتغلوا بها قبل مجيء هذه الست، التي هي تشغلكم عنها، وفي "النهاية": تأنيث الست إشارة إلى أنها مصائبُ، ودَوَاهٍ

(1)

.

(طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ) قد تقدّم بياذا معاني هذه الأمور مفصّلًا، فلا تغفل. (أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ) وفي الرواية التالية:"وخُوَيِّصة أحدكم"، قيل: هي الموت، وفي "النهاية": يريد: حادثة الموت التي تخص كل إنسان، وهو تصغير خاصّة، وصُغِّرت؛ لاحتقارها في جنب ما بعدها من البعث، والعرض، والحساب، وغير ذلك.

(1)

"حاشية السندي على ابن ماجه" 7/ 420.

ص: 674

(أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ)؛ أي: قبل أن يتوجه إليكم أمر العامة، والرياسة، فيشغلكم عن صالح الأعمال.

وقال النوويّ رحمه الله: قوله: "بادروا إلخ"، وفي الرواية الثانية: الدجال، والدخان، إلى قوله:"وخويصة أحدكم" فذكر الستة في الرواية الأولى معطوفة بـ "أو" التي هي للتقسيم، وفي الثانية بالواو، قال هشام: خاصة أحدكم: الموت، وخويصة تصغير خاصّة، وقال قتادة: أمر العامة: القيامة، كذا ذكره عنهما عبد بن حميد. انتهى

(1)

.

وقال القرطبيّ رحمه الله: قوله: "بادروا"؛ أي: سابقوا بالأعمال الصالحة، واغتنموا التمكن منها قبل أن يُحال بينكم وبينها بداهية من هذه الدواهي المذكورة، فيفوت العمل للمانع، أو تُعدم منفعته لعدم القبول، وقد تقدّم القول على أكثر هذه الست.

وقوله: "وخاصّة أحدكم" يعني به الموانع التي تخصّه مما يمنعه العملَ، كالمرض، والكِبَر، والفقر المنسي، والغنى المطغي، والعيال، والأولاد، والهموم، والأنكاد، والفتن، والمحن، إلى غير ذلك مما لا يتمكن الإنسان مع شيء منه من عمل صالح، ولا يَسْلَم له، وهذا المعنى هو الذي فصّله في حديث آخر، حيث قال:"اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك"

(2)

.

وقوله: "وأمر العامّة": يعني الاشتغال بهم فيما لا يتوجه على الإنسان فرضه، فإنَّهم يُفسدون من يقصد إصلاحهم، ويُهلكون من يريد حياتهم، لا سيما في مثل هذه الأزمان التي قد مَرِجَت

(3)

فيها عهودهم، وخانت أماناتهم، وغلبت عليهم الجهالات، والأهواء، وأعانهم الظلمة السفهاء، وعلى هذا فعلى العامل بخويصة نفسه، والإعراض عن أبناء جنسه، إلى حلول رَمْسه، أعاننا الله على ذلك بفضله، وكرمه.

(1)

"شرح النوويّ" 18/ 87.

(2)

حديث صحيح، رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 306.

(3)

من باب تعب.

ص: 675

وقد جاءت هذه الستة في إحدى الروايتين، معطوفة بـ "أو"، فيجوز أن تكون للتنويع؛ أي: اتقوا أن يصيبكم أحد هذه الأنواع، ويصحّ أن تكون بمعنى الواو، كما جاء في الرواية الأخرى. انتهى

(1)

، والله تعالى أعلم.

مسألتان تتعلّقان بهذا الحديث:

(المسألة الأولى): حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا من أفراد المصنّف رحمه الله.

(المسألة الثانية): في تخريجه:

أخرجه (المصنّف) هنا [25/ 7367 و 7368 و 7369](2947)، و (الطيالسيّ) في "مسنده"(2549)، و (أحمد) في "مسنده"(2/ 324 و 337 و 372 و 407 و 511)، و (الحاكم) في "المستدرك"(4/ 516)، و (الطبرانيّ) في "الأوسط"(8/ 234)، و (ابن منده) في "الإيمان"(2/ 921 و 922)، و (ابن حبّان) في "صحيحه"(6790)، و (البغويّ) في "شرح السُّنَّة"(4249)، والله تعالى أعلم.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7368]

(. . .) - (حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ رِيَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيِّصَةَ أَحَدِكُمْ").

رجال هذا الإسناد: سبعة:

1 -

(أُمَيَّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيُّ) البصريّ، تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

2 -

(يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ) العيشيّ، أبو معاوية البصريّ، تقدم في "الإيمان" 7/ 132.

3 -

(شُعْبَةُ) بن الحجاج الإمام الشهير، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 381.

(1)

"المفهم" 7/ 308 - 309.

ص: 676

4 -

(قَتَادَةُ) بن دِعامة السّدوسيّ، أبو الخطاب البصريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

5 -

(الْحَسَنُ) بن أبي الحسن يسار البصريّ، تقدم في "شرح المقدمة" جـ 1 ص 306.

6 -

(زِيَادُ بْنُ رِيَاحٍ) بكسر الراء، بعدها تحتانيّة، أبو قيس البصريّ، أو المدنيّ، تقدم في "الإمارة" 13/ 4777.

و"أبو هريرة" رضي الله عنه تقدم قريبًا.

والحديث من أفراد المصنّف، وقد مضى شرحه، وبيان مسألتيه في الحديث الماضي، ولله الحمد والمنّة.

وبالسند المتّصل إلى المؤلّف رحمه الله أوّلَ الكتاب قال:

[7369]

(. . .) - (وَحَدَّثَنَاهُ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا: حَدَّثنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ).

رجال هذا الإسناد: خمسة:

1 -

(همّام) بن يحيى بن دينار الْعَوذيّ البصريّ، تقدم في "المقدمة" 6/ 70.

والباقون ذُكروا قريبًا.

[تنبيه]: رواية همّام بن يحيى عن قتادة هذه ساقها الإمام أحمد رحمه الله في "مسنده"، فقال:

(9267)

- حدّثنا عفان، قال: ثنا همام، قال: ثنا قتادة، عن الحسن، عن زياد بن رِياح، عن أبي هريرة، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال ستًّا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدخان، ودابة الأرض، وخُوَيِّصة أحدكم، وأمر العامّة"، وكان قتادة يقول إذا قال:"وأمر العامة" قال: أي أمر الساعة. انتهى

(1)

.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .

(1)

"مسند الإمام أحمد بن حنبل" 2/ 407.

ص: 677

قال الجامع الفقير إلى مولاه الغنيّ القدير محمد ابن الشيخ العلامة عليّ بن آدم بن موسى خُويدم العلم بمكة المكرّمة - عفا الله عنه وعن والديه -:

قد انتهيتُ من كتابة الجزء الرابع والأربعين من "شرح صحيح الإمام مسلم - المسمَّى - البحرَ المحيطَ الثّجّاج شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجّاج"، بين المغرب والعشاء، من ليلة الثلاثاء وهي الثالثة والعشرون من شهر ذي القعدة

(1)

(23/ 11/ 1433 هـ الموافق 9 أكتوبر 2012 م).

أسأل الله العليّ العظيم ربّ العرش العظيم أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وسببًا للفوز بجنات النعيم، لي ولكلّ من تلقّاه بقلب سليم، إنه بعباده رؤوف رحيم.

وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الآية [الأعراف: 43].

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات: 180 - 182].

"اللَّهُمَّ صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

"السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته".

ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الخامس والأربعون مفتتحًا بـ (26) - (بَابُ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِي الْهَرْجِ) رقم الحديث [7370](2948).

"سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك".

* * *

(1)

قال الجامع عفا الله عنه: مدّة ما بينه وبين الجزء الذي قبله في الكتابة (28) يومًا، وهذا من فضل ربي، وله الحمد، والفضل، والمنّة، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

ص: 678